ﰡ
سُورَةُ طه
وَهِيَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ بسم اللَّه الرحمن الرحيم
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
سورة طه بسم اللَّه الرحمن الرحيم اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ طه فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَقُرِئَ طه بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ مَنْ فَتَحَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ فَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْأَلِفِ مَفْتُوحٌ وَمَنْ كَسَرَ الطَّاءَ وَالْهَاءَ فَأَمَالَ الْكَسْرَةَ لِأَنَّ الْحَرْفَ مَقْصُورٌ وَالْمَقْصُورُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْإِمَالَةُ إِلَى الْكَسْرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالَّذِي زادوه هاهنا أُمُورٌ: / أَحَدُهَا: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: طَا
يُحْكَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الطَّاءُ طَهَارَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْهَاءُ هِدَايَتُهُمْ.
وَثَالِثُهَا: يَا مَطْمَعَ الشَّفَاعَةِ لِلْأُمَّةِ وَيَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى الْمِلَّةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ الْهَادِي. وَخَامِسُهَا: الطَّاءُ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالْهَاءُ مِنَ الْهِدَايَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ وَيَا هَادِيًا إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَسَادِسُهَا: الطَّاءُ طُولُ الْقُرَّاءِ وَالْهَاءُ هَيْبَتُهُمْ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥١]. وَسَابِعُهَا: الطَّاءُ تِسْعَةٌ فِي الْحِسَابِ وَالْهَاءُ خَمْسَةٌ تَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الْبَدْرُ وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلِسَانِ النَّبَطِيَّةِ وَقَالَ قَتَادَةُ بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّةِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ بِلُغَةِ عَكٍّ وَأَنْشَدَ الْكَلْبِيُّ لِشَاعِرِهِمْ:
إِنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلَائِقِكُمْ | لَا قَدَّسَ اللَّه أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ |
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ جَعَلْتَ طه تَعْدِيدًا لِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لِلسُّورَةِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خَبَرًا عَنْهَا وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْقُرْآنُ ظَاهِرٌ أُوقِعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّهَا قُرْآنٌ وَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهَا وَهِيَ قَسَمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا:
قَالَ مُقَاتِلٌ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةٍ وَمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَتَشْقَى حَيْثُ تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَلْ بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» قَالُوا: بَلْ أَنْتَ تَشْقَى فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى/ هَذِهِ الْآيَةَ
رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيفًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّلَامُ وَهَذَا الْقُرْآنُ هُوَ السَّلَامُ إِلَى نَيْلِ كُلِّ فَوْزٍ وَالسَّبَبُ فِي إِدْرَاكِ كُلِّ سَعَادَةٍ وَمَا فِيهِ الْكَفَرَةُ هُوَ الشَّقَاوَةُ بِعَيْنِهَا. وَثَانِيهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«أَبْقِ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنَّ لَهَا عَلَيْكَ حَقًّا»
أَيْ مَا أَنْزَلْنَاهُ لِتُهْلِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ وَمَا بُعِثْتَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ،
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ رَبَطَ صَدْرَهُ بِحَبْلٍ حَتَّى لَا يَنَامَ»
وَقَالَ
الْمَسْأَلَةُ الأولى: في كلمة إلا هاهنا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَحْمِلَ مَتَاعِبَ التَّبْلِيغِ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً كَمَا يُقَالُ مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِتَتَأَذَّى إِلَّا لِيَعْتَبِرَ بِكَ غَيْرُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا خَصَّ مَنْ يَخْشَى بِالتَّذْكِرَةِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١] وَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: ٦] وَقَالَ: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مَرْيَمَ: ٩٧] وَقَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: ٥٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْهُ كَوْنِ الْقُرْآنِ تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم بِهِ وَبِبَيَانِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ لِمَنْ يَخْشَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ فِي الْخَشْيَةِ وَالتَّذْكِرَةِ بِالْقُرْآنِ كَانَ فَوْقَ الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي نَصْبِ تَنْزِيلًا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: تَقْدِيرُهُ نُزِّلَ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فَنُصِبَ تَنْزِيلًا بِمُضْمَرٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُنْصَبَ بِأَنْزَلْنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً أَنْزَلْنَاهُ/ تَذْكِرَةً. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُنْصَبَ بِيَخْشَى مَفْعُولًا بِهِ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى: تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلَ اللَّه وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَإِعْرَابٌ بَيِّنٌ وَقُرِئَ تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ لَفْظِ التَّكَلُّمِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ أُمُورٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا إِلَّا مَعَ الْغَيْبَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا أَنْزَلْنَا فَفَخَّمَ بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْمُطَاعِ ثُمَّ ثَنَّى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخْتَصِّ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالتَّمْجِيدِ فَتَضَاعَفَتِ الْفَخَامَةُ مِنْ طَرِيقَيْنِ. وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلْنَا حِكَايَةً لِكَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ حَالَ الْقُرْآنِ بِأَنْ نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ سَمَاءٌ عُلْيَا وسموات علا وفائدة وصف السموات بِالْعُلَا الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ مَنْ يَخْلُقُ مِثْلَهَا فِي عُلُوِّهَا وَبُعْدِ مُرْتَقَاهَا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ الرَّحْمَنِ مَجْرُورًا صِفَةً لِمَنْ خَلَقَ وَالرَّفْعُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الرَّحْمَنُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُشَارًا بِلَامِهِ إِلَى مَنْ خَلَقَ فَإِنْ قِيلَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مَا مَحَلُّهَا إِذَا جَرَرْتَ الرَّحْمَنَ أَوْ رَفَعْتَهُ عَلَى الْمَدْحِ؟ قُلْنَا: إِذَا جَرَرْتَ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَا غَيْرُ وَإِنْ رَفَعْتَ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّحْمَنِ خَبَرَيْنِ لِلْمُبْتَدَأِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَكَانَ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَكَانٍ بَلْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّه عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي يَمِينِ الْعَرْشِ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي يَسَارِ الْعَرْشِ فَيَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْمُؤَلِّفِ وَالْمُرَكِّبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْعَرْشِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ مَحَلَّ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَيَكُونُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ كَالْمَرْبُوطِ بل كان كالزمن بل أسوأ مِنْهُ فَإِنَّ الزَّمِنَ إِذَا شَاءَ الْحَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ وَحَدَقَتِهِ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَعْبُودِهِمْ. وَرَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَإِنْ حَصَلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ فِي مَكَانِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ افْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ يُخَصِّصُهُ/ بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] يَتَنَاوَلُ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِلَّا فِي الْجُلُوسِ وَإِلَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِلَّا فِي اللَّوْنِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ تَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَحْتَهُ، فَلَوْ كَانَ جَالِسًا لَحَصَلَ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي الْجُلُوسِ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧] فَإِذَا كَانُوا حَامِلِينَ لِلْعَرْشِ وَالْعَرْشُ مَكَانُ مَعْبُودِهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ حَامِلِينَ لِخَالِقِهِمْ ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْمَخْلُوقَ أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَحْفَظُ الْخَالِقَ وَلَا يَحْمِلُهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْمَكَانِ إِلَهًا فَكَيْفَ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ بِإِلَهٍ لأن طريقنا إلى نفس إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَنَّهُمَا مَوْصُوفَانِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا وَلَمْ يَكُنْ إِلَهًا فَإِذَا أَبْطَلْتُمْ هَذَا الطَّرِيقَ انْسَدَّ عَلَيْكُمْ بَابُ الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ فَالْجِهَةُ الَّتِي هِيَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا هِيَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَاكِنِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْبُودُ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ فَتِلْكَ الْجِهَةُ وَإِنْ كَانَتْ فَوْقًا لِبَعْضِ النَّاسِ لَكِنَّهَا تَحْتٌ لِبَعْضٍ آخَرِينَ، وَبِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَبْعُودُ تَحْتَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّه فِي الْأَرْضِ»،
وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ»
وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ»
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنْ قَطَعَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ والجهة فقد قطع بأن لَيْسَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الِاسْتِوَاءِ الْجُلُوسَ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ. وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِتَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ بَقِيَ شَاكًّا فِيهِ فَهُوَ جَاهِلٌ باللَّه تَعَالَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ أَنَا قَاطِعٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُهُ بَلْ مُرَادُهُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ وَلَكِنِّي لَا أُعَيِّنُ ذَلِكَ الْمُرَادَ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فَهَذَا يَكُونُ قَرِيبًا، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَجَبَ أَنْ لَا يُرِيدَ بِاللَّفْظِ إِلَّا مَوْضُوعَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَإِذَا كَانَ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ إِلَّا الِاسْتِقْرَارُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَقَدْ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْطِيلُ اللَّفْظِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنَّ/ الدَّلَالَةَ الْعَقْلِيَّةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَى امْتِنَاعِ الِاسْتِقْرَارِ وَدَلَّ ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، فَإِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ نَتْرُكَهُمَا مَعًا، وَإِمَّا أَنْ نُرَجِّحَ النَّقْلَ عَلَى الْعَقْلِ، وَإِمَّا أَنْ نُرَجِّحَ الْعَقْلَ وَنُؤَوِّلَ النَّقْلَ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُنَزَّهًا عَنِ الْمَكَانِ وَحَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وُجُودُ الصَّانِعِ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَبَعْثَتُهُ لِلرُّسُلِ لَمْ يَثْبُتِ النَّقْلُ فَالْقَدْحُ فِي الْعَقْلِ يَقْتَضِي الْقَدْحَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَعًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ نَقْطَعَ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَنَشْتَغِلَ بِتَأْوِيلِ النَّقْلِ وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي الْمَقْصُودِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ | مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ |
. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْفَى فِعْلٌ يَعْنِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ وَأَخْفَى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُطَابِقُ الْجَزَاءُ الشَّرْطَ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَهْرِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٥] وَإِمَّا تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ أَنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ لِاسْتِمَاعِ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لِذَاتِهِ عَالِمٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْعِلْمُ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، وذلك العلم من
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْحِيدِ اعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] وَإِنَّمَا ذكره هاهنا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْقُدْرَةِ وَبِالْعِلْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الذي يستحق العبادة دون غيره، ولنذكر هاهنا نُكَتًا مُتَعَلِّقَةً بِهَذَا الْبَابِ وَهِيَ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ التَّوْحِيدِ أَرْبَعٌ: أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ. وَالثَّانِي: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ.
وَالثَّالِثُ: تَأْكِيدُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بِالْحُجَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مَغْمُورًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِحَيْثُ لَا يَدُورُ فِي خَاطِرِهِ شَيْءٌ غَيْرُ عِرْفَانِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ. أَمَّا الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَإِنْ وُجِدَ خَالِيًا عَنِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُنَافِقُ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ إِذَا وُجِدَ خَالِيًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ فَفِيهِ صُوَرٌ. الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ نَظَرَ وَعَرَفَ اللَّه تَعَالَى وَكَمَا عَرَفَهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِيمَانُهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتِمُّ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ وَعَجَزَ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهِ فَلَا يَبْقَى مُخَاطَبًا، وَرَأَيْتُ فِي [بَعْضِ] الْكُتُبِ أن
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ»
وَقَلْبُ هَذَا الرَّجُلِ مَمْلُوءٌ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَافِرٌ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ أَقَرَّ بِاللِّسَانِ وَاعْتَقَدَ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ مَشْهُورٌ. أَمَّا الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] أَنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَاسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا هُنَاكَ. أَمَّا الْمَقَامُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْعِرْفَانُ مُبْتَدِأٌ مِنْ تَفْرِيقٍ وَنَقْضٍ وَتَرْكٍ وَرَفْضٍ مُمْكِنٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ لِلَّذَّاتِ الْمُرِيدَةِ بِالصِّدْقِ مُنْتَبِهٌ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ثُمَّ وُقُوفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُحِيطَةٌ بِأَقْصَى نِهَايَاتِ دَرَجَاتِ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي التَّهْلِيلِ، أَوَّلُهَا:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ».
وَثَانِيهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ أن خلق السموات وَالْأَرْضَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مَادًّا بِهَا صَوْتَهُ لَا يَقْطَعُهَا وَلَا يَتَنَفَّسُ فِيهَا وَلَا يُتِمُّهَا، فَإِذَا أَتَمَّهَا أَمَرَ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ تَعْظِيمًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ».
وَثَالِثُهَا:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا زِلْتُ أَشْفَعُ إِلَى رَبِّي وَيُشَفِّعُنِي وَأَشْفَعُ إِلَيْهِ وَيُشَفِّعُنِي حَتَّى قُلْتُ: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِأَحَدٍ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَدَعُ أَحَدًا فِي النَّارِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه».
وَثَانِيهَا:
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ حم عسق قَالَ: الْحَاءُ حُكْمُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ وَالْعَيْنُ عَظَمَتُهُ وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ وَالْقَافُ قُدْرَتُهُ، يَقُولُ اللَّه جَلَّ ذِكْرُهُ: بِحُكْمِي وَمُلْكِي وَعَظَمَتِي وَسَنَائِي وَقُدْرَتِي لَا أُعَذِّبُ بِالنَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ
عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ فِي السُّوقِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ لَهُ اللَّه أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي النُّكَتِ. أَحَدُهَا: يَنْبَغِي لِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه أَنْ يُحَصِّلُوا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ حَتَّى يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: التَّصْدِيقُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْحَلَاوَةُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ التَّصْدِيقُ فَهُوَ/ مُنَافِقٌ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ التَّعْظِيمُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ الْحَلَاوَةُ فَهُوَ مُرَاءٍ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ الْحُرِّيَّةُ فَهُوَ فَاجِرٌ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٤] أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: ١٠] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْرِ: ٣] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ [سَبَأٍ: ٤٦] لَا إله إلا اللَّه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ: ٢٤] عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصَّافَّاتِ: ٣٧] هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
[إِبْرَاهِيمَ: ٢٧] هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧] عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. وَثَالِثُهَا:
أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ، قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قَالَ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه! فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه قال إنما أردت شيئا تحصني به! قال يا موسى لو أن السموات السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه».
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي إِعْرَابِهِ قالوا كلمة لا هاهنا دَخَلَتْ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، فَانْتَفَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَاهِيَّةُ انْتَفَتْ كُلُّ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا اللَّه فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ إِذْ لَوْ كَانَ اسْمَ مَعْنًى لَكَانَ كُلُّهَا مُحْتَمِلًا لِلْكَثْرَةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُفِيدَةً لِلتَّوْحِيدِ، فَقَالُوا: لَا اسْتَحَقَّتْ عَمَلَ أَنْ لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مُلَازَمَةُ الْأَسْمَاءِ، وَالْآخَرُ تَنَاقُضُهُمَا فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لِتَأْكِيدِ الثُّبُوتِ وَالْآخَرَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ تَشْبِيهُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ فِي الْحُكْمِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا قَالُوا: إِنَّ زَيْدًا ذَاهِبٌ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا لَا رَجُلًا ذَاهِبٌ إِلَّا أَنَّهُمْ بَنَوْا لَا مَعَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْفَتْحِ، أَمَّا الْبِنَاءُ فَلِشِدَّةِ اتِّصَالِ حَرْفِ النَّفْيِ بِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمَا صَارَا اسْمًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا الْبِنَاءَ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْإِعْرَابِ وَالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْبِنَاءِ. الثَّانِي: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالْأَصْلُ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ تَصَوُّرُ الثُّبُوتِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَصَوُّرِ السَّلْبِ، فَإِنَّ السَّلْبَ مَا لَمْ يُضَفْ إِلَى الثُّبُوتِ لَا يُمْكِنُ تصوره فكيف قدم هاهنا السَّلْبُ عَلَى الثُّبُوتِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا السَّلْبُ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الثُّبُوتِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ الْبَحْثُ عَنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا جَعَلْتُ لَكُمْ نَسَبًا وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ نَسَبًا، أَنَا جَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ عِنْدِي أَتْقَاكُمْ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ أَكْرَمَكُمْ أَغْنَاكُمْ فَالْآنَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ!»،
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي قِسْمَةِ الْعُقُولِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاسِمَ: كَامِلٌ لَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، وَنَاقِصٌ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ، وَثَالِثٌ يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ فَهُوَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِالْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَبَعْدَهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّ مِنْ كَمَالِهِمْ أَنَّهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التَّحْرِيمِ: ٦] ومن صفاتهم أنهم: عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦] وَمِنْ/ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا، وَأَمَّا النَّاقِصُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ فَهُوَ الْجَمَادَاتُ وَالنَّبَاتُ وَالْبَهَائِمُ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ الْإِنْسَانُ تَارَةً يَكُونُ فِي التَّرَقِّي بِحَيْثُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] وَتَارَةً فِي التَّسَفُّلِ بِحَيْثُ يُقَالُ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّينِ: ٥] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَامِلًا لِذَاتِهِ، وَمَا لَا يَكُونُ كَامِلًا لِذَاتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ مَوْصُوفًا بِالْكَمَالِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُنْتَسِبًا إِلَى الْكَامِلِ لِذَاتِهِ.
لَكِنَّ الِانْتِسَابَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ. أَمَّا الَّذِي يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمِثَالُهُ الصِّحَّةُ وَالْمَالُ وَالْجَمَالُ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ فَعُبُودِيَّتُكَ للَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ كَمَا يَمْتَنِعُ زَوَالُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ يَمْتَنِعُ زَوَالُ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ عَنْكَ فَهَذِهِ النِّسْبَةُ لَا تَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَالْمُنْتَسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ الْخُرُوجَ عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِذَا كُنْتَ مِنْ بَلَدٍ أَوْ مُنْتَسِبًا إِلَى قَبِيلَةٍ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ تُبَالِغُ فِي مَدْحِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَالْقَبِيلَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ الْعَرَضِيِّ فَلَأَنْ تَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ بِسَبَبِ الِانْتِسَابِ
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى. اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ أَوْ بِحَسَبِ أَجْزَاءِ ذَاتِهِ أَوْ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ ذَاتِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ للَّه تَعَالَى اسْمٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّه تَعَالَى هَلْ هِيَ مَعْلُومَةٌ لِلْبَشَرِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ قَالَ: لَيْسَ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ اسْمٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاسْمِ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْمُسَمَّى وَإِذَا كَانَتِ الذَّاتُ الْمَخْصُوصَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ امْتَنَعَتِ الْإِشَارَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِلَيْهَا، فَامْتَنَعَ وَضْعُ الِاسْمِ لَهَا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ اللَّه، وَأَمَّا الِاسْمُ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ أَجْزَاءِ ذَاتِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا فَلَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَأَمَّا الِاسْمُ الْوَاقِعُ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ ذَاتِهِ، فَالصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثُبُوتِيَّةً حَقِيقِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً إِضَافِيَّةً أَوْ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً مَعَ إِضَافِيَّةٍ أَوْ ثُبُوتِيَّةً مَعَ سَلْبِيَّةٍ أَوْ إِضَافِيَّةً مَعَ سَلْبِيَّةٍ أَوْ ثُبُوتِيَّةً وَإِضَافِيَّةً وَسَلْبِيَّةً وَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَاتُ الْمُمْكِنَةُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكَذَا السُّلُوبُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي تَعَالَى أَسْمَاءٌ مُتَبَايِنَةٌ لَا مُتَرَادِفَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَأْخَذِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: يُقَالُ: أَنَّ للَّه تَعَالَى أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ، أَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَأَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه وَالْمَلَائِكَةُ وَأَلْفٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ. وَأَمَّا الْأَلْفُ الرَّابِعُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَهَا فَثَلَاثُمِائَةٍ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ وَثَلَاثُمِائَةٍ فِي الْإِنْجِيلِ وَثَلَاثُمِائَةٍ فِي الزَّبُورِ وَمِائَةٌ فِي الْفُرْقَانِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا ظَاهِرَةٌ وَوَاحِدٌ مَكْتُومٌ فَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِانْفِرَادِهِ ثَنَاءً وَمَدْحًا، كَقَوْلِهِ جَاعِلٌ/ وَفَالِقٌ وَخَالِقٌ فَإِذَا قِيلَ: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: ٩٦] صَارَ مَدْحًا، وَأَمَّا الِاسْمُ الَّذِي يَكُونُ مَدْحًا فَمِنْهُ مَا إِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ صَارَ أَبْلَغَ نَحْوَ قَوْلِنَا: حَيٌّ فَإِذَا قِيلَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَوِ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ كَانَ أَبْلَغَ وَأَيْضًا قَوْلُنَا بَدِيعٌ فَإِنَّكَ إِذَا قلت بديع السموات وَالْأَرْضِ ازْدَادَ الْمَدْحُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا كَانَ اسْمَ مَدْحٍ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ كَقَوْلِكَ: دَلِيلٌ. وَكَاشِفٌ فَإِذَا قِيلَ: يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ، وَيَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى جَازَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ اسْمَ مَدْحٍ مُفْرَدًا أَوْ مَقْرُونًا كَقَوْلِنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ مُقَارَنَتُهَا أَحْسَنَ كَقَوْلِكَ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَسِيحِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: ١١٨] وَبَقِيَّةُ الْأَبْحَاثِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: في النكت [أولها] رأى بشر الحافي كاغذا مَكْتُوبًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَرَفَعَهُ وَطَيَّبَهُ بِالْمِسْكِ وَبَلَعَهُ فَرَأَى فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: يَا بِشْرُ طَيَّبْتَ اسْمَنَا فَنَحْنُ نُطَيِّبُ اسْمَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: ١٨٠] وَلَيْسَ حُسْنُ الْأَسْمَاءِ لِذَوَاتِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ وَأَصْوَاتٌ بَلْ حُسْنُهَا لِحُسْنِ مَعَانِيهَا ثُمَّ لَيْسَ حُسْنُ أَسْمَاءِ اللَّه حُسْنًا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِجِسْمٍ بَلْ حُسْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ مَثَلًا اسْمُ السَّتَّارِ وَالْغَفَّارِ وَالرَّحِيمِ إِنَّمَا كَانَتْ حَسْنَاءَ لِأَنَّهَا دالة
وَرُوِيَ أَنَّ حَكِيمًا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَبِيحٌ وَحَسَنٌ وَالْتَمَسَا الْوَصِيَّةَ فَقَالَ لِلْحَسَنِ: أَنْتَ حَسَنٌ وَالْحَسَنُ لَا يَلِيقُ بِهِ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ أَنْتَ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ عَظُمَ قُبْحُهُ.
فَنَقُولُ: إِلَهَنَا أَسْمَاؤُكَ حَسَنَةٌ وَصِفَاتُكَ حَسَنَةٌ فَلَا تَظْهَرُ لَنَا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ وَالصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، إِلَهَنَا يَكْفِينَا قُبْحُ أَفْعَالِنَا وَسِيرَتِنَا فَلَا نَضُمُّ إِلَيْهِ قُبْحَ الْعِقَابِ وَوَحْشَةَ الْعَذَابِ. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ»
إِلَهَنَا حُسْنُ الْوَجْهِ عَرَضِيٌّ أَمَّا حُسْنُ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ فَذَاتِيٌّ فَلَا تَرُدَّنَا عَنْ إِحْسَانِكَ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ. وَرَابِعُهَا: ذُكِرَ أَنَّ صَيَّادًا كَانَ يَصِيدُ السَّمَكَ فَصَادَ سَمَكَةً وَكَانَ لَهُ ابْنَةٌ فَأَخَذَتْهَا ابْنَتُهُ فَطَرَحَتْهَا الْمَاءَ وَقَالَتْ: إِنَّهَا مَا وَقَعَتْ فِي الشَّبَكَةِ إِلَّا لِغَفْلَتِهَا، إِلَهَنَا تِلْكَ الصَّبِيَّةُ رَحِمَتْ غَفْلَةَ هَاتِيكَ السَّمَكَةِ وَكَانَتْ تُلْقِيهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ وَنَحْنُ قَدِ اصْطَادَتْنَا وَسْوَسَةُ إِبْلِيسَ وَأَخْرَجَتْنَا مِنْ بَحْرِ رَحْمَتِكَ فَارْحَمْنَا بِفَضْلِكَ وَخَلِّصْنَا مِنْهَا وَألْقِنَا فِي بِحَارِ رَحْمَتِكَ مَرَّةً أُخْرَى. وَخَامِسُهَا: ذَكَرْتَ مِنَ الْأَسْمَاءِ خَمْسَةً فِي الْفَاتِحَةِ، وَهِيَ اللَّه وَالرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ وَالْمَلِكُ فَذَكَرْتَ الْإِلَهِيَّةَ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَّهَارِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ الْقَهْرَ وَالْعُلُوَّ فَذَكَرَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى اللُّطْفِ، الرَّبَّ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْمُعْتَادُ أَنَّ مَنْ رَبَّى أَحَدًا فَإِنَّهُ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ ثُمَّ خَتَمَ الْأَمْرَ بِالْمَلِكِ وَالْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ تَعْفُوَ عَنْ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ». وَسَادِسُهَا:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِلَهِي أَيُّ خَلْقِكَ أَكْرَمُ عَلَيْكَ؟ قَالَ/ الَّذِي لَا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِي، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَلْتَمِسُ إِلَى عِلْمِهِ عِلْمَ غَيْرِهِ، قَالَ:
فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْدَلُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَقْضِي عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَعْظَمُ جُرْمًا؟ قَالَ:
الَّذِي يَتَّهِمُنِي وَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُنِي ثُمَّ لَا يَرْضَى بِمَا قَضَيْتُهُ لَهُ».
إِلَهَنَا إِنَّا لَا نَتَّهِمُكَ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَحْسَنْتَ بِهِ فَهُوَ فَضْلٌ وَكُلَّ مَا تَفْعَلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا. وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ سَيَعْلَمُ الْجَمْعُ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ، ثُمَّ يُقَالُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه؟ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الْحَامِدُونَ اللَّه عَلَى كُلِّ حَالٍ؟ ثُمَّ تَكُونُ التَّبِعَةُ وَالْحِسَابُ عَلَى مَنْ بَقِيَ إِلَهَنَا فَنَحْنُ حَمِدْنَاكَ وَأَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِنَا وَمُنْتَهَى طَاقَتِنَا فَاعْفُ عَنَّا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ. وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ لَوَامِعِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأَسْمَاءِ والصفات وباللَّه التوفيق.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٢]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ حَالَ الْقُرْآنِ وَحَالَ الرَّسُولِ فِيمَا كَلَّفَهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُقَوِّي قَلْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ فِي الْإِبْلَاغِ كَقَوْلِهِ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هُودٍ: ١٢٠] وَبَدَأَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ وَالْفِتْنَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ كَانَتْ أَعْظَمَ لِيُسْلِيَ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَيُصَبِّرَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ فَقَالَ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى وهاهنا مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهَلْ أَتاكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه/ تَعَالَى لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ فِي قَلْبِهِ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ لِصَاحِبِهِ هَلْ بَلَغَكَ خَبَرُ كَذَا؟
فَيَتَطَلَّعُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الِاسْتِفْهَامَ لَكَانَ الْجَوَابُ يَصْدُرُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ رَأى نَارًا أَيْ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُهُ حِينَ رَأَى نَارًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اسْتَأْذَنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَالِدَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فِي الطَّرِيقِ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ مُثْلِجَةٍ وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَقَدْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ فَقَدَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّارَ فَلَمْ تُورِ الْمِقْدَحَةُ شيئا، فبينا هو مُزَاوَلَةِ ذَلِكَ إِذْ نَظَرَ نَارًا مِنْ بَعِيدٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ. قَالَ السُّدِّيُّ: ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ مِنْ نِيرَانِ الرُّعَاةِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَآهَا فِي شَجَرَةٍ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمُ الَّذِي رَآهُ لَمْ يَكُنْ نَارًا بَلْ تَخَيَّلَهُ نَارًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَأَى نَارًا لِيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ إِذِ الْكَذِبُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، قِيلَ: النَّارُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَارٌ تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ الدُّنْيَا، وَنَارٌ تَشْرَبُ وَلَا تَأْكُلُ وَهِيَ نَارُ الشَّجَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [يس: ٨٠] وَنَارٌ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ الْمَعِدَةِ، وَنَارٌ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَهِيَ نَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ أَيْضًا النَّارُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: نَارٌ لَهَا نُورٌ بِلَا حُرْقَةٍ وَهِيَ نَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَثَانِيهَا: حُرْقَةٌ بِلَا نُورٍ وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ. وَثَالِثُهَا: الْحُرْقَةُ وَالنُّورُ وَهِيَ نَارُ الدُّنْيَا. وَرَابِعُهَا: لَا حُرْقَةٌ وَلَا نُورٌ وَهِيَ نَارُ الْأَشْجَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ النَّارَ تَوَجَّهَ نَحْوَهَا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا وَالْخَادِمِ الَّذِي مَعَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَلَكِنْ خَرَجَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْأَهْلِ فَإِنَّ الْأَهْلَ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يخاطب الواحد بلفظ الجماعة أي تَفْخِيمًا أَيْ أَقِيمُوا فِي مَكَانِكُمْ: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَيْ أَبْصَرْتُ، وَالْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَمِنْهُ إِنْسَانُ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَبِينُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْإِنْسُ لِظُهُورِهِمْ كَمَا قِيلَ الْجِنُّ لِاسْتِتَارِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَيْضًا مَا يُؤْنَسُ بِهِ وَلَمَّا وُجِدَ مِنْهُ الْإِينَاسُ وَكَانَ مُنْتَفِيًا حَقِيقَةً لَهُمْ أَتَى بِكَلِمَةِ إِنِّي لِتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمَّا كَانَ الْإِينَاسُ بِالْقَبَسِ وَوُجُودِ الْهُدَى مُتَرَقَّبَيْنِ مُتَوَقَّعَيْنِ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِمَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَقَالَ: لَعَلِّي آتِيكُمْ وَلَمْ يَقْطَعْ فَيَقُولُ إِنِّي آتِيكُمْ لِئَلَّا يَعِدَ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْوَفَاءَ بِهِ. وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا:
كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ لِلْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ احْتَرَزَ عَنِ الْكَذِبِ فَلَمْ يَقُلْ آتِيكُمْ وَلَكِنْ قَالَ لَعَلِّي آتِيكُمْ وَلَمْ يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لَمْ يَتَيَقَّنِ الْوَفَاءَ بِهِ وَالْقَبَسُ النَّارُ الْمُقْتَبَسَةُ فِي رَأْسِ عُودٍ أَوْ فَتِيلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً وَالْهُدَى مَا يُهْتَدَى بِهِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَجِدُ عَلَى النَّارِ مَا أَهْتَدِي بِهِ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ عَلَامَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّارِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا وَلِأَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِهَا إِذَا أَحَاطُوا بِهَا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَتاها أَيْ أَتَى النَّارَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَأَى شَجَرَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا كَأَنَّهَا نَارٌ بَيْضَاءُ فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا مِنْ شِدَّةِ ضَوْءِ تِلْكَ النَّارِ وَشِدَّةِ خُضْرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَلَا النَّارُ تُغَيِّرُ خُضْرَتَهَا وَلَا كَثْرَةُ مَاءِ الشَّجَرَةِ/ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَى نُورًا عَظِيمًا،
قَالَ وَهْبٌ: فَظَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
قَالَ الْقَاضِي الَّذِي يُرْوَى مِنْ أَنَّ الزَّنْدَ مَا كَانَ يُورَى فَهَذَا جَائِزٌ وَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى مِنْ أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: ١٣] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَبْعُدُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَأَخُّرِ النَّارِ عَنْهُ وَبَيَّنَ فَسَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى وَإِنْ كَانَتْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ وَلَمَا بَقِيَ لِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: الْقَاضِي إِنَّمَا بَنَى هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْإِرْهَاصَ غَيْرُ جَائِزٍ وَذَلِكَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ فَبَطَلَ قَوْلُهُ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَقَرِيبٌ لِأَنَّ تَخَلُّلَ الزَّمَانِ الْقَلِيلِ فِيمَا بَيْنَ الْمَجِيءِ وَالنِّدَاءِ لَا يَقْدَحُ فِي فَاءِ التَّعْقِيبِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وابن كثير (أنى) بالفتح أي نودي أَنَا رَبُّكَ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ أَيْ نُودِيَ فَقِيلَ: يَا مُوسَى أَوْ لِأَنَّ النِّدَاءَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَسْمَعَهُ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ ذَلِكَ الْكَلَامِ فَقَالُوا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ ذَلِكَ النِّدَاءَ فِي جِسْمٍ مِنَ الْأَجْسَامِ كَالشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى واللَّه قَادِرٌ عَلَيْهِ وَمَتَى شَاءَ فَعَلَهُ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَقَدْ أَثْبَتُوا الْكَلَامَ الْقَدِيمَ إِلَّا أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوْتٌ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ الصَّوْتُ الْمُحْدَثُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ النِّدَاءَ عَلَى أَنَّهُ أَتَى النَّارَ وَالْمُرَتَّبُ عَلَى الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ فَالنِّدَاءُ مُحْدَثٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ أَصْحَابُنَا:
يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِالْمُعْجِزَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: أَمَّا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِكَوْنِ هَذَا النِّدَاءِ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ وَالذَّاتُ تَكُونُ مَعْلُومَةً بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كَانَ وُجُودُ الصَّانِعِ تعالى معلوما له بِالضَّرُورَةِ لَخَرَجَ مُوسَى عَنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَمْ يَخْرُجْ مُوسَى عَنِ التَّكْلِيفِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْمُعْجِزِ عَلَى وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى أَنْ نَعْرِفَ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ مَا هُوَ. وَثَانِيهَا:
يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَاهَدَ النُّورَ السَّاطِعَ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ/ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ فَنُودِيَ يَا مُوسَى؟ فَقَالَ: لَبَّيْكَ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَاكَ فَأَيْنَ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا مَعَكَ وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ وَمُحِيطٌ بِكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْكَ. ثم إِنَّ إِبْلِيسَ أَخْطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الشَّكَّ وَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامَ اللَّه؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَسْمَعُهُ مِنْ فَوْقِي وَمِنْ تَحْتِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي كَمَا أَسْمَعُهُ مِنْ قُدَّامِي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَمَعْنَى إِطْلَاقِهِ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَنِّي أَسْمَعُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِي وَأَبْعَاضِي حَتَّى كَأَنَّ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنِّي صَارَتْ أُذُنًا. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ جَمَادٍ كَالْحَصَى وَغَيْرِهَا فَيَكُونَ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالُوا: إِنَّ تَكْرِيرَ الضَّمِيرِ فِي إِنِّي أَنَا رَبُّكَ كان لتوليد الدَّلَالَةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ: وُجُوهًا. أَحَدُهَا:
كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا صِيَانَةً للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّمَا أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا لِيَنَالَ قَدَمَيْهِ بَرَكَةُ الْوَادِي وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ مِنْ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا حَافِيًا لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لَهَا وَخَاضِعًا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ، وَالدَّلِيلُ عليه أنه تعالى قال عقيبه: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَهَذَا يُفِيدُ التَّعْلِيلَ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: اخْلَعْ نَعْلَيْكَ لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِشَارَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّعْلَ فِي النَّوْمِ يُفَسَّرُ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَقَوْلُهُ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لا يلفت خَاطِرُهُ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَأَنْ لَا يَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِأَمْرِهِمَا. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتَ بِخَاطِرِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ قُدْسُ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَطَهَارَةُ عِزَّتِهِ يَعْنِي أَنَّكَ لَمَّا وَصَلْتَ إِلَى بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمُقَدِّمَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْعَالَمُ الْمَحْسُوسُ مُحْدَثٌ أَوْ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ مُدَبِّرٌ وَمُؤَثِّرٌ وَصَانِعٌ وَهَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ تُشْبِهَانِ النَّعْلَيْنِ لِأَنَّ بِهِمَا يَتَوَصَّلُ الْعَقْلُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَنَقَّلُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ ثُمَّ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى مُلْتَفِتًا إِلَى تَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِأَنَّ بِقَدْرِ الِاشْتِغَالِ بِالْغَيْرِ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَا تَكُنْ مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ وَالْخَاطِرِ بِتَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَإِنَّكَ وَصَلْتَ إِلَى الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ بَحْرُ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلُجَّةُ أُلُوهِيَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ بِقَدِيمٍ إِذْ لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ اللَّه قَائِلًا قَبْلَ وُجُودِ مُوسَى اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سَفَهٌ فَإِنَّ/ الرَّجُلَ فِي الدَّارِ الْخَالِيَةِ إِذَا قَالَ: يَا زَيْدُ افْعَلْ وَيَا عَمْرُو لَا تَفْعَلْ مَعَ أَنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا لا يكونان حاضرين بعد ذَلِكَ جُنُونًا وَسَفَهًا فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا بِمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ لَمَّا اسْتَمَرَّ إِلَى مَا لَا يَزَالُ صَارَ الشَّخْصُ بِهِ مَأْمُورًا مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ الْفِعْلِ ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَزَلِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الصِّحَّةِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ إِلَى مَا لا يزال حصلت الصحة كذا هاهنا وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ غُمُوضٌ وَبَحْثٌ دَقِيقٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّ عَلَّلْنَا الْأَمْرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ بِتَعْظِيمِ الْوَادِي وَتَعْظِيمِ كَلَامِ اللَّه كَانَ الْأَمْرُ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِأَنَّ النَّعْلَيْنِ كَانَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ
«فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا»
فَلَمْ يَكْرَهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهُمَا وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَعَهُمَا لما فيهما من القذر.
المسألة الحادية عشر: قُرِئَ طُوًى بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ مُنْصَرِفًا وَغَيْرَ مُنْصَرِفٍ فَمَنْ نَوَّنَهُ فَهُوَ اسْمُ الْوَادِي وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ تَرَكَ صَرْفَهُ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوِيٍ فَهُوَ مِثْلُ عُمَرَ الْمَعْدُولِ عَنْ عَامِرٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي طُوًى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَادِي وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ نَحْوَ مَثْنَى أَيْ قُدِّسَ الْوَادِي مَرَّتَيْنِ أَوْ نُودِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نِدَاءَيْنِ يُقَالُ نَادَيْتُهُ طُوًى أَيْ مَثْنَى.
وَالثَّالِثُ: طُوًى أَيْ طَيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّهُ مَرَّ بِذَلِكَ الْوَادِي لَيْلًا فَطَوَاهُ فَكَانَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طَوَيْتَهُ طَيًّا أَيْ قَطَعْتَهُ حَتَّى ارْتَفَعْتَ إِلَى أَعْلَاهُ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ طُوًى مَصْدَرٌ خَرَجَ عَنْ لَفْظِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَوَيْتَهُ طُوًى كَمَا يُقَالُ هدى يهدي هدي واللَّه أعلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
قَرَأَ حَمْزَةُ: (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) وَقَرَأَ أبي بن كعب: (وإني اخترتك) وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَاهُ اخْتَرْتُكَ لِلرِّسَالَةِ وَلِلْكَلَامِ الَّذِي خَصَصْتُكَ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَحْصُلُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْصِبَ الْعَلِيَّ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اخْتَارَهُ له ابْتِدَاءً لَا أَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى فِيهِ نِهَايَةُ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ جَاءَكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ فَتَأَهَّبْ لَهُ وَاجْعَلْ كُلَّ عَقْلِكَ وَخَاطِرِكَ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يُفِيدُ نِهَايَةَ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَقَوْلُهُ: فَاسْتَمِعْ يُفِيدُ نِهَايَةَ الْهَيْبَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَوَّلِ نِهَايَةُ الرَّجَاءِ وَمِنَ الثَّانِي نِهَايَةُ الْخَوْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ مُقَدَّمٌ عَلَى عِلْمِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْعِبَادَةَ مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ وَأَيْضًا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدْنِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُ إِنَّمَا لَزِمَتْ لِإِلَهِيَّتِهِ وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّه هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ، أَوَّلًا ثُمَّ بِالْعِبَادَةِ ثَانِيًا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ ثَالِثًا احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْمُجْمَلِ مُنْفَكًّا عَنِ الْبَيَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ قَالَ: الْقَاضِي لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَرَفَ الصَّلَاةَ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّه تَعَالَى بِهَا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَصَارَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْعُذْرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدْنِي وَأَيْضًا فَحَمْلُ مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ الْعَظِيمِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَشُكُّ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: لِذِكْرِي وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِذِكْرِي يَعْنِي لِتَذْكُرَنِي فَإِنَّ ذِكْرِي أَنْ أُعْبَدَ وَيُصَلَّى لِي.
وَثَانِيهَا: لِتَذْكُرَنِي فِيهَا لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَذْكَارِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: لِأَنِّي ذَكَرْتُهَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَرْتُ بِهَا.
وَرَابِعُهَا: لِأَنْ أَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَأَجْعَلَ لَكَ لِسَانَ صِدْقٍ. وَخَامِسُهَا: لِذِكْرِي خَاصَّةً لَا تَشُوبُهُ بِذِكْرِ غَيْرِي.
وَسَادِسُهَا: لِإِخْلَاصِ ذِكْرِي وَطَلَبِ وَجْهِي لَا تُرَائِي بِهَا وَلَا تَقْصِدْ بِهَا غَرَضًا آخَرَ. وَسَابِعُهَا: لِتَكُونَ لِي ذَاكِرًا غَيْرَ نَاسٍ فِعْلَ الْمُخْلِصِينَ فِي جَعْلِهِمْ ذِكْرَ رَبِّهِمْ عَلَى بَالٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: ٣٧] / وَثَامِنُهَا: لِأَوْقَاتِ ذِكْرِي وَهِيَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: ١٠٣]. وتاسعها: أَقِمِ الصَّلاةَ حِينَ تَذْكُرُهَا أَيْ أَنَّكَ إِذَا نَسِيتَ صَلَاةً فَاقْضِهَا إِذَا ذَكَرْتَهَا.
رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ثُمَّ قَرَأَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ قَضَائِهَا وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي نِسْيَانِهَا غَرَامَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَمَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي تَرْكِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَكَمَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ فِدْيَةٌ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ دَمٍ. وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَا تَرَكَ فَقَطْ فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِهَا كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»
قُلْنَا قَوْلُهُ: لِذِكْرِي مَعْنَاهُ لِلذِّكْرِ الْحَاصِلِ بِخَلْقِي أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَدَاءِ فَلَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي قَضَائِهَا جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ فَرِيضَةٍ وَتَذَكَّرَ فَائِتَةً نَظَرَ إِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ اسْتُحِبَّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ وَلَوْ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ جَازَ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَوْ بَدَأَ بِالْفَائِتَةِ فَاتَ الْوَقْتُ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ حَتَّى لَا تَفُوتَ وَلَوْ تذكر الفائتة بعد ما شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْوَقْتِ أَتَمَّهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاةَ الْوَقْتِ بَعْدَهَا وَلَا يَجِبُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ تَذَكَّرَ فِي خِلَالِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فَائِتَةً تَرَكَهَا الْيَوْمَ يَبْطُلُ فَرْضُ الْوَقْتِ فَيَقْضِي الْفَائِتَةَ ثُمَّ يُعِيدُ صَلَاةَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا فَلَا تَبْطُلُ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْأَثَرُ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا الآية فقوله تعالى:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أَيْ لِتَذَكُّرِهَا وَاللَّامُ بِمَعْنَى عِنْدَ كَقَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] أَيْ عِنْدَ دُلُوكِهَا فَمَعْنَى الْآيَةِ أَقِمِ الصَّلَاةَ الْمُتَذَكَّرَةَ عِنْدَ تَذَكُّرِهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي رِعَايَةَ التَّرْتِيبِ وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»
وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَأَيْضًا
رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه قَالَ: «جَاءَ عُمَرُ بن الخطاب رضي اللَّه عنهما إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى كَادَتْ تَغِيبُ الشَّمْسُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا واللَّه مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غَابَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»
قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»
فَلَمَّا صَلَّى الْفَوَائِتَ عَلَى الْوَلَاءِ وَجَبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم إذ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِلْمُجْمَلِ كَانَ حُجَّةً وَهَذَا الفعل خرج
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلْيَمْضِ فِي صِلَاتِهِ فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ/ يُصَلِّي مَا فَاتَهُ ثُمَّ لْيُعِدِ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» وَقَدْ يُرْوَى هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ فَرِيضَتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَوَائِتِ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَذَلِكَ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ
رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُودُوا رَوَاحِلَهُمْ ثُمَّ صَلَّاهَا»
وَلَوْ كَانَ وَقْتُ التَّذَكُّرِ مُعَيَّنًا لِلصَّلَاةِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتٌ لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِيجَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَإِيجَابُ أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ شَرْطًا لَمَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُعِيدُهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بِالنِّسْيَانِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِيهِمَا فَهَهُنَا أَيْضًا لَوْ كَانَ شَرْطًا فيهما لما كان يسقط بالنسيان.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
[في قوله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام بقوله: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها وَمَا أَلْيَقَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ لِذِكْرِي أَيْ لِأُذَكِّرَكَ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَرَامَةِ فَقَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْإِثَابَةِ وَوَقْتُ الْمُجَازَاةِ ثُمَّ قَالَ: أَكادُ أُخْفِيها وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ كَادَ نَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: ٧١] أَيْ وَفَعَلُوا ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: أَكادُ أُخْفِيها يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا أَخْفَاهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: ٣٤]. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْإِخْفَاءِ لَا بِالْإِظْهَارِ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ كَادَ مَوْضُوعٌ لِلْمُقَارَبَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ: أَكادُ أُخْفِيها مَعْنَاهُ قَرُبَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِخْفَاءُ أَوْ مَا حَصَلَ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْإِخْفَاءِ لَا بِالْإِظْهَارِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَادَ مِنَ اللَّه وَاجِبٌ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَكادُ أُخْفِيها أَيْ أَنَا أُخْفِيهَا/ عَنِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاءِ: ٥١] أَيْ هُوَ قَرِيبٌ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَكادُ بِمَعْنَى أُرِيدُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يُوسُفَ: ٧٦] وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَكَادُ أَيْ وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ. وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي وَقِيلَ إِنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُعْلِنُهَا لَكُمْ قَالَ الْقَاضِي هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْإِظْهَارُ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ كُلَّ مَعْلُومٍ مَعْلُومٌ لَهُ فَالْإِظْهَارُ وَالْإِسْرَارُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ عَلَى التَّقْدِيرِ يَعْنِي لَوْ صَحَّ مِنِّي إِخْفَاؤُهُ عَلَى نَفْسِي لَأَخْفَيْتُهُ عَنِّي وَالْإِخْفَاءُ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ عَلَى
سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ | فَمَا إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ |
فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ | وَإِنْ تَمْنَعُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ |
أَرَادَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ ثُمَّ قَالَ أُخْفِيهَا ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى الْإِخْفَاءُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ واللَّه أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ وَإِخْفَاءِ وَقْتِ الْمَوْتِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَلَوْ عَرَفَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَاشْتَغَلَ بِالْمَعْصِيَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ عِقَابِ الْمَعْصِيَةِ فَتَعْرِيفُ وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْإِغْرَاءِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَوْلُهُ:
بِما تَسْعى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ هُوَ ذَلِكَ السَّعْيُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ سَعْيٌ الْبَتَّةَ أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها فالصد المنع وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَيْنِ الضَّمِيرَيْنِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرْتُكَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا أَيْ بِالسَّاعَةِ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي إِلَى السَّاعَةِ وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَالْعَرَبُ تَلُفُّ الْخَبَرَيْنِ ثُمَّ تَرْمِي بِجَوَابِهِمَا جُمْلَةً لِيَرُدَّ السَّامِعُ إِلَى كُلِّ خَبَرٍ حَقَّهُ. وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَجِيئِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ وهاهنا الْأَقْرَبُ هُوَ السَّاعَةُ وَمَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها النَّهْيَ لَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَمُقَارَبَتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ نَهْيُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَلَكِنْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي نَهْيَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عَنْ صَدِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْذِيبِ فَذَكَرَ السَّبَبَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ صَدَّ الْكَافِرِ مُسَبَّبٌ عَنْ رَخَاوَةِ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ فَذَكَرَ الْمُسَبَّبَ لِيَدُلَّ حَمْلُهُ عَلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: لَا أرينك هاهنا الْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَالْكَوْنِ بِحَضْرَتِهِ، فَكَذَا هاهنا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَكُنْ رَخْوًا بَلْ كُنْ فِي الدِّينِ شَدِيدًا صُلْبًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَتِلْكَ الصَّلَابَةُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّقْلِيدَ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمُبْطِلُ فِيهِ مِنَ الْمُحِقِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الصَّلَابَةِ كَوْنَهُ قَوِيًّا فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الْخَصْمُ مِنْ إِزَالَتِهِ عَنِ الدِّينِ بَلْ هُوَ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِزَالَةِ الْمُبْطِلِ عَنْ بُطْلَانِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِهِمْ لَكَانَ هُوَ الصَّادَّ دُونَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَ هَواهُ فَالْمَعْنَى أَنَّ مُنْكِرَ/ الْبَعْثِ إِنَّمَا أَنْكَرَهُ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى لَا لِدَلِيلٍ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى لَا الْحُجَّةِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَتَرْدى فَهُوَ بِمَعْنَى وَلَا يَصُدَّنَّكَ فَتَرْدَى وَإِنْ صَدُّوكَ وَقَبِلْتَ فَلَيْسَ إِلَّا الْهَلَاكُ بِالنَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي أَسْرَارِ الْمَعْرِفَةِ قَالُوا: الْمَقَامُ مَقَامَانِ. أَحَدُهُمَا: مَقَامُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَقَامُ الْبَقَاءِ باللَّه وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا فِي لَوْحٍ مَشْغُولٍ بِكِتَابَةٍ أُخْرَى فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِزَالَةِ الْكِتَابَةِ الْأُولَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ رَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلًا: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِتَحْصِيلِ مَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ وَأُصُولُ هَذَا الْبَابِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: عِلْمِ الْمَبْدَأِ وَعِلْمِ الْوَسَطِ وَعِلْمِ الْمَعَادِ، فَعِلْمُ الْمَبْدَأِ هُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: ١٤] وَأَمَّا عِلْمُ الْوَسَطِ فَهُوَ عِلْمُ الْعُبُودِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] ثُمَّ فِي هَذَا أَيْضًا تَعَثُّرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدْنِي إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْمَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَوْلَهُ: لِذِكْرِي إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْمَالِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةُ أَوَّلُهَا الْأَعْمَالُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَآخِرُهَا الْأَعْمَالُ الرُّوحَانِيَّةُ وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعَادِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ هَذِهِ التَّكَالِيفَ بِمَحْضِ اللطف وهو قوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: ١٢] وَاخْتَتَمَهَا بِمَحْضِ الْقَهْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ لَفْظَتَانِ، فَقَوْلُهُ: وَما تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا، وَقَوْلُهُ: بِيَمِينِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَدِ، وَفِي هَذَا نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا، وَنَقَلَهُ مِنْ حَدِّ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْكَرَامَةِ، فَإِذَا صَارَ/ الْجَمَادُ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ حَيَوَانًا، وَصَارَ الْجِسْمُ الْكَثِيفُ نُورَانِيًّا لَطِيفًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إِلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُهُ مِنْ مَوْتِ الْعِصْيَانِ إِلَى سَعَادَةِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الْمَعْرِفَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ صَارَ الْجَمَادُ ثُعْبَانًا يَبْتَلِعُ سِحْرَ السَّحَرَةِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوْ صَارَ الْقَلْبُ بِمَدَدِ النَّظَرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَبْتَلِعُ سِحْرَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْعَصَا فِي يَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبِسَبَبِ بَرَكَةِ يَمِينِهِ انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا وَبُرْهَانًا، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِيَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالْبَرَكَةُ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِصْبَعِي الرَّحْمَنِ مِنْ ظُلْمَةِ المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سُؤَالٌ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ شَيْئًا شَرِيفًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ: هَذَا مَا هُوَ؟ فَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِظْهَارِ صِفَتِهِ الْفَائِقَةِ فِيهِ يَقُولُ لَهُمْ خُذَا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا.
فاللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الْعَصَا تِلْكَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ كَانْقِلَابِهَا حَيَّةً، وَكَضَرْبِهِ الْبَحْرَ حَتَّى انْفَلَقَ، وَفِي الْحَجَرِ حَتَّى انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، عَرَضَهُ أَوَّلًا عَلَى مُوسَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى هَلْ تَعْرِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ وَأَنَّهُ خَشَبَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَبَهُ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، فَيَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَدْ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ عَظَمَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَسْمَعَهُ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ أَسْمَعَهُ كَلَامَ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَزَجَ اللُّطْفَ بِالْقَهْرِ فَلَاطَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثُمَّ قَهَرَهُ بِإِيرَادِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ وَإِلْزَامِهِ عِلْمَ الْمَبْدَأِ وَالْوَسَطِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ خَتَمَ كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، تَحَيَّرَ مُوسَى وَدَهِشَ وَكَادَ لَا يَعْرِفُ الْيَمِينَ مِنَ الشِّمَالِ فقيل له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَمِينَهُ هِيَ الَّتِي فِيهَا الْعَصَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَهُ أَوَّلًا بِكَلَامِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَحَيَّرَ مُوسَى مِنَ الدَّهْشَةِ تَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى مُوسَى فِي الْحَضْرَةِ أَرَادَ رَبُّ الْعِزَّةِ إِزَالَتَهَا فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا وَهُوَ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ. كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وَوَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ فَالدَّهْشَةُ
فَائِدَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَشَبَةٌ حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا ثُعْبَانًا لَا يَخَافُهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ/ يا مُوسى خِطَابٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ. الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَاطَبَ مُوسَى فَقَدْ خَاطَبَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمِ: ١٠] إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْشَاهُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِرًّا لَمْ يَسْتَأْهِلْ لَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي:
إِنْ كَانَ مُوسَى تَكَلَّمَ مَعَهُ وَهُوَ [تَكَلَّمَ] مَعَ مُوسَى فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُونَ اللَّه فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ عَلَى مَا
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ»
وَالرَّبُّ يَتَكَلَّمُ مَعَ آحَادِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا إِعْرَابُ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى الْجَوَابُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :(تِلْكَ بِيَمِينِكَ) كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هُودٍ: ٧٢] فِي انْتِصَابِ الْحَالِ بِمَعْنَى الْإِشَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمًا مَوْصُولًا وَصِلَتُهُ بِيَمِينِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَمَا الَّتِي بِيَمِينِكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَوَاحِدٌ عَلَى الْإِجْمَالِ. الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: هِيَ عَصايَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي إسحاق: (هي عصي) ومثلها: (يا بشرى) وقرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث هاهنا ثَلَاثَةٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ قَالَ: هِيَ عَصايَ فَذَكَرَ الْعَصَا وَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِالْعَصَا وَمَنَافِعِهَا كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا فِي بَحْرِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: ١٧] وَلَمَّا قِيلَ لَهُ امْدَحْنَا،
قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»
ثُمَّ نَسِيَ نَفْسَهُ وَنَسِيَ ثَنَاءَهُ
فَقَالَ: «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
وَثَانِيهَا: لَمَّا قَالَ: عَصايَ قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْقِها، فَلَمَّا أَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى لِيَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ شَاغِلٌ وَهُوَ كَالْحَيَّةِ الْمُهْلِكَةِ لَكَ. وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٧]
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَاحِبِ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَيُؤْتَى بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ أَقْرَعَ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ هِيَ عَصَايَ فَقَدْ تَمَّ الْجَوَابُ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْأُخَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْمُكَالَمَةَ مَعَ رَبِّهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ هذا الغرض.
الثاني: قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَالتَّوَكِّي، وَالِاتِّكَاءُ، وَاحِدٌ كَالتَّوَقِّي، وَالَاتِّقَاءِ مَعْنَاهُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا عَيِيتُ أَوْ وَقَفْتُ عَلَى رَأْسِ الْقَطِيعِ أَوْ عِنْدَ الطَّفْرَةِ فَجَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَصَا
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتكئ على رحمتي»
بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: ٦٤] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي كَوْنَ مُحَمَّدٍ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْنَا قوله: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: حَسْبَكَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى اللَّه حَسْبُكَ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أَيْ أَخْبِطُ بِهَا فَأَضْرِبُ أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا عَلَى غَنَمِي فَتَأْكُلُهُ. وَقَالَ أَهْلُ/ اللُّغَةِ: هش
«اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
فَلَا جَرَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْدَأُ أَيْضًا بِأُمَّتِهِ فَيَقُولُ: «أُمَّتِي أُمَّتِي». وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَيْ حَوَائِجُ وَمَنَافِعُ وَاحِدَتُهَا مَأْرَبَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقُطْرُبٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْضًا، وَالْأَرَبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْإِرْبَةُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْحَاجَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ أُخْرَى لِأَنَّ الْمَآرِبَ فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ أُخْرَى وَلَوْ جَاءَتْ أُخَرُ لَكَانَ صَوَابًا كَمَا قَالَ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤] ثم هاهنا نُكَتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ عَرَفَ أَنَّ للَّه فِيهِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فَذَكَرَ مَا عَرَفَ وَعَبَّرَ عَنِ الْبَوَاقِي الَّتِي مَا عَرَفَهَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَسَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ الْعَصَا لِمَنَافِعَ عَظِيمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى: إِلَهِي مَا هَذِهِ الْعَصَا إِلَّا كَغَيْرِهَا، لَكِنَّكَ لَمَّا سَأَلْتَ عَنْهَا عَرَفْتُ أَنَّ لِيَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّكَ كَلَّمْتَنِي بِسَبَبِهَا فَوَجَدْتُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الشَّرِيفَ بِسَبَبِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْمَلَ رجاء أن يسأل رَبُّهُ عَنْ تِلْكَ الْمَآرِبِ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه مَرَّةً أُخْرَى وَيَطُولَ أَمْرُ الْمُكَالَمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ بِسَبَبِ اللُّطْفِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ الدَّهْشَةُ فَانْقَطَعَ لِسَانُهُ وَتَشَوَّشَ فِكْرُهُ فَأَجْمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ وَهَبٌ: كَانَتْ ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ كَالْمِحْجَنِ، فَإِذَا طَالَ الْغُصْنُ حَنَاهُ بِالْمِحْجَنِ، وَإِذَا حَاوَلَ كَسْرَهُ لَوَاهُ بِالشُّعْبَتَيْنِ، [وَ] إِذَا سَارَ وَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ يُعَلِّقُ فِيهَا أَدَوَاتِهِ مِنَ الْقَوْسِ وَالْكِنَانَةِ وَالثِّيَابِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ رَكَزَهَا وَأَلْقَى كِسَاءً عَلَيْهَا فَكَانَتْ ظِلًّا. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي بِهَا فَتَطُولُ بِطُولِ الْبِئْرِ وَتَصِيرُ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا وَيَصِيرَانِ شَمْعَتَيْنِ فِي اللَّيَالِي، وَإِذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ حَارَبَتْ عَنْهُ. وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَزَهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ. وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَمَاءَهُ وَكَانَتْ تُمَاشِيهِ وَيَرْكِزُهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا نصب وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ أَمَرَهُ اللَّه تعالى بإلقاء العصا فقال: أَلْقِها يا مُوسى وَفِيهِ نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَرَادَ اللَّه أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ فِيهَا مَأْرَبَةً أُخْرَى لَا يَفْطَنُ لَهَا وَلَا يَعْرِفُهَا وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ سائر مآربه فقال: أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. وَثَانِيَتُهَا:
كَانَ فِي رِجْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ النَّعْلُ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَصَا، وَالرِّجْلُ آلَةُ الْهَرَبِ وَالْيَدُ آلَةُ الطَّلَبِ فَقَالَ أَوَّلًا: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الْهَرَبِ، ثُمَّ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الطَّلَبِ. كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكَ مَا دُمْتَ فِي مَقَامِ الْهَرَبِ وَالطَّلَبِ كُنْتَ مُشْتَغِلًا بِنَفْسِكَ/ وَطَالِبًا لِحَظِّكَ فَلَا تَكُونُ خَالِصًا لِمَعْرِفَتِي فَكُنْ تَارِكًا لِلْهَرَبِ وَالطَّلَبِ لِتَكُونَ خَالِصًا لِي. وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَكَمَالِ مَنْقَبَتِهِ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْحَضْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا النَّعْلَانِ وَالْعَصَا أَمَرَهُ بِإِلْقَائِهِمَا حَتَّى أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَضْرَةِ فَأَنْتَ مَعَ أَلْفِ وَقْرٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَيْفَ يُمْكِنُكَ الْوُصُولُ إِلَى جنابه. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْكُلِّ مَا زَاغَ الْبَصَرُ فَلَا جَرَمَ وَجَدَ الْكُلَّ، لَعَمْرُكَ أَمَّا مُوسَى لَمَّا بَقِيَ مَعَهُ تِلْكَ الْعَصَا لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَالَ: الْقُدْرَةُ عَلَى إِلْقَاءِ الْعَصَا، إِمَّا أَنْ تُوجَدَ وَالْعَصَا فِي يَدِهِ أَوْ خَارِجَةٌ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ أَتَتْهُ الْقُدْرَةُ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَذَاكَ قَوْلُنَا: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آلِ عمران: ١٨٢] وإذا
أَنَّهُ تَعَالَى قَلَبَهَا حَيَّةً لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْرِفُ بِهَا نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مَا سَمِعَ إِلَّا النِّدَاءَ، وَالنِّدَاءُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْعَادَاتِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْجِنِّ فَلَا جَرَمَ قَلَبَ اللَّه الْعَصَا حَيَّةً لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاهِرًا وَالْعَجَبُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فَصَدَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ وَجَعَلَهَا مُتَّكَأً لَهُ بِأَنْ جَعَلَهَا مُعْجِزَةً لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ إِكْرَامًا لَهُ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً مَزِيدًا فِي الْكَرَامَةِ لِيَكُونَ تَوَالِي الْخَلْعِ وَالْكَرَامَاتِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ عَنْ قَلْبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا شَاهَدَهُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لَا يَخَافُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا فَقِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ نُصِّبَ لِلْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ فَلَعَلَّهُ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنِّي لَمَّا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مِنِّي نُصْرَةُ مِثْلِكَ فِي إِظْهَارِ الدِّينِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لما قال: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى فَقِيلَ لَهُ: أَلْقِها فَلَمَّا أَلْقَاهَا وَصَارَتْ حَيَّةً فَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ادَّعَيْتَ أَنَّهَا عَصَاكَ وَأَنَّ لَكَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى فَلِمَ تَفِرُّ مِنْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى سِرِّ قَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٠] وَقَوْلِهِ:
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩١]. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ هاهنا حَيَّةٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانٌ وَجَانٌّ، أَمَّا الْحَيَّةُ فَاسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَمَّا الثُّعْبَانُ وَالْجَانُّ فَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ لِأَنَّ الثُّعْبَانَ الْعَظِيمَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْجَانَّ الدَّقِيقُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ وَقْتَ انْقِلَابِهَا حَيَّةً صَغِيرَةً دَقِيقَةً ثُمَّ تَوَرَّمَتْ وَتَزَايَدَ جِرْمُهَا حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا فَأُرِيدَ بِالْجَانِّ أَوَّلُ حَالِهَا وَبِالثُّعْبَانِ مَآلُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَخْصِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْحَيَّةِ. الْجَوَابُ كَانَ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَكَانَ بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَابْتَلَعَتْ كُلَّ مَا مَرَّتْ بِهِ مِنَ الصُّخُورِ وَالْأَشْجَارِ حَتَّى سَمِعَ مُوسَى صَرِيرَ الْحَجَرِ فِي فَمِهَا وَجَوْفِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا نُودِيَ مُوسَى/ وَخُصَّ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَظِيمَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ فَلِمَ خَافَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ كَانَ مِنْ نَفْرَةِ الطَّبْعِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا شَاهَدَ مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعْلُومَةٌ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَعِنْدَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّ السَّاحِرَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ تَمْوِيهٌ فَلَا يَخَافُهُ الْبَتَّةَ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَ مَا لَقِيَ آدَمُ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُجَرَّدَ تلك الطاعة لكن قَوْلِهِ: لَا تَخَفْ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الخوف كقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: ١] لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الطَّاعَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً [النَّمْلِ: ١٠] يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا ظَهَرَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْعَصَا وَالنَّفْرَةَ عَنِ الثُّعْبَانِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا النَّفْرَةَ عَنِ النَّارِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَتَى أَخَذَهَا، بَعْدَ انْقِلَابِهَا عَصًا أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ:
رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ أَسْنَانِهَا فَانْقَلَبَتْ خَشَبَةً
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَذَلِكَ يَقَعُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَيْضًا فَهَذَا أَقْرَبُ لِلْكَرَامَةِ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ فَكَذَلِكَ إِدْخَالُ يَدِهِ فِي فَمِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ مُعْجِزَةٌ وَانْقِلَابُهَا خَشَبًا مُعْجِزٌ آخَرُ فَيَكُونُ فِيهِ تَوَالِي الْمُعْجِزَاتِ فَيَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ أَخَذَهُ،
رُوِيَ مَعَ الْخَوْفِ
وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ بَعْدَ تَوَالِي الدَّلَائِلِ يَبْعُدُ ذَلِكَ. وَإِذَا عَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْأَخْذِ سَيُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّ خَوْفُهُ، وَقَدْ عَلِمَ صِدْقَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: لا تَخَفْ بَلَغَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَابُ خَوْفِهِ وَطُمَأْنِينَةُ نَفْسِهِ إِلَى أَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَأَخَذَ بِلَحْيَيْهَا. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى سِيرَتَهَا الْأُولَى، وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كَالرُّكْبَةِ مِنَ الرُّكُوبِ يُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا فَنُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْمَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: عَلَامَ انْتَصَبَ سِيرَتَهَا، الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِنَزْعِ الْخَافِضِ يَعْنِي إِلَى سِيرَتِهَا. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ سَنُعِيدُهَا مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا عَصًا فَصَارَتْ حَيَّةً فَسَنَجْعَلُهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ فَنُصِبَ سِيرَتَهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَسِيرُ سِيرَتَهَا الْأُولَى يَعْنِي سَنُعِيدُهَا سَائِرَةً بِسِيرَتِهَا الْأُولَى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ولك فيها المآرب التي عرفتها.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْجِزَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الأولى: يقال لك نَاحِيَتَيْنِ جَنَاحَانِ كَجَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ لِطَرَفَيْهِ وَجَنَاحَا الْإِنْسَانِ جَنْبَاهُ وَالْأَصْلُ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ جَنَاحَا الطَّائِرِ لِأَنَّهُ يَجْنَحُهُمَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِلَى جَنَاحِكَ إِلَى صَدْرِكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ يُشْبِهَانِ جَنَاحَيِ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ قَالَ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الصَّدْرَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: تَخْرُجْ مَعْنًى وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى ضَمِّ الْيَدِ إِلَى الْجَنَاحِ مَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النَّمْلِ: ١٢] لِأَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ كَانَ قَدْ ضَمَّ يَدَهُ إِلَى جَنَاحِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّوءُ الرَّدَاءَةُ وَالْقُبْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ كَمَا كَنَّى عَنِ الْعَوْرَةِ بِالسَّوْأَةِ وَالْبَرَصُ أَبْغَضُ شَيْءٍ إِلَى الْعَرَبِ فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُكَنَّى عَنْهُ
يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ فَكَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي جَيْبِهِ وَأَدْخَلَهَا تَحْتَ إِبِطِهِ الْأَيْسَرِ وَأَخْرَجَهَا كَانَتْ تَبْرُقُ مِثْلَ الْبَرْقِ وَقِيلَ مِثْلَ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ثُمَّ إِذَا رَدَّهَا عَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ بِلَا نُورٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: بيضاء وآية حالان معا ومن غَيْرِ سُوءٍ مِنْ صِلَةُ الْبَيْضَاءِ كَمَا تَقُولُ ابْيَضَّتْ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَفِي نَصْبِ آيَةً وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارٍ نَحْوَ خُذْ وَدُونَكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ لِنُرِيَكَ أَيْ خُذْ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا بَعْدَ قَلْبِ الْعَصَا لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ آيَاتِنَا الْكُبْرَى أَوْ لِنُرِيَكَ بِهِمَا الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِنَا أَوْ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى فِعْلَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْكُبْرَى مِنْ نَعْتِ الْآيَاتِ فَلِمَ لَمْ يَقُلِ الْكُبَرَ؟
قُلْنَا: بَلْ هِيَ نَعْتُ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى لِنُرِيَكَ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ كما قدمنا في قوله: مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨]، والْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: ٨].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْيَدُ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ مِنَ الْعَصَا لِأَنَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى عَقِيبَ ذِكْرِ الْيَدِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا الْعَصَا فَفِيهِ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَخَلْقُ
فَقَدْ وَقَعَ التَّغَيُّرُ مَرَّةً أُخْرَى فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانَتِ الْعَصَا أَعْظَمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْيَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ لَهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَقَّبَهَا بِأَنْ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ وَهِيَ أَنَّهُ طَغَى، وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْكُلِّ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَتَكَبَّرَ وَكَانَ مَتْبُوعًا فَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى.
قَالَ وَهْبٌ: قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اسْمَعْ كَلَامِي وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي وَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي فَإِنَّكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَبَصَرِي وَإِنِّي أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي أَبْعَثُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْحُجَّةُ وَالْعُذْرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ وَلَكِنْ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ/ مِنْ عَيْنِي فَبَلِّغْهُ عَنِّي رِسَالَتِي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي: وقل له قولا لينا لَا يَغْتَرَّنَّ بِلِبَاسِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، لَا يَطْرِفُ وَلَا يَتَنَفَّسُ إِلَّا بِعِلْمِي، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، قَالَ فَسَكَتَ مُوسَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ أَجِبْ ربك فيما أمرك بعبده».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٥ الى ٣٥]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩)
هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا شَاقًّا فَلَا جَرَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أُمُورًا ثَمَانِيَةً، ثُمَّ خَتَمَهَا بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِسُؤَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ.
الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ شَرَحْتُ الْكَلَامَ أَيْ بَيَّنْتُهُ وَشَرَحْتُ صَدْرَهُ أَيْ وَسَّعْتُهُ وَالْأَوَّلُ يَقْرُبُ مِنْهُ لِأَنَّ شَرْحَ الْكَلَامِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِبَسْطِهِ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا السُّؤَالِ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي [الشُّعَرَاءِ: ١٣] فَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُبَدِّلَ ذَلِكَ الضِّيقَ بِالسَّعَةِ، وَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَأَفْهَمُ عَنْكَ مَا أَنْزَلْتَ عَلَيَّ مِنَ الْوَحْيِ، وَقِيلَ: شَجِّعْنِي
فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَذْكُرُ وَقْتَ الدُّعَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا الرَّبَّ. وَثَالِثُهَا: مَا مَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ. وَرَابِعُهَا:
بِمَاذَا يَكُونُ شَرْحُ الصَّدْرِ. وَخَامِسُهَا: كَيْفَ كَانَ شَرْحُ الصَّدْرِ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَادِسُهَا:
صِفَةُ صَدْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ مُنْشَرِحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا، فَإِنْ كَانَ مُنْشَرِحًا كَانَ طَلَبُ شَرْحِ الصَّدْرِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدْيَانِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ فِي بَابِ الدِّينِ فَقَدْ حَصَلَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَلَطَّفَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: ١٣] ثُمَّ كَلَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُلَاطَفَةِ بِقَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُ الْمُعْجِزَاتِ/ الْعَظِيمَةَ وَالْكَرَامَاتِ الْجَسِيمَةَ، ثُمَّ أَعْطَاهُ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَقِيرًا وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْزَازُ وَالْإِكْرَامُ فَقَدْ حَصَلَ، وَلَوْ أَنَّ ذَرَّةً مِنْ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ حَصَلَتْ لِأَدْوَنِ النَّاسِ لَصَارَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ فَبَعْدَ حُصُولِهَا لِكَلِيمِ اللَّه تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَفْوِيضُ النُّبُوَّةِ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ ضَيِّقَ الْقَلْبِ مُشَوَّشَ الْخَاطِرِ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»
فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلنُّبُوَّةِ الَّتِي أَقَلُّ مَرَاتِبِهَا الْقَضَاءُ؟ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ البحث عنها في هذه الآية.
أما الفصل الْأَوَّلُ: وَهُوَ فَائِدَةُ الدُّعَاءِ وَشَرَائِطُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] إِلَّا أَنَّهُ نَذْكُرُ منها هاهنا بَعْضَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْكَمَالِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ وَأَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، أَمَّا كَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَامِلًا فِي الْأَزَلِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا فِي الْأَزَلِ لِأَنَّ التَّكْمِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ كَامِلًا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ لَاسْتَحَالَ التَّأْثِيرُ فِيهِ، فَإِنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَتَكْوِينَ الْكَائِنِ مُمْتَنِعٌ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْأَزَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ مُكَمِّلًا فِيمَا لَا يَزَالُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ التَّكْمِيلُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُكَمِّلًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ كَانَ عَارِيًا عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَكُونُ نَاقِصًا وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا: النُّقْصَانُ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي الْأَزَلِ لَكُنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْأَزَلِيَّ مُحَالٌ فَالتَّكْمِيلُ الْأَزَلِيُّ مُحَالٌ فَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ نُقْصَانًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْوِينِ مِثْلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ نُقْصَانًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَدَدًا مُفَصَّلًا كَحَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ عَدَدٌ مُفَصَّلٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَحَرَكَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ عَدَدٌ مُفَصَّلٌ، فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لَا لِقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ، بَلْ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَصَدَ إِلَى التَّكْوِينِ وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَكْمِيلَ النَّاقِصِينَ لِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ قَابِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَصِفَةُ الْوُجُودِ صِفَةُ كَمَالٍ فَاقْتَضَتْ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّكْمِيلِ وَضْعَ مَائِدَةِ الْكَمَالِ لِلْمُمْكِنَاتِ فَأَجْلَسَ عَلَى الْمَائِدَةِ بَعْضَ الْمَعْدُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْدُومَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَوْ أَجْلَسَ الْكُلَّ عَلَى مَائِدَةِ الْوُجُودِ لَدَخَلَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ أَوْجَدَ الْكُلَّ لَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ قَادِرًا عَلَى الْإِيجَادِ لَأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، فَكَانَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَمَالًا لِلنَّاقِصِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي نُقْصَانَ الْكَامِلِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ الْقَادِرُ مِنَ الْقُدْرَةِ إِلَى الْعَجْزِ.
«يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمًا»
وَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ أَنَّ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا تَدُورُ فِي الْعُقُولِ وَالْخَيَالَاتِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَاوِلُ قِيَاسَ فِعْلِهِ عَلَى فِعْلِنَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَهَذَا الْوُجُودُ الْفَائِضُ مِنْ نُورِ رَحْمَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ الضِّيَافَةُ الْعَامَّةُ وَالْمَائِدَةُ الشَّامِلَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] ثُمَّ إِنَّ الْمَوْجُودَاتِ انْقَسَمَتْ إِلَى الْجَمَادَاتِ وَإِلَى الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ لِأَنَّ الْجَمَادَ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْ وُجُودِهِ فَوُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْعَدَمِ وَعَدَمُهُ كَالْوُجُودِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَيَتَفَاوَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلِأَنَّ الْجَمَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ آلَةٌ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ تَسْتَعْمِلُ الْجَمَادَاتِ فِي أَغْرَاضِ أَنْفُسِهَا وَمَصَالِحِهَا وَهِيَ كَالْعَبْدِ الْمُطِيعِ الْمُسَخَّرِ وَالْحَيَوَانُ كَالْمَالِكِ الْمُسْتَوْلِي، فَكَانَتِ الْحَيَوَانِيَّةُ أَفْضَلَ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ فَكَمَا أَنَّ إِحْسَانَ اللَّه وَرَحْمَتَهُ اقْتَضَيَا وَضْعَ مَائِدَةِ الْوُجُودِ لِبَعْضِ الْمَعْدُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ كَذَلِكَ اقْتَضَيَا وَضْعَ مَائِدَةِ الْحَيَاةِ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ أَحْيَاءً دُونَ الْبَعْضِ. وَالْحَيَاةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَادِيَّةِ كَالنُّورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَى والوجود بالنسبة إلى العدم، فعدن ذَلِكَ صَارَ بَعْضُ الْمَوْجُودَاتِ حَيًّا مُدْرِكًا لِلْمُنَافِي وَالْمُلَائِمِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْأَحْيَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا رَبَّ الْأَرْبَابِ إِنَّا وَإِنْ وَجَدْنَا خِلْعَةَ الْوُجُودِ وَخِلْعَةَ الْحَيَاةِ وَشَرَّفْتَنَا بِذَلِكَ، لَكِنِ ازْدَادَتِ الْحَاجَةُ لِأَنَّا حَالَ الْعَدَمِ وَحَالَ الْجَمَادِيَّةِ مَا كُنَّا نَحْتَاجُ إِلَى الْمُلَائِمِ وَالْمُوَافِقِ وَمَا كُنَّا نَخَافُ الْمُنَافِيَ وَالْمُؤْذِيَ، وَلَمَّا حَصَلَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ احْتَجْنَا إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَدَفْعِ الْمُنَافِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَنَا قُدْرَةٌ عَلَى الْهَرَبِ وَالطَّلَبِ وَالدَّفْعِ وَالْجَذْبِ لَبَقِينَا كَالزَّمِنِ الْمُقْعَدِ عَلَى الطَّرِيقِ عُرْضَةً لِلْآفَاتِ وَهَدَفًا لِسِهَامِ الْبَلِيَّاتِ فَأَعْطِنَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ الْقُدْرَةَ وَالْقُوَّةَ الَّتِي بِهَا نَتَمَكَّنُ مِنَ الطَّلَبِ تَارَةً وَالْهَرَبِ أُخْرَى، فَاقْتَضَتِ الرَّحْمَةُ التَّامَّةُ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ بِالْقُدْرَةِ كَمَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْحَيَاةِ وَتَخْصِيصَ بَعْضِ الْمَعْدُومَاتِ بِالْوُجُودِ. فَقَالَ الْقَادِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِلَهَنَا الْجَوَادُ الْكَرِيمُ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ بِلَا عَقْلٍ لَا تَكُونُ إِلَّا لِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ إِمَّا لِلْمَجَانِينَ الْمُقَيَّدِينَ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَإِمَّا لِلْبَهَائِمِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَأَنْتَ قَدْ رَقَّيْتَنَا مِنْ حَضِيضِ النُّقْصَانِ إِلَى أَوْجِ الْكَمَالِ فَأَفِضْ عَلَيْنَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِكَ وَأَعَزُّ مُبْدَعَاتِكَ الَّذِي شَرَّفْتَهُ بِقَوْلِكَ: «بِكَ أُهِينُ وَبِكَ أثيب وبك أعاقب» حتى تفوز مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ بِالْخِلَعِ الْكَامِلَةِ وَالْفَضِيلَةِ التَّامَّةِ فَأَعْطَاهُمُ الْعَقْلَ وَبَعَثَ فِي أَرْوَاحِهِمْ نُورَ/ الْبَصِيرَةِ وَجَوْهَرَ الْهِدَايَةِ فَعِنْدَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَازُوا بِالْخِلَعِ الْأَرْبَعَةِ، الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، فَالْعَقْلُ خَاتَمُ الْكُلِّ وَالْخَاتَمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ كَانَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم
إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِرَادَةٍ يَخْلُقُهَا مُدَبِّرُ الْعَالَمِ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِلْأُمُورِ وَهُوَ الْمُتَمِّمَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَابِلٍ وَفَاعِلٍ فَعَبَّرَ عَنِ اسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَعَبَّرَ عَنْ حُصُولِ الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْقَابِلَ قَابِلِيَّتَهُ وَالْفَاعِلَ فَاعِلِيَّتَهُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ يَقُولُونَ: يَا مُبْتَدِئًا بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.
وَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ كَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: كَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي لَا أَكْتَفِي بِشَرْحِ الصَّدْرِ وَلَكِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ تَنْفِيذَ الْأَمْرِ وَتَحْصِيلَ الْغَرَضِ فَلِهَذَا قَالَ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى أَعْطَيْتُكَ هَذِهِ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ فَلَا بُدَّ فِي/ مُقَابَلِتِهَا مِنْ خِدْمَاتٍ أَرْبَعَ لِتُقَابَلَ كُلُّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تِلْكَ الْخِدْمَاتُ؟ فَقَالَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فَإِنَّ فِيهَا أَنْوَاعًا أَرْبَعَةً مِنَ الْخِدْمَةِ، الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِذَا أَتَيْتَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ قَابَلْتَ كُلَّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلْعَةَ الْخَامِسَةَ وَهِيَ خِلْعَةُ الرِّسَالَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى أَعْرِفَ أَنِّي بِأَيِّ خِدْمَةٍ أُقَابِلُ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقِيلَ لَهُ بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنِّي مَعَ عَجْزِي وَضَعْفِي وَقِلَّةِ آلَاتِي وَقُوَّةِ خَصْمِي فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ مُوسَى بهذا الدعاء طلبا للقرب فنفتقر إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الْقُرْبَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ
ورابعها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النَّازِعَاتِ: ٤٢] وَأَمَّا الْفُرُوعِيَّةُ فَسِتَّةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ عَلَى التَّوَالِي: أَحَدُهَا:
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ٢١٥] وثانيها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. وثالثها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٩]. ورابعها: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩]. وخامسها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠]. وسادسها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢]. وَسَابِعُهَا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: ١]. وثامنها:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الْكَهْفِ: ٨٣]. وَتَاسِعُهَا: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يُونُسَ: ٥٣]. وَعَاشِرُهَا: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦].
وَالْحَادِيَةَ عَشْرَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْأَغْلَبُ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ السُّؤَالَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى جَاءَ الْجَوَابُ بِصِيغَةِ فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبِ وَفِي صُورَةِ ثَالِثَةٍ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: ١٨٧] وَفِي صُورَةٍ رَابِعَةٍ ذَكَرَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ قُلْ وَلَا لَفْظَ فَقُلْ وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفَائِدَةِ فَنَقُولُ:
أَمَّا الْأَجْوِبَةُ الْوَارِدَةُ بِلَفْظِ قُلْ فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ كَالتَّوْقِيعِ الْمُحَدَّدِ فِي ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَالتَّشْرِيفِ الْمُحَدَّدِ فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا مِنَ اللَّه تَعَالَى بِأَدَاءِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥] فالسبب أن قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: ١٠٥] سُؤَالٌ إِمَّا عَنْ قِدَمِهَا أَوْ عَنْ وُجُوبِ بَقَائِهَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ بِلَفْظِ/ الْفَاءِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْقِيبِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْحَالِ وَلَا تَقْتَصِرْ فَإِنَّ الشَّكَّ فِيهِ كُفْرٌ وَلَا تُمْهِلْ هَذَا الْأَمْرَ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ، ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الْجَوَابِ أَنَّهُ قَالَ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّسْفَ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَبَلِ وَالْحِسُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي حَقِّ كُلِّ الْجَبَلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَلَا وَاجِبِ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَالنَّسْفُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ إِلَهِكَ أَهُوَ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ حَدِيدٌ فَقَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] وَلَمْ يَقُلْ فَقُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْكِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُؤَالَهُمْ وَحَرْفُ الْفَاءِ مِنَ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ فَيَسْتَدْعِي سَبْقَ كَلَامٍ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ ترك الفاء بخلاف هاهنا فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمْ فَحَسُنَ عَطْفُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ. وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهُ تعالى لم يذكر الجواب في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مَعْرِفَةَ وَقْتِ السَّاعَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا فِيمَا سَبَقَ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْجَوَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْأَسْئِلَةِ مَا لَا يُجَابُ عَنْهَا. وَأَمَّا الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي جَوَابِهِ قُلْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال: يا عبادي أَنْتَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاسِطَةِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ أَمَّا فِي
اذْكُرْ لَهُمْ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: ٢٧]. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَافِ: ١٧٥]. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى [مَرْيَمَ: ٥١]، وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ [مَرْيَمَ: ٥٤]. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ [مَرْيَمَ: ٥٦]. وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: ٥١]، ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: ٣] وَفِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْفِ: ١٣]. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ غَيْرِي فَكُنْ أَنْتَ الْمُجِيبَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِّي فَاسْكُتْ أَنْتَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْقَائِلَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ [أَنْ يَسْأَلَ] وَقَوْلَهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ. وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَهَذَا فِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ، هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا، بَلِ الْقَرِيبُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَقَرَّبَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَالْقُرْبُ مِنْهُ لَا من العبد فلهذا قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا للَّه تَعَالَى فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ وَصَارَ مُسْتَغْرِقًا بِمَعْرِفَةِ اللَّه الْأَحَدِ الْحَقِّ امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّه مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ رُفِعَتِ الْوَاسِطَةُ مِنَ الْبَيْنِ فَمَا قَالَ: فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ بَلْ قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ فَضْلُ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ ثُمَّ مِنْ شَأْنِ الْعَبْدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُتْحِفَ مَوْلَاهُ أَنْ لَا يُتْحِفَهُ إِلَّا بِأَحْسَنِ التُّحَفِ وَالْهَدَايَا فَلَا/ جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُتْحِفَ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ بِتُحَفِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ أَتْحَفَهَا بِالدُّعَاءِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»
ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (العبادة) لأن قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: ١٤] إِخْبَارٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ إِنَّمَا الْأَمْرُ قَوْلُهُ: فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤] فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ مَا أُورِدَ عَلَى مُوسَى مِنَ الْأَوَامِرِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لَا جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَتْحَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضْرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ تُحَفِ الْعِبَادَةِ هُوَ تُحْفَةُ الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦]. وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠]. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الْأَعْرَافِ: ٥٦]. ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: ٥٥]. هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِرٍ: ٦٥]. قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: ١١٠]. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: ٢٠٥]
وقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ادعوا بيا ذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»
فَبِهَذِهِ الْآيَاتِ عَرَفْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ: الدُّعَاءُ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَنْفُسِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الدُّعَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ معلوم اللاوقوع فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى سُوءُ أَدَبٍ. وَرَابِعُهَا: الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَالْحَكِيمُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَصَالِحِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ. وَخَامِسُهَا: فَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَعْظَمَ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. وَقَدْ نُدِبَ إِلَيْهِ وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَالطَّلَبِ. وَسَادِسُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِوَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الدُّعَاءِ وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّعَاءِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَرَكَ الدُّعَاءَ وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الدُّعَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِعْلَامَ بَلْ هُوَ نَوْعُ تَضَرُّعٍ كَسَائِرِ التَّضَرُّعَاتِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَنْ نَقُولَ لِلْجَائِعِ وَالْعَطْشَانِ إِنْ كَانَ الشِّبَعُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وإن كان معلوم اللاوقوع فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ صُورَةَ التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَعَنِ الرَّابِعِ: يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَصْلَحَةً بِشَرْطِ سَبْقِ الدُّعَاءِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا إِظْهَارًا لِلتَّضَرُّعِ ثُمَّ رَضِيَ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى فَذَاكَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْبَقِيَّةِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَبِالصَّلَاةِ أَمْرًا وَرَدَ مُجْمَلًا لَا جَرَمَ شَرَعَ فِي أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ/ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: ٤٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ»
وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَلِهَذَا السِّرِّ جَزَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّعَاءِ وَقَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] وَفِيهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَّتِنَا لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَّلَهُمُ اللَّه تَفْضِيلًا عَظِيمًا فَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] وَقَالَ أَيْضًا: وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٠] ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ [الْبَقَرَةِ: ٦٨] وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ مَعَ جَلَالَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٢] سَأَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ مَائِدَةً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ فِي أُمَّتِنَا فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: ٣٢] فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَرَفَهَا لَا جَرَمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَلَا جَرَمَ رَفَعَ يَدَيْهِ ابْتِدَاءً فَقَالَ:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعِبَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: عَبْدُ الْعِصْمَةِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: ٤٢] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الْعِصْمَةِ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١] فَلَا جَرَمَ طَلَبَ زَوَائِدَ الْعِصْمَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَانِيهَا: عَبْدُ الصَّفْوَةِ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْلِ: ٥٩] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الصَّفْوَةِ: يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٤] فَلَا جَرَمَ أَرَادَ مَزِيدَ الصَّفْوَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَثَالِثُهَا:
عَبْدُ الْبِشَارَةِ: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: ١٧، ١٨] وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه: ١٣] فَأَرَادَ مَزِيدَ الْبِشَارَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. ورابعها: عبد الكرامة: يا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ [الزُّخْرُفِ: ٦٨] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: ٤٦] فَأَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
وَخَامِسُهَا: عَبْدُ الْمَغْفِرَةِ: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْحِجْرِ: ٤٩]، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ص: ٣٥] فَأَرَادَ الزِّيَادَةَ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي فَطَلَبَ الزِّيَادَةَ فِيهَا فَقَالَ: اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَسَابِعُهَا: عَبْدُ الْقُرْبَةِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْقُرْبِ: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: ٥٢] فَأَرَادَ كَمَالَ الْقُرْبِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَهُ بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ [الَّتِي] أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: ١٤]، وَثَانِيهَا: أَمَرَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ:
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤]، وثالثها: معرفة الآخرة: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: ١٥] / وَرَابِعُهَا:
حِكْمَةُ أَفْعَالِهِ فِي الدُّنْيَا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧]، وَخَامِسُهَا: عَرْضُ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ عَلَيْهِ:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: ٢٣]، وَسَادِسُهَا: إِرْسَالُهُ إِلَى أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا وَعُتُوًّا فَكَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ سَبَبًا لِلْقَهْرِ فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَبْرَ هَذَا الْقَهْرِ بِالْمُعْجِزِ فَعَرَّفَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَهُ قَرُبَ مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَأَرَادَ جَبْرَ الْقَهْرِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أَوْ يُقَالُ خَافَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَدَعَا لِيَصِلَ بِسَبَبِ الدُّعَاءِ إِلَى مَقَامِ الْقُرْبِ فَيَصِيرَ مَأْمُونًا مِنْ غَوَائِلِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ طَمَعَ الْخَلْقِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَعَرَفَ أَنَّ مَنْ دَعَا رَبَّهُ قَرَّبَهُ لَهُ وَقَرَّبَهُ لَدَيْهِ فَحِينَئِذٍ تَنْقَطِعُ الْأَطْمَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
وَثَالِثُهَا: الْوُجُودُ كَالنُّورِ وَالْعَدَمُ كَالظُّلْمَةِ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ فَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَالْكُلُّ كَأَنَّهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ وَإِظْلَالِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْإِمْكَانِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى يَجْلِسَ قَلْبِي فِي بَهِيِّ ضَوْءِ الْمَعْرِفَةِ وَسَادَةِ شَرْحِ الصَّدْرِ وَالْجَالِسُ فِي الضَّوْءِ لَا يَرَى مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي الظُّلْمَةِ فَحِينَ جَلَسَ فِي ضَوْءِ شَرْحِ الصَّدْرِ لَا يَرَى أَحَدًا فِي الْوُجُودِ فَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي فَإِنَّ الْعَبْدَ فِي مَقَامِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا يَتَفَرَّغُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَرَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَإِنَّ عَيْنَ الْعَيْنِ ضَعِيفَةٌ فَأَطْلِعْ يَا إِلَهِي شَمْسَ التَّوْفِيقِ حَتَّى أَرَى كُلَّ شَيْءٍ كَمَا هُوَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى
قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ»
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ مُقَدِّمَةٌ لِسُطُوعِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالِاسْتِمَاعَ مُقَدِّمَةُ الْفَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ سَمَاعِ الْكَلَامِ فاللَّه تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فَلَا جَرَمَ نَسَجَ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ فَطَلَبَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُخْرَى فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] وَالْعِلْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَلَمَّا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَقْدِمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ الْمُقَدِّمَةَ، وَلَمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ كَالْمَقْصُودِ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ الْمَقْصُودَ فَسُبْحَانَهُ مَا أَدَقَّ حِكْمَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَسَادِسُهَا:
الدَّاعِي لَهُ صِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلرَّبِّ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦].
وَثَانِيَتُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ لَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْنَا وَمَا أَضَافَنَا إِلَى نَفْسِهِ وَالْمُشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ قَدْ صَارَ كَامِلًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَرْتَعَ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَسَابِعُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: ٥٢] فَكَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ إِلَهِي لَمَّا قُلْتَ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا صِرْتُ قَرِيبًا مِنْكَ وَلَكِنْ أُرِيدُ قُرْبَكَ
وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: ٤٦] فَانْظُرْ إِلَى التَّفَاوُتِ فَإِنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ الصَّدْرُ/ قَابِلًا لِلنُّورِ وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النُّورَ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْآخِذِ وَالْمُعْطِي ثُمَّ نَقُولُ إِلَهَنَا إِنَّ دِينَنَا وَهِيَ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه نُورٌ، وَالْوُضُوءُ نُورٌ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالْقَبْرُ نُورٌ، وَالْجَنَّةُ نُورٌ، فَبِحَقِّ أَنْوَارِكَ الَّتِي أَعْطَيْتَنَا فِي الدُّنْيَا لَا تَحْرِمْنَا أَنْوَارَ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
سُئِلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرْحِ الصَّدْرِ فَقَالَ: نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ، فَقِيلَ: وَمَا أَمَارَتُهُ فَقَالَ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ النُّزُولِ،
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنِ النُّورِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: ٢٢] وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ وَوَصَفَهَا بِالنُّورِ، أَحَدُهَا: وَصَفَ ذَاتَهُ بِالنُّورِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥]. وَثَانِيهَا: الرَّسُولَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَةِ: ١٥]. وَثَالِثُهَا: الْقُرْآنِ:
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧]. وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: ٣٢]. وَخَامِسُهَا: عَدْلَ اللَّه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزُّمَرِ: ٦٩]. وَسَادِسُهَا: ضِيَاءَ الْقَمَرِ:
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: ١٦]، وَسَابِعُهَا: النَّهَارَ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١]. وَثَامِنُهَا:
الْبَيِّنَاتِ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: ٤٤]. وَتَاسِعُهَا: الْأَنْبِيَاءَ: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: ٣٥]. وَعَاشِرُهَا: الْمَعْرِفَةَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النُّورِ: ٣٥] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ كَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِمَعْرِفَةِ أَنْوَارِ جَلَالِكَ وَكِبْرِيَائِكَ. وَثَانِيهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ رُسُلِكَ وَأَنْبِيَائِكَ. وَثَالِثُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِاتِّبَاعِ وَحْيِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ. وَرَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، بِنُورِ الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسها: رب اشرح صَدْرِي بِالْإِطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِ عَدْلِكَ فِي قَضَائِكَ وَحُكْمِكَ. وَسَادِسُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِالِانْتِقَالِ مِنْ نُورِ شَمْسِكَ وَقَمَرِكَ إِلَى أَنْوَارِ جَلَالِ عِزَّتِكَ كَمَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ إِلَى حَضْرَةِ الْعِزَّةِ. وَسَابِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي مِنْ مُطَالَعَةِ نَهَارِكَ وَلَيْلِكَ إِلَى مُطَالَعَةِ نَهَارِ فَضْلِكَ وَلَيْلِ عَدْلِكَ. وَثَامِنُهَا:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِالْإِطِّلَاعِ عَلَى مَجَامِعِ آيَاتِكَ وَمَعَاقِدِ بَيِّنَاتِكَ فِي أرضك وسمواتك. وَتَاسِعُهَا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فِي أَنْ أَكُونَ خَلْفَ صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي الِانْقِيَادِ لِحُكْمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَعَاشِرُهَا:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بِأَنْ تَجْعَلَ سِرَاجَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِي كَالْمِشْكَاةِ الَّتِي فِيهَا الْمِصْبَاحُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَادِ النُّورِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ كَالسِّرَاجِ وَذَلِكَ النُّورُ كَالنَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْقِدَ سِرَاجًا احْتَاجَ إِلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: زَنْدٌ وَحَجَرٌ وَحِرَاقٌ وَكِبْرِيتٌ وَمِسْرَجَةٌ وَفَتِيلَةٌ وَدُهْنٌ. فَالْعَبْدُ إِذَا طَلَبَ النُّورَ الَّذِي هُوَ شَرْحُ الصَّدْرِ افْتَقَرَ إِلَى هَذِهِ السَّبْعَةِ. فَأَوَّلُهَا: لَا بُدَّ مِنْ زَنْدِ الْمُجَاهَدَةِ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩]. وَثَانِيهَا: حَجَرُ التَّضَرُّعِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: ٥٥]. وَثَالِثُهَا: حِرَاقُ مَنْعِ الْهَوَى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النَّازِعَاتِ: ٤٠]. وَرَابِعُهَا: كِبْرِيتُ الْإِنَابَةِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤] ملطخا رؤوس تِلْكَ/ الْخَشَبَاتِ بِكِبْرِيتِ تُوبُوا إِلَى اللَّه. وَخَامِسُهَا: مِسْرَجَةُ الصَّبْرِ: وَاسْتَعِينُوا
[الْبَقَرَةِ: ٤٥]. وَسَادِسُهَا: فَتِيلَةُ الشُّكْرِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧]. وسابعها:
دهن الرضا: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: ٤٨] أَيِ ارْضَ بِقَضَاءِ رَبِّكَ فَإِذَا صَلَحَتْ هَذِهِ الْأَدَوَاتُ فَلَا تُعَوِّلْ عَلَيْهَا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَطْلُبَ الْمَقْصُودَ إِلَّا مِنْ حَضْرَتِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [فَاطِرٍ: ٢] ثُمَّ اطْلُبْهَا بِالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: ١٠٨] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرْفَعُ يَدَ التَّضَرُّعِ وَتَقُولُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَهُنَالِكَ تَسْمَعُ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: ٣٦] ثُمَّ نَقُولُ هَذَا النُّورُ الرُّوحَانِيُّ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الصَّدْرِ أَفْضَلُ مِنَ الشَّمْسِ الْجُسْمَانِيَّةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
الشَّمْسُ تَحْجُبُهَا غَمَامَةٌ وَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ لَا يحجبها السموات السَّبْعُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: ١٠].
وَثَانِيهَا: الشَّمْسُ تَغِيبُ لَيْلًا وَتَعُودُ نَهَارًا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] أَمَّا شَمْسُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا تَغِيبُ لَيْلًا: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً [الْمُزَّمِّلِ: ٦] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧] بَلْ أَكْمَلُ الْخِلَعِ الرُّوحَانِيَّةِ تَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: ١].
وَثَالِثُهَا: الشَّمْسُ تَفْنَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: ١] وَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ لَا تَفْنَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. وَرَابِعُهَا: الشَّمْسُ إِذَا قابلها القمر انكسفت أما هاهنا فَشَمْسُ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مَا لَمْ يُقَابِلْهَا قَمَرٌ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه لَمْ يَصِلْ نُورُهُ إِلَى عَالَمِ الْجَوَارِحِ. وَخَامِسُهَا: الشَّمْسُ تُسَوِّدُ الْوُجُوهَ وَالْمَعْرِفَةُ تُبَيِّضُهَا: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦]. وَسَادِسُهَا: الشَّمْسُ تَحْرِقُ وَالْمَعْرِفَةُ تنجي من الحرق، جزيا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ قَدْ أَطْفَأَ لَهَبِي. وَسَابِعُهَا: الشَّمْسُ تَصْدَعُ وَالْمَعْرِفَةُ تَصْعَدُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: ١٠]. وَثَامِنُهَا: الشَّمْسُ مَنْفَعَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْمَعْرِفَةُ مَنْفَعَتُهَا فِي الْعُقْبَى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الْكَهْفِ: ٤٦]. وَتَاسِعُهَا: الشَّمْسُ فِي السَّمَاءِ زِينَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْمَعْرِفَةُ فِي الْأَرْضِ زِينَةٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ. وَعَاشِرُهَا: الشَّمْسُ فَوْقَانِيُّ الصُّورَةِ تَحْتَانِيُّ الْمَعْنَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحَسَدِ مَعَ التَّكَبُّرِ، وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ تَحْتَانِيَّةُ الصُّورَةِ فَوْقَانِيَّةُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّوَاضُعِ مَعَ الشَّرَفِ.
وَحَادِي عَشَرِهَا: الشَّمْسُ تَعْرِفُ أَحْوَالَ الْخَلْقِ وَبِالْمَعْرِفَةِ يَصِلُ الْقَلْبُ إِلَى الْخَالِقِ. وَثَانِي عَشَرِهَا: الشَّمْسُ تَقَعُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْوَلِيِّ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ النَّفِيسَةِ لَا جَرَمَ قَالَ مُوسَى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَأَمَّا النُّكَتُ: فَإِحْدَاهَا: الشَّمْسُ سِرَاجٌ اسْتَوْقَدَهَا اللَّه تَعَالَى لِلْفَنَاءِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: ٢٦] وَالْمَعْرِفَةُ اسْتَوْقَدَهَا لِلْبَقَاءِ فَالَّذِي خَلَقَهَا لِلْفَنَاءِ لَوْ قَرُبَ الشَّيْطَانُ مِنْهَا لَاحْتَرَقَ:
شِهاباً رَصَداً [الْجِنِّ: ٩] وَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي خَلَقَهَا لِلْبَقَاءِ كَيْفَ يَقْرُبُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
وَثَانِيَتُهَا: اسْتَوْقَدَ اللَّه الشَّمْسَ فِي السَّمَاءِ وَإِنَّهَا تُزِيلُ الظُّلْمَةَ عَنْ بَيْتِكَ مَعَ بُعْدِهَا عَنْ بَيْتِكَ، وَأَوْقَدَ شَمْسَ الْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِكَ أَفَلَا تُزِيلُ ظُلْمَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ عَنْ قَلْبِكَ مَعَ قُرْبِهَا مِنْكَ. وَثَالِثَتُهَا: مَنِ اسْتَوْقَدَ سِرَاجًا فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَعَهَّدُهُ وَيَمُدُّهُ واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُوقِدُ لِسِرَاجِ الْمَعْرِفَةِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الْحُجُرَاتِ: ٧] أَفَلَا يَمُدُّهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَرَابِعَتُهَا: اللِّصُّ إِذَا رَأَى السِّرَاجَ يُوقَدُ فِي الْبَيْتِ لَا يَقْرُبُ مِنْهُ واللَّه قَدْ أَوْقَدَ سِرَاجَ الْمَعْرِفَةِ فِي/ قَلْبِكَ فَكَيْفَ يَقْرُبُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ فَلِهَذَا قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
وَخَامِسَتُهَا: الْمَجُوسُ أَوْقَدُوا نَارًا فَلَا يُرِيدُونَ إِطْفَاءَهَا وَالْمَلِكُ الْقُدُّوسُ أَوْقَدَ سِرَاجَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ فَكَيْفَ يَرْضَى بِإِطْفَائِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْطَى قَلْبَ الْمُؤْمِنِ تِسْعَ كَرَامَاتٍ، أَحَدُهَا: الْحَيَاةُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ثُمَّ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ
فَالْعَبْدُ لَمَّا أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ فَالرَّبُّ لَمَّا خَلَقَ الْقَلْبَ وَأَحْيَاهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ حَيَاةُ الْقَلْبِ فَالْكُفْرُ مَوْتُهُ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ [النَّحْلِ: ٢١]. وَثَانِيهَا: الشِّفَاءُ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَةِ: ١٤] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى فِي الشِّفَاءِ رَفَعَ الْأَيْدِيَ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الشِّفَاءَ فِي الْعَسَلِ بَقِيَ شِفَاءً أَبَدًا فَهَهُنَا لَمَّا وُضِعَ الشِّفَاءُ فِي الصَّدْرِ فَكَيْفَ لَا يَبْقَى شِفَاءً أَبَدًا.
وَثَالِثُهَا: الطَّهَارَةُ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: ٣] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَحْصِيلِ طَهَارَةِ التَّقْوَى قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الصَّائِغَ إِذَا امْتَحَنَ الذَّهَبَ مَرَّةً فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُدْخِلُهُ فِي النَّارِ فَهَهُنَا لَمَّا امْتَحَنَ اللَّه قَلْبَ الْمُؤْمِنِ فَكَيْفَ يُدْخِلُهُ النَّارَ ثَانِيًا وَلَكِنَّ اللَّه يُدْخِلُ فِي النَّارِ قَلْبَ الْكَافِرِ:
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَالِ: ٣٧]. وَرَابِعُهَا: الْهِدَايَةُ وَمَنْ يُؤْمِنْ باللَّه يَهْدِ قَلْبَهُ فَرَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَلَبِ زَوَائِدِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الرَّسُولَ يَهْدِي نَفْسَكَ وَالْقُرْآنَ يَهْدِي رُوحَكَ وَالْمَوْلَى يَهْدِي قَلْبَكَ فَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ مِنَ الْكُفْرِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَمَ تَارَةً تَحْصُلُ وَأُخْرَى لَا تَحْصُلُ:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقَصَصِ: ٥٦] وَهِدَايَةُ الرُّوحِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَارَةً تَحْصُلُ وَأُخْرَى لَا تَحْصُلُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦] أَمَّا هِدَايَةُ الْقَلْبِ فَلَمَّا كَانَتْ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ لِأَنَّ الْهَادِيَ لَا يَزُولُ: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: ٢٥]. وَخَامِسُهَا:
الْكِتَابَةُ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْكِتَابَةِ قَالَ:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَفِيهِ نُكَتٌ: الْأُولَى: أَنَّ الْكَاغَدَةَ لَيْسَ لَهَا خَطَرٌ عَظِيمٌ وَإِذَا كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ لَمْ يَجُزْ إِحْرَاقُهَا فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ كُتِبَ فِيهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ إِحْرَاقُهُ. الثَّانِيَةُ: بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَكْرَمَ كَاغَدًا فِيهِ اسْمُ اللَّه تَعَالَى فَنَالَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ فَإِكْرَامُ قَلْبٍ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ:
كَاغَدٌ لَيْسَ فِيهِ خَطٌّ إِذَا كُتِبَ فِيهِ اسْمُ اللَّه الْأَعْظَمِ عَظُمَ قَدْرُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنْ يَمَسَّهُ بَلْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ جِلْدَ الْمُصْحَفِ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٧٩] فَالْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: ٧٠] كَيْفَ يَجُوزُ لِلشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ أَنْ يَمَسَّهُ واللَّه أَعْلَمُ. وَسَادِسُهَا: السَّكِينَةُ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: ٤] فَلَمَّا رَغِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَلَبِ السَّكِينَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خَائِفًا فَلَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَحْزَنْ فَلَمَّا نَزَلَتْ سَكِينَةُ/ الْإِيمَانِ فَرَجَوْا أَنْ يَسْمَعُوا خِطَابَ: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَأَيْضًا لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ صَارَ مِنَ الْخُلَفَاءِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] أَيْ أَنْ يَصِيرُوا خُلَفَاءَ اللَّه فِي أَرْضِهِ.
وَسَابِعُهَا: الْمَحَبَّةُ وَالزِّينَةُ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ٧] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ مَنْ أَلْقَى حَبَّةً فِي أَرْضٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا وَلَا يَحْرِقُهَا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَلْقَى حَبَّةَ الْمَحَبَّةِ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ فكيف يحرقها. وثامنها: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [الأنفال: ٦٣] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ إِنَّهُ مَا تَرَكَهُمْ [فِي] غَيْبَةٍ وَلَا حُضُورٍ: «سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ» فَالرَّحِيمُ كَيْفَ يَتْرُكُهُمْ. وَتَاسِعُهَا:
الطُّمَأْنِينَةُ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: ٢٨] وَمُوسَى طَلَبَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَالنُّكْتَةُ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلِهَذَا لَوْ أُعْطِيَ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ لأن
وَخَامِسُهَا: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. وَسَادِسُهَا: خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَسَابِعُهَا: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. وَثَامِنُهَا: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَتَاسِعُهَا: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ. إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا بِفَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ أَغْلِقْ هَذِهِ الْأَبْوَابَ التِّسْعَةَ مِنْ خِذْلَانِكَ عَنَّا وَاجْبُرْنَا بِإِحْسَانِكَ وَافْتَحْ لَنَا تِلْكَ الْأَبْوَابَ التِّسْعَةَ مِنْ إِحْسَانِكَ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي حَقِيقَةِ شَرْحِ الصَّدْرِ، ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَبْقَى لِلْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى الدُّنْيَا لَا بِالرَّغْبَةِ وَلَا بِالرَّهْبَةِ أَمَّا الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَبِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَازِعِينَ فَإِذَا شَرَحَ اللَّه صَدْرَهُ صَغُرَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فِي عَيْنِ هِمَّتِهِ، فَيَصِيرُ كَالذُّبَابِ وَالْبَقِّ وَالْبَعُوضِ لَا تَدْعُوهُ رَغْبَةٌ إِلَيْهَا وَلَا تَمْنَعُهُ رَهْبَةٌ عَنْهَا، فَيَصِيرُ الْكُلُّ عِنْدَهُ كَالْعَدَمِ وَحِينَئِذٍ يُقْبِلُ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ نَحْوَ طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي الْمِثَالِ كَيَنْبُوعٍ مِنَ الْمَاءِ وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ لِضَعْفِهَا كَالْيَنْبُوعِ الصَّغِيرِ فَإِذَا فَرَّقْتَ مَاءَ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْجَدَاوِلِ الْكَثِيرَةِ ضَعُفَتِ الْكُلُّ فَأَمَّا إِذَا انْصَبَّ الْكُلُّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قَوِيَ فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ بِأَنْ يُوقِفَهُ عَلَى مَعَايِبِ الدُّنْيَا وَقُبْحِ صِفَاتِهَا حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ نَفُورًا عَنْهَا فَإِذَا حَصَلَتِ النَّفْرَةُ تَوَجَّهَ إِلَى عَالِمِ الْقُدُسِ وَمَنَازِلِ الرُّوحَانِيَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نُصِّبَ لِذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ احْتَاجَ إِلَى تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ مِنْهَا ضَبْطُ الْوَحْيِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِنْهَا إِصْلَاحُ الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ فَكَأَنَّهُ صَارَ مُكَلَّفًا بِتَدْبِيرِ الْعَالَمَيْنِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَى أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْإِبْصَارِ يَصِيرُ/ مَمْنُوعًا عَنِ السَّمَاعِ وَالْمُشْتَغِلَ بِالسَّمَاعِ يَصِيرُ مَمْنُوعًا عَنِ الْإِبْصَارِ وَالْخَيَالِ، فَهَذِهِ الْقُوَى مُتَجَاذِبَةٌ مُتَنَازِعَةٌ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْكُلِّ وَمَنِ اسْتَأْنَسَ بِجَمَالِ الْحَقِّ اسْتَوْحَشَ مِنْ جَمَالِ الْخَلْقِ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ بِأَنْ يَفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالًا مِنَ الْقُوَّةِ لِتَكُونَ قُوَّتُهُ وَافِيَةً بِضَبْطِ الْعَالَمَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَمْثِلَةً. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَدَنَ بِالْكُلِّيَّةِ كَالْمَمْلَكَةِ وَالصَّدْرَ كَالْقَلْعَةِ وَالْفُؤَادَ كَالْقَصْرِ وَالْقَلْبَ كَالتَّخْتِ وَالرُّوحَ كَالْمَلِكِ وَالْعَقْلَ كَالْوَزِيرِ وَالشَّهْوَةَ كَالْعَامِلِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَجْلِبُ النِّعَمَ إِلَى الْبَلْدَةِ وَالْغَضَبَ كَالِاسْفِهْسَالَارِ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِالضَّرْبِ وَالتَّأْدِيبِ أَبَدًا وَالْحَوَاسَّ كَالْجَوَاسِيسِ وَسَائِرَ الْقُوَى كَالْخَدَمِ وَالْعُمْلَةِ وَالصُّنَّاعِ ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ خَصْمٌ لِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَلِهَذِهِ الْقَلْعَةِ وَلِهَذَا الْمَلِكِ فَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمَلِكُ وَالْهَوَى وَالْحِرْصُ وَسَائِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ جُنُودُهُ فَأَوَّلُ مَا أَخْرَجَ الرُّوحُ وَزِيرَهُ وَهُوَ الْعَقْلُ فَكَذَا الشَّيْطَانُ أَخْرَجَ فِي مُقَابَلَتِهِ الْهَوَى فَجَعَلَ الْعَقْلُ يَدْعُو إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالْهَوَى يَدْعُو إِلَى الشَّيْطَانِ ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ أَخْرَجَ الْفِطْنَةَ إِعَانَةً لِلْعَقْلِ فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْفِطْنَةِ الشَّهْوَةَ، فَالْفِطْنَةُ تُوقِفُكَ عَلَى مَعَايِبِ الدُّنْيَا وَالشَّهْوَةُ تُحَرِّكُكَ إِلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ أَمَدَّ الْفِطْنَةَ بِالْفِكْرَةِ لِتَقْوَى الْفِطْنَةُ بِالْفِكْرَةِ فَتَقِفُ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنَ الْمَعَائِبِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ»
فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْفِكْرَةِ الْغَفْلَةَ ثُمَّ أَخْرَجَ الرُّوحُ الْحِلْمَ وَالثَّبَاتَ فَإِنَّ الْعَجَلَةَ تَرَى الْحَسَنَ قَبِيحًا وَالْقَبِيحَ حَسَنًا وَالْحِلْمُ يُوقِفُ الْعَقْلَ عَلَى قُبْحِ الدُّنْيَا فَأَخْرَجَ الشَّيْطَانُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَجَلَةَ وَالسُّرْعَةَ فَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا الْخَرَقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا
ولهذا خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لِيُتَعَلَّمَ مِنْهُ الرِّفْقُ وَالثَّبَاتُ فَهَذِهِ هِيَ الْخُصُومَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، وَقَلْبُكَ وَصَدْرُكَ هُوَ الْقَلْعَةُ. ثُمَّ إِنَّ لِهَذَا الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ الْقَلْعَةُ خَنْدَقًا وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَلَهُ سُورٌ وهو الرغبة الْآخِرَةِ وَمَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الْخَنْدَقُ عَظِيمًا وَالسُّورُ قَوِيًّا عَجَزَ عَسْكَرُ الشَّيْطَانِ عَنْ تَخْرِيبِهِ فَرَجَعُوا وَرَاءَهُمْ وَتَرَكُوا الْقَلْعَةَ كَمَا كَانَتْ وَإِنْ كَانَ خَنْدَقُ الزُّهْدِ غَيْرَ عَمِيقٍ وَسُورُ حُبِّ الْآخِرَةِ غَيْرَ قَوِيٍّ قَدَرَ الْخَصْمُ عَلَى اسْتِفْتَاحِ قَلْعَةِ الصَّدْرِ فَيَدْخُلُهَا وَيَبِيتُ فِيهَا جُنُودُهُ مِنَ الْهَوَى وَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الظَّنِّ باللَّه تَعَالَى وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ فَيَنْحَصِرُ الْمَلِكُ فِي الْقَصْرِ وَيَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِذَا جَاءَ مَدَدُ التَّوْفِيقِ وَأَخْرَجَ هَذَا الْعَسْكَرَ مِنَ الْقَلْعَةِ انْفَسَحَ الْأَمْرُ وَانْشَرَحَ الصَّدْرُ وَخَرَجَتْ ظُلُمَاتُ الشَّيْطَانِ وَدَخَلَتْ أَنْوَارُ هِدَايَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْمِثَالُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَعْدِنَ النُّورِ هُوَ الْقَلْبُ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالرَّغْبَةُ فِي مُصَاحَبَةِ النَّاسِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْأَعْدَاءِ هُوَ الْحِجَابُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ نُورِ شَمْسِ الْقَلْبِ إِلَى فَضَاءِ الصَّدْرِ فَإِذَا قَوَّى اللَّه بَصِيرَةَ الْعَبْدِ حَتَّى طَالَعَ عَجْزَ الْخَلْقِ وَقِلَّةَ فَائِدَتِهِمْ فِي الدَّارَيْنِ صَغُرُوا فِي عَيْنِهِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَأَمَّلُ فِيمَا سِوَى اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْ يُشَاهِدَ أَنَّهُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ/ الْحِجَابُ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ أَنْوَارِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَإِذَا زَالَ الْحِجَابُ امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنَ النُّورِ فَذَلِكَ هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ.
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الصَّدْرِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَلْبُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: ٢٢]، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: ١٠]، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: ١٩] وَقَدْ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ الْفَضَاءُ الَّذِي فِيهِ الصَّدْرُ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦] وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ هَلْ هُوَ الْقَلْبُ أَوِ الدِّمَاغُ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ الْقَلْبُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمَوَادُّ أَرْبَعَةٌ: الصَّدْرُ وَالْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ وَاللُّبُّ فَالصَّدْرُ مَقَرُّ الْإِسْلَامِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: ٢٢] وَالْقَلْبُ مَقَرُّ الْإِيمَانِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ٧] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمَعْرِفَةِ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النَّجْمِ: ١١]، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦] واللب مقر التوحيد:
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرَّعْدِ: ١٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ أَوَّلُ مَا بُعِثَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ بُعِثَ خَالِيًا عَنِ النُّقُوشِ كَاللَّوْحِ السَّاذَجِ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْبَدَنِ كَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ فِيهِ بِقَلَمِ الرَّحْمَةِ وَالْعَظَمَةِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْعَقْلِ مِنْ نُقُوشِ الْمَوْجُودَاتِ وَصُوَرِ الْمَاهِيَّاتِ وَذَلِكَ يَكُونُ كَالسَّطْرِ الْوَاحِدِ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ وَذَلِكَ هُوَ الصُّورَةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالْحَالَةُ الْمُطَهَّرَةُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يَرْكَبُ سَفِينَةَ التَّوْفِيقِ وَيُلْقِيهَا فِي بِحَارِ أَمْوَاجِ الْمَعْقُولَاتِ وَعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ مِنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ رَخَاءُ السَّعَادَةِ تَارَةً وَدَبُورُ الْإِدْبَارِ أُخْرَى، فَرُبَّمَا وَصَلَتْ سَفِينَةُ النَّظَرِ إِلَى جَانِبٍ مُشْرِقِ الْجَلَالِ فَتَسْطَعُ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَيَتَخَلَّصُ الْعَقْلُ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ، وَرُبَّمَا تَوَغَّلَتِ السَّفِينَةُ فِي جُنُوبِ الْجَهَالَاتِ فَتَنْكَسِرُ وَتَغْرَقُ فَحَيْثُمَا تُكُونُ السَّفِينَةُ فِي مُلْتَطِمِ أَمْوَاجِ الْعِزَّةِ يَحْتَاجُ حَافِظُ السَّفِينَةِ إِلَى الْتِمَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْهِدَايَاتِ فَيَقُولُ هُنَاكَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ
الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي بَقِيَّةِ الْأَبْحَاثِ إِنَّمَا قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ اشْرَحْ صَدْرِي لِيُظْهِرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الشَّرْحِ عَائِدَةٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِلَى اللَّه، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ شَرْحِ صَدْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرْحِ صَدْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: ١] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خَلْقُهَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ تَحْرِيكُ الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ بِفِعْلِ الْأَلْطَافِ الْمُسَهِّلَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَا أَمْكَنَ مِنَ اللُّطْفِ فَقَدْ فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِنَ الْأَلْطَافِ مَا لَا يَحْسُنُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا السُّؤَالِ فَفَائِدَةُ السُّؤَالِ حُسْنُ فِعْلِ تِلْكَ الْأَلْطَافِ.
الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: ٣، ٤] وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ لِأَنَّهُ لَوْ عَطَفَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ الْحَرْفَ الْعَاطِفَ صَارَ قَوْلُهُ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ كَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خَالِقًا لِلْإِنْسَانِ إِذَا عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ هِيَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ. وَثَانِيهَا: اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللِّسَانِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ | فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ |
وَالْمَعْنَى أَنَّا لَوْ أَزَلْنَا الْإِدْرَاكَ الذِّهْنِيَّ وَالنُّطْقَ اللِّسَانِيَّ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا الْقَدْرُ الْحَاصِلُ فِي الْبَهَائِمِ، وَقَالُوا: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ».
وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي مُنَاظَرَةِ آدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَا ظَهَرَتِ الْفَضِيلَةُ إِلَّا بِالنُّطْقِ حَيْثُ قَالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ٣٣]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الرُّوحِ وَالْقَالَبِ وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ يستفيد أبدا
قِيلَ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ»
فَكَذَلِكَ الْوَاسِطَةُ فِي الْإِفَادَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ فَقَوْلُهُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ النُّورِ الْوَاقِعِ فِي الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَتَسْهِيلِ ذَلِكَ التَّحْصِيلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الْكَمَالُ فِي تِلْكَ الِاسْتِفَادَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إِلَّا الْمَقَامُ الْبَيَانِيُّ وَهُوَ إِفَاضَةُ ذَلِكَ الْكَمَالِ عَلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ/ إِلَّا بِاللِّسَانِ. فَلِهَذَا قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا ثَبَتَ وَالْجُودَ وَالْإِعْطَاءَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْأَعْضَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ، فَالْيَدُ لَمَّا كَانَتْ آلَةً فِي الْعَطِيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ
قِيلَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»
فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ لَمَّا كَانَتْ آلَةُ إِعْطَائِهِ اللِّسَانَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللِّسَانَ هُوَ الْآلَةُ فِي إِعْطَاءِ الْمَعَارِفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ مَدَحَ الصَّمْتَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ»
وَيُرْوَى أَنَّ الْإِنْسَانَ تُفَكِّرُ أَعْضَاؤُهُ اللِّسَانَ وَيَقُلْنَ اتَّقِ اللَّه فِينَا فَإِنَّكَ إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهُ مَا ضَرَرُهُ خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَمِنْهُ مَا يَسْتَوِي الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا نَفْعُهُ رَاجِحٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ خَالِصُ النَّفْعِ، أَمَّا الَّذِي ضَرَرُهُ خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ فَوَاجِبُ التَّرْكِ، وَالَّذِي يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فِيهِ فَهُوَ عَيْبٌ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ وَتَخْلِيصُهُمَا عَنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عُسْرٌ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْكَلَامِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا مِنْ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ خَالِقٍ أَوْ مَخْلُوقٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَوْهُومٍ إِلَّا وَاللِّسَانُ يَتَنَاوَلُهُ وَيَتَعَرَّضُ لَهُ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الضَّمِيرُ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَلْوَانِ، وَالصُّوَرِ وَالْآذَانَ لَا تَصِلُ إِلَّا إِلَى الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَالْيَدَ لَا تَصِلُ إِلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ اللِّسَانِ فَإِنَّهُ رَحْبُ الْمَيْدَانِ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ وَلَا حَدٌّ فَلَهُ فِي الْخَيْرِ مَجَالٌ رَحْبٌ وَلَهُ فِي الشَّرِّ بَحْرٌ سَحْبٌ، وَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمُؤْنَةِ سَهْلُ التَّحْصِيلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مُؤَنٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَيَسَّرُ تَحْصِيلُهَا فِي الْأَكْثَرِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَ الْكَلَامِ. وَرَابِعُهَا:
قَالُوا: تَرْكُ الْكَلَامِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ وَالْإِنْصَاتُ وَالْإِصَاخَةُ، فَأَمَّا الصَّمْتُ فَهُوَ أَعَمُّهَا لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَقْوَى عَلَى النُّطْقِ وَفِيمَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَالٌ نَاطِقٌ وَصَامِتٌ وَأَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ تَرْكُ الْكَلَامِ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَالْإِنْصَاتُ سُكُوتٌ مَعَ اسْتِمَاعٍ وَمَتَى انْفَكَّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنْصَاتٌ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الْأَعْرَافِ: ٢٠٤] وَالْإِصَاخَةُ اسْتِمَاعٌ إِلَى مَا يَصْعُبُ إِدْرَاكُهُ كَالسِّرِّ وَالصَّوْتِ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّمْتَ عَدَمٌ وَلَا فَضِيلَةَ فِيهِ بَلِ النُّطْقُ فِي نَفْسِهِ فَضِيلَةٌ وَالرَّذِيلَةُ فِي محاورته ولو لاه لَمَا سَأَلَ كَلِيمُ اللَّه ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَوَّلُ: كَانَ ذَلِكَ التَّعَقُّدُ خِلْقَةَ اللَّه تَعَالَى فَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى إِزَالَتَهُ. الثَّانِي: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ صِبَاهُ أَخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَنَتَفَهَا فَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ وَقَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَزُولُ مُلْكِي عَلَى يَدِهِ فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَعَلَامَتُهُ أَنْ تُقَرِّبَ مِنْهُ التَّمْرَةَ وَالْجَمْرَةَ فَقَرَّبَا إِلَيْهِ فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ تَحْتَرِقُ الْيَدُ وَلَا اللِّسَانُ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ أَخْذِ الْعَصَا وَهِيَ الْحُجَّةُ/ وَاللِّسَانُ آلَةُ الذِّكْرِ فَكَيْفَ يَحْتَرِقُ وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام
احْتَرَقَتِ الْيَدُ دُونَ اللِّسَانِ لِئَلَّا يَحْصُلَ حَقُّ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُمَالَحَةِ. الثَّالِثُ: احْتَرَقَ اللِّسَانُ دُونَ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّوْلَةَ ظَهَرَتْ بِالْيَدِ أَمَّا اللِّسَانُ فَقَدْ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ يَا أَبَتِ. وَالرَّابِعُ: احْتَرَقَا مَعًا لِئَلَّا تَحْصُلَ الْمُوَاكَلَةُ وَالْمُخَاطَبَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اختلفوا في أنه عليه السلام لم طَلَبَ حَلَّ تِلْكَ الْعُقْدَةِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَقَعَ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ خَلَلٌ أَلْبَتَّةَ. وثانيها: الإزالة التَّنْفِيرِ لِأَنَّ الْعُقْدَةَ فِي اللِّسَانِ قَدْ تُفْضِي إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِقَائِلِهَا وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: إِظْهَارًا لِلْمُعْجِزَةِ فَكَمَا أَنَّ حَبْسَ لِسَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكَلَامِ كَانَ مُعْجِزًا فِي حَقِّهِ فَكَذَا إِطْلَاقُ لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزٌ فِي حَقِّهِ. وَرَابِعُهَا: طَلَبُ السُّهُولَةِ لِأَنَّ إِيرَادَ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مِثْلِ فِرْعَوْنَ فِي جَبَرُوتِهِ وَكِبْرِهِ عَسِرٌ جِدًّا فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ تَعَقُّدُ اللِّسَانِ بَلَغَ الْعُسْرُ إِلَى النِّهَايَةِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الْعُقْدَةِ تَخْفِيفًا وَتَسْهِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ تِلْكَ الْعُقْدَةَ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: ٣٦] وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ وَاحْلُلِ الْعُقْدَةَ مِنْ لِسَانِي بَلْ قَالَ:
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فَإِذَا حَلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً فَقَدْ آتَاهُ اللَّه سُؤْلَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ انْحَلَّ أَكْثَرُ الْعُقَدِ وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ لِقَوْلِهِ: حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: ٥٢] أَيْ يُقَارِبُ أَنْ لَا يُبِينَ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُبِينُ مَعَ بَقَاءِ قَدْرٍ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي لِسَانِهِ وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَيْ لَا يَأْتِي بِبَيَانٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَادَ بِمَعْنَى قَرُبَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْبَيَانَ اللِّسَانِيَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقَارِبُ الْبَيَانَ فَكَانَ فِيهِ نَفْيُ الْبَيَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ خَاطَبَ فِرْعَوْنَ وَالْجَمْعَ وَكَانُوا يَفْقَهُونَ كَلَامَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْبَيَانِ أَصْلًا بَلْ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِيَصْرِفَ الْوُجُوهَ عَنْهُ قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ إِنَّمَا قَالَ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لِأَنَّ حَلَّ الْعُقَدِ كُلِّهَا نَصِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الْأَنْعَامِ: ١٥٢] فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِيَتِيمِ أَبِي طَالِبٍ لَا جَرَمَ مَا دَارَ حَوْلَهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَطْلُوبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي وَاعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ الْوَزِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فَطَلَبَ الْمُعِينَ أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَصَةِ الْوُدِّ وَزَوَالِ التُّهْمَةِ مَزِيَّةً عَظِيمَةً فِي أَمْرِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه وَلِذَلِكَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: ٦٤]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِي فِي السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ وَفِي الْأَرْضِ وَزِيرَيْنِ، فَاللَّذَانِ فِي السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَاللَّذَانِ فِي الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»
وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَزِيرُ مِنَ الْوِزْرِ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَلِكِ أَوْزَارَهُ وَمُؤَنَهُ أَوْ مِنَ الْوَزَرِ/ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُتَحَصَّنُ بِهِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَعْتَصِمُ بِرَأْيِهِ فِي رَعِيَّتِهِ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ أُمُورَهُ أَوْ مِنَ الْمُوَازَرَةِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ، وَالْمُوَازَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِزَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَشُدُّهُ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَعَدَّ لِعَمَلِ أَمْرٍ صَعْبٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَزِيرًا فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى الْوَاوِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّه بِمَلِكٍ خَيْرًا قَيَّضَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ نَوَى
وَكَانَ أَنُوشِرْوَانُ يَقُولُ: لَا يَسْتَغْنِي أَجْوَدُ السُّيُوفِ عَنِ الصَّقْلِ، وَلَا أَكْرَمُ الدَّوَابِّ عَنِ السَّوْطِ، وَلَا أَعْلَمُ الْمُلُوكِ عَنِ الْوَزِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ الِاسْتِعَانَةُ بِالْوَزِيرِ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُلُوكُ أَمَّا الرَّسُولُ الْمُكَلَّفُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى قَوْمٍ عَلَى التَّعْيِينِ فَمِنْ أَيْنَ يَنْفَعُهُ الْوَزِيرُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالَ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فَكَيْفَ يَكُونُ وَزِيرًا. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّظَاهُرَ عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَصَةِ الْوُدِّ وَزَوَالِ التُّهْمَةِ لَهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَأْثِيرِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاثِقًا بِأَخِيهِ هَارُونَ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَشُدَّ به أزره حتى يتحمل عنه ما يُمْكِنُ مِنَ الثِّقَلِ فِي الْإِبْلَاغِ.
الْمَطْلُوبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِهِ أَيْ مِنْ أَقَارِبِهِ.
الْمَطْلُوبُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْوَزِيرُ الَّذِي مِنْ أَهْلِهِ هُوَ أَخُوهُ هَارُونُ وَإِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا:
أَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَى الدِّينِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ فَأَرَادَ أَنْ لَا تَحْصُلَ هَذِهِ الدَّرَجَةُ إِلَّا لِأَهْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي غَايَةِ الْمَحَبَّةِ لِصَاحِبِهِ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُ، وَقَوْلُهُ هَارُونَ فِي انْتِصَابِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولُ الْجَعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ اجْعَلْ هَارُونَ أَخِي وَزِيرًا لِي. وَالثَّانِي: عَلَى الْبَدَلِ من وزيرا وأخي نعت لهرون أَوْ بَدَلٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأُمُورٍ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً [الْقَصَصِ: ٣٤] وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ رِفْقٌ قال: ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
[طه: ٩٤] وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ.
الْمَطْلُوبُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ: اشْدُدْ بِهِ وأَشْرِكْهُ عَلَى الدُّعَاءِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ: (أَشْدِدْ، وَأَشْرِكْهُ) عَلَى الْجَزَاءِ وَالْجَوَابِ، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَجُوزُ لِمَنْ قَرَأَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ أَنْ يجعل أَخِي مرفوعا على الابتداء واشْدُدْ بِهِ خَبَرَهُ وَيُوقَفُ عَلَى هَارُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَزْرُ الْقُوَّةُ وَآزَرَهُ قَوَّاهُ قَالَ تَعَالَى: فَآزَرَهُ أَيْ أَعَانَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَزْرِي أَيْ ظَهْرِي وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الْأَزْرُ: الظَّهْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَارُونَ وَزِيرًا لَهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَشُدَّ بِهِ أَزْرَهُ وَيَجْعَلَهُ نَاصِرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَا اعْتِمَادَ عَلَى الْقَرَابَةِ.
الْمَطْلُوبُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي وَالْأَمْرُ هاهنا النُّبُوَّةُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَأَفْصَحُ مِنْهُ لِسَانًا ثُمَّ إِنَّهُ سبحانه وتعالى حكى عنه ما لِأَجْلِهِ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً وَالتَّسْبِيحُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ وَأَنْ يَكُونَ بِالِاعْتِقَادِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفِ اللَّه تَعَالَى بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّفْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِنَّكَ عَالِمٌ بِأَنَّا لَا نُرِيدُ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ إِلَّا وَجْهَكَ وَرِضَاكَ وَلَا نُرِيدُ بِهَا أَحَدًا سِوَاكَ. وَثَانِيهَا:
كُنْتَ بِنا بَصِيراً لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَانَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ حَاجَتِي فِي النُّبُوَّةِ إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: إِنَّكَ بَصِيرٌ بِوُجُوهِ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤)
[في قوله تعالى قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى] اعلم أن السؤال هُوَ الطَّلَبُ فُعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِكَ خُبْزٌ بِمَعْنَى مَخْبُوزٍ وَأَكْلٌ بِمَعْنَى مَأْكُولٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِيَامَهُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ تَكْلِيفٌ لَا يَتَكَامَلُ إِلَّا بِإِجَابَتِهِ إِلَيْهَا، لَا جَرَمَ أَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهَا لِيَكُونَ أَقْدَرَ عَلَى الْإِبْلَاغِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ فَقَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وَعَدَّ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قَبْلَ سُؤَالِكَ فَكَيْفَ لَا أُعْطِيكَ مُرَادَكَ بَعْدَ السُّؤَالِ. وَثَانِيهَا: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَبَّيْتُكَ فَلَوْ مَنَعْتُكَ الْآنَ مَطْلُوبَكَ لَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا بَعْدَ الْقَبُولِ وَإِسَاءَةً بَعْدَ الْإِحْسَانِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِي. وَثَالِثُهَا: إِنَّا لَمَّا أَعْطَيْنَاكَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ كُلَّ مَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ وَرَقَّيْنَاكَ مِنْ حَالَةٍ نَازِلَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّا نَصَّبْنَاكَ لِمَنْصِبٍ عَالٍ وَمَهَمٍّ عَظِيمٍ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْمَنْعُ مِنَ المطلوب، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ تِلْكَ النِّعِمَ بِلَفْظِ الْمِنَّةِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَفْظَةٌ مُؤْذِيَةٌ وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّلَطُّفِ؟
وَالْجَوَابُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ هَذِهِ النِّعِمَ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْهَا بَلْ إِنَّمَا خَصَّهُ اللَّه تَعَالَى بِهَا بِمَحْضِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَنًا كَثِيرَةً؟ وَالْجَوَابُ: لَمْ يَعْنِ بِمَرَّةٍ أُخْرَى مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْمِنَنِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِنَنَ المذكورة هاهنا ثَمَانِيَةٌ: الْمِنَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ أَوْحَيْنا فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَتْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَحْيِ هُوَ الْوَحْيَ الْوَاصِلَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ للقضاء
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْبَابِ، وَأَيْضًا فَالْوَحْيُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لَا بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: ٦٨] وَقَالَ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَةِ: ١١١] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْوَحْيِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ رُؤْيَا رَأَتْهَا أَمُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ تَأْوِيلُهَا وَضْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّابُوتِ وَقَذْفَهُ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَرُدُّهُ إِلَيْهَا.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ عَزِيمَةٌ جَازِمَةٌ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكُلُّ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَا وَقَعَ إِلَيْهِ ظَهَرَ لَهُ الرَّأْيُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْخَلَاصِ وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْخَاطِرِ إِنَّهُ وَحْيٌ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِلْهَامُ لَكِنَّا/ مَتَى بَحَثْنَا عَنِ الْإِلْهَامِ كَانَ مَعْنَاهُ خُطُورَ رَأْيٍ بِالْبَالِ وَغَلَبَةٍ عَلَى الْقَلْبِ فَيَصِيرُ هَذَا هُوَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي الْبَحْرِ قَرِيبٌ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْخَوْفِ الْحَاصِلِ مِنَ الْقَتْلِ الْمُعْتَادِ مِنْ فِرْعَوْنَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ عَنِ الثَّانِي. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهَا عَرَفَتْ بِالِاسْتِقْرَاءِ صِدْقَ رُؤْيَاهَا فَكَانَ إِفْضَاءُ الْإِلْقَاءِ فِي الْبَحْرِ إِلَى السَّلَامَةِ أَغْلَبَ عَلَى ظَنِّهَا مِنْ وُقُوعِ الْوَلَدِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ عَرَّفَهَا، إِمَّا مُشَافَهَةً أَوْ مُرَاسَلَةً، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا لَحِقَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ مَا لَحِقَهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَانَ يَأْمُرُهُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ مِرَارًا. وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَانْتَهَى ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ.
وَسَادِسُهَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهَا مَلَكًا لَا عَلَى وَجْهِ النُّبُوَّةِ كَمَا بَعَثَ إِلَى مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مَرْيَمَ: ١٧] وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا يُوحى فَمَعْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوحَى وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ الْوَحْيُ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ فَكَانَ الْوَحْيُ وَاجِبًا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اقْذِفِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَذْفُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الْأَحْزَابِ: ٢٦].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ أَنَّهَا اتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَجَعَلَتْ فِيهِ قُطْنًا مَحْلُوجًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَيَّرَتْ رَأْسَهُ وَشُقُوقَهُ بِالْقَارِ ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ وَكَانَ يَشْرَعُ مِنْهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ الْبِرْكَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ آسِيَةَ إِذْ بِتَابُوتٍ يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَمَرَ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ بِإِخْرَاجِهِ فَأَخْرَجُوهُ وَفَتَحُوا رَأْسَهُ فَإِذَا صَبِيٌّ مِنْ أَصْبَحِ النَّاسِ وَجْهًا فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَحَبَّهُ
وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الَّذِي صَنَعَ التَّابُوتَ حَزْقِيلُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اليم هو البحر والمراد به هاهنا نِيلُ مِصْرَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَالْيَمُّ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى النَّهْرِ الْعَظِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ السَّاحِلُ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْحَلُهُ أَيْ يَقْذِفُهُ إلى أعلاه.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ تَقْدِيرُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَ مَاءَ الْيَمِّ وَيُلْقِيَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ إِلَى السَّاحِلِ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْمَجَازِ وَجَعَلَ الْيَمَّ كَأَنَّهُ ذُو تَمْيِيزٍ أُمِرَ بِذَلِكَ لِيُطِيعَ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلَ رَسْمَهُ فَقِيلَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أَمَّا قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيِ اقْذِفِيهِ يَأْخُذْهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ كَانَتْ بِحَيْثُ تَسْتَسْقِي الْجَوَارِيَ فَبَصُرَتْ بِالتَّابُوتِ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأَخَذَتِ التَّابُوتَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ فِرْعَوْنَ التَّابُوتَ قَبُولَهُ لَهُ وَاسْتِحْبَابَهُ إِيَّاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى التَّابُوتَ بِمَوْضِعٍ مِنَ السَّاحِلِ فِيهِ فُوَّهَةُ نَهْرِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدَّاهُ النَّهْرُ إِلَى بِرْكَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَآهُ أَخَذَهُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِحَيْثُ يُعَادَى. وَجَوَابُهُ: أَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا للَّه مِنْ جِهَةِ كُفْرِهِ وَعُتُوِّهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ حاله لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ. الْمِنَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً هِيَ مِنِّي قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
مِنِّي لَا يَخْلُو إِمَّا أن يتعلق بألقيت فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنِّي أَحْبَبْتُكَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّه أَحَبَّتْهُ الْقُلُوبُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ صفة لمحبة أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَاقِعَةً بِخَلْقِي فَلِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَتْ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَصِ: ٩]
يُرْوَى أَنَّهُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ جَمَالٍ وَفِي عَيْنَيْهِ مَلَاحَةٌ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: ٩٦] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ لَا يَكَادُ يُوصَفُ بِمَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى الَّتِي ظَاهِرُهَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَيْفِيَّتِهِ فِي الْخِلْقَةِ يُسْتَحْلَى وَيُغْتَبَطُ فَكَذَلِكَ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ وَسَهَّلَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بَلِ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ يُحْوِجُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ:
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَوَاقِعَةً بِتَخْلِيقِي وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ بَقِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ حَالَ صِبَاهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى عِبَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَعَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَحَبَّةِ. الْمِنَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي قَالَ الْقَفَّالُ: لِتُرَى عَلَى عَيْنِي أَيْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِي، وَمَجَازُ هَذَا أَنَّ مَنْ صَنَعَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ صَنَعَهُ لَهُ كَمَا يُحِبُّ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُخَالِفُ غرضه فكذا هاهنا وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ العين العلم أي تُرَى عَلَى عِلْمٍ مِنِّي وَلَمَّا كَانَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ/ كَمَا أَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ أُطْلِقَ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِبَاهِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْعَيْنِ الْحِرَاسَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَى الشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَمَّا يُؤْذِيهِ
الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ثَمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى وإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي وَذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥]. وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُقْحَمَةً أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي لِتُصْنَعَ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
الثَّانِي: قُرِئَ وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا وَالْجَزْمُ عَلَى أَنَّهُ أُمِرَ وَقُرِئَ وَلِتَصْنَعَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالنَّصْبِ أَيْ وَلِيَكُونَ عَمَلُكَ وَتَصَرُّفَكَ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي. الْمِنَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ أَوْ تُصْنَعُ،
يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا فَشَا الْخَبَرُ بِمِصْرَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أَخَذُوا غُلَامًا فِي النِّيلِ وَكَانَ لَا يَرْتَضِعُ مِنْ ثَدْيِ كُلِّ امْرَأَةٍ يُؤْتَى بِهَا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ اضْطُرُّوا إِلَى تَتَبُّعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أُخْتُ مُوسَى جَاءَتْ إِلَيْهِمْ مُتَنَكِّرَةً فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص: ١٢] ثُمَّ جَاءَتْ بِالْأُمِّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ بِمَا لَطَفَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أَيْ رَدَدْنَاكَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [الْقَصَصِ: ١٣] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] أَيْ رُدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، أَمَّا قَوْلُهُ: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّكَ إِلَيْهَا حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا وَزَوَالُ الْحُزْنِ عَنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ كَيْ لَا تَحْزَنَ وَتَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُزْنِ حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا، وَأَمَّا لَمَّا قَالَ أَوَّلًا كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَحْزَنَ فَضْلًا لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ السُّرُورُ وَجَبَ زَوَالُ الْغَمِّ لَا مَحَالَةَ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَقَرُّ عَيْنُهَا بِسَبَبِ وُصُولِكَ إِلَيْهَا فَيَزُولُ عَنْهَا الْحُزْنُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُصُولِ لَبَنِ غَيْرِهَا إِلَى بَاطِنِكَ. وَالْمِنَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ فَالْمُرَادُ بِهِ وَقَتَلْتَ بَعْدَ كِبَرِكَ نَفْسًا وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ وَكَزَهُ حَيْثُ اسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَيْهِ وَكَانَ قِبْطِيًّا فَحَصَلَ لَهُ الْغَمُّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ اقْتِصَاصُ فِرْعَوْنَ مِنْهُ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَصِ: ١٨] وَالْآخَرُ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ قَتَلَهُ لَا بأمر اللَّه تعالى فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْغَمَّيْنِ، أَمَّا مِنْ فِرْعَوْنَ فَحِينَ وَفَّقَ لَهُ الْمُهَاجَرَةَ إِلَى مَدْيَنَ/ وَأَمَّا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: فُتُوناً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْعُكُوفِ وَالْجُلُوسِ وَالْمَعْنَى وَفَتَنَّاكَ حَقًّا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَأْكِيدِ الْأَخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: ١٦٤]، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ فَتْنٍ أَوْ فُتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبَدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضروبا من الفتن وهاهنا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَدَّدَ أَنْوَاعَ مِنَنِهِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَكَيْفَ
فَتَنَّاكَ فُتُوناً أَيْ خَلَّصْنَاكَ تَخْلِيصًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ مِنَ الْفِضَّةِ إِذَا أَرَدْتَ تَخْلِيصَهُ وَسَأَلَ سعيد بن جبير بن عَبَّاسٍ عَنِ الْفُتُونِ فَقَالَ: نَسْتَأْنِفُ لَهُ نَهَارًا يَا ابْنَ جُبَيْرٍ. ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ أَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي شَأْنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ وَقَتْلَهُ أَوْلَادَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قِصَّةَ إِلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَمِّ وَالْتِقَاطَ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَامْتِنَاعَهُ مِنَ الِارْتِضَاعِ مِنَ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ قِصَّةَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَوَضْعَهُ الْجَمْرَةَ فِي فِيهِ، ثُمَّ قِصَّةَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ هَرَبَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَصَيْرُورَتَهُ أَجِيرًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَوْدَهُ إِلَى مِصْرَ وَأَنَّهُ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَاسْتِئْنَاسَهُ بِالنَّارِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَقُولُ هَذَا مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمُ الْفَتَّانِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ اشْتِقَاقًا مِنْ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَالْجَوَابُ لَا لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فِي الْعُرْفِ وَأَسْمَاءُ اللَّه تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يُوهِمُ مَا لَا يَنْبَغِي. الْمِنَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيهِمْ، أَمَّا مُدَّةُ اللُّبْثِ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا مَشْرُوحَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ- إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [الْقَصَصِ: ٢٩] وَهِيَ إِمَّا عَشَرَةٌ وَإِمَّا ثَمَانٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [الْقَصَصِ: ٢٧] وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرُ سِنِينَ/ مَهْرُ امْرَأَتِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِثَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَشْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لُبْثَهُ فِي مَدْيَنَ مِنَ الْفُتُونِ وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ مِحَنًا كَثِيرَةً، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ آجَرَ نَفْسَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدَرِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا:
أَنَّهُ سَبَقَ فِي قَضَائِي وَقَدَرِي أَنْ أَجْعَلَكَ رَسُولًا لِي فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ عَيَّنْتُهُ لِذَلِكَ فَمَا جِئْتَ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَدَرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: ٤٩]، وَثَانِيهَا: عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ الْمَوْعِدُ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَوْعِدَ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا قَدْ عُيِّنُوا ذَلِكَ الْمَوْعِدَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مَجِيءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ جُمْلَةِ مِنَنِهِ عَلَيْهِ، قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَهُ لَمَا تَهَيَّأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وَالِاصْطِنَاعُ اتِّخَاذُ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ افْتِعَالٌ مِنَ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَشَدَّهُمْ قُرْبًا مِنْهُ.
وَثَانِيهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا كَلَّفَ عِبَادَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْطُفَ بِهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَلْطَافِ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا سَمْعًا فَلَوْ لَمْ يَصْطَنِعْهُ بِالرِّسَالَةِ لَبَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَصَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالنَّائِبِ عَنْ رَبِّهِ فِي أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، قَالَ الْقَفَّالُ وَاصْطَنَعْتُكَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمُ اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ وَجَرِيحُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ لِنَفْسِي: أَيْ لِأُصَرِّفَكَ فِي أَوَامِرِي لِئَلَّا تَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَهُوَ إِقَامَةُ حُجَّتِي وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِي وَأَنْ تَكُونَ فِي حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ لِي لَا لِنَفْسِكَ وَلَا لِغَيْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِنَنَ الثَّمَانِيَةَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الِالْتِمَاسَاتِ الثَّمَانِيَةِ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ أَمْرًا وَنَهْيًا، أَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعَادَ الْأَمْرَ بِالْأَوَّلِ فقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي] وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: الباء هاهنا بِمَعْنَى مَعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَوْ ذَهَبَا إِلَيْهِ بِدُونِ آيَةٍ مَعَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: اختلفوا في الآيات المذكورة هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْيَدُ وَالْعَصَا لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ جَرَى ذِكْرُهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّه تَعَالَى فِيهَا/ حَدِيثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوتِيَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَلَا بَعْدَ مَجِيئِهِ حَتَّى لَقِيَ فِرْعَوْنَ فَالْتَمَسَ مِنْهُ آيَةً غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى عنه: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: ٣١- ٣٣] وَقَالَ: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْقَصَصِ: ٣٢] فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَجَابُوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَصَا مَا كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً بَلْ كَانَتْ آيَاتٍ فَإِنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَوَانًا آيَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ صَغِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النَّمْلِ: ١٠] ثُمَّ كَانَتْ تَعْظُمُ وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ كَانَتْ تَصِيرُ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى.
ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهَا فَمَا كَانَتْ تَضُرُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ كَانَتْ تَنْقَلِبُ خَشَبَةً فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْيَدُ فَإِنَّ بَيَاضَهَا آيَةٌ وَشُعَاعَهَا آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ زَوَالَهُمَا بَعْدَ حُصُولِهِمَا آيَةٌ أُخْرَى فَصَحَّ أَنَّهُمَا كَانَتَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لَا آيَتَانِ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْعَصَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لَكِنَّ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ انْقِلَابَهَا حَيَّةٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ عَلَى الْكُلِّ عَالِمٍ بِالْكُلِّ حَكِيمٍ وَيَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ حَيْثُ انْقَلَبَ الْجَمَادُ حَيَوَانًا فَهَذِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦، ٩٧] فَإِذَا وُصِفَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بِأَنَّ فِيهِ آيَاتٌ فَالشَّيْئَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبَا بِآيَاتِي مَعْنَاهُ أَنِّي أُمِدُّكُمَا بِآيَاتِي وَأُظْهِرُ عَلَى أَيْدِيكُمَا مِنَ الْآيَاتِ مَا تُزَاحُ بِهِ الْعِلَلُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَاذْهَبَا فَإِنَّ آيَاتِي مَعَكُمَا كَمَا يُقَالُ اذْهَبْ فَإِنَّ جُنْدِي مَعَكَ أَيْ أَنِّي أَمِدُّكَ بِهِمْ مَتَى احتجت.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ خِطَابٌ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا هُنَاكَ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: ٤٥] أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَتْبُوعَ هَارُونَ فَجُعِلَ الْخِطَابُ مَعَهُ خِطَابًا مَعَ هَارُونَ وَكَلَامُ هَارُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ فَالْخِطَابُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: ٧٢] وَقَوْلِهِ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الْمُنَافِقُونَ: ٨] وَحُكِيَ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ وَحْدَهُ. وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لما قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى سَكَتَ حَتَّى لَقِيَ أَخَاهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَفْصَةَ: قَالَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَيْ قَالَ مُوسَى: أَنَا وَأَخِي نَخَافُ فِرْعَوْنَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللِّينِ مَعَ الْكَافِرِ الْجَاحِدِ. الْجَوَابُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالرِّفْقِ رِعَايَةً لِتِلْكَ الْحُقُوقِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نِهَايَةِ تَعْظِيمِ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْجَبَابِرَةِ إِذَا غُلِّظَ لَهُمْ فِي الْوَعْظِ أَنْ يَزْدَادُوا عُتُوًّا وَتَكَبُّرًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ حُصُولُ النَّفْعِ لَا حُصُولُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالرِّفْقِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ اللَّيِّنُ. الْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى بَعْضَهُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النَّازِعَاتِ: ١٨، ١٩] وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧]. وَثَانِيهَا: أَنْ تَعِدَاهُ شَبَابًا لَا يَهْرَمُ بَعْدَهُ وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ وَأَنْ يَبْقَى لَهُ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ
وَرَابِعُهَا:
حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ عَمَّرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ أَطَعْتَنِي عُمِّرْتَ مِثْلَ مَا عُمِّرْتَ فَإِذَا مِتَّ فَلَكَ الْجَنَّةُ
وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقِيلَ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِلْجَاءِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ خِطَابَهُ بِالْكُنْيَةِ أَمْرٌ سَهْلٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً/ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرَادِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ شَاكًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، عَلَى أَنْ تَكُونَا رَاجِيَيْنِ لِأَنْ يَتَذَكَّرَ هُوَ أَوْ يَخْشَى. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ الْقَلْبِ ثَلَاثَةٌ. أَحَدُهَا: الْإِصْرَارُ عَلَى الْحَقِّ. وَثَانِيهَا: الْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ. وَثَالِثُهَا: التَّوَقُّفُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْبَاطِلِ وَهَذَا الْقِسْمُ أَرْدَأُ الْأَقْسَامِ فَقَالَ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فَيَرْجِعُ مِنْ إِنْكَارِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْإِنْكَارِ إِلَى الْإِقْرَارِ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ الْخَوْفُ فَيَتْرُكُ الْإِنْكَارَ وَإِنْ كَانَ لا ينتقل من الإنكار إِلَى الْإِقْرَارِ فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَا يَعْلَمُ سِرَّهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَطُّ كَانَ إِيمَانُهُ ضِدًّا لِذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَكَيْفَ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ الرِّفْقِ وَكَيْفَ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَلْطِيفِ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ اسْتِحَالَةَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً قَادِحَةً فِي هَذَا السُّؤَالِ وَلَكِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَسَلَّمُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَسْتَفِيدُ بِبَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ وَالرَّحِيمُ الْكَرِيمُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَدْفَعَ سِكِّينًا إِلَى مَنْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ يُمَزِّقُ بِهَا بَطْنَ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي مَا أَرَدْتُ بِدَفْعِ السِّكِّينِ إِلَيْهِ إِلَّا الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ؟ يَا أَخِي الْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ وَلَا سَبِيلَ فِيهَا إِلَّا التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ وَالسُّكُوتُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَيُرْوَى عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ كَعْبٌ إِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: فَقُولَا لَهُ قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ فِيهِ أَسْئِلَةٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: قَالَا رَبَّنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهَارُونُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا هَذَا الْمَقَالَ فَكَيْفَ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥] فَأَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَمَا عَلِمَ مُوسَى وَهَارُونُ وَقَدْ حَمَّلَهُمَا اللَّه تَعَالَى الرِّسَالَةَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤَمِّنُهُمَا مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ مَقْطَعَةٌ عَنِ الْأَدَاءِ. الْجَوَابُ: قَدْ أَمِنَا ذَلِكَ وَإِنْ جَوَّزَا أَنْ يَنَالَهُمَا السُّوءُ مِنْ قَبْلِ تَمَامِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا اسْتَظْهَرَا بِأَنْ سَأَلَا رَبَّهُمَا مَا يَزِيدُ فِي ثَبَاتِ قَلْبِهِمَا عَلَى دُعَائِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْضَافَ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ إِلَى الْعَقْلِيِّ زِيَادَةً فِي الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠].
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لَمَّا تَكَرَّرَ الْأَمْرُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِالذَّهَابِ فَعَدَمُ الذَّهَابِ وَالتَّعَلُّلُ بِالْخَوْفِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. الْجَوَابُ: لَوِ اقْتَضَى الْأَمْرُ الْفَوْرَ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ التَّشْرِيفِ وَتَقْوِيَةِ الْقَلْبِ وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ فَزَالَ السُّؤَالُ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الرُّسُلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي: أَنْ يَفْرُطَ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: فَرَطَ سَبَقَ وَتَقَدَّمَ وَمِنْهُ الْفَارِطُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ وَفَرَسٌ فَرْطٌ يَسْبِقُ الْخَيْلَ وَالْمَعْنَى نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْنَا بِالْعُقُوبَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْرَطَ غَيْرَهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْعَجَلَةِ فَكَأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ خَافَا مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ الْحَامِلُ هُوَ إِمَّا الشَّيْطَانُ أَوِ ادِّعَاؤُهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ أَوْ حُبُّهُ لِلرِّيَاسَةِ أَوْ قَوْمُهُ وَهُمُ الْقِبْطُ الْمُتَمَرِّدُونَ الَّذِينَ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الْأَعْرَافِ: ٦٠]. وَثَالِثُهَا: يَفْرُطُ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي الْأَذِيَّةِ أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ أَنْ يَطْغى فَالْمَعْنَى يَطْغَى بِالتَّخَطِّي إِلَى أَنْ يَقُولَ فِيكَ مَا لَا يَنْبَغِي لِجَرَاءَتِهِ عَلَيْكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَحَاوَلَ دَفْعَهُ بِأَعْذَارٍ يَذْكُرُهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخْتِمَ كَلَامَهُ بِمَا هُوَ الْأَقْوَى وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْهُدْهُدَ خَتَمَ عُذْرَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: ٢٤] فكذا هاهنا بَدَأَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَنْ يَطْغى لِمَا أَنَّ طُغْيَانَهُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَالْمُرَادُ لَا تَخَافَا مِمَّا عَرَضَ فِي قَلْبِكُمَا مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالطُّغْيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُؤَمِّنْهُمَا مِنَ الرَّدِّ وَلَا مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ وَمُعَارَضَةِ السَّحَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّنِي مَعَكُما فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحِرَاسَةِ وَالْحِفْظِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ: اللَّه مَعَكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَسْمَعُ وَأَرى فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مَعَ الْغَيْرِ وَنَاصِرًا لَهُ وَحَافِظًا/ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ كُلَّ مَا يَنَالُهُ وَإِنَّمَا يَحْرُسُهُ فِيمَا يَعْلَمُ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ مَعَهُمَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ فِي جَمِيعِ مَا يَنَالُهُمَا وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْخَوْفِ قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: أَسْمَعُ وَأَرى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى وَالْمَعْنَى: يَفْرُطَ عَلَيْنا بِأَنْ لَا يَسْمَعَ مِنَّا: أَوْ أَنْ يَطْغى بِأَنْ يَقْتُلَنَا فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ كَلَامَهُ مَعَكُمَا فَأُسَخِّرُهُ لِلِاسْتِمَاعِ مِنْكُمَا وَأَرَى أَفْعَالَهُ فَلَا أَتْرُكُهُ حَتَّى يَفْعَلَ بِكُمَا مَا تَكْرَهَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى سَمِيعًا وَبَصِيرًا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي مَعَكُما دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ فَقَوْلُهُ: أَسْمَعُ وَأَرى لَوْ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ لَكَانَ ذلك تكريرا وهو خلاف الأصل [في قوله تعالى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعَادَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ
٤٣] وفي الرابعة قال هاهنا فَأْتِيَاهُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَقُولَا لَهُ: قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] وَفِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ أَمَرَهُمَا: أَنْ يَقُولَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: انْقِيَادُهُ إِلَيْهِمَا وَالْتِزَامُهُ لِطَاعَتِهِمَا وَذَلِكَ يَعْظُمُ عَلَى الْمَلِكِ الْمَتْبُوعِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فِيهِ إِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى مُلْكِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمْ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تُعَذِّبْهُمْ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّلْيِينِ أَوَّلًا وَالتَّغْلِيظِ ثَانِيًا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ظَهَرَ لَجَاجُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّغْلِيظِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعْجِزِ مَقْرُونًا بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ؟ قُلْنَا: بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَجْمُوعَ الدَّعَاوَى ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ بِالْمُعْجِزَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ:
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ آيَتَيْنِ وَهُمَا الْعَصَا وَالْيَدُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: ٤٢] وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا: جِئْناكَ بِآيَةٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاحِدَةً فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ الْآيَاتِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جِئْنَاكَ بِبَيَانٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وَاحِدَةً أَوْ حُجَجًا كَثِيرَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى لَهُمَا كَأَنَّهُ قَالَ: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وَقُولَا لَهُ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وَعْدٌ مِنْ قِبَلِهِمَا لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ بِالسَّلَامَةِ لَهُ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالسَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ كَمَا يُقَالُ رضاع ورضاعة واللام وعلى هاهنا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا قَالَ/ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرَّعْدِ: ٢٥] عَلَى مَعْنَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فُصِّلَتْ: ٤٦] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧]، أَمَّا قوله: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أن عقاب المؤمن لا يدوم ذلك لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْعَذابَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ أَوْ تُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَقْتَضِي انْحِصَارُ هَذَا الْجِنْسِ فِيمَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَوَجَبَ فِي غَيْرِ الْمُكَذِّبِ الْمُتَوَلِّي أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْجِنْسُ أَصْلًا، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِي نَفْيِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْمُتَنَاهِيَ إِذَا حَصَلَ بَعْدَهُ السَّلَامَةُ مُدَّةً غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ صَارَ ذَلِكَ الْعِقَابُ كَأَنَّهُ لَا عِقَابَ فَلِذَلِكَ يَحْسُنُ مَعَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا عِقَابَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَقَدْ فَسَّرْنَا السَّلَامَ بِالسَّلَامَةِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي حُصُولَ السَّلَامَةِ لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَالْعَارِفُ باللَّه قَدِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ السَّلَامَةِ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا قَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ عَظِيمَ الْغَلَبَةِ كَثِيرَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ/ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَمْ يَشْتَغِلْ مَعَهُ بِالْبَطْشِ وَالْإِيذَاءِ بَلْ خَرَجَ مَعَهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ أَوَّلًا فِي الْإِيذَاءِ لَنُسِبَ إِلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ فَاسْتَنْكَفَ مِنْ ذَلِكَ وَشَرَعَ أَوَّلًا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّفَاهَةَ مِنْ غَيْرِ الْحُجَّةِ شَيْءٌ مَا كَانَ يَرْتَضِيهِ فِرْعَوْنُ مَعَ كَمَالِ جَهْلِهِ وَكُفْرِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَالْعِلْمَ ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ قَبِلَ مُوسَى ذَلِكَ السُّؤَالَ وَاشْتَغَلَ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَرَفَ هاهنا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ وَتَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ اللَّه وَالدِّينِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي إِنْكَارِهِ الْإِلَهَ وَحَكَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَشُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْحَشْرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنَّكَ مَتَى أَوْرَدْتَ السُّؤَالَ فَاقْرِنْهُ بِالْجَوَابِ لِئَلَّا يَبْقَى الشَّكُّ كَمَا فَعَلَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ كَلَامِ الْمُبْطِلِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ وَلَا إِيحَاشٍ كَمَا فَعَلَ مُوسَى عليه السلام بفرعون هاهنا وَكَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ فِي قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَقَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٦].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ كَانَ عَارِفًا باللَّه تَعَالَى فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عَارِفًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِنْكَارَ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٢] فَمَتَى نُصِبَتِ التَّاءُ فِي عَلِمْتَ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلِ: ١٤]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ عَاقِلًا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا قَدْ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ وُجِدَ
وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَكَلِمَةُ الَّذِي تَقْتَضِي وَصْفَ الْمَعْرِفَةِ بِجُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي صِفَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْمَبْدَأِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُلْكَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقِبْطَ وَلَمْ يَبْلُغِ الشَّامَ وَلَمَّا هَرَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَدْيَنَ قَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْقَصَصِ: ٢٥] فَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ؟ وَسَادِسُهَا:
أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشُّعَرَاءِ: ٢٤] قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] يَعْنِي أَنَا أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَهُوَ يَشْرَحُ الْوَصْفَ/ فَهُوَ لَمْ يُنَازِعْ مُوسَى فِي الْوُجُودِ بَلْ طَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَصْلِ الْوُجُودِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خالق هذه السموات وَالْأَرَضِينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَنَّهُ خَالِقُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ عَجْزَهُ عَنْهَا وَيَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا لَهَا وَلَا خَالِقًا لَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ جَهْلِهِ باللَّه تَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان فلسفيا قائلا بالعلة لموجبه، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْحُلُولِيَّةِ الْمُجَسِّمَةِ. وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُ الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ فَبِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَعَدَمُ الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْهُ فِي هَذِهِ السورة أنه قال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فالسؤال هاهنا بِمَنْ وَهُوَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِمَا وَهُوَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَهُمَا سُؤَالَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْوَاقِعَةُ وَاحِدَةٌ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ سُؤَالُ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى سُؤَالِ مَا لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنِّي أَنَا اللَّه وَالرَّبُّ فَقَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا فَلَمَّا أَقَامَ مُوسَى الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُجُودِ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنَّ يُقَاوِمَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ عَدَلَ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا باللَّه لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِعِلْمِهِ بِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَشَرَعَ فِي الْمَقَامِ الصَّعْبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَاهِيَّةِ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ حَاصِلٍ لِلْبَشَرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما وَلَمْ يَقُلْ فَمَنْ إِلَهُكُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ نَفْسَهُ رَبًّا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٨] فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنَا رَبُّكَ فَلِمَ تَدَّعِي رَبًّا آخَرَ وَهَذَا الْكَلَامُ شَبِيهٌ بِكَلَامِ نَمْرُوذَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] قَالَ نَمْرُوذُ لَهُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] وَلَمْ يَكُنِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الَّتِي ذَكَرَهُمَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمَا الَّذِي عَارَضَهُ بِهِمَا نَمْرُوذُ إِلَّا في اللفظ فكذا هاهنا لَمَّا ادَّعَى مُوسَى رُبُوبِيَّةَ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْكَلَامَ وَمُرَادُهُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ لِأَنِّي رَبَّيْتُكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا موسى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ قوله:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ
[الْأَعْلَى: ١- ٣]. قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ يُعَوِّلُ عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِيبِ الْقَوَالِبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْهِدَايَةُ عبارة عن إبداع الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْخَلْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] فَالتَّسْوِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقَالَبِ وَنَفْخُ الروح إشارة/ إلى إبداع الْقُوَى وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] فَظَهَرَ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَالشُّرُوعُ فِي بَيَانِ عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ شُرُوعٌ فِي بَحْرٍ لَا سَاحِلَ لَهُ. وَلْنَذْكُرْ مِنْهُ أَمْثِلَةً قَرِيبَةً إِلَى الْأَفْهَامِ. أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّبِيعِيَّ يَقُولُ: الثَّقِيلُ هَابِطٌ وَالْخَفِيفُ صَاعِدٌ وَأَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ثِقَلًا الْأَرْضُ ثُمَّ الْمَاءُ وَأَشَدُّهَا خِفَّةً النَّارُ ثُمَّ الْهَوَاءُ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّارُ أَعْلَى الْعُنْصُرِيَّاتِ وَالْأَرْضُ أَسْفَلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَلَبَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَجَعَلَ أَعْلَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ الْعَظْمَ وَالشَّعْرَ وَهُمَا أَيْبَسُ مَا فِي الْبَدَنِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ جَعَلَ تَحْتَهُ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهَوَاءِ وَجَعَلَ تَحْتَهُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّارِ فَجَعَلَ مَكَانَ الْأَرْضِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَعْلَى وَجَعَلَ مَكَانَ النَّارِ مِنَ الْبَدَنِ الْأَسْفَلِ لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ بِتَدْبِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لَا بِاقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى عَجَائِبِ النَّحْلِ فِي تَرْكِيبِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ فِي اهْتِدَائِهَا إِلَى مَصَالِحِ أَنْفُسِهَا لَعَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِلْهَامِ مُدَبِّرٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى الْخَلَائِقِ بِمَا بِهِ قَوَامُهُمْ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَنْكُوحِ ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَيَسْتَخْرِجُونَ الْحَدِيدَ مِنَ الْجِبَالِ واللئالئ مِنَ الْبِحَارِ وَيُرَكِّبُونَ الْأَدْوِيَةَ وَالدِّرْيَاقَاتِ النَّافِعَةِ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَذَّاتِ الْأَطْعِمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا يَتَوَصَّلُونَ إِلَى كَيْفِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ بَلْ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ إِنْسَانَةً وَالْحِمَارَ حِمَارَةً وَالْبَعِيرَ نَاقَةً ثُمَّ هَدَاهُ لَهَا لِيَدُومَ التَّنَاسُلُ وَهَدَى الْأَوْلَادَ لِثَدْيِ الْأُمَّهَاتِ، بَلْ هَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَيَوَانَاتِ بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي أَعْضَائِهَا فَإِنَّهُ خَلَقَ الْيَدَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْأَخْذِ وَخَلَقَ الرِّجْلَ عَلَى تَرْكِيبٍ خَاصٍّ وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةَ الْمَشْيِ وَكَذَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَجَمِيعُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ رَبَطَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ عَلَى وُجُوهٍ يَحْصُلُ مِنِ ارْتِبَاطِهَا مَجْمُوعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. وَإِنَّمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ اتِّصَافَ كُلِّ جِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّرْكِيبَ وَالْقُوَّةَ وَالْهِدَايَةَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُشَاهِدُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُنْفَكَّةً عَنْ تِلْكَ التَّرَاكِيبِ وَالْقُوَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْجَائِزُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَبَوَاهُ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي قُدْرَةً عَلَيْهِ وَعِلْمًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْأَمْرَانِ نَائِيَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَمَالِ عَقْلِهِ يَعْجِزُ عَنْ تَغْيِيرِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ عَنْ كُتُبِ التَّشْرِيحِ لَا يُعْرَفُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَمَصَالِحِهَا إِلَّا الْقَدْرُ الْقَلِيلُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا وَتَرْتِيبِهَا مَوْجُودًا آخَرَ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجِسْمِ بِتِلْكَ الْمُؤَثِّرِيَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ فِي سِلْسِلَةِ الْحَاجَةِ/ إِلَى مَوْجُودٍ مُؤَثِّرٍ وَمُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ ثُمَّ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ إِمَّا
فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ وَالْمُدَبِّرَ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذاته وفي صفاته وإلا لا فتقر إِلَى مُدَبِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي قَادِرِيَّتِهِ وَعَالِمِيَّتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَا يَتَخَصَّصُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَجَبَ [أَنْ] يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَبَّهَ عَلَى تَقْرِيرِهَا اسْتِنَادُ الْعَالَمِ إِلَى مُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ خَاطَبَ الِاثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ رَبُّكُما ثُمَّ وَجَّهَ النِّدَاءَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ وَزِيرُهُ وَتَابِعُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لِخُبْثِهِ يَعْلَمُ الرُّتَّةَ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرَادَ اسْتِنْطَاقَهُ دُونَ أَخِيهِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فَصَاحَتِهِ وَالرُّتَّةِ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: ٥٢].
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الشَّكْلَ وَالصُّورَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْمَنْفَعَةِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ الشَّكْلَ الَّذِي يُطَابِقُ مَنْفَعَتَهُ وَمَصْلَحَتَهُ، وَقُرِئَ خَلَقَهُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ إِعْطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ارْتِبَاطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ عَلَى فِرْعَوْنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كَانَ إِثْبَاتُ الْمَبْدَأِ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنَ الظُّهُورِ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى مَا أَثْبَتُوهُ وَتَرَكُوهُ؟ فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَدَحَ فِرْعَوْنُ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا فَعَارَضَ الْحُجَّةَ بِالتَّقْلِيدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا؟ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا ظَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ/ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فَخَافَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْحُجَّةِ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ صِدْقُهُ وَفَسَادُ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَأَنْ يَشْغَلَهُ بِالْحِكَايَاتِ فَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَلَمْ يَلْتَفِتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ بَلْ قَالَ:
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ هَذَا النظم، ثم هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الرَّبِّ كَيْفَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ أَيْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا:
وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ لَا يَضِلُّ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَمَعْرِفَتِهَا وَمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَاللَّفْظُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْسَى دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّغَيُّرِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُخْطِئُ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَبِّي وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ لَا يُخْطِئُ وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرٍو أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ وَالْمَعْنَى لَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ كَوْنَهُ صَوَابًا وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الإله وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالُ أَجَابَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ مَعْنًى، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ شَأْنِ الْقُرُونِ الْأُولَى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الْإِخْبَارُ وَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَكَلَهُ إِلَى عَالِمِ الْغُيُوبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَالَةَ الْأُولَى وَهِيَ دَلَالَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَائِلَ خَاصَّةً وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ مَهْداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا مِهَادًا فِيهِمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الَّذِي أَخْتَارُهُ مِهَادًا وَهُوَ اسْمٌ وَالْمَهْدُ اسْمُ الْفِعْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَهْدُ الِاسْمُ وَالْمِهَادُ الْجَمْعُ كَالْفَرْشِ وَالْفِرَاشِ أَجَابَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ وَالْفُرُشُ فِعْلٌ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ هُمَا مَصْدَرَانِ لِمَهَّدَ إِذَا وَطَّأَ لَهُ فِرَاشًا يُقَالُ مَهَّدَ مَهْدًا وَمِهَادًا وَفَرَشَ فَرْشًا وَفِرَاشًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِي جَعَلَ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لأنه صفة لربي أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ وَهَذَا مِنْ مَظَانِّهِ وَمَجَازِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَسَدَ النَّظْمُ بِسَبَبِ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ مَهْدًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ الْعِبَادُ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا بِالْقُعُودِ وَالْقِيَامِ وَالنَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ وَجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي
[الْبَقَرَةِ: ٢٢]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سَلَكَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشعراء: ٢٠٠] أَيْ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَوَسَّطَهَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبَرَارِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَأَخْرَجْنَا نَحْنُ مَعَاشِرَ عِبَادِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ بِالْحِرَاثَةِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً تَمَّ كَلَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» انْتَقَلَ فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُطَاعِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطَاعٌ تَنْقَادُ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَمْرِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ٩٩] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فَاطِرٍ: ٢٧] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْلِ: ٦٠] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَخْرَجْنا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي/ ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ لَا يَلِيقُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لَا يَلِيقُ بِمُوسَى لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي قُدْرَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرْفُ الْمِيَاهِ إِلَى سَقْيِ الْأَرَاضِي وَأَمَّا إِخْرَاجُ النَّبَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَبَائِعِهَا فَلَيْسَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّه ابْتِدَاؤُهُ مِنْ قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لِأَنَّ الْفَاءَ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا كَلَامَ اللَّه تَعَالَى وَجَعْلُ مَا قَبْلَهُ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَلَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثُمَّ ابْتُدِئَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَيَكُونُ الَّذِي خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ الْتِفَاتًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُخْرِجُ النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فَيَكُونُ لِلْمَاءِ فِيهِ أَثَرٌ وَهَذَا بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِهِ الْخَوَاصَّ وَالطَّبَائِعَ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَزْواجاً أَيْ أَصْنَافًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُزْدَوَجَةٌ مَقْرُونَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ شَتَّى صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ جَمْعُ شَتِيتٍ كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ كَمَا يُسَمَّى بِالنَّبْتِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ يَعْنِي أَنَّهَا شَتَّى مُخْتَلِفَةُ النَّفْعِ وَالطَّعْمِ وَالطَّبْعِ بَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ وَبَعْضُهَا يَصْلُحُ لِلْبَهَائِمِ أَمَّا قَوْلُهُ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَخْرَجْنَا وَالْمَعْنَى أَخْرَجْنَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ آذِنِينَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُبِيحِينَ أَنْ تَأْكُلُوا بَعْضَهَا وَتَعْلِفُوا بَعْضَهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ كُلُوا سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٨] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَوْلُهُ: كُلُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ هَذِهِ النعم لَآياتٍ
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَنَا مِنْ نُطْفَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ أَصْلَنَا وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى مَا قَالَ:
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] لَا جَرَمَ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْنَا. الثَّانِي: أَنَّ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ النُّطْفَةِ وَدَمِ الطَّمْثِ وَهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا حَيَوَانِيٌّ أَوْ نَبَاتِيٌّ وَالْحَيَوَانِيُّ يَنْتَهِي إِلَى النَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَحْدُثُ مِنِ امْتِزَاجِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَنَا مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَنَا مَخْلُوقِينَ/ مِنَ النُّطْفَةِ.
وَالثَّالِثُ: ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ [آلِ عِمْرَانَ: ٦] خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّه يَأْمُرُ مَلَكَ الْأَرْحَامِ أَنْ يَكْتُبَ الْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالْأَرْضَ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَيَذَرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الرَّحِمِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مَخْلُوقًا مِنَ الشَّيْءِ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَأْبَاهُ.
وَالْجَوَابُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ إِزَالَةَ صِفَةِ الشَّيْءِ الْأَوَّلِ عَنِ الذَّاتِ وَإِحْدَاثَ صِفَةِ الشَّيْءِ الثَّانِي فِيهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِيهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِيها نُعِيدُكُمْ
فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْإِعَادَةُ إِلَى الْقُبُورِ حَتَّى تَكُونَ الْأَرْضُ مَكَانًا وَظَرْفًا لِكُلِّ مَنْ مَاتَ إِلَّا مَنْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهَا أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ. وَثَانِيهَا: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تُرَابًا وَطِينًا ثُمَّ نُحْيِيكُمْ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ عَذَابُ الْقَبْرِ
عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَأَنَّهُ تُرَدُّ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ عِنْدَ إِعَادَتِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ إِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى»،
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَدَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَنَافِعَ الْأَرْضِ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا لَهُمْ فِرَاشًا وَمِهَادًا يَتَقَلَّبُونَ عَلَيْهَا وَسَوَّى لَهُمْ فِيهَا مَسَالِكَ يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا كَيْفَ أَرَادُوا وَأَنْبَتَ فِيهَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ الَّتِي مِنْهَا أَقْوَاتُهُمْ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ وَهِيَ أَصْلُهُمُ الَّذِي مِنْهُ يَتَفَرَّعُونَ ثُمَّ هِيَ كِفَاتُهُمْ إِذَا مَاتُوا، وَمِنْ ثَمَّ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بِرُّوا بِالْأَرْضِ فَإِنَّهَا بِكُمْ بَرَّةٌ».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَى فِرْعَوْنَ الْآيَاتِ كُلَّهَا ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ كُلَّ الْأَدِلَّةِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَمَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا التَّوْحِيدُ فَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] وَقَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طَهَ: ٥٣] / الْآيَةَ، وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: ٢٣، ٢٤]
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالَ مَوْعِدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَبَيَّنَ الْوَقْتَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ الْقَاضِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ الْمُطَالِبُ بِالِاجْتِمَاعِ دُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدِي الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ يَوْمِ الزِّينَةِ يَقْتَضِي إِطْلَاعَ الْكُلِّ عَلَى مَا سَيَقَعُ فَتَعْيِينُهُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُحِقِّ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّ الْيَدَ لَهُ لَا الْمُبْطِلُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا التَّلْبِيسُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَوْعِدُكُمْ خِطَابٌ لِلْجَمْعِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ فِرْعَوْنَ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ لَزِمَ إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ فِرْعَوْنَ مَعَهُمَا أَوْ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ اسْتَقَامَ الْكَلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَوْمُ الزِّينَةِ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالنَّصْبِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا رُفِعَ فَعَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَعْنَى وَقْتُ مَوْعِدِكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الظَّرْفِ مَعْنَاهُ مَوْعِدُكُمْ يَقَعُ يَوْمَ الزِّينَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى مَعْنَاهُ مَوْعِدُكُمْ حَشْرُ النَّاسِ ضُحًى فَمَوْضِعُ أَنْ يَكُونُ رَفْعًا وَيَجُوزُ فِيهِ الْخَفْضُ عَطْفًا عَلَى الزِّينَةِ كَأَنَّهُ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَيَوْمَ يُحْشَرُ النَّاسِ ضُحًى فَإِنْ قِيلَ أَلَسْتُمْ قُلْتُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً [طه: ٥٨] أَنَّ التَّقْدِيرَ اجْعَلْ مَكَانَ مَوْعِدٍ لَا نُخْلِفُهُ مَكَانًا سُوًى فَهَذَا كَيْفَ يُطَابِقُهُ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الزَّمَانِ؟ قُلْنَا هُوَ مُطَابِقُ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لَفْظًا/ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمَ الزِّينَةِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مَشْهُودٍ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ الْمَكَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ يَوْمُ النَّيْرُوزِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَوْمُ سُوقٍ لَهُمْ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَإِنَّمَا قَالَ يُحْشَرَ فَإِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاشِرٍ لَهُمْ، وَقُرِئَ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ يُرِيدُ وَأَنْ تَحْشُرَ النَّاسَ يَا فِرْعَوْنُ وَأَنْ يَحْشُرَ الْيَوْمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ فِرْعَوْنَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، إِمَّا عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي تُخَاطَبُ بِهَا الْمُلُوكُ أَوْ خَاطَبَ الْقَوْمَ بِقَوْلِهِ: مَوْعِدُكُمْ وَجَعَلَ ضَمِيرَ يُحْشَرَ لِفِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا أَوْعَدَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللَّه تَعَالَى وَظُهُورُ دِينِهِ وَكَبْتُ الْكَافِرِ وَزَهُوقُ الْبَاطِلِ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ فِي الْمَجْمَعِ الْعَامِّ لِيَكْثُرَ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ وَيَشِيعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ عَيَّنَ الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ الزِّينَةِ ثُمَّ عَيَّنَ مِنَ الْيَوْمِ وَقْتًا مُعَيَّنًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وأما قَوْلُهُ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى فَاعْلَمْ أَنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ إِعْرَاضًا وَقَدْ يكون انصرافا والظاهر هاهنا أَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْصِرَافِ وَهُوَ مُفَارَقَتُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي تَوَاعَدُوا لِلِاجْتِمَاعِ [فِيهِ]، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ وَثَبَتَ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْحَقِّ وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ السَّحَرَةُ وَسَائِرُ مَنْ يَجْتَمِعُ لِذَلِكَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْآلَاتُ وَسَائِرُ مَا أَوْرَدَتْهُ السَّحَرَةُ ثُمَّ أَتى دَخَلَ تَحْتَهُ أَتَى الْمَوْضِعَ بِالسَّحَرَةِ وَبِالْقَوْمِ وَبِالْآلَاتِ قَالَ ابْنُ
الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنَّ نَجْوَاهُمْ قَالُوا: إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ إِنْ كَانَ سَاحِرًا فَسَنَغْلِبُهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَهُ أَمْرٌ. الثَّالِثُ: قَالَ وَهْبٌ لَمَّا قَالَ: وَيْلَكُمْ الْآيَةَ قَالُوا مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى مِنْ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَنَجْوَاهُمْ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [طه: ٦٣] وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ وَمِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَيْضًا وَكَانَ نَجْوَاهُمْ أَنَّهُمْ كَيْفَ يَجِبُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَجِبُ إِظْهَارُهَا فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي الْقُلُوبِ وَأَظْهَرَ لِلْعُيُوبِ وهو قول الضحاك.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ. أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: (إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ) قَالُوا: هِيَ قِرَاءَةُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ رَضِيَ اللَّه تعالى عنه وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَعَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى [الْمَائِدَةِ: ٦٩] فِي الْمَائِدَةِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النِّسَاءِ: ١٦٢] فَقَالَتْ يَا ابْنَ أَخِي هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أنه قال:
إني لأستحي أَنْ أَقْرَأَ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ، وَثَانِيهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (إِنْ هَذَانِّ) بِتَخْفِيفِ إِنَّ وَتَشْدِيدِ نون
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى | مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا |
تَزَوُّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً | دَعَتْهُ إِلَى هَابِي التُّرَابِ عَقِيمِ |
أَعْرِفُ مِنْهَا الْجِيدَ وَالْعَيْنَانَا | وَمَنْخِرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا |
وَقَالَ آخَرُ:
طَارُوا عَلَاهُنَّ فَطِرْ عَلَاهَا | وَاشْدُدْ بِمَثْنَى حَقَبٍ حَقْوَاهَا |
كَأَنَّ صَرِيفَ نَابَاهُ إِذَا مَا | أَمَرَّهُمَا صَرِيرَ الْأَخْطَبَانِ |
كَأَنَّ يَمِينَا سَحْبَلٍ وَمَصِيفَهُ | مُرَاقُ دَمٍ لَنْ يَبْرَحَ الدَّهْرُ ثَاوِيَا |
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا | قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا |
هُنَاكَ أَنْ تَبْكِي بِشَعْشَعَانِ | رَحْبِ الْفُؤَادِ طَائِلِ الْيَدَانِ |
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هاهنا بِمَعْنَى نَعَمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ علاك | وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنْهُ |
شَابَ الْمَفَارِقُ إِنْ إِنَّ مِنَ الْبِلَى | شَيْبُ الْقَذَالِ مَعَ الْعِذَارِ الْوَاصِلِ |
أَمُّ الحليس لعجوز شهر به | تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ |
خَالِي لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ | يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيُكْرَمُ الْأَخْوَالَا |
أَلَمْ تَكُنْ حَلَفْتَ باللَّه الْعَلِيِّ | أَنَّ مَطَايَاكَ لَمِنْ خَيْرِ الْمَطِيِّ |
مَرُّوا عُجَالَى فَقَالُوا كَيْفَ صَاحِبُكُمْ | فَقَالَ مَنْ سُئِلُوا أَمْسَى لَمَجْهُودَا |
وَمَا زِلْتُ مِنْ لَيْلَى لَدُنْ أَنْ عَرَفْتُهَا | لَكَالْهَائِمِ الْمُقْصَى بِكُلِّ بِلَادِ |
وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهَا لَعَمِيدُ
وَقَالَ الْمُعْتَرِضُ هَذِهِ الْأَشْعَارُ مِنَ الشَّوَاذِّ وَإِنَّمَا جَاءَتْ كَذَا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَجَلَّ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى عَنِ الضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا تَقَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِنْ وَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْخَبَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَوْصُوفِيَّةِ الْمُبْتَدَأِ بِالْخَبَرِ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْمُبْتَدَأِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَوَجَبَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِحُكْمٍ فِي مَحَلٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا يُقَالُ هَذَا مُشْكِلٌ بِمَا إِذَا دَخَلَتْ إن على المبتدأ فإن هاهنا يَجِبُ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِلٌ فِيهِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ وَاللَّامَ لِلتَّأْكِيدِ فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ لَزَيْدًا قَائِمٌ لَكُنَّا قَدْ أَدْخَلْنَا حَرْفَ التَّأْكِيدِ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَمَّا تَعَذَّرَ إِدْخَالُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا جَرَمَ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى الْخَبَرِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ حَرْفُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَانَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ زَائِلَةً فَوَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا يُقَالُ إِذَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِهِ | كَالْيَوْمِ طَالَبَنِي أَنِيقٌ أَجْرَبُ |
ضَرَبْتُ نَفْسَهُ كَانَ قَوْلُهُ نَفْسَهُ مَفْعُولًا فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَأْكِيدًا للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع هاهنا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَا لِأَنَّ تَأْكِيدَ الْمَحْذُوفِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّحْوِيُّونَ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: أم الحليس لعجوز شهر به. عَلَى أَنَّ الشَّاعِرَ أَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْخَبَرِ ضَرُورَةً فَلَوْ جَازَ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ لَمَا عَدَلَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي نِهَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ ذُهُولَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاطِلًا فَمَا أَكْثَرَ مَا ذَهَلَ الْمُتَقَدِّمُ عَنْهُ وَأَدْرَكَهُ الْمُتَأَخِّرُ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ ضَعِيفَةٌ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ بِسَبَبِ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا ضَعِيفَةً فِي الْعَمَلِ وَإِذَا ضَعُفَتْ جَازَ بَقَاءُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى إِعْرَابِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الرَّفْعُ.
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تُشْبِهُ الْفِعْلَ وَهَذِهِ الْمُشَابَهَةُ حَاصِلَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظِ فَلِأَنَّهَا تَرَكَّبَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَانْفَتَحَ آخِرُهَا وَلَزِمَتِ الْأَسْمَاءَ كَالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ وَهُوَ تَأْكِيدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالْخَبَرِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ فَقَوْلُكَ قَامَ أَفَادَ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ.
الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ الْأَفْعَالَ وَجَبَ أَنْ تُشْبِهَهَا فِي الْعَمَلِ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى الدَّوَرَانِ.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَمْ تَنْصِبِ الِاسْمَ وَتَرْفَعِ الْخَبَرَ فَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ عَامِلَةً فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ مَعًا أَوْ تَنْصِبَهُمَا مَعًا أَوْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَتَنْصِبَ الْخَبَرَ أَوْ بِالْعَكْسِ وَالْأَوَّلُ/ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ كَانَا قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِمَا مَرْفُوعَيْنِ فَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا لَمَا ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ وَلِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَرْفَعُ الِاسْمَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِرَاكِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمَّا يَرْفَعُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ فِي الْفَاعِلِ أَوَّلًا بِالرَّفْعِ وَفِي الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ فلو جعل النصب هاهنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهَا تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَخِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لَا أَصِيلَةٌ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي بَابِ الْعَمَلِ عُدُولٌ عَنِ الْأَصْلِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ عَارِضٍ.
الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي نَصْبِ الِاسْمِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ وَجَبَ جَوَازُ الرَّفْعِ أَيْضًا، وَذَلِكَ
/ وَإِنْ مَالِكٌ لَلْمُرْتَجَى إِنْ تَضَعْضَعَتْ | رَحَا الْحَرْبِ أَوْ دَارَتْ عَلَيَّ خُطُوبُ |
إِنَّ الْقَوْمَ وَالْحَيَّ الَّذِي أَنَا مِنْهُمْ | لَأَهْلُ مَقَامَاتٍ وَشَاءٍ وَجَامِلِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا أَسَرُّوهُ مِنَ النَّجْوَى حَكَى عَنْهُمْ مَا أَظْهَرُوهُ وَمَجْمُوعُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُتَابَعَةِ دِينِهِ. فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ: هذانِ لَساحِرانِ وَهَذَا طَعْنٌ مِنْهُمْ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ لِمَا أَنَّ كُلَّ طَبْعٍ سَلِيمٍ يَقْتَضِي النَّفْرَةَ عَنِ السِّحْرِ وَكَرَاهَةَ رُؤْيَةِ السَّاحِرِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ السِّحْرَ لَا بَقَاءَ لَهُ فَإِذَا اعْتَقَدُوا فِيهِ السِّحْرَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُهُ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا لِدِينِهِ وَلَا لِمَذْهَبِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ التَّنْفِيرِ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ عَنِ الْمَنْشَأِ، وَالْمَوْلِدِ شَدِيدَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا
[طه: ٥٧] وَكَأَنَّ السَّحَرَةَ تَلَقَّفُوا هَذِهِ الشُّبْهَةَ مِنْ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَعَادُوهَا. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى وَهَذَا أَيْضًا لَهُ تَأْثِيرٌ شَدِيدٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِذَا جَاءَ وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ الْمَنَاصِبِ وَالْأَشْيَاءِ الَّتِي يَرْغَبُ فِيهَا فَذَلِكَ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ فَهُمْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّرِيقَةُ الرِّجَالُ الْأَشْرَافُ الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ يُقَالُ هُمْ طَرِيقَةُ قَوْمِهِمْ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ أَيْضًا: هُوَ طَرِيقَةُ قَوْمِهِ، وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ الْآيَةَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ وَيَذْهَبَا بِأَهْلِ طَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّضُونَ الْقَوْمَ بِأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يُرِيدَانِ أَنْ يَذْهَبَا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا إسرائيل لقول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: ١٧] وَإِنَّمَا سُمُّوا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ عَدَدًا وَأَمْوَالًا وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الطَّرِيقَةَ المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرُّومِ: ٣٢] وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْجَاهِ وَالْمَنْصِبِ وَالرِّيَاسَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُثْلى مُؤَنَّثَةٌ لِتَأْنِيثِ الطَّرِيقَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ الْأَفْضَلُ بِالْأَمْثَلِ/ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَمْثَلُ: الْأَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْأَمْثَلُ الْأَوْضَحُ وَالْأَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّرْغِيبِ فِي إِبْطَالِ أَمْرِهِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنِ اجْمَعُوا يَعْنِي لَا تَدَعُوا شَيْئًا مِنْ كَيْدِهِمْ إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:
فَجَمَعَ كَيْدَهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِجْمَاعُ الْإِحْكَامُ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْخُرُوجِ مِثْلَ أَزْمَعْتُ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يُونُسَ: ٧١] قَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَكُنْ عَزْمُكُمْ كُلُّكُمْ كَالْيَدِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا تَخْتَلِفُوا ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّفَّ مَوْضِعُ الْجَمْعِ وَالْمَعْنَى ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِعِيدِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ، وَالْمَعْنَى: ائْتُوا مُصَلًّى مِنَ الْمُصَلَّيَاتِ أَوْ كَانَ الصَّفُّ عَلَمًا لِلْمُصَلَّى بِعَيْنِهِ فَأُمِرُوا بِأَنْ يَأْتُوهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ مَصْدَرًا وَالْمَعْنَى ثُمَّ ائْتُوا مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِكَيْ يَكُونَ أَنْظَمَ لِأَمْرِكُمْ وَأَشَدَّ لِهَيْبَتِكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى اعْتِرَاضٌ، يَعْنِي: وَقَدْ فَازَ مَنْ غَلَبَ فَكَانُوا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ ما يظهرونه من السحر.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
[في قوله تعالى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَوْعِدِ وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [طَه: ٦٤] صَارَ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ فَحَضَرُوا هَذَا الْمَوْضِعَ وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ
مَعْنَاهُ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا مَعَكَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ مَا مَعَنَا قَبْلَكَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ مَعَ تَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ حُسْنُ أَدَبٍ مِنْهُمْ وَتَوَاضُعٌ لَهُ، فَلَا جَرَمَ رَزَقَهُمُ اللَّه تَعَالَى الْإِيمَانَ بِبَرَكَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَابَلَ أَدَبَهُمْ بِأَدَبٍ فَقَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَلْقُوا فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ أَلْقُوا فَيَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ سِحْرٌ وَكُفْرٌ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا بِذَلِكَ تَكْذِيبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كُفْرًا. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ الْإِلْقَاءِ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَلْقَوْا وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ وَبَيْنَ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ إِيمَانًا وَإِنَّمَا الْكُفْرُ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْذِيبِ مُوسَى وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِلْقَاءِ لَا بِالْقَصْدِ إِلَى التَّكْذِيبِ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَثَانِيهَا: ذَلِكَ الْأَمْرُ كَانَ مَشْرُوطًا وَالتَّقْدِيرُ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى كَشْفِ الشُّبْهَةِ صَارَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَهَذَا كَالْمُحِقِّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ شُبْهَةً وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِذِكْرِهَا وَتَقْرِيرِهَا بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَبَقِيَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي قَلْبِهِ، وَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنِ الدِّينِ فَإِنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا وَيُزِيلَ أَثَرَهَا عَنْ قَلْبِهِ فَمُطَالَبَتُهُ بِذِكْرِ الشُّبْهَةِ لهذا الغرض تكون جائزة فكذا هاهنا. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ إِنْ أَرَدْتُمْ فِعْلَهُ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ حِسًّا لِكَيْ يَنْكَشِفَ الْحَقُّ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ كَارِهًا لِذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: ٦١] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَمْرًا لَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهِ نَاهِيًا وَآمِرًا بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَهُمْ فِي الْإِلْقَاءِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ اسْتِمَاعِ الشُّبْهَةِ عَلَى اسْتِمَاعِ الْحُجَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَذَا تَقْدِيمُ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ عَلَى إِيرَادِ الْحُجَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدْرَكَ الشُّبْهَةَ ثُمَّ لَا يَتَفَرَّغُ لِإِدْرَاكِ الْحُجَّةِ بَعْدَهُ فَيَبْقَى حِينَئِذٍ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَابَلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَدَّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى حَظِّ النَّفْسِ، فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى إِظْهَارِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَالْقَوْمُ إِنَّمَا جَاءُوا لِمُعَارَضَتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ أَنِّي بَدَأْتُ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ أَوَّلًا لَكُنْتُ كَالسَّبَبِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ السِّحْرِ وَقَصْدِ إِبْطَالِ الْمُعْجِزَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَكِنِّي أُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ يُظْهِرُونَ ذَلِكَ السِّحْرَ ثُمَّ أَنَا أُظْهِرُ الْمُعْجِزَ الَّذِي يُبْطِلُ سِحْرَهُمْ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَبَبًا لِإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما: فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مَيْلًا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَمَيْلًا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَخُيِّلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا حَيَّاتٌ وَأَنَّهَا تَسْعَى/ فخاف فلما قيل له: أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَيَّاتِهِمْ ثُمَّ أَخَذَتْ تَزْدَادُ عِظَمًا حَتَّى مَلَأَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ صَعَدَتْ وَعَلَتْ حَتَّى عَلَّقَتْ ذَنَبَهَا بِطَرَفِ الْقُبَّةِ ثُمَّ هَبَطَتْ فَأَكَلَتْ كُلَّ مَا عَمِلُوا فِي الْمَيْلَيْنِ وَالنَّاسُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ السَّحَرَةِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصَا وَحَبْلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصًا وَحَبْلٌ، وَقَالَ وَهْبٌ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعِكْرِمَةُ كانوا تسعمائة: ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا اثْنَانِ مِنْهُمْ مِنَ الْقِبْطِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَهَهُمْ فِرْعَوْنُ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاوُتَ وَاقِعٌ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَالْأَقْوَالُ إِذَا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ فِي إِذَا هَذِهِ إِذَا الْمُفَاجَأَةُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا أَنَّهَا إِذَا الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الطَّالِبَةُ نَاصِبًا لَهَا وَجُمْلَةً تُضَافُ إِلَيْهَا خُصَّتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ تَكُونَ نَاصِبًا فِعْلًا مَخْصُوصًا وَهُوَ فِعْلُ الْمُفَاجَأَةِ وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا غَيْرُ فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ تَخَيُّلِ سَعْيِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ وَهَذَا تَمْثِيلٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى مُفَاجَأَتِهِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُخَيِّلَةً إِلَيْهِ السَّعْيَ اه-.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ عُصِيُّهُمْ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْكَسْرُ إِتْبَاعٌ نَحْوَ دُلِيٌّ وَدِلِيٌّ وَقُسِيٌّ وَقِسِيٌّ وَقُرِئَ تُخَيَّلُ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَقُرِئَ بِالضَّمِّ بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْكَيْدِ وَالسِّحْرِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي سِحْرِهِمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي صَارَ يُخَيَّلُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَسْعَى كَسَعْيِ مَا يَكُونُ حَيًّا مِنَ الْحَيَّاتِ لَا أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ وَيُقَالُ إِنَّهُمْ حَشَوْهَا بِمَا إِذَا وَقَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ يَضْطَرِبُ وَيَتَحَرَّكُ. وَلَمَّا كَثُرَتْ وَاتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَمَنْ رَآهَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُمْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَعَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَخَيَّلَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَافِ: ١١٦] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ وَالْأَدِلَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ فَلَوْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ الْمَوْجُودَ عَنِ الْخَيَالِ الْفَاسِدِ/ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْمَقْصُودُ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ أَنَّهُ شَاهَدَ شَيْئًا لَوْلَا عِلْمُهُ بِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ لَظَنَّ فِيهَا أَنَّهَا تَسْعَى، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى فَالْإِيجَاسُ اسْتِشْعَارُ الْخَوْفِ أَيْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا مَزِيدَ فِي إِزَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى مَا فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ كَالْعَصَا وَالْيَدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَيَّرَهَا كَمَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَعْطَاهُ الِاقْتِرَاحَاتِ الثَّمَانِيَةَ وَذَكَرَ مَا أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ الثَّمَانِيَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] فَمَعَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْكَثِيرَةِ كَيْفَ وَقَعَ الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا طُبِعَ
وَرَابِعُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ فَلَمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الْوَحْيُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَبْقَى فِي الْخَجَالَةِ. وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَبْطَلَ سِحْرَ أُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ فَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ قَدْ أَعَدَّ أَقْوَامًا آخَرِينَ فَيَأْتِيهِ بِهِمْ فَيَحْتَاجُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى إِبْطَالِ سِحْرِهِمْ وَهَكَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَقْطَعٌ وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْأَمْرُ وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ ذَلِكَ الْخَوْفَ بِالْإِجْمَالِ أَوَّلًا وَبِالتَّفْصِيلِ ثَانِيًا، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ خَوْفَهُ كَانَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَظْهَرُ لِلْقَوْمِ فَآمَنَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَفِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. أَحَدُهَا: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّأْكِيدِ وَهِيَ إِنَّ. وَثَانِيهَا: تَكْرِيرُ الضَّمِيرِ. وَثَالِثُهَا: لَامُ التَّعْرِيفِ. وَرَابِعُهَا: لَفْظُ الْعُلُوِّ وَهُوَ الْغَلَبَةُ الظَّاهِرَةُ وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَقَوْلُهُ: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقُلْ وَأَلْقِ عَصَاكَ. وَالْجَوَابُ: جَازَ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرًا لَهَا أَيْ لَا تُبَالِ بِكَثْرَةِ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ وَأَلْقِ الْعُوَيْدَ الْفَرْدَ الصَّغِيرَ الْجِرْمِ الَّذِي بِيَمِينِكَ فَإِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يَتَلَقَّفُهَا عَلَى وَحْدَتِهِ وَكَثْرَتِهَا وَصِغَرِهِ وَعِظَمِهَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لَهَا أَيْ لَا تَحْتَفِلْ بِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَثِيرَةِ فَإِنَّ فِي يَمِينِكَ شَيْئًا أَعْظَمُ مِنْهَا كُلِّهَا وَهَذِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدَهَا فَأَلْقِهِ يَتَلَقَّفْهَا بِإِذْنِ اللَّه تعالى ويمحقها، أما قوله: تَلْقَفْ [إلى قوله حَيْثُ أَتى] أَيْ فَإِنَّكَ إِذَا أَلْقَيْتَهَا فَإِنَّهَا تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَلَقَّفْ بِالْجَزْمِ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ فَأَلْقِهَا تَتَلَقَّفْهَا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَلَقَّفُ بِالتَّشْدِيدِ وَضَمِّ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى الْحَالِ أَيْ أَلْقِهَا مُتَلَقِّفَةً أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْ تَأْخُذْ بِفِيهَا ابْتِلَاعًا بِسُرْعَةٍ وَاللَّقْفُ وَالتَّلَقُّفُ جَمِيعًا يرجعان إلى هذا المعنى، وصنعوا هاهنا بمعنى اختلفوا وَزَوَّرُوا وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْكَذِبِ: هُوَ كَلَامٌ مَصْنُوعٌ وَمَوْضُوعٌ وَصِحَّةُ قَوْلِهِ: تَلْقَفْ أَنَّهُ إِذَا أَلْقَى ذَلِكَ وَصَارَتْ حَيَّةً تَلَقَّفَتْ/ مَا صَنَعُوا وفي قوله:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً [طه: ٧٠] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْقَى الْعَصَا وَصَارَتْ حَيَّةً وَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوهُ وَفِي التَّلَقُّفِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا أَلْقَوْهُ تَلَقَّفَتْهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عِظَمِ جَسَدِهَا وَشِدَّةِ قُوَّتِهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ السَّحَرَةِ أَنَّهُمْ عِنْدَ التَّلَقُّفِ أَيْقَنُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: ظُهُورُ حَرَكَةِ الْعَصَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِالْحِيلَةِ. وَثَانِيهَا: زِيَادَةُ عِظَمِهِ «١» عَلَى وَجْهٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْحِيلَةِ. وَثَالِثُهَا: ظُهُورُ الْأَعْضَاءِ عَلَيْهِ «٢» مِنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالْفَمِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْحِيلَةِ. وَرَابِعُهَا: تَلَقُّفُ جَمِيعِ مَا أَلْقَوْهُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْحِيلَةِ. وَخَامِسُهَا: عَوْدُهُ «٣» خَشَبَةً صَغِيرَةً كَمَا كَانَتْ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْحِيلَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي مَعَكَ يَا مُوسَى مُعْجِزَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَالَّذِي مَعَهُمْ تَمْوِيهَاتٌ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ
تَلْقَفْ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ... قالَ هِيَ... أَهُشُّ بِها... وَلِيَ فِيها... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي).
(٢) الصواب (عظمها) و (عليها) و (عودها) لأن العصي مؤنثة وقد وردت في القرآن كذلك مؤنثة. قال تعالى:
تَلْقَفُ... وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ... قالَ هِيَ... أَهُشُّ بِها... وَلِيَ فِيها... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي). [.....]
(٣) الصواب (عظمها) و (عليها) و (عودها) لأن العصي مؤنثة وقد وردت في القرآن كذلك مؤنثة. قال تعالى:
تَلْقَفُ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ... قالَ هِيَ... أَهُشُّ بِها... وَلِيَ فِيها... قالَ أَلْقِها وعلى فرض عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ فإن التأنيث أولى. (الصاوي).
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ وَحَّدَ السَّاحِرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ لَا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ فَلَوْ جَمَعَ تُخِيَّلَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَدَدُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أَيْ هَذَا الْجِنْسَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ نَكَّرَ أَوَّلًا ثُمَّ عَرَّفَ ثَانِيًا. الْجَوَابُ: كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي أَتَوْا بِهِ قِسْمٌ وَاحِدٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ وَجَمِيعُ أَقْسَامِ السِّحْرِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ بِالسِّحْرِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ السِّحْرِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْجَوَابُ: الْكَلَامُ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ واللَّه أعلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْقَى مَا فِي يَمِينِهِ وَصَارَ حَيَّةً تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا وَظَهَرَ الْأَمْرُ فَخَرُّوا عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَارِجًا عَنْ صِنَاعَتِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ الْبَتَّةَ وَيُقَالُ: قَالَ رَئِيسُهُمْ كُنَّا نُغَالِبُ النَّاسَ بِالسِّحْرِ وَكَانَتِ الْآلَاتُ تَبْقَى عَلَيْنَا لَوْ غَلَبَنَا فَلَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا فَأَيْنَ مَا أَلْقَيْنَاهُ فَاسْتَدَلُّوا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ عَلَى الصَّانِعِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ وَبِظُهُورِهَا عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَوْنَهُ رَسُولًا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ تَابُوا وَآمَنُوا وَأَتَوْا بِمَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْخُضُوعِ وَهُوَ السُّجُودُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أنهم أجبروا على السجود إلا لَمَا كَانُوا مَحْمُودِينَ بَلِ التَّأْوِيلُ فِيهِ مَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَهُوَ أَنَّهُمْ مِنْ سُرْعَةِ مَا سَجَدُوا كَأَنَّهُمْ أُلْقُوا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا أَعْجَبَ أَمْرَهُمْ قَدْ أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ لِلْكُفْرِ والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بَعْدَ سَاعَةٍ لِلشُّكْرِ وَالسُّجُودِ. فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بين الإلقاءين،
وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَرَأَوْا ثَوَابَ أَهْلِهَا.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لَمَّا خَرُّوا سُجَّدًا أَرَاهُمُ اللَّه فِي سُجُودِهِمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَاهُمْ عِيَانًا لَصَارُوا مُلْجَئِينَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا [طه: ٧٣]. وَجَوَابُهُ: لَمَّا جَازَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَطْعِهِ بِكَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ السَّحَرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تُنَبِّهُ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ وَنَفَاذِ الْقَضَاءِ الْإِلَهِيِّ وَقَدَرِهِ فِي جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ كَانَتْ بِمَرْأًى مِنَ الْكُلِّ وَمَسْمَعٍ فَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا جَلِيًّا ظَاهِرًا وَهُوَ أَنَّهُ حَدَثَتْ أُمُورٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا الْخَلْقُ، وَإِمَّا غَيْرُهُمْ. وَالْأَوَّلُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ كُلَّ
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: ٢٤] وَالْإِلَهِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] فَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقُولُ:
إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي لَا بِغَيْرِي فَلِقَطْعِ هَذِهِ التُّهْمَةِ اخْتَارُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي رُبُوبِيَّتَهُ لِمُوسَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: ١٨] فَالْقَوْمُ لَمَّا احْتَرَزُوا عَنْ إِيهَامَاتِ فِرْعَوْنَ لَا جَرَمَ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى قَطْعًا لِهَذَا الْخَيَالِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّهُمَا بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةِ لَا جَرَمَ قَالُوا: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاهَدَ مِنْهُمُ السُّجُودَ وَالْإِقْرَارَ خَافَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ سَائِرِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ فَفِي الْحَالِ أَلْقَى شُبْهَةً أُخْرَى فِي النَّبِيِّ فَقَالَ:
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذَا الْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شُبْهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا:
قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ غَيْرُ جَائِزٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْخَوَاطِرِ، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ فِي الْحَالِ: آمَنْتُمْ لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَكُمْ لَيْسَ عَنِ الْبَصِيرَةِ بَلْ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ يَعْنِي أَنَّكُمْ تَلَامِذَتُهُ فِي السِّحْرِ فَاصْطَلَحْتُمْ عَلَى أَنْ تُظْهِرُوا الْعَجْزَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، ثُمَّ بَعْدَ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّهْدِيدِ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَنْفِيرًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قُرِئَ لَأَقْطَعَنَّ وَلَأَصْلِبَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُضْوَيْنِ خِلَافُ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا يَدٌ وَذَاكَ رِجْلٌ وَهَذَا يَمِينٌ وَذَاكَ شِمَالٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ خِلافٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَأُقَطِّعَنَّهَا مُخْتَلِفَاتٍ لِأَنَّهَا إِذَا خَالَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَقَدِ اتَّصَفَتْ بِالِاخْتِلَافِ ثُمَّ قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَشَبَّهَ تَمَكُّنَ الْمَصْلُوبِ فِي الجذع يتمكن الشَّيْءِ الْمُوعَى فِي وِعَائِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَالَّذِي يُقَالُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى فَضَعِيفٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٦]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
[في قوله تعالى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله خَيْرٌ وَأَبْقى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى تَهْدِيدَ فِرْعَوْنَ لِأُولَئِكَ حَكَى جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْيَقِينِ التَّامِّ وَالْبَصِيرَةِ الْكَامِلَةِ لَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْهُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَعَلَ بِهِمْ مَا أَوْعَدَهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ جَوَابًا لِمَا قَالَهُ وَبَيَّنُوا الْعِلَّةَ وَهِيَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَيِّنَاتٌ وَأَدِلَّةٌ، وَالَّذِي يَذْكُرُهُ فِرْعَوْنُ مَحْضُ الدُّنْيَا، وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَضَارُّهَا لَا تُعَارِضُ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ وَمَضَارَّهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي فَطَرَنا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَنْ نُؤْثِرَكَ يَا فِرْعَوْنُ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا أَيْ وَعَلَى طَاعَةِ الَّذِي فَطَرَنَا وَعَلَى عِبَادَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا عَلَى الْقَسَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَتَى أَصَرُّوا عَلَى الْإِيمَانِ فَعَلَ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ فَقَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ لَكِنْ أَظْهَرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ لَا يُزِيلُهُمُ الْبَتَّةَ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعَمَّا عَرَفُوهُ مِنَ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، ثُمَّ بَيَّنُوا مَا لِأَجْلِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِمِ احْتِمَالُ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا وقرئ: (نقضي هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وَوَجْهُهَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ فَاتُّسِعَ فِي الظَّرْفِ بِإِجْرَائِهِ مُجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِكَ: فِي صُمْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صِيمَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَضَاءَكَ وَحُكْمَكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ
دَعْوَةُ السُّلْطَانِ إِكْرَاهٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ دَعْوَةَ السُّلْطَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خَوْفٌ لَمْ تَكُنْ إِكْرَاهًا، ثُمَّ قَالُوا: وَاللَّهُ خَيْرٌ ثَوَابًا لِمَنْ أَطَاعَهُ. وَأَبْقى عِقَابًا لِمَنْ عَصَاهُ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: ٧١]. قَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّه الْقَوْمُ كُفَّارٌ وَهُمْ أَشَدُّ الْكَافِرِينَ كُفْرًا ثَبَتَ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِيمَانُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَلَمْ يَتَعَاظَمْ عِنْدَهُمْ أَنْ قَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى واللَّه إِنَّ أَحَدَكُمُ الْيَوْمَ لَيَصْحَبُ الْقُرْآنَ سِتِّينَ عَامًا ثُمَّ إِنَّهُ يَبِيعُ دِينَهُ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ، ثُمَّ خَتَمُوا هَذَا الْكَلَامَ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا فِي الْمُجْرِمِينَ: / إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ عَلَى وَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ قَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَكُلُّ مُجْرِمٍ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً وَكَلِمَةُ مَنْ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩] وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ لَا يَكُونُ بِهَذَا الْوَصْفِ،
وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهَذَا الْمُعْتَرِضُ كَأَنَّهُ بَنَى هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى مَذْهَبِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ سَاقِطٌ، قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ قَالَ تَعَالَى:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٢] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُقَالُ: «الْقُرْآنُ مُتَوَاتِرٌ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ». وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ ذَلِكَ يُفِيدُ الظَّنَّ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ بَلْ مِنَ الاعتقادات،
فَإِنْ قِيلَ: عِقَابُ الْمَعْصِيَةِ يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَةِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ثَوَابُ الْإِيمَانِ يَدْفَعُ عِقَابَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَعْنُهُ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عليه. قلنا: أما اللعن الغير جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَأَمَّا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْمِحْنَةِ كَمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ وَقَدْ تَكُونُ/ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ
[الْمَائِدَةِ: ٣٨] فاللَّه تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إقامة الحد عليه عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ الثَّوَابُ كَمَا قُلْنَا. فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ أَوْلَى بِإِزَالَةِ ثَوَابِ الطَّاعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِدَفْعِ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ الطَّارِئَةِ. هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَعِيدِ قُلْنَا حَاصِلُ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ صَارَ مُعَارِضًا لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ، فَلِمَ كَانَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى السَّارِقِ وَغَيْرِ السَّارِقِ، فَالسَّارِقُ يَنْقَسِمُ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَإِلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا. ثُمَّ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ قَطْعِيَّةٌ بَلْ ظَنِّيَّةٌ وَمَسْأَلَتُنَا قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَقَالُوا: الْجِسْمُ إِنَّمَا يَأْتِي رَبَّهُ لَوْ كَانَ الرَّبُّ فِي الْمَكَانِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ إِتْيَانَهُمْ مَوْضِعَ الْوَعْدِ إِتْيَانًا إِلَى اللَّه مَجَازًا كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصَّافَّاتِ: ٩٩].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْجِسْمُ الْحَيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى إِمَّا حَيًّا أَوْ يَصِيرُ مَيِّتًا فَخُلُوُّهُ عَنِ الْوَصْفَيْنِ مُحَالٌ، فَمَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ بِأَسْوَأِ حَالٍ لَا يَمُوتُ مَوْتَةً مُرِيحَةً وَلَا يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ:
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ الصَّالِحَاتِ. وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَا مُمْكِنٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَتَى رَبَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَسَائِرُ الدَّرَجَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ عَالِيَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِمْ. مَا هُمْ إِلَّا الْعُصَاةُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَنْ قَالَ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَثُرَ مُسْتَجِيبُوهُ. فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى تَمْيِيزَهُمْ مِنْ طَائِفَةِ فِرْعَوْنَ وَخَلَاصَهُمْ فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ لَيْلًا، وَالسُّرَى اسْمٌ لِسَيْرِ اللَّيْلِ وَالْإِسْرَاءُ مِثْلُهُ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ لَيْلًا، قُلْنَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ لَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْعَدُوِّ فَلَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ اسْتِكْمَالِ مُرَادِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ عَائِقًا عَنْ طَلَبِ فِرْعَوْنَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَثَالِثُهَا: لِيَكُونَ إِذَا تَقَارَبَ الْعَسْكَرَانِ لَا يَرَى عَسْكَرُ مُوسَى عَسْكَرَ فِرْعَوْنَ فَلَا يَهَابُوهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ فَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبِنَ عَمِلَهُ. وَالثَّانِي: بَيِّنْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ بِالضَّرْبِ بِالْعَصَا وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا حَتَّى يَنْفَلِقَ، فَعَدَّى الضَّرْبَ إِلَى الطَّرِيقِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِضَرْبِ الطَّرِيقِ جَعْلُ الطَّرِيقِ بِالضَّرْبِ يَبَسًا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ أَسْبَابِ الْأَمْنِ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَبَسًا قُرِئَ يَابِسًا وَيَبْسًا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِ الْبَاءِ فَمَنْ قَالَ: يَابِسًا جَعَلَهُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ وَمَنْ قَالَ يَبَسًا بِتَحْرِيكِ الْبَاءِ فَالْيَبَسُ وَالْيَابِسُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى طَرِيقًا أَيْبَسَ. وَمَنْ قَالَ: يَبْسًا بِتَسْكِينِ الْبَاءِ فَهُوَ مُخَفَّفٌ عَنِ الْيَبْسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِ وَحَلٌ وَلَا نَدَاوَةٌ فَضْلًا عَنِ الْمَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أَيْ لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ فَإِنِّي أَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ بِالتَّأْخِيرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُ: تَخافُ رَفَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِكَ غَيْرُ خَائِفٍ وَلَا خَاشٍ. وَالثَّانِي: عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ أَنْتَ لَا تَخَافُ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا تَخَافُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [الْبَقَرَةِ: ٤٨] أَيْ لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهْيٌ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: جَعَلَهُ جَوَابَ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَضْرِبْ لَا تَخَفْ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَخْشى ثَلَاثَةَ «١» أَوْجُهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَأْنِفَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأَنْتَ لَا تَخْشَى أَيْ وَمِنْ شَأْنِكَ أَنَّكَ آمِنٌ لَا تَخْشَى. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا تَكُونَ الْأَلِفُ هِيَ الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ وَلَكِنْ زَائِدَةٌ لِلْإِطْلَاقِ مِنْ أَجْلِ الْفَاصِلَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧] وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: ١٠]. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
[وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ «٢» ] | كَأَنْ لَمْ تَرَيْ قَبْلِي أسيرا يمانيا |
(٢) الشعر لمالك بن الريب وقد وضعت صدره بين معكفين لأنه ليس في الأصول.
[طه: ٩٤] أَسْرَى بِعَبْدِهِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُرِئَ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) أَيْ وَمَعَهُ جُنُودُهُ وَقُرِئَ: بِجُنُودِهِ وَمَعْنَاهُ أَلْحَقَ جُنُودَهُ بِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَعَهُمْ أَمَّا قَوْلُهُ: فَغَشِيَهُمْ فَالْمَعْنَى: عَلَاهُمْ وَسَتَرَهُمْ وَمَا غَشِيَهُمْ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ أَيْ غَشِيَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَقُرِئَ: (فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) وَفَاعِلُ غَشَّاهُمْ إِمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ مَا غَشِيَهُمْ أَوْ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَ جُنُودَهُ وَتَسَبَّبَ فِي هَلَاكِهِمْ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى فَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهِ وَقَالَ لَوْ كَانَ الضَّلَالُ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُمْ وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَمَّهُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ ذَمَّ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ غَيْرَ فَاعِلٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ الذَّمَّ وَقَوْلُهُ: وَما هَدى تَهَكَّمَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غَافِرٍ: ٢٩] وَلْنَذْكُرِ الْقِصَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَبَاحِثِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى أَنْ يَقْطَعَ بِقَوْمِهِ الْبَحْرَ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْحُلِيَّ وَالدَّوَابَّ لِعِيدٍ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَيِّفٌ لَيْسَ فِيهِمُ ابْنُ سِتِّينَ وَلَا عِشْرِينَ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَخْرُجُوا بِعِظَامِهِ مَعَهُمْ مِنْ مِصْرَ فَلَمْ يَخْرُجُوا بِهَا فَتَحَيَّرَ الْقَوْمُ حَتَّى دَلَّتْهُمْ عَجُوزٌ عَلَى مَوْضِعِ الْعِظَامِ فَأَخَذُوهَا فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْعَجُوزِ:
احْتَكِمِي فَقَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ هَجَمُوا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ وَامْرَأَةٍ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا عَنْزٌ فَذَبَحُوهَا لَهُمَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا سَمِعْتَ بِرَجُلٍ قَدْ ظَهَرَ بِيَثْرِبَ فَأْتِهِ فَلَعَلَّ اللَّه يَرْزُقُكَ مِنْهُ خَيْرًا، فَلَمَّا سَمِعَ بِظُهُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ عَرَفْتُكَ فقال له: احتكم، فقال: ثمانون ضائنة فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَقَالَ لَهُ: «أَمَا إِنَّ عَجُوزَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرٌ مِنْكَ» وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَلْفُ أَلْفٍ وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى الْجَنْبَيْنِ وَالْقَلْبِ فَلَمَّا انتهى موسى إلى البحر قال:
هاهنا أُمِرْتُ ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْبَحْرِ: انْفَرِقْ فَأَبَى، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ادْخُلُوا فِيهِ فَقَالُوا: كَيْفَ وَأَرْضُهُ رَطْبَةٌ فَدَعَا اللَّه فَهَبَّتْ عَلَيْهِ الصَّبَا فَجَفَّتْ فَقَالُوا:
نَخَافُ الْغَرَقَ فِي بَعْضِنَا فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ كُوًى حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ دَخَلُوا حَتَّى جَاوَزُوا الْبَحْرَ فَأَقْبَلَ فِرْعَوْنُ إِلَى تِلْكَ الطُّرُقِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: إِنَّ مُوسَى قَدْ سَحَرَ الْبَحْرَ فَصَارَ كَمَا تَرَى وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَصَارَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَأَبْصَرَ الْحِصَانُ الْفَرَسُ الْحِجْرَ فَاقْتَحَمَ بِفِرْعَوْنَ عَلَى أَثَرِهَا وَصَاحَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي النَّاسِ/ الْحَقُوا الْمَلِكَ حَتَّى إِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ وَكَادَ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ الْتَقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَفْقَةَ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا هَذَا يَا مُوسَى؟
قَالَ: قَدْ أَغْرَقَ اللَّه فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَرَجَعُوا لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ اللَّه أَنْ يُخْرِجَهُمْ لَنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا فَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ وَأَصَابُوا مِنْ سِلَاحِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قال: يا
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَفِي الْقِصَّةِ أَبْحَاثٌ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ حَصَلَ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا يَابِسًا يَتَهَيَّأُ طُرُوقُهُ وَبَقِيَ الْمَاءُ قَائِمًا بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالطَّرِيقِ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْجَبَلُ. فَأَخَذَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ حَصَلَ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَخْبَارُ وَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشُّعَرَاءِ: ٦٣] وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ طُرُقٌ حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ الْقَائِمُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي ظَاهِرُ قوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الطَّرِيقَ الْوَاحِدَ وَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الطُّرُقِ نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي:
رُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمُ الطَّرِيقَ وَبَيَّنَهَا لَهُمْ تَعَنَّتُوا وَقَالُوا:
نُرِيدُ أَنْ يَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا
وَهَذَا كَالْبَعِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَبْصَرُوا مَجِيءَ فِرْعَوْنَ صَارُوا فِي نِهَايَةِ الْخَوْفِ وَالْخَائِفُ إِذَا وَجَدَ طَرِيقَ الْفِرَارِ وَالْخَلَاصِ كَيْفَ يَتَفَرَّغُ لِلتَّعَنُّتِ الْبَارِدِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَاقِلًا بَلْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الدَّهَاءِ فَكَيْفَ اخْتَارَ إِلْقَاءَ نَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ انْفِلَاقَ الْبَحْرِ لَيْسَ بِأَمْرِهِ فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى الرَّمَكَةِ فَتَبِعَهُ فَرَسُ فِرْعَوْنَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ خَوْضُ الْمَلِكِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُقَدَّمًا عَلَى خَوْضِ جَمِيعِ الْعَسْكَرِ وَمَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الدُّخُولِ كَالْمَجْبُورِ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ خَوْفًا وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْإِمْسَاكِ فِي أَنْ لَا يَدْخُلَ وَأَيْضًا فَأَيُّ حَاجَةٍ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَيَرْمِيَهُ فِي الْمَاءِ ابْتِدَاءً، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَمَرَ مُقَدِّمَةَ عَسْكَرِهِ بِالدُّخُولِ فَدَخَلُوا وَمَا غَرِقُوا فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ فَلَمَّا دَخَلَ الْكُلُّ أَغْرَقَهُمُ اللَّه تَعَالَى.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي نَقَلَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدُسُّهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِيمَانِ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الَّذِي
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَّمَ الْبَحْرَ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ لِي لِأَعْبُرَ عَلَيْكَ، فَقَالَ الْبَحْرُ: لَا يَمُرُّ عَلَيَّ رَجُلٌ عَاصٍ.
فَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أُصُولِنَا لِأَنَّ عِنْدَنَا الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْحَالِ لَا على لسان المقال. واللَّه أعلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْعَمَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِزَالَةَ الْمَضَرَّةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيصَالَ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً مِنْ إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلِهَذَا بَدَأَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ كُلَّهَا بِالتَّاءِ إِلَّا قَوْلَهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى فَإِنَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَوَاعَدْنَاكُمْ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَوَاعَدْتُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا جَاوَزَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ قَالُوا لَهُ: أَلَيْسَ وَعَدْتَنَا أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْ رَبِّنَا بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ بَلَى، ثُمَّ تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ لِيَأْتِيَهُمْ بِالْكِتَابِ وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ انْطَلَقَ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَواعَدْناكُمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَاعَدَ مُوسَى أَنْ يُؤْتِيَهُ التَّوْرَاةَ لِأَجْلِهِمْ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا قَالَ: وَاعَدْنَاكُمْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَلِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَلَا يَسَارٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ طُورَ سَيْنَاءَ عَنْ/ يَمِينِ مَنِ انْطَلَقَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ وَقُرِئَ الْأَيْمَنِ بالجر على الجوار نحو حجر ضَبٍّ خَرِبٍ وَانْتِفَاعُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِمْ وَفِيهَا شَرْحُ دِينِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى عَلَى الطُّورِ حَصَلَ لِلْقَوْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كُلُوا لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَةِ: ٢].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الطَّيِّبَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اللَّذَائِذُ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ. وَالثَّانِي:
وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ الْحَلَالُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَمَسَّهُ يَدُ الْآدَمِيِّينَ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَعْنًى مُشْتَرَكًا. وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تَطْغَوْا، أَيْ لَا يَظْلِمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ بِأَنْ تَتَجَاوَزُوا حَدَّ الْإِبَاحَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أَيْ لَا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي على مخالفتي ولا تعرضوا عن الشُّكْرِ وَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحُلَّ وَمَنْ يَحْلُلْ كِلَاهُمَا بِالضَّمِّ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّه فَيَحِلَّ بِالْكَسْرِ وَمَنْ يَحْلُلْ بِالرَّفْعِ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْكَسْرِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ أَمَّا مَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ الْوُجُوبُ مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦] وَالْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى النُّزُولِ وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوى أَيْ شَقِيَ وَقِيلَ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْهَاوِيَةِ، يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي هَوِيًّا إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ.
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: ٤٧] وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي إِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يُوسُفَ: ٩٢] وَأَمَّا موسى عليه السلام ففي قصة القبطي: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي [الأعراف: ١٥١] وَأَمَّا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص: ٢٤] أَمَّا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ص: ٣٥] وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: ١١٨] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فقول: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] وَأَمَّا الْأُمَّةُ فقوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا [الحشر: ١٠] واعلم أن بسط الكلام هاهنا أَنْ نُبَيِّنَ أَوَّلًا حَقِيقَةَ الْمَغْفِرَةِ ثُمَّ نَتَكَلَّمَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا وَغَفُورًا وَغَفَّارًا ثُمَّ نَتَكَلَّمَ فِي أَنَّ مَغْفِرَتَهُ عَامَّةٌ ثُمَّ نُبَيِّنَ أَنَّ مَغْفِرَتَهُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَيْفَ تُعْقَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُمْ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الذَّنْبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ يَقْبُحُ مِنَ اللَّه عَذَابُهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّجَاوُزُ عَنْهُمَا وَتَرْكُ الْقَبِيحِ لَا يُسَمَّى غُفْرَانًا فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْغُفْرَانُ إِلَّا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْغُفْرَانَ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَجْمَعَ أُمُورًا أَرْبَعَةً: التَّوْبَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالِاهْتِدَاءُ، قُلْنَا: إِنَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ثُمَّ أَذْنَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ تَائِبًا وَمُؤْمِنًا وَآتِيًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمُهْتَدِيًا وَمَعَ ذَلِكَ يكون مذنبا فحينئذ يستقيم كلامنا، وهاهنا نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ أَسْمَاءٌ ثَلَاثَةٌ: الظَّالِمُ وَالظَّلُومُ وَالظَّلَّامُ. فَالظَّالِمُ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: ٣٢] وَالظَّلُومُ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الْأَحْزَابِ: ٧٢] وَالظَّلَّامُ إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وللَّه فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اسْمٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ ظَالِمًا فَأَنَا غَافِرٌ وَإِنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأَنَا غَفُورٌ، وَإِنْ كُنْتَ ظَلَّامًا فَأَنَا غَفَّارٌ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: ٨٢].
المسألة التاسعة: كثير اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اهْتَدى وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ اهْتَدَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ وَالْوُجُوهُ الْمُلَخَّصَةُ فِيهِ
الْإِتْيَانُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا قَدْ يَتَّفِقُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا صُعُوبَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا الصُّعُوبَةُ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اهْتَدى أَيْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِهِدَايَةِ اللَّه وَتَوْفِيقِهِ وَبَقِيَ مُسْتَعِينًا باللَّه فِي إِدَامَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ الِاعْتِقَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ إِشَارَةٌ إِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالطَّرِيقَةِ فِي لِسَانِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ انْكِشَافُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَقِيقَةِ فِي/ لِسَانِ الصُّوفِيَّةِ فَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ هُمَا الْمُرَادَتَانِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اهْتَدى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ التَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ ثَانِيًا وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ للمعطوف عليه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْمَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمَكَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَقَوْلِهِ: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَافِ: ١٤٢] يُرِيدُ الْمِيقَاتَ عِنْدَ الطُّورِ وَعَلَى الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَما أَعْجَلَكَ اسْتِفْهَامٌ وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. الْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْكَارٌ فِي صِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا كَانَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ مَعْصِيَةً فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَا كَانَ مَمْنُوعًا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ غَيْرَ جَائِزٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَجَدَ نَصًّا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِاجْتِهَادِهِ تَقَدَّمَ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فَاسْتَوْجَبَ الْعِتَابَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ: وَعَجِلْتُ وَالْعَجَلَةُ مَذْمُومَةٌ. وَالْجَوَابُ: إِنَّهَا مَمْدُوحَةٌ فِي الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٣].
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: لِتَرْضى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الرِّضَا للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ تَجَدُّدُ صِفَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْآخَرُ أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الرِّضَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ رَاضِيًا عَنْ مُوسَى لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَاخِطًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الْجَوَابُ: الْمُرَادُ تَحْصِيلُ دَوَامِ الرِّضَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمِيعَادِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي/ عَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْجِيلًا ثُمَّ ظَنَّ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ رِضَاهُ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَجْهَلِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلِيمِ اللَّه تَعَالَى. وَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ وَأَخْطَأَ فِيهِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: إِلَيْكَ يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه فِي الْجِهَةِ لِأَنَّ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. الْجَوَابُ: تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ فِي الْجَبَلِ فَالْمُرَادُ إِلَى مَكَانِ وَعْدِكَ.
السؤال السابع: ما أَعْجَلَكَ سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ فَكَانَ جَوَابُهُ اللَّائِقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: طَلَبْتُ زِيَادَةَ رِضَاكَ وَالشَّوْقَ إِلَى كَلَامِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي فَغَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ سُؤَالَ اللَّه تَعَالَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ نَفْسِ الْعَجَلَةِ. وَالثَّانِي: السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ التَّقَدُّمِ فَكَانَ أَهَمُّ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجَوَابِ هَذَا الثَّانِي فَقَالَ: لَمْ يُوجَدْ مِنِّي إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ لَا يُحْتَفَلُ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ سَبَقْتُهُ إِلَّا تَقَدُّمٌ يَسِيرٌ يَتَقَدَّمُ بِمِثْلِهِ الْوَفْدُ عَنْ قَوْمِهِمْ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِجَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ الْعَجَلَةِ فَقَالَ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ هَيْبَةِ عِتَابِ اللَّه تَعَالَى مَا وَرَدَ ذَهَلَ عَنِ الْجَوَابِ الْمُنْطَبِقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى حُدُودِ الْكَلَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِحُضُورِ الْمِيقَاتِ مَعَ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَوْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ النُّقَبَاءُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ قَدِ اخْتَارَهُمُ اللَّه تَعَالَى لِيَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الطُّورِ فَتَقَدَّمَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَوْمُ جُمْلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مُوسَى مَعَ هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِمْ خَلِيفَةً لَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ هُوَ مَعَ السَّبْعِينَ فَقَالَ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي يَعْنِي بِالْقُرْبِ مِنِّي يَنْتَظِرُونَنِي، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ إِثْرِي بِالْكَسْرِ وَعَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ أُثْرِي بِالضَّمِّ، وَعَنْهُ أَيْضًا أُولَى بِالْقَصْرِ، وَالْأَثَرُ أَفْصَحُ مِنَ الْأُثْرِ. وَأَمَّا الْأَثْرُ فَمَسْمُوعٌ فِي فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٥ الى ٨٩]
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِمُوسَى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ [طه: ٨٣] وَقَالَ مُوسَى فِي جَوَابِهِ:
وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: ٨٤] عَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى مَا حَدَثَ مِنَ الْقَوْمِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمْ مِمَّا كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَحْدُثَ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ فَقَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ لِوَجْهَيْنِ، الْوَجْهُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ هاهنا هُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ افْتَتَنُوا بِالْعَجَلِ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ السَّامِرِيُّ عِلْجًا مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ وَقَعَ إِلَى مِصْرَ وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقْرَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا السَّامِرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلْ كَانَ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ جَارًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ آمَنَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَحَسِبُوهَا أَرْبَعِينَ مَعَ أَيَّامِهَا وَقَالُوا:
قَدْ أَكْمَلْنَا الْعِدَّةَ ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْعِجْلِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِمُوسَى عِنْدَ مَقْدِمِهِ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ بِلَفْظِ الْمَوْجُودَةِ الْكَائِنَةِ عَلَى عَادَتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ السَّامِرِيَّ شَرَعَ فِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَزَمَ عَلَى إِضْلَالِهِمْ حَالَ مُفَارَقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ الْفِتْنَةَ مَوْجُودَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا رَجَعَ مُوسَى عليه السلام بعد ما اسْتَوْفَى الْأَرْبَعِينَ ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي الْأَسَفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ شِدَّةُ الْغَضَبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: غَضْبَانَ يُفِيدُ أَصْلَ الْغَضَبِ وَقَوْلَهُ: أَسِفًا يُفِيدُ كَمَالَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَكْثَرُونَ حُزْنًا وَجَزَعًا يُقَالُ أَسِفَ
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ لَوْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِإِلَهٍ آخَرَ سِوَى الْعِجْلِ أَمَّا لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا هذا/ إلهكم وَإِلَهُ مُوسَى كَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ. الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْإِلَهِ لَكِنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يَذْكُرُهُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَسَنِ. الْجَوَابُ: ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ لِيَقِفُوا عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَيَحْصُلَ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَزِيَّةٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠]. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَعْدَ الْحَسَنَ هُوَ الْوَعْدُ الصِّدْقُ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ. وَثَالِثُهَا: الْوَعْدُ هُوَ الْعَهْدُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي إلى قوله: ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨١، ٨٢] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَنَسِيتُمْ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ اللَّه لَكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ. وَرَابِعُهَا: الوعد الحسن هاهنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا حَسَنًا فِي مَنَافِعِ الدِّينِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا، أَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَهُوَ الْوَعْدُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ الشَّرِيفِ الْهَادِي إِلَى الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدُ بِحُصُولِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَالْمُرَادُ أَفَنَسِيتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ أَمْ تَعَمَّدْتُمُ الْمَعْصِيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ طُولَ الْعَهْدِ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ بِنِعَمِ اللَّه تَعَالَى مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْمَعْدُودَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيدِ: ١٦]. وَثَانِيهَا:
يُرْوَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الْأَجَلَ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً فَجَعَلُوا كُلَّ يَوْمٍ بِإِزَاءِ لَيْلَةٍ وَرَدُّوهُ إِلَى عِشْرِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا زَادَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا عَشَرَةً أُخْرَى كَانَ ذَلِكَ طُولَ الْعَهْدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَمُرِيدُ السَّبَبِ مُرِيدٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالْعَرَضِ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لِأَنَّ صِفَةَ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى لَا تَنْزِلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ:
فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَوْعِدٍ كَانَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْقَوْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَعَدُوهُ مِنَ اللَّحَاقِ بِهِ وَالْمَجِيءِ عَلَى أَثَرِهِ. وَالثَّانِي: مَا وَعَدُوهُ مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مِنَ
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، وَقَالَ السَّامِرِيُّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا احْتُبِسَ عُقُوبَةً بِالْحُلِيِّ
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُهُ رَدُّهُ هَذَا كُلُّهُ إِثْمٌ وَذَنْبٌ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْحُلِيَّ كَانَ الْقِبْطُ يَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَجَامِعٍ لَهُمْ يَجْرِي فِيهَا الْكُفْرُ لَا جَرَمَ أَنَّهَا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا أَوْزَارًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي آلَاتِ الْمَعَاصِي. أَمَّا قَوْلُهُ: فَقَذَفْناها فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا فِي أَنَّهُمْ أَيْنَ قَذَفُوهَا؟ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَذَفُوهَا فِي حُفْرَةٍ كَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِجَمْعِ الْحُلِيِّ فِيهَا انْتِظَارًا لِعَوْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَذَفُوهَا فِي مَوْضِعٍ أَمَرَهُمُ السَّامِرِيُّ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي مَوْضِعٍ جُمِعَ فِيهِ النَّارُ ثُمَّ قَالُوا:
فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَيْ فَعَلَ السَّامِرِيُّ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا، أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ الْجَسَدُ حَيًّا أَمْ لَا؟ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُ خَرْقِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ الضَّالِّ بَلِ السَّامِرِيُّ صَوَّرَ صُورَةً عَلَى شَكْلِ الْعِجْلِ وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِذَ وَمَخَارِقَ بِحَيْثُ تَدْخُلُ فِيهَا الرِّيَاحُ فَيَخْرُجُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعِجْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ حَيًّا وَخَارَ كَمَا يَخُورُ الْعِجْلُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ:
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: ٩٦] وَلَوْ لَمْ يَصِرْ حَيًّا لَمَا بَقِيَ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى/ سَمَّاهُ عِجْلًا وَالْعِجْلُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيَوَانِ وَسَمَّاهُ جَسَدًا وَهُوَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَّ. وَثَالِثُهَا: أَثْبَتَ لَهُ الْخُوَارَ وَأَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُدَّعِي الْإِلَهِيَّةِ جَائِزٌ لأنه لا يحصل الالتباس وهاهنا كذلك
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصْنَعُ الْعِجْلَ فَقَالَ:
مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَ فَلَمَّا مَضَى هَارُونُ قَالَ السَّامِرِيُّ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ فَخَارَ
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِلنَّبِيِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنْ كَانُوا فِي الْجَهَالَةِ بِحَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ فَهُمْ مَجَانِينُ وَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُنُونِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ قَالُوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، وَجَوَابُهُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ أَوْ حُلُولَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْخُوَارِ لَا يُنَاسِبُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلَكِنْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْجَلَافَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَنَسِيَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ نَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا يَكُونُ لِلْإِلَهِ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّامِرِيِّ وَصَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ مُوسَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِلَهُ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
فَنَسِيَ وَقْتَ الْمَوْعِدِ فِي الرُّجُوعِ أَمَّا قَوْلُهُ: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا بِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يُعَوِّلُ إِلَّا عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بقي هاهنا بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يَرْجِعُ بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا [الْمَائِدَةِ: ٧١] بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَكُونُ وَقُرِئَ بالنصب أيضا على أَنْ هَذِهِ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: ١٤٨] وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَمِّ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٩٥] وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِجْلَ لَوْ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ لَكَانَ إِلَهًا لَأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ فَفَوَاتُ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ الْمَشْرُوطِ، وَلَكِنَّ/ حُصُولَ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَشْرُوطِ. الثَّالِثُ:
قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ؟ فَقَالَ:
إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ وَمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَأَنْتُمْ مَا جَفَّتْ أَقْدَامُكُمْ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمُ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة؟
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ أَنَسٌ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أَصْبَحَ وَهْمُّهُ غَيْرُ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ مِنَ اللَّه فِي شَيْءٍ وَمَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: «مثل المؤمنين في تواددهم وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ الْغُورِيُّ: كُنْتُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَرَأَيْتُ زَوْرَقًا فِيهَا دِنَانٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا لَطِيفٌ فَقُلْتُ لِلْمَلَّاحِ: أَيْشٍ هَذَا فَقَالَ: أَنْتَ صُوفِيٌّ فُضُولِيٌّ وَهَذِهِ خُمُورُ الْمُعْتَضِدِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمِدْرَى، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: أَعْطَهِ حَتَّى نُبْصِرَ أَيْشٍ يَعْمَلُ فَأَخَذْتُ الْمِدْرَى وَصَعَدْتُ الزَّوْرَقَ فَكُنْتُ أَكْسِرُ دِنًّا دِنًّا وَالْمَلَّاحُ يَصِيحُ حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ فَأَمْسَكْتُ فَجَاءَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ فَأَخَذَنِي وَحَمَلَنِي إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَكَانَ سَيْفُهُ قَبْلَ كَلَامِهِ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ الْمُحْتَسِبُ، قَالَ مَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ؟ قُلْتُ: الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ. قَالَ: لِمَ كَسَرْتَ هَذِهِ الدِّنَانَ؟ قُلْتُ شَفَقَةً عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَصِلْ يَدِي إِلَى دَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْكَ. قَالَ: فَلِمَ أَبْقَيْتَ هَذَا الْوَاحِدَ قُلْتُ إِنِّي لَمَّا كَسَرْتُ هَذِهِ الدِّنَانَ فَإِنِّي إِنَّمَا كَسَرْتُهَا حَمِيَّةً فِي دِينِ اللَّه فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى هَذَا أُعْجِبْتُ فَأَمْسَكْتُ وَلَوْ بَقِيتُ كَمَا كُنْتُ لَكَسَرْتُهُ، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا شَيْخُ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْحِسْبَةَ، فَقُلْتُ كُنْتُ أَفْعَلُهُ للَّه تَعَالَى فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ شُرْطِيًّا. وَأَمَّا الشَّفَقَةُ عَلَى/ الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَقِيقَ الْقَلْبِ مُشْفِقًا عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَيُّ شَفَقَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرَى جَمْعًا يَتَهَافَتُونَ عَلَى النَّارِ فَيَمْنَعَهُمْ مِنْهَا،
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّه تَعَالَى اطْلُبُوا الْفَضْلَ عِنْدَ الرُّحَمَاءِ مِنْ عِبَادِي تَعِيشُوا فِي أَكْنَافِهِمْ فَإِنِّي جَعَلْتُ فِيهِمْ رَحْمَتِي وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فَإِنَّ فِيهِمْ غَضَبِي»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «خَرَجْتُ أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ فَجَاءَ صَغِيرٌ فَبَكَى فَقَالَ لِعُمَرَ: ضُمَّ الصَّبِيَّ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ ضَالٌّ فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَإِذَا امْرَأَةٌ تُوَلْوِلُ كَاشِفَةً رَأْسَهَا جَزَعًا عَلَى ابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْرِكِ الْمَرْأَةَ فَنَادَاهَا فَجَاءَتْ فَأَخَذَتْ وَلَدَهَا وَجَعَلَتْ تَبْكِي وَالصَّبِيُّ فِي حِجْرِهَا فَالْتَفَتَتْ فَرَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَتْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ:
أَتَرَوْنَ هَذِهِ رَحِيمَةً بِوَلَدِهَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه كَفَى بِهَذِهِ رَحْمَةً فَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ اللَّه أَرْحَمُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
وَيُرْوَى: «أَنَّهُ بَيْنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ نَظَرَ إِلَى شَابٍّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَسَمِعَ الشَّابُّ ذَلِكَ فَوَلَّى، فَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي هَذَا رَسُولُكَ يَشْهَدُ عَلَيَّ بِأَنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِدَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُشْعِلَ النَّارَ بِي حَتَّى تَبَرَّ يَمِينُهُ وَلَا تُشْعِلِ النَّارَ بِأَحَدٍ آخَرَ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ بَشِّرِ الشَّابَّ بِأَنِّي قَدْ أَنْقَذْتُهُ مِنَ النَّارِ بِتَصْدِيقِهِ لَكَ وَفِدَائِهِ أُمَّتَكَ بِنَفْسِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ».
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ. ثُمَّ إِنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى الْقَوْمَ مُتَهَافِتِينَ عَلَى النَّارِ وَلَمْ يُبَالِ بِكَثْرَتِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ بَلْ صَرَّحَ بِالْحَقِّ فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ الآية وهاهنا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمَسَّكُوا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»
ثُمَّ إِنَّ هَارُونَ مَا مَنَعَتْهُ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
اعْلَمْ أَنَّ الطَّاعِنِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ هَارُونَ بِاتِّبَاعِهِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدِ اتَّبَعَهُ أَوْ لَمْ يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهرون مَعْصِيَةً وَذَنْبًا لِأَنَّ مَلَامَةَ غَيْرِ الْمُجْرِمِ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ كَانَ هَارُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ كَانَتْ مَلَامَتُهُ إِيَّاهُ بِتَرْكِ الِاتِّبَاعِ مَعْصِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ يَلْزَمُ إِسْنَادُ الْمَعْصِيَةِ إِمَّا إِلَى مُوسَى أَوْ إِلَى هَارُونَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدْ عَصَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعِصْيَانُ مُنْكَرًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَاذِبًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا فَعَلَ هَارُونُ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ.
وثالثها: قوله: ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْوَعْظِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَحَثَ عَنِ الْوَاقِعَةِ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ هَارُونَ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَخْذُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ مَعْصِيَةً وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ تَعَرُّفِ الْحَالِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مَعْصِيَةً. ورابعها:
إن هارون عليه السلام قال: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
فَإِنْ كَانَ الْأَخْذُ بِلِحْيَتِهِ وَبِرَأْسِهِ جَائِزًا كَانَ قَوْلُ هَارُونَ لَا تَأْخُذْ مَنْعًا لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ جَائِزًا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ أَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَاوِنٍ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ في شرح القصة فقال: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
، وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا عَلَى نِهَايَةِ سُوءِ الظَّنِّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِنَّ هَارُونَ غَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةً فَقَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، فَلَمَّا وَاعَدَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرٍ وَكَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى فِي قَوْمِهِ مَا رَأَى فَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ لِيُدْنِيَهُ فَيَتَفَحَّصَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فَخَافَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فَقَالَ إِشْفَاقًا عَلَى مُوسَى: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي لِئَلَّا يَظُنَّ الْقَوْمُ مَا لَا يَلِيقُ بِكَ. وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا حَدِيدًا مَجْبُولًا عَلَى الْحِدَّةِ وَالْخُشُونَةِ وَالتَّصَلُّبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ شَدِيدَ الْغَضَبِ للَّه تَعَالَى وَلِدِينِهِ فَلَمْ يَتَمَالَكْ حِينَ رَأَى قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ عِجْلًا مِنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ أَنْ أَلْقَى أَلْوَاحَ التَّوْرَاةِ لِمَا غَلَبَ عَلَى ذِهْنِهِ مِنَ الدَّهْشَةِ الْعَظِيمَةِ غَضَبًا للَّه تَعَالَى وَحَمِيَّةً وَعَنَّفَ بِأَخِيهِ وَخَلِيفَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الْعَدُوِّ الْمُكَاشِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَبْ أَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ هَلْ كَانَ يَبْقَى عَاقِلًا مُكَلَّفًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ بَقِيَ عَاقِلًا مُكَلَّفًا فَالْأَسْئِلَةُ بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ أَتَى بِغَضَبٍ شَدِيدٍ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي فَقَدْ زِدْتَ إِشْكَالًا آخَرَ. فَإِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْغَضَبِ لَمْ يَبْقَ عَاقِلًا وَلَا مُكَلَّفًا فَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ مُسْلِمٌ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ مَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الصَّغَائِرَ وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهَا فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ السُّؤَالِ واللَّه أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي فَأَقَامَ مَنَعَكَ مَقَامَ دَعَاكَ وَفِي الِاتِّبَاعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي بِمَنْ أَطَاعَكَ وَاللُّحُوقِ بِي وَتَرْكِ الْمُقَامِ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَتَّبِعَنِي فِي وَصِيَّتِي إِذْ قُلْتُ لَكَ:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٢] فَلِمَ تَرَكْتَ قِتَالَهُمْ وَتَأْدِيبَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ثُمَّ قَالَ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ/ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ وَالْعَاصِي مُسْتَحِقٌّ
قِيلَ: إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمه: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ٤٨] وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] وَالَّذِي فِيهِ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِهِ بَلْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ أَخَذَ ذُؤَابَتَيْهِ بِيَمِينِهِ ولحيته بيساره ثم قال: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لا تتبعن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ أَمْتَثِلْ قَوْلَكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقُولَ: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
فَهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلِ.
وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ فِي الْقَوْمِ فَلَمَّا قَالَ مُوسَى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَتَّبِعَنِ) قَالَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا أَمَرْتَنِي بِاتِّبَاعِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْفَسَادُ فَلَوْ جِئْتُكَ مَعَ حُصُولِ الْفَسَادِ مَا كُنْتُ مُرَاقِبًا لِقَوْلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ: الْهِدَايَةُ أَنْفَعُ مِنَ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا أَجَانِبَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَا رَأَوْا إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فَآمَنُوا وَتَحَمَّلُوا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا قَوْمُهُ فَإِنَّهُمْ رَأَوُا انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَالْتَقَمَ كُلَّ مَا جَمَعَهُ السَّحَرَةُ ثُمَّ عَادَ عَصًا وَرَأَوُا اعْتِرَافَ السَّحَرَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ وَرَأَوُا الْآيَاتِ التِّسْعَ مُدَّةً مَدِيدَةً ثُمَّ رَأَوُا انْفِرَاقَ الْبَحْرِ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْجَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا شَاهَدُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ وَرَأَوْا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ قَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، وَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ عِجْلٍ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِالدَّلَائِلِ بَلْ بِالْهِدَايَةِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يَا ابْنَ أُمِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْإِضَافَةِ وَدَلَّتْ كَسْرَةُ الْمِيمِ عَلَى الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وتقديره يا ابن أماه واللَّه أعلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]
قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
[في قوله تعالى قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ] اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُخَاطَبَةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَرَفَ الْعُذْرَ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْكَلَامَ مَعَ هَارُونَ أَخَذَ فِي التَّكَلُّمِ مَعَ السَّامِرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا ثُمَّ حَضَرَ السَّامِرِيُّ مِنْ بَعْدُ أَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مُوسَى لِيُخَاطِبَهُ، فَقَالَ موسى عليه السلام: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ وَالْخَطْبُ مَصْدَرٌ خَطَبَ الْأَمْرَ إِذَا طَلَبَهُ، فَإِذَا قِيلَ لِمَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مَا
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِالْكَسْرِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَيْ بِمَا لَمْ يَبْصُرْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْإِبْصَارِ قَوْلَانِ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلِمْتُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ بَصِيرٌ أَيْ عَالِمٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَقْرِيرِهِ: أَبْصَرْتُهُ بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ وَبَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى صِرْتُ بِهِ بَصِيرًا عَالِمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ فَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُهُ وَأَرَادَ أَنَّهُ رَأَى دَابَّةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ قُبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَقْبُوضِ كَالْغُرْفَةِ وَالضُّفَّةِ وَأَمَّا الْقَبْضَةُ فَالْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْمَقْبُوضِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ وَقُرِئَ أَيْضًا فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالضَّادِ وَالصَّادِ فَالضَّادُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ وَالصَّادُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَنَظِيرِهُمَا الْخَضْمُ وَالْقَضْمُ الْخَاءُ بِجَمِيعِ الْفَمِ وَالْقَافُ بِمُقَدَّمِهِ. قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَرَادَ بِأَثَرِهِ التُّرَابَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَتَى رَآهُ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّمَا رَآهُ يَوْمَ فُلِقَ الْبَحْرُ. وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الطُّورِ أَبْصَرَهُ السَّامِرِيُّ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السَّامِرِيَّ كَيْفَ اخْتَصَّ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّمَا عَرَفَهُ/ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي صِغَرِهِ وَحَفِظَهُ مِنَ الْقَتْلِ حِينَ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلِدُ وَتَطْرَحُ وَلَدَهَا حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ آلُ فِرْعَوْنَ فَتَأْخُذُ الْمَلَائِكَةُ الْوِلْدَانَ فَيُرَبُّونَهُمْ حَتَّى يَتَرَعْرَعُوا وَيَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ فَكَانَ السَّامِرِيُّ مِمَّنْ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ كَفَّ نَفْسِهِ فِي فِيهِ وَارْتَضَعَ مِنْهُ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِمَعْنَى رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ وَمَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بِالْعِلْمِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلِمْتُ أَنَّ تُرَابَ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَهَهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِأَثَرِهِ سُنَّتَهُ وَرَسْمَهُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: فُلَانٌ يَقْفُو أَثَرَ فُلَانٍ وَيَقْبِضُ أَثَرَهُ إِذَا كَانَ يَمْتَثِلُ رَسْمَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ بِاللَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى إِضْلَالِ الْقَوْمِ فِي بَابِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، أَيْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحَقٍّ وَقَدْ كُنْتُ قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِكَ وَدِينِكَ فَقَذَفْتُهُ أَيْ طَرَحْتُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِرَئِيسِهِ وَهُوَ مُوَاجِهٌ لَهُ مَا يَقُولُ الْأَمِيرُ فِي كَذَا وَبِمَاذَا يَأْمُرُ الْأَمِيرُ، وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا مَعَ جَحْدِهِ وَكُفْرِهِ فَعَلَى مِثْلِ مذهب من حكى اللَّه عنه قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: ٦] وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْإِنْزَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ لَيْسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْرَجَهُ مِنْ مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ فَخَرَجَ طَرِيدًا إِلَى الْبَرَارِي، اعْتَرَضَ الْوَاحِدِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ مَهْجُورًا فَلَا يَقُولُ هُوَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَقِيَ طَرِيدًا فَرِيدًا فَإِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا مِسَاسَ أَيْ لَا يَمَاسُّنِي أَحَدٌ وَلَا أَمَاسُّ أَحَدًا، وَالْمَعْنَى إِنِّي أَجْعَلُكَ يَا سَامِرِيُّ فِي الْمَطْرُودِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ غَيْرَكَ عَنْ حَالِكَ لَمْ تَقُلْ إِلَّا أَنَّهُ لَا مِسَاسَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ وَأَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النِّسَاءِ فَيَكُونُ مِنْ تَعْذِيبِ اللَّه إِيَّاهُ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ يُؤْنِسُهُ فَيُخْلِيَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ زِينَتِي الدُّنْيَا اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا بِقَوْلِهِ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: ٤٦] وقرى لا مساس بوزن فجاز وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَسِّ، وَأَمَّا شَرْحُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَالْمَوْعِدُ بِمَعْنَى الْوَعْدِ أَيْ هَذِهِ عُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَكَ الْوَعْدُ بِالْمَصِيرِ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فَأَنْتَ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: لَنْ تُخْلَفَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُخْلَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ أَيْ سَيَأْتِيكَ بِهِ اللَّه وَلَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْكَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ تَجِيءُ إِلَيْهِ وَلَنْ تَغِيبَ عَنْهُ وَلَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ وَفَتْحُ اللَّامِ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: مَوْعِدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَنْ نُخْلَفَهُ بِالنُّونِ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَى قَوْلَ اللَّه تَعَالَى بِلَفْظِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ:
لِأَهَبَ لَكِ
[مَرْيَمَ: ١٩] وَأَمَّا شَرْحُ حَالِ إِلَهِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً قَالَ الْمُفَضَّلُ فِي ظَلْتَ: إِنَّهُ يُقْرَأُ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِهَا وَكَذَلِكَ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٥] وَأَصْلُهُ ظَلِلْتَ فَحُذِفَتِ اللَّامُ الْأُولَى وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتِ اللَّامُ الثَّانِيَةُ سَاكِنَةً تَسْتَحِبُّ الْعَرَبُ طَرْحَ الْأُولَى وَمَنْ كَسَرَ الظَّاءَ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ السَّامِرِيِّ ثَانِيًا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سَائِرِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِهِمْ تَكْثِيرًا لِشَأْنِكَ وَزِيَادَةً فِي مُعْجِزَاتِكَ وَلِيَكْثُرَ الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِلْمُكَلَّفِينَ بِهَا فِي الدِّينِ: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً يَعْنِي الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٠] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٤] وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: ١] مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ [الأنبياء: ٢] يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: ٦] ثُمَّ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنْوَاعَ آلَاءِ اللَّه تَعَالَى وَنَعْمَائِهِ فَفِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ. وَثَالِثُهَا: فِيهِ الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٤]، [في قوله تعالى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ إلى قوله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى كُلَّ كُتُبِهِ ذكرا فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: ٤٣] وَكَمَا بَيَّنَ نِعْمَتَهُ بِذَلِكَ بَيَّنَ شِدَّةَ الْوَعِيدِ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا وَالْوِزْرُ هُوَ الْعُقُوبَةُ الثَّقِيلَةُ سَمَّاهَا وِزْرًا تَشْبِيهًا فِي ثِقَلِهَا/ عَلَى الْمُعَاقَبِ وَصُعُوبَةِ احْتِمَالِهَا الَّذِي يَثْقُلُ عَلَى الْحَامِلِ وَيُنْقِضُ ظَهْرَهُ أَوْ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْوِزْرِ وَهُوَ الْإِثْمُ وَقُرِئَ يُحَمَّلُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ ذَلِكَ الْوِزْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مُخَلَّدًا مُؤَبَّدًا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أَيْ وَمَا أَسْوَأَ هَذَا الْوِزْرَ حِمْلًا أَيْ مَحْمُولًا وَحِمْلًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَثَانِيهَا: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الصُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ جَمْعُ صُورَةٍ وَالنَّفْخُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الصُّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [الْمُدَّثِّرِ: ٨] واللَّه تَعَالَى يُعَرِّفُ النَّاسَ أُمُورَ الْآخِرَةِ بِأَمْثَالِ مَا شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ النَّفْخُ فِي الْبُوقِ عِنْدَ الْأَسْفَارِ وَفِي الْعَسَاكِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّفْخِ هُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ كَالسَّبَبِ لِحَشْرِهِمْ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النَّبَأِ: ١٨]، أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: الْمُجْرِمِينَ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ فَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ بِالْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْكَلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالزُّرْقَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ وَهِيَ زُرْقَةٌ تَتَشَوَّهُ بِهَا خِلْقَتُهُمْ وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ:
يُحْشَرُونَ عُمْيًا فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى وَأَزْرَقَ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ يَكُونُ أَعْمَى فِي حَالٍ وَأَزْرَقَ فِي حَالٍ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنَ الزُّرْقَةِ الْعَمَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: زُرْقًا أَيْ عُمْيًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَخْرُجُونَ بُصَرَاءَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَيَعْمُونَ فِي الْمَحْشَرِ.
وَسَوَادُ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ تَزْرَقُّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١] وَشُخُوصُ الْبَصَرِ مِنَ الْأَعْمَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ فِي حَقِّهِمُ: اقْرَأْ كِتابَكَ [الْإِسْرَاءِ: ١٤] وَالْأَعْمَى كَيْفَ يَقْرَأُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قَدْ تَخْتَلِفُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الزُّرْقَةِ شُخُوصُ أَبْصَارِهِمْ وَالْأَزْرَقُ شَاخِصٌ لِأَنَّهُ لِضَعْفِ بَصَرِهِ يَكُونُ مُحَدِّقًا نَحْوَ الشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَهَذِهِ حَالُ الْخَائِفِ الْمُتَوَقِّعِ لِمَا يَكْرَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١]. وَرَابِعُهَا: زُرْقًا عِطَاشًا هَكَذَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ/ الْعَطَشِ يَتَغَيَّرُ سَوَادُ عُيُونِهِمْ حَتَّى تَزْرَقَّ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: ٨٦]. وَخَامِسُهَا: حَكَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ:
طَامِعِينَ فِيمَا لَا يَنَالُونَهُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَتَخَافَتُونَ أَيْ يَتَسَارُّونَ. يُقَالُ: خَفَتَ يَخْفِتُ وَخَافَتَ مُخَافَتَةً وَالتَّخَافُتُ السِّرَارُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: ١٠٨] وَإِنَّمَا يَتَخَافَتُونَ لِأَنَّهُ امْتَلَأَتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْهَوْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْخَوْفِ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ فَلَا يُطِيقُونَ الْجَهْرَ.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمِقْدَارِ عُمُرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَارِ الْآخِرَةِ وَجَدُوهَا فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ أَعْقَلُهُمْ: بَلْ مَا لَبِثْنَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا أَيْ قَدْرُ لُبْثِنَا فِي الدُّنْيَا بِالْقِيَاسِ إِلَى قَدْرِ لُبْثِنَا فِي الْآخِرَةِ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ بَلْ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بَلْ كَالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَشَرَةَ وَالْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ لأن القليل في أمثال هذه الواضع لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إِلَّا بِالْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الشَّدَائِدَ تَذَكَّرُوا أَيَّامَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهَا فَوَصَفُوهَا بِالْقِصَرِ لِأَنَّ أَيَّامَ السُّرُورِ قِصَارٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ وَأَيَّامَ الْآخِرَةِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالذَّاهِبُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْآتِي وَإِنْ قَصُرَتْ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ رَجَّحَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَ مَنْ بَالَغَ فِي التَّقْلِيلِ فَقَالَ: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اللُّبْثُ فِي الْقَبْرِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [الرُّومِ: ٥٥] وَقَالَ: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ: ٥٦] فَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَلَا إِشْكَالَ لَهُ فِي الْآيَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ، قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَحْيَاهُمْ فِي الْقَبْرِ وَعَذَّبَهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ بَعَثَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَنْ قَدْرَ لُبْثِهِمْ فِي الْقَبْرِ كَمْ كَانَ، فَخَطَرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَوْمٌ/ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي الْعَذَابِ مَرَّةً أُخْرَى، تَمَنَّوْا زَمَانَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ زَمَانُ الْخَلَاصِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أَقَلَّ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشْرَ سَاعَاتٍ كَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: ٤٦] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْيَوْمُ أَكْثَرَ، واللَّه أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَعْظَمَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي دُفِعُوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (١٠٦) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ الطَّعْنُ فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالْجَوَابِ مَقْرُونًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا فِي الْمَسَائِلِ الفروعية فجائزة، لِذَلِكَ ذَكَرَ هُنَاكَ قُلْ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ التَّعْقِيبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَنْسِفُها عَائِدٌ إِلَى الْجِبَالِ وَالنَّسْفُ التَّذْرِيَةُ، أَيْ تَصِيرُ الْجِبَالُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ تُذْرَى تَذْرِيَةً فَإِذَا زَالَتِ الجبال الْحَوَائِلُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ قَوْلِهِ: يَتَخافَتُونَ قَالَ الْخَلِيلُ: يَنْسِفُها أَيْ يُذْهِبُهَا وَيُطَيِّرُهَا، أَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَاسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيمِ ذِكْرِهَا كَمَا فِي عَادَةِ النَّاسِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْإِضْمَارِ كَقَوْلِهِمْ: مَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ النَّسْفَ لَا يُزِيلُ الِاسْتِوَاءَ لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ صَارَتْ هُنَاكَ حَائِلَةً، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سُؤَالِهِمُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْمُخَافَتَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِيهَا فِي الْحَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ أَمْرُهَا إِلَى الْبُطْلَانِ، كَانَ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بُطْلَانًا يَقَعُ تَوْلِيدِيًّا، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَقَدْ يَكُونُ بطلانا يقع دفعة واحدة، وهاهنا لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُفَرِّقُ تَرْكِيبَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة هاهنا إِلَى تَقْدِيمِ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْأَرْضَ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِصِفَاتٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا قَاعًا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ وَقِيلَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. وَثَانِيهَا: الصَّفْصَفُ وَهُوَ الَّذِي لَا نَبَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْقَاعُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ وَكَذَلِكَ الصَّفْصَفُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَدْ فَرَّقُوا
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَفِي الدَّاعِي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الدَّاعِيَ هُوَ النَّفْخُ فِي الصُّورِ وَقَوْلُهُ: لَا عِوَجَ لَهُ أَيْ لَا يَعْدِلُ عَنْ أَحَدٍ بِدُعَائِهِ بَلْ يَحْشُرُ الْكُلَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُنَادِي وَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ، وَالْأَوْصَالُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ، قَوْمِي إِلَى رَبِّكِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَيَسْمَعُونَ صَوْتَ الدَّاعِي فَيَتْبَعُونَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الدُّعَاءُ يَكُونُ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالدُّعَاءِ إِعْلَامَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَيِّتِ عَبَثٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بَلِ الْمَقْصُودُ مَقْصُودٌ آخَرُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لُطْفًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَخَضَعَتْ وَخَفِيَتْ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَقَدْ عَلِمَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ بِأَنْ لَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ يَزِيدُ عَلَى الْهَمْسِ وَهُوَ أَخْفَى الصَّوْتِ وَيَكَادُ يَكُونُ كَلَامًا يُفْهَمُ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ لِضَعْفِهِ. وَحُقَّ لِمَنْ كَانَ اللَّه مُحَاسِبَهُ أَنْ يَخْشَعَ طَرْفُهُ وَيَضْعُفَ صَوْتُهُ وَيَخْتَلِطَ قَوْلُهُ وَيَطُولَ غَمُّهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْهَمْسُ وَطْءُ الْأَقْدَامِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَسْمَعُ إِلَّا خَفْقَ الْأَقْدَامِ وَنَقْلَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا فَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الشَّفَاعَةِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا شَفَاعَةُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَأَقُولُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ وَتَغْيِيرِ الْأَعْرَابِ وَالثَّانِي: لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ يُرَادُ بِهِ مَنْ يَشْفَعُ بِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا شَخْصًا مَرْضِيًّا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الشَّافِعِ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ فَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّه لَهُ فِيهَا وَكَانَ عِنْدَ اللَّه مَرْضِيًّا، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ صَارَتْ جَارِيَةً مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِيضَاحَ الْوَاضِحَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ/ قَالُوا: الْفَاسِقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَشْفَعَ الرَّسُولُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَشْفُوعَ لَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى ثبوت
حُصُولُ الْإِذْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، فَهَبْ أَنَّ الْفَاسِقَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ أَذِنَ فِيهِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ قُلْنَا: هَذَا الْقَيْدُ وَهُوَ أَنَّهُ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِثْنَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] فَاكْتَفَى هُنَاكَ بِهَذَا الْقَيْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَظَهَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَحْصُلُ الْإِذْنُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَيْدَانِ حَصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَمَّ الْمَقْصُودُ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الْمُرَادُ بِهِ الشَّافِعُ. قَالَ ذَلِكُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى لَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ تَشْفَعَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ قَالَ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَفِيهِ تَقْرِيعٌ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ لِيَشْفَعُوا لَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَلَائِكَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَلْقِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَعْمَالِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ يَعْلَمُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ وَمَتَى تَكُونُ الْقِيَامَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْعِبَادِ وَمَا خَلْفَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيِ الْعِبَادُ لَا يُحِيطُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ عِلْمًا. الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا يُحِيطُونَ باللَّه عِلْمًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ والأقرب هاهنا قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ ذَلِكَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ لِيُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمُجَازَاةَ مَعْلُومٌ للَّه تَعَالَى.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ اليوم تعنوا الْوُجُوهُ أَيْ تَذِلُّ وَيَصِيرُ الْمُلْكُ وَالْقَهْرُ للَّه تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَمِنْ/ لَفْظِ الْعَنْوِ أَخَذُوا الْعَانِي وَهُوَ الْأَسِيرُ، يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو عَنَاءً إِذَا صَارَ أَسِيرًا وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى: الْوُجُوهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمُكَلَّفِينَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنَتِ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْوُجُوهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ٨، ٩] وَإِنَّمَا خَصَّ الْوُجُوهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخُضُوعَ بها يبين وفيها يظهر وتفسير لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ قَدْ تَقَدَّمَ،
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اطْلُبُوا اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمَ فِي هَذِهِ السور الثلاث الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه». قَالَ الرَّاوِي: فَوَجَدْنَا الْمُشْتَرِكَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
فَبَيَّنَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ الِامْتِنَاعُ مِمَّا يَنْزِلُ بِالْمَرْءِ مِنَ الْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ حَالَهُ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الدُّنْيَا
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا نَزَالُ وَعَلَى نَهْجِهِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ ثُمَّ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ عَرَبِيًّا لِتَفْهَمَهُ الْعَرَبُ فَيَقِفُوا عَلَى إِعْجَازِهِ وَنَظْمِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أَيْ كَرَّرْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ بَيَانُ الْفَرَائِضِ وَالْمَحَارِمِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ فَتَكْرِيرُهُ يَقْتَضِي بَيَانَ الْأَحْكَامِ فَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَالْمُرَادُ اتِّقَاءُ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَلَفْظُ لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا إِنَّمَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرُوا مُتَّقِينَ أَيْ مُحْتَرِزِينَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُحْدِثُ الْقُرْآنُ لَهُمْ ذِكْرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَاتِ وَفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، وَعَلَيْهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ كَيْفَ يَكُونُ مُحْدِثًا لِلذِّكْرِ. الْجَوَابُ: لَمَّا حَصَلَ الذِّكْرُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ أُضِيفَ الذِّكْرُ إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أُضِيفَ الذِّكْرُ إِلَى الْقُرْآنِ وَمَا أُضِيفَتِ التَّقْوَى إِلَيْهِ. الْجَوَابُ: أَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ لَا يُفْعَلَ الْقَبِيحُ، وَذَلِكَ اسْتِمْرَارٌ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إِسْنَادُهُ إِلَى الْقُرْآنِ، أَمَّا حُدُوثُ الذِّكْرِ فَأَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَجَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْقُرْآنِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَلِمَةُ أَوْ لِلْمُنَافَاةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّقْوَى وَحُدُوثِ الذِّكْرِ بَلْ لَا يَصِحُّ الِاتِّقَاءُ إِلَّا مَعَ الذِّكْرِ فَمَا
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَلْزَمُ خَلْقَهُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِنَّمَا وَصْفُهُ بِالْحَقِّ لِأَنَّ مُلْكَهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَيْسَ بِمُسْتَفَادٍ مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ وَلَا غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ فَلِهَذَا وُصِفَ بِذَلِكَ، وَتَعَالَى تَفَاعَلَ مِنَ الْعُلُوِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُلُوَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَرُبُوبِيَّتَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اتِّصَافُهُ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَأَنَّهُ لَا تكيفه الْأَوْهَامُ وَلَا تُقَدِّرُهُ الْعُقُولُ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَحْتَرِزُوا عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَلْيُقْدِمُوا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّكَمُّلِ بِطَاعَاتِهِمْ وَالتَّضَرُّرِ بِمَعَاصِيهِمْ، فَالطَّاعَاتُ إِنَّمَا تَقَعُ بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَالْمَعَاصِي إِنَّمَا تَقَعُ عَدْلًا مِنْهُ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجْهَانِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إن من قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: ١٠٥] إلى هاهنا يَتِمُّ الْكَلَامُ وَيَنْقَطِعُ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ خِطَابٌ/ مُسْتَأْنَفٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَقْرَأُ مَعَ الْمَلَكِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَسْكُتَ حَالَ قِرَاءَةِ الْمَلَكِ ثُمَّ يَأْخُذَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فِي الْقِرَاءَةِ
فَكَأَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ كَيْفِيَّةِ نَفْعِ الْقُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصُونَ رَسُولَهُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ، وَإِذْ حَصَلَ الْأَمَانُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ قَالَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَعْجَلَ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى غَيْرِكَ، وَيَحْتَمِلُ فِي اعْتِقَادِ ظَاهِرِهِ، وَيَحْتَمِلُ فِي تَعْرِيفِ الْغَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ تَمَامُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ بَيَانُهُ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُنْهَى عَنْ قِرَاءَتِهِ لِكَيْ يَحْفَظَهُ وَيُؤَدِّيَهُ فَالْمُرَادُ إِذَنْ أَنْ لَا يَبْعَثَ نَفْسَهُ وَلَا يَبْعَثَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِالْوَحْيِ تَمَامُهُ أَوْ بَيَانُهُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ مَا لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ الْفَرَاغُ لِمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخَصَّصَاتِ فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَلْنَذْكُرْ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَةِ: ١٦] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْرِصُ عَلَى أَخْذِ الْقُرْآنِ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَعْجَلُ بِقِرَاءَتِهِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ إِلَى أَنْ يَسْتَتِمَّ وَحْيُهُ فَيَكُونَ أَخَذُكَ إِيَّاهُ عَنْ تَثَبُّتٍ وَسُكُونٍ واللَّه تَعَالَى يَزِيدُكَ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَثَانِيهَا: لَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ فَتَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ بَيَانُ مَعَانِيهِ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَأُسْقُفَّ نَجْرَانَ قَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ ضَرَبْنَا لَكَ أَجَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَفَشَتِ الْمَقَالَةُ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ غَلَبُوا مُحَمَّدًا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أَيْ بِنُزُولِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى إِسْرَافِيلَ وَمِنْهُ إِلَى جِبْرِيلَ وَمِنْهُ إِلَيْكَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. وَرَابِعُهَا:
رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ امْرَأَةً
وَهَذَا بَعِيدٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُ بِالْفَزَعِ إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ فِي زِيَادَةِ الْعِلْمِ الَّتِي تَظْهَرُ بِتَمَامِ الْقُرْآنِ أَوْ بَيَانِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِعْجَالُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ بِالْوَحْيِ فَكَيْفَ نُهِيَ عَنْهُ. الْجَوَابُ: لَعَلَّهُ فَعَلَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، فَلِهَذَا نُهِيَ عنه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١١٩]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ] اعلم أن هذا هي الْمَرَّةُ السَّادِسَةُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ: أَوَّلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ فِي الْأَعْرَافِ ثُمَّ فِي الْحِجْرِ ثُمَّ فِي الإسراء ثم في الكهف، ثم هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: ٩٩] ثُمَّ إِنَّهُ عَظَّمَ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَبَالَغَ فِيهِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنْجَازًا لِلْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: ١١٣] أَرْدَفَهُ بِقِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ طَاعَةَ بَنِي آدَمَ لِلشَّيْطَانِ وَتَرْكَهُمُ التَّحَفُّظَ مِنْ وَسَاوِسِهِ أَمْرٌ قَدِيمٌ فَإِنَّا قَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّفْنَا لَهُمُ الْوَعِيدَ وَبَالَغْنَا فِي تَنْبِيهِهِ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ نَسِيَ وَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَهْدَ فَأَمْرُ الْبَشَرِ فِي تَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَمْرٌ قَدِيمٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ بعد ما عَهِدَ اللَّه إِلَيْهِ وَبَالَغَ فِي تَجْدِيدِ الْعَهْدِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَدُوِّ نَسِيَ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنِ التَّحَفُّظِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِرَبِّهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَيُجَنِّبَهُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْجِدِّ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِحَيْثُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْإِفْرَاطِ وَصَفَ آدَمَ بِالتَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَسَاهَلَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَحَفَّظْ حَتَّى نَسِيَ فَوَصَفَ الْأَوَّلَ بِالتَّفْرِيطِ وَالْآخَرَ بِالْإِفْرَاطِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ زَلَّةٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَعْجَلْ ضَاقَ قَلْبُهُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْلَا أَنِّي أَقْدَمْتُ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَإِلَّا لَمَا نُهِيتُ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَ مَا نُهِيتَ عَنْهُ فَإِنَّمَا فَعَلْتَهُ حِرْصًا مِنْكَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَحِفْظًا لِأَدَاءِ الْوَحْيِ/ وَإِنَّ أَبَاكَ أَقْدَمَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي لِلتَّسَاهُلِ وَتَرَكَ التَّحَفُّظَ فَكَانَ أَمْرُكَ أَحْسَنَ مِنْ أَمْرِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ أَمْرٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَوْ نَهْيٌ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ فِي أَوَامِرِ الْمُلُوكِ وَوَصَايَاهُمْ أَشَارَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ وَعَهِدَ إِلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَهِدْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَا يَقْرَبَهَا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
وَثَالِثُهَا: أَيْ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَنَسِيَ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الاستقصاء في سورة البقرة، ونعيد هاهنا مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا، وَفِي النِّسْيَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مَا هُوَ نَقِيضُ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَى تَرْكِ التَّحَفُّظِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّبْطِ حَتَّى تَوَلَّدَ مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: واللَّه مَا عَصَى قَطُّ إِلَّا بِنِسْيَانٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التَّرْكُ وَأَنَّهُ تَرَكَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنِ الشَّجَرَةِ وَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَتِهَا، وَقُرِئَ: فَنُسِّيَ أَيْ فَنَسَّاهُ الشَّيْطَانُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنْ يُقَالَ: أَقْدَمَ عَلَيْهَا مَعَ التَّأْوِيلِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْوُجُودُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَمِنْهُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدِمْنَا لَهُ عَزْمًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْعَزْمُ هُوَ التَّصْمِيمُ وَالتَّصَلُّبُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يَحْتَمِلُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيَكُونُ إِلَى الْمَدْحِ أَقْرَبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى التَّحَفُّظِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَفْلَةِ، أَوْ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهَادِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَخْطَأَ بِالِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنَّ الْمَأْمُورِينَ كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَثَانِيَتُهَا: أَنَّهُ مَا مَعْنَى السُّجُودِ.
وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ صَارَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ؟ وَرَابِعَتُهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَخَامِسَتُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ أَنَّهُ أَبَى كَيْفَ لَزِمَ الْكُفْرَ مِنْ ذَلِكَ الْإِبَاءِ وَأَنَّهُ هَلْ كَانَ كَافِرًا ابْتِدَاءً أَوْ كَفَرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَرَّتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أما قوله: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا سَبَبُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ حَسُودًا فَلَمَّا رَأَى آثَارَ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَدَهُ فَصَارَ عَدُوًّا لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ كَانَ شَابًّا عَالِمًا لِقَوْلِهِ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وَإِبْلِيسَ كَانَ شَيْخًا جَاهِلًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ فَضْلَهُ بِفَضِيلَةِ أَصْلِهِ وَذَلِكَ جَهْلٌ، وَالشَّيْخُ الْجَاهِلُ/ أَبَدًا يَكُونُ عَدُوًّا لِلشَّابِّ الْعَالِمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَآدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَبَيْنَ أَصْلَيْهِمَا عَدَاوَةٌ فَبَقِيَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ الْمُخْرِجَ لَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى.
الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ بِوَسْوَسَتِهِ هُوَ الَّذِي فَعَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ صَحَّ ذَلِكَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أُسْنِدَ إِلَى آدَمَ وَحْدَهُ فِعْلُ الشَّقَاءِ دُونَ حَوَّاءَ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِعْلِ. الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ضِمْنِ شَقَاءِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَيِّمُ أَهْلِهِ وَأَمِيرُهُمْ شَقَاءَهُمْ كَمَا أَنَّ فِي ضِمْنِ سَعَادَتِهِ سَعَادَتَهُمْ فَاخْتَصَّ الْكَلَامُ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ دُونَهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. الثَّانِي: أُرِيدَ بِالشَّقَاءِ التَّعَبُ فِي طَلَبِ الْقُوتِ وَذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالِاكْتِنَانُ فِي الظِّلِّ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ الْإِنْسَانِ.
فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْكَسْبِ وَالطَّلَبِ وَذَكَرَهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِأَضْدَادِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ وَالْعُرْيُ وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى لِيَطْرُقَ سَمْعُهُ شَيْئًا مِنْ أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا حَتَّى يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُوقِعُهُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا تَفْسِيرُ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قوله:
فَتَشْقى.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ عَظَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ شِدَّةَ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ وَأَنَّهُ لِعَدَاوَتِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي إِذَا وَقَعَتْ زَالَتْ تِلْكَ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اتَّفَقَ مِنْهُ وَمِنْ حَوَّاءَ الْإِقْدَامُ عَلَى الزَّلَّةِ مَا اتَّفَقَ، وَالْعَجَبُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ فِي الْأُخْرَى لَرَجَحَ حُلْمُهُ بِأَحْلَامِهِمْ» وَلَكِنَّ الْمُكَادَحَةَ مَعَ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنَعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَاقِعَةَ آدَمَ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى رَغَّبَهُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٧- ١١٩] وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ أَيْضًا فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَفِي انْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَكَانَ الشَّيْءُ الَّذِي رَغَّبَ اللَّه آدَمَ فِيهِ هُوَ الَّذِي رَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِيهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَإِبْلِيسَ وَقَّفَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ وَمُرَبِّيهِ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّهُ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلَّعْنَةِ بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِ، كَيْفَ قَبِلَ فِي الْوَاقِعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودِ الْوَاحِدِ قَوْلَ إِبْلِيسَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَمَالِ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَالْمُرَبِّي. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ طَالَ تَعَجُّبُهُ وَعَرَفَ آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَاءِ اللَّه وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَيْفَ وَسْوَسَ، وَبِمَاذَا وَسْوَسَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَدَّى وَسْوَسَ تَارَةً بِاللَّامِ فِي قوله:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف: ٢٠] وأخرى بإلى؟ قلنا قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا مَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ وَقَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ كَقَوْلِهِ حَدَّثَ لَهُ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ بِتَطْمِيعِهِ في أمرين:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا مِثْلُ جَعَلَ يَفْعَلُ وَأَخَذَ وَأَنْشَأَ وَحُكْمُهَا حُكْمُ كَادَ فِي وُقُوعِ الْخَبَرِ فِعْلًا مُضَارِعًا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهِيَ لِلشُّرُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَادَ لِمُقَارَبَتِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ يَخِصِّفَانِ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ، وَهُوَ أَنْ يَخْرِزَ عَلَيْهَا الْخِصَافَ أَيْ يُلْزِقَانِ الْوَرَقَةَ عَلَى سَوْآتِهِمَا لِلسَّتْرِ وَهُوَ وَرَقُ التِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا فِي صُدُورِ الْكَبِيرَةِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمٌ لِلذَّمِّ فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ١٤] وَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَوَايَةَ وَالضَّلَالَةَ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ وَالْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْفَاسِقَ الْمُنْهَمِكَ فِي فِسْقِهِ. أَجَابَ قَوْمٌ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي، وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ لَا لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ بَلْ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْمَنْدُوبِ، فَأَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَاصِي بِتَارِكِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ عَاصِيًا لَوَجَبَ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: وصف
غَوَى أَيْ بَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا وَإِنْ صح على لغة من يقلب الياء المكسورة مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ فنا وبقا، وهم بنو طيء فَهُوَ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَالْأَحْسَمَ لِلشَّغَبِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَدْ شَرَحْنَا ذلك في سورة البقرة. وهاهنا بَحْثٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَصَى وَغَوَى لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ عَاصِيًا غَاوِيًا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْعُتْبِيُّ: يُقَالُ لِرَجُلٍ قَطَعَ ثَوْبًا وَخَاطَهُ قَدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، وَلَا يُقَالُ:
خَائِطٌ وَلَا خَيَّاطٌ حَتَّى يَكُونَ مُعَاوِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْرُوفًا بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ لَمْ تَصْدُرْ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لَمْ يَجُزْ بَعْدَ أَنْ قَبِلَ اللَّه تَوْبَتَهُ وَشَرَّفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَافِرٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، بَلْ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابَ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ لَا يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ أو زان فكذا هاهنا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا: عَاصٍ وَغَاوٍ يُوهِمُ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ وَغَاوِيًا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ تَرِدْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقَتَيْنِ بَلْ مَقْرُونَتَيْنِ بِالْقِصَّةِ الَّتِي عَصَى فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَصَى فِي كَيْتَ وَكَيْتَ وَذَلِكَ لَا يُوهِمُ التَّوَهُّمَ الْبَاطِلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي عَبِيدِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ وَوَلَدِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى فَالْمَعْنَى ثُمَّ اصْطَفَاهُ فَتَابَ عَلَيْهِ أَيْ عَادَ/ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَهَدَاهُ رُشْدَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَبِلَ اللَّه مِنْهُ ذَلِكَ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ كَانَ بُكَاؤُهُ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ أَكْثَرَ»
وَقَالَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٧]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
اعْلَمْ أَنَّ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِشَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً وَهُوَ خِطَابُ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قَالَ: اهْبِطا وَذَكَرُوا فِي جَوَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخِطَابُ لِآدَمَ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ وَلِإِبْلِيسَ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ فَلِكَوْنِهِمَا جِنْسَيْنِ صَحَّ قَوْلُهُ: اهْبِطا وَلِأَجْلِ اشْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْكَثْرَةِ صَحَّ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ثَانِيهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَمَّا كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَصْلًا لِلْبَشَرِ وَالسَّبَبِ اللَّذَيْنِ مِنْهُمَا تَفَرَّعُوا جُعِلَا كَأَنَّهُمَا/ الْبَشَرُ أَنْفُسُهُمْ فَخُوطِبَا مُخَاطَبَتَهُمْ فَقَالَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ عَلَى لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَقَالَ الْقَاضِي: يَكْفِي فِي تَوْفِيَةِ هَذَا الظَّاهِرِ حَقَّهُ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ وَالشَّيَاطِينُ أَعْدَاءً لِلنَّاسِ وَالنَّاسُ أَعْدَاءً لَهُمْ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ عَدَاوَةُ بَعْضِ الْفَرِيقَيْنِ لِبَعْضٍ لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ فِي الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْهُدَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّسُلُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْآخَرُ وَالْأَدِلَّةُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ الْقُرْآنُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى الَّذِي ضَمِنَ اللَّه عَلَى اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ، وَاتِّبَاعُهَا لَا يَتَكَامَلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَا وَبِأَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَمِنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ أَنْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُمَكِّنُهُ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فِي الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ: الْمُتَّبِعُ لِهُدَى اللَّه قَدْ يحلقه الشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا، قُلْنَا: الْمُرَادُ لَا يَضِلُّ فِي الدِّينِ وَلَا يَشْقَى بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنْ حَصَلَ الشَّقَاءُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ، وَلَمَّا وَعَدَ اللَّه تَعَالَى مَنْ يَتَّبِعُ الْهُدَى أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ فِيمَنْ أَعْرَضَ، فَقَالَ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وَالذِّكْرُ يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَدِلَّةُ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فَالضَّنْكُ أَصْلُهُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: مَنْزِلٌ ضَنْكٌ، وَعَيْشٌ ضَنْكٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَعِيشَةٌ ذَاتُ ضَنْكٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضِّيقَ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ
وَرَفَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا»
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْمَخْزُومِيِّ وَالْمُرَادُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ تَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الضِّيقُ فِي الْآخِرَةِ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنَّ طَعَامَهُمْ فِيهَا الضَّرِيعُ وَالزَّقُّومُ، وَشَرَابَهُمُ الْحَمِيمُ وَالْغِسْلِينُ فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا/ وَلَا يَحْيَوْنَ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ الضِّيقُ فِي أَحْوَالِ الدِّينِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ هِيَ أَنْ تُضَيَّقَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْخَيْرِ فَلَا يَهْتَدِي لِشَيْءٍ مِنْهَا.
سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الْبَلَاءِ فَاسْأَلُوا اللَّه الْعَافِيَةَ» فَقَالَ أَهْلُ الْبَلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَفَلَاتِ عَنِ اللَّه تَعَالَى فَعُقُوبَتُهُمْ أَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَيُّ مَعِيشَةٍ أَضْيَقُ وَأَشَدُّ مِنْ أَنْ يُرَدَّ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ،
وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ هِيَ مَعِيشَةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوقِنٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الضِّيقُ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عُقُوبَةُ الْمَعْصِيَةِ ثَلَاثَةٌ: ضِيقُ الْمَعِيشَةِ وَالْعُسْرُ فِي الشِّدَّةِ، وَأَنْ لَا يَتَوَصَّلَ إِلَى قُوَّتِهِ إِلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى»
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: ٩٧] وَكَمَا فُسِّرَتِ الزُّرْقَةُ بِالْعَمَى، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ يُحْشَرُ بَصِيرًا فَإِذَا سِيقَ إِلَى الْمَحْشَرِ عَمِيَ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَعَلَيْهِ قد تقدم في قوله: زُرْقاً [طه: ١٣٢]. وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلِمَهُمُ اللَّه تَعَالَى بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ لَهُمُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَجَازًا، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا قَوْلُهُ: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَالِ الدُّنْيَا أَقُولُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ ذَلِكَ الْعَمَى بِمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ نَسِيَ الدَّلَائِلَ فِي الدُّنْيَا فَلَوْ كَانَ الْعَمَى الْحَاصِلُ فِي الْآخِرَةِ بَيْنَ ذَلِكَ النِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، كَمَا أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَأْخُوذٌ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْجَاهِلَةَ فِي الدُّنْيَا الْمُفَارَقِةَ عَنْ أَبْدَانِهَا عَلَى جَهَالَتِهَا تَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْجَهَالَةِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ تَصِيرُ هُنَاكَ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَبَيْنَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَبَيْنَ طَرِيقَةِ الْقَاضِي الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أُصُولِ الِاعْتِزَالِ بَوْنٌ شَدِيدٌ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَشْرِهِ أَعْمَى أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقٍ يَنَالُ مِنْهُ خَيْرًا بَلْ يَبْقَى وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
فَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ بِهِ هَذَا الْعَمَى جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ اتِّبَاعَ الْهُدَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا جَاهِلَةً ضَالَّةً عَنِ الِاتِّصَالِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ بَقِيَتْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَعَظُمَتِ الْآلَامُ الرُّوحَانِيَّةُ، فَلِهَذَا عَلَّلَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ الْعَمَى فِي الْآخِرَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ فَسَّرَ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ بِالضِّيقِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَى فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ فَقَدِ/ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَشْرَكَ وَكَفَرَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَسْرَفَ فِي أَنْ عَصَى اللَّه وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: أَسْرَفَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْزِي مَنْ هَذَا حَالُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ وَالْعَمَى وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ: عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أَمَّا الْأَشَدُّ فَلِعِظَمِهِ، وَأَمَّا الْأَبْقَى فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ كَيْفَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَعْتَبِرُ [بِهِ] الْمُكَلَّفُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَقَالَ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ أَفَلَمْ يَهْدِ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتُ وَفَاعِلُهُ هُوَ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا قَالَ الْقَفَّالُ: جَعَلَ كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مُبَيَّنًا لَهُمْ، كَمَا جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَاعِظًا لَهُمْ وَزَاجِرًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَفَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ بِالنُّونِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي أَفَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ بَيَانًا يَهْتَدُونَ بِهِ لَوْ تَدَبَّرُوا وَتَفَكَّرُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أَنَّ قُرَيْشًا يُشَاهِدُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ ضُرُوبِ الْهَلَاكِ، وَلِلْمُشَاهَدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ آيَاتٌ لِأُولِي النُّهَى، أَيْ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لِلنُّهْيَةِ مَزِيَّةً عَلَى الْعَقْلِ، وَالنُّهَى لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْتَهِي بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، كَمَا أَنَّ لِقَوْلِنَا: أُولُو الْعَزْمِ مَزِيَّةً على أولو الْحَزْمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْلُ الْوَرَعِ وَأَهْلُ التَّقْوَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يُنَزَّلُ الْعَذَابُ مُعَجَّلًا عَلَى/ مَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ إِخْبَارُ اللَّه تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ وَكَتْبُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ أُمَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَذَّبُوا فَسَيُؤَخَّرُونَ وَلَا يُفْعَلُ بِهِمْ مَا يُفْعَلُ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: عَلِمَ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَوْ أَنْزَلَ بِهِمُ الْعَذَابَ لَعَمَّهُمُ الْهَلَاكُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَصْلَحَةُ فِيهِ خَفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَهُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ وَمَنْ شَاءَ بِعَذَابِهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً افْتَقَرَتْ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَلِهَذَا قَالَ
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: ٤٥] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع الحال أي وَأَنْتَ حَامِدٌ لِرَبِّكَ عَلَى أَنْ وَفَّقَكَ لِلتَّسْبِيحِ وَأَعَانَكَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَمَرَ عَقِيبَ الصَّبْرِ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى يُفِيدُ السَّلْوَةَ وَالرَّاحَةَ إِذْ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ لِقَاءِ اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّسْبِيحِ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: دَخَلَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِيهِ، فَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَطْرافَ النَّهارِ كَالتَّوْكِيدِ لِلصَّلَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَهُمَا صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ كَمَا اخْتَصَّتْ فِي قَوْلِهِ:
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] بِالتَّوْكِيدِ. الْقَوْلُ/ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَزِيَادَةٍ، أَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلِأَنَّ الزَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَ غُرُوبِهَا، فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ دَاخِلَانِ فِي هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ، فَأَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ دَخَلَتْ فِيهِمَا، بَقِيَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى وَأَطْرَافُ النَّهَارِ لِلنَّوَافِلِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ مِنَ الْخَمْسِ، فَقَوْلُهُ:
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلْفَجْرِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا لِلْعَصْرِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ لِلْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ، فَيَبْقَى الظُّهْرُ خَارِجًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَبِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى. هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا التَّسْبِيحَ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْنَى اشْتَغِلْ بِتَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى صَبَّرَهُ أَوَّلًا عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِ وَمِنْ إِظْهَارِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ دَائِمًا مُظْهِرًا لِذَلِكَ وَدَاعِيًا إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَالَ مَا يَجْمَعُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ مَا كَانَ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فِيهِ أَكْثَرُ. وَذَلِكَ لِسُكُونِ النَّاسِ وَهَدْءِ حَرَكَاتِهِمْ وَتَعْطِيلِ الْحَوَاسِّ عَنِ الْحَرَكَاتِ وَعَنِ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦] وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزُّمَرِ: ٩] وَلِأَنَّ اللَّيْلَ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهَارُ لَهُ طَرَفَانِ فَكَيْفَ قَالَ: وَأَطْرافَ النَّهارِ بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: ١١٤]، وَجَوَابُهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ نَهَارٍ وَيَعُودُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكَ تَرْضى فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا:
أَنَّ هَذَا كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ: يَا فُلَانُ اشْتَغِلْ بِالْخِدْمَةِ فَلَعَلَّكَ تَنْتَفِعُ بِهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ إِنِّي أُوصِلُكَ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ فِي النِّعْمَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] وَقَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٩]، وَثَانِيهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الشَّفَاعَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ: لَعَلَّكَ تَرْضى بِضَمِّ التَّاءِ وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرْضَاهُ فَقَدْ رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣١ الى ١٣٥]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّسْبِيحِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ مَدِّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مَتَّعَ بِهِ الْقَوْمَ فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَظَرُ الْعَيْنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا:
مَدُّ النَّظَرِ تَطْوِيلُهُ وَأَنْ لَا يَكَادَ يَرُدَّهُ اسْتِحْسَانًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ إِعْجَابًا بِهِ كَمَا فَعَلَ نَظَّارَةُ قارون حيث قالوا: يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [الْقَصَصِ: ٧٩] حَتَّى وَاجَهَهُمْ أولوا الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ:
وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْقَصَصِ: ٨٠] وَفِيهِ أَنَّ النَّظَرَ غَيْرَ الْمَمْدُودِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى شَيْءٍ مَرَّةً ثُمَّ غَضَّ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ إِلَى الزَّخَارِفِ كَالْمَرْكُوزِ فِي الطِّبَاعِ قِيلَ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَنْتَ مُعْتَادٌ لَهُ. وَلَقَدْ شَدَّدَ الْمُتَّقُونَ فِي وُجُوبِ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ أَبْنِيَةِ الظَّلَمَةِ وَعُدَدِ الْفَسَقَةِ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَرْكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِعُيُونِ النَّظَّارَةِ، فَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا مُحَصِّلٌ لِغَرَضِهِمْ وَكَالْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرَ، بَلْ هُوَ الْأَسَفُ أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا فَاتَكَ مِمَّا نَالُوهُ مِنْ حَظِّ الدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: «نَزَلَ ضَيْفٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ لِبَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، فَقَالَ: واللَّه لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَهْنٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَذْهَبَ بِدِرْعِهِ إِلَيْهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَإِلَى أَعْمَالِكُمْ»
وَقَالَ أَبُو
إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ [أَيْ] أَلْذَذْنَا بِهِ، وَالْإِمْتَاعُ الْإِلْذَاذُ بِمَا يُدْرَكُ مِنَ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَيُسْمَعُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَيُشَمُّ مِنَ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكَحِ، يُقَالُ أَمْتَعَهُ إِمْتَاعًا وَمَتَّعَهُ تَمْتِيعًا وَالتَّفْعِيلُ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَزْواجاً مِنْهُمْ أَيْ أَشْكَالًا وَأَشْبَاهًا مِنَ الْكُفَّارِ وَهِيَ مِنَ الْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْمُشَاكَلَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَشْكَالٌ فِي الذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَصْنَافًا مِنْهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ: رِجَالًا مِنْهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَفِي انْتِصَابِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: عَلَى الذَّمِّ وَهُوَ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى تَضْمِينِ مَتَّعْنَا مَعْنَى أَعْطَيْنَا وَكَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَهُ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ أَزْوَاجًا عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ فِيمَنْ حَرَّكَ قُلْنَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّينَةُ وَالْبَهْجَةُ كَمَا جَاءَ فِي الْجَهْرَةِ. قُرِئَ: أَرِنَا اللَّه جَهْرَةً، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ زَاهِرٍ وَصْفًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ زَهْرَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا لِصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَتَهَلُّلِ وُجُوهِهِمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الصُّلَحَاءُ مِنْ شُحُوبِ الْأَلْوَانِ وَالتَّقَشُّفِ فِي الثِّيَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: لِنُعَذِّبَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: ٥٥]. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:
إِضْلَالًا مِنِّي لَهُمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّنْيَا عِنْدَ حُضُورِهَا وَالْإِقْبَالَ إِلَى اللَّه أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ حُضُورِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ رُجُوعُ الْفُقَرَاءِ إِلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَرُّعِ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ عَلَى مَنْ أوتي الدنيا ضروبا من التكاليف لَوْلَاهَا لَمَا لَزِمَتْهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَلِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَعَاصِي يَكُونُ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْمَعَاصِي أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَاجِزِ الْفَقِيرِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي الدُّنْيَا تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ الَّذِي تَجِدُهُ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ مَطْلُوبِهِمْ وَأَبْقَى، لِأَنَّهُ يَدُومُ وَلَا يَنْقَطِعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ مَا أوتوه من مِنَ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُوتِيتَهُ مِنْ يَسِيرِ الدُّنْيَا إِذَا قَرَنْتَهُ بِالطَّاعَةِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْعَاقِبَةِ وَأَبْقَى، فَذَكَرَ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَهُ بِحُسْنِ عَاقَبَتِهِ إِذَا رَضِيَ بِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُعْطِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَقَارِبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَمَ: ٥٥] وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَضُمُّهُ الْمَسْكَنُ إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مُمْكِنٌ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ يَعْنَى كَمَا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَأْمُرْ أَنْتَ قَوْمَكَ بِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَالْمُرَادُ كَمَا تَأْمُرُهُمْ فَحَافِظْ عَلَيْهَا فِعْلًا، فَإِنَّ الْوَعْظَ بِلِسَانِ الْفِعْلِ أَتَمُّ مِنْهُ بِلِسَانِ الْقَوْلِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّه/ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْهَبُ إِلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ صَبَاحٍ وَيَقُولُ: «الصَّلَاةَ» وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَشْهُرًا،
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ لِمَنَافِعِهِمْ وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْمَنَافِعِ بِقَوْلِهِ: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ مِنْهُ وَمِنْهُمُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا تُرِيدُ السَّادَةُ مِنَ الْعَبِيدِ الْخَرَاجَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦، ٥٧]. وَثَانِيهَا: لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لِنَفْسِكَ وَلَا لِأَهْلِكَ بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُ أَهْلَكَ، فَفَرِّغْ بَالَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي معناه قول
قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَوْ شِدَّةٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ»
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ التَّكَسُّبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: ٣٧]، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فَالْمُرَادُ وَالْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى يَعْنِي تَقْوَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أُوهِمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمُ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ، وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥] وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ما في القرآن إذ وَافَقَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعَلُّمِ وَمَا رَأَى أُسْتَاذًا الْبَتَّةَ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَيِّنَةَ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَبُّوتِهِ وَبَعْثَتِهِ. وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقَفَّالُ [أَنَّ] الْمَعْنَى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْآيَاتِ وَكَفَرُوا بِهَا كَيْفَ عَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَمَاذَا يُؤَمِّنُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ كَحَالِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ هَذَا الْبَيَانُ فِي الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ: بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَاحَ لَهُمْ كُلَّ عُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي التَّكْلِيفِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَالْمُرَادُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَيَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْآنُ وَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ وَبَيَّنَّا عَلَى لِسَانِكَ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. ومعنى: مِنْ قَبْلِهِ يَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِهِ وَيَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا معنى قوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ...
لَقالُوا [طه: ١٣٤] وَالْهَالِكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قُلْنَا الْمَعْنَى لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ:
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ،
رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَحْتَجُّ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ لَمْ يَأْتِنِي رَسُولٌ وَإِلَّا كُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ. وَتَلَا قَوْلَهُ: لَوْلا/ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا
وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ يَقُولُ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَنْتُفِعُ بِهِ، وَيَقُولُ الصَّبِيُّ: كُنْتُ صَغِيرًا لَا أَعْقِلُ فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوهَا فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ شَقِيٌّ وَيَبْقَى مَنْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ: «عَصَيْتُمُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَوْكُمْ»
وَالْقَاضِي طَعَنَ فِي الْخَبَرِ وَقَالَ: لَا يَحْسُنُ الْعِقَابُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَلَّا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَا لِنُؤْمِنَ؟ وَهَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتْبَعَ آيَاتِكَ؟ وإن كان في الْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، فَصَحَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ إِذَا أَطَاعُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الِاحْتِجَاجَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَبْرِ مِنْ أَنَّ مَا هُوَ جَوْرٌ مِنَّا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَ الْعِقَابُ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ لَكَانَ الْعِقَابُ حَاصِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ السُّورَةَ بِضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَقَالَ: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أَيْ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُنْتَظِرٌ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَهَذَا الِانْتِظَارُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ أَوْ بِسَبَبِ ظُهُورِ الدَّوْلَةِ وَالْقُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ ظُهُورُ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّهُ يَتَمَيَّزُ فِي الْآخِرَةِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْمُحِقِّ مِنْ أَنْوَاعِ كَرَامَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى الْمُبْطِلِ مِنْ أَنْوَاعِ إِهَانَتِهِ فَسَتَعْلَمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ وَالتَّرْدِيدِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ والزجر للكفار، واللَّه أعلم.