ﰡ
تفسير سورة الحج عدد ١٧- ١٠٣- ٥٢
نزلت بمكة بعد سورة النّور. وهي ثمان وسبعون آية والف ومئتان وإحدى وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمس وسبعون حرفا. ومنها الآيات من ٥٢ إلى ٥٥ نزلن بين مكة والمدينة ومثلها في عدد الآي سورة الرّحمن. وتقدمت السّور المبدوءة بما بدئت فيه سورة النّساء ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ» واحذروا مخالفته «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ» التي أمرها بيده «شَيْءٌ عَظِيمٌ» (١) جدا ولا أعظم بمن وصفه الله بالعظمة. ثم ذكر من أهوالها ما أوجب وصفها بالعظمة بقوله جل قوله «يَوْمَ تَرَوْنَها»أي الزلزلة وهي حركة الأرض بشدة هائلة واضطرابها بقوة فظيعة، عند اذن الله تعالى بخراب الأرض وانقراض هذا الكون، وحينذاك «تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ»
فتنساه كأنه ما كان لما يلحقها من الدّهشة المزعجة «وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها»
من كبير الفزع وجليل الخوف على فرض وقوع هذه الزلزلة في الدّنيا فإن المرضعة
أيها النّاظر إليهم إذ ذاك إذا تأتي منك النّظر «سُكارى»
بلا شراب حياري لهول ما يشاهدون من الخوف القاطع للقلوب «وَما هُمْ بِسُكارى»
حقيقة، ولكنهم على هيئة وصورة الثمل الغافل الحائر مما يشاهد ما يحل به وبغيره في ذلك الموقف العظيم، إذ تتفتت فيه الأكباد، وترتعد فيه الفرائض، وتتلجلج فيه القلوب، فتبلغ الحناجر لأن ما هم قادمون عليه ليس بملك ظالم ولا سلطان غاشم يؤمل الخلاص منهما «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
(٢) لا مخلص منه، لذلك قد أرهقهم خوف لحوقة بهم وأذهب عقولهم رؤياه، فأفقدهم رشدهم، وأضاع تمييزهم، وأزال معرفتهم حالهم، وأشغل كلا بنفسه.
مطلب في أهوال القيامية وكيفية الخلق وترتيبه وما قاله صاحب الجمل:
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النّار، قال يا رب وما بعث النّار؟ قال في كلّ الف تسعمائة وتسع وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى النّاس سكارى الآية، فشق ذلك على النّاس حتى تغيرت وجوههم، قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرّجل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في النّاس كالشعرة السّوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار (الرقمة معروفة وهي كالفلس في ذراع الحمار والبغل أيضا) (وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال ثلاث أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال شطر أهل الجنّة، فكبرنا. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» لشدة جهله «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» (٣) متشيطن مضلّ عات في جداله. واعلم أنه لا يوقف على مريد لأن ما بعده صفة له، ولذلك
، أما غيرهم فقد يرجعون لحالة الطّفولة «لِكَيْلا يَعْلَمَ» شيئا «مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ» كان يعلمه قبل الكبر «شَيْئاً» أبدا لأنه ينساه ولا يخطر بباله حيث يفقد العقل والتمييز، راجع نظير هذه الآية الآية ٧١ من سورة النحل في ج ٢ ونظيرتها الآية ٦٨ من سورة يس في ج ١ تجد ما به الكفاية في هذا الشّأن. وهذا دليل حسي على البعث بعد الموت، وفي الدّلائل الحسية أيضا «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» ميتة يابسة لا شيء فيها ونظيرتها آية فصلت ٤٠ خاشعة راجعها في ج ٢ أي ذليلة وهما من حيث المعنى سواء «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» بالنبات والأزهار «وَرَبَتْ» انتفخت وارتفعت لتغلغل الري فيها وخروج النّبات منها «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (٥) يسر الناظر حسنه واستواؤه وجماله راجع الآية ٦٧ من سورة المؤمن في ج ٢ تجد ما يتعلق بهذا البحث بصورة واضحة «ذلِكَ» الذي ذكر من كيفية بدء الخلق وإحياء الأرض والنّبات لتعلموا أيها النّاس «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» لا ريب فيه في ذاته وأفعاله وأوامره لا من غيره «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٦) لا يعجزه شيء وإن إعادة من خلقه هي أهون عليه من خلقه ابتداعا «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
(٧) أحياء كما كانوا في الدّنيا قص الله في هذه الآية على أهل المدينة حالة النضر بن الحارث الذي كان يكثر الجدل بانكار البعث ويقول إن الملائكة بنات الله وقد أنزل الله في مكة بحقه الآيات الكثيرة ليعلموا حال المنكرين أمثاله كأبي ابن خلف وأضرابه العريقين في الشّرك والمخاصمة، كما أنه جل شأنه قصّ حال أبي جهل واضرابه كعيقة بن معيط الّذين أنزل الله تعالى فيهم الآيات الكثيرة الحاكية بغضهم وعنادهم وكفرهم وعداوتهم لحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم في مكة أيضا في هذه السّورة المدنية على شأنهم، فقال جل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» (٨) بل جهلا وضلالا وعتوا وعناد «ثانِيَ عِطْفِهِ» لاوي عنقه وجنبه عن حضرة الرّسول متبختر متكبر آنفا معرضا عن الله «لِيُضِلَّ» بعمله هذا النّاس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وعن الإيمان وكتبه ورسله فمثل هذا الخبيث الصّادر عن ذلك «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» من أنواع الهوان والذل والمهانة والرّذالة، وقد قتل في بدر صبرا تحقيرا له «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» (٩) الذي لا تطيقه القوى البشرية ويقال له «ذلِكَ» الذي لا قيته من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة أصابك «بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» من تكذيب محمد والتكبر عن دينه والاستهزاء به واختيارك الشّرك على التوحيد وإنكارك هذا اليوم والحياة فيه. وما وقع عليك من هذا ليس بظلم لك، بل جزاء عملك باختيارك واقترافك القبائح «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (١٠) بل يجازي المسيء بحسب إساءته ويكافيء المحسن بأحسن من إحسانه. هذا، وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآيات نزلت في النّضر وأبي جهل أراد أن شبهها نزل فيها في مكة، وإن هذه الآيات نزلت في المدينة تبعا لسورتها حكاية عن تلك الآيات المكيات وقد تلاها حضرة الرّسول على أهل المدينة بيانا لحال أولئك الكفرة لا إنها نزلت فيها ثانيا، لأنهم قتلوا قبل نزولها، ولأن شيئا من القرآن لم ينزل مرتين كما ذكرناه غير مرة وأوضحناه في سورة الفاتحة ج ١، ولهذا قال بعضهم إنها مكيات. قال تعالى
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ» وطرف من الدّين لا في وسطه وقلبه، لأن الإيمان إذا لم يتغلغل في القلب ولم يذق صاحبه
مطلب ظهور غبن الكفرة وأهل الأديان السّتة والسّجود لله تعالى وضرب المثل به:
«يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ» إن عصاه «وَما لا يَنْفَعُهُ» إن أطاعه «ذلِكَ» دعاؤه من دون الله «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (١٢)، عن الصواب لأن هذا الخاسر الضّال «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ» في طاعته وعبادته «أَقْرَبُ» له «مِنْ نَفْعِهِ» الذي كان يتوخاه منه في الدّنيا ويتوقع نفعه في الآخرة من الشفاعة وغيرها، أي أنه يدعو لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا، ويقال له في ذلك اليوم أن المولى الذي تدعوه «لَبِئْسَ الْمَوْلى» أي الناصر الذي ترجو معونته فيها «وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» (١٣) المصاحب والخليل المرافق هذا وقد ظن بعضهم أن هنا تناقضا، وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إذ نفى النّفع والضّر عن الأصنام، وقد
الحبل أي يخنق نفسه فيه وسمى الإخناق قطعا، لأن المختنق يقطع نفسه يحبس مجاريه وبعد ذلك «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ» ذلك بنفسه «ما يَغِيظُ» (١٥) أي الذي يغيظه وهو نصر الله له كلا لا يرد من خنقه شيئا بل يبقى كيده في نحره، وفيه قيل:
ان لم تكوني بهذا الحال راضية | فدونك اليوم هذا الحبل فانشنقي |
قال بلى، قتلت ثلاثة وإني لأرجو أن أدخل الجنّة بسبب قتلهم، وعدّ منهم رجلا أمره بالصلاة فقال ما يمنعني منها إلّا سجودها وركوعها لما يبدو من ذلك من تمثل العورة، أي أنه يأنف من ذلك ولو كان أمام الله، فقتله لذلك وما ذلك على الله بعزيز إذا حسنت نية الحجاج «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» لكفرهم وابائهم عن السّجود مثل هذا الذي ذكره الحجاج لأن من يستكبر أن يسجد لله فهو كافر «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ» بالشقاوة الواقعة منه عن رغبة واختيار «فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» بالسعادة التي أعرض عن أسبابها فسببت له الذل، ومن يذلّه الله لا يكرمه النّاس ولا يصيرونه مكرما عندهم، لأنه مهان عند ربه «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» (١٨) من إكرام أناس وإهانة آخرين بمقتضى أعمالهم ومنهم يسجد قولا ويأنف فعلا كالمار ذكره، ومنهم من لا يسجد قولا ولا فعلا كالكفرة، أما الطّيور والحيوانات والكواكب والجبال والأشجار والنّبات فتسجد
ثم بين مبالغة تأثيره فيهم بقوله «يُصْهَرُ» يذاب «بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ» من الشّحوم والأحشاء والأمعاء «وَالْجُلُودُ» (٢٠) يذيبها أيضا
«وَلَهُمْ» عذاب آخر وهو «مَقامِعُ» سياط «مِنْ حَدِيدٍ» (٢١) يضربون بها «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ» من غمومها الكثيرة وحاولوا الهرب للتخلص من كربها وصعوبة بلائها «أُعِيدُوا فِيها» أعادتهم ملائكة العذاب إليها عنفا وقسرا بالضرب والكبح ويقولون توبيخا لهم وتقريعا حال ضربهم وردهم إليها «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (٢٢) وهذا حكم الله تعالى يوم القيامة على فريق الكافرين أهل النّار، أما حكمه على المؤمنين أهل الجنّة فهو ما ذكره بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»
(٢٣) ويسميه العراقيون إبريسم، وهو المفتول منه عرفا «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ» وهو ما ذكره الله تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٢٥ من سورة فاطر ج ١ وبقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية ٧٥ من سورة الزمر ج ٢ «وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» (٢٤) الطريق المحمود الموصل إلى جنته بسلام. هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في
الحرم لما جاز له ذلك ولم يقروه عليه، أما ما قاله عبد الرّحمن بن سابط من أن الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهلها بأحق في منزلة منهم، وما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة في المعنى الذي ذكره عبد الرّحمن، لا يدل على أنها من جملة الحرم الذي يشترك فيه النّاس أجمع وإنما يدل على كرم أخلاق أهل مكة وحسن قراهم للضيف، ومساواتهم له بأنفسهم وجعلهم الضّيف كأحد في منازلهم، وهو على حد قوله:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا | نحن الضّيوف وأنت رب المنزل |
قال تعالى «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي واذكر يا سيد لرسل لقومك زمن إظهار البيت لجدك ابراهيم وجعلنا إياه له متوأ ومسكنا يسكن يه ومأوى يرجع إليه، وذلك حين أمره الله ببنائه بعد الطّوفان، وكان لم يدر مكانه الذي كان فيه قبل الطّوفان لا ندثاره، قالوا بعث الله ريحا خجوجا هي لشديدة الحر أو المتلوية في هبوبها. ومعنى الحج الدفع والشّق والالتواء والجماع، وله معان أخر غير هذه، فكنست ما حوله حتى ظهر وبرز أساسه، فعمره على النّحو الذي ذكر في سورة البقرة في الآية ١٣٦ المارة، وقلنا له «أَنْ لا تُشْرِكْ
من الأشياء سماويا أو أرضيا «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» من أقذار الأوثان وأوساخ الكفر ليكون نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس كما كان من قبل حين بنته الملائكة وآدم من بعدهم، وأبحه «لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ» فيه «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (٢٦) لجلالي وعظمتي «وَأَذِّنْ» أعلم وناد «فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» قالوا فقال يا رب وما يبلغ صوتي في وسيع ملكك، فقال تعالى عليك الأذان وعلينا الإسماع والإبلاغ، فقام عليه السّلام على المقام المعروف اليوم وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، وقال بأعلى صوته أيها النّاس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم، فأجابه كلّ من يحج إلى يوم القيامة من الموجودين على ظهر الأرض إذ ذاك، ومن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ممن كتب الله له الحج، قائلا لبيك اللهم لبيك. ولا يقال في هذا لأن المستمع هو الذي خاطب خلقه في عالم الذرّ بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كما تقدم في الآيتين ١٧٢ و ١٧٣ من سورة الأعراف المارة في ج ١. وإياك أن تستعبد هذا الإسماع أيها الإنسان أو تشك فيه فإذا كان الرّاد المحدث الآن يسمع أهل المشرق والمغرب بآن واحد بثانية واحد، وإن اهتف يخاطب به كذلك وهو من صنع خلقه، فكيف بخالق هذا الخلق أيعجزه ذلك، كلا ثم كلا، وهو القادر على كلّ شيء. وإذا ناديتهم يا خليلي ستراهم «يَأْتُوكَ رِجالًا» مشاة «وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» ركبانا والضّامر البعير المهزول من نصب السّير وتعب الثقل وقلة الأكل والشّرب. ومما يدل على بعد الشّقة قوله «يَأْتِينَ» تلك الإبل الضّوار بركابها «مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (٢٧) طريق بعيد والفج الطّريق في الجل وغلب على غيره وعمقه بنسبة علو الجبل المنشق منه عن يمينه وشماله، وهؤلاء المدعون يأتون لهذا البيت «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» دينية ودنيوية مختصة في هذا البيت لا يشهدونها في غيره ولا توجد إلّا به، راجع الآيتين ١٥٨ و ٩٦ من سورة البقرة والآية ٩٧ من آل عمران المارات «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على ما سينحرونه من الهدى «فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» ويكبرون عليها إذا أريد ذبحها يوم النّحر وأيّام التشريق بدليل قوله تعالى «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
أضحية وهديا، وإذا فعلتم هذا أيها النّاس امتثالا لأمري «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (٢٨) الذي لا شيء عنده. كانت العرب في الجاهلية لا تأكل لحوم ضحاياها وهداياهم، فأمر الله تعالى بمخالفتهم وأباح لعباده الأكل منها، أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال وقدم علي كرم الله وجهه ببدن من اليمن وساق رسول الله مئه بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده الشريفة صلّى الله عليه وسلم، ونحر عليّ ما نحر أي ما بقي، وأشركه في بدنه، وفي عدد ما نحره صلّى الله عليه وسلم إشارة إلى مدة حياته إذ توفي في الثالثة والسّتين من عمره، وفي هذا يعلم أن حضرة الرّسول قد أعطى من القوة ما لم يعطها غيره قط، لأن أحدا لا يقدر على نحر عشر من الإبل دفعة واحدة، فهو أكمل الخلق مادة ومعنى وخلقا وخلقا وقلبا وقالبا وروحا وجسما. ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة أي قطعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل منها وشرب من مرقها، مما يدل على جواز الأكل من لحوم الأضحية دون قيد أو شرط. وقد اختلفت الأئمة في ذلك فمنهم من جوز الأكل من الهدايا الواجبة كدم التمتع والقرآن وما جبر بإفساد شيء من واجبات الحج وجزاء العيد، واتفقوا على جواز الأكل من جميع هدايا التطوع والأضحية إذا لم تكن منذورة
، وإذا أريد بالأيام عشر ذي الحجة يراد بالذكر مطلقه وما يتلى غالبا في أيّام الحج. قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» أي لينتهوا من إزالة أدرانهم وأوساخهم ويقصوا شعورهم وأظفارهم ويستحدوا (يحلقوا عانتهم) وينتفوا آباطهم ويغيروا ما أحرموا به بالثياب النّقية، لأن الحاج مادام محرما أشعث أغبر «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم. وهذه الآية عامة في الحاج وغيره وإن ورودها في معرض الحج لا يقيدها بالحاج، وهذا الأمر للوجوب وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية ٧ من سورة الإنسان والآية ١٧٠ من البقرة المارتين «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (٢٩) يكثروا الطّواف فيه بدليل تضعيف الفعل وسمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس كما مر في الآية ٩٧ من آل عمران المارة والمراد بهذا الطّواف طواف الإفاضة وأول وقته يوم النّحر بعد الرّمي والحلق، ويسمى طواف الزيارة وهو أحد فرائض الحج الثلاثة وأولها الإحرام وثانيها
فاتركوا هذا أيها المؤمنون وكونوا مخلصين «حُنَفاءَ لِلَّهِ» عادلين عن غيره مائلين له «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره من صنم أو وثن «فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ» فسقط على الأرض «فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ» بسرعة وتذهب به «أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ» فتميل به وتطرحه في «مَكانٍ سَحِيقٍ» (٣١) بعيد فيصير
والصّرف والجمع أتى كثيرا | حتى ادعى قوم به التخييرا |
«وَالْمُعْتَرَّ» الملحف بالسؤال «كَذلِكَ» مثل ما سخّرناها لكم بأن تذبح وهي قائمة «سَخَّرْناها لَكُمْ» للركوب والحمل وذللناها لكم حتى صارت تنقاد للطفل لكمل استفادتكم منها، ولولا هذا التسخير لما استفدتم منها شيئا من ركوب وحمل وحليب رجزّ وبر وغيرها لأنها أقوى منكم،
واعلموا أيها النّاس أن هداياكم وضحاياكم ونذوركم هذه وجميع صدقاتكم «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها» بما تفعلونه، وذلك أنهم كانوا إذا نحروا الهدايا والضّحايا لطخوا الكعبة بدمائها ويزعمون أنه قربة وليس بقربة، ولم تزل هذه العادة الجاهلية جارية عند الجهلاء في المدن والقرى حتى اليوم، وذلك أنهم عند ما يذبحون نذرا أو خيرا أو عند إرادتهم البناء تبركا أو عند إكماله شكرا بزعمهم يلطخون باب الدّار والجدران بدم ما يذبحونه تقليدا على فعل الجاهلية بالكعبة المعظمة، فرد الله عليهم بأن هذا العمل ليس من القربة المراد بها وجه الله والتي يثاب العبد على فعلها، لأن اللّحوم والدّماء لن ترفع إلى الله تعالى بل يرفع ثوابها إذا كانت على وجه شرعي «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» أي يرفع إليه العمل الصّالح والإخلاص فيه المعبر عنه بالتقوى التي يجب ان تنحلوا بها فهي التي يراد بها وجه الله ويثاب عليها. قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الآية ٤٠ من سورة فاطر ج ١ «كَذلِكَ» مثل هذا التسخير البديع «سَخَّرَها» أي البدن «لَكُمْ» أيها النّاس للاستعمال والذبح «لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» عند ذبحها على ما هداكم لمعالم دينه وأرشدكم إليها «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (٣٧) بالثواب العظيم عند الله تعالى إذا فعلوا ما أمروا به واجتنبوا ما نهوا عنه في هذه المناسك التي سماها الله تعالى منافع. هذا وليعلم أن الحج من العوامل القوية على تآلف المسلمين واتحادهم على توثيق عرى المحبّة والعون على إجراء الحق بينهم وتوحيد كلمتهم. قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية العاشرة من سورة الحجرات الآتية ويدعو إلى تعاضدهم وتآزرهم بما يتعلق بجميع شؤنهم وإصلاح كيانهم وإعلاء شأنهم حتى تكون العزّة لهم. قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ١٣٨ من سورة النّساء المارة وهو العامل الأقوى على لمّ شعثهم وتقويم اعوجاجهم حتى يكونوا الأمة الكريمة التي عناها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ١٣٠ من آل عمران المارة. وإنما فرضه الله تعالى على المستطيع من عباده ليرى حكمته البالغة، ويقدر فوائده العظمى التي تعود على المسلمين بالخير الوافر والنّعم
الآية ٢٨ من سورة لقمان في ج ٢ وإن الفطن ليلمس هذا القصد فى دعوة النّاس إلى الاجتماع في صعيد واحد متجهين لقبلة واحدة بزيّ واحد وغرض واحد، فإذا فقه المسلمون وتيقظوا لهذا وانتهزوا الفرصة بزيارة هذا البيت، وعرفوا ضالتهم المنشودة ومطلبهم السّامي منه، فتعاونوا بعضهم مع بعض وتعرّف بعضهم إلى حوائج البعض، وعرفوا كيفية الوصول إلى سبيل التعاون إذا ألم بهم حادث أو طرات عليهم مصيبة كيف ينقذون أنفسهم منها، فيذرقون حلاوة هذا الاجتماع ولا يكونون كمن ذمهم الله في قوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» الآية ١٩ من سورة الحشر الآتية أجارنا الله من ذلك. ثم أنهم إذا رأوا الأسود والأبيض والأحمر والأسمر متساوين في الخشوع لرب ذلك البيت، لا فضل لعجمي على عربي، ولا لغني على؟؟ لا لشريف على حقير، وشاهدوا الملك والمملوك والجهلة والعلماء، والرّعية والأمراء سواسية، وقفوا هناك على كلمة قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية ١٣ من سورة الحجرات الآتية لأنهم كلهم متساوون في تركهم بلادهم، وفراق أهلهم وأولادهم، وإجابة دعوة ربهم إلى بيته المطهر، قال تعالى (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الآية ١٣٦ من البقرة المارة ونظيرتها الآية ٢٧ المارة إذ لم يفرق الله تعالى بدعوته بين واحد دون آخر، ولم يكلف الفقير رحمة بحاله ليس إلا، فإذا تجشم ذلك فله ما للغني من الثواب، وقد يزيده ربه إذا حسنت نيته، وإذا كان كذلك علم كلّ منهم أن هذا المؤتمر الإسلامي الجامع إنما عقد للخضوع إلى الله تعالى وللتّعاون في مصالح الدّين والدّنيا، وتيقن إن هذا الدّين لا يدعو إلّا الى خير واحسان. قال تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الآية
٣٠ من سورة الروم في ج ٢. فمن أجاب دعوة الله كان هو المتمسك بعروته
مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل الله وأول آية نزلت في الجهاد:
قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فلا يمكّن أعداءهم منهم إذا كانوا مؤمنين حقا، لأنه جل شأنه وعد بذلك فقالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية ٤٨ من سورة الرّوم وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٥١ من سورة المؤمن وقال تعالى (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية ١٧٢ من سورة الصّافات ج ٢ راجع هذه الآيات تعلم كما أنت
الآيات الآية ١١٢ من سورة التوبة الآتية والآيتين ١١٢ و ١٥٢ من سورة النّساء المارة، كلا لا أحد أوفى وأصدق البتة، وحاشاه من الخلف، وإنما يقع منا نحن المسلمين المؤمنين اسما لا فعلا، فلو كنا مؤمنين حقيقة إيمانا صحيحا كما أراده الله منا لكانت كلمتنا هي العليا دائما ولكنا أعزاء بعزة الله تعالى ورسوله المنوه بهما بالآيتين آنفا، ولكنا تركنا فتركنا ونسينا فأهملنا، قال تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) الآية ٦٨ من سورة التوبة الآتية وقال تعالى محذرا ومنذرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الآية ١٩ من سورة الحشر المارة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) راجع هذه الآية ٥٤ من سورة الأنفال المارة ونظيرتها الآية ١١ من سورة الرّعد المارة أيضا وإنا والله قد غيرنا وبدلنا وخنا أنفسنا وإخواننا لأنا لم نساعدهم عند ما يتجاوز عليهم إذا كنا بأمن مما يصيبهم، وهذه هي الخيانة العظمى، لذلك تبع الله هذه الجملة بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (٣٨) لحقوقه ومن حقوقه نصرة المؤمنين ومعونتهم بعضهم لبعض، لأن المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يتخلى عنه إذا وقع في شدة أو أحاطت به الأعداء، بل يجب عليه نصرته مالا وبدنا، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا لم يساعد بعضهم بعضا تفرقوا وانهاروا كما يتهار البناء غير المتقن أساسه، هذه فلسطين ينتابها العدو فيخذل أهلها، ويسلب مالهم وملكهم، ويقتل رجالهم، ونحن نسمع ونرى ونقعد عنهم ونعد أنفسنا مؤمنين، بل نحن القاعدون كالّذين أشار الله إليهم في الآية ٨٢ من سورة التوبة الآتية المتخلفون عن مساعدة إخواننا ولا نتأذى لأذيتهم، والمؤمنون الصّادقون كالجسم الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر والحمى، فإذا تناصر المؤمنون فتعاونوا وتشاركوا بالضر والنّفع وأخلصوا لربهم دافع عنهم ونصرهم ورفع كلمتهم وأعلى شأنهم، كيف والله يقول (كَتَبَ
الآية من آخر سورة المجادلة، وإنه تعالى يوفي لهم وعده المشار إليه في الآيات المارة، ومتى ما تخاذلوا وتقاطعوا ولم يبال بعضهم ببعض أهينو كلهم، واسترقوا وهلكوا أو ندموا من حيث لا ينفعهم النّدم، راجع الآية ١٠٢ من آل عمران فما بعدها، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» من قبل أعدائهم بأن يقاتلوهم بالمقابلة، وإنما أذن الله لهذا الصّنف بقتال أعدائهم «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من قبلهم وتوالت عليهم تعدياتهم القولية والفعلية وكانوا يشكون أمرهم لحضرة الرّسول فيأمرهم بالصبر إذ لم يؤذن لهم بالقتال حتى خرج قوم من هذا الصنف مهاجرين بدينهم من مكة إلى المدينة قاصدين الالتحاق بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فاعترضهم قوم من مشركي مكة فاعتدوا عليهم فأنزل الله هذه الآية وهي أول آية نزلت بالقتال بعد أن نهى عنه رسوله في نيف وسبعين آية أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الآية ١٩٧ هذه من سورة البقرة المارة، وإنما رجح في الآية بأنها أول آية نزلت في القتال لأن نزولها قبل هذه الآية التي نحن بصددها، ولأنها مقيدة بقتال من قاتل، والآية التي نحن بصددها أكثر إطلاقا منها، فمن هذه الحيثية يقال إنها أول آية نزلت في القتال على الإطلاق، راجع الآية ٥٤ من سورة النّساء المارة، لأن الّذين نزلت هذه الآية بحقهم هم من ذلك القبيل: أما ما جاء في الإكليل للحاكم من أن أول آية نزلت في القتال (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلا يصح، لأن هذه الآية ١١٣ من سورة
التوبة التي لم تنزل بعد لأنها متأخرة في في النّزول عن ذلك كله، وهي نزلت جملة واحدة تأمل «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (٣٩) تشير هذه الجملة إلى الوعد لهم بالنصر دون معونتكم لهم ولكن الله تعالى يريد أن تتناصروا على العدو ليزداد التآلف بينكم ولتكونوا يدا واحدة على الأعداء لتهابكم وتعظموا بأعينهم فلا يجرأوا على إيقاع شيء فيكم. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» وما كان سبب إخراجهم «إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» لا غير، وهذا يوجب إبقاءهم فيها وإكرامهم وصيانتهم واحترامهم، لا إخراجهم وإهانتهم «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم، ومنعوهم عن عبادة الله المفهومة من قوله عز قوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ» هي معابد الرهبان في الوادي، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا «وَبِيَعٌ» هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس «وَصَلَواتٌ» اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود، ويسمونها الآن بيعا، وهو عربي «وَمَساجِدُ» هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها، وإنما خص الله تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها «يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» أي لولا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته، ولكن الله تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر الله الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» ٤٠ منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب.
ثم وصف الله تعالى ناصريه بقوله «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها «أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» (٤١) ومرجعها إليه، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم. قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه، فما هو بمستبعد منهم «فَقَدْ كَذَّبَتْ» الرسل «قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ، وَكُذِّبَ مُوسى» أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ» السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلي ويفردوني بالعبادة، فآخذهم بأنواع
أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم الله إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.
مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:
قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صا؟
عليه السّلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟
وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان
«وَالَّذِينَ سَعَوْا» أفسدوا «فِي آياتِنا» المنزلة على رسولنا «مُعاجِزِينَ» مثبطين النّاس عن الإيمان بها، ما نعيهم عن سماعها، مشاقين لها، معاندين لقدرتنا، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (٥١) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى» قرأوا عليه قوله:
تمنى كتاب الله أو ليلة | تمنى داود الزبور على رسل |
عفوه منها. والتمني نهاية التقدير، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا والله أعلم. ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله «فَيَنْسَخُ اللَّهُ» يمحو ويزيل ويعدم وينسى «ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات «يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية، فلا يلتحق
وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها في ج ١ وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات الله ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية ١٢١ من سورة الأنعام وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية ١٤١ منها أيضا ج ٢ وقال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية ٣٢ من الفرقان ج ١ ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول الله تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة الله لأنه هو أماتها، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره. وعند سماعهم قوله جل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية ٩٩ من الأنبياء المارة في ج ٢ يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون الله، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها. وعلى هذا يحرز أنه صلّى الله عليه وسلم عند ما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الآية ١٩ من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلّى الله عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السّلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها، فظنوها من قراءته صلّى الله عليه وسلم فراقت لهم، ولذلك لما سجد صلّى الله عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم
بيا أيها النّاس، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس،
قال تعالى «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا «لِلَّهِ» وحده، وهو قبل ذلك اليوم كله لله أيضا، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون مملوكين فيه لله هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين لله الذي «يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» في ذلك اليوم العظيم. ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (٥٧) هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القرآن والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه، أما القرآن فلقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآيتين ٤٤ و ٤٥ من سورة الحاقه في ج ٢ وقوله تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الآية ٥ من سورة يونس ج ٢ أيضا وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) الآيتين ٤ و ٥ من سورة النّجم في ج ١ فلو قرأ صلّى الله عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الآية ١٧٤ وقوله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا، وقوله تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) الآية ٣٢ من سورة الفرقان في ج ١ وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الآية السّابعة من سورة الأعلى ج ٢، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي، وقد نفاه الله عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه. وأما السّنّة
الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (٥٨) لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية، ورزق الله عباده دائم لا من فيه. ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو الله الذي سخر بعضهم لبعض. ثم أقسم جل قسمه
«ذلِكَ» نصر الله للبغي عليه «بِأَنَّ اللَّهَ» الذي «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا. والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما، وهذا لا يقدر عليه إلّا الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» بكل ما يقع في كونه «بَصِيرٌ» (٦١) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله «ذلِكَ» الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الأوثان «هُوَ الْباطِلُ» المفترى من اختلاق قليلي العقول «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (٦٢) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية ٣٠ من سورة لقمان ج ٢.
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» أيها الإنسان العاقل «أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته «خَبِيرٌ» ٦٣ بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» عنهم «الْحَمِيدُ» ٦٤ بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم، ولا غنى لهم عنه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ» أيها النّاس (ما فِي الْأَرْضِ) من الدّواب والمعادن وغيرهما «وَالْفُلْكَ» سخرها لكم «تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر «وَيُمْسِكُ السَّماءَ» بقدرته البالغة من «أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا» إذا أراد وقوعها فإنها تقع «بِإِذْنِهِ» عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده، راجع أول سورة الانفطار المارة في ج ٢ «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (٦٥) بالغ الرّحمة بعباده. وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السّماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك الله إياها، راجع الآية ٤٢ من سورة فاطر في ج ١ وهي نظير هذه الآية في المعنى، والله أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول. وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم في الدّنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» ٦٦ لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً» مذهبا وطريقة وشريعة «هُمْ»
وجزئية جلية وخفية «إِنَّ ذلِكَ» العلم مثبت «فِي كِتابٍ» عظيم عند الله تعالى هو الوجه المكنون الحاوي على ما كان وسيكون قبل كونه «إِنَّ ذلِكَ» العلم العظيم جميعه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (٧) سهل كعلم شيء واحد
«وَيَعْبُدُونَ» بعض خلقه مع علمهم بأن شيئا لا يستحق العبادة غيره وأن لا ربّ على الحقيقة سواه «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجليل الذي خلقهم وسواهم وعلمهم «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» عليهم من حجة أو برهان أو دليل أو أمارة «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن يعبد بل جهل مركب، لأنهم يزعمون ما يعبدونه من الأوثان يشفع لهم عند الله يوم القيامة وينصرهم في الدّنيا من النّاس «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (٧١) ينصرهم من عذابه إذا حل بهم في الدّنيا والآخرة. وإنما سماهم ظالمين لظلمهم أنفسهم بذلك الاعتقاد فيما تعمله أيديهم من الأصنام. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ» عند سماع تلاوتها أي تظهر على وجوههم علائم الكراهة فتراها عابسة مكفهرّة «يَكادُونَ يَسْطُونَ» يثبون ويبطشون «بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا» أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ والحنق عليهم، وهذه حكاية حال من أحوال بعض الكفرة المشركين وكفرة أهل الكتابين القائلين بنبوة عزير وعيسى وآلهتهما والملائكة وكونه ثالث ثلاثة «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ» لكم «مِنْ ذلِكُمُ» الخير الذي تكرهونه الآن وتعرضون عن سماعه هو «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثالكم فهي مصيركم ومصيرهم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (٧٢) هي لمن يصير إليها «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ» حال مستغربة جديرة بأن تسمى مثلا تشبها ببعض الأمثال السّائرة «فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وأصغوا إليه وتدبروه واعقلوه، وهو أن المشركين جعلوا لي شبيها يعبدونه من دوني ويستغيثون به عند شدتهم ويرجون شفاعته بآخرتهم، وأقول لهم «إِنَّ
ربكم الواحد الفرد الصّمد. من جميع أوثانكم «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» ولا أقل منه وأحقر «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» كلهم وتعاونوا على خلقه لما استطاعوا البتة. والأنكى من ذلك أنه إذا وقعت على شيئهم لا يقدرون على منعه، ولكن لأنه كلما ذب آب إلّا إذا قتلوه «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ» على ضعفه وهوانه «شَيْئاً» من الأشياء أو جزءا قليلا منه «لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» أيضا ولا يقدرون على استخلاصه منه مع عظمهم بالنسبة إليه إذ قد «ضَعُفَ الطَّالِبُ» الذباب السّالب «وَالْمَطْلُوبُ» ٧٣ المسلوب منه وهي أوثانهم لأن منها ما هو جماد وهو أضعف من الذباب بدرجات كثيرة وعابدوها أجهل من كلّ جاهل داخل من كلّ مثال، لأن الذي لا يحمي نفسه من الذباب كيف تطلب منه الحماية، وكيف يعبد، وكيف يرجى منه جلب نفع أو دفع ضر؟ وإن كان حيوانا فهو كذلك أيضا بل أكثر شرا لاحتياجه للأكل والشّرب والحراسة، وإن كان إنسانا فكذلك، لأنه لا يقدر أن يحرس نفسه من أقدار الله ولا يتحرك إلّا بإذن الله وإرادته، وهو متبرئ من عبادتهم، وان الله خالقهم وخالق كلّ شيء، أفلا يعبدونه مع كمال عظمته وبالغ قدرته ويركنون إليه عند حاجتهم في الشّدة والرّخاء، ولهذا فاتركهم يا سيد الرّسل فإنهم جهال «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عرفوه حق معرفته ولا مجدوه حق تمجيده وما علموا غاية قبح فعلهم إذ أشركوا به وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء عنه، تقدم مثل هذه الجملة في الآية ٦٨ من سورة الزمر والآية ٩١ من الأنعام ج ٢ ولفظ الذباب لم يكرر في القرآن «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات كلها «عَزِيزٌ» ٧٤ غالب قاهر لجميع الأشياء وهذه الجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى. قال ابن عباس كانوا يطلبون الأصنام طيبا فيقع الذباب عليها فيسلبها طيبها فلا تقدر على منعه ولا يقدر الكفرة حراسها على استرداد ما سلبه منها فكيف يقدرون على خلقه، ثم ساق حكاية أخرى من أحوال الكفرة من قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية ٢٢ من سورة الفرقان ج ١ وقولهم (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الآية ٣١ من سورة
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وجميع ما هو كائن وما سيكون من رسل الفريقين والمرسل إليهم أجمع «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (٧٣) كلها ويحاسب أهلها عليها قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه قولا وفعلا ونية «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٧٧) فتفوزون بأنواع الخير عند الله في الدّنيا والآخرة. واعلم أن الخير كله مجموع في أربعة: النظر والحركة والنّطق والصّمت، فكل نطق لا يكون في عبرة فهو غفلة، وكلّ حركة لا تكون في عبادة فهي فترة، وكلّ نطق لا يكون في ذكر فهو لغو، وكلّ صمت لا يكون في فكر فهو سهو.
هذا وتقدم البحث فيما يتعلق بالسجود في الآية ١٥ من سورة الرّعد المارة، وفيها ما يرشدك لبحثه في غيرها. واعلم أن السّجدات المتفق عليها في القرآن العظيم أربع عشرة ليس منها هذه، والسّجود فيها واجب وقال بعض الأئمة بسنية السّجود عند تلاوة هذه الآية مستدلا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن عتبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الحج فسجد فيها سجدتين، وقال ان هذه السّورة، فقلت بسجدتين وناهيك به قدوة، وقد أخذ بهذا الشّافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري إنها سجدة صلاة بدليل اقترانها بالركوع، ولو كانت سجدة تلاوة لما اقترنت به كسائر سجدات القرآن، وقد مرت السّجدة الأولى في الآية ١٦ منها قال تعالى «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بأن تستفرغوا جهدكم تبذلوا طاقتكم
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا | من العناية ركنا غير منهدم |
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) الآية ١٣٨ من البقرة وهذه التسمية ثابتة لكم «مِنْ قَبْلُ» في الكتب المتقدمة «وَفِي هذا» القرآن لأنها مذكورة في اللّوح المحفوظ، ولهذا فضلكم على سائر الأمم وجعل دينكم الإسلام وسماكم المسلمين «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» محمد صلّى الله عليه وسلم «شَهِيداً عَلَيْكُمْ» يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأن الرّسل بلغو أممهم رسالات ربهم بناء على أخبار نبيكم لكم في كتابكم واخباره حق أكثر من المشاهدة وأقوى، لأن العين قد تخطئ المبصر فلا تعرفه حقيقة، والرّسول لا يخطى في التبليغ البتة لعصمته من قبل الله تعالى، وهذا من المخصوص، لأن الشّهادة لا تكون إلّا في هذا عن الغيب، وقد تكون على السّماع في أمور مخصصة أيضا كما أشرنا إليها في الآية ١٤٣ من سورة البقرة المارة «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» في كلّ أموركم وثقوا بما وعدكم به على لسان رسولكم «هُوَ مَوْلاكُمْ» وناصركم وحافظكم لا مولى لكم غيره «فَنِعْمَ الْمَوْلى» هو