ﰡ
- ١ - طه
- ٢ - مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
- ٣ - إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى
- ٤ - تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى
- ٥ - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
- ٦ - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى
- ٧ - وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
- ٨ - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿طه﴾ يَا رَجُلُ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك، وأسند القاضي عياض في كتابه «الشفاء» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿طه﴾ يعني طأ الأرض يا محمد (هذا التفسير غريب ولم ينكره ابن كثير رحمه الله ولم يثبت في أحاديث صحيحة عنه ﷺ أنه كان يقوم على رجل واحدة وإنما ثبت أنه كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، فتفسير (طه) بمعنى طأها مستبعد، والله أعلم) ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ ثُمَّ قَالَ: وَلاَ يخفى ما فِي هَذَا مِنَ الْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿مَآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ قال الضَّحَّاكِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ قَامَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿طه مَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ من آتاه الْعِلْمَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ». وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ، إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» (قال ابن كثير: إسناده جيد، وثعلبة بن الحكم هو الليثي، نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة). وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ هي كقوله: ﴿فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ وكانوا يعلقون الحبال بصدروهم في الصلاة. وقال قتادة: لا والله ما جعله
وقوله تعالى: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إِمْرَارُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وفي قبضته، وتحت تصرفه وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وإلهه لا إله سواه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: أي ما تحت الأرض السابعة، ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ أَيْ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ والسماوات العلى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السموات والأرض، إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ قَالَ: السِّرُّ ما أسره ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، ﴿وَأَخْفَى﴾ مَا أَخْفَى عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَعِلْمُهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ قَالَ: السِّرُّ مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى مَا لَمْ تحدث نفسك به بَعْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْتَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ، وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ غَدًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَأَخْفَى﴾ يَعْنِي الْوَسْوَسَةَ، وقال أيضاً ﴿وَأَخْفَى﴾ أَيْ مَا هُوَ عَامِلُهُ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾: أَيِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ القرآن هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
- ١٠ - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هدى
من ههنا شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَتَكْلِيمُهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ، وسار بأهله: قيل قاصداً بلاد مصر بعد ما طَالَتِ الْغَيْبَةُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ، فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَكَانَتْ لَيْلَةً شَاتِيَةً، وَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ شِعَابٍ وَجِبَالٍ فِي بَرْدٍ وَشِتَاءٍ، وَسَحَابٍ وَظَلَامٍ وَضَبَابٍ، وَجَعَلَ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ مَعَهُ لِيُوَرِّيَ نَارًا كَمَا جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدَحُ شَيْئًا وَلَا يَخْرُجُ منه شرر ولا شيء، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ نَارًا، أَيْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ﴾ أَيْ شِهَابٍ مِنْ نَارٍ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار﴾ وَهِيَ الْجَمْرُ الَّذِي مَعَهُ لَهَبٌ ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَرْدِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِقَبَسٍ﴾ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ أَيْ مَنْ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ
- ١٢ - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
- ١٣ - وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى
- ١٤ - إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي
- ١٥ - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى
- ١٦ - فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
يَقُولُ تَعَالَى ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا﴾ أَيِ النَّارَ وَاقْتَرَبَ مِنْهَا ﴿نُودِيَ يَا مُوسَى﴾، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى: ﴿نودي من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا موسى إني أَنَا الله﴾، وقال ههنا: ﴿إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ﴾ أَيِ الَّذِي يُكَلِّمُكَ وَيُخَاطِبُكَ ﴿فاخلع نَعْلَيْكَ﴾ قيل: كانتا من جلد حمار غير ذكي (قاله علي بن أبي طالب وغير واحد من السلف)، وَقِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ، وَقِيلَ لِيَطَأَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ مُنْتَعِلٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله: ﴿طُوًى﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي، وَكَذَا قَالَ غير واحد، وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، والأول أصح كقوله ﴿إِذْ ناده ربه بالوادي المقدس طوى﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ أَيْ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ فِي زمانه، وقد قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُوسَى أتدري لم اختصصتك بِالتَّكْلِيمِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لأني لم يتواضع إليَّ أَحَدٌ تَوَاضُعَكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ أَيِ واستمع الْآنَ مَا أَقُولُ لَكَ، وَأُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾، هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ أَيْ وَحِّدْنِي وَقُمْ بِعِبَادَتِي مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ قِيلَ مَعْنَاهُ: صَلِّ لِتَذْكُرَنِي، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ ذِكْرِكَ لِي، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الثَّانِي مَا روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قد قال: وأقم الصلاة لذكري" (أخرجه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» (أخرجه الشيخان عن أنَسٍ أيضاً).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾: أَيْ قَائِمَةٌ لَا مَحَالَةَ وَكَائِنَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ قال ابن عباس: أي لَا أُطْلِعُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ قد أخفى الله تعالى عَنْهُ عِلْمَ السَّاعَةِ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، يَقُولُ: كتمتها من الْخَلَائِقِ، حَتَّى لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَكْتُمَهَا مِنْ نفسي لفعلت. قال قتادة: لَقَدْ أَخْفَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، قُلْتُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله﴾، وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
- ١٨ - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
- ١٩ - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى
- ٢٠ - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى
- ٢١ - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى
هَذَا بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ وَخَرْقٌ لِلْعَادَةِ بَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِينَاسِ لَهُ؛ وَقِيلَ وإنما قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ، أَيْ أَمَّا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا؟ فَسَتَرَى مَا نَصْنَعُ بِهَا الْآنَ، ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ أَيْ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، فِي حَالِ الْمَشْيِ، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك: الهش أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْمِحْجَنَ فِي الْغُصْنِ ثُمَّ يُحَرِّكُهُ حَتَّى يُسْقِطَ وَرَقَهُ وَثَمَرَهُ وَلَا يَكْسِرُ العود، فهذا الهش ولا يخبط، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ أَيْ مَصَالِحُ ومنافع وحاجات أُخر غير ذلك.
وقوله تعالى: ﴿أَلْقِهَا يَا مُوسَى﴾ أَيْ هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِكَ يَا مُوسَى أَلْقِهَا، ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ أَيْ صَارَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً، ثُعْبَانًا طَوِيلًا يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَيَّاتِ حَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ صَغِيرٌ، فَهَذِهِ فِي غَايَةِ الْكُبْرِ، وَفِي غَايَةِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ، ﴿تَسْعَى﴾ أَيْ تمشي وتضطرب. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، فَوَلَّى مُدْبِرًا، ونودي أن يا موسى خذها، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ، فَقِيلَ لَهُ
فِي الثَّالِثَةِ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، فأخذها. وقال وهب بن منبه: ألقاها على وجه الارض، ثم حانت منه نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُونَ، يدب يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ، يَمُرُّ بالصخرة فَيَلْتَقِمُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى ولَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أعجز الحية، ثم ذكر به فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُوسَى أَنِ ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ مُوسَى وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ، فَقَالَ ﴿خُذْهَا﴾ بِيَمِينِكَ ﴿وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى﴾، وَعَلَى مُوسَى حينئذٍ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ، فَدَخَلَهَا بِخِلَالٍ مِنْ عِيدَانٍ، فَلَمَّا أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يَدِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِ الْحَيَّةِ حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ، ثُمَّ قَبَضَ
- ٢٣ - لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى
- ٢٤ - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
- ٢٥ - قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
- ٢٦ - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
- ٢٧ - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
- ٢٨ - يَفْقَهُواْ قَوْلِي
- ٢٩ - وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
- ٣٠ - هَارُونَ أَخِي
- ٣١ - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
- ٣٢ - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي
- ٣٣ - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
- ٣٤ - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا
- ٣٥ - إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا
وَهَذَا بُرْهَانٌ ثَانٍ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وههنا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾، وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فرعون وملئه﴾، وقال مجاهد: ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾: كفك تحت عضدك؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا أَذًى، وَمِنْ غَيْرِ شَيْنٍ (قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحّاك وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْرَجَهَا وَاللَّهِ كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾، وَقَالَ وَهْبٌ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أدنه، فلم يزل يدينه حتى أسند ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ فَاسْتَقَرَّ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرِّعْدَةُ، وَجَمَعَ يَدَهُ فِي الْعَصَا وَخَضَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ. وَقَوْلُهُ ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾: أَيِ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجْتَ فَارًّا مِنْهُ وَهَارِبًا، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُرْهُ فَلْيُحْسِنْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ يُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَنَسِيَ الرَّبَّ الْأَعْلَى. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي، فَأَنْتَ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنْدِي، بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي، بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي، حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُنِي فَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ، وَلَكِنَّهُ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَوَسِعَهُ حِلْمِي وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي وَحَقِّي، إِنِّي أَنَا الْغَنِيُّ لَا غَنِيَّ غَيْرِي، فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي، وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِخْلَاصِي، وَذَكِّرْهُ أيامي، وحذره من نقمتي وبأسي، وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيِّنًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أَنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُرَوِّعَنَّكَ مَا أَلْبَسْتُهُ مِنْ لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي، أَمْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَادِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي، أَمْ يَظُنُّ الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني (أخرجه ابن أبي حاتم من كلام وهب بن منبه، وهو طويل اقتصرنا على بعضه).
وَلَوْ سَأَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أُعْطِيَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَكَا مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مَا يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لِسَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ من كثير الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، فَحَلَّ عُقْدَةً من لسانه.
وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام فِي أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ أَخِيهِ هارون له، قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ؟ قَالُوا: لا ندري، قال أنا والله أَدْرِي! قَالَتْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي، إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ في الدينا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ، قَالَ: (مُوسَى) حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النبوة، فقلت: صدق والله (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَهْرِي، ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ أَيْ فِي مُشَاوَرَتِي، ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يذكر الله قائماً ومضظجعاً، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾ أَيْ فِي اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثك لَنَا إِلَى عَدُوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذلك.
- ٣٧ - وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى
- ٣٨ - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى
- ٣٩ - أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي
- ٤٠ - إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا
هَذِهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ عَلَيْهِ، فِيمَا
(حديث الفتون): روى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النسائي في سننه، عن سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا أبا جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أن يجعل في ذريته أبناء وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذلك لا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وعد إبراهيم عليه اسلام، فقال فرعون: كيف تَرَوْنَ؟ فَائْتَمَرُوا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَن يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إياكم، ولم يفنوا بمن يقتلون، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً، فَلَمَّا كَانَ مَنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ.
فَأَوْحَى الله إِلَيْهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين، فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فقالت في نفسها: ما فعلت
أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ، فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذته فأردن أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امرأة الملك بما وجدنا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا، حتى دفعنه إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ الله عليه منها محبة لم يلق عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جُبَيْرٍ. فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي يُحلف بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، وَلَكِنْ حَرَمَهُ ذَلِكَ». فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إلى كل امرأة لها، لأن تختار لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ، تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تسمعين له ذكراً، حي ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْجُنُبُ أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّؤُرَاتِ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون، فأخذوها فقالوا: وما يدرك نصحهم له، هل تعرفينه؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يا ابن جبير.
فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَن قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا، قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أن أجع بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لا آلوه خيراً، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي، وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ. فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ وما كَانَ فِيهِمْ.
فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إِيَّاهُ فِيهِ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِخُزَّانِهَا وَظُؤُرِهَا وَقَهَارَمَتِهَا: لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِأَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دخل عليها
بجلته وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ، وَنَحَلَتْ أُمَّهُ لِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحَلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّهُ إِنَّهُ زَعَمَ أَنْ يَرِثَكَ وَيَعْلُوَكَ وَيَصْرَعَكَ، فأرسل إلى
فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، فبينما كان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا أم موسى، إلا أن يكون الله أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا وَلَا تُرَخِّصُ لَهُمْ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ وَمَنْ يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة قَوْمِهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ أَنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، فَاطْلُبُوا لِي عِلْمَ ذَلِكَ آخذ لكم بحقكم، فبينما هو يَطُوفُونَ وَلَا يَجِدُونَ ثَبْتًا إِذَا بِمُوسَى مِنَ الغد قد رأى الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آخَرَ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ إنك لغوي مبين، أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ إنما أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ، وإنما قال مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ فَتَتَارَكَا، وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلَ فِرْعَوْنَ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ يَمْشُونَ على هينتهم، يَطْلُبُونَ مُوسَى وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جرير.
فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تذودان﴾ يعني بذلك حابستين غنمها، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ القوم، وإنما نسقي من فُضُولَ حِيَاضِهِمْ، فَسَقَى لَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْتَرِفُ فِي الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ، فانصرفتا بغنمها إِلَى أَبِيهِمَا وَانْصَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ
(يتبع... )
فاما سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ يَكُونُ لَهُ رِدْءًا يتكلم عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السَّلَامُ، فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَقَامَا عَلَى بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَا: ﴿أَنَاْ رَسُولَا ربك﴾، قال: فمن ربكما؟ فأخبراه بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ: أُريد أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ. فأبى عليه، فقال: ائت بآية إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يكفلها عَنْهُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا له: هذان ساحرن يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهما السَّحَرَةَ، فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ، قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ فَمَا أجرنا إن نحن غلبناه؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ، فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضَحًّى.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ اليوم الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ والسحرة
فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ، وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ: الطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ وَيُوَاثِقُهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ عنه أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ وَنَكَثَ عَهْدَهُ، حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ، مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لِلَّهِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ وَعَدَنِي ربي إذا أتيت البحر انفلق اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى أُجَاوِزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا، فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى، فَلَمَّا أَنْ جَازَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أُمِرَ؛ فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرَقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ.
ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فيه﴾ الآية: قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ، وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ،
وَمَضَى فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا، وَقَالَ: أَطِيعُوا هَارُونَ فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ، رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ! قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ، قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أن ريح فم الصائم أطيب عندي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا. ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أُمِرَ به، فلما رأى قومه أنه لم
فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، ﴿فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أسفا﴾، فَقَالَ لَهُمْ: مَا سَمِعْتُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وَفَطِنْتُ لَهَا وَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ ﴿فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ، وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً﴾. وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا بك أَنْ يَفْتَحَ لَنَا بَابَ تَوْبَةٍ نَصْنَعُهَا، فَيُكَفِّرَ عَنَّا مَا عَمِلْنَا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ لَا يَأْلُو الْخَيْرَ، خِيَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ﴾؟ وفيهم من كان الله اطلع مِنْهُ عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَقَالَ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾، فَقَالَ: يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي فَقُلْتَ إِنَّ رَحْمَتِي كَتَبْتُهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، هَلَّا أَخَّرْتَنِي حَتَّى تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وولد، فيقتله
ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أمرهم بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا، فَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةً وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُصْغُونَ، يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ، وَذَكَرُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا، فَقَالُوا: يَا مُوسَى! إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ: قِيلَ ليزيد هكذا قرأت؟ قَالَ: نَعَمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إليه، قالوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا
تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ بني إِسْرَائِيلَ: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههنا قاعدون﴾، فَأَغْضَبُوا مُوسَى فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يومئذٍ، فَاسْتَجَابَ الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يُصْبِحُونَ كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا في كل ناحية ثلاثة أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس (أخرجه النسائي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، قال ابن كثير: وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابن عباس مما أبيح نقله من الإسرائيليات).
- ٤١ - وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
- ٤٢ - اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي
- ٤٣ - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
- ٤٤ - فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ، وقال قتادة: عَلَى قَدَرِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ أَيِ اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولًا لِنَفْسِي، أَيْ كَمَا
فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ العتو والاسكتبار، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ أَعْذِرَا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ دَعْوَتَهُمَا لَهُ تَكُونُ بكلام رقيق، لين سهل رفيق، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ وَأَنْجَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقوله: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ أَيْ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَكَةِ، أَوْ يَخْشَى - أَيْ يُوجِدُ طَاعَةً مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ يَخْشَى﴾ فَالتَّذَكُّرُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَحْذُورِ، وَالْخَشْيَةُ تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ يَقُولُ: لَا تَقُلْ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونُ أَهْلِكْهُ قَبْلَ أن أعذر إليه.
- ٤٦ - قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى
- ٤٧ - فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
- ٤٨ - إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنَّهُمَا قَالَا مُسْتَجِيرِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى شَاكِيَيْنِ إِلَيْهِ ﴿إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى﴾ يَعْنِيَانِ أَنْ يَبْدُرَ إِلَيْهِمَا بِعُقُوبَةٍ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمَا فَيُعَاقِبَهُمَا وَهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ﴿أَن يَفْرُطَ﴾ يعجل، وقال مجاهد: يسلط علينا، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿أَوْ أَن يَطْغَى﴾ يَعْتَدِيَ ﴿قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ أَيْ لَا تَخَافَا مِنْهُ فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلَامَكُمَا وَكَلَامَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي فَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَنَفَّسُ وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي. ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِن رَّبِّكَ﴾ أَيْ بِدَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ مِنْ رَبِّكَ، ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ أَيْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ إِنِ اتَّبَعْتَ الْهُدَى، وَلِهَذَا لَمَّا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ كِتَابًا كَانَ أَوَّلُهُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ
- ٥٠ - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
- ٥١ - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى
- ٥٢ - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى مُنْكِرًا وُجُودَ الصَّانِعِ الْخَالِقِ ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ أَيِ الَّذِي بَعَثَكَ وَأَرْسَلَكَ مَنْ هُوَ؟ فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ وَمَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَةً، وعنه: جَعَلَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا وَالْحِمَارَ حِمَارًا وَالشَّاةَ شَاةً. وقال مجاهد: أعطى كُلَّ شَيءٍ صورته، وسوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْقٍ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْقِ الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ والنكاح، ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾؟ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَخْبَرَهُ مُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ وَقَدَّرَ فَهَدَى، شَرَعَ يَحْتَجُّ بِالْقُرُونِ الْأُولَى، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، أَيْ فما بالهم إذا كان الأمر كذلك، لَمْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: هُمْ وَإِنْ لم يعبدوا فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَضْبُوطٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وكتاب الأعمار، ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ أَيْ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَفُوتُهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا يَنْسَى شَيْئًا، يَصِفُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى شيئاً تبارك وَتَقَدَّسَ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ يَعْتَرِيهِ نُقْصَانَانِ "أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، وَالْآخَرُ نِسْيَانُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.
- ٥٤ - كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى
- ٥٥ - مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى
- ٥٦ - وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى
هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْهُ فَقَالَ: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، ثُمَّ اعْتُرِضَ الْكَلَامُ بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾ أَيْ قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا، وَتُسَافِرُونَ عَلَى ظَهْرِهَا، ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ أَيْ جَعَلَ لَكُمْ طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مناكبها
- ٥٨ - فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى
- ٥٩ - قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَهِيَ إِلْقَاءُ عَصَاهُ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فَقَالَ: هَذَا سِحْرٌ جِئْتَ بِهِ لِتَسْحَرَنَا وَتَسْتَوْلِيَ بِهِ عَلَى النَّاسِ فَيَتَّبِعُونَكَ وَتُكَاثِرُنَا بِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا مَعَكَ، فَإِنَّ عِنْدَنَا سِحْرًا مِثْلَ سِحْرِكَ فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا أَنْتَ فِيهِ ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً﴾ أَيْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِيهِ، فَنُعَارِضُ مَا جِئْتَ به بما عندنا مِنَ السِّحْرِ، فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿قَالَ﴾ لَهُمْ مُوسَى ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ (روي عن ابن عباس أنه يوم عاشوراء، أخرجه ابن أبي حاتم}، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جَمِيعِهِمْ، لِيُشَاهِدَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُطْلَانَ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ﴾ أَيْ جَمِيعُهُمْ ﴿ضُحًى﴾ أَيْ ضَحْوَةً مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَجْلَى وَأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ، وَهَكَذَا شَأْنُ الأنبياء، كل أمرهم بيّن واضح لَيْسَ فِيهِ خَفَاءٌ وَلَا تَرْوِيجٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: لَيْلًا، وَلَكِنْ نَهَارًا، ضُحًى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يَوْمُ الزِّينَةِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالَ السدي: كان يوم عيدهم. قُلْتُ: وَفِي مِثْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا نَنْظُرُ فِيهِ، قَالَ مُوسَى: لَمْ أؤمر بِهَذَا، إِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ دَخَلْتُ إِلَيْكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلًا، وَقُلْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ هُوَ، قَالَ فِرْعَوْنُ اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَفَعَلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ ﴿مَكَاناً سُوًى﴾ مُنَصَّفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَدْلًا، وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بن زيد: مستوٍ بين الناس، وما فيه لا يكون صوت وَلَا شَيْءَ، يَتَغَيَّبُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ، مستوٍ حين يرى.
- ٦١ - قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى
- ٦٢ - فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
- ٦٣ - قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى
- ٦٤ - فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ أتوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ لَمَّا تَوَاعَدَ هو وموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى وَقْتٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومَيْنِ، تَوَلَّى: أَيْ شَرَعَ فِي جَمْعِ السَّحَرَةِ مِنْ مَدَائِنِ مملكته، كل من ينسب إلى السحر فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِيهِمْ كَثِيرًا نَافِقًا جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عليم﴾، ثُمَّ أَتَى: أَيِ اجْتَمَعَ النَّاسُ، لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ: وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَجَلَسَ فِرْعَوْنُ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَاصْطَفَّ لَهُ أَكَابِرُ دَوْلَتِهِ، وَوَقَفَتْ الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقفت السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ صُفُوفًا وَهُوَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ فِي إِجَادَةِ عَمَلِهِمْ فِي ذَلِكَ اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون ﴿أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لمن المقربين﴾. ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ أَيْ لَا تُخَيِّلُوا لِلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ إِيجَادَ أَشْيَاءَ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وليست مخلوقة، فتكونون قَدْ كَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ ﴿فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ أَيْ يُهْلِكُكُمْ بِعُقُوبَةٍ هَلَاكًا لَا بَقِيَّةَ لَهُ، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَشَاجَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامِ سَاحِرٍ، إِنَّمَا هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى﴾: أَيْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ وهذه لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِعْرَابِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ﴿إِنْ هَذَيْنَ لَسَاحِرَانِ﴾، وَالْغَرَضُ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَأَخَاهُ - يَعْنُونُ مُوسَى وَهَارُونَ - سَاحِرَانِ عَالِمَانِ خَبِيرَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ، يُرِيدَانِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عَلَيْهِ، وَيُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ أَيْ وَيَسْتَبِدَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ السِّحْرُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ بِسَبَبِهَا، لَهُمْ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ عليها، يقولون: إذا غلب هذان أهلكاهم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهم الرِّيَاسَةُ بِهَا دُونَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الفتون أن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾ يعني ملهكم الذي هُمْ فِيهِ والعيش، وعن عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ قَالَ: ييصرفا وجوه الناس إليهما (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال مجاهد ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾ قال: أولو الشرف والعقل والأسنان. ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثم أتوا صَفّاً﴾ أَيِ اجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ صَفًّا وَاحِدًا، وَأَلْقُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِتَبْهَرُوا الْأَبْصَارَ وَتَغْلِبُوا هَذَا وَأَخَاهُ، ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ أَيْ مِنَّا وَمِنْهُ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ وَعَدَنَا هَذَا الْمَلِكُ، الْعَطَاءَ الْجَزِيلَ، وَأَمَّا هُوَ فَيَنَالُ الرِّيَاسَةَ الْعَظِيمَةَ.
- ٦٦ - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى
- ٦٧ - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى
- ٦٨ - قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى
- ٦٩ - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
- ٧٠ - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السَّحَرَةِ حِينَ تَوَافَقُوا هُمْ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾: أَيْ أنت أولاً، ﴿وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ﴾: أي أنتم أولاً لنرى مَاذَا تَصْنَعُونَ مِنَ السِّحْرِ، وَلِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ جَلِيَّةً أَمْرُهُمْ، ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى أَنَّهُمْ لما ألقوا ﴿قالوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لغالبون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾، وقال ههنا: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْدَعُوهَا مِنَ الزِّئْبَقِ مَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِهِ، وَتَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فَأَلْقَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلًا حَتَّى صَارَ الْوَادِي مَلْآنَ حَيَّاتٍ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ أَيْ خَافَ على الناس أن يفتنوا بِسِحْرِهِمْ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا في يمنيه، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ أَنَّهَا صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْرَاسٍ، فَجَعَلَتْ تَتْبَعُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَتَّى لَمْ تُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا تَلَقَّفَتْهُ وَابْتَلَعَتْهُ، وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ذَلِكَ عياناً جهرة نهاراً صحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى﴾، فَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَلَهُمْ خِبْرَةٌ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَطُرُقِهِ وَوُجُوهِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعُوا سُجَّدًا لِلَّهِ، وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، ولهذا قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شُهَدَاءَ بَرَرَةً، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانُوا ثمانين أَلْفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا خَرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا رُفِعَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. قَالَ وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً﴾ قال: رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم.
- ٧٢ - قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
- ٧٣ - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعِنَادِهِ وَبَغْيِهِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَرَأَى الَّذِينَ قَدِ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ قَدْ آمَنُوا بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَغُلِبَ كُلَّ الْغَلَبِ، شَرَعَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْبَهْتِ، وَعَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وَقَالَ ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ أَيْ صَدَّقْتُمُوهُ ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ قَوْلًا يَعْلَمُ هُوَ وَالسَّحَرَةُ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ بَهْتٌ وَكَذِبٌ ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ أَيْ أَنْتُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُ السِّحْرَ عَنْ مُوسَى، وَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَإِيَّاهُ عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، ثُمَّ أَخَذَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَقَالَ: ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ أَيْ لأجعلنكم مثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم. ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ أَيْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي وَقُومِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنْتُمْ مَعَ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَلَى الْهُدَى، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَكُونُ لَهُ الْعَذَابُ
وَيَبْقَى فِيهِ، فَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي الله عزَّ وجلَّ ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا حَصَلَ لنا من الهدى واليقين ﴿والذي فَطَرَنَا﴾ يَعْنُونَ لَا نَخْتَارُكَ عَلَى فَاطِرِنَا وَخَالِقِنَا الَّذِي أَنْشَأْنَا مِنَ الْعَدَمِ، الْمُبْتَدِئِ خَلْقَنَا مِنَ الطِّينِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ لَا أَنْتَ ﴿فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾ أَيْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ، وَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُكَ ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أَيْ إِنَّمَا لَكَ تَسَلُّطٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهِيَ دَارُ الزَّوَالِ، وَنَحْنُ قَدْ رَغِبْنَا فِي دَارِ الْقَرَارِ، ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾ أَيْ مَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْآثَامِ، خُصُوصًا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيّه. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ قَالَ: أَخَذَ فرعون أربعون غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السحر بالفرماء، وَقَالَ عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بموسى، وهم مِنَ الذين قالوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عليه من السحر﴾ (رواه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أَيْ خَيْرٌ لَنَا مِنْكَ ﴿وَأَبْقَى﴾ أَيْ أَدْوَمُ ثَوَابًا مِمَّا كُنْتَ وعدتنا ومنيتنا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ﴾: أَيْ لَنَا مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ ﴿وَأَبْقَى﴾: أَيْ منك عذاباً إن عصي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ صَمَّمَ عَلَى ذلك وفعله بهم رحمة لَهُم مِّنَ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
- ٧٥ - وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى
- ٧٦ - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى
الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا وَعَظَ بِهِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ، يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ وعذابه الدائم
وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ فَوْقَهَا، فَإِذَا سألتم الله فسألوه الفردوس» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمزي) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدَّقوا الْمُرْسَلِينَ" وَفِي السُّنَنِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وأنعما، وقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أي إقامة وهي بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ أَبَدًا ﴿وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى﴾ أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالشِّرْكِ وَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به منخير وطلب.
- ٧٨ - فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
- ٧٩ - وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا: أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ فِي اللَّيْلِ، وَيَذْهَبَ بِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فرعون، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَصْبَحُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِمِصْرَ لَا دَاعٍ وَلَا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند من بلدانه، ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ جُنْدَهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ جَيْشُهُ، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أَيْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾: أَيْ نَظَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إني مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ووقف ببني إسرائيل أَمَامَهُمْ، وَفِرْعَوْنُ وَرَاءَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: ﴿أَنِ اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً﴾ فضرب البحر بعصاه، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى أَرْضِ الْبَحْرِ، فَلَفَحَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، فَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً﴾: أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ ﴿وَلاَ تَخْشَى﴾ يَعْنِي مِنَ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ قَوْمَكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ﴾: أَيِ الْبَحْرِ ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ وَهَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾.
- ٨١ - كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى
- ٨٢ - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - الْعِظَامَ، وَمِنَنَهُ الْجِسَامَ، حَيْثُ أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر عينهم مِنْهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى جُنْدِهِ قَدْ غَرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أحد، كما قال: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تنظرون﴾. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجد اليهود تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: «نحن أولى بموسى فصوموه» (الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عباس)، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ بعد هلاك فرعون، جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَأَلَ فِيهِ الرُّؤْيَةَ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ هنالك، وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ عَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ، كما يقصه الله تَعَالَى قَرِيبًا، وَأَمَّا الْمَنُّ وَالسَّلْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا، فالمن حلوى كانت تتنزل عليهم مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّلْوَى طَائِرٌ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلٍّ قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغَدِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ أَيْ كُلُوا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي رَزَقْتُكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِي رِزْقِي، فَتَأْخُذُوهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وتخالفوا ما أمرتكم بِهِ، ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ أَيْ أَغْضَبُ عَلَيْكُمْ، ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى﴾ أي فقد شقي، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أَيْ كُلُّ مَنْ تَابَ إليَّ تُبْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، حَتَّى إِنَّهُ تعاب تعالى عَلَى مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقوله تعالى: ﴿تَابَ﴾ أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، قوله: ﴿وَآمَنَ﴾ أَيْ بِقَلْبِهِ، ﴿وَعَمِلَ صَالِحَاً﴾ أَيْ بِجَوَارِحِهِ، وقوله: ﴿ثُمَّ اهتدى﴾ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ ثُمَّ لَمْ يُشَكِّكْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾: أَيِ اسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ)، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾: أَيْ لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى يموت، و «ثم» ههنا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾.
- ٨٤ - قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
- ٨٥ - قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ
- ٨٦ - فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي
- ٨٧ - قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ
- ٨٨ - فَأَخْرَجَ
- ٨٩ - أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
لَمَّا سَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشراً فتمت أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ يَصُومُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ بَيَانُ ذَلِكَ، فَسَارَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَادِرًا إِلَى الطُّورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ أَيْ قَادِمُونَ يَنْزِلُونَ قَرِيبًا مِنَ الطُّورِ، ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ أَيْ لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضًا، ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾، أَخْبَرَ تَعَالَى نَبَيَّهُ مُوسَى بِمَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْحَدَثِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعِبَادَتِهِمُ الْعَجَلَ الذي عمله لهم ذلك السامري، وَقَوْلُهُ: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ أي رجع بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي غَايَةِ الغضب والحنق عليهم، وَالْأَسَفُ: شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿غَضْبَانَ أَسِفاً﴾، أي جزعاً، وقال قتادة والسدي: أسفاً حَزِينًا عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ أَيْ أَمَا وَعَدَكُمْ عَلَى لِسَانِي كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ كَمَا شَاهَدْتُمْ مِنْ نُصْرَتِهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَإِظْهَارِكُمْ عليه، وغير ذلك من أيادي الله، ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ أَيْ فِي انْتِظَارِ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَنِسْيَانِ مَا سَلَفَ مِنْ نِعَمِهِ ﴿أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ «أم» ههنا بمعنى بل، هي لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَعُدُولٌ إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَلْ أَرَدْتُمْ بِصَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا - أَيْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فِي جَوَابِ مَا أَنَّبَهُمْ مُوسَى وَقَرَّعَهُمْ - ﴿مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ أَيْ عَنْ قُدْرَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، ثُمَّ شَرَعُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُذْرِ الْبَارِدِ، يُخْبِرُونَهُ عَنْ تَوَرُّعِهِمْ عَمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أَنْ يَكُونَ عِجْلًا، فَكَانَ عِجْلًا ﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾ أَيْ صَوْتٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا وَمِحْنَةً وَاخْتِبَارًا وَلِهَذَا قال: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَارُونَ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَنْحِتُ الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَقَالَ هارون: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ، فَخَارَ، فَكَانَ إِذَا خَارَ سَجَدُوا لَهُ، وَإِذَا خَارَ رفعوا رؤوسهم، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالُوا: أَيِ الضُلاّل مِنْهُمُ الَّذِينَ افْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ وَعَبَدُوهُ ﴿هَذَا إلهكم وإله موسى فنسي﴾ أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَنَسِيَ﴾ أَيْ نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ أن هذا إلهكم، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا شَيْئًا قط، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ وبياناً لفضحيتهم وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضراً ولا نفعا﴾ أي العجل، فلا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَلَا إِذَا خَاطَبُوهُ، وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نفعا، أي في ديناهم ولا في أخراهم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ خُوَارُهُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الرِّيحُ فِي دُبُرِهِ فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه
- ٩١ - قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ مِنْ نَهْيِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم عن عبادتهم الْعِجْلِ، وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ الْفَعَّالُ لِمَا يريد، ﴿فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي﴾: أَيْ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَاتْرُكُوا مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، ﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾: أَيْ لَا نَتْرُكَ عِبَادَتَهُ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَ مُوسَى فِيهِ وَخَالَفُوا هَارُونَ فِي ذَلِكَ، وَحَارَبُوهُ وَكَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ.
- ٩٣ - أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
- ٩٤ - قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
يخبر تعالى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَرَأَى مَا قَدْ حَدَثَ فِيهِمْ مِنَ الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ الإلهية، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه، فَقَالَ: ﴿مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ أَيْ فَتُخْبِرَنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلَ مَا وقع ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾: أي فيما كنت قدمت إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين﴾، قال ﴿يا ابن أم﴾ ترقق لَهُ بِذِكْرِ الْأُمِّ مَعَ أَنَّهُ شَقِيقُهُ لِأَبَوَيْهِ، لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ فِي الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ الآية. هَذَا اعْتِذَارٌ مِنْ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى فِي سَبَبِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُ فَيُخْبِرْهُ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، قَالَ: ﴿إِنِّي خَشِيتُ﴾ أَن أَتْبَعَكَ فَأُخْبِرَكَ بِهَذَا، فَتَقُولَ لي لما تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ، ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾: أَيْ وَمَا رَاعَيْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، حَيْثُ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَارُونُ هائباً مطيعاً له.
- ٩٦ - قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
- ٩٧ - قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
- ٩٨ - إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
يَقُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّامِرِيِّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ وَمَا الَّذِي عَرَضَ لَكَ حتى فعلت ما فعلت؟
- ١٠٠ - مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً
- ١٠١ - خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ كَمَا وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، هذا ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِّن لَّدُنَّآ﴾ أي من عِنْدِنَا ﴿ذِكْراً﴾ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
- ١٠٣ - يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا
- ١٠٤ - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه». وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾، قِيلَ مَعْنَاهُ زُرْقُ الْعُيُونِ، مِنْ شِدَّةِ ما هو فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ،
﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، لَقَدْ كَانَ لُبْثُكُمْ فِيهَا قَلِيلًا عَشَرَةُ أَيْامٍ أَوْ نَحْوُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾: أَيْ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمْ بَيْنَهُمْ، ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾: أَيِ الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِيهِمْ ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾: أَيْ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْمَعَادِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ أَوْقَاتُهَا وَتَعَاقَبَتْ لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد، وكان غرضهم دَرْءَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لبثوا غير ساعة﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسأل العادين﴾ ولو كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَآثَرْتُمُ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَانِي وَلَكِنْ تصرفتم فأسأتم التصرف.
- ١٠٦ - فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً
- ١٠٧ - لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتًا
- ١٠٨ - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا
يَقُولُ تَعَالَى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ أَيْ هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ؟ ﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ أَيْ يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا ويمحقها ويسيرها تسييراً (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة، فنزلت الآية) ﴿فَيَذَرُهَا﴾ أَيِ الْأَرْضَ ﴿قَاعًا صَفْصَفًا﴾ أَيْ بِسَاطًا واحداً، والقاع
إِلَى الداع﴾ وقال محمد الْقُرَظِيُّ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ، وَتُطْوَى السَّمَاءُ وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ له﴾ (قال السهيلي: الداعي: هو إسرافيل عليه السلام، وهو المنادي المذكور في سورة (ق) في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾)، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا عِوَجَ لَهُ لَا يَمِيلُونَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَا عِوَجَ لَهُ لا عوج عنه، ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، ﴿فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يعني وطء الأقدام. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً﴾ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وقال سعيد بن جبير: الْحَدِيثَ وَسِرَّهُ، وَوَطْءَ الْأَقْدَامِ، فَقَدْ جَمَعَ سَعِيدٌ كلا القولين، وهومحتمل، أَمَّا وَطْءُ الْأَقْدَامِ فَالْمُرَادُ سَعْيُ النَّاسِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَهُوَ مَشْيُهُمْ فِي سُكُونٍ وَخُضُوعٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْخَفِيُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ يكلم نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾.
- ١١٠ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
- ١١١ - وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً
- ١١٢ - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْمًا
يَقُولُ تَعَالَى ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ أَيْ عِنْدَهُ ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَيَفْتَحُ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، فيدعني ما شاء أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ واشفَع تُشَفَّعْ، قَالَ: فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ"، فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أَيْ يُحِيطُ عِلْمًا بِالْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شاء﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يُدَبِّرُهُ وَيَحْفَظُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ
- ١١٤ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي علما
يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بلسان عربي مبين ﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ يَتْرُكُونَ الْمَآثِمَ وَالْمَحَارِمَ وَالْفَوَاحِشَ ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ وَهُوَ إِيجَادُ الطَّاعَةِ وَفِعْلُ الْقُرُبَاتِ، ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ الْمَلِكُ الحق، الذي وعده حق ووعيده حق، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لِئَلَّا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾، كقوله تَعَالَى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يُعَالِجُ مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ به لِسَانَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَخَفُّ فِي حَقِّهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ أَيْ أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ أَيْ بَلْ أَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ الْمَلَكُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ أَيْ زِدْنِي مِنْكَ عِلْمًا، وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زيادة حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال» (الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي والبزار عن أبي هريرة وزاد البزار فِي آخِرِهِ: وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النار).
- ١١٦ - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى
- ١١٧ - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى
- ١١٨ - إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى
- ١١٩ - وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى
- ١٢٠ - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى
- ١٢١ - فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
- ١٢٢ - ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى
لِأَنَّ الْجُوعَ ذُلُّ الْبَاطِنِ وَالْعُرْيَ ذُلُّ الظَّاهِرِ، ﴿وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى﴾ وهذا أَيْضًا مُتَقَابِلَانِ، فَالظَّمَأُ حَرُّ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْعَطَشُ، وَالضُّحَى حَرُّ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى﴾ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ دلاَّهما بغرور ﴿وقاسمها إني لكما من الناصحين﴾، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أَنَّ يَأْكُلَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ وَلَا يَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ بهما إبليس حتى أكلا منها. وقوله: ﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا فبدت لهما سوآتهما﴾، روي إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يشتد في الجنة، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ (رواه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب مرفوعاً، قال ابن كثير: وهو منقطع وفي رفعه نظر).
وقوله تعالى: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾، قَالَ مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى﴾، روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حاجَّ مُوسَى آدَمَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ؟ أَتَلُومُنِي عَلَى أمر كَتَبَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدم موسى"، وفي رواية لابن أبي حاتم: "احتج آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجَّ آدم موسى" (الحديث له طرق في الصحيحين والمسانيد، وهذه الرواية لابن أبي حاتم عن أبي هريرة).
- ١٢٤ - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
- ١٢٥ - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا
- ١٢٦ - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى
يَقُولُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً: أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ كُلُّكُمْ ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ، ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدينا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾ أَيْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هداه، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ أي ضنكاً فِي الدُّنْيَا فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلَالِهِ وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ربية يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ قَالَ: الشقاء. وعنه: إِنْ قَوْمًا ضُلَّالًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُتَكَبِّرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضنكاً، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُكَذِّبُ بِاللَّهِ وَيُسِيءُ الظَّنَّ به والثقة به اشتدت عليه معشيته فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان عن عيينة، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ ﴿مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فيه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ في روضة خضراء ويفسح لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾؟ أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويخدشونه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (الحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً وفي رفعه نظر، قال ابن كثير: رفعه منكر جداً). وروى البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ قَالَ: «الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الذي قال الله أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لحمة حتى تقوم الساعة». وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا حُجَّةَ لَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عُمِّيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يبعث أو يحشر إِلَى النَّارِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جهنم﴾ الآية، وَلِهَذَا يَقُولُ: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾؟ أي في الدينا ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ أَيْ لَمَّا أَعْرَضْتَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك مُعَامَلَةَ مَنْ يَنْسَاكَ، ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِسْيَانُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَنَسِيَهُ إِلَّا لَقِيَ الله يوم يلقاه وهو أجذم» (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن عبادة).
يَقُولُ تَعَالَى: وَهَكَذَا نُجَازِي الْمُسْرِفِينَ، الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ أَيْ أَشَدُّ أَلَمًا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَدْوَمُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».
- ١٢٩ - وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى - ١٣٠ - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ﴾ لهؤلاء المكذبين بمل جِئْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا فَلَيْسَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الْخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَّفُوهُمْ فِيهَا يَمْشُونَ فِيهَا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى﴾ أَيِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَلْبَابِ الْمُسْتَقِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ الآية؛ ثم قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ أَيْ لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْأَجَلُ المسمى الذي ضر به اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ
الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً، وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ مُسَلِّيًا لَهُ: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ أَيْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ يَعْنِي صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل غروبها» (رواه مسلم وأخرجه الإمام أحمد). وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى الله تعالى في اليوم مرتين» (الحديث أخرجه الإمام أحمد ورواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمر). وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾: أَيْ مِنْ ساعته فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ فِي مُقَابَلَةِ آنَاءِ اللَّيْلِ ﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾. وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
- ١٣٢ - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فَإِنَّمَا هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ وَنِعْمَةٌ حَائِلَةٌ لِنَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾: يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى﴾ (أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه، عن أبي رافع قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت الآية: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عينيك... ﴾ كما في اللباب}. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ المَشْرُبة الَّتِي كَانَ قَدِ اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فَرَآهُ مُتَوَسِّدًا مُضْطَجِعًا عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ (صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السّلَم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود) واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه! فقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا»، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ يُنْفِقُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِغَدٍ.
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أن رسول الله ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَّا يَفْتَحِ الله لكم مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا»، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يا رسول الله؟ قال: «بركات الأرض» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وقال قتادة والسدي ﴿زَهْرَةَ الحياة﴾: يَعْنِي زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ لِنَبْتَلِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ أَيِ اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصلاة واصبر أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ يَعْنِي إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب﴾، وَلِهَذَا قَالَ ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ﴾، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا: أَيْ لَا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
أَصَابَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا، صَلُّوا. قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصلاة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» (الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة). وعن زيد بن ثابت قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي راغمة»، وقوله {والعاقبة
- ١٣٤ - وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى
- ١٣٥ - قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ ﴿لَوْلاَ﴾ أَيْ هَلَّا يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ؟ أَيْ بِعَلَامَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَمْ يُدَارِسْ أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿أو لم يَكْفِهِمْ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله تعالى إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» (أخرجه البخاري ومسلم)، وإنما ذكر ههنا أَعْظَمَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ القرآن، وإلاّ فله مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَا يُحدُّ وَلَا يُحْصَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ أَيْ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ وَنُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لَكَانُوا قَالُوا ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾، يبيّن تعالىأن هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يرواالعذاب الأليم﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بها﴾ الآيتين؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ ﴿كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ﴾ أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾: أَيْ فَانْتَظِرُوا، ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾: أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، ﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾ إِلَى الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾، وقال: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر﴾.