تفسير سورة طه

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة طه من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

أي كلها، وقيل إلا ﴿ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ﴾ الآية، وهذه السورة نزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت سبباً فيه. قوله: (وأربعون) الخ، أي فالخلاف في سبع آيات أو خمس. قوله: (الله أعلم بمراده بذلك) أشار بذلك إلى أن ﴿ طه ﴾ حروف مقطعة استأثر الله بعلمها، وقيل إن ﴿ طه ﴾ اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم حذف منه حرف النداء، وقيل إنه فعل أمر، وأصله طاها، والمعنى طأ الأرض بقدميك معاً؛ خوطب به لما كان يشدد على نفسه في تهجده، حيث كان يقوم الليل كله، ويقف على إحدى رجليه، ويريح الأخرى من شدة التعب، فأمره الله بالتخفيف على نفسه، فكان يصلي وينام ويقوم على رجليه معاً. قوله: (من طول قيامك) بيان لما، وقيل إن معنى ﴿ لِتَشْقَىٰ ﴾ لتتعب نفسك بتأسفك على كفر من كفر، فإنما عليك البلاغ، فأرح نفسك من هذا التعب، فإنا أنزلنا القرآن لمن يذكر ويخشى، وقيل إنه رد وتكذيب للكفرة، حيث قالوا لما رأوا كثرة عبادته وتهجداته: إنك لتشقى بترك ديننا، وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به. قوله: (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، لأن التذكرة ليست من جنس الشقاء.
قوله: ﴿ تَذْكِرَةً ﴾ مفعولاً لأجله ولتشقى كذلك، وإنما نصب الثاني دون الأول، لأن فاعل الذكرى والإنزال هو الله، بخلاف الأول. قوله: ﴿ لِّمَن يَخْشَىٰ ﴾ أي لمن في قلبه رقة يتأثر بالمواعظ. قوله: (بدل من اللفظ) أي عوض عن التلفظ والنطق بفعله المقدر، والأصل نزلناه تنزيلاً، فحذف الفعل وجوباً، لنيابة المصدر عنه في المعنى والعمل. قوله: (هو) قدره إشارة إلى أن ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ خبر لمحذوف، وحينئذٍ فيكون نعتاً مقطوعاً قصد به المدح. قوله: (سرير الملك) أي الذي يجلس عليه الملك، قال تعالى في حق بلقيس﴿ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ﴾[النمل: ٤١].
قوله: (استواء يليق به) هذه طريقة السلف الذين يفوضون علم المتشابه لله تعالى، ومن ذلك جواب الإمام مالك رضي الله عنه، عن معنى الاستواء على العرش في حقه تعالى، حيث قال للسائل: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أخرجوا عني هذا المبتدع، وأما الخلف وهم من بعد الخمسمائة، فيؤولونه بمعنى صحيح لائق به سبحانه وتعالى فيقولون: إن المراد بالاستواء، الاستيلاء بالتصرف والقهر، فالاستواء له معنيان، الركوب والجلوس، والاستيلاء بالقهر والتصرف، وكلا المعنيين وارد في اللغة، يقال استوى السلطان على الكرسي، بمعنى جلس واستوى على الأقطار، بمعنى ملك وقهر، ومن الثاني قول الشاعر: قد اسْتَوَى بشر عَلَى الْعِرَاقِ   مِنْ سَيْفٍ وَدَم مِهراقوحينئذٍ، فالمتعين إطلاقه عليه تعالى بهذا المعنى هو الثاني. قوله: (من المخلوقات) بيان للثلاثة. قوله: (هو التراب الندي) أي الذي فيه نداوة، فإن لم يكن ندياً فهو تراب، ولا يقال له ثرى. قوله: ﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ ﴾ المقصود منه النهي عن الجهر، لغير أمر شرعي، كأنه يقول: إن الله غني عن الجهر، فلا تجهد نفسك به، فالجهر بالذكر أو الدعاء أو القراءة يقصد إسماع الله تعالى، إما جهل أو كفر، وإما لغرض آخر، كإرشاد العباد، وحضور القلب، ودفع الشواغل والوسوسة فهو مطلوب. قوله: (فالله غني) الخ، قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، وقوله: ﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ ﴾ الخ، تعليل لذلك المحذوف. قوله: ﴿ وَأَخْفَى ﴾ هو أفعل تفضيل، أي والذي هو أخفى من السر. قوله: (أي ما حدثت به النفس) الخ، هذا أحد أقوال في تفسير السر وأخفى، وقال ابن عباس: السر ما أسره ابن آدم في نفسه، وأخفى ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، وعلمه فيما مضى من ذلك وما يستقبل علم واحد، وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة. قوله: (فلا تجهد) بفتح التاء والهاء، أو ضم التاء وكسر الهاء من جهد وأجهد، أي لا تتعب نفسك بالجهر، بقصد إسماع الله تعالى، وهذا نهي له صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره. قوله: (والحسنى مؤنث الأحسن) أي فهو اسم تفضيل، يوصف بها الواحد من المؤنث والجمع من المذكر الغير العاقل كما هنا.
قوله: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ﴾ استفهام للتشويق والتقرير في ذهن السامع، والجملة مستأنفة، خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كأن الله يقول له: إنا أرسلناك بالتوحيد، ولا غرابة في ذلك، فإنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء، كابراً عن كابر، وقد خوطب به موسى حيث قيل له:﴿ إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي ﴾[طه: ١٤] وبه ختم موسى مقالته حيث قال:﴿ إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾[طه: ٩٨] فالمقصود من الاستفهام، تشويق السامع ليتلقى ما ذكر بتطلع والتفات وحضور قلب، لا حقيقته، فإنه مستحيل عليه تعالى، أو أن ﴿ هَلْ ﴾ بمعنى (قد) كما قال المفسر. قوله: ﴿ إِذْ رَأَى نَاراً ﴾ ظرف لحديث. قوله: (امرأته) أي وهي بنت شعيب واسمها صفورا، وقيل صفوريا، وقيل صفورة، واسم أختها ليا، وقيل شرفا، وقيل عبدا، واختلف في التي تزوجها، فقيل هي الصغرى، وقيل الكبرى، وتقدم ذلك. قوله: ﴿ ٱمْكُثُوۤاْ ﴾ إنما أتى بجمع الذكور، وإن كان الخطاب لامرأته، تعظيماً أو مراعاة لمن معها من الخدم والأولاد. قوله: (وذلك في مسيره) الخ، روي أنه عليه السلام، استأذن شعيباً عليه السلام في الخروج إلى أمه وأخيه بمصر، فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق، مخافة من ملوك الشام، فلما وافى وادي طوى، وهو الجانب الغربي من الطور الذي هو بفلسطين، لأنه هو الذي على يمين المتوجه من مدين، وقيل هو الذي بين مصر وأيلة، ورد بأنه على يسار المتوجه من مدين إلى مصر كما هو مشاهد، وقد قال تعالى:﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ ﴾[مريم: ٥٢] ولد له ولد في ليلة مظلمة شاتية باردة، وكانت ليلة الجمعة، وقد أخطأ الطريق، وتفرق ماشيته ولا ماء عنده، وقدح زنده فلم يخرج ناراً، فبينما هو في ذلك، إذ رأى عن يسار الطريق من جانب الطور ناراً، فأمر أهله بالمكث، لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد، لا لئلا يتنقلوا إلى موضع آخر، فإنه مما لا يخطر بالبال، فلما وصل إلى تلك النار التي أبصرها، خاطبه الله وأرسله إلى فرعون، وخلف أهله في الموضع الذي تركهم فيه، فلم يزالوا مقيمين فيه، حتى مر بهم راع من أهل مدين، فعرفهم فحملهم إلى شعيب، فمكثوا عنده، حتى جاوز موسى ببني إسرائيل البحر، وغرق فرعون وقومه، فبعثهم إلى موسى بمصر. قوله ﴿ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً ﴾ من الإيناس وهو الإبصار، ومنه إنسان العين لأنه يبصر الأشياء. قوله: ﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى ﴾ أو مانعة خلو يجوز الجمع، وعلى بمعنى عند، أي عند النار. قوله: (وكان أخطأها) أي لأنه سار على غير الطريق، مخافة من ملوك الشام. قوله: (لعدم الجزم بوفاء الوعد) لأنه لا يدري ما يفعل الله به.
قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا ﴾ أي النار التي آنسها. قوله: (وهي شجرة عوسج) هذا أحد أقوال فيها، وقيل عليق، وقيل عناب. قوله: ﴿ نُودِيَ يٰمُوسَىٰ * إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ ﴾ هذا أول المكالمة بينه وبين الله تعالى، وآخر قوله فيما يأتي﴿ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴾[طه: ٤٨] وهذا بالنسبة لهذه الواقعة، وإلا فله مكالمات أخر، وسمع الكلام بكل أجزائه من جميع جهاته، حتى أن كل جارحة منه كانت أذناً. قوله: ﴿ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ أي تواضعاً لله، ومن ثم كان السلف يطوفون بالكعبة حفاة، وقيل أمر بخعلهما لنجاستهما، لأنهما كانا من جلد حمار ميت لم يدبغ، روي أنه خلعهما وألقاهما خلف الوادي. قول: (بالتنوين وتركه) هما قراءتان سبيعتان. قوله: ﴿ وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ ﴾ أي للنبوة والرسالة، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة، كما سيأتي عند قوله تعالى:﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ ﴾[طه: ٤٠].
قوله: ﴿ إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ ﴾ بدل مما يوحى، وهو إشارة للعقائد العقلية، وقوله: ﴿ فَٱعْبُدْنِي ﴾ إشارة للأعمال الفرعية، وقوله: ﴿ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ ﴾ إشارة للعقائد السمعية، فقد اشتمل ذلك على جملة الدين. قوله: ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ﴾ خصها بالذكر، وإن كانت داخلة في جملة العبادات، لعظم شأنها واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد. قوله: ﴿ لِذِكْرِيۤ ﴾ (فيها) أي لتذكرني فيها، لأنها مشتملة على كلامي وغيره من أنواع الذكر. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ ﴾ أي حاصلة ولا بد، وسميت ساعة لأنها تأتي في ساعة، أي قطعة من الزمان. قوله: ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ أي أريد إخفاء وقتها، والحكمة في إخفاء وقتها وإخفاء الموت، أن الله تعالى، حكم بعدم قبول التوبة عند قربها وفي الغرغرة، فلو عرف الخلق وقتهما، لاشتغلوا بالمعاصي إلى قرب ذلك الوقت، ثم يتوبون فيتخلصون من عقاب المعصية، فتعريف وقتهما كالإغراء بفعل المعاصي. قوله: (بعلاماتها) أي أماراتها، وأول العلامات الصغرى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرها ظهور المهدي. قوله: ﴿ لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ إما متعلق بأخفيها أو بآتية، وقوله: ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ جملة معترضة بين المتعلق والمتعلق. قوله: ﴿ بِمَا تَسْعَىٰ ﴾ ما موصولة، وجملة ﴿ تَسْعَىٰ ﴾ صلته، والعائد محذوف قدره المفسر بقوله: (به).
وقوله: (من خير وشر) بيان لما قوله: ﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ ﴾ الخطاب لموسى، والمراد غيره، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. قوله: ﴿ فَتَرْدَىٰ ﴾ منصوب بفتحة مقدرة على الألف، بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب النهي. قوله: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ ﴾ أي بعد أن خلع عليه خلعة النبوة والرسالة، بسط له الكلام، ليزداد حباً وشغفاً، ويؤيده بالمعجزات الباهرة، و ﴿ مَا ﴾ اسم استفهام مبتدأ و ﴿ تِلْكَ ﴾ اسم إشارة خبر، وقوله: ﴿ بِيَمِينِكَ ﴾ متعلق بمحذوف حال، والعامل فيه معنى الإشارة، وهذا أحسن من جعل تلك اسماً موصولاً بمعنى التي، وبيمينك صلتها، لأنه ليس مذهب البصريين. قوله: (الاستفهام للتقرير) أي فحكمة الاستفهام كون موسى يقر ويعترف بصفات تلك العصا، فيمنحه فوق ما يعلم منها، وليس المراد حقيقة الاستفهام الذي هو طلب الفهم، فإنه مستحيل عليه تعالى لعلمه بها. قوله: ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ أي وكانت من آس الجنة، نزل بها آدم منها، ثم ورثها شعيب، فلما زوجه ابنته، أمرها أن تعطيه عصا يدفع بها السباع عن غنمه، وكانت عصا الأنبياء عنده، فوقع في يدها عصا آدم، فأخذها موسى بعلم شعيب، وإنما زاد في الجواب، لأن المقام مقام مباسطة وخطاب الحبيب، ولا شك أن الزيادة في الجواب في هذا المقام، مما يريح الفؤاد، وإلا فكان يكفيه أن يقول هي عصاي. قوله: (عند الوثوب) أي النهوض للقيام. قوله: ﴿ وَأَهُشُّ ﴾ بضم الهاء، من هش يهش، بمعنى خبط الشجر ليسقط ورقه، وأما هش يهش بكس الهاء، فيقال على اللين والاسترخاء وسرعة الكسر والبشاشة. قوله: ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ ﴾ أجمل في هذا الجواب، إما حياء من الله تعالى لطول الكلام، أو اتكالاً على علمه تعالى. قوله: (كحمل الزاد) أشار بالكاف إلى أن لها منافع أخرى، فكان يستقي بها الماء من البئر، فيجعلها موضع الحبل، وكل شعبة من شعبتيها تصير دلواً ممتلئاً، وكانت تماشيه وتحادثه، وكان يضرب بها الأرض، فيخرج له ما يأكله يومه، ويركزها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب الماء، وكان إذا اشتهى ثمرة ركزها، فتغصن غصنين، فصارت شجرة وأورقت وأثمرت، وكانت شعبتان تضيئان بالليل كالسراج، وإذا ظهر له عدو كانت تحاربه. قوله: ﴿ فَأَلْقَاهَا ﴾ أي طرحها على الأرض. قوله: ﴿ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ﴾ عبر عنها بالحية، وفي آية أخرى بثعبان، وفي أخرى بأنها كالجان، ووجه المجمع أشار له المفسر بقوله: (تمشي على بطنها سريعاً كسرعة الثعبان) الخ. والحاصل أن تسميتها حية باعتبار كونها ثعباناً عظيماً، وجاناً باعتبار سرعة مشيتها. قوله: (المسمى بالجان) أي وهو الثعبان الصغير، وأما الجن فهو النوع المعروف.
قوله: ﴿ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ ﴾ إنما حصل له الخوف، لأن صورتها هائلة، فشعبتاها صارتا شدقين لها، والمحجن عنقها، وعيناها تتقدان ناراً تمر بالشجرة العظيمة فتقلمها، وتقطع الشجرة العظيمة بأنيابها، ويسمع لأنيابها صوت عظيم، فظن أنها سطوة من الله عليه، فولى مدبراً ولم يعقب، فلما قال الله له: ﴿ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ ﴾ تبين له أنها نعمة لا نقمة. قوله: (فأدخل يده) أي مكشوفة، وقيل كان عليه مدرعة صوف، فلما قال له خذها، لف كم المدرعة على يده، فأمره الله أن يكشف يده وقال: أرأيت لو أذن الله لها، أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال: لا، ولكني ضعيف، من الضعف خلقت، فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية. قوله (وتبين) هو فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى أي علم. قوله: (أن موضع) ألخ، في محل المفعول به. قوله: (موضع مسكها) أي الاتكاء عليها، والمعنى أنه لما وضع يده في فمها، وانقلبت عصا ويده بحالها، رأى محل يده هو ما بين الشعبتين، فالشعبتان صارتا شدقين، وصار ما تحتهما وهو محل مسكها بيده عنقاً لها. قوله: (ورأى ذلك) أي بصر الله موسى قلبها حية في ذلك الوقت لئلا يجزع، الخ. قوله: (لدى فرعون) أي عنده. قوله: (بمعنى الكف) أي لا بمعنى حقيقتها، وهي من الأصابع إلى المنكب، قوله: (تحت العضد) بيان للمواد من الجنب، وقوله: (إلى الإبط) أي من المرفق منتيهاً إلى الإبط. قوله: (من الأدمة) أي السمرة. قوله: ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً ﴾ متعلق بتخرج، وهذا يسمى عند أهل البيان احتراساً وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المواد، لأن البياض قد يراد به البرص والبهق، قوله: (تضيء كشعاع الشمس) أي فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه، وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها، كان لها نور ساطع، يضيء بالليل والنهار، كضوء الشمس والقمر أشد ضوءاً، ثم إذا ردها إلى جيبه، صارت إلى لونها الأول. قوله: (الآية) ﴿ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾ قدره إشارة إلى أن ﴿ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾ صفة لمحذوف مفعول ثاني لقوله نريك، والكاف مفعول أول، والكبرى اسم تفضيل، والمعنى التي هي أكبر من غيرها، حتى من العصا، لأنها لم تعارض أصلا، وأما العصا فقد عارضها السحرة.
قوله: ﴿ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾ أي بهاتين الآيتين، وهما العصا واليد، روي أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: اسمع كلامي، واحفظ وصيتي، وانطلق برسالتي، فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي نصري، وإني ألبسك جبة من سلطاني، تستكمل بها القوة في أمرك، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي، لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علي وسقط من عيني، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي، وحذره نقمتي، وقل له قولاً ليناً، لا يغتر بلباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم، ثم جاءه الملك فقال له: أجب ربك فيما أمرك، فعند ذلك قال: ﴿ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ الخ. قوله: (وسعه لتحمل الرسالة) أي فإنك كلفتني بأمر عظيم، لا يقوى عليه إلا من شرحت صدره وقويته. قوله: ﴿ وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴾ أي لكنة حاصله فيه، وقد أجيب بحلها، فعاد لفصاحته الأصلية، وهذا هو الأحسن، وقيل زال بعضها بدليل قوله هو أفصح مني لساناً، وقول فرعون ولا يكاد يبين، ورد بأن معنى هو أفصح، أنه لم يطرأ عليه لكنة، قول فرعون باعتبار ما يعهده منه. قوله: (بجمرة وضعها) الخ، أي وذلك أن موسى لاعبه فرعون ذات يوم، فنتف لحيته ولطمه على وجهه، فاغتم وهم بقتله، فقالت له زوجته آسية بنت مزاحم: مثل هذا الغلام لا يغتم منه، لا يفرق بين الثمرة والجمرة، فأتى له بطشت فيه تمر، وقيل جوهر: وبطشت فيه جمر، فأراد أن يأخذ الثمرة أو الجوهر، فأخذ جبريل بيده ووضعها على الجمر، فأخذ جمرة ووضعها على فيه فاحترق لسان، وصار في لكنة. قوله: ﴿ يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾ مجزوم في جواب الدعاء. قوله: ﴿ وَزِيراً ﴾ من الوزر وهو الثقل، سمي بذلك لأنه يحتمل مشاق الملك، ويعينه على أموره ويقوم بها، قوله: (مفعول ثاني) أي والأول وزيراً، والأحسن عسكه، بأن يجعل ﴿ وَزِيراً ﴾ مفعولاً ثانياً مقدماً، و ﴿ هَارُونَ ﴾ مفعول أول مؤخر، لأن القاعدة إذا اجتمع معرفة ونكرة، يجعل المفعول الأول هو المعرفة، لأن أصله المبتدأ، والنكرة المفعول الثاني، لأن أصله الخبر، ووزيراً نكرة، وهارون معرفة بالعلمية. قوله: (والفعلان بصغيتي الأمر والمضارع) الخ، حاصل ما هنا، أن القراءات السبعية خمس، اثنتان عند الوقف على ياء أخي، وعما قراءة الفعلين بصيغتي الأمر، فتضم الهمزة في الأول، وتفتح في الثاني، والمضارع فتفتح في الأول، وتضم الثاني، وثلاثة عند وصل أخي بما بعده، وهي أن تسكن الياء ممدودة قدر ألفين، مع قراءة الفعلين بالمضارع أو تفتحها، والفعلان بالأمر، أو تحذفها وهما بالأمر أيضاً. قوله: (وهو جواب الطلب) أي وهو اجعل لي. قوله: ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ﴾ تعليل لكل من الأفعال الثلاثة التي هي: اجعل واشدد وأشرك.
قوله: ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ﴾ أي جواباً لمطلوباته، وقوله: ﴿ سُؤْلَكَ ﴾ أي مسؤولك، ففعل بمعنى مفعول، كأكل وخبز، بمعنى مأكول ومخبوز. قوله: ﴿ يٰمُوسَىٰ ﴾ خاطبه باسمه، إشعاراً بمحبته، وتعظيم شأنه، ورفعة قدره صلى الله عليه وسلم. قوله: (مناً عليك) أي تفضلاً حاصلاً عليك، وقدره دخولاً على ما بعده. قوله: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ ﴾ استئناف مسوق لزيادة الطمأنينة لموسى، كأن الله يقول له: إنا قد مننا عليك بمنن سابقة، من غير دعاء منك ولا طلب، فلأن نعطيك ما تطلبه بالأولى، وصدر الجملة بالقسم، زيادة في الاعتناء بشأنه. قوله: ﴿ مَرَّةً أُخْرَىٰ ﴾ تأنيث آخر بمعنى غير، أي تحققت منتنا عليك مرة أخرى، غير المنة التي تحققت لك بسؤالك، والمراد بالمنة الجنس الصادق بالمنن الكثيرة. قوله: (للتعليل) أي لقوله مننا، والمعنى لأننا أوحينا إلى أمك الخ، ويصح أن تكون للظرفية، والمعنى ولقد مننا عليك وقت إيجائنا إلى أمك الخ، وحاصل ما ذكره من المنن من غير سؤال ثمانية: الأولى قوله: ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَآ ﴾ الثانية قوله: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ ﴾.
الثالثة قوله: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ ﴾.
الرابعة ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ ﴾.
الخامسة قوله: ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْساً ﴾.
السادسة قوله: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾ السابعة قوله: ﴿ فَلَبِثْتَ سِنِينَ ﴾.
الثامنة قوله: ﴿ وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾.
قوله: ﴿ إِلَىٰ أُمِّكَ ﴾ أي واسمها يوحانذ بياء مضمومة فواو ساكنة بعدها حاء مهملة فألف فنون مكسورة فذاك معجمة. قوله: (مناماً أو إلهاماً) أي أو يقظة، ولا ينافيه كونها ليست نبية، فإن المخصوص بالأنبياء الوحي بالشرائع والتكاليف، وأما الوحي بغير الشرع فجائز حتى للنساء، كما وقع لمريم أم عيسى. قوله: (لما ولدتك) أي في السنة التي رتب فرعون اتباعه، لذبح كل من يولد من الذكور في تلك السنة، وذلك أن فرعون رأى رؤيا هالته، فقصها على الكهنة، فعبرت له بمولود يكون زوال ملكه على يديه، فأمر أتباعه بأن يذبحوا كل من يولد من الذكور، حتى شق الأمر، فأبقى القتل في سنة ورفعه في سنة، فصادف ولادة موسى، في السنة التي فيها القتل، فلما ولد، جاء أتباع فرعون يفتشون عن المولود، فوضعته أمه في التنور، فجاءت أخته وأوقدته، ففتشوا عليه فلم يجدوه، فخرجوا من عندها، فنظرت إلى التنور فوجدته موقداً، فخافت عليه، فناداها من التنور فأخرجته سالماً، فأوحى الله إليها أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فالقيه في اليم، فأخذت صندوقاً وجعلت فيه قطناً ووضعته فيه، ثم طلت رأس التابوت بالقار، وألقته في اليم، فموجه البحر حتى أدخله في نهر كائن في بستان فرعون، وكان فرعون جالساً مع آسية زوجته، فأمر به فأخرج ففتح، فإذا هو صبي أحسن الناس وجهاً، فأحبه عدو الله حباً شديداً، حتى إنه لم يقدر على بعده عنه، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾.
قوله: ﴿ مَا يُوحَىٰ ﴾ أبهمه للتعظيم كقوله تعالى:﴿ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾[طه: ٨٧].
قوله: (في أمرك) أي شأنك. قوله: (ويبدل منه) أي بدل مفصل من مجمل. قوله: (أي شاطئة) المراد قربه، لأن الصندوق أخذ من نفس البحر قريباً من البر. قوله: (والأمر بمعنى الخبر) أي وحكمة العدول عنه، لما كان ألقاه البحر إياه بالساحل، أمراً واجب الحصول لتعلق الإرادة به، نزل البحر منزلة شخص مطيع، أمره الله بأمر لا يستطيع مخالفته. قوله: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ يحتمل أن المعنى ألقيت عليك محبة صادرة مني بأن أحببتك، فتسبب عن محبتي الناس لك، ويحتمل أن المعنى، ألقيت عليك محبة خلقتها في قلوب الناس لك فأحبوك، والأزل أحسن لعدم الكلفة فيه. قوله: ﴿ وَلِتُصْنَعَ ﴾ عطف على محذوف قدره المفسر بقوله: (لتحب من الناس). قوله: (تربى على رعايتي) الخ، أي فالعين هنا بمعنى الرعاية والحفظ، مجازاً مرسلاً من إطلاق السبب وهو نظر العين، على المسبب وهو الحفظ والرعاية، لأن شأن من ينظر للشيء بعينه، أن يحفظه ويرعاه. قوله: ﴿ أُخْتُكَ ﴾ (مريم) أي وكانت شقيقته، وهي غير أم عيسى. قوله: (لتعرف خبرك) أي فوجدتك وقعت في يد فرعون، فدلتهم على أمك حيث قالت: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ ﴾ الخ. قوله: (وأنت لا تقبل) الخ، أي لحكمة عظيمة، هي وقوعك في يد أمك، لأنك لو رضعت غيرها، لاستغنوا عن أمك. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ﴾ أي يكمل رضاعه، وقد أرضعته أمه، قيل ثلاثة أشهر، وقيل أربعة. قوله: ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ ﴾ معطوف على محذوف قدره المفسر بقوله: (فأجيبت) الخ. قوله: ﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ﴾ أي تسكن وتبرد دمعة حزنها. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ (حينئذ) أي حين إذ قبلت ثديها، والمراد نفي دوام الحزن. قوله: (هو القبطي) أي واسمه قاب قان، وكان طباخاً لفرعون. قوله: (من جهة فرعون) أي لا من جهة قتله، فإنه كان كافراً. قوله: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾ أي خلصناك من محنة بعد أخرى، روي أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: خلصناك من محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير، والقته أمه في البحر، وهم فرعون بقتله، وقتل قبطياً، وآجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وضلت غنمه في ليلة مظلمة، وكان عند كل واحدة، فهذه فتنة يا ابن جبير. قوله: ﴿ سِنِينَ ﴾ (عشراً) أي ولبث في مصر قبل قتل القبطي ثلاثين سنة، وقيل خرج من مصر وهو ابن اثني عشرة سنة، فمكث بمدين لرعي الغنم عشر سنين، وبعدها ثماني عشرة سنة. قوله: ﴿ عَلَىٰ قَدَرٍ ﴾ أي مقدار من الزمان. قوله: ﴿ وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ أي لتشتغل بأوامري وتبليغ رسالتي، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لغيري.
قوله: ﴿ ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ﴾ أي قد أجبناك فيما طلبت، وأعطينا أخاك الرسالة، فاذهب أنت وهو إلى فرعون وقومه. قوله: (إلى الناس) قدره إشارة إلى أنه حذف من هنا، لدلالة قوله فيما يأتي ﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾ عليه، كما أنه حذف فيما يأتي قوله: ﴿ بِآيَاتِي ﴾ لدلالة ما هنا عليه، ففي الكلام احتباك، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله: ﴿ بِآيَاتِي ﴾ (التسع) المناسب للمفسر أن يقول العصا واليد، لأن باقي التسع لم يكن في المبدإ، بل كان في أثناء المدة، وعليه فجمع الآيات باعتبار ما اشتملت عليه العصا واليد من المعجزات المتعددة. قوله: ﴿ وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ يقال ونى يني ونياً، كوعد يعد وعداً إذا فتر، وأصله تونيا، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها الفتحة والكسرة. قوله: (وغيره) أي كتبليغ الرسالة، وهو المقصود بالذات. قوله: ﴿ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾.
إن قلت: ما حكمة جمعهما في ضمير واحد، مع أن هارون لم يكن حاضراً في محل المناجاة، بل كان في ذلك الوقت بمصر؟ أجيب: بأن الله كشف الحجاب في ذلك الوقت عن سمع هارون، حتى سمع الخطاب مع أخيه، لكن موسى سمعه من الله بلا واسطة، وهارون سمعه من جبريل عن الله، وهذا أحسن ما يقال. قوله: ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾ أي سهلاً لطيفاً، وقد قصه الله في سورة النازعات في قوله:﴿ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ﴾[النازعات: ١٨-١٩] فإنه دعوة في صورة عرض. قوله: (في رجوعه عن ذلك) أي عما هو فيه من ادعاء الربوبية والتكبر. قوله: (والترجي بالنسبة إليهما) أي إلى موسى وهارون، والمعنى اذهبا مترجيين إيمانه وطامعين فيه، ولا تذهبا آيسين منه. قوله: (لعلمه تعالى بأنه لا يرجع) أي والفائدة في إرسالهما، إلزامه الحجة وقطع عذره، لجريان عادته سبحانه وتعالى، أنه لا يعذب أحداً، إلا بعد تبلغيه الدعوة وعناده بعد ذلك. قوله: ﴿ قَالاَ رَبَّنَآ ﴾ أسند القول لهما لأنه وقع من كل منهما، وإن كان مكانهما مختلفاً لما تقدم، أنه لا مانع من إزالة الحجاب عن هارون، وسماعه من جبريل ما قيل لموسى وقت المناجاة. قوله: (أو يجعل بالعقوبة) أي فلا يصير إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. قوله: ﴿ أَوْ أَن يَطْغَىٰ ﴾ أي يزداد تكبراً وكفراً، وأو مانعة خلو تجوز الجمع. قوله: ﴿ قَالَ لاَ تَخَافَآ ﴾ أي لا تنزعجا منه. قوله: ﴿ فَأْتِيَاهُ ﴾ أي اذهبا بأنفسكما إليه، ولا تقعدا في مكان وترسلا له. قوله: ﴿ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ﴾ أمرهما الله أن يقولا له ست جمل، أولها قوله: ﴿ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ﴾.
الثانية قوله: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾.
الثالثة: ﴿ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ ﴾ الرابعة: ﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾.
الخامسة: ﴿ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ ﴾.
السادسة: ﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴾.
قوله: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أطلقهم من أسرك ولاتتول عليهم، فإنهم أولاد الأنبياء، ولا يليق أن يولى عليهم خسيس، والمعنى أن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون، بأنه يؤمن بالله وحده، ولا يتولى على بني إسرائيل. قوله: (بحجة) أي دليل وبرهان على ما ادعيناه من الرسالة. قوله: (فأتياه وقالا له جميع ما ذكر) قدر ذلك إشارة إلى أن قوله: ﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ﴾ الخ، مرتب على محذوف وإشعاراً بأنهما سارعا إلى امتثال الأمر من غير توان فيه. قوله: ﴿ فَمَن رَّبُّكُمَا ﴾ لم يضف الرب لنفسه تكبراً وطغياناً وخوفاً على قومه، إذ أضاف الرب لنفسه أن يميلوا لموسى. قوله: (اقتصر عليه) أي على توجيهه الخطاب لهما. قوله: (لأنه الأصل) أي في الرسالة، وهارون وإن كان رسولاً، إلا أن المقصود منه معاونة موسى. قوله: (ولإدلاله عليه بالتربية) أي ولإقامة فرعون الدليل على موسى، بأن ذكره بتربيته له في قوله الآتي في الشعراء:﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾[الشعراء: ١٨].
قوله: ﴿ خَلْقَهُ ﴾ أي صورته وشكله. قوله: (الحيوان منه) أي من كل شيء.
قوله: ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ ﴾ لما ظهر للعين حقية ما قال موسى وبطلان ما هو عليه، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات، خوفاً على رياسته أن تذهب، فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث وقال: علمها عند ربي، قوله: (في عبادتهم الأوثان) أي أكان سبباً في شقاوتهم أو سعادتهم، وإنما لم يوضح له الجواب لأنه مأمور بملاطفته، فإذا وضح له الجواب ربما نفر وتغير. قوله: ﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي ﴾ أي لا يذهب شيء عن علمه. قوله: ﴿ وَلاَ يَنسَى ﴾ أي بعد علمه.
قوله: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ﴾ هذا من جملة جواب موسى عن سؤال فرعون الأول. قوله: ﴿ مَهْداً ﴾ أي كالمهاد. قوله: (طرقاً) أي تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا مآربكم. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً ﴾ من كلامه تعالى، لا بطريق الحكاية عن موسى، بل خطاباً لأهل مكة وامتناناً عليهم، وينتهي إلى قوله: ﴿ تَارَةً أُخْرَىٰ ﴾ وقيل إنه من كلام موسى أيضاً، وفيه التفات من الغيبة للتكلم. قوله: (وخطاباً لأهل مكة) أي في قوله: ﴿ كُلُواْ وَٱرْعَوْا ﴾ قوله: (شتى) ألفه للتأنيث. قوله: (يقال رعت الأنعام) الخ، أي فيستعمل لازماً ومتعدياً. قوله: (أي مبيحين لكم) المناسب أن يقول قائلين لكم كلوا الخ، فهو أمر إباحة. قوله: (جمع نهية) وقيل إن اسم مفرد فهو مصدر كالهدى والسرى. قوله: (بخلق أبيكم آدم منها) أي فجميع الخلق غير آدم، خلقوا من الأرض بواسطة، وهذا أحد قولين، وقيل كل إنسان خلق من التراب بلا واسطة، لأن كل نطفة وقعت في الرحم، يأخذ الملك الموكل بها شيئاً من تراب المكان الذي يدفن فيه، فيذره على النطفة، فيخلق الله النسمة من النطفة والتراب. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا ﴾ إخبار عما وقع لموسى في مدة دعائه لفرعون، وبهذا التقرير صح قول المفسر (التسع) واندفع ما يقال إن فرعون في ابتداء الأمر، لم ير إلا العصا واليد، وعليه فتكون هذه الجملة معترضة بين القصة. قوله: ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ ﴾ أي بعد أن رأى ما رأى من معجزة العصا واليد، قال ما ذكر تستراً وخوفاً على حظ رياسته لئلا يؤمن قومه. قوله: ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزتي وكبريائي، وقوله: ﴿ بِسِحْرٍ ﴾ متعلق بنأتينك. قوله: ﴿ مِّثْلِهِ ﴾ أي في الغرابة. قوله: ﴿ مَوْعِداً ﴾ الأحسن أنه ظرف زمان مفعول أول مؤخر لقوله اجعل، وقوله: ﴿ بَيْنَنَا ﴾ مفعول ثاني مقدم، وقوله: (ينزع الخافض) أي فالمعنى عين زماناً بيننا وبينك نجتمع فيه في مكان سوى أي متوسط. قوله: (بكسر أوله وضمه) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ ﴾ خصة عليه السلام بالتعيين، لمزيد وثوقه بربه وعدم مبالاته بهم، وليكون ظهور الحق على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك بين كل حاضر وباد، فيكون أعظم فخر لموسى عليه السلام. قوله: (يوم عيد لهم) أي وكان يوم عاشوراء، واتفق أنه يوم سبت. قوله: ﴿ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ﴾ أن وما ودخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على الزينة، أي ويوم حشر الناس ضحى. قوله: (وقته) أي وقت الضحى، وهو ارتفاع الشمس. قوله: (ادبر) أي انصرف من المجلس. قوله: (أي ذوي كيده) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ ثُمَّ أَتَىٰ ﴾ (بهم الموعد) أي في يوم الزينة في المكان المتوسط وهو الإسنكدرية. قوله: (وهم اثنان وسبعون) الاثنان من القبط، والسبعون من بني إسرائيل، وهذا أحد أقوال في عددهم، وقيل كانوا اثنين وسبعين ألفاً، وهو ما في بعض النسخ، وقيل اثني عشر ألفاً. قوله: (مع كل واحد حبل وعصا) تقدم أنها كانت حمل أربعمائة بعير. قوله: (أي ألزمكم الله الويل) أشار بذلك إلى أن ﴿ وَيْلَكُمْ ﴾ منصوب بفعل محذوف، والويل معناه الدمار والهلاك. قوله: (بإشراك أحد معه) أي بسبب إشراك أحد مع الله، والمعنى ألزمكم الله الويل إن افتريتم على الله الكذب بسبب إشراككم مع الله بدوام تصديقكم لفرعون. قوله: (بضم الياء) الخ، أي فهما قراءتان سبعيتان، فالضم من الرباعي، والفتح من الثلاثي. قوله: ﴿ فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ أي تناظروا وتشاوروا في أمر موسى وأخيه سراً، واختلف فيما أسروه، فقيل هو قولهم ﴿ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ الخ، وقل هو قول بعضهم لبعض: ما هذا ساحر، فإن غلبنا اتبعناه، وإن غلبناه بقينا على ما نحن عليه. قوله: ﴿ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ ﴾ أي تحدثوا سراً فيما بينهم. قوله: (لأبي عمرو) أي فقراءته بالياء اسم ﴿ إِنْ ﴾، وساحران خبرها، واللام للابتداء زحلقت للخبر، وقوله: (ولغيره) خبر مقدم، و(هذان) متبدأ مؤخر، وقوله: (وهو موافق) أي هذان موافق لمن يعرب المثنى بحركات مقدرة على الألف، فيبني اسم الإشارة الدال عليه على الألف، وقد أجمل المفسر في قوله: (ولغيره هذان). والحاصل أن القراءات السبعيات أربع: الأولى لأبي عمرو التي ذكرها المفسر، وبقي ثلاث: الأولى تشديد نون هذان مع تخفيف نون إن، والثانية والثالثة تخيف نون هذان، مع تشديد نون إن أو تخفيفها، فعلى تشديد نون إن، يكون هذان اسمها مبنياً على الألف، وساحران خبرها، وعلى تخفيفها يكون هذان ساحران مبتدأ وخبراً، وإن مخففة، واسمها ضمير الشأن، والجملة خبر إن. قوله: (أي بأشرافكم) تفسير لطريقتكم، فإن من جملة معاني الطريقة، أماثل الناس واشرافهم، أي وذلك كفرعون وجلسائه. قوله: ﴿ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ﴾ أي اجعلوه مجمعاً بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. قوله: (بهمزة وصل) الخ، أي فهما سبعيتان. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً ﴾ أي لأنه أهيب في صدور الرائين.
قوله: ﴿ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بفعل محذوف قدره المفسر بقوله: (اختر). قوله: ﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُواْ ﴾ أي ليظهر الفرق بين المعجزة والسحر. قوله: ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ ﴾ إذا فجائية، و ﴿ حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ﴾ مبتدأ خبره جملة ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ﴾ الخ. قوله: (أصله عصور) بوزن فلوس، وقوله: (قلبت الواو ياءين) الخ، أي قلبت الثانية ياء لوقوعها متطرفة، فاجتمعت مع الواو، وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء. قوله: (وكسرت العين) أي اتباعاً للصاد، (والصاد) لتصح الياء. قوله: ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ﴾ أي لأنهم طلوها بالزئبق، فلما اشتد حر الشمس، اضطربت واهتزت، فتخيل أنها تتحرك. قوله: ﴿ خِيفَةً ﴾ أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. قوله: (من جهة أن سحرهم) الخ، جواب عما يقال: كيف حصل له الخوف، مع علمه بأنه على الحق، ولا يصل له سوء منهم. قوله: ﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ فيه إشارة إلى أن لهم علواً وغلبة بالنسبة لسائر الناس، فطمنه الله بأمور لا تخطر بباله، فإن ابتلاع العصا لحبالهم وعصيهم، أمر لا يخطر ببال موسى. قوله: ﴿ تَلْقَفْ ﴾ بفتح اللام وتشديد القاف، أو بسكون اللام وفتح القاف، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مَا صَنَعُوۤاْ ﴾ أي اخترعوا مما لا حقيقة له. قوله: (أي جنسه) دفع بذلك ما يقال: لمَ لَمْ يقل: ولا يفلح السحرة؟ بصيغة الجمع، وفيه إشارة إلى أن الكلام موجه للعموم، فكأنه قال: لا يفلح كل ساحر، سواء كان من هؤلاء، أو من غيرهم. قوله: ﴿ حَيْثُ أَتَىٰ ﴾ أي في أي زمان أو مكان أقبل منه. (فألقى موسى عصاه) الخ، قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً ﴾ مرتب على محذوف. قوله: ﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً ﴾ أي إيماناً بالله، وكفراً بفرعون، وهذا من غرائب قدرة الله، حيث ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، قيل لم يرفعوا رؤوسهم من السجود، حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب، ورأوا منازلهم في الجنة. قولهم: (و) ﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ قدر المفسر الواو إشارة إلى أنه معطوف على قوله: ﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً ﴾ وفيه إيماء إلى أنهم جمعوا في الإيمان بين القول والفعل.
قوله: ﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾ أي لما شاهد فرعون من السحرة السجود والإقرار، خاف أن يقتدي الناس بهم في الإيمان بالله وحده، فألقى شبهتين: الأولى قوله: ﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾ أي لم تشاوروني ولم تستعينوا بنظر غيركم، بل في الحال آمنتم له، فحينئذٍ دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن بصيرة، بل بسبب آخر، الثانية قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ ﴾ أي فأنتم أتباعه في السحر، فتوطأتم معه على أن تظهروا العجز من أنفسكم، ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه، لتنزعوا الملك مني، وهاتان الشبهتان لا يقبلهما إلا من عنده تردد أو شك، وأما من كشف الله عنه الحجاب كالسحرة، فلا يدخل عليه شيء من ذلك، لظهور شمس الهدى واتضاحها لهم. قوله: (بتحقيق الهمزتين) أي الأولى وهي للاستفهام، والثانية وهي المزيدة في الفعل الرباعي، وقوله: (وإبدال الثانية ألفاً) صوابه الثالثة، وهي فاء الكلمة، فيكون في كلامه إشارة لقراءة واحدة، أو يقال إن معنى قوله: (الثانية) أي في الفعل، بقطع النظر عن همزة الاستفهام، وبقيت قراءة أخرى وهي تسهيل الثانية، والثلاث سبعيات، ولا يتأتى هنا الرابعة المتقدمة في الأعراف، وهي قلب الأولى واواً، لعدم الضمة قبلها هنا، بخلاف ما تقدم، فإنها تقدمها ضمة، ونص الآية: قال فرعون أآمنتم، وأصل الفعل أأمن كأكرم بهمزتين، الأولى زائدة، والثانية فاء الكلمة، قلبت الثانية ألفاً على القاعدة، قال ابن مالك: ومدا ابدل ثاني الهمزتين من   كلمة إن يسكن كآثر وائتمنثم دخلت همزة الاستفهام. قوله: ﴿ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ ﴿ مِّنْ ﴾ ابتدائية أي فالقطع ابتدئ، من مخالفة العضو للعضو. قوله: (أي عليها) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تبعية، حث شبه الاستعلاء المطلق بالظرفية المطلقة، فسرى التشبيه من الكليات للجزئيات، فاستعيرت لفظة في الموضوعة للظرفية الخاصة، لمعنى على الموضوعة للاستعلاء الخاص بجامع التمكن في كل. قوله: (على مخالفته) متعلق بكل من أشد وأبقى. قوله: ﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا ﴾ أي قالوا ذلك غير مكترثين بوعيده لهم. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ أي المعجزات الظاهرة، وجمعها باعتبار ما اشتملت عليه العصا واليد من الخوارق العادات، وإنما نسب المجيء لهم، وإن كان موسى جاء بها لفرعون وقومه أيضاً، لأنهم هم المنتفعون بها. قول: (قسم) أي وجوابه محذوف تقديره لا نؤثرك على الحق، ولا يجوز أن يكون. قوله: ﴿ لَن نُّؤْثِرَكَ ﴾ جوابه، لأن القسم لا يجاب بلن إلا شذوذاً، ولا ينبغي حمل التنزيل عليه. قوله: (أو عطف على ما) أي والتقدير لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات، ولا على الذي فطرنا. قوله: ﴿ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ ﴾ اقض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت و ﴿ مَآ ﴾ اسم موصول مفعوله، وأنت قاض صلته، والعائد محذوف تقديره الذي أنت قاضيه، وقد أشار لهذا ابن مالك بقوله: كَذَاك حذف ما يوصف خفضا   كأنت قاض بعد أمر من قَضَىوهو جواب عن تهديده المذكور، كأنهم قالوا: لا نبالي بك ولا بتهديدك، فافعل ما بدا لك، ولم يثبت في الكتاب، ولا في السنة، أنه فعل ما هددهم به. قوله: (النصب على الاتساع) أي، نصب هذه المبدلة منه الحياة الدنيا على نزع الخافض. قوله: ﴿ وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ ﴾ معطوف على ﴿ خَطَايَانَا ﴾ أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من السحر. قوله: (تعلماً وعملاً) أي لأن فرعون كان يخبره الكهنة، بظهور مولود من بني إسرائيل، يكون زوال ملكه على يديه، فلعلهم كانوا يصفونه له بهاتين المعجزتين، فأحب أن يتهيأ لمعارضته بإكراه الناس على تعليم السحر، وإكراههم أيضاً على الإتيان بهم من المدائن البعيدة، ومما يدل على كونهم مكرهين على عمله، ما روي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى وهو نائم، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا ساحر، فإن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. قوله: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ ﴾ رد لقوله: ﴿ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾.
قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ ﴾ الخ، مستأنف من كلامه تعالى، وقيل إنه من كلام السحرة ألهمهم الله إياه. قوله: ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ﴾ أي بأن يموت على كفره. قوله: (فيستريح) أي من العذاب. قوله: (حياة تنفعه) أي بأن تكون هنية مرية. قوله: ﴿ مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ أي تحت قصورها. قوله: ﴿ وَذٰلِكَ ﴾ أي ما تقدم من قوله: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ الخ. قوله: (تطهر من الذنوب) أي بعدم فعلها، أو بالتوبة النصوح منها. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ عطف قصة على قصة، لأن الله تعالى قص علينا أولاً، مبدأ رسالة موسى إلى فرعون وما وقع منه، وقص علينا ثانياً منتهى أمر فرعون وجنوده، وكل ذلك عبرة للأمة المحمدية، ليعلموا أن الظالم، وإن أمهله الله وأمده بالنعم لا يهمله، وقد ذكرت هذه القصة هنا مختصرة، وتقدم ذكرها في الأعراف مبسطاً. قوله: ﴿ بِعِبَادِي ﴾ أي وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً. قوله: (لغتان) أي هوي قراءتان سبعيتان، وكان المناسب للمفسر التنبيه على ذلك. قوله: (أي سر بهم ليلاً) تفسير لكل من القراءتين. قوله: (من أرض مصر) أي إلى البحر، فهو مأمور بالسير له، فلا يقال: لِمَ لَمْ يسر بهم في البر في طريق الشام. قوله: ﴿ طَرِيقاً ﴾ مفعول به لتضمن اضرب معنى (اجعل) كما أشار له المفسر، والمراد بالطريق جنسه، فإن الطرق كانت اثنتي عشرة بعدد أسباط بني إسرائيل. قوله: ﴿ يَبَساً ﴾ أي يؤول إلى ذلك، لأنه لم يكن يابساً قبل، وإنما مرت عليه الصبا فجففته. قال ابن عباس: لما أمر الله موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان يوسف عهد إليهم عند موته، أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها، حتى دلتهم عليها عجوز، فأخذوها وقال لها موسى: اطلبي مني شيئاً، فقالت: أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون، فلما وصل البحر وكان على حصان، أقبل جبريل على فرس أنثى، في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة بالقبط: الحقوا، حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أولهم أن يخرج، التقى البحر عليهم فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم وقالوا: يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، فأصبوا من أمتعتهم شيئاً كثيراً. قوله: ﴿ لاَّ تَخَافُ ﴾ العامة ما عدا حمزة وحده على الرفع، وعليه فهو جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو حال من فاعل اضرب، أي اضرب لهم طريقاً حال كونك غير خائف، وقرأ حمزة بالجزم على أن لا ناهية، وتخف مجزوم بها، قوله: ﴿ وَلاَ تَخْشَىٰ ﴾ هو بالألف باتفاق القراء فعلى رفع ﴿ لاَّ تَخَافُ ﴾ العطف ظاهر، وعلى الجزم فيكون قوله: ﴿ وَلاَ تَخْشَىٰ ﴾ معطوف على لا تخف مجزوماً، وعلامة جزمه حذف الألف، والألف الموجودة للإشباع أتى بها موافقة للفواصل ورؤوس الآي؟
قوله: ﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ ﴾ أي بعد ما أرسل حاشرين يجمعون له الجيش، فجمعوا جيوشاً كثيرة، حتى كان مقدمة جيشه سبعمائة ألف، فضلاً عن الجناحين والقلب والساقة. قوله: ﴿ بِجُنُودِهِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿ فِرْعَوْنُ ﴾.
قوله: ﴿ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ أي علاهم وغمرهم من الأمر الهائل ما لم يبلغ كنهه أحد. قوله: ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ﴾ إخبار عن حاله قبل الغرق. قوله: (خلاف قوله وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) أي إنه مخالف له، فهو تكذيب لفرعون في قوله. قوله: ﴿ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ ﴾ الخ، قدم أولاً نعمة الإنجاء، ثم النعمة الدينية، ثم الدنيوية، فهو ترتيب في غاية الحسن. قوله: (فنؤتي موسى التوراة) جواب عما يقال: إن المواعدة كانت لموسى لا لهم، فكيف أضيفت لهم؟ وأجيب أيضاً: بأنه أمر موسى أن يختار منهم سبعين رجلاً، فأضيفت المواعدة لهم بهذا الاعتبار. قوله: (هما الترنجين) هو شيء حلو أبيض مثل الثلج، كان ينزل عليهم في التيه من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع. قوله: (والطير السماني) أي فكان ريح الجنوب يأتيهم به، فيذبح الرجل منهم ما يكفيه، وشربهم من العيون التي تخرج من الحجر. قوله: (والمنادى من وجد من اليهود) الخ، هذا أحد قولين، وقيل المخاطب من كان في عهد موسى. قوله: (توطئة) أي تمهيداً. قوله: ﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أي لذائذه وحلالاته. قوله: (بأن تكفروا النعمة) أي بعدم شكرها وبطركم لها. قوله: (بكسر الحاء) الخ، أي ففي كل قراءتان سبعيتان. قوله: (سقط في النار) أي على سبيل الخلود. قوله: (يصدق بالفرض والنفل) أي العمل الصالح يشمل كلاً منهما. قوله: (باستمراره على ما ذكر إلى موته) أي بأن يدوم على التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، وهو جواب عما يقال: ما فائدة ذكر الاهتداء آخراً، مع أنه داخل في عموم قوله: ﴿ وَآمَنَ ﴾ فأفاد المفسر أن النجاة التامة والمغفرة الشاملة، لمن حصلت منه التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، ثم استمر عليها إلى أن لقي مولاه.
قوله: ﴿ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ ﴾ ﴿ مَآ ﴾ استفهامية مبتدأ.
﴿ أَعْجَلَكَ ﴾ خبره، و ﴿ عَن قَومِكَ ﴾ متعلق بأعجلك، والمعنى أي شيء جعلك متعجلاً عن قومك وسابقاً لهم. وحاصل ذلك، أن الله سبحانه وتعالى، وعد موسى ثلاثين يوماً وأتمها بعشر، بعد إغراق فرعون وقومه، يصومها ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام فيها، وأمره تعالى أن يحضر من قومه سبعين رجلاً، يختارهم من بني إسرائيل، ليذهبوا معه إلى الطور، لأجل أن يأخذوا التوراة، فخرج بهم وخلف هارون على من بقي، وفي رواية أنه أمر هارون أن لا يأتي بهم عند تمام الميقات، فسار موسى بالسبعين، ثم عجل من بينهم تشوقاً، إلى ربه، وخلفهم وراءه، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له: ﴿ وَمَآ أَعْجَلَكَ ﴾ الخ، والمقصود من سؤال الله تعالى لموسى، إعلامه بما حصل من قومه، وإلا فيستحيل عليه تعالى السؤال لطلب الفهم. قوله: ﴿ عَن قَومِكَ ﴾ سياق المفسر يقتضي أن المراد بهم جملة بني إسرائيل، وأيده جماعة من المفسرين. قوله: (لمجيء ميعاد أخذ التوراة) أي لمجيئك في ميعاد أخذ التوراة. قوله: ﴿ قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي ﴾ ﴿ هُمْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ أُوْلاۤءِ ﴾ خبر، وقوله: ﴿ عَلَىٰ أَثَرِي ﴾ خبر بعد خبر. قوله: (أي زيادة على رضاك) أي فسارعت إلى امتثال أمرك، طلباً لزيادة رضاك، لا لأصل الرضا، فإنه حاصل، وطلبه لا يليق بحال الأنبياء. قوله: (وقيل الجواب) أي جواب السؤال وهو قوله: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ﴾.
قوله: (أتى بالاعتذار) أي عن سبقه لقومه، وقوله: (بحسب ظنه) متعلق بالاعتذار. قوله: (وتخلف المظنون لما) ﴿ قَالَ ﴾ (تعالى) أي ظهر لموسى أن ظنه تخلف حين أخبره الله بأن قومه قد عبدوا العجل، وهذا يؤيد ما قلناه أولاً، أن المراد بالقوم جميع بني إسرائيل. قوله: (أي بعد فراقك لهم) أي بعشرين يوماً وهذا الإخبار من الله تعالى عند تمام الأربعين. قوله: ﴿ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ ﴾ اسمه موسى بن ظفر، منسوب إلى سامرة قبيلة من بني إسرائيل، كان منافقاً، وكان قد رباه جبريل، لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان، وضعته أمه في حفرة، فتعهده جبريل، وكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من إحداها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الأخرى عسل.
قوله: ﴿ فَرَجَعَ مُوسَىٰ ﴾ أي بعد أن تمم الأربعين وأخذ التوراة، روي أنه لما رجع موسى، سمع الصياح والضجيج، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة. قوله: (أنه يعطيكم التوراة) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان لقوله: ﴿ يَعِدْكُمْ ﴾ والأول الكاف. قوله: ﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ المعنى إن كان الحامل لكم على عبادة العجل والمخالفة طول العهد، فإنه لم يطل، وإن كان الحامل لكم على ذلك غضب الله عليكم، فلا يليق من العاقل التعرض لغضب الله عليه. قوله: (وتركتم المجيء بعدي) أي لأنه وعدهم أن يتبعوه على أثر للميقات، فخالفوا واشتغلوا بعبادة العجل. قوله: ﴿ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ أي لأنا لو خلينا وأنفسنا ما أخلفنا، ولكن السامري سول لنا وغلب على عقولنا فأطعناه. قوله: (مثلث الميم) أي وكلها قراءات سبعيات. قوله: (وبضمها وكسر الميم) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (استعارها منهم بنو إسرائيل) أي قبل مسخ أموالهم. قوله: (بعلة عرس) أي إن بني إسرائيل أظهروا أن العلة في استعارتها هو العرس، وفي الواقع ليس كذلك. قوله: (بأمر السامري) أي فقال لهم: تأخر عنكم لما معكم من الأوزار، فالرأي أن تحفروا لها حفيرة، وتوقدوا فيها ناراً، وتقذفوها فيها لتخلصوا من ذنبها. قوله: ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً ﴾ هذا من كلامه تعالى حكاية عن فتنة السامري، فهو معطوف على قوله (وأضلهم السامري). قوله: ﴿ جَسَداً ﴾ حال من العجل، ولا يقال جسد إلا للحيوان، ولا يقال لغيره جسد إلا للزعفران، والدم إذا يبس. قوله: (وأتباعه) أي الذين ظلوا وصاروا يساعدونه على من توقف من بني إسرائيل. قوله: ﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله: ﴿ أَنْ ﴾ (مخففة من الثقيلة) أي فقوله: ﴿ لاَّ يَرْجِعُ ﴾ بالرفع في قراءة العامة. قوله: ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ ﴾ الخ، أي فنصحهم هارون قبل رجوع موسى. قوله: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ إنما ذكر هذا الاسم، تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم، لأنه هو الرحمن.
قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ﴾ غاية لعكوفهم بطريق التعلل والتسويف، لا بطريق الوعد وترك عبادته عند رجوعه. قوله: ﴿ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ﴾ ظرف منصوب بمنعك. والمعنى أي شيء منعك وقت رؤيتك ضلالهم. قوله: (لا زائدة) أي للتأكيد. المعنى ما منعك من اتباعي في الغضب لله، والمقاتلة لمن كفر بقوله: (بإقامتك بين من يعبد غير الله) أي ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم. قوله: (بكسر الميم) أي فحذفت الياء وبقيت الكسرة دالة عليها، وقوله: (وفتحها) أي فحذفت الألف المنقلبة عن الياء، وبقيت الفتحة دالة عليها، والقرءاتان سبعيتان. قوله: (أعطف لقلبه) أي لا لكونه أخاه من أمة فقط، فإن الحق أنه شقيقه. قوله: (وكان أخذ شعره) أي الرأس. قوله: ﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ معطوف على ﴿ أَن تَقُولَ ﴾ أي وخشيت عدم ترقبك، أي انتظارك وتأملك في قولي حتى تفهم عذري، فالياء في ﴿ قَوْلِي ﴾ واقعة على هارون، هذا هو المتبادر من عبارة المفسر، وقيل إنه معطوف على ﴿ فَرَّقْتَ ﴾ أي وخشيت أن تقول لم ترقب قولي، أي تحفظه وتعمل به، فعليه الياء واقعة على موسى. قوله: ﴿ قَالَ بَصُرْتُ ﴾ بضم الصاد في قراءة العامة من باب ظرف، وقرئ بكسرها من باب تعب. قوله: (بالياء) أي بنو إسرائيل وقوله: (والتاء أي أنت وقومك، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ ﴾ أي وعرفه لسابق الألفة، فلما جاء جبريل ليطلب موسى إلى الميقات لأخذ التوراة، كان راكباً على فرس، كلما وضعت حافرها على شيء أخضر، فعرف السامري أن للتراب الذي تضع الفرس حافرها عليه شأناً. قوله: (في صورة العجل) أي في فمه. قوله: (المصاغ) صوابه المصوغ كما في بعض النسخ. قول: (طلبوا منك) أي حين جاوزوا البحر كما قال تعالى:﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ﴾[الأعراف: ١٣٨] الآية.
قوله: ﴿ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ ﴾ إن حرف توكيد ونصب، والجار والمجرور خبرها مقدم، و ﴿ أَن تَقُولَ ﴾ في محل نصب اسمها مؤخر. والمعنى أن هذا القول الثابت لك ما دمت حياً، لا ينفك عنك، فكان يصيح في البرية لا مساس، وحرم موسى عليهم مكالمته ومواجهته ومبايعته، ويقال إن قومه باقية فيهم تلك الحالة إلى الآن، وهذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وعدم مخالطتهم. قوله: (فكان يهيم في البرية) أي مع السباع والوحوش. يقال إن موسى هم بقتله، فقال الله له: لا تقتله فإنه سخي. قوله: (وبفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ ﴾ أي فلا يبقى له عن ولا أثر. قوله: (بعد ذبحه) أي ولما ذبحه سال منه الدم. قوله: ﴿ إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الخ، كلام مستأنف لتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهذا آخر قصة موسى المذكورة في هذه السورة. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ ﴾ جملة مستأنفة، ذكرت تسلية له صلى الله عليه وسلم وتكثيراً لمعجزاته، وزيادة في علم أمته، ليعرفوا أحباب الله فيحبونهم، وأعداء الله فيبغضونهم ليزدادوا رفعة وشأناً، حيث اطلعوا على سير الأوائل. قوله: (أي كما قصصنا عليك) أشار بذلك إلى أن الكاف نعت لمصدر محذوف، تقديره كقصصنا هذا الخبر الغريب نقص عليك الخ. قوله: (هذه القصة) أل للجنس لأن المتقدم ثلاث قصص، قصة موسى مع فرعون، ومع بني إسرائيل، ومع السامري. قوله: ﴿ ذِكْراً ﴾ سمعي بذلك لتذكيره النعم والدار الآخرة. قوله: ﴿ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ هذه الجملة في محل نصب صفة لذكراً. قوله: (فلم يؤمن به) أشار بذلك إلى أن المراد بالإعراض عنه الكفر به، وإنكار كونه من عند الله، كلاً أو بعضاً. قوله: (من الإثم) بيان للحمل الثقيل.
قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهِ ﴾ الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في يحمل العائد على من باعتبار معناها، والتقدير يحملون الوزر حال كونهم مخلدين فيه. قوله: (أي في الوزر) أي عقابه، فالكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً ﴾ ﴿ سَآءَ ﴾ فعل ماض لإنشاء الذم، والفاعل مستتر عائد على الحمل المفسر بقوله: ﴿ حِمْلاً ﴾ و ﴿ لَهُمْ ﴾ جار ومجرور متعلق بقول محذوف، و ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ظرف لساء، و ﴿ حِمْلاً ﴾ تمييز، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله: (وزرهم). قوله: ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ ﴾ أي نأمر بالنفخ، وفي قراءة سبعية أيضاً بالياء، مع بناء الفعل للمفعول، أي ينفخ إسرافيل. قوله: (القرن) أي وفيه طاقات على عدد أرواح الخلائق. قوله: (النفخة الثانية) أي الحشر الخلائق. قوله: ﴿ زُرْقاً ﴾ حال من المجرمين. قوله: (مع سواد وجوههم) خصت بالذكر لأنها مظهر القبيح والحسن. قوله: ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي يخفضون أصواتهم ويخفونها، لما شاهوده من الرعب والهول. قوله: (من الليالي بأيامها) حمل المفسر العشر على الليالي دون الأيام لتجريده من التاء، فإن المعدود إذا كان مؤنثاً جرد العدد من التاء عكس المذكر. قوله: ﴿ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ﴾ أي أعدلهم رأياً في الدنيا. قوله: (لما عاينوه في الآخرة من الهول) أي فنسب ذلك القول لهم، لشدة ما عاينوا من الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق. قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ أي كفار مكة تعنتاً واستهزاء. قوله: (ثم يطيرها بالرياح) أي فالمعنى أنها تذهب بقدرة الله، فلا يبقى لهم أثر. قوله: ﴿ فَيَذَرُهَا ﴾ أي يتركها، والضمير عائد على الأرض. قوله: ﴿ قَاعاً صَفْصَفاً ﴾ حالا من الضمير في يذرها، والقاع المستوي الصلب، والصفصف الأرض الملساء، فهو قريب في المعنى من القاع، فهو توكيد له. قوله: ﴿ عِوَجاً ﴾ تقدم أن العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في المحسوسات، وما هنا من الثاني، لكن عبر فيه بالكسر، لأنه لشدة غرابته كأنه صار من قبيل المعاني.
قوله: ﴿ ٱلدَّاعِيَ ﴾ أي فيقبلون من كل جهة. قوله: (وهو إسرافيل) أي فيضع الصور على فيه، ويقف على صخرة ببيت المقدس ويقول: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء فيقبلون عليه، وقيل المنادي جبريل، والنافخ إسرافيل، وصححه بعضهم. قوله: (إلى عرض الرحمن) أي العرض عليه. قوله: ﴿ لاَ عِوَجَ لَهُ ﴾ أي لا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، بل يأتونه سراعاً. قوله: ﴿ لِلرَّحْمَـٰنِ ﴾ أي لجلاله وهيبته. قوله: ﴿ إِلاَّ هَمْساً ﴾ مفعول به وهو استثناء مفرغ. قوله: ﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ من مفعول به، وهي واقعة على المشفوع له أو على الشفيع، فقول المفسر (أن يشفع له) أي أو يشفع في غيره. قوله: (بأن تقول لا إله إلا الله) أي مع عديلتها وهي محمد رسول الله، والمعنى أن من مات على الإسلام، فقد رضي الله قوله، وأذن له أن يشفع في غيره، وأن يشفع غيره فيه. قوله: ﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي الخلق عموماً. قوله: ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ ﴾ أي بما بين أيديهم وما خلفهم. قوله: (لا يعلمون ذلك) أي لا تفصيلاً ولا إجمالاً، وإنما يعمله الله سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ ﴾ عنا فعل ماض، والتاء للتأنيث و ﴿ ٱلْوُجُوهُ ﴾ فاعل وأصله عنوت، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فهو من باب سما يسمو سمواً، وأما عنى كرضي يعني عنا فهو بمعنى تعب، وليس مراداً هنا بل المراد خضعت وذلت، وألى في الوجوه للاستغراق أي كل الوجوه، والمراد أصحابها، وخصت الوجوه بالذكر، لأن الذل أول ما يظهر فيها. قوله: ﴿ لِلْحَيِّ ﴾ أي الذي حياته أبدية، لا أول لها ولا آخر. قوله: ﴿ ٱلْقَيُّومِ ﴾ اي القائم على كل نفس بما كسبت فيجازيها على الخير والشر. قوله: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾ أشار بذلك إلى أن الخلائق تنقسم في القيامة قسمين: أهل سعادة، وأهل شقاوة، وكلاهما في خضوع وذل لله جل جلاله، لكن أهل السعادة خضوعهم إجلالاً وهيبة ورغبة في الله، وأهل الشقاوة خضوعهم رهبة وإشفاقاً من عذاب الله، ويأساً من رحمة الله، قال تعالى:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾[عبس: ٣٨-٤١].
قوله: (خسر) أي ظهر خسرانه. قوله: ﴿ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾ أي تحمله وارتكبه، وهذه الآية باعتبار ظاهرها، تدل على أن أهل الظلم خائبون خاسرون، أي معرضون لذلك، ففي الحديث:" الظلم ظلمات يوم القيامة "فإن الظالم ربما أداه ظلمه إلى الكفر والعياذ بالله تعالى. فإذا ملت على ذلك، فهو مخلد في النار، وإن مات على الإسلام، قد نقص عن مراتب المطهرين بسبب الزيادة في سيئاته والنقص من حسناته. قوله: ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ﴾ أي وبضدها تتميز الأشياء، فالعاصي الظالم يخاف زيادة سيئاته ونقص حسناته لما ورد أنه" يؤخذ من حسناته للمظلوم، فإن لم يبقى له حسنات، طرح من سيئات المظلوم عليه ". قوله: (أي مثل إنزال ما ذكر) أي الآيات المشتملة على تلك القصص العجيبة الغريبة.
قوله: ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ أي على لسان جبريل، مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع. قوله: ﴿ عَرَبِيّاً ﴾ أي بلغة العرب، ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْوَعِيدِ ﴾ أي التخويف. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ (الشرك) أي يجعلون بينهم وبين الشرك وقاية بأن يؤمنوا. قوله: ﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾ أي موعظة في القلوب، فينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكرار المواعظ في القرآن من مزيد رحمته بعباده، سيما مع إمهالهم وعدم معالجتهم بالأخذ، ولذلك يقال للكفار يوم القيامة:﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ﴾[فاطر: ٣٧].
قوله: ﴿ ٱلْمَلِكُ ﴾ أي النافذ حكمه وأمره. قوله: ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الثابت الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً؟قوله: ﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ المعنى لا تتعجل بقراءة ما ألقاه عليك جبريل في قلبك، حتى يقرأه عليك، وسبب ذلك: أن جبريل كان يأتي للنبي بالقرآن، فيلابس جسمه ويضعه في قلبه، فيريد النبي التعجيل والنطق به، فأمره الله أن لا ينطق به حتى يقرأه جبريل باللسان عليه ظاهراً، وهذا معنى قوله تعالى:﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾[القيامة: ١٦-١٩] والحكمة في تلقي رسول الله عن جبريل ظاهراً، أنه يكون سنة متبعة لأمته، فهم مأمورون بالتلقي من أفواه المشايخ، ولا يفلح من أخذ العلم أو القرآن من السطور، بل التلقي له سر آخر. قوله: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ أي سل ربك الاستزادة من العلوم بسبب توالي نزول القرآن، فإنها أفضل ما يسأل وأعز ما يطلب، ومن هنا أمر المشايخ المريدين بتلاوة القرآن والتعبد به، بعد كمالهم ونظافة قلوبهم، وما داموا لم يكملوا، يأمرونهم بالمجاهدة بالذكر ونحوه لتخلص قلوبهم، والحكمة في ذلك، أن الغفلة في الذكر أخف منها في القرآن لما في الأثر:" رب قارى للقرآن والقرآن يلعنه "فجعل العارفون للتوصل للقرآن طرقاً يجاهدون أنفسهم فيها، ليزدادوا بقراءتهم القرآن علوماً ومعارف وأخلاقاً، وحينئذ فليس تركهم القراءة في المبدإ، لكون غيره أفضل منه، بل لينظفوا أنفسهم للقراءة. قوله: (وصيناه أن لا يأكل من الشجرة) أي نهيناه عن الأكل منها، وحتمنا عليه الأكل منها، فغلب مرادنا على أمرنا. قوله: (ترك عهدنا) أي متأولاً حي غلطه إبليس بقوله:﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ ﴾[طه: ١٢٠] وقاسمهما﴿ نِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ ﴾[الأعراف: ٢١] فظن أنه لا يحلف أحد بالله كذباً.
قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن، تعليماً للعباد امتثال الأمر واجتناب النهي، وعطف هذه القصة على ما قبلها، من عطف السبب على المسبب، لأن هذه القصة سبب في عداوة إبليس لآدم. قوله: ﴿ فَسَجَدُوۤاْ ﴾ أي جميعاً، وتقدم الجواب عن سجود الملائكة بأوضح وجه. قوله: ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ استثناء متصل أو منقطع. قوله: (كان يصحب الملائكة) الخ، توجيه للاتصال لكونه لم يعبر بلكن. قوله: ﴿ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا ﴾ النهي لإبليس صورة، والمراد نهيهما عن تعاطي أسباب الخروج، فيتسبب عن ذلك حصول التعب له في الدنيا. قوله: (واقتصر على شقائه) أي مع أن النهي لهما معاً. قوله: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ ﴾ الخ، قابل الله سبحانه وتعالى بين الجوع والعري، والظمأ والضحو، وإن كان الجوع يقابل العطش، والعري يقابل الضحو، لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن، والضحو حر الظاهر، فنفى عن ساكن الجنة، ذل الظاهر والباطن، وحر الظاهر والباطن. قوله: (بفتح الهمزة وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ قَالَ يٰآدَمُ ﴾ بيان لصورة الوسوسة. قوله: ﴿ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ أي بسبب تساقط حلل الجنة عنهما، لما أكلا من الشجرة. قوله: (بسوء صاحبه) أي يحزنه. قوله: ﴿ مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ﴾ أي ورق التين، فصارا يلزقان بعضه ببعض، حتى يصير طويلاً عريضاً يصلح للاستتار به. قوله: ﴿ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ﴾ أي وقع فيما نهى عنه متأولاً، حيث تخلف ما قصده بأكله من الشجرة، وضل عن مطلوبه وهو الخلود في الجنة، فمعصيته وقوعه في المخالفة باعتبار الواقع، لا في القصد والنية، بل قصده ونيته امتثال الأمر، وتجنب ما يوجب الخروج، وحينئذ فلا يجوز أن يطلق على آدم العصيان والغواية، من غير اقتران بالتأويل، ولا نفي اسم العصيان عنه لصريح الآية، وعلى كل حال، فالله عنه راض، وهو معصوم قبل النبوة وبعدها، من كل ما يخالف أمر الله، هذا هو الحق في تقرير هذا المقام. واعلم أن الخطأ والنسيان، يقع من المعصومين للتشريع والمصالح، كما هو معهود في نصوص الشرع، وتسمية الله له في حقهم معصية، من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: (بالأكل من الشجرة)، تقدم أنها الحنطة، وقيل التين، وقيل غير ذلك.
قوله: ﴿ ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ ﴾ أي اصطفاه واختاره. قوله: (قبل توبته) أي بقوله:﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾[الأعراف: ٢٣] الخ. قوله: (إلى المداومة على التوبة) أي الاستمرار عليها. قوله: ﴿ قَالَ ٱهْبِطَا ﴾ أي قال الله تعالى لآدم وحواء: اهبطا من الجنة، لأن مكثهما فيها كان معلقاً على عدم أكلهما من الشجرة، وقد سبق في علمه تعالى أنهما يأكلان منها، فهو أمر مبرم، والمعلق على المبرم مبرم، فإخراجهما ليس للغضب عليهما، بل لمزيد شرفهما ورفعة قدرهما، لأنهما خرجا من الجنة منفردين، ويعودان إليها بمائة وعشرين صفاً من أولادهما، لا يحيط بعدة تلك الصفوف إلا الله تعالى. إن قلت: ما الحكمة في تعليق الخروج على الأكل من الشجرة، ولم يكن بلا سبب؟ أجيب: بأن الله سبحانه وتعالى كريم، ومن عادة الكريم، أن لا يسلب نعمته عن المنعم إليه إلا بحجة، قال تعالى ذلك، بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قوله: (أي آدم وحواء) يحتمل أن (أي) حرف نداء، و(آدم) منادى مبني على الضم في محل نصب، و(حواء) معطوف على آدم، ويحتمل أن أي حرف تفسير، وآدم وحواء تفسير للضمير في اهبطا. قوله: (بما اشتملتا عليه) قصد بذلك التوفيق بين هذه الآية وآية الأعراف، وحيث جمع فيها، وتقدم لنا وجه آخر في التوفيق بينهما، بأن الجمع باعتبار آدم وحواء وإبليس والحية، وعلى هذا قوله: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ باعتبار أن الحية وإبليس عدو لآدم وذريته. قوله: (من ظلم بعضهم بعضاً) أي من أجل ظلم بعضهم بعضاً لما في الحديث:" سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدواً من سوى أنفسها فاستجاب لي ". قوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ إن شرطية مدغمة في ما الزائدة و ﴿ يَأْتِيَنَّكُم ﴾ فعل الشرط مبني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة و ﴿ مِّنِّي ﴾ متعلق بهدى و ﴿ هُدًى ﴾ فاعل، وقوله: ﴿ فَمَنِ ٱتَّبَعَ ﴾ الخ، من شرطية، و ﴿ وَٱتَّبَعَ ﴾ فعل الشرط. وجملة ﴿ فَلاَ يَضِلُّ ﴾ جوابه، وقوله: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ ﴾ الخ، جملة شرطية أيضاً، والجملتان في محل جزم جواب الشرط الأول. قوله: (أي القرآن) في تفسير الهدى والذكر فيما يأتي بالقرآن قصور، لأن الخطاب مع آدم وذريته، وهداهم وتذكيرهم أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره من الكتب النازلة على الرسل، فالمناسب أن يقول أي كتاب ورسول. قوله: (بالتنوين) أي وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً، وفي قراءة شاذة ضنكى كسكرى، بألف بدل عن التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف. قوله: (مصدر) أي وهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، بل هو بلفظ واحد للجميع، ولذلك لم يقل ضنكه. قوله: (بعذاب الكافر في قبره) أي لما ورد أن يضغط عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ولا يزال في العذاب حتى يبعث، وقيل المراد بالمعيشة الضنكى، الحياة فيما يغضب الله تعالى، وإن كان في رخاس ونعمة، إذ لا خير في نعمة بعدها النار، لما في الحديث:" رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً ". قوله: (أي المعنى عن القرآن) المناسب أن يقول المعرض عن الهدى لما علمت. قوله: (أعمى البصر) أي وذلك في المحشر، فإذا دخل النار زال عماه، ليرى مقعده في النار وعذابه بها. قوله: (الأمر) ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ قدره إشارة إلى أن كذا خبر لمحذوف. قوله: (تركتها ولم تؤمن بها) أي فالمراد بالنسيان الإعراض وعدم الإيمان بها، وليس المراد حقيقة النسيان، وحينئذ فلا يصح الاستدلال بهذه الآية، على أن من حفظ القرآن ثم نسيه، يحشر يوم القيامة أعمى، لأنه أمر اختلف فيه العلماء، فمذهب مالك رضي الله عنه حفظ الزائد عما تصح به الصلاة من القرآن مستحب أكيد ابتداء ودواماً فنسيانه مكروه، ومذهب الشافعي نسيان كل حرف منه كبيرة تكفر بالتوبة والرجوع لحفظه. قوله: (أدوم) أي لأنه لا ينقطع، بخلاف عذاب الدنيا والقبر.
قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعموا فلم يهد لهم. قوله: (يتبين) أشار بذلك إلى أن ﴿ يَهْدِ ﴾ فعل لازم، والمعنى أعموا فلم يظهر لهم إهلاكنا كثيراً من قبلهم من القرون. قوله: (مفعول به) أي وتمييزها محذوف أي قرناً، وقوله: ﴿ مِّنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لذلك التمييز. قوله: (بتكذيب الرسل) الباء سببية، إي إن الإهلاك بسبب تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله ورسوله. قوله: (وما ذكر) مبتدأ، وقوله: (لا مانع منه) خبره، والمعنى أن أخذ المصدر من الفعل لصحة المعنى، لا يتوقف على الحرف المصدري، بل يسبك المصدر من الفعل بدون سابك، لتوقف المعنى عليه، وأما لصحة الإعراب، فلا يكون غالباً إلا بحرف مصدري. قوله: (لذوي العقول) أي السليمة الصافية، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً ﴾ أي إن الله سبحانه وتعالى سبق في علمه تأخير العذاب العام لهذه الأمة، إكراماً لنبيها، ولولا ذلك، لحل بهم كما حل بمن قبلهم من القرون الماضية، فتأخيره إمهال لا إهمال، ليتدارك الكافر ما فاته بما بقي من عمره، فإن تاب قبله ربه. قوله: (معطوف على الضمير المستتر في كان) أي والمعنى لكان الإهلاك والأجل المعين له لزاماً، أي لازماً لهم، ولم يقل لازمين، لأن لزاماً مصدر في الأصل؛ وإن كان هنا بمعنى اسم الفاعل، وقوله: (وقام الفصل) الخ، أي أن العطف على ضمير الرفع المتصل جائز إذا حصل الفاصل بالضمير المنفصل، أو فاصل ما كما هنا، قال ابن مالك: وَإنْ عَلَى ضمير رَفْعٍ مُتْصل   عَطفت فَافْصُل بِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِأو فاصل ما. وأحسن ما قرره المفسر أن يجعل قوله: ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ معطوفاً على ﴿ كَلِمَةٌ ﴾ والمعنى: ولولا كملة وأجل مسمى، وهو مدة معيشتهم في الدنيا التي قدرها الله لهم، لكان العذاب العام لازماً.
قوله: ﴿ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ﴾ أي حيث علمت أن تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل هو لازم لهم في القيامة، فتسل واصبر ولا تنزعج. قوله: (منسوخ بآية القتال) أي وعليه فالمراد بقوله اصبر لا تعاجلهم بالقتال، وقيل إن الآية محكمة، وعليه فالمراد بالصبر عدم الاضطراب مما صدر منهم من الأذية. قوله: (صلِّ) إنما سمى التسبيح والتحميد صلاة لاشتمالها عليهما، ولأن المقصود من الصلاة تنزيه الله عن كل نقص. والمعنى لا تشتغل بالدعاء عليهم، بل صلِّ الصلوات الخمس، ولما كان الأصل في الأمر الوجوب حمل الأمر بالتسبيح والتحميد على الأمر بالصلاة. قوله: (حال) أي من فاعل ﴿ سَبِّحْ ﴾ والباء في ﴿ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ للملابسة كما قال المفسر. قوله: ﴿ وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ ﴾ جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى، وأصله أأناء بهمزتين، أبدلت الثانية ألفاً على القاعدة المعروفة. قوله: ﴿ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ ﴾ المراد بالجمع ما فوق الواحد، لأن المراد به الزمن الذي هو آخر النصف الأول وأول الثاني. قوله: (المنصوب) أي بسبح. والمعنى صلِّ في أطراف النهار، وهو الوقت الذي يجمع الطرفين وهو الزوال. قوله: ﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ ﴾ متعلق بسبح، أي سبح في هذه الاوقات لعلك ترضى بذلك، وانظر إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه صلى الله عليه وسلم حبيب رب العالمين وأفضل الخلق أجمعين حيث قال له ربه ﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ ﴾ ولم يقل لعلي أرضى عليك ونحو ذلك، ومن هنا قوله عليه الصلاة والسلام:" وجعلت قرة عيني في الصلاة "وقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، فصلاته صلى الله عليه وسلم مأمور بها ليرضى هو، لا ليكفر الله عنه سيئاته، ولا ليرضى عليه، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها، لأن فيها شهوده لربه الذي هو قرة عينه، وللعارفين الكاملين من أمته، نصيب من هذا المقام. قوله: ﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ عطف على ﴿ فَٱصْبِرْ ﴾ أي لا تنظر بعينيك إلى زهرة الدنيا نظر رغبة، وهذا الخطاب لرسول الله والمراد غيره، لأن ذلك مستحيل عليه، لما ورد: أنه خير بين أن يكون نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وورد" لست من الدنيا، وليست الدنيا مني ". قوله: (أصنافاً) ﴿ مِّنْهُمْ ﴾ أي الخلق، فالدنيا دائرة في أصناف الخلق، فتارة تكون مع الشريف، وتارة مع الوضيع، وهكذا. قوله: ﴿ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الأحسن أنه منصوب على أنه مفعول ثان لمتعنا، بتضمينه معنى أعطينا، والأول هو قوله: ﴿ أَزْوَاجاً ﴾.
قوله: (بأن يطغوا) الباء سببية، أي نفتنهم بسبب طغيانهم فيه. قوله: ﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾ أي فعلى الإنسان أن يشتغل بما هو خير وأبقى، وهو الجنة ونعيمها، ويترك ما يفنى وهو الدنيا، وقسمته الأزلية تأتيه منها من غير تعب ولا مشقة. قوله: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ ﴾ أي أمتك. قوله: ﴿ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ أي وأمرهم بذلك. قوله: ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ أي نحن متكفلون برزقك، فتفرغ لما كلفت به، ولا تشتغل بما تكفلنا لك به. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهل بيته ضيق، أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية. قوله: ﴿ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ أي الجميلة المحمودة لأهل التقوى. قوله: (أي المشركون) أي وهم كفار مكة. قوله: (مما يقترحونه) أي يطلبونه هنا كما تقدم في قوله تعالى:﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠] الآيات. قوله: ﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، أي أعموا ولم تأتهم الخ. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰذ ﴾ أي الكتب المتقدمة، والمعنى ألم يكتفوا بالقرآن المحتوي على أخبار الأمم الماضية.
قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ كلام مستأنف لتقرير ما قبله. قوله: ﴿ لَقَالُواْ رَبَّنَا ﴾ الخ أي لكان لهم أن يحتجوا يوم القيامة، ويعتذروا بهذا العذر، فقطع عذرهم بإرسال الرسل لهم، ولم يهلكهم قبل مجيئه. قوله: ﴿ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ﴾ يحصل لنا الذل والهوان. قوله: ﴿ وَنَخْزَىٰ ﴾ أي نفضح. قوله: (ما يؤول إليه الأمر) أي أمرنا وأمركم. قوله: ﴿ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ أي انتظروا. قوله: ﴿ مَنْ أَصْحَابُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ ﴾ ﴿ مَنِ ﴾ في الموضعين استفهامية، والكلام على حذف مضاف، والتقدير فستعلمون جواب من أصحاب الخ، وهو أنهم هم المؤمنون. قوله: ﴿ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ ﴾ (من الضلالة) أشار المفسر إلى وجه المغايرة بين القسمين، فأصحاب الصراط السوي، من لم يضل أصلاً كالنبي، ومن أسلم صبياً. ومن اهتدى، هو من سبق له الكفر ثم أسلم بعد ذلك.
Icon