تفسير سورة طه

أضواء البيان
تفسير سورة سورة طه من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى: طه.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «الشُّعَرَاءِ» طسم [٢٦ ١] وَفَاتِحَةِ «النَّمْلِ» طس [٢٧ ١]. وَفَاتِحَةِ «الْقَصَصِ» وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [١٩ ١] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ طه: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. قَالُوا: وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَبَنِي طَيِّئٍ، وَبَنِي عُكْلٍ، قَالُوا: لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ:
دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا
وَيُرْوَى مُزَايِلًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَعْنَى (طه) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ:
إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ
وَيُرْوَى:
إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى «طه» : يَا رَجُلُ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبْزَى، وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ «طه» يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ:
رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ
ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الظَّاهِرِ.
وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ. وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ:
الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. أَيْ لِتَتْعَبَ التَّعَبَ الشَّدِيدَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ جَاءَتْ بِنَحْوِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [٣٥ ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ ٦] وَقَوْلِهِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ تُنْهِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ. وَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ تَدُلُّ لَهُ ظَوَاهِرُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [٢٢ ٧٨]، وَقَوْلِهِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢ ١٨٥]. وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَشْقَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لِيَسْعَدَ. كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ، وَيُشْبِهُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الْآيَةَ
[٧٣ ٢٠]. وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْعَنَاءُ، وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [٢٠ ١١٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، أَيْ إِلَّا لِأَجْلِ التَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَهُ. وَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ. فَتَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَتَجْتَنِبُ نَهْيَهُ. وَخَصَّ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يَخْشَى دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [٥٠ ٤٥]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [٣٦ ١١] وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [٧٩ ٤٥]. فَالتَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ بِمَنْ تَنْفَعُ فِيهِمُ الذِّكرَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [٨١ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [٦ ٩٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِعْرَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَإِعْرَابُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْضًا غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا التَّعَبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا.
فِي قَوْلِهِ تَنْزِيلًا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِنَزَّلَ مُضْمَرَةً دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَا سِحْرٍ، وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا دَلَّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٦٩ ٤١]، وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ،
كَقَوْلِهِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ١٩٢]، وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٣٩ ١] وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [٤١ ٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ: إِنْ يَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أَيْ يَقُولُهُ جَهْرَةً فِي غَيْرِ خَفَاءٍ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا ذَكَرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٦٧ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [١٦ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [٤٧ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٥ ٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَخْفَى أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ كُلُّهَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهَا قُرْآنٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ سِرًّا وَأَخْفَى أَيْ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ ١٦]. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [٢٣ ٦٣]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣ ٣٢] فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ. وَمَا سَيُسِرُّهُ غَدًا. وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَخْفَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَمَا بَيَّنَّا، أَيْ
وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ «أَخْفَى» فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ الْخَلْقِ، وَأَخْفَى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ. كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [٢٠ ١١٠] ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [٧ ٥٥]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [٧ ٢٠٥]. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابَهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى. وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي آيَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [٢ ٢٥٥]، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [٤٧ ١٩].
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، وَزَادَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [٧ ١٨٠]، وَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [١٧ ١١٠] وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَهْدِيدَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٧ ١٨٠].
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْ إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ خَلْقَهُ، كَحَدِيثِ: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: الْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَسْمَاءَهُ جَلَّ وَعَلَا بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مُطْلَقًا وَجَمْعَ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمُؤَنَّثَةِ الْوَاحِدَةِ
الْمَجَازِيَّةِ التَّأْنِيثِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعِ سِوَى السَّالِمِ مِنْ مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مِنْ إِحْدَى اللَّبِنْ
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ هُنَا الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مِنْ وَصْفِ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ قَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [٢٠ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: مَآرِبُ أُخْرَى [٢٠ ١٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى الْآيَاتِ [٢٠ ٩].
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [الْآيَةِ ٥٢] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: دَلَّ قَوْلُهُ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي بِالتَّنْكِيرِ، وَالْإِفْرَادِ، وَإِتْبَاعُهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَةَ جَمِيعِ مَا بِلِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ، بَلْ سَأَلَ إِزَالَةَ بَعْضِهَا الَّذِي يَحْصُلُ بِإِزَالَتِهِ فَهْمُ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهَا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا الْآيَةَ [٢٨ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [٤٣ ٥٢]، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ فِرْعَوْنٍ عَنْ مُوسَى، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَالْبُهْتَانِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ مَنَّ عَلَى مُوسَى مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ مَنِّهِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَرِسَالَةِ أَخِيهِ مَعَهُ، وَذَلِكَ بِإِنْجَائِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، إِذْ أَوْحَى إِلَى أُمِّهِ أَيْ أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي قَلْبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْحَى إِلَيْهَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَلَّمَهَا بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيحَاءِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ الْمُوحَى إِلَيْهِ نَبِيًّا، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا يُوحَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ.
كَقَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [٢٠ ٧٨]، وَقَوْلِهِ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [٥٣ ١٠]، وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالسَّاحِلُ: شَاطِئُ الْبَحْرِ. وَالْبَحْرُ الْمَذْكُورُ: نِيلُ مِصْرَ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ، وَالْوَضْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [٣٣ ٢٦] وَمَعْنَى اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أَيْ ضَعِيهِ فِي الصُّنْدُوقِ.
8
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ فَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّابُوتِ. وَالصَّوَابُ رُجُوعُهُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، لِأَنَّ تَفْرِيقَ الضَّمَائِرِ غَيْرُ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [٢٠ ٣٩] هُوَ فِرْعَوْنُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: فَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً، إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ أُرِيدَ بِهَا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ ٨٢] فَالْبَحْرُ لَا بُدَّ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُشْبِهُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [١٩ ٧٥].
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [٢٨ ٧ - ٨] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ جَزَعِ أُمِّهِ عَلَيْهِ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَأَخَذَهُ عَدُوُّهُ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ ١٠].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَأْخُذْهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَالْجَزْمُ مُرَاعَاةٌ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا صَنَعَتْ لَهُ التَّابُوتَ وَطَلَتْهُ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ لِئَلَّا يَتَسَرَّبَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، وَحَشَتْهُ قُطْنًا مَحْلُوجًا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّابُوتَ الْمَذْكُورَ مِنْ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ، وَأَنَّ الَّذِي نَجَرَهُ لَهَا هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَاسْمُهُ حِزْقِيلَ. وَكَانَتْ عَقَدَتْ فِي التَّابُوتِ حَبْلًا فَإِذَا خَافَتْ عَلَى مُوسَى مِنْ عُيُونِ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا أَمِنَتْ جَذَبَتْهُ إِلَيْهَا بِالْحَبْلِ. فَذَهَبَتْ مَرَّةً لِتَشُدَّ الْحَبْلَ فِي مَنْزِلِهَا فَانْفَلَتَ مِنْهَا وَذَهَبَ الْبَحْرُ بِالتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ مُوسَى فَحَصَلَ لَهَا بِذَلِكَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا الْآيَةَ [٢٨ ١٠].
9
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ عَلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [٢٠ ٣٧] أَشَارَ إِلَى مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ الْآيَةَ [٣٧ ١١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.
مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَلْقَاهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْقَصَصِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [٢٨ ٩]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي: أَيْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَةٌ، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشِقَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.
اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «إِذْ» مِنْ قَوْلِهِ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَقِيلَ: هُوَ «أَلْقَيْتُ» أَيَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ «تُصْنَعَ» أَيْ «تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ «إِذْ» فِي قَوْلِهِ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ [٢٠ ٣٨].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ: لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا. فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ أُخْتِهِ مَشَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» فَبَيَّنَ أَنَّ أُخْتَهُ الْمَذْكُورَةَ مُرْسَلَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا لِتَتَعَرَّفَ خَبَرَهُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهَا أَبْصَرَتْهُ مِنْ بَعْدُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا. فَقَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَيْ عَلَى مُرْضِعٍ يَقْبَلُ هُوَ ثَدْيَهَا وَتَكْفُلُهُ لَكُمْ بِنُصْحٍ وَأَمَانَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٨ ١١ - ١٣]
10
فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» هَذِهِ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ أَيْ قَالَتْ أُمُّ مُوسَى لِأُخْتِهِ وَهِيَ ابْنَتُهَا قُصِّيهِ أَيِ اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَتَطَلَّبِي خَبَرَهُ حَتَّى تَطَّلِعِي عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أَيْ رَأَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ كَالْمُعْرِضَةِ عَنْهُ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ جَاءَتْ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَنْ يَقْبَلَ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ أَيْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لِيَتَيَسَّرَ بِذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَى أُمِّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ غَيْرَهَا أَعْطَوْهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي قَبِلَهُ لِيُرْضِعَهُ وَيَكْفُلَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أُمِّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا وَقَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ لَهُ وَشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ؟
فَقَالَتْ لَهُمْ: نُصْحُهُمْ لَهُ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَةً فِي سُرُورِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا. فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ قَبِلَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلَتْهَا «آسِيَةُ» أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ، وَالصِّلَاتِ، وَالْكَسَاوَى، وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ، وَرِزْقِ دَارٍ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» : وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [٢٨ ١٣] وَعْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٢٨ ٧]، وَالْمُؤَرِّخُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أُخْتَ مُوسَى الْمَذْكُورَةَ اسْمُهَا «مَرْيَمُ» وَقَوْلُهُ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا إِنْ قُلْنَا فِيهِ: إِنَّ «كَيْ» حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ فَاللَّامُ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لِكَيْ تَقَرَّ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَقَوْلُهُ تَقَرَّ عَيْنُهَا قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقَرَارِ. لِأَنَّ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ تَسْكُنُ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ: كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
11
وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقُرِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: يَوْمٌ قَرٌّ بِالْفَتْحِ أَيْ بَارِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَخَصْرٌ تَثْبُتُ الْأَبْصَارُ فِيهِ كَأَنَّ عَلَيْهِ مَنْ حَدَقٍ نِطَاقًا
تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ وَأَشْيَاعُهَا وَكِنْدَةُ حَوْلِي جَمِيعًا صُبُرْ
إِذَا رَكِبُوا الْخَيْلَ وَاسْتَلْأَمُوا تَحَرَّقَتِ الْأَرْضُ وَالْيَوْمُ قَرْ
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الْجَوَادِ:
أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ وَالرِّيحُ يَا وَاقِدُ رِيحٌ صَرُّ
عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرُّ
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَقُرَّةُ الْعَيْنِ مِنْ بَرْدِهَا. لِأَنَّ عَيْنَ الْمَسْرُورِ بَارِدَةٌ، وَدَمْعُ الْبُكَاءِ مِنَ السُّرُورِ بَارِدٌ جِدًّا، بِخِلَافِ عَيْنِ الْمَحْزُونِ فَإِنَّهَا حَارَّةٌ، وَدَمْعُ الْبُكَاءِ مِنَ الْحُزْنِ حَارٌّ جِدًّا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: أَحَرُّ مِنْ دَمْعِ الْمُقِلَّاتِ. وَهِيَ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَيَشْتَدُّ حُزْنُهَا لِمَوْتِ أَوْلَادِهَا فَتَشْتَدُّ حَرَارَةُ دَمْعِهَا لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَبَبَ قَتْلِهِ لِهَذِهِ النَّفْسِ، وَلَا مِمَّنْ هِيَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ الَّذِي نَجَّاهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ، وَلَا الْفُتُونِ الَّذِي فَتَنَهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» خَبَرَ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [٢٨ ١٥ - ١٦] وَأَشَارَ إِلَى الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [٢٨ ٣٣] وَهُوَ الْمُرَادُ بِالذَّنْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [٢٦ ١٣ - ١٤] وَهُوَ مُرَادُ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ لِمُوسَى فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ الْآيَةَ [٢٦ ١٩]. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي «الْقَصَصِ» أَيْضًا إِلَى غَمِّ مُوسَى، وَإِلَى السَّبَبِ الَّذِي أَنْجَاهُ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ
12
إِلَى قَوْلِهِ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٢٨ ٢٠ - ٢٥]. وَقَوْلِهِ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْفُتُونُ مَصْدَرٌ، وَرُبَّمَا جَاءَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيُّ الْمُتَعَدِّي عَلَى فُعُولٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمْعُ فِتْنَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فُتُونًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى فُعُولٍ فِي الْمُتَعَدِّي كَالثُّبُورِ، وَالشُّكُورِ، وَالْكُفُورِ. وَجَمَعَ فِتَنَ أَوْ فِتْنَةً عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَاءِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبُدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضُرُوبًا مِنَ الْفِتَنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْفُتُونِ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِ «الْفُتُونِ»، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُتُونَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا جَرَى عَلَى مُوسَى مِنَ الْمِحَنِ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، كَالْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبْحِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي التَّابُوتِ وَقُذِفَ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ. وَكَخَوْفِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا تِلْكَ الْمِحَنُ مُبَيِّنَةٌ لِلْفُتُونِ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْفُتُونِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ الْفُتُونِ بِطُولِهِ: هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى. وَأَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا كُلِّهِمْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِهِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أُبِيحَ نَقْلُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ
. السِّنِينُ الَّتِي لَبِثَهَا فِي مَدْيَنَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [٢٨ ٢٧] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهُ أَتَمَّ الْعَشْرَ، وَبَيَّنَّا دَلِيلَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَةِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَجَلَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [٢٨ ٢٩] أَنَّهُ عَشْرُ سِنِينَ لَا ثَمَانٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَبِثَ مُوسَى فِي مَدْيَنَ ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرٌ مِنْهَا مَهْرُ ابْنَةِ صِهْرِهِ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ أَقَامَهَا هُوَ اخْتِيَارًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى [٢٠ ٤٠] أَيْ جِئْتَ عَلَى الْقَدَرِ الَّذِي قَدَرْتُهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِي أَنَّكَ تَجِيءُ فِيهِ فَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْهُ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [٥٤ ٤٩] وَقَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣ ٨]،
13
وَقَالَ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [٣٣ ٣٨]. وَقَالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْآيَةَ [١٧ ١٠١]، وَقَوْلُهُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ الْآيَةَ [٢٧ ١٢]. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ... إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ طَغَى.
أَصْلُ الطُّغْيَانِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [٦٩ ١١] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ طُغْيَانِ فِرْعَوْنَ وَمُجَاوَزَتَهُ الْحَدَّ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [٧٩ ٢٤]، وَقَوْلِهِ عَنْهُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [٢٨ ٣٨]، وَقَوْلِهِ عَنْهُ أَيْضًا: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [٢٦ ٢٩].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا تَنِيَا مُضَارِعُ وَنَى يَنِي، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
فَا أَمْرٍ وَمُضَارِعٍ مِنْ كَوَعَدْ احْذِفْ وَفِي كَعِدَةٍ ذَاكَ اطَّرَدْ
وَالْوَنَى فِي اللُّغَةِ: الضَّعْفُ، وَالْفُتُورُ، وَالْكَلَالُ، وَالْإِعْيَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
مِسَحٌّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ
وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
فَقَوْلُهُ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي أَيْ لَا تَضْعُفَا، وَلَا تَفْتُرَا فِي ذِكْرِي. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى مَنْ يَذْكُرُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [٣ ١٩١]، وَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [٨ ٤٥]
كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالِ مُوَاجِهَةِ فِرْعَوْنَ. لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِزٌ قِرْنَهُ» اه مِنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي لَا تَزَالَا فِي ذِكْرِي. وَاسْتُشْهِدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ طَرَفَةَ:
كَأَنَّ الْقُدُورَ الرَّاسِيَاتِ أَمَامَهُمْ قِبَابٌ بَنَوْهَا لَا تَنِي أَبَدًا تَغْلِي
أَيْ لَا تَزَالُ تَغْلِي. وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ فِي حَالِ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْهِ «قَوْلًا لَيِّنًا» أَيْ كَلَامًا لَطِيفًا سَهْلًا رَقِيقًا، لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْضِبُ وَيُنَفِّرُ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [٧٩ ١٧ - ١٨] وَهَذَا، وَاللَّهِ غَايَةُ لِينِ الْكَلَامِ وَلَطَافَتِهِ وَرِقَّتِهِ كَمَا تَرَى. وَمَا أُمِرَ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ لَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [١٦ ١٢٥].
مَسْأَلَةٌ
يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالرِّفْقِ، وَاللِّينِ. لَا بِالْقَسْوَةِ، وَالشِّدَّةِ، وَالْعُنْفِ. كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الْآيَةَ ١٠٥]. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [٢٠ ٤٤] : يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَشَفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ اه وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ «لَعَلَّ» فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [١٢٩] فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ «لَعَلَّ» تَأْتِي فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّعْلِيلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى وَقَالَ عَلَى اللَّهِ إِفْكًا وَزُورًا
أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرًا لَمَا وَجَدَ اللَّهَ إِلَّا غَفُورًا
فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلَا مُتَأَلِّقِ
فَقَوْلُهُ: «لَعَلَّنَا نَكُفُّ» أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى مَعْنَاهُ عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، فَالتَّرَجِّي، وَالتَّوَقُّعُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِلَعَلَّ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْبَشَرِ. وَعَزَا الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِكُبَرَاءِ النَّحْوِيِّينَ كَسِيبَوَيْهِ، وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
أَلِفُ الِاثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ «فَأْتِيَاهُ» رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ. وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. أَيْ فَأْتَيَا فِرْعَوْنَ «فَقُولَا» لَهُ: «إِنَّا رَسُولَانِ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ وَأَطْلِقْهُمْ لَنَا يَذْهَبُونَ مَعَنَا حَيْثُ شَاءُوا، وَلَا تُعَذِّبْهُمْ.
الْعَذَابُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [٢ ٤٩]، وَفِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [١٤ ٦]، وَفِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [٧ ١٤١]. وَفِي سُورَةِ «الدُّخَانِ» فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [٤٤ ٢٠] وَفِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [٢٦ ٢٢].
16
وَمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِفِرْعَوْنَ إِنَّهُمَا رَسُولَا رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يُعَذِّبُهُمْ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [٢٦ ١٦ - ١٧].
تَنْبيهٌ
فَإِنْ قِيلَ، مَا وَجْهُ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي «الشُّعَرَاءِ» ؟ مَعَ أَنَّهُمَا رَسُولَانِ؟ كَمَا جَاءَ الرَّسُولُ مُثَنَّى فِي «طه» فَمَا وَجْهُ التَّثْنِيَةِ فِي «طه»، وَالْإِفْرَادِ فِي «الشُّعَرَاءِ»، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ: الْمُثَنَّى، وَالْمُفْرَدُ يُرَادُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ؟
فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا وُصِفَ بِهِ ذُكِرَ وَأُفْرِدَ كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا. فَالْإِفْرَادُ فِي «الشُّعَرَاءِ» نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ الرَّسُولِ مَصْدَرٌ. وَالتَّثْنِيَةُ فِي «طه» اعْتِدَادًا بِالْوَصْفِيَّةِ الْعَارِضَةِ وَإِعْرَاضًا عَنِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يُجْمَعُ الرَّسُولُ اعْتِدَادًا بِوَصْفِيَّتِهِ الْعَارِضَةِ، وَيُفْرَدُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ. وَمِثَالُ جَمْعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ الْآيَةَ [٢ ٢٥٣]، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ. وَمِثَالُ إِفْرَادِهِ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُولِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ
وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّسُولِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلُهُ:
لَقَدْ كَذَّبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِقَوْلٍ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أَيْ بِرِسَالَةٍ.
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا بَلِّغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
يَعْنِي أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْآيَةِ الصَّادِقُ بِالْعَصَا، وَالْيَدِ، وَغَيْرِهِمَا. لِدَلَالَةِ آيَاتٍ أُخَرَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى يَدْخُلُ فِيهِ السَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ إِنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لَا سَلَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَلِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ:
17
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ...» إِلَى آخَرِ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ. أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِمَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أُشِيرَ إِلَى نَحْوِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [٧٩ ٣٧ - ٣٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [٩٢ ١٤ - ١٦]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [٧٥ ٣١ - ٣٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا بَلَّغَا فِرْعَوْنَ مَا أُمِرَا بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ قَالَ لَهُمَا: مَنْ رَبُّكُمَا الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا إِلَيَّ؟ زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ. وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُمَا إِلَهًا غَيْرَ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [٢٨ ٣٨]، وَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [٢٦ ٢٩]. وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ رَبُّكُمَا تَجَاهُلُ عَارِفٍ بِأَنَّهُ عَبَدٌ مَرْبُوبٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [١٧ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [٢٧ ١٣ - ١٤] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَسُؤَالُ فِرْعَوْنَ عَنْ رَبِّ مُوسَى، وَجَوَابُ مُوسَى لَهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» بِأَبْسَطِ مِمَّا هُنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [٢٦ ٢٣ - ٣٣] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
18
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [٢٠ ٥٠] فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِهَا. مِنْهَا أَنَّ مَعْنَى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ نَظِيرَ خَلْقِهِ فِي الصُّورَةِ، وَالْهَيْئَةِ، كَالذُّكُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَعْطَاهُمْ نَظِيرَ خَلْقِهِمْ مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا. وَكَالذُّكُورِ مِنَ الْبَهَائِمِ أَعْطَاهَا نَظِيرَ خَلْقِهَا فِي صُورَتِهَا وَهَيْئَتِهَا مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا. فَلَمْ يُعْطِ الْإِنْسَانَ خِلَافَ خَلْقِهِ فَيُزَوِّجُهُ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَلَا الْبَهَائِمَ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْإِنْسِ، ثُمَّ هَدَى الْجَمِيعَ لِطَرِيقِ الْمَنْكَحِ الَّذِي مِنْهُ النَّسْلُ، وَالنَّمَاءُ، كَيْفَ يَأْتِيهِ، وَهَدَى الْجَمِيعَ لِسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَشَارِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَنِ السُّدِّيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ثُمَّ هَدَى أَيْ هَدَاهُ إِلَى الْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ، وَالْمُنَاكَحَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أَيْ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَا يُصْلِحُهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى: أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةَ لَهُ. فَلَمْ يَجْعَلِ الْإِنْسَانَ فِي صُورَةِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا الْبَهِيمَةَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الشَّكْلِ الْمُنَاسِبِ لَهُ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خِلْقَةٌ وَكَذَاكَ اللَّهُ مَا شَاءَ فَعَلْ
يَعْنِي بِالْخِلْقَةِ: الصُّورَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، وَعَطِيَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ هَدَى كُلَّ صِنْفٍ إِلَى رِزْقِهِ وَإِلَى زَوْجِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ: أَيِ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ وَشَكْلَهُ الَّذِي يُطَابِقُ الْمَنْفَعَةَ الْمَنُوطَةَ بِهِ، كَمَا أَعْطَى الْعَيْنَ الْهَيْئَةَ الَّتِي تُطَابِقُ الْإِبْصَارَ، وَالْأُذُنَ الشَّكْلَ الَّذِي يُوَافِقُ الِاسْتِمَاعَ. وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ، وَالرِّجْلُ، وَاللِّسَانُ، وَغَيْرُهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُطَابِقٌ لِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ نَابٍ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِـ «أَعْطَى»، وَ «خَلْقَهُ» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ «خَلْقَهُ» هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَ «كُلَّ شَيْءٍ» هُوَ
19
الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ اسْتِعْمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْ مَفْعُولَيْ بَابِ كَسَا وَمِنْهُ «أَعْطَى» فِي الْآيَةِ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الْأَخِيرِ إِنْ أَمِنَ اللَّبْسُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ الْجَرْيَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَيُلْزَمُ الْأَصْلُ لِمُوجِبٍ عَرَا وَتَرْكُ ذَاكَ الْأَصْلِ حَتْمًا قَدْ يُرَى
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ صِنْفٍ شَكْلَهُ وَصُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمُنَاكَحَةِ، وَالْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ. وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ الْمُلَائِمَ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَنُوطَةِ بِهِ فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا! مَا أَعْظَمَ شَأْنِهِ وَأَكْمَلَ قُدْرَتِهِ! !
وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا:
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨].
وَقَدْ حَرَّرَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنِ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا مُتَضَادًا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ تَنَوُّعِيٍّ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ جَمِيعَهُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى شُمُولِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَوْضَحَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «مَهْدًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. وَالْمَهْدُ بِمَعْنَاهُ. وَكَوْنُ أَصْلِهِ مَصْدَرًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ اسْمًا لِلْفِرَاشِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ لِـ «رَبِّي»
20
مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [٢٠ ٥٢] أَيْ لَا يَضِلُّ رَبِّي الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلُ النَّصْبِ لَفَظَةَ أَعْنِي، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ مِنَ الْإِعْرَابِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَارْفَعْ أَوِ انْصِبْ إِنْ قَطَعْتَ مُضْمِرًا مُبْتَدَأً أَوْ نَاصِبًا لَنْ يَظْهَرَا
هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِ مُوسَى لَا يَضِلُّ رَبِّي لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَخْرَجْنَا يُعَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَمَعَ كَوْنِهَا مِنْ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى عَلَى بَنِي آدَمَ.
الْأُولَى: فَرْشُهُ الْأَرْضَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا يَمُرُّ مَعَهَا بَنُو آدَمَ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ.
الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُهُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الرَّابِعَةُ: إِخْرَاجُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ.
أَمَّا الْأُولَى الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَقَدْ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِهَا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا الْآيَةَ [٤٣ ٩ - ١٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [٧٨ ٦ - ٧]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٨]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا [١٣ ٣]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا فَقَدْ جَاءَ الِامْتِنَانُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [٤٣ ٩]،
21
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [٢١ ٣١] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [١٦ ١٥].
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَالرَّابِعَةُ وَهُمَا إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ مَعًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ الْآيَةَ [١٦ ١٠]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا [٦ ٩٩]، وَقَوْلُهُ فِي «فَاطِرٍ» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [٣٥ ٢٧]، وَقَوْلُهُ فِي «النَّمْلِ» : أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [٢٧ ٦٠].
وَهَذَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي إِنْبَاتِ النَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلِ الْمَاءُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَيْءٌ لَهَلَكَ النَّاسُ جُوعًا وَعَطَشًا. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَشِدَّةِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِمْ لَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ. فَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ هُنَا الصِّنْفُ مِنَ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» : وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [٢٢ ٥] أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [٣١ ١٠] أَيْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ حَسَنٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يس» :
22
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [٣٦ ٣٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ شَتَّى نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: أَزْوَاجًا [٢٠ ٥٣]. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةَ الْأَشْكَالِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَنَافِعِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ. وَقِيلَ شَتَّى جَمْعٌ لِـ «نَبَاتٍ» أَيْ نَبَاتٌ مُخْتَلِفٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ شَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ. كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى. وَالشَّتِيتُ: الْمُتَفَرِّقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ يَصِفُ إِبِلًا جَاءَتْ مُجْتَمِعَةً ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، وَهِيَ تُثِيرُ غُبَارًا مُرْتَفِعًا:
جَاءَتْ مَعًا وَأَطْرَقَتْ شَتِيتًا وَهِيَ تُثِيرُ السَّاطِعَ السَّخْتِيتَا
وَثَغْرٌ شَتِيتٌ: أَيْ مُتَفَلِّجٌ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّقُ الْأَسْنَانِ. أَيْ لَيْسَ بَعْضُهَا لَاصِقًا بِبَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى السَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. وَقَوْلُهُ سَلَكَ هُنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ بَيْنَ أَوْدِيَتِهَا وَجِبَالِهَا سُبُلًا فِجَاجًا يَمُرُّ الْخَلْقُ مَعَهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [٢٠ ٥٣] وَعَبَّرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَعْلِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [٢١ ٣١] وَقَوْلُهُ فِي «الزُّخْرُفِ» : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [٤٣ ١٠] وَعَبَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِلْقَاءِ كَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [٣١ ١٥] لِأَنَّ عَطْفَ السُّبُلِ عَلَى الرَّوَاسِي ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ أَيْ كُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْحُبُوبِ الَّتِي أَخْرَجْنَاهَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَا مِنْ جَمِيعِ مَا هُوَ غِذَاءٌ لَكُمْ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْفَوَاكِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ. أَيْ أَسِيمُوهَا وَسَرِّحُوهَا فِي الْمَرْعَى الَّذِي يَصْلُحُ لِأَكْلِهَا. تَقُولُ: رَعَتَ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ، وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا: أَيْ أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا. يَلْزَمُ وَيَتَعَدَّى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ كُلُوا وَارْعَوْا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَا يَخْفَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُنْعِمِ بِذَلِكَ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ أَنْعَامِهِمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» : فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [٣٢ ٢٧]، وَقَوْلِهِ فِي «النَّازِعَاتِ» : أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٣١ - ٣٣]]،
23
وَقَوْلِهِ فِي «عَبَسَ» : ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٨٠ ٢٥ - ٣٢] وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [٣١ ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأُولِي النُّهَى أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ. فَالنُّهَى: جَمَعُ نُهْيَةٍ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهُوَ الرَّجُلُ بِصِيغَةِ فَعُلَ بِالضَّمِّ: إِذَا كَمُلَتْ نُهْيَتُهُ أَيْ عَقْلُهُ. وَأَصْلُهُ نَهُيَ بِالْيَاءِ فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ وَاوًا لِأَنَّهَا لَامُ فِعْلٍ بَعْدَ ضَمٍّ. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَوَاوًا إِثْرَ الضَّمِّ رُدَّ الْيَا مَتَى أُلْفِيَ لَامُ فِعْلٍ أَوْ مِنْ قَبْلِ تَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «مِنْهَا» مَعًا، وَقَوْلِهِ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى «الْأَرْضَ» الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُعِيدُهُمْ فِيهَا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٣٠ ٢٠]، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٤٠ ٦٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِ النَّاسَ مِنْ تُرَابٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٣ ٥٩]. وَلَمَّا خَلَقَ أَبَاهُمْ مِنْ تُرَابٍ وَكَانُوا تَبَعًا لَهُ فِي الْخَلْقِ صَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ. وَمَا يَزْعُمُهُ
24
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ انْطَلَقَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ فَيَذْرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ النَّسَمَةَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالتُّرَابِ مَعًا فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْحَلَةَ النُّطْفَةِ بَعْدَ مَرْحَلَةِ التُّرَابِ بِمُهْلَةٍ. فَهِيَ غَيْرُ مُقَارِنَةٌ لَهَا بِدَلِيلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا بِـ «ثُمَّ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [٢٢ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [٤٠ ٦٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [٢٣ ١٢ - ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [٣٢ ٦ - ٨] وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرَهَا تَعَالَى أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [٧٧ ٢٥ - ٢٦] فَقَوْلُهُ كِفَاتًا [٧٧ ٢٦] أَيْ مَوْضِعُهُمُ الَّذِي يَكْفِتُونَ فِيهِ أَيْ يُضَمُّونَ فِيهِ: أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [٣٠ ١٩] أَيْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [٥٠ ١١] أَيْ مِنَ الْقُبُورِ بِالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [٣٠ ٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [٧ ٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [٧٠ ٤٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [٥٠ ٤٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ الْآيَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [٧ ٢٥]. وَالتَّارَةُ فِي قَوْلِهِ تَارَةً أُخْرَى بِمَعْنَى
25
الْمَرَّةِ. وَفِي حَدِيثِ السُّنَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا أَرَادُوا دَفْنَ الْمَيِّتِ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ وَقَالَ «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ» ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى وَقَالَ «وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ» ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ «وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى.
أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِهِ آيَاتِنَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْعَهْدِ كَالْأَلِفِ، وَاللَّامِ. وَالْمُرَادُ بِآيَاتِنَا الْمَعْهُودَةِ لِمُوسَى كُلُّهَا وَهِيَ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْآيَةَ [١٧ ١٠١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْآيَةَ [٢٧ ١٢]. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، وَالْحَجَرُ الَّذِي انْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَنَتْقُ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَاتِ التِّسْعِ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ». وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعُمُومُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَى فِرْعَوْنَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، وَالَّتِي جَاءَ بِهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ مُوسَى جَمِيعَ مُعْجِزَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بَعْضُهَا أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» : وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا [٤٨]، وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [٢٠ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [٧٩ ٢٠] لِأَنَّ الْكُبْرَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَأَنِيثُ الْأَكْبَرِ، وَهِيَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَذَّبَ وَأَبَى يَعْنِي أَنَّهُ مَعَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى، كَذَّبَ رَسُولَ رَبِّهِ مُوسَى، وَأَبَى عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ شِدَّةَ إِبَائِهِ وَعِنَادِهِ وَتَكَبُّرِهِ عَلَى مُوسَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [٧ ١٣٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [٤٣ ٤٧] وَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [٢٦ ٢٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [٤٣ ٥١ - ٥٣]،
وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ نَفْسِهِ وَتَحْقِيرُ أَمْرِ مُوسَى، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتْبَعَ الْفَاضِلُ الْمَفْضُولَ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَأَبَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ. وَأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي كَذَّبَ بِهَا وَأَبَى عَنْ قَبُولِهَا مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [٢٧ ١٤]. وَقَوْلُهُ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [١٧ ١٠٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ أَرَيْنَاهُ أَصْلُهُ مِنْ رَأَى الْبَصْرِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَى فِرْعَوْنَ آيَاتِهِ عَلَى يَدِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى سِحْرٌ، وَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهَا إِخْرَاجَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِهِمْ.
أَمَّا دَعْوَاهُ هُوَ وَقَوْمُهُ أَنَّ مُوسَى سَاحِرٌ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [٢٧ ١٣]، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [١٠ ٧٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [٢٠ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ الْآيَةَ [٤٣ ٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ بِالسِّحْرِ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى [٢٠ ٥٧]، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [٧ ١٠٩ - ١١٠]، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [٢٦ ٣٤]، وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [١٠ ٧٨]، وَقَالَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [٢٠ ٦٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ، لَمَّا رَأَى آيَاتِ اللَّهِ وَمُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَةَ، وَادَّعَى أَنَّهَا سِحْرٌ أَقْسَمَ لِيَأَتِيَنَّ مُوسَى بِسِحْرٍ مِثْلِ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي يَزْعُمُ هُوَ أَنَّهَا سِحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِالسِّحْرِ وَجَمْعَهُمُ السَّحَرَةَ كَانَ عَنِ اتِّفَاقِ مَلَئِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [٧ ١٠٩ - ١١٠]. وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الْآيَاتِ ٣٤ - ٣٧]، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ وَقَعَ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ وَاتِّفَاقِ الْمَلَأِ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَعَدَ مُوسَى بِأَنَّهُ يَأَتِي بِسِحْرٍ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي زَعْمِهِ قَالَ لِمُوسَى فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَالْإِخْلَافُ: عَدَمُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ. وَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ مَكَانُ الِاجْتِمَاعِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي السِّحْرِ فِي زَعْمِهِ مَكَانًا سُوًى. وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ سُوًى عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَالضَّمِّ: أَنَّهُ مَكَانٌ وَسَطٌ تَسْتَوِي أَطْرَافُ الْبَلَدِ فِيهِ. لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَهَا، فَلَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ لِلشَّرْقِ مِنَ الْغَرْبِ، وَلَا لِلْجَنُوبِ مِنَ الشَّمَالِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَكَانًا سُوًى أَيْ نِصْفًا وَعَدْلًا لِيَتَمَكَّنَ جَمِيعُ النَّاسِ أَنْ يَحْضُرُوا. وَقَوْلُهُ: سُوًى أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ. لِأَنَّ الْمَسَافَةَ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَوْلُهُ سُوًى فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: الضَّمُّ، وَالْكَسْرُ مَعَ الْقَصْرِ، وَفَتْحُ السِّينِ مَعَ الْمَدِّ. وَالْقِرَاءَةُ بِالْأُولَيَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ هُنَا وَمِنَ الْقِرَاءَةِ بِالثَّالِثَةِ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [٣ ٦٤] وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ مَكَانًا سُوًى عَلَى الْمَكَانِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُ مُوسَى بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ شَاهِدًا لِذَلِكَ:
28
وَالْفِزْرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ. يَعْنِي: حَلَّ بِبَلْدَةٍ مُسْتَوِيَةٍ مَسَافَتُهَا بَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَالْفِزْرِ. وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَابَ فِرْعَوْنَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ مِنَ الْمَوْعِدِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ ذَلِكَ يَوْمَ الزِّينَةِ. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَوْمٌ مَعْرُوفٌ لَهُمْ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَيَتَزَيَّنُونَ. سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ، أَوْ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، أَوْ يَوْمُ النَّيْرُوزِ، أَوْ يَوْمٌ كَانُوا يَتَّخِذُونَ فِيهِ سُوقًا وَيَتَزَيَّنُونَ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ مُوسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللَّهِ وَظُهُورُ دِينِهِ، وَكَبْتُ الْكَافِرِ وَزَهُوقُ الْبَاطِلِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَجْمَعِ الْغَاصِّ لِتَقْوَى رَغْبَةُ مَنْ رَغِبَ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيَكِلَّ حَدُّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَيَكْثُرُ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ. لِيُعْلَمَ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، وَيَشِيعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالْحَضَرِ. اه مِنْهُ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الزِّينَةِ أَيْ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَحَشْرُ النَّاسِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ يَوْمُ الزِّينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ، وَالضُّحَى: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ. وَالضُّحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَمَنْ أَنَّثَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ ضَحْوَةٍ. وَمَنْ ذَكَّرَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ جَاءَ عَلَى فِعْلٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ كَصُرَدٍ وَزُفَرَ. وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إِذَا لَمَّ تُرِدْ ضُحَى يَوْمٍ مُعَيَّنٍ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ أَرَدْتَ ضُحَى يَوْمِكَ الْمُعَيَّنِ فَقِيلَ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ كَسَحَرَ. وَقِيلَ لَا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ مُوسَى، وَالسَّحَرَةِ عُيِّنَ لِوَقْتِهَا يَوْمٌ مَعْلُومٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ. لِيَعْرِفُوا الْغَالِبَ مِنَ الْمَغْلُوبِ أُشِيرَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [٢٦ ٣٨ - ٤٠].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
الْيَوْمُ الْمَعْلُومُ: هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ الْمَذْكُورِ هُنَا. وَمِيقَاتُهُ وَقْتُ الضُّحَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِشْكَالِ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجُهَ الْإِشْكَالِ فِيهَا، وَنُبَيِّنُ إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ عَنْهَا.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْفِعْلَ الثُّلَاثِيَّ إِنْ كَانَ مِثَالًا أَعْنِي وَاوِيَّ الْفَاءِ كَوَعَدَ وَوَصَلَ،
29
فَالْقِيَاسُ فِي مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ كُلُّهَا الْمَفْعِلُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ) مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ مُعْتَلَّهَا فَالْقِيَاسُ فِيهِ الْمَفْعَلُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا صَالِحٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّرْفِيِّ لِأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ يُرَادُ بِهِ وَقْتُ الْوَعْدِ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ الْوَعْدِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَوْعِدِ فِي الْقُرْآنِ اسْمَ زَمَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [١١ ٨١] أَيْ وَقْتُ وَعْدِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ الصُّبْحُ. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ مَكَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [١٥ ٤٣] أَيْ مَكَانُ وَعْدِهِمْ بِالْعَذَابِ.
وَأَوْجُهُ الْإِشْكَالِ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ مَصْدَرٌ. لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِخْلَافُ هُوَ الْوَعْدُ لَا زَمَانُهُ، وَلَا مَكَانُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَكَانًا سُوًى.
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ مَكَانٍ.
وَقَوْلُهُ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ زَمَانٍ. فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ أُشْكِلَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الْمَكَانِ فِي قَوْلِهِ: مَكَانًا سُوًى وَالزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمُ الزِّينَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَوْعِدَ اسْمُ مَكَانٍ أُشْكِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَا نُخْلِفُهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَكَانِ لَا يُخْلَفُ وَإِنَّمَا يُخْلَفُ الْوَعْدُ، وَأُشْكِلَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَوْعِدَ اسْمُ زَمَانٍ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَا نُخْلِفُهُ وَقَوْلُهُ مَكَانًا سُوًى هَذِهِ هِيَ أَوْجُهُ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَالَ: لَا يَخْلُو الْمَوْعِدُ فِي قَوْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ مَصْدَرًا. فَإِنْ جَعَلْتَهُ زَمَانًا نَظَرًا فِي أَنَّ قَوْلَهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مُطَابِقٌ لَهُ لَزِمَكَ شَيْئَانِ: أَنْ تَجْعَلَ الزَّمَانَ مُخَلَّفًا وَأَنْ يَعْضُلَ عَلَيْكَ نَاصِبٌ مَكَانًا وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَكَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَكَانًا سُوًى لَزِمَكَ أَيْضًا أَنْ تُوقِعَ الْإِخْلَافَ عَلَى الْمَكَانِ، وَلَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَبَقِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْوَعْدِ وَيُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَكَانِ الْوَعْدِ، وَيُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي نُخْلِفُهُ لِلْمَوْعِدِ وَمَكَانًا بَدَلٌ مِنَ الْمَكَانِ الْمَحْذُوفِ.
30
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَهُ قَوْلُهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْعَلَهُ زَمَانًا، وَالسُّؤَالُ وَاقِعٌ عَنِ الْمَكَانِ لَا عَنِ الزَّمَانِ؟
قُلْتُ: هُوَ مُطَابِقٌ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لَفْظًا. لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمَ الزِّينَةِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ مُشْتَهِرٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ الْمَكَانُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي جَوَابِهِ هَذَا مِنَ التَّعَسُّفِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِبْدَالِ مِنَ الْمَحْذُوفِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ مَا أُجِيبُ بِهِ عَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِشْكَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْ مُوسَى تَعْيِينَ مَكَانِ الْمَوْعِدِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَكَانًا سُوًى. أَيْ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافِ الْبَلَدِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَنَّ مُوسَى وَافَقَ عَلَى ذَلِكَ وَعَيَّنَ زَمَانَ الْوَعْدِ وَأَنَّهُ يَوْمُ الزِّينَةِ ضُحَى. لِأَنَّ الْوَعْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا إِنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ أَيْ مَكَانُ الْوَعْدِ، وَقَوْلُهُ مَكَانًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَوْعِدًا. لِأَنَّ الْمَوْعِدَ إِذَا كَانَ اسْمَ مَكَانٍ صَارَ هُوَ نَفْسُ الْمَكَانِ فَاتَّضَحَ كَوْنُ مَكَانًا بَدَلًا. وَلَا إِشْكَالَ فِي ضَمِيِرِ نُخْلِفُهُ عَلَى هَذَا. وَوَجْهُ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ: أَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ كَاشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنْهُ، فَاسْمُ الْمَكَانِ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَمَكَانٍ. فَالْمَنْزِلُ مَثَلًا مَكَانُ النُّزُولِ، وَالْمَجْلِسُ مَكَانُ الْجُلُوسِ، وَالْمَوْعِدُ مَكَانُ الْوَعْدِ. فَإِذَا اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَا نُخْلِفُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ، كَرُجُوعِهِ لِلْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [٥ ٨] : فَقَوْلُهُ هُوَ أَيِ الْعَدْلُ الْمَفْهُومُ مِنِ اعْدِلُوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا نُخْلِفُهُ أَيِ: الْوَعْدُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ. لِأَنَّهُ مَكَانُ الْوَعْدِ، فَمَعْنَاهُ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ وَآخِرُ جُزْأَيْهِ لَفْظُ الْوَعْدِ وَهُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي لَا نُخْلِفُهُ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَهُ لِمُوسَى فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَنْ مُوسَى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَافَقَ عَلَى طَلَبِ فِرْعَوْنَ ضِمْنًا، وَزَادَ تَعْيِينَ زَمَانِ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. هَذَا هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا صَوَابُهُ. وَأَقْرَبُ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ
31
الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ وَعَلَيْهِ فَـ لَا نُخْلِفُهُ رَاجِعٌ لِلْمَصْدَرِ، وَمَكَانًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَوْعِدُ. أَيْ: عُدْنَا مَكَانًا سُوًى. وَنَصْبُ الْمَكَانِ بِأَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَوْعِدًا أَوْ أَحَدُ مَفْعُولَيْ فاجَعَلْ غَيْرُ صَوَابٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَكَانًا سُوًى قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمُ وَحَمْزَةُ «سُوًى» بِضَمِّ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، انْصَرَفَ مُدْبِرًا مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ لِيُهَيِّئَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَوَاعَدَ عَلَيْهِ هُوَ وَمُوسَى. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّازِعَاتِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى [٧٩ ٢٢ - ٢٣] وَقَوْلُهُ فَحَشَرَ أَيْ: جَمَعَ السَّحَرَةَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيْ: أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. وَمِنْ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [٢٠ ٤٨].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَمَعَ كَيْدَهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِـ كَيْدَهُ مَا جَمَعَهُ مِنَ السِّحْرِ لِيَغْلِبَ بِهِ مُوسَى فِي زَعْمِهِ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَجَمَعَ كَيْدَهُ هُوَ جَمْعُهُ لِلسَّحَرَةِ مِنْ أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا تَسْمِيَةُ السِّحْرِ فِي الْقُرْآنِ كَيْدًا. كَقَوْلِهِ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ الْآيَةَ [٢٠ ٦٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ السَّحَرَةِ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ [٢٠ ٦٤] وَكَيْدُهُمْ سِحْرُهُمْ. الثَّانِي أَنَّ الَّذِي جَمَعَهُ فِرْعَوْنُ هُوَ السَّحَرَةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [٧ ١١١ - ١١٢]. وَقَوْلُهُ حَاشِرِينَ أَيْ: جَامِعِينَ يَجْمَعُونَ السَّحَرَةَ مِنْ أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٢٦ ٣٦]، وَقَوْلُهُ فِي «يُونُسَ» : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [١٠ ٧٩].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ أَتَى أَيْ: جَاءَ فِرْعَوْنُ بِسَحَرَتِهِ لِلْمِيعَادِ لِيَغْلِبَ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى بِسِحْرِهِ فِي زَعْمِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ السَّحَرَةَ لَمَّا جَمَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَاجْتَمَعُوا مَعَ مُوسَى لِلْمُغَالَبَةِ قَالُوا لَهُ مُتَأَدِّبِينَ مَعَهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [٧ ١١٥]. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُحْذَفَ مَفْعُولُ فِعْلٍ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَقَدْ حُذِفَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَفْعُولُ تُلْقِيَ وَمَفْعُولٌ أَوَّلُ مِنْ أَلْقَى وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مَفْعُولَ إِلْقَاءِ مُوسَى هُوَ عَصَاهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٧ ١١٧]، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٢٦ ٤٥]، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا الْآيَةَ [٢٠ ٦٩]. وَمَا فِي يَمِينِهِ هُوَ عَصَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ الْآيَةَ [٢٠ ١٧].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَفْعُولَ إِلْقَائِهِمْ هُوَ حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [٢٦ ٤٤]. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ هُنَا قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [٢٠ ٦٦]، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ أَنْ تُلْقِيَ وَفِي قَوْلِهِ أَنْ نَكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا أَنْ تَخْتَارَ أَنْ تُلْقِيَ أَيْ: تَخْتَارُ إِلْقَاءَكَ أَوَّلًا، أَوْ تَخْتَارُ إِلْقَاءَنَا أَوَّلًا. وَتَقْدِيرُ الْمَصْدَرِ الثَّانِي: وَإِمَّا أَنْ تَخْتَارَ أَنْ نَكُونَ أَيْ: كَوْنَنَا أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، وَالثَّانِي أَنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِمَّا إِلْقَاؤُكَ أَوَّلًا، أَوْ إِلْقَاؤُنَا أَوَّلًا. وَقِيلَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِمَّا الْأَمْرُ إِلْقَاؤُنَا أَوْ إِلْقَاؤُكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَيَّرَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يُلْقِيَ قَبْلَهُمْ أَوْ يُلْقُوا قَبْلَهُ قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا يَعْنِي أَلْقُوا
33
مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [٢٦ ٤٣] وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦].
تَنْبيهٌ
قَوْلُ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: أَلْقُوا الْمَذْكُورُ فِي «الْأَعْرَافِ، وَطه، وَالشُّعَرَاءِ» فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ قَالَ هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ لِلسَّحَرَةِ أَلْقُوا. أَيْ: أَلْقُوا حِبَالَكُمْ وَعِصِيَّكُمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا السِّحْرَ وَعَارِضُوا بِهِ مُعْجِزَةَ اللَّهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا رَسُولَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ بِمُنْكَرٍ؟، وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ قَصْدَ مُوسَى بِذَلِكَ قَصْدٌ حَسَنٌ يَسْتَوْجِبُهُ الْمَقَامُ، لِأَنَّ إِلْقَاءَهُمْ قَبْلَهُ يَسْتَلْزِمُ إِبْرَازَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَكَائِدِ السِّحْرِ، وَاسْتِنْفَادِ أَقْصَى طُرُقِهِمْ وَمَجْهُودِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ فِي إِلْقَائِهِ عَصَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَابْتِلَاعِهَا لِجَمِيعِ مَا أَلْقَوْا مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ مَا لَا جِدَالَ بَعْدَهُ فِي الْحَقِّ لِأَدْنَى عَاقِلٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا، فَلَوَ أَلْقَى قَبْلَهُمْ وَأَلْقَوْا بَعْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «تُخَيَّلُ» بِالتَّاءِ، أَيْ: تُخَيَّلُ هِيَ أَيِ: الْحِبَالُ، وَالْعِصِيُّ أَنَّهَا تَسْعَى. وَالْمَصْدَرُ فِي «أَنَّهَا تَسْعَى» بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيُّ الَّذِي هُوَ نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَالْمَصْدَرُ فِي سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ».
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا حِبَالُهُمْ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَمَا أَشَارَ لِنَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ
وَ «إِذَا» هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالْحِبَالُ: جَمْعُ حَبْلٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَ «الْعِصِيُّ» جَمْعُ عَصَا، وَأَلِفُ الْعَصَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَلِذَا تُرَدُّ إِلَى أَصْلِهَا فِي التَّثْنِيَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ:
34
وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ سُوًى بَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِ
فَجَاءَتْ بِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ كَأَنَّهُ عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
وَأَصْلُ الْعِصِيِّ عُصُوو عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ جَمْعُ عَصَا. فَأُعِلَّ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الَّتِي فِي مَوْضِعِ الَّلَامِ يَاءً فَصَارَ عُصُويًا، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، فَالْيَاءَانِ أَصْلُهُمَا وَاوَانِ. وَإِلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْلَالِ فِي وَاوَيِ اللَّامِ مِمَّا جَاءَ عَلَى فَعَوْلٍ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
كَذَاكَ ذَا وَجْهَينِ جَا الْفُعُولُ مِنْ ذِي الْوَاوِ لَامُ جَمْعٍ أَوْ فَرْدٍ يَعِنْ
وَضَمَّةُ الصَّادِ فِي وَعِصِيُّهُمْ أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِمُجَانَسَةِ الْيَاءِ، وَضَمَّةُ عَيْنِ «عِصِيِّهِمْ» أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِاتِّبَاعِ كَسْرَةِ الصَّادِ. وَالتَّخَيُّلُ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى هُوَ إِبْدَاءُ أَمْرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِنْهُ الْخَيَالُ. وَهُوَ الطَّيْفُ الطَّارِقُ فِي النَّوْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «طه» هَذِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦]، لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لِأَعْيُنِ النَّاظِرِينَ أَمْرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا مُطْلَقَ تَخْيِيلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [٢ ١٠٢] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَهُ حَقِيقَةٌ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا الْمَوْصُولَةِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [١١٣ ٤] يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَعْقِدْنَ فِي سِحْرِهِنَّ وَيَنْفُثْنَ فِي عُقَدِهِنَّ. فَلَوْلَا أَنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ السِّحْرَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ خَيَالٌ.
35
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ فِي «طه» : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ [٢٠ ٦٦]، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦] الدَّالَّانِ عَلَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، يُعَارِضُهُمَا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [٧ ١١٦] لِأَنَّ وَصْفَ سِحْرِهِمْ بِالْعِظَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَيَالٍ. فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا كَثِيرًا مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ، وَخَيَّلُوا بِسِحْرِهِمْ لِأَعْيُنِ النَّاسِ أَنَّ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ تَسْعَى وَهِيَ كَثِيرَةٌ. فَظَنَّ النَّاظِرُونَ أَنَّ الْأَرْضَ مُلِئَتْ حَيَّاتٍ تَسْعَى، لِكَثْرَةِ مَا أَلْقَوْا مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ فَخَافُوا مِنْ كَثْرَتِهَا، وَبِتَخْيِيلِ سَعْيِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَصَفَ سِحْرَهُمْ بِالْعِظَمِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُمْ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ، فَلَمَّا أَصَابَهَا حُرُّ الشَّمْسِ تَحَرَّكَ الزِّئْبَقُ فَحَرَّكَ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ، فَخُيِّلَ لِلنَّاظِرِينَ أَنَّهَا تَسْعَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ مِنْهُمْ حِبَالٌ وَعِصِيٌّ. وَقِيلَ: كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى رَئِيسٍ يُقَالُ لَهُ شَمْعُونُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ يُوحَنَّا مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، مَعَ كُلِّ عَرِيفٍ أَلْفُ سَاحِرٍ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الْفَيُّومِ، وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الرِّيفِ فَصَارُوا تِسْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ أَعْمَى اهـ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَنَحْنُ نَتَجَنَّبُهَا دَائِمًا، وَنُقَلِّلُ مِنْ ذِكْرِهَا، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا قَلِيلًا مِنْهَا مُنَبِّهِينَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُخَفَّفَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ قَافٌ مَفْتُوحَةٌ مُشَدَّدَةٌ بَعْدَهَا فَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ مُضَارِعُ تَلْقَفُ وَأَصْلُهُ تَتَلَقَّفُ بِتَاءَيْنِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيُّنِ الْعِبَرْ
وَالْمُضَارِعَ مَجْزُومٌ، لِأَنَّهُ جَزَاءُ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ وَأَلْقِ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَزْمَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الطَّلَبِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: إِنْ تُلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، إِلَّا أَنَّهُ يُشَدِّدُ
36
تَاءَ تَلْقَفُ وَصْلًا. وَوَجْهُ تَشْدِيدِ التَّاءِ هُوَ إِدْغَامُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ بُدِئَ بِتَاءَيْنِ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَحَيِيَ افْكُكْ وَادَّغِمْ دُونَ حَذَرَ كَذَاكَ نَحْوُ تَتَجَلَّى وَاسْتَتِرْ
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَوَّلُهُ نَحْوَ «تَتَجَلَّى» وَمِثَالُهُ فِي الْمَاضِي قَوْلُهُ:
تُولِي الضَّجِيجَ إِذَا مَا الْتَذَّهَا خَصْرًا عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلَ
أَصْلُهُ تَتَابَعَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ كَالْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الْفَاءَ، فَالْمُضَارِعُ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَرْفُوعٌ، وَوَجْهُ رَفْعِهِ أَنَّ جُمْلَةَ الْفِعْلِ حَالٌ، أَيْ: أَلْقِ بِمَا فِي يَمِينِكَ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَلَقِّفَةً مَا صَنَعُوا. أَوْ مُسْتَأْنِفَةً، وَعَلَيْهِ فَهِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تَلْقَفْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً مَعَ الْجَزْمِ، مُضَارِعُ لَقِفَهُ بِالْكَسْرِ يَلْقَفُهُ بِالْفَتْحِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى تَلَقَّفَهُ وَلَقِفَهُ إِذَا تَنَاوَلَهُ بِسُرْعَةٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا تَبْتَلِعُ كُلَّ مَا زَوَّرُوهُ وَافْتَعَلُوهُ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا لِلنَّاسِ أَنَّهَا تَسْعَى وَصُنْعُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا صَنَعُوا وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى تَخْيِيلِهِمْ إِلَى النَّاسِ بِسِحْرِهِمْ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ تَسْعَى، لَا عَلَى نَفْسِ الْحِبَالِ، وَالْعَصِيِّ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِهِ أَمَرَ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ أَيْ: يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَبْتَلِعُ مَا يَأْفِكُونَ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا إِلَيْهِ أَنَّهَا تَسْعَى أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [٧ ١١٧ - ١١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٢٦ ٤٥] فَذِكْرُ الْعَصَا فِي «الْأَعْرَافِ، وَالشُّعَرَاءِ» يُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي يَمِينِهِ فِي «طه» أَنَّهُ عَصَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: يَخْتَلِقُونَهُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ تَسْعَى حَقِيقَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَكَهُ عَنْ شَيْءٍ يَأْفِكُهُ عَنْهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) : إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ وَقَلَبَهُ. فَأَصْلُ الْأَفْكِ بِالْفَتْحِ
37
الْقَلْبُ وَالصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ.
لِأَنَّ اللَّهَ أَفَكَهَا أَيْ: قَلَبَهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا [١٥ ٧٤]. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [٥١ ٩] أَيْ: يُصْرَفُ عَنْهُ مَنْ صُرِفَ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا [٤٦ ٢٢] أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا، وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ:
إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الْمُرُوءَةِ مَأْفُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْكَذِبِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَقَلْبٌ لِلْأَمْرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [٤٥ ٧]، وَقَالَ تَعَالَى: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٤٦ ٢٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ «مَا» مَوْصُولَةٌ وَهِيَ اسْمُ «إِنَّ»، وَ «كَيْدُ» خَبَرُهَا، وَالْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:.
............
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَيْدُ سَاحِرٍ بِالنَّصْبِ فَـ «مَا» كَافَّةٌ وَ «كَيْدُ» مَفْعُولُ «صَنَعُوا» وَلَيْسَتْ سَبْعِيَّةً، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ «كَيْدُ سِحْرٍ» بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ. لِأَنَّ الْكَيْدَ الْمُضَافَ إِلَى السِّحْرِ هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْكَيْدُ: هُوَ الْمَكْرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. لِأَنَّهُ يَنْحَلُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَانٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَانٍ وَنِسْبَةٍ. فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِهِ إِجْمَاعًا، وَهَذَا الْمَصْدَرُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهِيَ صِيغَةُ عُمُومٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ. لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ أَيْضًا صِيغَةُ عُمُومٍ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ فِيمَا إِذَا لَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ بِمَصْدَرٍ. فَإِنْ أُكِّدَ بِهِ فَهُوَ
38
صِيغَةُ عُمُومٍ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغَ الْعُمُومِ:
وَنَحْوَ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرًا قَدْ جَلَبَا
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي دُونَ اللَّازِمِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ بِالْمَصْدَرِ وَعَدَمِهِ. لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمُصْدَرِ بَعْدَ الْفِعْلِ تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ، وَالتَّأْكِيدُ لَا يَنْشَأُ بِهِ حُكْمٌ، بَلْ هُوَ مُطْلَقُ تَقْوِيَةً لِشَيْءٍ ثَابِتٍ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ هَلْ هُوَ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ مَعْرُوفٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ الْآيَةَ. يَعُمُّ نَفْيُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ، وَأَكَدَّ ذَلِكَ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْأَمْكِنَةِ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ أَتَى وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِ. لِأَنَّ الْفَلَّاحَ لَا يُنْفَى بِالْكُلِّيَّةِ نَفْيًا عَامًّا إِلَّا عَمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ الْكَافِرُ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ هُوَ مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ [٢ ١٠٢]. فَقَوْلُهُ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاحِرًا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ كَافِرًا. وَقَوْلُهُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ صَرِيحٌ فِي كُفْرِ مُعَلِّمِ السِّحْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُقَرِّرًا لَهُ: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [٢ ١٠٢]، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [٢ ١٠٢] أَيْ: مِنْ نَصِيبٍ، وَنَفِيُ النَّصِيبِ فِي الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ السِّحْرِ مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّهُ عَرَفَ بِاسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّ لَفْظَةَ لَا يُفْلِحُ يُرَادُ بِهَا الْكَافِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [١٠ ٦٨ - ٧٠]، وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» أَيْضًا: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [١٠ ١٧]، وَقَوْلِهِ
39
فِي «الْأَنْعَامِ» : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [٦ ٢١]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّ مِنْ جَانِبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَوْجَبَتْ نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ السَّحَرَةِ، وَالْكَفَرَةِ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَنَالُ الْفَلَاحَ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [٢ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ ١]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ مُضَارِعُ أَفْلَحَ بِمَعْنَى نَالَ الْفَلَاحَ. وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ
فَقَوْلُهُ «وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ» يَعْنِي أَنَّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ فَازَ بِأَكْبَرِ مَطْلُوبٍ. وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ أَيْضًا عَلَى الْبَقَاءِ، وَالدَّوَامِ فِي النَّعِيمِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ
فَقَوْلُهُ «مُدْرِكُ الْفَلَاحِ» يَعْنِي الْبَقَاءَ. وَقَوْلُ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ السَّعْدِيِّ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ وَالْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ
عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ بَقَاءٌ. وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ» فِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَيْثُ أَتَى حَيْثُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ، كَمَا تَدُلُّ حِينًا عَلَى الزَّمَانِ، رُبَّمَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَقَوْلُهُ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أَيْ: حَيْثُ تَوَجَّهَ وَسَلَكَ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْمِيمُ. كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُتَّصِفٌ بِكَذَا حَيْثُ سَارَ، وَأَيَّةُ سَلَكَ، وَأَيْنَمَا كَانَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
بَانَ الْخَلِيطُ وَلَمْ يَأْوُوا لِمَنْ تَرَكُوا وَزَوَّدُوكَ اشْتِيَاقًا أَيْةَ سَلَكُوا
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أَيْ: لَا يَفُوزُ، وَلَا يَنْجُو حَيْثُ أَتَى مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: حَيْثُ احْتَالَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ هُوَ
40
مَا بَيَّنَّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَلَطُفَ وَدَقَّ. وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الشَّيْءِ الشَّدِيدِ الْخَفَاءِ: أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيِّ:
جَعَلْتِ عَلَامَاتِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَنَا مَصَائِدَ لَحْظٍ هُنَّ أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ
فَأَعْرِفُ مِنْهَا الْوَصْلَ فِي لِينِ طَرْفِهَا وَأَعْرِفُ مِنْهَا الْهَجْرَ فِي النَّظَرِ الشَّزْرِ
وَلِهَذَا قِيلَ لِمَلَاحَةِ الْعَيْنَيْنِ: سِحْرٌ. لِأَنَّهَا تُصِيبُ الْقُلُوبَ بِسِهَامِهَا فِي خَفَاءٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَبَّبَتْ بِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ السُّلَمِيِّ:
وَانْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي فِي لَوَاحِظِهِ وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ بِحَدٍّ جَامِعٍ مَانِعٍ. لِكَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا يَكُونُ جَامِعًا لَهَا مَانِعًا لِغَيْرِهَا. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ قَسَّمَ السِّحْرَ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكِلْدَانِيِّينَ، وَالْكَسْدَائِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ، وَالشُّرُورُ، وَالسَّعَادَةُ، وَالنُّحُوسَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ لِلْكَوَاكِبِ كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْجُونَ الْخَيْرَ مِنْ قِبَلِ الْكَوَاكِبِ وَيَخَافُونَ الشَّرَّ مِنْ قِبَلِهَا كَمَا يَرْجُو الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَهُ. فَهُمْ كَفَرَةٌ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ فِي سِحْرِهِمْ بِالْكُفْرِ الْبَوَاحِ.
41
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ، وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَهْمِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ. وَقَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ، وَالدَّوَرَانِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ.
قَالَ: وَحَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ أَرِسْطُو فِي طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ: أَنَّ الدَّجَاجَةَ إِذَا تَشَبَّهَتْ كَثِيرًا بِالدِّيَكَةِ فِي الصَّوْتِ وَفِي الْحِرَابِ مَعَ الدِّيَكَةِ نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ الشَّيْءِ النَّابِتِ عَلَى سَاقِ الدِّيكِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْوَالَ الْجُسْمَانِيَّةَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ اللِّسَانِيَّ الْخَالِيَ عَنِ الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ قَلِيلُ الْعَمَلِ عَدِيمُ الْأَثَرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ آثَارًا... إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهِ الْكَلَامَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ لَهَا آثَارٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ». وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِمَّةَ الْعَائِنِ وَقُوَّةَ نَفْسِهِ فِي الشَّرِّ جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّفُوسُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ، وَالْأَدَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الْآلَاتِ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاءِ كَانَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ الذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهَا تَصَرُّفٌ الْبَتَّةَ إِلَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى مَنْ نَظَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى مُدَاوَاةِ هَذَا الدَّاءِ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْحَالِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ حَالًا صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً، يَتَصَرَّفُ بِهَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَامَاتٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ هَذِهِ
42
الْأُمَّةِ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا سِحْرًا فِي الشَّرْعِ. وَتَارَةً تَكُونُ الْحَالُ فَاسِدَةً لَا يَمْتَثِلُ صَاحِبُهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ، وَلَا يَدُلُّ إِعْطَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُمْ. كَمَا أَنَّ الدَّجَّالَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مَعَ أَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا لَعَنَهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَابَهَهُ مِنْ مُخَالِفِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورَةِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، يَعْنِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ وَاسْتِخْدَامَهُمْ. قَالَ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنِّ مِمَّا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا الْقَوْلَ بِهَا. إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالْجِنُّ الْمَذْكُورُونَ قِسْمَانِ: مُؤْمِنُونَ، وَكَافِرُونَ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَالْقُرْبِ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَصْحَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ مِنَ الرُّقَى، وَالدَّخْنِ، وَالتَّجْرِيدِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ، وَعَمَلِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ. وَقَدْ أَطَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: هُوَ التَّخَيُّلَاتُ، وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ. وَمَبْنَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قَدْ تَرَى الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ أَغْلَاطُ الْبَصَرِ كَثِيرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّطِّ رَأَى السَّفِينَةَ وَاقِفَةً، وَالشَّطَّ مُتَحَرِّكًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاكِنَ يُرَى مُتَحَرِّكًا. وَالْمُتَحَرِّكُ سَاكِنًا. وَالْقَطْرَةُ النَّازِلَةُ تُرَى خَطًّا مُسْتَقِيمًا. إِلَى آخِرِ كَلَامِ الرَّازِيِّ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي هَذَا النَّوْعِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مُخْتَصِرًا كَلَامَ الرَّازِيِّ الْمَذْكُورَ: وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُخْطِئُ وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى ذَا الشَّعْبَذَةِ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ، وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَغْرَقَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَئِذٍ، يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ غَيْرُ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا
43
يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ. قَالَ: وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ تُفِيدُ حِسَّ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ، كَانَ الْعَمَلُ أَحْسَنَ. مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا أَوْ مُظْلِمٍ، فَلَا تَقِفُ الْقُوَّةُ النَّاظِرَةُ عَلَى أَحْوَالِهَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ. اهـ مِنْهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَهُوَ تَخْيِيلٌ وَأَخْذٌ بِالْعُيُونِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [٢٠ ٦٦] فَإِطْلَاقُ التَّخْيِيلِ فِي الْآيَةِ عَلَى سِحْرِهِمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦]. لِأَنَّ إِيقَاعَ السِّحْرِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَخَيَّلَتْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ، وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ ضَحِكِ السُّرُورِ، وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ، وَهُوَ أَنْ يَجُرَّ ثَقِيلًا عَظِيمًا بِآلَةٍ خَفِيفَةٍ سَهْلَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً نَفِيسَةً، مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدِرَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ عَسِيرًا عَدَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِهِ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّازِيَّ يَرَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ فَحَرَّكَتْهُ حَرَارَةُ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَظَنُّوا أَنَّهَا حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَتَوَارَدَ نَوْعَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي لَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خُفْيَةً إِلَى
44
الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تُرَوَّجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ مِنْهُمْ فَمُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَيَرَوْنَ ذَلِكَ سَائِغًا لَهُمْ، وَفِيهِمْ شُبَهٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ مُتَعَبِّدِي الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ، وَالتَّرْهِيبِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ مَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وَقَوْلُهُ: «حَدِّثُوا عَنِّي، وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجُ النَّارَ». ثُمَّ ذَكَرَهَا هُنَا - يَعْنِي الرَّازِيَّ - حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَائِرٍ حَزِينِ الصَّوْتِ، ضَعِيفِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا سَمِعَتْهُ الطُّيُورُ تَرِقُّ لَهُ فَتُذْهِبُ فِي وَكْرِهِ مِنْ ثَمَرِ الزَّيْتُونِ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، فَعَمَدَ هَذَا الرَّاهِبُ إِلَى صَنْعَةِ طَائِرٍ عَلَى شَكْلِهِ وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ جَعَلَهُ أَجْوَفًا، فَإِذَا دَخَلَتْهُ الرِّيحُ سُمِعَ مِنْهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ ذَلِكَ الطَّائِرِ. وَانْقَطَعَ فِي صَوْمَعَةٍ ابْتَنَاهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا عَلَى قَبْرِ بَعْضِ صَالِحِيهِمْ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ الطَّائِرَ فِي مَكَانٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الزَّيْتُونِ فَتَحَ بَابًا مِنْ نَاحِيَتِهِ فَتَدْخُلُ الرِّيحُ إِلَى دَاخِلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَيَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ طَائِرٍ فِي شَكْلِهِ أَيْضًا، فَتَأْتِي الطُّيُورُ فَتَحْمِلُ مِنَ الزَّيْتُونِ شَيْئًا كَثِيرًا فَلَا تَرَى النَّصَارَى إِلَّا ذَلِكَ الزَّيْتُونَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا سَبَبُهُ. فَفَتَنَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الْقَبْرِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَذْكُورَ يُسَمَّى الْبَرَاصِلَ، وَأَنَّ الَّذِي عَمِلَ صُورَتَهُ يُسَمَّى أَرْجِعْيَانُوسَ الْمُوسِيقَارَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى هَيْكَلِ أُورَشْلِيمَ الْعَتِيقِ عِنْدَ تَجْدِيدِهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ أَوَّلًا أُسْطَرْخَسُ النَّاسِكُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا النَّوْعُ الْخَامِسُ الَّذِي عَدَّهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، الَّذِي هُوَ الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ... إِلَخْ لَا يَنْبَغِي عَدُّهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ. لِأَنَّ أَسْبَابَهُ صَارَتْ وَاضِحَةً مُتَعَارَفَةً عِنْدَ النَّاسِ، بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ. وَالْوَاضِحُ الَّذِي صَارَ عَادِيًّا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ السِّحْرِ، وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ خَفِيَّةَ الْأَسْبَابِ فَصَارَتِ الْيَوْمَ ظَاهِرَتَهَا جِدًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ، وَالدَّخَنَ الْمُسْكِرَةَ نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا تَنَاوَلَهُ
45
الْإِنْسَانُ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ، وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ، قَالَهُ الرَّازِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ: فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَخَلَطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ. اهـ كَلَامُ الرَّازِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ نَقْلًا عَنِ الرَّازِيِّ: قُلْتُ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ، وَيَتَحَيَّلُ عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ: فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ: وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ: حَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرُّعْبِ، وَالْمَخَافَةِ: وَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ: فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمَ أَنَّ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي تَنْفِيذِ الْأَعْمَالِ وَإِخْفَاءِ الْأَسْرَارِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ عَنِ الرَّازِيِّ: هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التَّنْبَلَةُ، وَإِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيلُ حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ، وَالتَّضْرِيبُ مِنْ وُجُوهٍ لَطِيفَةٍ خَفِيَّةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ اهـ. وَالتَّضْرِيبُ بَيْنَ الْقَوْمِ: إِغْرَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ عَنِ الرَّازِيِّ قُلْتُ: النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ الْكَذَّابُ مَنْ يُنَمِّ خَيْرًا» أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»، وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، جَاءَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَنَمَّى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ. وَإِنَّمَا يَحْذُو عَلَى مِثْلِ هَذَا الذَّكَاءِ ذُو الْبَصِيرَةِ النَّافِذَةِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
46
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا. لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَسُمِّيَ السَّحُورُ سَحُورًا لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ اللَّيْلِ. وَالسِّحْرُ: الرِّئَةُ وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: أَنْتَفَخَ سِحْرُهُ؟ أَيْ: أَنْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ؟
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي. وَقَالَ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦] أَيْ: أَخْفَوْا عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» انْقِسَامَ السِّحْرِ إِلَيْهَا. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ تَقْسِيمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَرْجِعُ غَالِبُهَا إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ قَسَّمَهُ الشَّيْخُ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ إِبْرَاهِيمَ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ صَاحِبُ التَّآلِيفِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ فِي نَظْمِهِ الْمُسَمَّى (رُشْدُ الْغَافِلِ) وَشَرْحِهِ لَهُ، الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَنْوَاعَ عُلُومِ الشَّرِّ لِتُتَّقَى وَتُجْتَنَبَ إِلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
(مِنْهَا) قِسْمٌ يُسَمَّى (بِالْهِيمْيَاءِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَمِيمٌ فَيَاءٌ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةُ، عَلَى وَزْنِ كِبْرِيَاءَ. قَالَ: وَهُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصٍّ سَمَاوِيَّةٍ تُضَافُ لِأَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ، يَحْصُلُ لِمَنْ عُمِلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّحَرَةِ، وَقَدْ يَبْقَى لَهُ إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَتَصِيرُ أَحْوَالُهُ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، حَتَّى يَتَخَيَّلَ مُرُورَ السِّنِينِ الْكَثِيرَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَمَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ ذَلِكَ لَا تَجِدُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ. وَهَذَا تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ اه.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالسِّيمْيَاءِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبَقِيَّةُ حُرُوفِهِ كَحُرُوفِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ، أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ يَبْقَى مَعَهَا إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِيمْيَاءِ.
(وَمِنْهَا) : نَوْعٌ هُوَ رُقًى ضَارَّةٌ. قَالَ: كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُفْرًا. قَالَ: وَلِهَذَا نَهَى مَالِكٌ عَنِ الرُّقَى بِالْعَجَمِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ (النَّصِيحَةِ) : وَلَا يُقَالُ لِمَا يُحْدِثُ ضَرَرًا رُقًى، بَلْ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ سِحْرٌ.
47
(وَمِنْهَا) : قِسْمٌ يُسَمَّى خَصَائِصُ بَعْضِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَهَا تَسَلُّطٌ عَلَى النُّفُوسِ. كَالْمُشْطِ، وَالْمُشَاقَةِ وَجَفُّ طَلْعِ الذَّكَرِ مِنَ النَّخْلِ، وَقِصَّةُ جُعْلِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ فِي سِحْرِهِ مَشْهُورَةٌ. وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ أَهْلِهِ: أَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْكِلَابِ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا رُمِيَ بِحَجَرٍ أَنْ يَعَضَّهُ، فَإِذَا رُمِيَ بِسَبْعِ حِجَارَةٍ وَعَضَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَطُرِحَتْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَزْعُمُونَ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ آثَارٌ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ. قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالطَّلَاسِمِ) وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْشِ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِهَا فِي جِسْمٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا، تَحْدُثُ بِهَا خَاصِّيَّةٌ رُبِطَتْ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ لَا تَجْرِي الْخَاصَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى يَدِهِ.
(وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالْعَزَائِمِ) وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَسْمَاءً أُمِرُوا بِتَعْظِيمِهَا، وَمَتَى أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ بِهَا أَطَاعُوا وَأَجَابُوا وَفَعَلُوا مَا طُلِبَ مِنْهُمْ اهـ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الزَّعْمِ مِنَ الْفَسَادِ.
(وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمُّونَهُ الِاسْتِخْدَامَ لِلْكَوَاكِبِ، وَالْجِنِّ. وَأَهْلُ الِاسْتِخْدَمَاتِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ إِدْرَاكَاتٍ رُوحَانِيَّةً. فَإِذَا قُوبِلَتَ الْكَوَاكِبُ بِبَخُورٍ خَاصٍّ وَلِبَاسٍ خَاصٍّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ، كَانَتْ رُوحَانِيَّةَ فَلَكِ الْكَوَاكِبِ مُطِيعَةٌ لَهُ، مَتَى مَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَتْهُ لَهُ عَلَى زَعْمِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سِحْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِ. وَكَذَلِكَ مُلُوكُ الْجَانِّ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا لَهُمْ أَشْيَاءً خَاصَّةً بِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ أَطَاعُوا وَفَعَلُوا لَهُمْ مَا أَرَادُوا. قَالَ: وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَذَكَرَ مِنْ عُلُومِ الشَّرِّ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً: كَالْخَطِّ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْمَوَالِدِ، وَالْقُرْعَةِ، وَالْفَأْلِ، وَعِلْمِ الْكَتِفِ، وَالْمُوسِيقَى، وَالرَّعْدِيِّ، وَالْكِهَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْخَطُّ الرَّمْلِيُّ مَعْرُوفٌ. وَالْأَشْكَالُ جَمْعُ شَكْلٍ، وَيُسَمَّى عِلْمُهَا عِلْمُ الْجَدَاوِلِ وَعِلْمُ الْأَوْفَاقِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَالْمَوَالِدُ جَمْعُ مَوْلِدٍ، وَهِيَ أَنْ يَدَّعِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّجْمِ الَّذِي كَانَ طَالِعًا عِنْدَ وِلَادَةِ الشَّخْصِ أَنَّهُ يَكُونُ سُلْطَانًا أَوْ عَالِمًا، أَوْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا، أَوْ طَوِيلَ الْعُمْرِ أَوْ قَصِيرَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
48
وَالْقُرْعَةُ مَا يُسَمُّونَهُ قُرْعَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَاصِلُهَا جَدْوَلٌ مَرْسُومٌ فِي بُيُوتِهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَسْمَاءُ الطُّيُورِ. وَبَعْدَ الْجَدْوَلِ تَرَاجِمُ، لِكُلِّ اسْمٍ تَرْجَمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَيُذْكَرُ فِيهَا أُمُورٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَالْمَضَارِّ، يُقَالُ لِلشَّخْصِ غَمِّضْ عَيْنَيْكَ وَضَعْ أُصْبُعَكَ فِي الْجَدْوَلِ. فَإِذَا وَضَعَهَا عَلَى اسْمٍ قُرِئَتْ لَهُ تَرْجَمَتُهُ لِيَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ.
وَمُرَادُهُ بِالْفَأْلِ: الْفَأْلُ الْمُكْتَسَبُ. كَأَنْ يُرِيدَ إِنْسَانٌ التَّزَوُّجَ أَوِ السَّفَرَ مَثَلًا، فَيَخْرُجُ لِيَسْمَعَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِقْدَامُ أَوِ الْإِحْجَامُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ لِذَلِكَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. أَمَّا مَا يُعْرَضُ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ كَأَنْ يَسْمَعَ قَائِلًا يَقُولُ: مَا مُفْلِحٌ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَعِلْمُ الْكَتِفِ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُ الشَّرِّ، وَالضَّلَالِ أَنَّ مَنْ عَلِمَهُ يَكُونُ إِذَا نَظَرَ فِي أَكْتَافِ الْغَنَمِ اطَّلَعَ عَلَى أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا زَعَمَ الْمُشْتَغِلُ بِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَمُوتُ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَأَنَّهُ يَطْرَأُ رُخْصٌ أَوْ غَلَاءٌ أَوْ مَوْتَ الْأَعْيَانِ كَالْعُلَمَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ يَذْكُرُ شَأْنَ الْكُنُوزِ أَوِ الدَّفَائِنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْمُوسِيقَى مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّهَا مِنَ الْبَاطِلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالشَّرْعِ الْكَرِيمِ.
وَالرَّعْدِيَّاتُ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّ الرَّعْدَ إِذَا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مِنَ السَّنَةِ وَالشَّهْرِ فَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ مِنْ جَدْبٍ وَخِصْبٍ، وَكَثْرَةِ الرَّوَاجِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقِلَّتِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْمَاشِيَةِ، وَانْقِرَاضِ الْمِلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِرَافَةِ وَالْكِهَانَةِ مَعَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي دَعْوَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ: أَنَّ الْعِرَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَالْكِهَانَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اهـ مِنْهُ.
وَعُلُومُ الشَّرِّ كَثِيرَةٌ، وَقَصَدْنَا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى خِسَّتِهَا وَقُبْحِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَمِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّحْرِيمُ الشَّدِيدُ. وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ عَلَى أَنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ فِي «الْأَنْعَامِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ».
49
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّحْرِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَخْيِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كَلَامِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُ أَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ كُفْرِهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا سِحْرَكَ. فَإِنْ وَصَفَ مَا يَسْتَوْجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ لِلْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَطْلُبُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ. فَإِنْ كَانَ السِّحْرُ مِمَّا يُعَظَّمُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ كَالْكَوَاكِبِ، وَالْجِنِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سِحْرُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [٢ ١٠٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [٢ ١٠٢]، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [٢ ١٠٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [٢٠ ٦٩] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَإِنْ كَانَ السِّحْرُ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَالِاسْتِعَانَةِ بِخَوَاصِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ دِهَانَاتٍ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَرَامٌ حُرْمَةً شَدِيدَةً وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّاحِرِ هَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ لِلسِّحْرِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ
50
يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ قِصَاصًا.
وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: تُقْبَلُ التَّوْبَةُ.
وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ. يَعْنِي لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ. وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عُمَرُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلْهَا. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ. وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ: وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ.
وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا كُفِّرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [٢ ١٠٢] لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبِلْنَاهُ. فَإِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كُفِّرَ وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ وَاسْتُتِيبَ مِنْهُ، وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَنَا، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ، وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ: وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُ كَافِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ، وَالزِّنْدِيقِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قَتَلَ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ مَاتَ بِسِحْرِهِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ قَالَ مَاتَ بِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَلَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ
51
لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ. لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِاعْتِرَافِ السَّاحِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: (بَابُ السِّحْرِ) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [٢ ١٠٢] : وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَمُتَعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلشَّيَاطِينِ أَوِ الْكَوَاكِبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ فَلَا يَكْفُرُ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَصْلًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ. عَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا. وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا، بَلْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً. فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ، إِلَى آخِرِ كَلَامِ النَّوَوِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ حَجَّةَ لَمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ قَالَ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ وَتَفَاصِيلُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السِّحْرَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهُ مَا لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ، فَإِنْ كَانَ السَّاحِرُ اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا؟ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِي اسْتِتَابَتِهِ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا أَنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ، وَلَا أُمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؟ بَلْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّاهِرِ. وَمَا يُخْفُونَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ السَّاحِرَ لَهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ. لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بِالْكُفْرِ، وَالزِّنْدِيقُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ السَّاحِرَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ السَّاحِرِ وَأَنَّهَا إِنْ كَفَرَتْ بِسِحْرِهَا قُتِلَتْ كَمَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ. لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» تَشْمَلُ الْأُنْثَى عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَأَصَحِّهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى الْآيَةَ [٤ ١٢٤]. فَأَدْخَلَ الْأُنْثَى فِي لَفْظَةِ «مَنْ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ الْآيَةَ [٤ ١٢٤]، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ الْآيَةَ [٣٣ ٣٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ شُمُولُ لَفْظَةِ «مَنْ» فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ
52
لِلْأُنْثَى أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَمَا شُمُولُ مَنْ لِلْأُنْثَى جَنَفٌ وَفِي شَيْبِهِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا
وَأَمَّا إِنْ كَانَ السَّاحِرُ عَمِلَ السِّحْرَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَالَّذِينَ قَالُوا يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُقْتَلُ حَدًّا وَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانًا بِسِحْرِهِ، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا لَا حَدًّا.
وَهَذِهِ حُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ وَمُنَاقَشَتُهَا:
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مُطْلَقًا إِذَا عَمِلَ بِسِحْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ بِهِ أَحَدًا فَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِحَدِيثٍ جَاءَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. فَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ (الْجِهَادُ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ) : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ قَالَ: فَقَتَلْنَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» إِلَخْ فِي هَذَا الْأَثَرِ سَاقِطَةٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، ثَابِتَةٌ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدِ وَأَبِي يَعْلَى. قَالَهُ فِي الْفَتْحِ.
وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ. قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [٢ ١٠٢] فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ انْتَهَى مِنَ الْمُوَطَّأِ.
وَنَحْوَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: كَانَ عِنْدَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ يَلْعَبُ فَذَبَحَ إِنْسَانًا وَأَبَانَ رَأْسَهُ، فَجَاءَ جُنْدَبٌ الْأَزْدِيُّ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ: أَنَّهُ قَتَلَهُ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: قَتَلَهُ جُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ.
وَفِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ) لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِكَلَامِ الْبُخَارِيِّ فِي
53
التَّارِيخِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَسُجِنَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا وَلَهَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ انْتَهَى مِنْهُ.
فَهَذِهِ آثَارٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ: وَهُمْ عُمَرُ وَابْنَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَجُنْدَبٌ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ». وَضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ جُنْدَبٍ مَوْقُوفٌ، وَتَضْعِيفُهُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ) أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْمَذْكُورِ: رَوَى ابْنُ السَّكَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُضْرَبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ أُمَّةً وَحْدَهُ» اهـ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَضْعِيفَهُ بِإِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا اهـ. وَهَذَا يُقَوِّيهِ كَمَا تَرَى.
فَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهَا عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مَعَ اعْتِضَادِهَا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمَذْكُورِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا. وَالْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَدِيثُ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ. لِأَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي قَتَلَهُ جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سِحْرُهُ مِنْ نَحْوِ الشَّعْوَذَةِ، وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبَانَ رَأْسَ الرَّجُلِ، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَوْلُ عُمَرَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِصِيغَةِ الْعُمُومِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآثَارِ وَهَذَا الْحَدِيثِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحَفْصَةٌ، وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْكُفْرَ لَا يُقْتَلُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ...» الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَلَيْسَ السِّحْرُ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَدِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا
54
لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ. وَمَا حَاوَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِحَمْلِ السِّحْرِ عَلَى الَّذِي يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقَتْلِ، وَحَمْلِهِ عَلَى الَّذِي لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْقَتْلِ لَا يَصِحُّ. لِأَنَّ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي قَتْلِهِ جَاءَتْ بِقَتْلِ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَهُ مِنْ نَوْعِ الشَّعْوَذَةِ كَسَاحِرِ جُنْدَبٍ الَّذِي قَتَلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَالْجَمْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ، فَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ عَدَمَ الْقَتْلِ بِأَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ الْقَتْلَ بِأَنَّ أَدِلَّتَهُ خَاصَّةٌ، وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ وَلَمْ يَقْتُلْ بِهِ إِنْسَانًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ. وَقَتْلُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى دَمِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مَرْفُوعَةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا قَوِيٌّ جِدًّا لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِهِ. هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟، وَالتَّحْقِيقُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [٢ ١٠٢] وَإِذَا أَثْبَتَ اللَّهُ أَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَنَفَى أَنَّهُ نَافِعٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعَلُّمُ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ لَا نَفْعَ فِيهِ؟ !
وَجَزَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِأَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ. قَالَ مَا نَصُّهُ:
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ، وَلَا مَحْظُورٍ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٣٩ ٩]، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَهَذَا
55
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا، وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْكَلَامِ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِمَا نَصُّهُ:
وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: «الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ» إِنْ عَنَى بِهِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ عَقْلًا فَمُخَالِفُوهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَمْنَعُونَ هَذَا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ شَرْعًا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ تَبْشِيعٌ لِعِلْمِ السِّحْرِ. وَفِي السُّنَنِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»، وَفِي السُّنَنِ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً وَنَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ» وَقَوْلُهُ «وَلَا مَحْظُورَ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ» كَيْفَ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ، وَاتِّفَاقُ الْمُحَقِّقِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَأَيْنَ نُصُوصُهُمْ عَلَى ذَلِكَ! !
ثُمَّ إِدْخَالُهُ عَلِمَ السِّحْرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٣٩ ٩] فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ الْعَالِمِينَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمَّا قُلْتَ إِنَّ هَذَا مِنْهَا! ثُمَّ تُرَقِّيهِ إِلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزِ إِلَّا بِهِ ضَعِيفٌ بَلْ فَاسِدٌ. لِأَنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا. ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ، وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْمُعْجِزَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ السِّحْرَ، وَلَا تَعَلَّمُوهُ، وَلَا عَلَّمُوهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا صَوَابٌ، وَأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الرَّازِيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَأَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مَنْعِهِ. لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [٢ ١٠٢]. وَقَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا.. إِلَخْ» إِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ بِذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَا مَانِعَ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) : وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لِأَمْرَيْنِ: إِمَّا لِتَمْيِيزِ مَا فِيهِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِمَّا لِإِزَالَتِهِ عَمَّنْ وَقَعَ فِيهِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، فَإِذَا سَلِمَ الِاعْتِقَادُ فَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ
56
بِمُجَرَّدِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَنْعًا. كَمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ عِبَادَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِلْأَوْثَانِ. لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ مَا يُعَلِّمُهُ السَّاحِرُ إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، بِخِلَافِ تَعَاطِيهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ أَوِ الْفِسْقِ فَلَا يَحِلُّ أَصْلًا، وَإِلَّا جَازَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. اهـ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُبِيحَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، مَعَ أَنَّ تَعَلُّمَهُ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِلْعَمَلِ بِهِ، وَالذَّرِيعَةُ إِلَى الْحَرَامِ يَجِبُ سَدُّهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ فِي الْمَرَاقِي:
سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حَلِّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ. فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَمِمَّنْ أَجَازَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ) : وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ، أَوْ يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ. فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اهـ. وَمَالَ إِلَى هَذَا الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ أَخْضَرَ فَيَدُقُّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يَحْسُو مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ وَيَغْتَسِلُ. فَإِنَّهُ يَذْهَبُ عَنْهُ كُلُّ مَا بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ انْتَهَى مِنْهُ.
وَمِمَّنْ أَجَازَ النَّشْرَةَ وَهِيَ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ: أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّنْ كَرِهَ ذَلِكَ: الْحَسَنُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ: هَلَّا تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا».
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ إِنْ كَانَ بِالْقُرْآنِ كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجُوزُ الرُّقْيَا بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِسِحْرٍ أَوْ بِأَلْفَاظٍ عَجَمِيَّةٍ، أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ. وَهَذَا وَاضِحٌ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا تَرَى.
57
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: (تَكْمِيلٌ) قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ: مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقِرَاءَةِ. فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ، مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّوَجُّهِ، لَا يُخِلُّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ. قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ. وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالْجُهَّالَ. لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى الْأَرْوَاحِ، تَلَقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ، وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ الْقَدْرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي الْمَسْحُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ: طَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ يَبْلُغُهُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَكَالْمَرَضِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَسْحُورَ مِنَ السِّحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [٢ ١٠٢] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفُ الْيَهُودِيِّ كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ؟ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: «هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أَرِبْتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةَ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَاسْتُخْرَجَ» قَالَتْ فَقُلْتُ: أَفَلَا أَيْ: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا» اهـ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّبَ لَهُ
58
الْمَرَضَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ مَطْبُوبٌ. أَيْ: مَسْحُورٌ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السِّحْرَ سَبَّبَ لَهُ وَجَعًا. وَنَفْيُ بَعْضِ النَّاسِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [١٧ ٤٧] سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعَاوَى. وَسَتَرَى فِي آخِرِ بَحْثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحَ وَجْهِ ذَلِكَ. وَطَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْرِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ عِنْدَهُ إِنْزَالَ الْجَرَادِ، وَالْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَفَلْقَ الْبَحْرِ، وَقَلْبَ الْعَصَا، وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَإِنْطَاقَ الْعَجْمَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّاحِرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ فَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ بِالسِّحْرِ الْإِنْسَانُ حِمَارًا مَثَلًا، وَالْحِمَارُ إِنْسَانًا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَطِيرَ السَّاحِرُ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنْ يَسْتَدِقَّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ كُوَّةٍ ضَيِّقَةٍ. وَيَنْتَصِبُ عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، وَيَجْرِي عَلَى خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَرْكَبُ الْكَلْبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَبَعْضُ النَّاسِ يُجِيزُ هَذَا. وَجَزَمَ بِجَوَازِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَذَلِكَ صَاحَبُ رُشْدِ الْغَافِلِ، وَغَيْرُهُمَا. وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُ مِثْلَ هَذَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ مُنَاسَبَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيَّنَ السَّبَبَ، وَالْمُسَبِّبَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [٢ ١٠٢]. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثُبُوتِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ. لِأَنَّ غَالِبَ مَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِهِ قَائِلُهُ حِكَايَاتٌ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ عُدُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ، وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، لَا قَلْبِ الْحَقِيقَةِ مَثَلًا إِلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
59
تَنْبيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا، وَلَا مُحَالًا شَرْعِيًّا حَتَّى تُرَدَّ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ. لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، كَالْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْبَتَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاسْتِدْلَالُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةِ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [١٧ ٤٧] مَرْدُودٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا. قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ، ثُمَّ وَأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ. وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ. فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا، فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ. فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيِّلَ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِئَهُنَّ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلَفْظُهُ: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ» وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ «أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِيهِمْ» قَالَ الدَّاوُدِيُّ: «يُرَى» بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُظَنُّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ «يَرَى» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ. وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سُحِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ، حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ. وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ. قَالَ عِيَاضٌ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يَكُنْ نَبِيَّنَا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ: قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ
60
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطُرُ، وَلَا يَثْبُتُ. فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّخَيُّلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِنَ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ» أَيْ: صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ. فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ. وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: صَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيْدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ. فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ: مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَزُولُ. وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينَ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «أَمَّا أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ» وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ. لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: فَكَانَ يَدُورُ، وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعَهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: مَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ، وَالطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ. فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ. الْحَدِيثَ انْتَهَى مِنْ (فَتْحِ الْبَارِي).
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ خَلَلًا فِي التَّبْلِيغِ، وَالتَّشْرِيعِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ: كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ، وَالْآلَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَعْتَرِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ. لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [١٤ ١١] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [١٧ ٤٧] فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْحُورٌ أَوْ مَطْبُوبٌ، قَدْ خَبَلَهُ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «مَسْحُورًا» أَيْ: مَخْدُوعًا. مِثْلَ قَوْلِهِ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [٢٣ ٨٩] أَيْ: مِنْ أَيْنَ تُخْدَعُونَ. وَمَعْنَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى
61
مَا قَبْلَهُ. لِأَنَّ الْمَخْدُوعَ مَغْلُوبٌ فِي عَقْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَسْحُورًا مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سِحْرًا أَيْ: رِئَةً فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، فَهُوَ مِثْلُكُمْ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ. كَقَوْلِهِمْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [٢٥ ٧]، وَقَوْلِهِ عَنِ الْكُفَّارِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [٢٣ ٣٣ - ٣٤] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ: مَسْحُورٌ وَمُسَحَّرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
أَيْ: نُغَذَّى وَنُعَلَّلُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ «مَسْحُورًا» رَاجِعَةٌ إِلَى دَعْوَاهُمُ اخْتِلَالَ عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ أَوَ الْخَدِيعَةِ، أَوْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ بَعْضِ التَّأْثِيرَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ، وَالتَّشْرِيعِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ لِحُكْمِ سَاحِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قَتْلِهِ، وَاسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِعَدَمِ قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَتَلَهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَشَدَّ حُرْمَةً مِنْ سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا عَدَمُ قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ الْأَعْصَمِ فَقَدْ بَيَّنَتِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَهُ اتِّقَاءَ إِثَارَةِ فِتْنَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ. وَقَدْ تَرَكَ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: مُحَمَّدٌ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا عَايَنُوا عَصَا مُوسَى تَبْتَلِعُ جَمِيعَ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ خَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى قَائِلِينَ: آمَنَّا بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ رَبُّ هَارُونَ وَمُوسَى. فَهَدَاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ الْإِلَهِيِّ، هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَظِيمَةَ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [٧ ١١٧]،
وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [٢٦ ٤٥ - ٤٨]، وَقَوْلِهِ: فَأُلْقِيَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبُرْهَانِ الَّذِي عَايَنُوهُ. كَأَنَّهُمْ أَمْسَكَهُمْ إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهُمْ سَاجِدِينَ بِالْقُوَّةِ لِعِظِمِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي عَايَنُوهَا. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهِمْ أَنَّهُمْ عَايَنُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي سُجُودِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ السَّحَرَةِ فِي حَالِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ مُؤْمِنِينَ بِهِ نَظَرًا إِلَى حَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ. كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [٤ ٢] فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْيُتْمِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَظَرًا إِلَى الْحَالِ الْمَاضِيَةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيمَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَعَ خِسَّتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، قَدْ كَانَ سَبَبًا لِإِيمَانِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ. لِأَنَّهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالسِّحْرِ عَرَفُوا مُعْجِزَةَ الْعَصَا خَارِجَةً عَنْ طَوْرِ السِّحْرِ، وَأَنَّهَا أَمْرٌ إِلَهِيٌّ فَلَمْ يُدَاخِلْهُمْ شَكٌّ فِي ذَلِكَ. فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمُ الرَّاسِخِ الَّذِي لَا يُزَعْزِعُهُ الْوَعِيدُ، وَالتَّهْدِيدُ. وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ بِالسِّحْرِ جِدًّا، لَأَمْكَنَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَصَا مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا آمَنُوا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: آمَنْتُمْ لَهُ أَيْ: صَدَّقْتُمُوهُ فِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُفُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ هُوَ لَهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُوسَى هُوَ كَبِيرُهُمْ. أَيْ: كَبِيرُ السَّحَرَةِ وَأُسْتَاذُهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ مُقْسِمًا عَلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ؛ يَعْنِي الْيَدَ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى مَثَلًا. لِأَنَّهُ أَشَدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ قَطْعِهِمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَطْعُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَبْقَى عِنْدَهُ شِقٌّ كَامِلٌ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ قَطْعِهِمَا مِنْ خِلَافٍ. فَالْجَنْبُ الْأَيْمَنُ يَضْعُفُ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَالْأَيْسَرُ يَضْعُفُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَنَّهُ يُصَلِّبُهُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَجِذْعُ النَّخْلَةِ هُوَ أَخْشَنُ جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الشَّجَرِ، وَالتَّصْلِيبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنَ التَّصْلِيبِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ
63
الْجُذُوعِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ ": قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [٢٦ ٤٩]. وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " وَزَادَ فِيهَا التَّصْرِيحَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَادِّعَاءُ فِرْعَوْنَ أَنَّ مُوسَى، وَالسَّحَرَةَ تَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا أَنَّهُ غَلَبَهُمْ مَكْرًا لِيَتَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ مِنْ مِصْرَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [٧ ١٢٣ - ١٢٤] " وَقَوْلُهُ فِي " طه ": وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّصْلِيبَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ هُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي " الْأَعْرَافِ، وَالشُّعَرَاءِ ": وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [٧ ١٢٤، ٢٦ ٤٩]. أَيْ: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَتَعْدِيَةُ التَّصْلِيبِ بِـ " فِي " أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُوِيدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ:
هُمُ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً فِي مَعْنَى الْحَرْفِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحُ كَلَامِهِمْ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ". وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ). أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ مَجَازًا كُلَّهَا أَسَالِيبٌ عَرَبِيَّةٌ نَطَقَتْ بِهَا الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ عَدَمِ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا: يَعْنِي أَنَا، أَمْ رَبُّ مُوسَى أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقُرْطُبِيُّ. وَعَلَيْهِ فَفِرْعَوْنُ يَدَّعِي أَنَّ عَذَابَهُ أَشَدُّ وَأَبْقَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [٧٩ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [٢٨ ٣٨]، وَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [٢٦ ٢٩]. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَنَا، أَمْ مُوسَى أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَالتَّهَكُّمِ بِمُوسَى لِاسْتِضْعَافِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ. كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [٤٣ ٥٢]. وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.
64
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ فَعَلَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِهِمْ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. وَقَوْمٌ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنْهُ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمُ الرَّاسِخِ بِاللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [٢٨ ٣٥]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْ: لَنْ نَخْتَارَ اتِّبَاعَكَ وَكَوْنُنَا مِنْ حِزْبِكَ، وَسَلَامَتُنَا مِنْ عَذَابِكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ. كَمُعْجِزَةِ الْعَصَا الَّتِي أَتَتْنَا وَتَيَقَنَّا صِحَّتَهَا. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِي فَطَرَنَا عَاطِفَةٌ عَلَى «مَا» مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا جَاءَنَا أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا عَلَى وَالَّذِي فَطَرَنَا أَيْ: خَلَقَنَا وَأَبْرَزَنَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. أَيْ: وَالَّذِي فَطَرَنَا لَا نُؤْثِرُكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَاقْضِ مَا أَيِ: اصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. فَلَسْنَا رَاجِعِينَ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ: إِنَّمَا يَنْفُذُ أَمْرُكَ فِيهَا. فَـ «هَذِهِ» مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَيْ: وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُهِمُّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ وَوَعِيدِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْهُمْ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [٢٦ ٥٠]. وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [٧ ١٢٥ - ١٢٦]. وَقَوْلُهُ: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ عَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا أَنْتَ قَاضِيهِ لِأَنَّهُ مَخْفُوضٌ بِالْوَصْفِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
كَذَاكَ حَذْفُ مَا بِوَصْفٍ خُفِضَا كَأَنْتَ قَاضٍ بَعْدَ أَمْرٍ مِنْ قَضَى
وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ الْمَازِنِيِّ:
أَيْ: طَالِبَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّحَرَةِ مَا قَالَ لَمَّا آمَنُوا، قَالُوا لَهُ: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [٢٠ ٧٣] يَعْنُونَ ذُنُوبَهُمُ السَّالِفَةَ كَالْكُفْرِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَيْ: وَيَغْفِرُ لَنَا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُمْ هُنَا أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " الشُّعَرَاءِ " عَنْهُمْ: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٦ ٥٠ - ٥١] وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي " الْأَعْرَافِ ": رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [٧ ١٢٦]. وَفِي آيَةِ طه " هَذَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُمْ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [٢٠ ٧٣] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ، كَقَوْلِهِ فِي " طه ": فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [٢٠ ٦٢ - ٦٣]. فَقَوْلُهُمْ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [٢٠ ٦٤] صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي " الشُّعَرَاءِ ": قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [٢٦ ٤١] وَقَوْلُهُ فِي " الْأَعْرَافِ ": قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [٧ ١١٣ - ١١٤] فَتِلْكَ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ.
وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ مَعْرُوفَةٌ:
(مِنْهَا) : أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَى الشُّخُوصِ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ لِيُعَارِضُوا مُوسَى بِسِحْرِهِمْ، فَلَمَّا أُكْرِهُوا عَلَى الْقُدُومِ وَأُمِرُوا بِالسِّحْرِ أَتَوْهُ طَائِعِينَ، فَإِكْرَاهُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَطَوْعُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِ الْأَمْرِ، فَانْفَكَّتَ الْجِهَةُ وَبِذَلِكَ يَنْتَفِي التَّعَارُضُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [٢٦ ٣٦] وَقَوْلُهُ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [٧ ١١١].
(وَمِنْهَا) : أَنَّهُ كَانَ يُكْرِهُهُمْ عَلَى تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمُ السِّحْرَ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى السِّحْرِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ السِّحْرِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِمْ وَكِبَرِهِمْ طَائِعِينَ.
66
(وَمِنْهَا) : أَنَّهُمْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى نَائِمًا: فَفَعَلَ فَوَجَدُوهُ قُرْبَ عَصَاهُ، فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسِحْرِ السَّاحِرِ! لِأَنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ، وَأَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَعَلُوهُ طَائِعِينَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَطَايَانَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ، وَهِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ. كَالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ. وَالْفَعِيلَةُ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ، وَالْهَمْزَةُ فِي فَعَائِلَ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ فِي فَعِيلَةٍ، وَمِثْلُهَا الْأَلِفُ، وَالْوَاوُ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَيَصْغُرُ فِي عَيْنَيْ تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبًا
وَالْمَدُّ زِيدَ ثَالِثًا فِي الْوَاحِدِ هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلَائِدِ
فَأَصْلُ خَطَايَا " خَطَائِيِ " بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَهِيَ يَاءُ خَطِيئَةٍ، وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ هَمْزَةً عَلَى حَدِّ الْإِبْدَالِ فِي صَحَائِفَ فَصَارَتْ خَطَائِئَ بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِلُزُومِ إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمُتَطَرِّفَةِ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ يَاءً، فَصَارَتْ خَطَائِيَ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى تَخْفِيفًا فَصَارَ خَطَاءَيَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ خَطَاءَا بِأَلِفَيْنِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ، وَالْهَمْزَةُ تُشْبِهُ الْأَلِفَ، فَاجْتَمَعَ شِبْهُ ثَلَاثَةِ أَلِفَاتٍ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً فَصَارَ خَطَايَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْمَالٍ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَافْتَحْ وَرُدَّ الْهَمْزَ يَا فِيمَا أُعِلَّ لَامًا وَفِي مِثْلِ هِرَاوَةٍ جُعِلْ
وَاوًا... إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ: أَنَّ الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَبْقَى مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَاقٍ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا يُذَلُّ، وَلَا يَمُوتُ، وَلَا يُعْزَلُ. كَمَا أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [١٦ ٥٢]. أَيْ: بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى، بَلْ يَمُوتُ أَوْ يُعْزَلُ، أَوْ يُذَلُّ بَعْدَ الْعِزِّ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ ثَوَابَهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [٧ ١١٣ - ١١٤]. وَأَبْقَى: أَيْ: أَدْوَمُ. لِأَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ زَائِلٌ، وَثَوَابُ اللَّهِ بَاقٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [١٦ ٩٦] وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [٨٧ ١٦]. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَبْقَى أَيْ: أَبْقَى عَذَابًا مِنْ عَذَابِكَ، وَأَدْوَمُ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى
67
وَمَعْنَى أَبْقَى أَكْثَرُ بَقَاءً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا.
ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ أَيِ: الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُجْرِمًا أَيْ: مُرْتَكِبًا الْجَرِيمَةَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَالْكَافِرِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فِيهَا فَـ لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [٣٠ ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [١٤ ١٥ - ١٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [٤ ٥٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [٨٧ ١١ - ١٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [٤٣ ٧٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ:
أَلَا مَنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «أَنَّ» وَمَنْ يَأْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَأُولَئِكَ لَهُمُ عِنْدَ اللَّهِ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا وَالْعُلَا: جَمْعُ عُلْيَا وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَعْلَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [١٧ ٢١] وَقَوْلِهِ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [٦ ١٣٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ
68
وَالسَّلَامُ: أَنْ يَسْرِيَ بِعِبَادِهِ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ لَيْلًا، وَأَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، أَيْ: يَابِسًا لَا مَاءَ فِيهِ، وَلَا بَلَلَ، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ دَرَكًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَاءَهُ أَنْ يَنَالَهُ بِسُوءٍ. وَلَا يَخْشَى مِنَ الْبَحْرِ أَمَامَهُ أَنْ يَغْرَقَ قَوْمُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [٢٦ ٥٢ - ٦٣].
فَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» : أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [٢٦ ٦٣] أَيْ: فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [٢٠ ٧٧] وَقَوْلُهُ: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [٢٦ ٦١ - ٦٢] يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [٤٤ ٢٢ - ٢٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ وَاضِحَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ «أَنِ اسْرِ» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ نُونٍ أَنْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا أَنْ أَسْرِ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ مَعَ إِسْكَانِ نُونِ «أَنْ» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» أَنَّ أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ وَبَيَّنَا شَوَاهِدَ ذَلِكَ الْعَرَبِيَّةَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ بِسُكُونِ الْفَاءِ بِدُونِ أَلِفٍ بَيْنَ الْخَاءِ، وَالْفَاءِ، وَهُوَ مَجْزُومٌ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الطَّلَبِ، أَيْ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَفْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجَزْمِ بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الطَّلَبِ، أَيْ: أَنْ تَضْرِبَ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَفْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ «لَا تَخَافُ» بِالرَّفْعِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَى لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْأَلِفِ، مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ مَرْفُوعٍ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تَخَافُ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ «لَا تَخَفْ» بِالْجَزْمِ فَفِي قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَى إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُضَارِعٍ مَجْزُومٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَزْمَهُ، وَلَوْ جُزِمَ لَحُذِفَتِ
69
الْأَلِفُ مِنْ تَخْشَى عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَاحْذِفْ جَازِمًا... ثَلَاثَهُنَّ تَقْضِ حُكْمًا لَازِمًا
وَالْأَلِفُ لَمْ تُحْذَفْ فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ وَلَا تَخْشَى مُسْتَأْنَفٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتَ لَا تَخْشَى، أَيْ: وَمِنْ شَأْنِكَ أَنَّكَ آمِنٌ لَا تَخْشَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ مَجْزُومٌ، وَالْأَلِفُ لَيْسَتْ هِيَ الْأَلِفُ الَّتِي فِي مَوْضِعِ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّهَا زِيدَتْ لِلْإِطْلَاقِ مِنْ أَجْلِ الْفَاصِلَةِ، كَقَوْلِهِ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [٣٣ ٦٧] وَقَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ [٣٣ ١٠].
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِشْبَاعَ الْحَرَكَةِ بِحَرْفِ مَدٍّ يُنَاسِبُهَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَقَوْلِ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَقَّاصٍ الْحَارِثِيِّ:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ... كَأَنْ لَمْ تَرَ قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا
وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقْ... وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقْ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
قُلْتُ وَقَدْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ... يَا نَاقَتِي مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ
وَقَوْلِ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
يَنْبَاعُ مِنْ ذَفِرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ... زَيَّافَةٍ مِثْلَ الْفَنِيقِ الْمُكْدَمِ
فَالْأَصْلُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ: كَأَنْ لَمْ تَرَ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الثَّانِي، وَلَا تَرْضَهَا، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الثَّالِثِ عَلَى الْكَلْكَالِ يَعْنِي الصَّدْرَ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الرَّابِعِ يَنْبُعُ يَعْنِي أَنَّ الْعَرَقَ يَنْبُعُ مِنْ عَظْمِ الذِّفْرَى مِنْ نَاقَتِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ، وَإِشْبَاعُ الْفَتْحَةِ بِأَلْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ لَيْسَ لِضَرُورَةٍ لِلشِّعْرِ لِتَصْرِيحِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ فِي النَّثْرِ، كَقَوْلِهِمْ فِي النَّثْرِ: كَلْكَالٌ، وَخَاتَامٌ، وَدَانَاقٌ، يَعْنُونَ كَلْكَلًا، وَخَاتَمًا، وَدَانِقًا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا
70
(دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [٩٠ ١] مَعَ قَوْلِهِ: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [٩٥ ٣] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا: فَاجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبِنَ عَمِلَهُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ يَبَسًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ جَاءَتْ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَبَطَلٍ وَحَسَنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْيُبْسُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. يُقَالُ: يَبِسَ يَبَسًا وَيُبْسًا، وَنَحْوُهُمَا الْعَدَمُ، وَالْعُدْمُ، وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فَقِيلَ: شَاتُنَا يُبْسٌ، وَنَاقَتُنَا يُبْسٌ. إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا.
وَقَوْلُهُ: لَا تَخَافُ دَرَكًا الدَّرَكُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، أَيْ: لَا يُدْرِكُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَلَا يَلْحَقُونَكَ مِنْ وَرَائِكَ، وَلَا تَخْشَى مِنَ الْبَحْرِ أَمَامَكَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَا تَخَافُ فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاضْرِبْ أَيْ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي حَالِ كَوْنِكَ غَيْرَ خَائِفٍ دَرَكًا، وَلَا خَاشٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ بِلَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَتُهُ حَالِيَّةً وَجَبَ الرَّبْطُ فِيهَا بِالضَّمِيرِ وَامْتَنَعَ بِالْوَاوِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِكَ لَا تَخَافُ دَرَكًا، وَقَوْلِهِ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [٢٧ ٢٠] وَقَوْلِهِ: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ [٥ ٨٤] وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا لِارْتِفَاعِ قَبِيلَةٍ دَخَلُوا السَّمَاءَ دَخَلْتُهَا لَا أُحْجَبُ
يَعْنِي دَخَلْتُهَا فِي حَالِ كَوْنِي غَيْرَ مَحْجُوبٍ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعٍ ثَبَتْ حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ
فِي مَفْهُومِهِ تَفْصِيلٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ.
التَّحْقِيقُ أَنَّ أَتْبَعَ وَاتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَقَوْلُهُ: فَـ أَتْبَعَهُمْ أَيِ: اتَّبَعَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [٣٧ ١٠] وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الْآيَةَ [٧ ١٧٥]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَسْرَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ [٢٠ ٧٨] أَيِ: الْبَحْرِ مَا غَشِيَهُمْ أَيْ: أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فِي الْبَحْرِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ وَجُنُودُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَغْرَقَهُمْ فِي الْبَحْرِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا
71
الْمَوْضِعِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [٢٦ ٥٢] يَعْنِي سَيَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ فَقَالَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [٢٦ ٥٣ - ٦٢].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «يُونُسَ» : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [١٠ ٩٠] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [٤٤ ٢٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِتْبَاعِهِ لَهُمْ. وَأَمَّا غَرَقُهُ هُوَ وَجَمِيعُ قَوْمِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٦٣ - ٦٧] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [١٣٦] وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [٤٣ ٥٥] وَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [٢ ٥٠] وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [١٠ ٩٠] وَقَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [٤٤ ٢٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [٢٠ ٧٨] يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [٥٣ ١٦] وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [٥٣ ٥٣ - ٥٤] وَقَوْلُهُ: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [٥٣ ١٠]. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالْمَعْنَى: فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَا أَصَابَهُمْ وَهُوَ الْغَرَقُ، وَالْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ.
72
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى.
يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ أَضَلَّ قَوْمَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا كَذِبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [٤٠ ٢٩] وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [١١ ٩٦ - ٩٨] وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَا هَدَى وَلَمْ يَقُلْ وَمَا هَدَاهُمْ، هِيَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [٩٣ ٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: امْتِنَانَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ، وَالسَّلْوَى، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. وَلَا تَطْغَوْا فَيَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [٢ ٤٩] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [٧ ١٤١] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [٤٤ ٣٠ - ٣١] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [١٤ ٦] وَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [٢٦ ٥٩] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [٤٤ ٢٨] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [٧ ١٣٧] وَقَوْلُهُ فِي «الْقَصَصِ» : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً إِلَى قَوْلِهِ يَحْذَرُونَ [٢٨ ٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
73
وَقَوْلُهُ هُنَا: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [٢٠ ٨٠] الْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ الْآيَةَ [٧ ١٤٢] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً الْآيَةَ [٢ ٥١] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا [٢٠ ٨٦] وَهُوَ الْوَعْدُ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى قَدْ أَوْضَحَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [٢ ٥٧] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [٧ ١٦٠] وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ: التَّرَنْجَبِينُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَنُزُولِ النَّدَى ثُمَّ يَتَجَمَّدُ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَسَلَ الْأَبْيَضَ. وَالسَّلْوَى: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى. وَقِيلَ: السَّلْوَى الْعَسَلُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ «السَّلْوَى» يُطْلَقُ عَلَى الْعَسَلِ لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيِّ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
يَعْنِي أَلَذَّ مِنَ الْعَسَلِ إِذَا مَا نَسْتَخْرِجُهَا. لِأَنَّ النُّشُورَ: اسْتِخْرَاجُ الْعَسَلِ. قَالَ مُؤَرِّجُ بْنُ عُمَرَ السَّدُوسِيُّ: إِطْلَاقُ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ لُغَةُ كِنَانَةَ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّي. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلْوَى. هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ:
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى مُفْرَدٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. مِثْلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى مِثْلَ جَمَاعَتِهِ. كَمَا قَالُوا: دِفْلَى وَسُمَانَى وَشُكَاعَى فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَالدِّفْلَى كَذِكْرَى: شَجَرٌ أَخْضَرُ مُرٌّ حَسَنُ الْمَنْظَرِ، يَكُونُ فِي الْأَوْدِيَةِ. والشُّكَاعَى كَحُبَارَى وَقَدْ تُفْتَحُ: نَوْعٌ مِنْ دَقِيقِ النَّبَاتِ صَغِيرٌ أَخْضَرُ، دَقِيقُ الْعِيدَانِ يُتَدَاوَى بِهِ. وَالسُّمَانَى: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ.
74
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي الْمَنِّ: أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ، وَلَا تَعَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّرَنْجَبِينُ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ. وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ».
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي السَّلْوَى: أَنَّهُ طَائِرٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ السُّمَانَى، أَوْ طَائِرٌ يُشْبِهُهُ، لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ السَّلْوَى، يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْعَسَلِ، كَمَا بَيَّنَّا.
وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [٢٠ ٨١] أَيْ: مِنَ الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى، وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالِامْتِنَانِ.
وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٢ ٥٧] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٧ ١٦٠] وَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ «مَا» أَيْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ الَّذِي رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ أَيْ: فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ بِأَنْ يَكْفُرُوا نِعْمَتَهُ بِهِ، وَيَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ وَالنَّعِيمُ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، وَأَنْ يُنْفِقُوا رِزْقَهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي الْمَعَاصِي، أَوْ يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يَمْنَعُوا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيَحِلَّ سَبَبِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَبَعْدَ فَا جَوَابُ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ مَحْضَيْنِ أَنْ وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ الْكِسَائِيُّ «فَيَحُلَّ» بِضَمِّ الْحَاءِ (وَمَنْ يَحْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ. وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا يَحِلَّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيَحْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ (فَيَحُلَّ) بِالضَّمِّ أَيْ: يَنْزِلُ بِكُمْ غَضَبِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ:
75
إِذَا وَجَبَ، وَمِنْهُ حَلَّ دَيْنُهُ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ. وَمِنْهُ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [٢٢ ٣٣]. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوَى أَيْ: هَلَكَ وَصَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَوَى مِنْ رَأْسِ مَرْقَبَةٍ فَفَتَّتَ تَحْتَهَا كَبِدَهُ
وَيَقُولُونَ: هَوَتْ أُمُّهُ، أَيْ: سَقَطَ سُقُوطًا لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ:
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا وَمَاذَا يَوَدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ
وَنَحْوَ هَذَا هُوَ أَحَدُ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَعَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ الْأَصْبَحِيِّ قَالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ جَبَلًا يُدْعَى صَعُودًا يَطْلُعُ فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَرْقَاهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [٧٤ ١٧] وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ هَوَى، يُرْمَى الْكَافِرُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَهْوِي أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَصْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ، تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. نُعَوْذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ فَنُصَدِّقُ رَبَّنَا فِي كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ تَنْزِيهِنَا التَّامِّ لَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «وَوَاعَدْنَاكُمْ وَأَنْجَيْنَاكُمْ» بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِلتَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (وَوَعَدْنَاكُمْ) بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، مِنَ الْوَعْدِ لَا مِنَ الْمُوَاعَدَةِ مَعَ نُونِ التَّعْظِيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى.
ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ غَفَّارٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ وَكُفْرِهِ، وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [٨ ٣٨]. وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٥ ٧٤]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ الْآيَةَ [٣٩ ٥٣ - ٥٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ اهْتَدَى أَيِ: اسْتَقَامَ وَثَبَتَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَمْ يَنْكُثْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [٤١ ٣٠] وَفِي الْحَدِيثِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ». وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ الْآيَةَ [١١ ١١٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى.
أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى قِصَّةِ مُوَاعَدَتِهِ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَهَابِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَاسْتِعْجَالِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ قَوْمِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَاعَدَهُ رَبُّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْمِيقَاتَ الْمَذْكُورَ، وَأَوْصَى أَخَاهُ هَارُونَ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي قَوْمِهِ، اسْتَعْجَلَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ.
الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي أَجْمَلَهَا هُنَا أَشَارَ لَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [٧ ١٤٢].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ مُوسَى لَيْسَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ رَبُّهُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَعْجَلَهُ عَنْ قَوْمِهِ، وَالْجَوَابُ لَمْ يَأْتِ مُطَابِقًا لِذَلِكَ. لِأَنَّهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ:
(مِنْهَا) : أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي يَعْنِي هُمْ قَرِيبٌ وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلَّا بِيَسِيرٍ يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ، فَكَأَنِّي لَمْ أَتَقَدَّمْهُمْ وَلَمْ أَعْجَلْ عَنْهُمْ لِقُرْبِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ.
(وَمِنْهَا) : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمَّا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ دَاخَلَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا أَذْهَلَهُ عَنِ الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ هُمْ أُولَاءِ الْمَدُّ فِيهِ لُغَةُ الْحِجَازِيِّينَ. وَرَجَّحَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْمَدُّ أَوْلَى.
وَلُغَةُ التَّمِيمِيِّينَ «أُولَا» بِالْقَصْرِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَى لُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فِي الْبُعْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُولَالِكَا قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلَّا أُولَالِكَا
وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ بِالْمَدِّ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْفِتْنَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ. فَهِيَ فِتْنَةُ إِضْلَالٍ. كَقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [٧ ١٥٥]. وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. كَقَوْلِهِ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [٢ ٥١] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ هُنَا: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَوْضَحَ كَيْفِيَّةَ إِضْلَالِهِ لَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ إِلَى قَوْلِهِ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [٧ ١٤٨] أَيِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَقَدْ صَنَعَهُ السَّامِرِيُّ لَهُمْ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ فَأَضَلَّهُمْ بِعِبَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [٢٠ ٨٨] وَالسَّامِرِيُّ: قِيلَ اسْمُهُ هَارُونُ، وَقِيلَ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ. وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ. وَكَانَ جَارًا لِمُوسَى آمَنَ بِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ. وَقِيلَ: كَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالشَّامِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ. وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ لِيُتَبَيَّنَ أَهْوَ خَالِصٌ أَمْ زَائِفٌ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةً:
(مِنْهَا) : الْوَضْعُ فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [٥١ ١٣] أَيْ: يُحْرَقُونَ بِهَا، وَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [٨٥ ١٠]. أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ.
(وَمِنْهَا) : الِاخْتِبَارُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفِتْنَةِ. كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الْآيَةَ [٦٤ ١٥] وَقَوْلِهِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [٧٢ ١٦ - ١٧].
(وَمِنْهَا) : نَتِيجَةُ الِاخْتِبَارِ إِذَا كَانَتْ سَيِّئَةٌ. وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [٨ ٣٩] وَقَوْلِهِ هُنَا فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ الْآيَةَ [٢٠ ٨٥].
(وَمِنْهَا) : الْحُجَّةُ، كَقَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣] أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَسْنَدَ إِضْلَالَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ بِصِيَاغَتِهِ لَهُمُ الْعِجْلَ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ وَرَمْيِهِ عَلَيْهِ التُّرَابَ الَّذِي مَسَّهُ حَافِرُ الْفَرَسِ الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ وَقَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [٧ ١٤٨]. وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ ذَلِكَ الْحُلِيَّ الْمَصُوغَ جَسَدًا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عِجْلًا جَسَدًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصُّورَةُ لَحْمًا، وَلَا دَمًا، وَلَكِنْ إِذَا دَخَلَتْ فِيهَا الرِّيحُ صَوَّتَتْ كَخُوَارِ الْعِجْلِ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْجَمَادَ لَحْمًا وَدَمًا، كَمَا جَعَلَ آدَمَ لَحْمًا وَدَمًا وَكَانَ طِينًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ لِلْمِيقَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الرُّجُوعِ غَضْبَانَ أَسِفًا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَوْلُهُ أَسِفًا أَيْ: شَدِيدَ الْغَضَبِ. فَالْأَسَفُ هُنَا: شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ غَضْبَانَ أَسِفًا أَيْ: غَضْبَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَسَفِ عَلَى الْغَضَبِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الزُّخْرُفِ» فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [٤٣ ٥٥] أَيْ: فَلَمَّا أَغْضَبُونَا بِتَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مَعَ تَوَالِي الْآيَاتِ عَلَيْهِمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَسَفُ هُنَا الْحُزْنُ، وَالْجَزَعُ. أَيْ: رَجَعَ مُوسَى فِي حَالِ كَوْنِهِ غَضْبَانَ
79
حَزِينًا جَزِعًا لِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمْ لِلْعِجْلِ. وَقِيلَ: أَسِفًا أَيْ: مُغْتَاظًا. وَقَائِلُ هَذَا يَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَضَبِ، وَالْغَيْظِ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ، وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِالْغَيْظِ. حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا حَاجَةَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَقَوْلُهُ غَضْبَانَ أَسِفًا حَالَانِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْحَالِ مِنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ مَعَ كَوْنِ الْعَامِلِ وَاحِدًا. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدٍ لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدٍ
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ كَوْنِ مُوسَى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ آثَارِ غَضَبِهِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [٧ ١٥٠]. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ آثَارِ غَضَبِ مُوسَى إِلْقَاءَهُ الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا التَّوْرَاةُ، وَأَخْذَهُ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [٧ ١٥٠] وَقَالَ فِي «طه» مُشِيرًا لِأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [الْآيَةَ ٩٤]. وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى بِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [٢٠ ٨٥] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَايَنَ قَوْمَهُ حَوْلَ الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ أَثَّرَتْ فِيهِ مُعَايَنَةُ ذَلِكَ أَثَرًا لَمْ يُؤَثِّرْهُ فِيهِ الْخَبَرُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ، فَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَعَايَنَهُمْ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا.
80
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ لَهُمْ: يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْوَعْدِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ كِتَابًا فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا الْوَعْدُ الْحَسَنُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ الْآيَةَ [٢٠ ٨٠] وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ. كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: (وما بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ). لِأَنَّ طُولَ الْعَهْدِ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ لَمْ يَطُلْ فَكَيْفَ نَسِيتُمْ؟
وَقَوْلُهُ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «أَمْ» هُنَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَمَعْنَى إِرَادَتِهِمْ حُلُولَ الْغَضَبِ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَ رَبِّهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ. فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْغَضَبَ لَمَّا أَرَادُوا سَبَبَهُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي كَانُوا وَعَدُوهُ أَنْ يَتْبَعُوهُ لَمَّا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَأَنْ يَثْبُتُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَبَدُوا الْعِجْلَ وَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْبَعُوا مُوسَى. فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الذَّهَابِ فِي أَثَرِهِ، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ «بِمَلْكِنَا» بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «بِمُلْكِنَا» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «بِمِلْكِنَا» بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِأَنْ مَلَكْنَا أَمَرَنَا، فَلَوْ مَلَكْنَا أَمْرَنَا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَفُوا الْمَوْعِدَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّامِرِيِّ وَكَيْدِهِ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ بَارِدٌ سَاقِطٌ كَمَا تَرَى! وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
إِذَا كَانَ وَجْهُ الْعُذْرِ لَيْسَ بِبَيِّنٍ فَإِنَّ اطِّرَاحَ الْعُذْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعُذْرِ
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. لِأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يَتْبَعُوهُ، وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ عِبَادَةِ أَكْثَرِهِمْ لِلْعِجْلِ تَأَخَّرُوا عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَجَرَّءُوا عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْفُرْقَةِ
81
فَالْعُذْرُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [٢٠ ٩٢].
وَالْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَلْكِنَا أَمْرَنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ بِمَلْكِنَا الصَّوَابَ بَلْ أَخْطَأْنَا. فَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِالْخَطَأِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ: الزَّمَانُ، يُرِيدُ مُدَّةَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ.
تَنْبيهٌ
كُلُّ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فِي الْقُرْآنِ مَجْزُومٌ بِـ «لَمْ» إِذَا تَقَدَّمَتْهَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مُضَارَعَتَهُ تَنْقَلِبُ مَاضَوِيَّةً، وَنَفْيَهُ يَنْقَلِبُ إِثْبَاتًا. فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ بِمَعْنَى وَعَدَكُمْ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ. وَهَكَذَا. وَوَجْهُ انْقِلَابِ الْمُضَارَعَةِ مَاضَوِيَّةً ظَاهِرٌ، لِأَنَّ «لَمْ» حَرْفُ قَلْبٍ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَوَجْهُ انْقِلَابِ النَّفْيِ إِثْبَاتًا أَنَّ الْهَمْزَةَ إِنْكَارِيَّةٌ، فَهِيَ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الْكَامِنُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ الصَّرِيحِ فِي «لَمْ» فَيَنْفِيهِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ فَيَقُولُ «بَلَى» وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا حَمَلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُوا بَلَى هَكَذَا. وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا إِلَى قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِمْ فِي شِدَّةِ غَضَبٍ مِمَّا فَعَلُوا وَعَاتَبَهُمْ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعِتَابِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الْآيَةَ [٢٠ ٨٦] فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ عِتَابِهِ لَهُمْ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [٧ ١٥٠]
82
وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا فَعَلَ بِقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [٧ ١٥٠] وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا فِي «طه» فِي قَوْلِهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [٢٠ ٩٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ حَمَلْنَا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ مُبَيِّنًا لِلْفَاعِلِ مُجَرَّدًا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «حُمِّلْنَا» بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَ «نَا» عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَاعِلُ «حَمَلَ» وَعَلَى الثَّانِيَةِ نَائِبُ فَاعِلِ «حُمِّلَ» بِالتَّضْعِيفِ. وَالْأَوْزَارُ فِي قَوْلِهِ أَوْزَارًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهَا الْأَثْقَالُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهَا الْآثَامُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا أَحْمَالٌ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا آثَامٌ وَتَبِعَاتٌ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْحَرْبِيِّ، وَلِأَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لَهُمْ. وَالتَّعْلِيلُ الْأَخِيرُ أَقْوَى.
وَقَوْلُهُ: مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ الْحُلِيُّ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ [٧ ١٤٨] أَيْ: أَلَقَيْنَاهَا وَطَرَحْنَاهَا فِي النَّارِ الَّتِي أَوْقَدَهَا السَّامِرِيُّ فِي الْحُفْرَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَطْرَحَ الْحُلِيَّ فِيهَا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا جَمِيعَ الْحُلِيِّ فِي النَّارِ لِيَذُوبَ فَيَصِيرَ قِطْعَةً وَاحِدَةً. لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِحِفْظِهِ حَتَّى يَرَى نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى فِيهِ رَأْيَهُ. وَالسَّامِرِيُّ يُرِيدُ تَدْبِيرَ خُطَّةٍ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى إِلَى الْمِيقَاتِ وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ، أَخَذَ السَّامِرِيُّ تُرَابًا مَسَّهُ حَافِرُ تِلْكَ الْفَرَسِ، وَيَزْعُمُونَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْضِعَ أَثَرِهَا يَنْبُتُ فِيهِ النَّبَاتُ، فَتَفَرَّسَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهَا خَاصِّيَّةَ الْحَيَاةِ، فَأَخَذَ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ وَاحْتَفَظَ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَطْرَحُوا الْحُلِيَّ فِي النَّارِ لِيَجْعَلُوهُ قِطْعَةً وَاحِدَةً أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَجَعَلُوهُ فِيهَا، أَلْقَى السَّامِرِيُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الْمَذْكُورَةَ، وَقَالَ لَهُ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْعِجْلُ هُوَ إِلَاهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [٢٠ ٥٩].
83
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ اعْتِذَارِهِمُ الْفَاسِدِ الْبَارِدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَا مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعَيِّنُ كَوْنَ الِاعْتِذَارِ مِنْهُمْ تَعَيُّنًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ عُذْرٌ لَا وَجْهَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَسِيَ أَيْ: نَسِيَ مُوسَى إِلَهَهُ هُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ فَنَسِيَ أَيْ: نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فَنَسِيَ أَيِ: السَّامِرِيُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ كَافِرًا بِادِّعَاءِ أُلُوهِيَّةِ الْعِجْلِ وَعِبَادَتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَكَيْفَ عَبَدُوا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ الْجَوَابِ لِمَنْ سَأَلَهُ، وَلَا يَمْلِكُ نَفْعًا لِمَنْ عَبَدَهُ، وَلَا ضَرًّا لِمَنْ عَصَاهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ النَّفْعِ، وَالضَّرَرِ وَرَدِّ الْجَوَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [٧ ١٤٨] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مَنْ لَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَهْدِيهِ سَبِيلًا إِلَهًا أَنَّهُ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [١٩ ٤٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيْضًا: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [٢٦ ٧٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [٧ ١٩٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [٤٦ ٥ - ٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [٣٥ ١٣]. وَقَدْ قَدَّمْنَا
84
الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي بَعْدَهَا أَدَاةُ عَطْفٍ كَالْفَاءِ، وَالْوَاوِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: أَفَلَا يَرَوْنَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ أَلَّا يَرْجِعُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ «أَنْ» مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِالثَّقِيلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا فِي «الْأَعْرَافِ» : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ الْآيَةَ [٧ ١٤٨] وَرَأَى فِي آيَةِ «طه، وَالْأَعْرَافِ» عَلَمِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ الْمَصُوغَ مِنَ الْحُلِيِّ لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ: «أَنْ» لَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «أَنْ» الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَضَابِطُ هَذِهِ: أَنْ تَكُونَ بَعْدَ فِعْلِ الْعِلْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْيَقِينِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [٧٣ ٢٠]، وَقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [٧٢ ٢٨]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ
وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ فَإِنَّهُ يُرْفَعُ، وَلَا يُنْصَبُ كَقَوْلِهِ:
عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ فَجَادُوا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوا بِأَعْظَمِ سُؤْلِ
وَ «أَنْ» هَذِهِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ يَكُونُ اسْمُهَا مُسْتَكِنًّا غَالِبًا، وَالْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ. وَقِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ وَالْخَبَرُ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ أَنْ
وَمَا سُمِعَ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ مِنْ بُرُوزِ اسْمِهَا فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. كَقَوْلِ جَنُوبَ أُخْتِ عَمْرِو ذِي الْكَلْبِ:
لَقَدْ عَلِمَ الضَّيْفُ وَالْمُرْمِلُونَ إِذَا اغْبَرَّ أُفْقٌ وَهَبَّتْ شَمَالًا
بِأَنَّكَ رَبِيعٌ وَغَيْثٌ مُرْبِعٌ وَأَنَّكَ هُنَاكَ تَكُونُ الثِّمَالَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
85
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً لِكَوْنِهَا الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ. وَمُحْتَمِلَةً لِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهَا فِعْلٌ مُضَارِعٌ جَازَ نَصْبُهُ لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرَفْعُهُ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [٥]، بِنَصْبِ «تَكُونَ» وَرَفْعِهِ، وَضَابِطُ «أَنْ» هَذِهِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ فِعْلٍ يَقْتَضِي الظَّنَّ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْعَالِ الرُّجْحَانِ. وَإِذَا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ فَاصْلٌ فَالنَّصْبُ أَرْجَحُ، وَلِذَا اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الْآيَةَ [٢٩ ٢] وَقِيلَ: إِنَّ «أَنْ» الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الشَّكِّ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّصْبُ. نَقَلَهُ الصَّبَّانُ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ السُّيُوطِيِّ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ «أَنْ» لَيْسَتْ بَعْدَ مَا يَقْتَضِي الْيَقِينَ، وَلَا الظَّنَّ وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُمَا، فَهِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِلَى الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
فَلَوْ أَنَّكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي طَلَاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وَأَنْتِ صَدِيقُ
وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ كَذَا بِأَنْ لَا بَعْدَ عِلْمٍ وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنَّ
فَانْصِبْ بِهَا وَالرَّفْعَ صَحِّحْ وَاعْتَقِدْ تَخَفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ
تَنْبِيهٌ
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِجْلَ لَوْ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ لَكَانَ إِلَهًا. لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ، فَفَوَاتُ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ الْمَشْرُوطِ، وَلَكِنَّ حُصُولَ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَشْرُوطِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. فَكُلُّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطَيْنِ فَصَاعِدًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ. فَلَوْ قُلْتَ لِعَبْدِكَ: إِنْ صَامَ زَيْدٌ وَصَلَّى وَحَجَّ فَأَعْطِهِ دِينَارًا. لَمْ يَجُزْ لَهُ إِعْطَاؤُهُ الدِّينَارَ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ. وَمَحَلُّ هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ الشُّرُوطِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ وَاحِدٌ. فَلَوْ قُلْتَ لِعَبْدِكَ: إِنْ صَامَ زَيْدٌ أَوْ صَلَّى فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا. فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ إِعْطَاءَ الدِّرْهَمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ شَيْءٌ فَبِالْحُصُولِ لِلشَّرْطَيْنِ
وَمَا عَلَى الْبَدَلِ قَدْ تَعَلَّقَا فَبِحُصُولِ وَاحِدٍ تَحَقَّقَا
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ
86
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ اسْمُهُ يَهْمُوتِ. وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ: أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ، فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ. يَعْنِي هَلْ يُصَلِّي فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَعْنِي الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وَهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضَةِ انْتَهَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا فَتَنَهُمُ السَّامِرِيُّ وَأَضَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، نَصَحَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ فِتْنَةٌ فُتِنُوا بِهَا. أَيْ: كُفْرٌ وَضَلَالٌ ارْتَكَبُوهُ بِذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَبَّهُمُ الرَّحْمَنُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ حُلِيٍّ لَا يَعْبُدُهُ إِلَّا مَفْتُونٌ ضَالٌّ كَافِرٌ. وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَفَاءِ بِمَوْعِدِ مُوسَى عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنْ يُطِيعُوهُ فِي ذَلِكَ. فَصَارَحُوهُ بِالتَّمَرُّدِ، وَالْعِصْيَانِ، وَالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مَعَهُمْ غَايَةَ جُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ، وَأَنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُطِيعُوهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٧ ١٥٠]، . فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي خِطَابِهِمْ لَهُ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِضْعَافِهِمْ لَهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَيْهِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ مَا نَصُّهُ: وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ: مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ؟ وَاعْلَمْ حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ فَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُوقِعُونَ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَدِيمِ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَقَعَ مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ. هَلَ الْحُضُورُ مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ:
يَا شَيْخُ كُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ
87
وَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ
أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى وَمَشِيبُ رَأْسِكَ قَدْ نَزَلْ
وَفِي مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ الْجَوَابُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ: مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَمَا الْإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الرَّقْصُ، وَالتَّوَاجُدُ: فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجَلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ، وَيَتَوَاجَدُونَ، فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ وَعِبَادَةُ الْعِجْلِ. وَأَمَّا الْقَضِيبُ: فَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيَشْغَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ مِنَ الْوَقَارِ. فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ، وَغَيْرِهَا. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَلَا أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْحَقِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِذَلِكَ عَالَجُوا أَمْرَاضَ قُلُوبِهِمْ وَحَرَسُوهَا، وَرَاقَبُوهَا وَعَرَفُوا أَحْوَالَهَا، وَتَكَلَّمُوا عَلَى أَحْوَالِ الْقُلُوبِ كَلَامًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ عَسْكَرٍ أَعْنِي أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ، وَكَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ حَكَمُ الْأُمَّةِ، وَأَضْرَابِهِمَا، وَكَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ، أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ، وَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَنْ سَارَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَالَجُوا أَمْرَاضَ أَنْفُسِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَحِيدُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَشْيَاءٌ تُخَالِفُ الشَّرْعَ. فَالْحُكْمُ بِالضَّلَالِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوفِيَّةِ لَا يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمِيزَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهَدْيِهِ وَسَمْتِهِ، كَمَنْ ذَكَرْنَا وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ الضَّالُّ.
نَعَمْ، صَارَ الْمَعْرُوفُ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ، أَنَّ عَامَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ دَجَاجِلَةٌ يَتَظَاهَرُونَ بِالدِّينِ لِيُضِلُّوا الْعَوَامَّ الْجَهَلَةَ وَضِعَافَ الْعُقُولِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، لِيَتَّخِذُوا بِذَلِكَ أَتْبَاعًا وَخَدَمًا،
88
وَأَمْوَالًا وَجَاهًا، وَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الْحَقِّ، لَا يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَاسْتِعْمَارُهُمْ لِأَفْكَارِ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَشَدُّ مِنِ اسْتِعْمَارِ كُلِّ طَوَائِفِ الْمُسْتَعْمِرِينَ. فَيَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْهُمْ، وَالِاعْتِصَامُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بَعْضُ الْخَوَارِقِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَطِيرُ وَفَوْقَ مَاءِ الْبَحْرِ قَدْ يَسِيرُ
وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مُسْتَدْرِجٌ أَوْ بِدْعِي
وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [٤ ١٢٣]، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَمُتَصَوِّفَةِ آخِرِ الزَّمَانِ فَهُوَ الضَّالُّ. وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي. نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّا يُزِيغَنَا، وَلَا يُضِلَّنَا عَنِ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هِيَ مَحَجَّةٌ بَيْضَاءُ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «لَا» فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّبِعَنِي زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ ١٢]، قَالَ لِأَنَّ الْمُرَادَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي سُورَةِ «ص» : قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [٣٨]. فَحَذَفَ لَفْظَةَ «لَا» فِي «ص» مَعَ ثُبُوتِهَا فِي «الْأَعْرَافِ»، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ عُرِفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ لِتَوْكِيدِهِ مُطَّرِدَةٌ. كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَيْ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي «ص» : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْآيَةَ [٥٧ ٢٩]. أَيْ: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَوْلِهِ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [٤ ٦٥]، أَيْ فَوَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [٤١]،
89
أَيْ: وَالسَّيِّئَةُ، وَقَوْلِهِ: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [٢١ ٩٥]، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [٦ ١٠٩]، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا الْآيَةَ [٦ ١٥١] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهَا.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرْ
يَعْنِي فَوَأَبِيكِ. وَقَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمِطَ الْقَفَنْدَرَا
يَعْنِي أَنْ تَسْخَرَ، وَقَوْلُ الْآخَرَ:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
يَعْنِي وَعُمَرُ. وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَتَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَلَّا أُحِبَّهُ وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
يَعْنِي أَنْ أُحِبَّهُ، وَ «لَا» مَزِيدَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَبْيَاتِ لِتَوْكِيدِ الْجَحْدِ فِيهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا لَا تُزَادُ إِلَّا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَحْدِ النَّفْيُ وَمَا يُشْبِهُ كَالْمَنْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ [٢٠ ٨٩]، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَنَّ زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» لِتَوْكِيدِ الْكَلَامِ وَتَقْوِيَتِهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ أَغْلَبُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ فِي غَيْرِهِ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِزِيَادَةِ «لَا» قَوْلَ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ:
أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ
وَيُرْوَى «أَفَمِنْكَ» بَدَلَ «أَفَعَنْكَ» وَ «تَشَيَّمَهُ» بَدَلَ «تَسَنَّمَهُ» يَعْنِي أَعَنْكَ بَرْقٌ بِـ «لَا» زَائِدَةٍ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَهْدِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
يَعْنِي كَادَ يَتَقَطَّعُ. وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ لِزِيَادَةِ «لَا» قَوْلَ الْعَجَّاجِ:
فِي بِئْرِ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ
وَالْحُورُ الْهَلَكَةُ. يَعْنِي فِي بِئْرِ هَلَكَةٍ، وَلَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ.
90
وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي.
الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [٧ ١٤٢].
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢٤ ٦٣]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ ٣٦]، فَجَعَلَ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَانِعًا مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ ١٢]، فَوَبَّخَهُ هَذَا التَّوْبِيخَ الشَّدِيدَ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ افْعُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [٢٠ ١١٦]، . وَجَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُمَاثِلٌ لَهَا. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ وَقِيلَ لِلنَّدْبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ
.. إِلَخْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَارُونَ قَالَهُ لِأَخِيهِ مُوسَى يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ [٧ ١٥٠]، . وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [٢٠ ٩٤]، مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ هَارُونَ. أَيْ: خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ تَقُولَ لِي لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أَيْ: لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي وَتَمْتَثِلْ أَمْرِي.
91
تَنْبيهٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِضَمِيمَةِ آيَةِ «الْأَنْعَامِ» إِلَيْهَا تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، فَهِيَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وَعَدَمِ حَلْقِهَا. وَآيَةُ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ الْآيَةَ [٦ ٨٤]. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ أَنْ عَدَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكِرَامَ الْمَذْكُورِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَارُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ أَمْرٌ لَنَا. لِأَنَّ أَمْرَ الْقُدْوَةِ أَمْرٌ لِأَتْبَاعِهِ كَمَا بَيَّنَّا إِيضَاحَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ أُخِذَتِ السَّجْدَةُ فِي «ص» قَالَ: أَوْ مَا تَقْرَأُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ [٦ ٨٤]، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦]، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا عَلِمْتَ بِذَلِكَ أَنَّ هَارُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَمْرَهُ أَمْرٌ لَنَا. لِأَنَّ لَنَا فِيهِ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ، وَعَلِمْتَ أَنَّ هَارُونَ كَانَ مُوَفِّرًا شَعْرَ لِحْيَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِأَخِيهِ: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَالِقًا لَمَا أَرَادَ أَخُوهُ الْأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ: أَنَّ إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ مِنَ السَّمْتِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ سَمْتُ الرُّسُلِ الْكِرَامِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَالْعَجَبُ مِنَ الَّذِينَ مَضَخَتْ ضَمَائِرُهُمْ، وَاضْمَحَلَّ ذَوْقُهُمْ، حَتَّى صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورِيَّةِ، وَشَرَفِ الرُّجُولَةِ، إِلَى خُنُوثَةِ الْأُنُوثَةِ، وَيُمَثِّلُونَ بِوُجُوهِهِمْ بِحَلْقِ أَذْقَانِهِمْ، وَيَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ حَيْثُ يُحَاوِلُونَ الْقَضَاءَ عَلَى أَعْظَمِ الْفَوَارِقِ الْحِسِّيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى وَهُوَ اللِّحْيَةُ. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثَّ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ أَجْمَلُ الْخَلْقِ وَأَحْسَنُهُمْ صُورَةً. وَالرِّجَالُ الَّذِينَ أَخَذُوا كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَدَانَتْ لَهُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا: لَيْسَ فِيهِمْ حَالِقٌ. نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُرِيَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ حَقًّا، وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ.
أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، فَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِهَا لِشُهْرَتِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَثْرَةِ الرَّسَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَصَدْنَا هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ دَلِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا قَالَ هَارُونُ لِأَخِيهِ قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ عَطْفًا وَحَنَانًا مِنْ قَرَابَةِ الْأَبِ.
وَأَصْلُهُ يَا ابْنَ أُمِّي بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَطَّرِدُ حَذْفُ الْيَاءِ وَإِبْدَالُهَا أَلِفًا وَحَذْفُ الْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنْهَا كَمَا هُنَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
92
وَأَمَّا ثُبُوتُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَقُولُ حَرْمَلَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ:
وَفَتْحٌ أَوْ كَسْرٌ وَحَذْفُ الْيَا اسْتَمَرْ فِي يَا بْنَ أُمَّ يَا بْنَ عَمَّ لَا مَفَرْ
يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شَقِيقِيَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
فَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَقَوْلُهُ «يَا ابْنَ أُمَّ» قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ [٧ ١٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ السَّامِرِيُّ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَاهًا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَرَ الْإِلَهَ أَيِ: الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ بِـ إِنَّمَا الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي خَالِقِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ. الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَهُوَ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَوْلُهُ عِلْمًا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [٣ ٢]، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [٤٧ ١٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ فِي إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [١٠ ٦١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [٦ ٥٩]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ.
الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا سَبَقَ قَصَصًا مِثْلَ ذَلِكَ الْقَصَصِ الْحَسَنِ الْحَقِّ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَالسَّامِرِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ لِلتَّبْعِيضِ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يُقْصَصْ عَلَيْهِ خَبَرُهُ وَيَدُلُّ لِهَذَا
93
الْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» : وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [٤ ١٦٤]، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [٤٠ ٧٨]، قَوْلُهُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [١٤ ٩]، . وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَارَ الْمَاضِينَ. أَيْ: لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ صِدْقَ نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ، وَلَا يَقْرَأُ الْكُتُبَ، وَلَمْ يَتَعَلَّمْ أَخْبَارَ الْأُمَمِ وَقِصَصَهُمْ. فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ لَمَا عَلِمَهُ. بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [٣ ٤٤]، أَيْ: فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَكَ عِلْمٌ بِهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «هُودٍ» تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [١١ ٤٩]، وَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» أَيْضًا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ الْآيَةَ [١١ ١٢٠]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [١٢ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ فِي «يُوسُفَ» أَيْضًا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [١٢ ٣]، وَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [٢٨ ٤٤]، وَقَوْلِهِ فِيهَا: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [٢٨ ٤٦]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [٢٨ ٤٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. يَعْنِي لَمْ تَكُنْ حَاضِرًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِتِلْكَ الْوَقَائِعِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهُ. وَقَوْلِهِ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ أَيْ: أَخْبَارِ مَا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَالرُّسُلِ.
قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا.
أَيْ: أَعْطَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِنَا ذِكْرًا وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [٢١ ٥٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [٣ ٥٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
94
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [٢١ ٢]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [١٥ ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [٣٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الْآيَةَ [٤٣ ٤٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥ ٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنْوَاعَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ تَعَالَى. فَفِيهِ التَّذْكِيرُ، وَالْمَوَاعِظُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فِيهِ الذِّكْرُ، وَالشَّرَفُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣ ٤٤]، .
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى كُلَّ كُتُبِهِ ذِكْرًا فَقَالَ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [٢١ ٧]، اهـ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ.
وَيَدُلُّ لِلْوَجْهِ الثَّانِي فِي كَلَامِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [٣٨ ٢٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا. [٢٠ ١١٣].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، أَيْ: صَدَّ وَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالْآدَابِ، وَالْمَكَارِمِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَيَعْتَبِرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصَصِ، وَالْأَمْثَالِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُرِيدُ بِالْوِزْرِ الْعُقُوبَةَ الثَّقِيلَةَ الْبَاهِظَةَ. سَمَّاهَا وِزْرًا تَشْبِيهًا فِي ثِقَلِهَا عَلَى الْمُعَاقَبِ وَصُعُوبَةِ احْتِمَالِهَا، بِالْحِمْلِ الَّذِي يَفْدَحُ الْحَامِلَ وَيَنْقُضُ ظَهْرَهُ، وَيُلْقِي عَلَيْهِ بِوِزْرِهِ. أَوْ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْوِزْرِ وَهُوَ الْإِثْمُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: عَلَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ. أَيْ: أَثْقَالَ ذُنُوبِهِمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. كَقَوْلِهِ فِي
سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [٦ ٣١]، وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [١٦ ٢٥]، وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩ ١٣]، وَقَوْلِهِ فِي «فَاطِرٍ» : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [٣٥ ١٨]، .
وَبِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [٢٠ ١٠٠]، وَقَوْلِهِ: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [٢٠ ١٠١]، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوِزْرِ الْمَحْمُولِ أَثْقَالُ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُونَهَا: سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةُ تَتَجَسَّمُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ وَأَنْتَنِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَمَلَ «سَاءَ» الَّتِي بِمَعْنَى بِئْسَ مِرَارًا. فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: خَالِدِينَ فِيهِ يُرِيدُ مُقِيمِينَ فِيهِ، أَيْ: فِي جَزَائِهِ، وَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ.
تَنْبِيهٌ
إِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَعْرَضَ وَقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ وَقَوْلِهِ: يَحْمِلُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ «مَنْ» وَأَمَّا جَمْعُ خَالِدِينَ وَضَمِيرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى مِنْ. كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [٢٠ ١٠١]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا الْآيَةَ [٧٢ ٢٣].
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: اللَّامُ فِي «لَهُمْ» مَا هِيَ؟ وَبِمَ تَتَعَلَّقُ؟ قُلْتُ: هِيَ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ. [١٢ ٢٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْجِبَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ:
96
إِنَّ رَبَّهُ يَنْسِفُهَا نَسْفًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْلَعَهَا مِنْ أُصُولِهَا، ثُمَّ يَجْعَلَهَا كَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ الَّذِي يَسِيلُ، وَكَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ تُطَيِّرُهَا الرِّيَاحُ هَكَذَا وَهَكَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ الْأَحْوَالَ الَّتِي تَصِيرُ إِلَيْهَا الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْزِعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا وَيَحْمِلُهَا فَيَدُكُّهَا دَكًّا. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [٦٩ ١٣ - ١٤]، .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُسَيِّرُهَا فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [٢٧ ٨٧ - ٨٨]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً الْآيَةَ [١٨ ٤٧] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [٨١ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [٥٢ ٩ - ١٠]، .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُفَتِّتُهَا وَيَدُقُّهَا كَقَوْلِهِ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ: فُتِّتَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْبَسِيسَةِ، وَهِيَ دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَوْلِهِ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [٦٩ ١٤]، .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُصَيِّرُهَا كَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ، وَكَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ؟ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [٧٣ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [٧٠ ٩]، فِي «الْمَعَارِجِ، وَالْقَارِعَةِ». وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ:
كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا تَصِيرُ كَالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ فِي قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [٥٦ ٥ - ٦]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا تَصِيرُ سَرَابًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠]، وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ السَّرَابَ لَا شَيْءَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [٢٤ ٣٩]، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [٢٠ ١٠٥]، .
تَنْبِيهٌ
97
جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَسْأَلُونَكَ قَالَ لَهُ قُلْ بِغَيْرِ فَاءٍ. كَقَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الْآيَةَ [١٧ ٨٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الْآيَةَ [٢ ٢١٩] وَقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [٢ ٢١٥] وَقَوْلِهِ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الْآيَةَ [٥ ٤] وَقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [٢ ٢١٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ فَقَالَ فِيهَا: فَقُلْ يَنْسِفُهَا [٢٠ ١٠٥] بِالْفَاءِ. وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ هَذَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نَصُّهُ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ أَيْ: عَنْ حَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقُلْ. جَاءَ هَذَا بِفَاءٍ، وَكُلُّ سُؤَالٍ فِي الْقُرْآنِ «قُلْ» بِغَيْرِ فَاءٍ إِلَّا هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ سَأَلُوكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ، فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَأَجَابَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَتِلْكَ أَسْئِلَةٌ تَقَدَّمَتْ، سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ الْجَوَابُ عَقِبَ السُّؤَالِ. فَلِذَلِكَ كَانَ بِغَيْرِ فَاءٍ. وَهَذَا سُؤَالٌ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ بَعْدُ فَتَفَهَّمْهُ انْتَهَى مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُهَا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَنَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [٣٥ ٤٥]، وَقَوْلُهُ: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [١٦ ١٦]، فَالضَّمِيرُ فِيهِمَا رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْقُرْآنِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنَابِتِ الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُهَا وَمَقَارُّهَا لِأَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْجِبَالِ. وَالْمَعْنَى: فَيَذَرُ مَوَاضِعَهَا الَّتِي كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ قَاعًا صَفْصَفًا. وَالْقَاعُ: الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي الْأَمْلَسُ
98
الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَلَا بِنَاءَ، فَإِنَّهُ عَلَى صَفٍّ وَاحِدٍ فِي اسْتِوَائِهِ. وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْأَعْشَى:
وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وَأَعْقَادِهَا
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَمَلْمُومَةٌ شَهْبَاءُ لَوْ قَذَفُوا بِهَا شَمَارِيخَ مِنْ رَضْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفًا
وَقَوْلُهُ: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [٢٠ ١٠٧]، أَيْ: لَا اعْوِجَاجَ فِيهَا، وَلَا أَمْتَ. وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ. أَيْ: لَيْسَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ، وَلَا ارْتِفَاعٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَمْتِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
فَاجْرَمَّزَتْ ثُمَّ سَارَتْ وَهِيَ لَاهِيَةٌ فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ، وَلَا شَرَفٌ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
فَأَبْصَرَتْ لَمْحَةً مِنْ رَأْسِ عِكْرِشَةٍ فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ وَلَا عِوَجٌ
وَالْكَافِرُ فِي الْبَيْتَيْنِ: قِيلَ اللَّيْلُ. وَقِيلَ الْمَطَرُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَيْنَ مِنْ رُؤْيَةِ الِارْتِفَاعِ، وَالِانْحِدَارِ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعِوَجِ، وَالْعَوَجِ فَقَالُوا. الْعِوَجُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَالْعَوَجِ بِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ. وَالْأَرْضُ عَيْنٌ، فَكَيْفَ صَحَّ فِيهَا الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ؟
قُلْتُ اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ حَسَنٌ بَدِيعٌ فِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالِاسْتِوَاءِ، وَالْمَلَاسَةِ، وَنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ عَنْهَا عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ. وَذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إِلَى قِطْعَةِ أَرْضٍ فَسَوَّيْتَهَا، وَبَالَغْتَ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى عَيْنِكِ وَعُيُونِ الْبُصَرَاءِ مِنَ الْفِلَاحَةِ، وَاتَّفَقْتُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ قَطُّ، ثُمَّ اسْتَطْلَعْتَ رَأْيَ الْمُهَنْدِسِ فِيهَا، وَأَمَرْتَهُ أَنْ يَعْرِضَ اسْتِوَاءَهَا عَلَى الْمَقَايِيسِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَعَثَرَ فِيهَا عَلَى عِوَجٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَلَكِنْ بِالْقِيَاسِ الْهَنْدَسِيِّ، فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ الْعِوَجَ الَّذِي دَقَّ وَلَطُفَ عَنِ الْإِدْرَاكِ، اللَّهُمَّ إِلَّا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَعْرِفُهُ صَاحِبُ التَّقْدِيرِ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَذَلِكَ الِاعْوِجَاجُ لَمَّا لَمْ يُدْرَكْ إِلَّا بِالْقِيَاسِ دُونَ الْإِحْسَاسِ لَحِقَ بِالْمَعَانِي فَقِيلَ فِيهِ: عِوَجٌ بِالْكَسْرِ، وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ، يُقَالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا فِيهِ أَمْتٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
99
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.
قَوْلُهُ يَوْمَئِذٍ أَيْ: يَوْمَ إِذْ نُسِفَتِ الْجِبَالُ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ. وَالدَّاعِي: هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحُضُورِ لِلْحِسَابِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُنَادِيهِمْ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ، وَالْأَوْصَالُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ، قُومِي إِلَى رَبِّكِ لِلْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ، فَيَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَيَتْبَعُونَهُ. وَمَعْنَى لَا عِوَجَ لَهُ: أَيْ: لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا يَمِيلُونَ يَمِينًا، وَلَا شِمَالًا. وَقِيلَ: لَا عِوَجَ لِدُعَاءِ الْمَلَكِ عَنْ أَحَدٍ، أَيْ: لَا يَعْدِلُ بِدُعَائِهِ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ يَدْعُوهُمْ جَمِيعًا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ لِلدَّاعِي لِلْحِسَابِ، وَعَدَمِ عُدُولِهِمْ عَنْهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَزَادَ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [٥٤ ٦ - ٨]، وَالْإِهْطَاعُ: الْإِسْرَاعُ: وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [٥٠ ٤١ - ٤٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ الْآيَةَ [١٧ ٥٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ أَيْ: خُفِّضَتْ وَخَفُتَتْ، وَسَكَنَتْ هَيْبَةً لِلَّهِ، وَإِجْلَالًا وَخَوْفًا فَلَا تَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَوْتًا عَالِيًا، بَلْ لَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا أَيْ: صَوْتًا خَفِيًّا خَافِتًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. أَوْ إِلَّا هَمْسًا أَيْ: إِلَّا صَوْتَ خَفْقِ الْأَقْدَامِ وَنَقْلِهَا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَالْهَمْسُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْخَفَاءِ، فَيَشْمَلُ خَفْضَ الصَّوْتِ وَصَوْتَ الْأَقْدَامِ. كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا يَابِسُ النَّبَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [٧٨ ٣٧].
وَقَوْلُهُ هُنَا: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي «مَرْيَمَ»، وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا.
قَوْلُهُ: عَنَتِ أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَنَا يَعْنُو عُنُوًّا وَعَنَاءً: إِذْ ذَلَّ وَخَضَعَ، وَخَشَعَ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ عَانٍ لِذُلِّهِ وَخُضُوعِهِ لِمَنْ أَسَرَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
وَعَنَا لَهُ وَجْهِي وَخَلْقِي كُلُّهُ فِي السَّاجِدِينَ لِوَجْهِهِ مَشْكُورًا
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَلَّتْ وَخَشَعَتْ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ: وُجُوهُ الْعُصَاةِ خَاصَّةً وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَأَسْنَدَ الذُّلَّ، وَالْخُشُوعَ لِوُجُوهِهِمْ، لِأَنَّ الْوَجْهَ تَظْهَرُ فِيهِ آثَارُ الذُّلِّ، وَالْخُشُوعِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [٦٧ ٢٧] وَقَوْلُهُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [٧٥ ٢٤]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [٨٨ ٢ - ٤]، ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ انْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِبَعْضِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ: أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ الْخَلَائِقِ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَامَاتُ الذُّلِّ، وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ: خَسِرَ مَنْ حَمَلَ شِرْكًا. وَتَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَسْمِيَةِ الشِّرْكِ ظُلْمًا. كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢ ٢٥٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [١٠ ١٠٦]، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ [٦ ٨٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الظُّلْمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [٢٠ ١١١]، يَعُمُّ الشِّرْكَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَخَيْبَةُ كُلِّ ظَالِمٍ بِقَدْرِ مَا حَلَّ مِنَ الظُّلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الْحَيُّ: الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا. وَالْقَيُّومُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِرَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ ظُلْمًا، وَلَا هَضْمًا. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [٤ ٤٠]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٦٠ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ ٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الظُّلْمِ، وَالْهَضْمِ بِأَنَّ الظُّلْمَ الْمَنْعُ مِنَ الْحَقِّ كُلِّهِ. وَالْهَضْمَ: النَّقْصُ وَالْمَنْعُ مِنْ بَعْضِ الْحَقِّ. فَكُلُّ هَضْمٍ ظُلْمٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْهَضْمِ عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُتَوَكِّلِ اللَّيْثِيِّ:
إِنَّ الْأَذِلَّةَ وَاللِّئَامَ لَمَعْشَرٌ مَوْلَاهُمُ الْمُنْهَضِمُ الْمَظْلُومُ
فَالْمُنْهَضِمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ تَهْضِمُهُ إِذَا اهْتَضَمَهُ فِي بَعْضِ حُقُوقِهِ وَظَلَمَهُ فِيهَا.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ [٢٠ ١١١]، بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ مَرْفُوعًا، وَلَا نَافِيَةٍ. أَيْ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، أَوْ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ «فَلَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ. وَعَلَيْهِ فَـ «لَا» نَاهِيَةٌ جَازِمَةُ الْمُضَارِعِ. وَقَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ مَجْزُومٌ. لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْمَلْ غَلَطٌ مِنْهُ. لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَخَافُ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ «لَا» نَاهِيَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُ اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ. لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.
الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ. فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا يَنْبَغِي. فَنَهَاهُ عَنِ الْعَجَلَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ جِبْرِيلَ، بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يُنْصِتَ لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ حَتَّى يَنْتَهِيَ، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لَهُ حِفْظَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْقِيَامَةِ» : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ ١٦ - ١٩]، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [٧٥ ١٦ - ١٧]، قَالَ: جَمْعَهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ، وَنَقْرَؤُهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [٧٥ ١٨]، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ ١٩]، ثُمَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ. فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَرَأَهُ اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا.
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ أَيْ: أَوْصَيْنَاهُ أَلَّا يَقْرَبَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. وَهَذَا الْعَهْدُ إِلَى آدَمَ الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [٢ ٣٥]، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ هُوَ عَهْدُهُ إِلَى آدَمَ الْمَذْكُورُ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [٧ ١٩]، .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَسِيَ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التُّرْكُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّرْكِ عَمْدًا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [٢٠ ١٢٦]، فَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّرْكُ قَصْدًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [٧ ٥١]،
103
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٣٢ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٥٩ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [٤٥ ٣٤]. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَنَسِيَ أَيْ: تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا غَرَّهُ وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ. كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [٧ ٢١ - ٢٢]، . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [٢٠ ١٢١]، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَقَوْلِهِ هُنَا فَنَسِيَ مَعَ قَوْلِهِ وَعَصَى فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَالْعِصْيَانُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [٢ ٢٨٦]، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ عَظِيمُ مُوقِعٍ. وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [٢ ٢٨٦]، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». فَقَوْلُهُ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِأُمَّتِهِ. وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. لِأَنَّ مَنَاطَ
104
التَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْمَشْهُورِ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَصَاحِبُهُ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ تَقْرِيبِ شَيْءٍ لِلصَّنَمِ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَرَّبَهُ مُكْرَهٌ. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَرِّبْ لَقَتَلُوهُ كَمَا قَتَلُوا صَاحِبَهُ، وَمَعَ هَذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَمْ يَكُنْ إِكْرَاهُهُ عُذْرًا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [١٨ ٢٠]، فَقَوْلُهُ: يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْآيَةَ [٤ ٩٢]. فَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ هُنَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَالْكَفَّارَةُ تُشْعِرُ بِوُجُودِ الذَّنْبِ فِي الْجُمْلَةِ. كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ خَطَأً فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [٤ ٩٢]، فَجُعِلَ صَوْمُ الشَّهْرَيْنِ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مُؤَاخَذَةً فِي الْجُمْلَةِ بِذَلِكَ الْخَطَأِ، مَعَ قَوْلِهِ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [٣٣ ٥]، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [٢ ٢٨٦]، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ، فَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْإِثْمُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هِيَ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَفُّظِ، وَالْحَذَرِ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [٢٠ ١٢٢]، هُوَ وَنَحْوُهُ مِنَ الْآيَاتِ مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ بِعَدَمِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا مَعْرُوفًا فِي الْأُصُولِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ إِنْ وَقَعَ
105
مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ فَإِنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهُ بِصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِذَلِكَ دَرَجَةً أَعَلَا مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ هُنَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [٢٠ ١٢٢]، .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [٢٠ ١١٥]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَانَا آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [٤٦ ٣٥]، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ.
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا، وَالْوُجُودُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمَفْعُولَاهُ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَعِنْدَ مَنَالِهِ عَزْمًا اهـ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. أَيْ: أَبَى أَنْ يَسْجُدَ. فَذَكَرَ عَنْهُ هُنَا الْإِبَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ هُنَا الِاسْتِكْبَارَ. وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ أَيْضًا فِي «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [١٥ ٣١]، . وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْحِجْرِ» هَذِهِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يُبَيِّنُ مَعْمُولَ «أَبَى» الْمَحْذُوفَ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [٢٠ ١١٦]، أَيْ: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْحِجْرِ» وَكَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [٧ ١١]، وَذَكَرَ عَنْهُ فِي سُورَةِ «ص» الِاسْتِكْبَارَ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٣٨]، وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ، وَالِاسْتِكْبَارَ مَعًا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٢]، . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِ فِي زَعْمِهِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ هَلْ أَصْلُهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا؟
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ صَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ سَجَدَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لَا بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ. [٣٨ - ٧٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَشْقَى أَيْ: فَتَتْعَبُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ بِالْكَدِّ، وَالِاكْتِسَابِ. لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ لُقْمَةَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْرُثَ الْأَرْضَ، ثُمَّ يَزْرَعُهَا، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَدْرُسُهُ، ثُمَّ يُنَقِّيهِ، ثُمَّ يَطْحَنُهُ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ، ثُمَّ يَخْبِزُهُ. فَهَذَا شَقَاؤُهُ الْمَذْكُورُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّقَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّعَبُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعِيشَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [٢٠ ١١٨ - ١١٩]، يَعْنِي احْذَرْ مِنْ عَدُوِّكَ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِ الرَّاحَةِ الَّتِي يُضْمَنُ لَكَ فِيهَا الشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْكُسْوَةُ، وَالسَّكَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَفَافُ الْإِنْسَانِ، فَذِكْرُهُ اسْتِجْمَاعَهَا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مَكْفِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِفَايَةِ كَافٍ، وَلَا إِلَى كَسْبِ كَاسِبٍ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا. وَذِكْرُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِنَقَائِضِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ، وَالْعُرْيُ، وَالظَّمَأُ، وَالضَّحْوُ لِيَطْرُقَ سَمْعَهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [٢٠ ١١٨]، قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي كَدِّ الْمَعِيشَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ الْجُوعَ، وَالظَّمَأَ، وَالْعُرْيَ، وَالضَّحَاءَ. وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: خِلَافُ اللُّبْسِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَضْحَى أَيْ: لَا تَصِيرُ بَارِزًا لِلشَّمْسِ، لَيْسَ لَكَ مَا تَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنْ حَرِّهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِيَ يَضْحَى، كَرَضِيَ يَرْضَى. وَضَحَى يَضْحَى كَسَعَى يَسْعَى إِذَا كَانَ بَارِزًا لِحَرِّ الشَّمْسِ لَيْسَ لَهُ مَا يَكِنُّهُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمًا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضَحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَنْحَصِرْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
107
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا نَافِعًا وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ»، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ أَيْ: وَإِنَّ لَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. وَيَجُوزُ فِي الْمَصْدَرِ الْمَعْطُوفِ الْمَذْكُورِ النَّصْبُ، وَالرَّفْعُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصًا
وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا
وَإِيضَاحُ تَقْدِيرِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: إِنَّ لَكَ عَدَمَ الْجُوعِ فِيهَا، وَعَدَمَ الظَّمَأِ.
تَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ [٢٠ ١١٧]، بِخِطَابٍ شَامِلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ خَصَّ آدَمَ بِالشَّقَاءِ دُونَهَا فِي قَوْلِهِ فَتَشْقَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالْكَدِّ عَلَيْهَا وَتَحْصِيلِ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ الضَّرُورِيَّةِ لَهَا: مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاءِ وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَمِنْ يَوْمئِذٍ جَرَتْ نَفَقَةُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ. فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ حَوَّاءَ عَلَى آدَمَ كَذَلِكَ نَفَقَاتُ بَنَاتِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْكُسْوَةُ، وَالْمَسْكَنُ. فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُورٌ. فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا. لِأَنَّ بِهَا إِقَامَةَ الْمُهْجَةِ اهـ مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ: أَنَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ أُهْبِطَ إِلَيْهِ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَحَبَّاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوْرِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَذَلِكَ مِنَ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فِي اصْطِلَاحِ الْبَلَاغِيِّينَ، هُوَ مَا يُسَمَّى «مُرَاعَاةَ النَّظِيرِ»، وَيُسَمَّى «التَّنَاسُبَ، وَالِائْتِلَافَ. وَالتَّوْفِيقَ، وَالتَّلْفِيقَ». فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنَّهُ جَمْعُ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ لَا بِالتَّضَادِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [٥٥ ٥]، فَإِنَّ الشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ مُتَنَاسِبَانِ
108
لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ يَصِفُ الْإِبِلَ الْأَنْضَاءَ الْمَهَازِيلَ، أَوِ الرِّمَاحَ:
كَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ الْأَسْهُمِ مَبْرِيَّةٍ بَلِ الْأَوْتَارِ
وَبَيْنَ الْأَسْهُمِ، وَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ، وَالْأَوْتَارِ مُنَاسَبَةٌ فِي الرِّقَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَرَقَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ ابْنِ رَشِيقٍ:
أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ
أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا عَنِ الْبَحْرِ عَنْ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ
فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالسَّمَاعِ، وَالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَالرِّوَايَةِ، وَكَذَا نَاسَبَ بَيْنَ السَّيْلِ، وَالْحَيَا وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْبَحْرِ وَكَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، وَكَقَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْبَدْرُ
فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الثُّرَيَّا، وَالشِّعْرَى، وَالْبَدْرِ، كَمَا نَاسَبَ بَيْنَ الْجَبِينِ، وَالْوَجْنَةِ، وَالْوَجْهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْبَلَاغَةِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَاسَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى بَيْنَ نَفْيِ الْجُوعِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْحَرَارَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَبَيْنَ نَفْيِ الْعُرْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ مِنْ أَذَى الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَاسَبَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى بَيْنَ نَفْيِ الظَّمَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الظَّمَأُ. وَبَيْنَ نَفْيِ الضُّحَى الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَنَحْوُهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
بِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُسَمَّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَزْعُومِ تَحْقِيقُ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَكْثِيرِهَا. لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا قَطَعَ الظَّمَأَ عَنِ الْجُوعِ، وَالضَّحْوَ عَنِ الْكُسْوَةِ، مَعَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَقَالُوا: وَمِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
فَقَطَعَ رُكُوبَ الْجَوَادِ مِنْ قَوْلِهِ «لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً» وَقَطَعَ «تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ» عَنْ
109
شُرْبِ «الزِّقَ الرَّوِيَّ» مَعَ التَّنَاسُبِ فِي ذَلِكَ. وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَدِّدَ مَلَاذَّهُ وَمَفَاخِرَهُ وَيُكَثِّرَهَا. كُلُّهُ كَلَامٌ لَا حَاجَةَ لَهُ لِظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى.
الْوَسْوَسَةُ، وَالْوَسْوَاسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ، وَالْكِلَابِ، وَصَوْتِ الْحُلِيِّ: وَسْوَاسٌ. وَالْوِسْوَسُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْأُولَى مَصْدَرٌ، وَبِفَتْحِهَا الِاسْمُ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [١١٤ ٤]، وَيُقَالُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ: وَسْوَاسٌ وَوَسْوَسَةٌ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَسْوَاسِ عَلَى صَوْتِ الْحُلِيِّ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى هَمْسِ الصَّائِدِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
فَبَاتَ يُشْئِزُهُ ثَأْدٌ وَيُسْهِرُهُ تَذَؤُّبُ الرِّيحِ وَالْوَسْوَاسُ وَالْهِضَبُ
وَقَوْلُ رُؤْبَةَ:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعَقَقْ
فِي الزَّرْبِ لَوْ يَمْضُعُ شُرْبًا مَا بَصَقَ
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [٢٠ ١٢٠]، أَيْ: كَلَّمَهُ كَلَامًا خَفِيًّا فَسَمِعَهُ مِنْهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَلَامٌ مِنْ إِبْلِيسَ سَمِعَهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْوَسْوَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا قَوْلٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [٢٠ ١٢٠]، . فَالْقَوْلُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسْوَسَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى حَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْلِهِ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [٧ ٢١]، لِأَنَّ تَصْرِيحَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ قَاسَمَهُمَا أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْكَذِبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ كَلَامٌ مَسْمُوعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى آدَمَ إِشْكَالًا
110
مَعْرُوفًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِبْلِيسُ قَدْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ صَاغِرًا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَكَيْفَ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى وَسْوَسَ لِآدَمَ؟، وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَقِفَ إِبْلِيسُ خَارِجَ الْجَنَّةِ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُ آدَمُ كَلَامَهُ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِمْكَانُ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِامْتِحَانِ آدَمَ وَزَوْجِهِ، لَا لِكَرَامَةِ إِبْلِيسَ. فَلَا مُحَالَ عَقْلًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَلَّمِ آدَمَ، وَحَلَفَ لَهُ حَتَّى غَرَّهُ وَزَوْجَهُ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَضَافَ الشَّجَرَةَ إِلَى الْخُلْدِ وَهُوَ الْخُلُودُ. لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ الْكَاذِبِ خَالِدًا لَا يَمُوتُ، وَلَا يَزُولُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي زَعْمِهِ مُلْكٌ لَا يَبْلَى أَيْ: لَا يَفْنَى، وَلَا يَنْقَطِعُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى يَدُلُّ لِمَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ [٧ ٢٠] بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَوْلُهُ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [٧ ٢٠]، هُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ فِي «طه» : هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [٢٠ ١٢٠]، .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ: أَنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا اللَّهُ عَنْهَا نَالَا الْخُلُودَ، وَالْمُلْكَ، وَصَارَا مَلَكَيْنِ، وَحَلَفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، يُرِيدُ لَهُمَا الْخُلُودَ، وَالْبَقَاءَ، وَالْمُلْكَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ اعْتَقَدَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَنْسَاهُ ذَلِكَ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ.
تَنْبِيهٌ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ عَدَّى فِعْلَ الْوَسْوَسَةِ فِي «طه» بِإِلَى فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ عَدَّاهُ فِي «الْأَعْرَافِ» بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [٧ ٢٠]، . وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى إِلَى كَعَكْسِ ذَلِكَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ يُرِيدُ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُوَصِّلُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كُلِّهَا الْفِعْلَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ. وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ ذَلِكَ: إِرَادَةُ التَّضْمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:
111
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ عَدَّى «وَسْوَسَ» تَارَةً بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وَأُخْرَى بِإِلَى؟ قُلْتُ: وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ كَوَلْوَلَةِ الثَّكْلَى، وَوَعْوَعَةِ الذِّئْبِ، وَوَقْوَقَةِ الدَّجَاجَةِ، فِي أَنَّهَا حِكَايَاتٌ لِلْأَصْوَاتِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ صَوْتٍ وَأَجْرُسٍ. وَمِنْهُ وَسْوَسَ الْمُبَرْسَمُ وَهُوَ مُوَسْوِسٌ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لَحْنٌ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ.........
فَإِذَا قُلْتَ: وَسْوَسَ لَهُ. فَمَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ. كَقَوْلِهِ:
أَجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أَبِي كِبَاشٍ... فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إِنْفَاشِ
غَيْرَ السُّرَى وَسَائِقٍ نَجَّاشِ
وَمَعْنَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ. كَقَوْلِهِ: حَدَّثَ إِلَيْهِ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ اهـ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْكُوفِيِّينَ فِي تَعَاقُبِ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَإِتْيَانِ بَعْضِهَا مَكَانَ بَعْضٍ هَلْ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّضْمِينِ، أَوْ لِأَنَّ الْحُرُوفَ يَأْتِي بَعْضُهَا بِمَعْنَى بَعْضٍ؟ وَسَنَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ يَتَّضِحُ بِهِ الْمَقْصُودُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلًا: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ [٢١ ٧٧] عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّضْمِينِ. فَالْحَرْفُ الَّذِي هُوَ «مِنْ» وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ لَكِنَّ «نَصَرَ» هُنَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ، وَالتَّخْلِيصِ، أَيْ: أَنْجَيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. وَالْإِنْجَاءُ مَثَلًا يَتَعَدَّى بِمِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَـ «نَصَرَ» وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ، لَكِنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: نَصَرْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْآيَةَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اخْتِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِهَا.
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ السُّنْبُلَةُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ الْكَرْمِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى.
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَكَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِمَا هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَيْ: فَأَكَلَا مِنْهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ. وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَكْلُهُمَا مِنَ الشَّجَرَةِ
112
الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ سَبَبًا لِلْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَكَانَ الْأَكْلُ مِنْهَا سَبَبًا لِبُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ (الْإِيمَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ) : أَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا [٢٠ ١٢٠ - ١٢١]، أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَكْلِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ السَّبَبِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ هُنَا كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ هِيَ سَبَبُ مَا وَقَعَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [٢ ٣٦]، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَزَلَّهُمَا. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى «فَأَزَالَهُمَا» وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، أَيْ: مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الْآيَةَ [٧ ٢٧] وَقَوْلُهُ: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [٧ ٢٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ تَرَتُّبِ بُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا عَلَى أَكْلِهِمَا مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [٧ ٢٢]، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [٧ ٢٧].
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَانَا فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ يَسْتُرُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا رَبُّهُمَا عَنْهُمَا انْكَشَفَ ذَلِكَ السِّتْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. فَبَدَتْ سَوْءَاتُهُمَا أَيْ: عَوْرَاتُهُمَا. وَسُمِّيَتَ الْعَوْرَةُ سَوْءَةً لِأَنَّ انْكِشَافَهَا يَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَصَارَا يُحَاوِلَانِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بِوَرَقِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [٢٠ ١٢١]، وَقَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [٧ ٢٧]، .
وَقَوْلُهُ وَطَفِقَا أَيْ: شَرَعَا. فَهِيَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ إِلَّا فِعْلًا مُضَارِعًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِـ «أَنْ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
........ وَتَرْكُ أَنْ مَعَ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا
كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ... وَكَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ
113
فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ أَيْ: شَرَعَا يَلْزَقَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِيَسْتُرَا بِهِ عَوْرَاتِهِمَا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَصَفَ النَّعْلَ يَخْصِفُهَا: إِذَا خَرَّزَهَا: وَخَصَفَ الْوَرَقَ عَلَى بَدَنِهِ: إِذَا أَلْزَقَهَا وَأَطْبَقَهَا عَلَيْهِ وَرَقَةً وَرَقَةً. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ وَرَقَ الْجَنَّةِ الَّتِي طَفِقَ آدَمُ وَحَوَّاءُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْهُ إِنَّهُ وَرَقُ التِّينِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السِّتْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَانْكَشَفَ عَنْهُمَا لَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ مِنْ جِنْسِ الظُّفُرِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَزَالَهُ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا مَا أَبْقَى عَلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا يَسْتُرُ اللَّهُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا. وَقِيلَ: لِبَاسٌ مِنْ يَاقُوتٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَهُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ». وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّهُمَا كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ يَسْتُرُهُمَا اللَّهُ بِهِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ نَزَعَ عَنْهُمَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ الْمَذْكُورُ الظُّفُرَ أَوِ النُّورَ، أَوْ لِبَاسَ التَّقْوَى، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ.
وَأَسْنَدَ جَلَّ وَعَلَا إِبْدَاءَ مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا إِلَى الشَّيْطَانِ قَوْلُهُ: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [٧ ٢٠]، كَمَا أُسْنِدَ لَهُ نَزْعُ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [٧ ٢٧]، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جُعِلَ سَبَبُ الزَّلَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ مُخْتَصًّا بِآدَمَ دُونَ حَوَّاءَ قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ سَبَّبَتِ الزَّلَّةَ لَهُمَا مَعًا كَمَا أَوْضَحْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ وَسْوَسَ لِحَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [٧ ٢٠]، فَبَيَّنَتْ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» مَا لَمْ تُبَيِّنْهُ آيَةُ «طه» كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ
أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي بَذْلُ
114
الْجُهْدِ فِي سَتْرِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» مَا نَصُّهُ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْرَ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَرَا إِلَى سَتْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قِيلَ لَهُمَا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [٧ ١٩]. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ سُتْرَةٌ ظَاهِرَةٌ، عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ بِهَا كَمَا فَعَلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [٧ ٣١] وَكَبَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يُنَادِي عَامَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ عَامَ تِسْعٍ: «أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ». وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَمَامَ النَّاسِ. وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ».
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ السَّوْءَاتِ فِي قَوْلِهِ سَوْآتُهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا سَوْأَتَانِ فَقَطْ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ سَوْءَتَانِ: الْقُبُلُ، وَالدُّبُرُ، فَهِيَ أَرْبَعٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى قُبُلَ نَفْسِهِ وَقُبُلَ الْآخَرِ، وَدُبُرَهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِي الْجَمْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ شَيْئَانِ هَمَا جُزْآهُ جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ شَيْئَانِ الْجَمْعُ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْإِفْرَادُ، وَأَفْصَحُهَا الْجَمْعُ، فَالْإِفْرَادُ، فَالتَّثْنِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، سَوَاءٌ كَانَتَ الْإِضَافَةُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. وَمِثَالُ اللَّفْظِ: شَوَيْتُ رُءُوسَ الْكَبْشَيْنِ أَوْ رَأْسَهُمَا، أَوْ رَأْسَيْهِمَا. وَمِثَالُ الْمَعْنَى: قَطَعْتُ مِنَ الْكَبْشَيْنِ الرُّءُوسَ، أَوِ الرَّأْسَ، أَوِ الرَّأْسَيْنِ. فَإِنْ فُرِّقَ الْمُثَنَّى الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَالْمُخْتَارُ فِي الْمُضَافِ الْإِفْرَادُ، نَحْوَ: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
وَمِثَالُ جَمْعِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْأَفْصَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [٦٦ ٤]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [٥ ٣٨]، وَمِثَالُ الْإِفْرَادِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي سَقَاكِ مِنَ الْغُرِّ الْغَوَادِي مَطِيرُهَا
وَمِثَالُ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
115
وَالضَّمَائِرُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الْمَجْمُوعِ لَفْظًا وَهُوَ مُثَنَّى مَعْنًى يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَالتَّثْنِيَةُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلَ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
خَلِيلَيَّ لَا تَهْلِكْ نُفُوسُكُمَا أَسًى فَإِنَّ لَهُمَا فِيمَا بِهِ دُهِيتُ أَسًى
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ:
قُلُوبُكُمَا يَغْشَاهُمَا الْأَمْنُ عَادَةً إِذَا مِنْكُمَا الْأَبْطَالُ يَغْشَاهُمُ الذُّعْرُ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
أَقَلُّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْمُشْتَهِرِ الِاثْنَانِ فِي رَأْيِ الْإِمَامِ الْحُمَيْرِي
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاثْنَانِ الْمُضَافَانِ مُنْفَصِلَيْنِ عَنِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: كَانَا غَيْرَ جُزْأَيْهِ فَالْقِيَاسُ الْجَمْعُ وِفَاقًا لِلْفَرَّاءِ، كَقَوْلِكَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى مَضَاجِعِكُمَا، وَضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا، وَسَأَلَتَا عَنْ إِنْفَاقِهِمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
الْمَعْصِيَةُ خِلَافَ الطَّاعَةِ. فَقَوْلُهُ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى أَيْ: لَمْ يُطِعْهُ فِي اجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ قُرْبَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَغَوَى الْغَيُّ: الضَّلَالُ، وَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَمْ يُطِعْ آدَمُ رَبَّهُ فَأَخْطَأَ طَرِيقَ الصَّوَابِ بِسَبَبِ عَدَمِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا الْعِصْيَانُ، وَالْغَيُّ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنَ الْجَنَّةِ رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، وَنَهَاهُمَا أَنْ يَقَرَبَا شَجَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَجَرِهَا. فَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لَهُمَا وَيَحْلِفُ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنَّهُ لَهُمَا لَنَاصِحٌ، وَإِنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنْهَا نَالَا الْخُلُودَ وَالْمُلْكَ الَّذِي لَا يَبْلَى. فَخَدَعَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [٧ ٢١]، فَأَكَلَا مِنْهَا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ خَدَعَنَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ: «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ». وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ نَفْطَوَيْهِ:
116
فَآدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا صَدَرَتْ مِنْهُ الزَّلَّةُ إِلَّا بِسَبَبِ غُرُورِ إِبْلِيسَ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ آدَمَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ كَاذِبٌ فَأَنْسَاهُ حَلِفُ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَغَوَى أَيْ: فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
قَالُوا: وَالْغَيُّ. الْفَسَادُ، خِلَافُ الظَّاهِرِ وَإِنْ حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فَغَوَى أَيْ: بَشَمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. وَالْبَشَمُ: التُّخَمَةُ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ الْمَكْسُورَةَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ، فَنَا وَبَقَا، وَهُمْ بَنُو طَيِّئٍ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، اهـ مِنْهُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ لُغَةِ طَيِّئٍ مَعْرُوفٌ. فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ: جَارَاةٌ، وَلِلنَّاصِيَةِ نَاصَاةٌ، وَيَقُولُونَ فِي بَقِيَ بَقَى كَرَمَى. وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ
لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا
وَهَذِهِ اللُّغَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لَا حَاجَةَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: غَوَى الْفَصِيلُ كَرَضِيَ وَكَرَمَى: إِذَا بَشَمَ مِنَ اللَّبَنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَصَى آدَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «غَوَى» ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ:
مَسْأَلَةٌ
الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ. وَخَالَفَ الرَّوَافِضُ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ. وَمُعْتَمَدُهُمُ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ. لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ. وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي غَلَطًا وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالصَّغَائِرِ الْخَسِيسَةِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصَمَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ.
117
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ فِي (نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَالْأَنْبِيَاءُ عُصِمُوا مِمَّا نَهَوْا عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَفُكُّهٌ
بِجَائِزٍ بَلْ ذَاكَ لِلتَّشْرِيعِ أَوْ نِيَّةِ الزُّلْفَى مِنَ الرَّفِيعِ
مَا نَصُّهُ: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ، وَالشَّرَائِعِ كُلِّهَا عَلَى وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيمَا دَلَّ الْمُعْجِزُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيهِ. كَدَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلَائِقِ. وَصُدُورُ الْكَذِبِ عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا مَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمَا سِوَى الْكَذِبِ فِي التَّبْلِيغِ. فَإِنْ كَانَ كُفْرًا فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ عَمْدًا. وَمُخَالِفُ الْجُمْهُورِ الْحَشْوِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ: هَلِ الْمَانِعُ لِوُقُوعِ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَمْدًا الْعَقْلُ أَوِ السَّمْعُ؟ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَالْعَقْلُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا فَالْمُخْتَارُ الْعِصْمَةُ مِنْهَا. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَدْ جَوَّزَهَا الْجُمْهُورُ عَقْلًا. لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا انْتَهَى مِنْهُ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ وَمِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ. وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ الْأُخْرَى مِنْهُمْ عَقْلًا. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِعْلًا. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَفِي الْمُنْتَخَبِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفُضَيْلِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ. وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مأخُوذُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ. فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ الْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ، وَلَا الصَّغِيرَةُ. لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ
118
لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبَ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، ولئِلَّا يَفْعَلُوا ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ (الْمُنْتَخَبِ)، وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ. وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ.
وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ، وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ غَيْرَ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ اخْتَارُوا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَمْ يَقَعْ فِعْلًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ سَهْوًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَا يُزْرِي بِمَرَاتِبِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَمَنَاصِبِهِمُ السَّامِيَةِ. وَلَا يَسْتَوْجِبُ خَطَأً مِنْهُمْ، وَلَا نَقْصًا فِيهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ فَتَكُونُ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [٢٠ ١٢١]، . فَانْظُرْ أَيَّ أَثَرٍ يَبْقَى لِلْعِصْيَانِ وَالْغَيِّ بَعْدَ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاجْتِبَائِهِ أَيِ: اصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ، وَهِدَايَتِهِ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الزَّلَّاتِ يَنَالُ صَاحِبُهَا بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ قَبْلَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى.
الِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ. أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ مَا صَدَرَ مِنْ آدَمَ بِمُهْلَةٍ اصْطَفَاهُ رَبُّهُ وَاخْتَارَهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَكَانَتْ سَبَبَ تَوْبَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [٢ ٣٧]، أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٧ ٢٣]،
وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
الظَّاهِرُ أَنَّ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ اهْبِطَا رَاجِعَةٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [٢٠ ١٢١]، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى إِبْلِيسَ وَآدَمَ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمَا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [٢ ٣٦]، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢ ٣٨]، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [٧ ٢٤]، . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ اهْبِطُوا [٢ ٣٦، ٧ ٢٤]، فِي «الْبَقَرَةِ» وَ «الْأَعْرَافِ» وَبِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي «طه» فِي قَوْلِهِ: اهْبِطَا مَعَ أَنَّهُ أَتْبَعَ صِيغَةَ التَّثْنِيَةِ فِي «طه» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى وَأَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّثْنِيَةَ بِاعْتِبَارِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَقَطْ، وَالْجَمْعَ بِاعْتِبَارِهِمَا مَعَ ذُرِّيَّتِهِمَا. خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّثْنِيَةَ بِاعْتِبَارِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَالْجَمْعَ بِاعْتِبَارِ ذُرِّيَّتِهِمَا مَعَهُمَا، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْجَمْعَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مُرَادٌ بِهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ، وَالْحَيَّةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَيَّةَ لَيْسَتْ مُرَادَّةً فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ قَوَائِمَ أَرْبَعٍ كَالْبُخْتِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ دَابَّةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي فَمِهَا فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، فَوَسْوَسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الدَّوَابِّ فَلَمْ يُدْخِلْهُ إِلَّا الْحَيَّةُ. فَأُهْبِطَ هُوَ إِلَى الْأَرْضِ وَلُعِنَتْ هِيَ وَرُدَّتْ قَوَائِمُهَا فِي جَوْفِهَا، وَجُعِلَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِقَتْلِهَا. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» جُمَلًا مِنْ أَحْكَامِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ. فَذَكَرَ عَنْ سَاكِنَةَ بِنْتِ الْجَعْدِ أَنَّهَا رَوَتْ عَنْ سُرَيَّ بِنْتِ نَبْهَانَ الْغَنَوِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَأَسُوَدِهَا وَأَبْيَضِهَا، وَيُرَغِّبُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثًا فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَتْلِ حَيَّةٍ فَسَبَقَتْهُمْ إِلَى جُحْرِهَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُضْرِمُوا عَلَيْهَا
120
نَارًا. وَذَكَرَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ خَصَّصُوا بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَعَنْ أَنْ يُعَذَّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُحْرَقَ الْعَقْرَبُ بِالنَّارِ، وَقَالَ: هُوَ مُثْلَةٌ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [٧٧]، فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ «اقْتُلُوهَا»، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا» فَلَمْ يُضْرِمْ نَارًا، وَلَا احْتَالَ فِي قَتْلِهَا، وَأَجَابَ هُوَ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نَارًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْجُحْرُ بِهَيْئَةٍ يُنْتَفَعُ بِالنَّارِ هُنَاكَ، مَعَ ضَرَرِ الدُّخَانِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى دَفْعِ الْمُضِرَّةِ الْمُخَوِّفَةِ مِنَ الْحَيَّاتِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ لَا تُقْتَلُ حَتَّى تُؤْذَنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. لِحَدِيثِ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ خَصَّ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا». قَالُوا: وَلَا نَعْلَمُ هَلْ أَسْلَمَ مِنْ جِنِّ غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَوْ لَا. قَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [٤٦ ٢٩]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتَانِي دَاعِيَ الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَفِيهِ سَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ» وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي سُورَةِ «الْجِنِّ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يُقْتَلْ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهِ وَيُنْذَرُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(ثُمَّ قَالَ) : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زَهْرَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينِ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا
121
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ فَإِنَّنِي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ» فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ. فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يَدْرِي أَيْهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى. قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا: فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهُمْ فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ». ثُمَّ قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْجَانَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْفَتَى كَانَ مُسْلِمًا، وَأَنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ بِهِ قِصَاصًا. لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْجِنِّ لَكَانَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهَذَا الْفَتَى لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى قَتْلِ مَا سُوِّغَ قَتْلُ نَوْعِهِ شَرْعًا، فَهَذَا قَتْلٌ خَطَأٌ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ أَوْ فَسَقَتَهُمْ قَتَلُوا الْفَتَى بِصَاحِبِهِمْ عَدْوًا وَانْتِقَامًا. وَقَدْ قَتَلَتْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مُغْتَسَلِهِ وَقَدِ اخْضَرَّ جَسَدُهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ، وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا:
قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهُ
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَتْ جَانًا. فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهَا: لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا. فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ. فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ. فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ: الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي، وَلَا تَلْتَوِي. وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ إِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ:
122
وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِنْذَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: يَكْفِي ثَلَاثَ مِرَارٍ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا»، وَقَوْلُهُ «حَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا» وَلِأَنَّ ثَلَاثًا لِلْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ مُقَيِّدٌ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَيَحْمِلُ ثَلَاثًا عَلَى إِرَادَةِ لَيَالِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ، فَغَلَّبَ اللَّيْلَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ التَّارِيخِ، فَإِنَّهَا تَغْلِبُ فِيهَا التَّأْنِيثُ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا تَبْدُوا لَنَا، وَلَا تُؤْذُونَا. وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا: أَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدُ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُقَالُ: «أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَّا تُؤْذُونَا، وَلَا تَظْهَرْنَ عَلَيْنَا» انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ مُلَخَّصًا قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَيَّاتِ فِي الْبُيُوتِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَالْحَيَّاتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْفَيَافِي، وَأَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ لَا تُقْتَلُ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي عُمُومُ الْإِنْذَارِ فِي الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا تَكْفِي ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَتْ أَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَأَنَّ الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ يُقْتَلَانِ فِي الْبُيُوتِ بِلَا إِنْذَارٍ. لِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُنَّ (يُرِيدُ عَوَامِرَ الْبُيُوتِ) وَأُمِرَ بِقَتْلِ الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ، وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَإِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ. فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ، وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لِأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلْهَا. فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، وَهِيَ الْعَوَامِرُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ
123
الْخَطَّابِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَقَالَ صَالِحٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَابْنُ مُجَمَّعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةُ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ، فَإِنَّهُمَا يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا. فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ. ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَفِي كُلِّهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ يَعْنِي إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثًا. وَعَنْ مَالِكٍ: يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا بِالْمَسَاجِدِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ» هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ. وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقَلِ وَهُوَ شَجَرُ الدَّوْمِ. وَقِيلَ: الْمُقَلُ ثَمَرُ شَجَرِ الدَّوْمِ. وَجَمْعُهَا طُفَى بِضَمٍّ فَفَتَحَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْمُرَادُ بِالطُّفْيَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ: خَطَّانِ أَبْيَضَانِ. وَقِيلَ: أَسْوَدَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، يُشْبِهَانِ فِي صُورَتِهَا خُوصَ الْمُقَلِ الْمَذْكُورَ. وَالْأَبْتَرُ: قَصِيرُ الذَّنَبِ مِنَ الْحَيَّاتِ: وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ صِنْفٌ مِنَ الْحَيَّاتِ أَزْرَقٌ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ الْأَفْعَى الَّتِي تَكُونُ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَامِلَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِمَا وَخَافَتْ أَسْقَطَتْ جَنِينَهَا غَالِبًا. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الْحَبَلِ الْمَذْكُورَ خَاصِّيَّةٌ فِيهِمَا مِنْ سُمِّهِمَا. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى «يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهِمَا مِنْ شِدَّةٍ سُمِّهِمَا خَاصِّيَّةً يَخْطِفَانِ بِهَا الْبَصَرَ، وَيَطْمِسَانِهِ بِهَا بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ، وَالنَّهْشِ ضَعِيفٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهَا. لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِلنَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [٢٠ ١٢٣]، عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ بَنِي آدَمَ عَدُوٌّ لِبَعْضِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [٦ ٦٥]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
124
بِقَوْلِهِ اهْبِطَا آدَمُ وَإِبْلِيسُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَعْدَاءٌ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [١٨ ٥٠]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ إِحْرَاقِ الْحَيَّةِ بِالنَّارِ لَمْ يَثْبُتْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْتَلَ بِالنَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ الَّتِي قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرٍ ذِي طُفْيَتَيْنِ» يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَاحِدٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَجَابَ عَنْ هَذَا. بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرُهَا اتِّحَادُهُمَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِأَنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ: أَنَّ الْأَبْتَرَ وَإِنْ كَانَ ذَا طُفْيَتَيْنِ فَلَا يُنَافِي وُجُودَ ذِي طُفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي آدَمَ. أَيْ: فَإِنْ يَأْتِكُمْ مِنِّي هُدًى أَيْ: رَسُولٌ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ، وَكِتَابٌ يَأْتِي بِهِ رَسُولٌ، فَمَنِ اتَّبَعَ مِنْكُمْ هُدَايَ أَيْ: مَنْ آمَنَ بِرُسُلِي وَصَدَّقَ بِكُتُبِي، وَامْتَثَلَ مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَيْتُ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِي. فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَا يَزِيغُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ لِاسْتِمْسَاكِهِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَامِلًا بِمَا يَسْتَوْجِبُ السَّعَادَةَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رُسُلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْآيَةَ ٣٨]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ أَبَوَيْنَا مِنَ الْجَنَّةِ لَا يَرُدُّ إِلَيْهِمَا أَحَدًا مِنَّا إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَالِامْتِحَانِ بِالتَّكَالِيفِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، ثُمَّ يُطِيعُ اللَّهَ فِيمَا ابْتَلَاهُ بِهِ. كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا الْآيَةَ [١٣ ٥٧] الْآيَاتُ الْمُوَضَّحَةُ نَتَائِجَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَخِيمَةِ. فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْهَا الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ. وَاعْلَمْ
125
أَنَّ الضَّنْكَ فِي اللُّغَةِ: الضِّيقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا أَشْدُدْ وَإِنْ يُلْفَوْا بِضَنْكٍ أَنْزِلُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمَنْزِلِ
وَأَصْلُ الضَّنْكِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ، وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ، وَالْجَمْعُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعِيشَةً ضَنْكًا أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَيْشِ الضَّيِّقِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ شُمُولَ الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ، وَالْقَنَاعَةَ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقِسْمَتِهِ فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ، فَيَعِيشُ عَيْشًا هَنِيئًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [١٦ ٩٧] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الْآيَةَ [١١ ٣] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطْمَحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا مُسَلِّطٌ عَلَيْهِ الشُّحَّ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ. وَمِنَ الْكَفَرَةِ مَنْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ، وَالْمَسْكَنَةَ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتِ [٢ ٦١]. وَذَلِكَ مِنَ الْعَيْشِ الضَّنْكِ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ تَعَالَى أَنَّ عَيْشَهُمْ يَصِيرُ وَاسِعًا رَغْدًا لَا ضَنْكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْآيَةَ [٥ ٦٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٧ ٩٦] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [٧١ ١٠ - ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ هُودٍ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [١١ ٥٢]
126
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ الْآيَةَ [٧٢ ١٦ - ١٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ: هِيَ طَعَامُ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ الْآيَةَ [٨٨ ٦] وَقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ الْآيَةَ [٤٤ ٤٣ - ٤٤] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: الْكَسْبُ الْحَرَامُ، وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَضَغْطَتُهُ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ فِي قَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [١٤ ٢٧]، .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ فِي الْآيَةِ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَبَعْضُ طُرُقِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ شُمُولُ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَعِيشَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَطَعَامِ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ. فَتَكُونُ مَعِيشَتَهُ ضَنْكًا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ يَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَعْمَى. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ: أَعْمَى أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْمَى أَيْ: أَعْمَى الْبَصَرِ لَا يَرَى شَيْئًا. وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا [٢٠ ١٢٥]، فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَمَاهُ هُوَ الْعَمَى الْمُقَابِلُ لِلْبَصَرِ وَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ زَادَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْعَمَى يُحْشَرُ أَصَمَّ أَبْكَمَ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
127
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [١٧ ٩٧].
تَنْبِيهٌ
فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ وَآيَةِ " الْإِسْرَاءِ " الْمَذْكُورَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وَزَادَتْ آيَةُ " الْإِسْرَاءِ " أَنَّهُ يُحْشَرُ أَبْكَمَ أَصَمَّ أَيْضًا، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [١٩ ٣٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا الْآيَةَ [١٨ ٥٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا الْآيَةَ [٣٢ ١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَمَى، وَالصَّمَمِ، وَالْبَكَمِ حَقِيقَتُهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَنُطْقَهُمْ وَسَمْعَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا، وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَبْصِرُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْمَعُونَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ نَزَلَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَسْمَعُونَهُ وَيُبْصِرُونَهُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَا شَيْءَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ الْآيَةَ [٢ ١٨] مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ فِيهِمْ: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [٣٣ ١٩]، وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [٦٣ ٤]، أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ. وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [٢ ٢٠]، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَلَا شَيْءٍ: فَيَصْدُقُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَأَبْكَمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَعْنَبِ بْنِ أُمِّ صَاحِبٍ:
128
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
أَصَمُّ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ وَأَسْمَعُ خَلْقِ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءَ
وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ إِطْلَاقِ الصَّمَمِ عَلَى السَّمَاعِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالرُّؤْيَةُ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ لَهُمْ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [٢٣ ١٠٨] وَقَعَ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَمَى، وَالصَّمَمُ، وَالْبَكَمُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالْيَأْسِ مِنَ الْفَرَجِ، قَالَ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [٢٧ ٨٥]، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ مُقَدَّرَةً، أَعْنِي قَوْلَهُ فِي " طه ": وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [٢٠ ١٢٥]، وَقَوْلُهُ فِيهَا: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَوْلُهُ فِي " الْإِسْرَاءِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [١٧ ٩٧]، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [٢٠ ١٢٦] مِنَ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَمْدًا كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. [٢٠ ١١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُجَازِي الْمُسْرِفِينَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْمَذْكُورَ. وَقَدْ دَلَّ مَسْلَكَ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لِعِلَّةِ إِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الطُّغْيَانِ وَالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ جَزَاءَ الْإِسْرَافِ النَّارُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [٤٠ ٤٣]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُنِيبُوا إِلَى اللَّهِ وَيَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [٣٩ ٥٢ - ٥٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. أَيْ: أَشَدُّ أَلَمًا وَأَدْوَمُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ الَّتِي هِيَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [٤١ ١٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٦٨ ٣٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. تَقَدَّمَ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَسَيَأْتِي لَهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا - عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّعَنُّتِ - آيَةً عَلَى النُّبُوَّةِ كَالْعَصَا وَالْيَدِ مِنْ آيَاتِ مُوسَى، وَكَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَاقْتِرَاحِهِمْ لِذَلِكَ بِحَرْفِ التَّحْضِيضِ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ الْحَضِّ فِي طَلَبِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا يَأْتِينَا [٢٠ ١٣٨]، أَيْ: هَلَّا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ: كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، أَيْ: نَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَضٍّ وَحَثٍّ. فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [٢٠ ١٣٣] وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ هِيَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ وَأَدَلُّهَا عَلَى الْإِعْجَازِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا: كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [٥ ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣ ٩٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَظْهَرُ أَوْضَحَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٢٩
- ٥١] فَقَوْلُهُ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [٢٩ ٥١] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي «طه» :
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُوتِيَ مَا آمَنَ الْبَشَرُ عَلَى مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ آيَةَ «طه» هَذِهِ تُشِيرُ إِلَى مَعْنَاهَا آيَةُ «الْقَصَصِ» الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ ٤٧]، وَأَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا لَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [٤ ١٦٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا: كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُتَرَبِّصٌ، أَيْ: مُنْتَظِرٌ مَا يَحِلُّ بِالْآخَرِ مِنَ الدَّوَائِرِ، كَالْمَوْتِ، وَالْغَلَبَةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُ خَيْرٌ، بِعَكْسِ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَتَرَبَّصُ الْكُفَّارُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [٩ ٥٢]، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ الْآيَةَ [٩ ٩٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَيَعْلَمُونَ فِي ثَانِي حَالٍ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى. أَيْ: وُفِّقَ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالدَّيْمُومَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: سَيَتَّضِحُ لَكُمْ أَنَّا مُهْتَدُونَ، وَأَنَّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ. وَهَذَا يَظْهَرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَهُ مَنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
131
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [٢٥ ٤٢]، وَقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [٥٤ ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [٣٨ ٨٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالصِّرَاطُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ. وَالسَّوِيُّ: الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ وَ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ مَنْ أَصْحَابُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «تَعْلَمُونَ». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي «مَرْيَمَ»، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
132
Icon