تفسير سورة سورة طه من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
ﭵ
ﰀ
قَوْلُهُ تَعَالَى: طه.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «الشُّعَرَاءِ» طسم [٢٦ ١] وَفَاتِحَةِ «النَّمْلِ» طس [٢٧ ١]. وَفَاتِحَةِ «الْقَصَصِ» وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [١٩ ١] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ طه: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. قَالُوا: وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَبَنِي طَيِّئٍ، وَبَنِي عُكْلٍ، قَالُوا: لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ:
وَيُرْوَى مُزَايِلًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَعْنَى (طه) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ:
وَيُرْوَى:
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى «طه» : يَا رَجُلُ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبْزَى، وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ «طه» يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ:
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «الشُّعَرَاءِ» طسم [٢٦ ١] وَفَاتِحَةِ «النَّمْلِ» طس [٢٧ ١]. وَفَاتِحَةِ «الْقَصَصِ» وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [١٩ ١] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ طه: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. قَالُوا: وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَبَنِي طَيِّئٍ، وَبَنِي عُكْلٍ، قَالُوا: لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ:
دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ | فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا |
إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ | لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ |
إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ | لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ |
رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً | فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ |
وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ. وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ:
الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. أَيْ لِتَتْعَبَ التَّعَبَ الشَّدِيدَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ جَاءَتْ بِنَحْوِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [٣٥ ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ ٦] وَقَوْلِهِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ تُنْهِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ. وَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ تَدُلُّ لَهُ ظَوَاهِرُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [٢٢ ٧٨]، وَقَوْلِهِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢ ١٨٥]. وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَشْقَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لِيَسْعَدَ. كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ، وَيُشْبِهُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الْآيَةَ
[٧٣ ٢٠]. وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْعَنَاءُ، وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [٢٠ ١١٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، أَيْ إِلَّا لِأَجْلِ التَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَهُ. وَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ. فَتَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَتَجْتَنِبُ نَهْيَهُ. وَخَصَّ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يَخْشَى دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [٥٠ ٤٥]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [٣٦ ١١] وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [٧٩ ٤٥]. فَالتَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ بِمَنْ تَنْفَعُ فِيهِمُ الذِّكرَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [٨١ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [٦ ٩٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِعْرَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَإِعْرَابُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْضًا غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا التَّعَبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا.
فِي قَوْلِهِ تَنْزِيلًا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِنَزَّلَ مُضْمَرَةً دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَا سِحْرٍ، وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا دَلَّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٦٩ ٤١]، وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ،
ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ | وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، أَيْ إِلَّا لِأَجْلِ التَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَهُ. وَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ. فَتَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَتَجْتَنِبُ نَهْيَهُ. وَخَصَّ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يَخْشَى دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [٥٠ ٤٥]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [٣٦ ١١] وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [٧٩ ٤٥]. فَالتَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ بِمَنْ تَنْفَعُ فِيهِمُ الذِّكرَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [٨١ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [٦ ٩٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِعْرَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَإِعْرَابُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْضًا غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا التَّعَبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا.
فِي قَوْلِهِ تَنْزِيلًا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِنَزَّلَ مُضْمَرَةً دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَا سِحْرٍ، وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا دَلَّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٦٩ ٤١]، وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ،
كَقَوْلِهِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ١٩٢]، وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٣٩ ١] وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [٤١ ٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ: إِنْ يَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أَيْ يَقُولُهُ جَهْرَةً فِي غَيْرِ خَفَاءٍ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا ذَكَرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٦٧ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [١٦ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [٤٧ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٥ ٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَخْفَى أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ كُلُّهَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهَا قُرْآنٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ سِرًّا وَأَخْفَى أَيْ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ ١٦]. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [٢٣ ٦٣]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣ ٣٢] فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ. وَمَا سَيُسِرُّهُ غَدًا. وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَخْفَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَمَا بَيَّنَّا، أَيْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ: إِنْ يَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أَيْ يَقُولُهُ جَهْرَةً فِي غَيْرِ خَفَاءٍ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا ذَكَرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٦٧ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [١٦ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [٤٧ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٥ ٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَخْفَى أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ كُلُّهَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهَا قُرْآنٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ سِرًّا وَأَخْفَى أَيْ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ ١٦]. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [٢٣ ٦٣]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣ ٣٢] فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ. وَمَا سَيُسِرُّهُ غَدًا. وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ | وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ |
وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ «أَخْفَى» فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ الْخَلْقِ، وَأَخْفَى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ. كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [٢٠ ١١٠] ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [٧ ٥٥]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [٧ ٢٠٥]. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابَهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى. وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي آيَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [٢ ٢٥٥]، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [٤٧ ١٩].
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، وَزَادَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [٧ ١٨٠]، وَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [١٧ ١١٠] وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَهْدِيدَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٧ ١٨٠].
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْ إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ خَلْقَهُ، كَحَدِيثِ: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: الْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَسْمَاءَهُ جَلَّ وَعَلَا بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مُطْلَقًا وَجَمْعَ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمُؤَنَّثَةِ الْوَاحِدَةِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [٧ ٥٥]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [٧ ٢٠٥]. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابَهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى. وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي آيَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [٢ ٢٥٥]، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [٤٧ ١٩].
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، وَزَادَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [٧ ١٨٠]، وَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [١٧ ١١٠] وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَهْدِيدَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٧ ١٨٠].
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْ إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ خَلْقَهُ، كَحَدِيثِ: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: الْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَسْمَاءَهُ جَلَّ وَعَلَا بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مُطْلَقًا وَجَمْعَ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمُؤَنَّثَةِ الْوَاحِدَةِ
الْمَجَازِيَّةِ التَّأْنِيثِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ هُنَا الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مِنْ وَصْفِ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ قَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [٢٠ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: مَآرِبُ أُخْرَى [٢٠ ١٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى الْآيَاتِ [٢٠ ٩].
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [الْآيَةِ ٥٢] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: دَلَّ قَوْلُهُ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي بِالتَّنْكِيرِ، وَالْإِفْرَادِ، وَإِتْبَاعُهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَةَ جَمِيعِ مَا بِلِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ، بَلْ سَأَلَ إِزَالَةَ بَعْضِهَا الَّذِي يَحْصُلُ بِإِزَالَتِهِ فَهْمُ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهَا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا الْآيَةَ [٢٨ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [٤٣ ٥٢]، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ فِرْعَوْنٍ عَنْ مُوسَى، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَالْبُهْتَانِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ مَنَّ عَلَى مُوسَى مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ مَنِّهِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَرِسَالَةِ أَخِيهِ مَعَهُ، وَذَلِكَ بِإِنْجَائِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، إِذْ أَوْحَى إِلَى أُمِّهِ أَيْ أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي قَلْبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْحَى إِلَيْهَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَلَّمَهَا بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيحَاءِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ الْمُوحَى إِلَيْهِ نَبِيًّا، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا يُوحَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ.
كَقَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [٢٠ ٧٨]، وَقَوْلِهِ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [٥٣ ١٠]، وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالسَّاحِلُ: شَاطِئُ الْبَحْرِ. وَالْبَحْرُ الْمَذْكُورُ: نِيلُ مِصْرَ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ، وَالْوَضْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [٣٣ ٢٦] وَمَعْنَى اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أَيْ ضَعِيهِ فِي الصُّنْدُوقِ.
وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعِ سِوَى السَّالِمِ مِنْ | مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مِنْ إِحْدَى اللَّبِنْ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى الْآيَاتِ [٢٠ ٩].
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [الْآيَةِ ٥٢] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: دَلَّ قَوْلُهُ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي بِالتَّنْكِيرِ، وَالْإِفْرَادِ، وَإِتْبَاعُهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَةَ جَمِيعِ مَا بِلِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ، بَلْ سَأَلَ إِزَالَةَ بَعْضِهَا الَّذِي يَحْصُلُ بِإِزَالَتِهِ فَهْمُ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهَا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا الْآيَةَ [٢٨ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [٤٣ ٥٢]، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ فِرْعَوْنٍ عَنْ مُوسَى، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَالْبُهْتَانِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ مَنَّ عَلَى مُوسَى مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ مَنِّهِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَرِسَالَةِ أَخِيهِ مَعَهُ، وَذَلِكَ بِإِنْجَائِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، إِذْ أَوْحَى إِلَى أُمِّهِ أَيْ أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي قَلْبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْحَى إِلَيْهَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَلَّمَهَا بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيحَاءِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ الْمُوحَى إِلَيْهِ نَبِيًّا، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا يُوحَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ.
كَقَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [٢٠ ٧٨]، وَقَوْلِهِ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [٥٣ ١٠]، وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالسَّاحِلُ: شَاطِئُ الْبَحْرِ. وَالْبَحْرُ الْمَذْكُورُ: نِيلُ مِصْرَ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ، وَالْوَضْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [٣٣ ٢٦] وَمَعْنَى اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أَيْ ضَعِيهِ فِي الصُّنْدُوقِ.
8
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ فَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّابُوتِ. وَالصَّوَابُ رُجُوعُهُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، لِأَنَّ تَفْرِيقَ الضَّمَائِرِ غَيْرُ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [٢٠ ٣٩] هُوَ فِرْعَوْنُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: فَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً، إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ أُرِيدَ بِهَا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ ٨٢] فَالْبَحْرُ لَا بُدَّ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُشْبِهُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [١٩ ٧٥].
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [٢٨ ٧ - ٨] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ جَزَعِ أُمِّهِ عَلَيْهِ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَأَخَذَهُ عَدُوُّهُ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ ١٠].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَأْخُذْهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَالْجَزْمُ مُرَاعَاةٌ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا صَنَعَتْ لَهُ التَّابُوتَ وَطَلَتْهُ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ لِئَلَّا يَتَسَرَّبَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، وَحَشَتْهُ قُطْنًا مَحْلُوجًا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّابُوتَ الْمَذْكُورَ مِنْ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ، وَأَنَّ الَّذِي نَجَرَهُ لَهَا هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَاسْمُهُ حِزْقِيلَ. وَكَانَتْ عَقَدَتْ فِي التَّابُوتِ حَبْلًا فَإِذَا خَافَتْ عَلَى مُوسَى مِنْ عُيُونِ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا أَمِنَتْ جَذَبَتْهُ إِلَيْهَا بِالْحَبْلِ. فَذَهَبَتْ مَرَّةً لِتَشُدَّ الْحَبْلَ فِي مَنْزِلِهَا فَانْفَلَتَ مِنْهَا وَذَهَبَ الْبَحْرُ بِالتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ مُوسَى فَحَصَلَ لَهَا بِذَلِكَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا الْآيَةَ [٢٨ ١٠].
أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: فَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً، إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ أُرِيدَ بِهَا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ ٨٢] فَالْبَحْرُ لَا بُدَّ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُشْبِهُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [١٩ ٧٥].
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [٢٨ ٧ - ٨] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ جَزَعِ أُمِّهِ عَلَيْهِ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَأَخَذَهُ عَدُوُّهُ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ ١٠].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَأْخُذْهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَالْجَزْمُ مُرَاعَاةٌ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا صَنَعَتْ لَهُ التَّابُوتَ وَطَلَتْهُ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ لِئَلَّا يَتَسَرَّبَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، وَحَشَتْهُ قُطْنًا مَحْلُوجًا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّابُوتَ الْمَذْكُورَ مِنْ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ، وَأَنَّ الَّذِي نَجَرَهُ لَهَا هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَاسْمُهُ حِزْقِيلَ. وَكَانَتْ عَقَدَتْ فِي التَّابُوتِ حَبْلًا فَإِذَا خَافَتْ عَلَى مُوسَى مِنْ عُيُونِ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا أَمِنَتْ جَذَبَتْهُ إِلَيْهَا بِالْحَبْلِ. فَذَهَبَتْ مَرَّةً لِتَشُدَّ الْحَبْلَ فِي مَنْزِلِهَا فَانْفَلَتَ مِنْهَا وَذَهَبَ الْبَحْرُ بِالتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ مُوسَى فَحَصَلَ لَهَا بِذَلِكَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا الْآيَةَ [٢٨ ١٠].
9
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ عَلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [٢٠ ٣٧] أَشَارَ إِلَى مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ الْآيَةَ [٣٧ ١١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.
مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَلْقَاهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْقَصَصِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [٢٨ ٩]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي: أَيْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَةٌ، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشِقَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.
اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «إِذْ» مِنْ قَوْلِهِ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَقِيلَ: هُوَ «أَلْقَيْتُ» أَيَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ «تُصْنَعَ» أَيْ «تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ «إِذْ» فِي قَوْلِهِ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ [٢٠ ٣٨].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ: لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا. فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ أُخْتِهِ مَشَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» فَبَيَّنَ أَنَّ أُخْتَهُ الْمَذْكُورَةَ مُرْسَلَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا لِتَتَعَرَّفَ خَبَرَهُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهَا أَبْصَرَتْهُ مِنْ بَعْدُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا. فَقَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَيْ عَلَى مُرْضِعٍ يَقْبَلُ هُوَ ثَدْيَهَا وَتَكْفُلُهُ لَكُمْ بِنُصْحٍ وَأَمَانَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٨ ١١ - ١٣]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.
مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَلْقَاهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْقَصَصِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [٢٨ ٩]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي: أَيْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَةٌ، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشِقَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.
اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «إِذْ» مِنْ قَوْلِهِ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَقِيلَ: هُوَ «أَلْقَيْتُ» أَيَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ «تُصْنَعَ» أَيْ «تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ «إِذْ» فِي قَوْلِهِ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ [٢٠ ٣٨].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ: لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا. فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ أُخْتِهِ مَشَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» فَبَيَّنَ أَنَّ أُخْتَهُ الْمَذْكُورَةَ مُرْسَلَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا لِتَتَعَرَّفَ خَبَرَهُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهَا أَبْصَرَتْهُ مِنْ بَعْدُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا. فَقَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَيْ عَلَى مُرْضِعٍ يَقْبَلُ هُوَ ثَدْيَهَا وَتَكْفُلُهُ لَكُمْ بِنُصْحٍ وَأَمَانَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٨ ١١ - ١٣]
10
فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» هَذِهِ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ أَيْ قَالَتْ أُمُّ مُوسَى لِأُخْتِهِ وَهِيَ ابْنَتُهَا قُصِّيهِ أَيِ اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَتَطَلَّبِي خَبَرَهُ حَتَّى تَطَّلِعِي عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أَيْ رَأَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ كَالْمُعْرِضَةِ عَنْهُ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ جَاءَتْ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَنْ يَقْبَلَ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ أَيْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لِيَتَيَسَّرَ بِذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَى أُمِّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ غَيْرَهَا أَعْطَوْهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي قَبِلَهُ لِيُرْضِعَهُ وَيَكْفُلَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أُمِّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا وَقَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ لَهُ وَشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ؟
فَقَالَتْ لَهُمْ: نُصْحُهُمْ لَهُ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَةً فِي سُرُورِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا. فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ قَبِلَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلَتْهَا «آسِيَةُ» أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ، وَالصِّلَاتِ، وَالْكَسَاوَى، وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ، وَرِزْقِ دَارٍ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» : وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [٢٨ ١٣] وَعْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٢٨ ٧]، وَالْمُؤَرِّخُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أُخْتَ مُوسَى الْمَذْكُورَةَ اسْمُهَا «مَرْيَمُ» وَقَوْلُهُ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا إِنْ قُلْنَا فِيهِ: إِنَّ «كَيْ» حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ فَاللَّامُ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لِكَيْ تَقَرَّ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَقَوْلُهُ تَقَرَّ عَيْنُهَا قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقَرَارِ. لِأَنَّ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ تَسْكُنُ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ: كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَقَوْلُهُ: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أَيْ رَأَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ كَالْمُعْرِضَةِ عَنْهُ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ جَاءَتْ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَنْ يَقْبَلَ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ أَيْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لِيَتَيَسَّرَ بِذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَى أُمِّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ غَيْرَهَا أَعْطَوْهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي قَبِلَهُ لِيُرْضِعَهُ وَيَكْفُلَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أُمِّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا وَقَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ لَهُ وَشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ؟
فَقَالَتْ لَهُمْ: نُصْحُهُمْ لَهُ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَةً فِي سُرُورِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا. فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ قَبِلَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلَتْهَا «آسِيَةُ» أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ، وَالصِّلَاتِ، وَالْكَسَاوَى، وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ، وَرِزْقِ دَارٍ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» : وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [٢٨ ١٣] وَعْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٢٨ ٧]، وَالْمُؤَرِّخُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أُخْتَ مُوسَى الْمَذْكُورَةَ اسْمُهَا «مَرْيَمُ» وَقَوْلُهُ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا إِنْ قُلْنَا فِيهِ: إِنَّ «كَيْ» حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ فَاللَّامُ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لِكَيْ تَقَرَّ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَقَوْلُهُ تَقَرَّ عَيْنُهَا قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقَرَارِ. لِأَنَّ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ تَسْكُنُ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ: كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: