تفسير سورة الحج

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
سورة الحج مدنية إلا الآيات ٥٢، ٥٣، ٥٤، ٥٥، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية، وسميت الحج في عرف القراء، لأن مناسك الحج كثيرة فيها.
وقد ابتدأت السورة بذكر يوم القيامة :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ١ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب شديد ٢ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ٣ ﴾ وأشار سبحانه إلا أن من يتولاه الشيطان فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير، وذكر سبحانه من ينكرون البعث، وقال :﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ٥ ﴾. ويشير إلى أن ذلك التطور التكويني يثبت أن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ويذكر الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا سلطان مبين، ويتولون معرضين ويضلون عن سبيل الله، وأن عقابهم في الآخرة عذاب الحريق، وفي الدنيا خزي.
وبعد أن ذكر سبحانه الأشرار الخالصين للشر، ذكر من يترددون، فيعبدون الله على حرف إن أصابهم خير اطمأنوا إليه، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وإن هؤلاء وأولاء يدعون ما لا يضر ولا ينفع، ومن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى، ولبئس العشير.
بعد ذلك ذكر سبحانه الذين يعملون الصالحات وجزاءهم، وأبطل سبحانه أوهام الذين يظنون أنه لا ينصرهم الله فقال :﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ١٥ ﴾، ثم أشار سبحانه إلى آيات الله البينات وأن الله يهدي من يريد، وأشار سبحانه إلى اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والهندوس والذين أشركوا، وأن الله سيفصل بينهم يوم القيامة.
ولقد أشار سبحانه إلى حال الفريقين المهتدي والضال، ﴿... فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ١٩ يصهر به ما في بطونهم والجلود ٢٠ ولهم مقاطع من حديد ٢١ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ٢٢ ﴾.
وبين بعد ذلك جزاء المؤمنين فقال :﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٢٣ وهدوا إلا الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ٢٤ ﴾.
وذكر سبحانه بعض أعمال المشركين من الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام ﴿... الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ٢٥ ﴾.
ويشير سبحانه إلى نبأ إبراهيم وتطهير البيت للطائفين والعاكفين، والركع السجود، ثم دعوة إبراهيم إلى الحج :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ٢٧ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ٢٨ ﴾، ثم يشير سبحانه إلى بعض مناسك الحج، ويدعو سبحانه إلى تعظيم حرمات الله تعالى، ويبين أنه أحلت بهيمة الأنعام إلا ما جاء النص بتحريمه، ويدعو سبحانه إلى اجتناب قول الزور، والرجس من الأوثان، وأن يكونوا حنفاء لله غير مشركين به، ويبين سبحانه أن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، ويبين أن منسك أهل الحق والإيمان الحج إلى بيت الله الحرام، ثم يذكر سبحانه أن الإبل والبقر وهي البدن من شعائر الله تعالى :﴿ والبدن جعلناه لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ٣٦ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ٣٧ ﴾.
ثم بين سبحانه شرعية الجهاد بعد هذه الإشارات إلى الحج، وهو من الجهاد، ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ٣٨ ﴾، ثم صرح سبحانه وتعالى بالإذن بالقتال :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ٤٠ ﴾، قد بين الله تعالى فضل المتقين في إقامتهم الصلاة، وإيتائهم الزكاة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وأشار سبحانه إلى المشركين، وأنهم لم يعتبروا بهلاك من سبقوهم إلى الشرك، واضطهاد أهل الإيمان ومعاندة الرسل، فأشار سبحانه إلى قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكذب موسى ثم قال :﴿... فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ٤٤ ﴾.
ثم أشار سبحانه إلى هلاك القرى التي أهلكها سبحانه وهي ظالمة﴿... فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ٤٥ ﴾، ودعا الله المشركين إلى أن يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، ﴿... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ٤٦ ﴾.
ثم ذكر سبحانه حال المشركين، في استعجالهم العذاب، بدل أن يعملوا للثواب، وبين أنه يملي لهم ثم يأخذ الآثم بإثمه، ﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ٤٨ ﴾.
وذكر بعد ذلك أن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإنذار، والناس بعد ذلك أشقياء أو سعداء ﴿ قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ٤٩ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ٥٠ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ٥١ ﴾.
ثم بين سبحانه أن الأنبياء بشر كسائر البشر، ولكن الله يعصمهم، فإذا وسوس الشيطان في صدورهم نسخ ما يلقي الشيطان :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ٥٢ ﴾ وما يلقيه الشيطان لا يكون فتنة للأنبياء، ولكن يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد.
ثم أشار إلى أن القرآن من عند الله يعلم أهل العلم أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فإنهم في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، وإن الملك لله يوم القيامة هو الذي يحكم، فالذين كفروا لهم عذاب مهين، ﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ٥٨ ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ٥٩ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ٦٠ ﴾.
ثم بين سبحانه آياته في الليل والنهار، وهذا يدل على أن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير.
بعد هذا بين سبحانه وتعالى نعمه في أنه ينزل المطر فتصبح الأرض مخضرة، وأنه ﴿ سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ٦٥ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ٦٦ ﴾.
وإن مناسك الناس مختلفة، ولكل أمة جعلنا منسكا فلا ينازعنك في الأمر ويخاطب نبيه فيقول :﴿... وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ٦٧ ﴾.
ولا تجادلهم بعد أن تبين لهم الحق، والله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون، وإن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إذ ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ٧٠ ﴾.
ثم ذكر عبدة الأوثان وهم مشركو مكة، فقال :﴿ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ٧١ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يبتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ٧٢ ﴾، وقد ضرب الله تعالى مثلا بالذباب فقال تعالى :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ٧٣ ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ٧٤ ﴾.
ثم يبين سبحانه أن خلق الله تعالى بالنسبة له على سواء، ولكنه يصطفي من الملائكة رسلا يكونون لخلقه، واصطفى من الناس رسلا يكونون دعاة للحق، والإخبار عن الله تعالى بينهم، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وإليه ترجع الأمور، ثم أشار سبحانه أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم امتداد لرسالة إبراهيم، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ٧٧ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم المصير ٧٨ ﴾.
معاني السورة الكريمة

هول يوم القيامة وجدل الناس حولها
قال الله تعالى :
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ١ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ٢ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ٣ كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ٤ ﴾.
ذكر الله تعالى هول يوم البعث حيث تزلزل القلوب والأرض، فإذا زلزلت الأرض زلزالها اضطربت مع هذه الزلزلة القلوب والنفوس، وزاغت الأبصار واضطربت الأفئدة.
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ١ ﴾.
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم ﴾، النداء للناس أجمعين في عصر النبوة، عرب وعجم، أبيض وأسود وأحمر، الحاضرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم، فالخطاب لهم بناء على أن ما ثبت للحاضرين يثبت على المقبلين بقانون المساواة الذي يثبت تساوي الناس في التكليف، وإنه لا يرفع الخطاب إلا عن من ليس أهلا للخطاب، ﴿ اتقوا ربكم ﴾، أي اذرعوا لباس التقوى، ولتمتلئ نفوسكم باتقاء عذاب الله تعالى، وخشيه سبحانه، فخشية الله درع المؤمن، ووقايته من النار، وقوله تعالى :﴿ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ﴾ الزلزلة الحركة الشديدة العنيفة وترديدها مرة بعد أخرى، وقيل : إنها تكرار ل"زال"، أي أنها تتحرك بزوال ثم تعود، فتضطرب الأرض، كما قال تعالى، ﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ١ وأخرجت الأرض أثقالها ٢ وقال الإنسان ما لها ٣ يومئذ تحدث أخبارها ٤ بأن ربك أوحى لها ٥ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ٦ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ﴾ ( الزلزلة ).
و﴿ زلزلة الساعة ﴾ من إضافة المصدر إلى ظرفه، أي الزلزلة التي تكون في يوم الساعة، وهو يوم القيامة، وعبر عن ذلك اليوم بالساعة، لأنه يكون ساعة شديدة خطيرة، لها ما بعدها من هول أعظم، وحساب وعقاب، وقد عبر الله سبحانه عن هذه الزلزلة بقوله :﴿ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ﴾، أي أنها شديدة شدة لا يكتنه كنهها، ولا يعبر عنها إلا بأنها ﴿ شيء عظيم ﴾، فالشيء اسم لكم شديد، أي أن الألفاظ تضيق عن معانيها، فلا يتسع لها لفظ إلا ما يكون لفظا عاما غير محدودة، لأن شدتها غير محدودة، ولا يحدها نطاق.
وقد صور الله تعالى هول هذه الزلزلة، فقال عز من قائل :
﴿ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ٢ ﴾.
صور الله تعالى الفزع الذي ينال الناس عند رؤية هذه الزلزلة فقال :﴿ يوم ترونها تذهل كل مرضعة ﴾، تذهل أي تنسى وتغفل، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، وقوله تعالى :﴿ عما أرضعت ﴾، "ما" إما أن تكون بمعنى "الذي" ويكون المعنى تذهل ناسية طفلها الذي أرضعته، وغذته من لبنها الذي هو قطعة منها، وكأنها في هذا الحزن الداهم تنسى نفسها أو قطعة من ذاتها، ويصح أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى أنها تنسى إرضاعها فتنسى تغذيه من هو كشخصها، أو امتداد لشخصها، ويزكي هذا التخريج التعبير بالماضي، وكلا التخريجين يفيد أنها في حال هذا الفزع تنسى وتذهل عما لا يمكن أن ينسى أو يذهل عنه.
وإنه من هول هذا الموقف، وتلك الزلزلة ﴿ وتضع كل ذات حمل حملها ﴾ من الرهبة والفزع، فالحبالى ينزل حملهن من الفزع قبل ميعاد وضعه، ووضعه على الرغم منها لفزعها، واضطرابها، وكأن هذه الزلزلة تزلزل الجسم، وتزلزل النفس، كما قال تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا... ٢١٤ ﴾ ( البقرة )، وقد صور الله تعالى حالهم بعامة رجالا ونساء، مراضع وغير مراضع، حبالى وغير حبالى، فقال :﴿ وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ﴾، أي تراهم كالسكارى، ﴿ وما هم بسكارى ﴾ فكأن هنا استعارة مؤداها أن الناس لفرط ذهولهم، ونسيانهم لأنفسهم شبهوا بالسكارى، فهم في غفلة وذهاب رشد، وضياع وعي كالسكارى، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم سكارى تناولوا مسكرا، كما تقول لشجاع قوي هو أسد وليس بأسد، أي أنه في شجاعة الأسد، كأنه هو هو، وإن كان رجلا عاقلا، ولعل ذلك يكون أبلغ في وصفه بالشجاعة.
﴿ ولكن عذاب الله شديد ﴾ للاستدراك هنا لنفي السكر عنهم، وإن كانوا كالسكارى، وبهذا الاستدراك بين سبحانه شدة عذابه الواقع عند الزلزلة، والمتوقع بعدها، وأنهم يستقبلون هولا أشد وقعا، وأعظم إيلاما، فهو ليس إفزاعا عقليا ونفسيا فقط، بل هو مع ذلك إيلام حسي بالنار كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
وإنه مع هذه الزلزلة التي تزلزل العقول والنفوس، هنا ناس في لهو عن توقع ذلك مع شدة النذير، وكثرة العبر :
﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ٣ ﴾.
إنه في الوقت الذي ينذر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بأخبار يوم القيامة الذي تكون فيه السماوات غير السماوات تزلزل النفوس والعقول بزلزلة الأرض يكون ناس من المشركين يجادلون في ذات الله تعالى ويقول سبحانه :﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ﴾، ومجادلتهم في الله سبحانه وتعالى مجادلة في ذات الله تعالى من حيث قدرته على البعث، ومن حيث إرساله الرسل مبشرين ومنذرين، ومن حيث إن له شركاء في العبادة، فهو في لهو مستمر عن الحقائق ولا يتلقون الحقائق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم بالجدل فيها وحولها من غير إذعان وتسليم، بل بعناد ولجاجة، والجدل في أمر من شأنه أن يذهب لب الحقيقة في وسط شد الجدل وجذبه، ويروى أن الآية نزلت في جدل بعض المشركين وهو النضر بن الحارث، وكان رجلا جدلا خصما يقول : الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت، ... وهكذا، وعلى أي حال فالآية الكريمة عامة، ونرى هذا الصنف من الناس في كل عصر، يمضغون الحقائق بجدل عقيم يثيرونه حولها، واختص هذا الصنف من الناس اليهود الذين اتبعهم الأوربيون والأمريكان وحذوا حذوهم، لأن ملهمهم واحد وهو الشيطان، فتشابهوا وتشاكلوا، لوحدة المصدر.
ومن يجادلون في ذات الله على النحو الذي أشرنا إليه، كالذي جاء خبره عن النضر بن الحارث لا يكون جدلهم قائما على علم علموه، أو رسالة بلغوها، ولكنه التقليد المجرد للمبطلين، ولذا قال تعالى :﴿ بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ﴾ الشيطان هنا عام يشمل شيطان الإنس من القادة والأمراء والرؤساء الضالين المضلين، ويشمل شياطين الجن الذين يوسوسون بالشر، ويزينونه، وقوله تعالى :﴿ كل شيطان ﴾، الكلية تدل على أنهم يتبعون المنحرف من الأفكار والأقوال، فيتبعون أحيانا شياطين الوجودية، وأحيانا شياطين الشيوعية ورئيسها اليهودي وأحيانا شياطين التحلل من كل خلق كريم، ﴿ مريد ﴾ معناه المتجرد من كل معنى كريم، والعاري عن الفضائل، جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه :"المارد والمريد من شياطين الجن والإنس المتعري من الخيرات في قولهم إذا تعرى عن الورق، ومنه قيل رملة مرد، إذا لم تنبت شيئا".
ف"المريد" على هذا التفسير المتجرد من الخيرات، العاري عن كل فضيلة، ومن سيطر عليه شيطان مريد أفسد نفسه، وأرسله إلى جهنم، ولذا قال سبحانه عز من قائل :
﴿ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ٤ ﴾.
الضمير في ﴿ عليه ﴾ يعود إلى الشخص الذي يجادل بغير علم، لأنه هو المتحدث عنه، ولأن الكتابة التي يقدرها الله تعالى تكون على المكلفين، فالأنسب عود الضمير إلى المجادل بغير علم، ويكون معنى ﴿ تولاه ﴾ جعل الولاية له على نفسه، واتبعه فيما يوسوس به شيطان الإنس من دعوة إلى الباطل والفجور، وفيما يوسوس شيطان الجن من إغراء بالشهوات والأمنيات الباطلة، أي فمن يجعله له وليا، ويتبعه، ويحسبه نصيرا له، ﴿ فأنه يضله ﴾، أي يوقعه في الضلالة، ﴿ ويهديه إلى عذاب السعير ﴾، أي يسلك معه الطريق إلى عذاب السعير، أي إلى جهنم وبئس المهاد.
ويجوز أن تجعل الضمير في ﴿ عليه ﴾ يعود إلى الشيطان المريد، وكذلك الضمير في ﴿ تولاه ﴾ يعود إليه، ويكون أن من يتولاه الشيطان، ويسيطر عليه ويجعله تابعا له يضله، ويوصله إلى عذاب السعير.
وفي الحالين التعبير بقوله تعالى :﴿ ويهديه إلى عذاب السعير ﴾، فيه تهكم، مؤداه أن الرسل يهدون إلى الجنة، أما الذين يتبعون الشياطين، فإن إغرائهم يوصلهم إلى النار، وتلك هدايتهم إن صح أن تسمى هداية.
القدرة على الابتداء تدل على البعث
قال الله تعالى :
﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشد كم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ٥ ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ٦ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ٧ ﴾.
النداء في قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾ لكل الناس عامة، وللمشركين واليهود خاصة، فإن من اليهود طائفة الصدوقيين لا يؤمنون بالبعث والنشور، ولا يفهمون من الحياة إلا الدنيا.
﴿ إن كنتم في ريب من البعث ﴾ تخفيف من الله تعالى لحالهم، فليست حالهم حال ريب وشك، بل حالهم حال إنكار، فذكر الله تعالى حال الإنكار، والدليل المبين في جواب الشرط يثبت للمرتاب والمنكر، وإن التعبير بالريب كما قلنا تخفيف من حال المشركين وغيرهم من المنكرين، وهو أيضا فيه تصوير للنفس التي لم تفطر على اليقين، ولا على الإنكار، لأنه مغيب لا يعلم، فقد يعتري النفس شك لأنه لا يعلم إلا بالنقل، فيكون الخطاب موافقا لكثير من الفطر، إذا كان الخطاب يذكر حال الريب دون القطع بالإنكار، وهو فوق ذلك يدعو المنكرين إلى أن تكون حالهم حال ريب وتردد لا حال قطع وإنكار، بل انتظار حتى يجئ الدليل من النقل القاطع، وجواب الشرط هو :﴿ فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة... ﴾ وهو دليل مشتق من الماضي الواقع المستمر الدائم يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، لأن الناس يخلقون كل يوم بل كل ساعة، يخلقون من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.... إلى آخر ما ذكر سبحانه.
﴿ خلقناكم من تراب ﴾ كان الخلق من تراب مرتين : أولهما في أصل الخلق والتكوين فخلق آدم أبا الخليقة من تراب، وقد ذكر سبحانه قصة ذلك الخلق وذلك التكوين، والمرة الثانية أن ذلك متجدد مستمر، فالأب والأم يأكلان مما تنبته الأرض من نبات، وتمرات مختلفة ألوانها، ومن حيوان يرعى فيها، وما ينتجه طينها من نبات، فذلك ن الأرض بتحويل عناصرها إلى نبات وأشجار، وتوليد الثمر من الأشجار، ثم تحول العناصر المختلفة إلى نطفة وفي كل الأحوال يكون سبحانه شيئا من شيء فهل يعجز عن تحويل الميم إلى حي.
﴿ ثم من نطفة ﴾ وهي ماء الرجل يلتقي بخلية المرأة التي ينفثها رحمها في حال الحيض، وسمي النطفة، لأنه ينطفه أي يفطر منه وقد سماه سبحانه ماء دافقا، كما في قوله تعالى :﴿ فلينظر الإنسان مم خلق ٥ خلق من ماء دافق ٦ يخرج من بين الصلب والترائب ٧ إنه على رجعه لقادر ٨ يوم تبلى السرائر ٩ ﴾ ( الطارق )، ﴿ ثم من علقة ﴾، أي أن النطفة صارت علقة، وهي قطعة لحم طرية ثم تجمدت، وصارت مبتدأ لخلق آخر، وهو مضغة، ولذا قال عز من قائل :﴿ ثم من مضغة ﴾، أي انتهت العلقة إلى مضغة، وصارت هذه ابتداء خلق آخر، ﴿ مخلقة وغير مخلقة ﴾، أي مصورة مميزة الأجزاء بالخلق والتكوين، وليست قطعة لحم فقط، بل صارت ذات شكل مميز يشير إلى أجزاء بعد كمال تكونيها، ولا تكون مخلقة قبل هذا التخليق وبيان الأعضاء، ولعل المخلقة هي التي تكون عظاما غير مكسوة بلحم أو مكسوة.
ونحسب غير المخلقة هي التي تكون مضغة لم تتكون عظامها، ولذا لم تذكر هنا حال كونها صارت عظاما، كما ذكر سبحانه في سورة "المؤمنون"، حيث قال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ١٢ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ١٣ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقنا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ١٤ ﴾ ( المؤمنين )، هذه أدوار خلق الإنسان في بطن أمه، وما كان لأحد علم بهذه الأدوار التكوينية، حتى جاء العلم من بعد ببيانها، وعلم الله الذي جاء في القرآن الحكيم فوق كل علم، لأنه العالم الخبير المنشئ الخالق، كما قال تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ١٤ ﴾ ( الملك ).
ولقد قال تعالى :﴿ لنبين لكم ﴾، "اللام" لام التعليل إذا كانت متعلقة ب"ذكرنا" محذوفة، أي ذكرنا ذلك ﴿ لنبين لكم ﴾، أي نعلمكم بالخلق والتكوين، وتكون اللام النافية إذا كانت اللام متعلقة بقوله :﴿ خلقناكم ﴾، أي خلقنا الإنسان ذلك الخلق ليكون المآل والعاقبة أن يتبين لكم، وأن تعلموا بهذا الخلق والتكوين أمرين :
الأمر الأول – عجائب صنع الله تعالى في خلق الكون والإنسان، كما أشار إلى ذلك بقوله عز وجل :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ٢١ ﴾ ( الذاريات )، وإن الله وحده هو الذي يخلق الأشياء من عدم، ثم يتولى هو سبحانه وتعالى تحويلها من حال إلى حال، حتى استوى الإنسان خلقا سويا.
الأمر الثاني- أن الذي حول التراب إلى الكائنات حية، وتوالدت بخلقه الأحياء أليس بقادر على أن يحيي الموتى.
﴿ ونقرّ في الأرحام ما نشاء ﴾ "الواو" كما يقول المفسرون واو الاستئناف، وإني أرى أن الواو واو الحال، أي أنه والحال أننا نضع على سبيل القرار في الأرحام ما نشاء، من نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، فإنها في الأرحام تتحول من نطفة إلى علقة، فمضغة مخلقة بالعظام وغير مخلقة، وتكسى العظام باللحم، وإن قوله تعالى :﴿ ما نشاء ﴾، أي الذي نشاؤه في أدواره المختلفة، فهو بوضعه بمشيئة الله تعالى وإرادته، لا بما يسمونه بالتفاعل من غير إرادة الفاعل المختار الوهاب، وإن وضعها إلى أجل مسمى هو مدة الحمل التي لا يقدرها إلا الله تعالى.
﴿ ثم نخرجكم طفلا ﴾، أي يخرج كل واحد منكم طفلا لا يقوى على الحياة وحده، لأنه يكون ضعيفا كما قال الله تعالى :﴿... وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ﴾ ( النساء )، وأطول مدة لحاجة المولود إلى أبويه من الحيوان هو الإنسان، وفيها يحتاج إلى الرضاعة والحضانة، حتى يستوي شابا يبلغ أشده، وتكمل قواه، هذا قوله تعالى :﴿ ثم لتبلغوا أشدكم ﴾، ثم عاطفة لتبلغوا أشدكم على فعل محذوف، هو في معنى جزء العلة، وتقديره مأخوذ من الكلام السابق، والمعنى يخرجكم طفلا لتتربوا وتكبروا شيئا فشيئا وتكلأون برعاية آبائكم وأمهاتكم، ﴿ ثم لتبلغوا أشدكم ﴾، وكان العطف ب "ثم"، لأن مدة الطفولة، تطول ولا تقصر، فالتراخي ثابت بالزمان، وبالبعد بين الطفولة والرجولة و"أشد" يقول البيضاوي إنها جمع شدة، كأنعم جمع نعمة، والشدة هنا القوة المستمكنة التي تعتمد على ذاتها ويكون لها كيان مستقل عن أبويه، ومنكم من يتوفاه الله تعالى في قوته وشبابه أو كهولته حتف أنفه أو قتلا في جهاد أو اعتداء :﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾ ولم يقل سبحانه وتعالى يبلغ أرذل العمر، لأن بلوغ أرذل العمر ليس بلوغ غاية تتغيا وصالحة في ذاتها، وعبر بقوله :﴿ يرد إلى أرذل العمر ﴾، لأنه رجعة إلى الوراء، وعودة إلى الضعف في جسمه فيهن العظم، ويتقوس الظهر، ويضعف العقل، ويضل الفكر، وينسى بعد أن كان يعلم، ولذا قال :﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ﴾، أي أن ما علمه ينساه، فما كان من علم يذهب، وما كان عنده من تدبير وقدرة على العمل، ووزن للأمور، وسماه تعالى :﴿ أرذل العمر ﴾، أي العمر المرذول الذي يكون عبئا على صاحبه.
وقد ذكر سبحانه بعد هذا الدليل الملزم المبين قدرة الله تعالى ذكر دليلا آخر، وهو في المطر والنبات كما كان الأول في الإنسان، وإذا كان في الأول نعمة الإيجاد، ففي الثاني نعمة الإرث.
﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ٥ ﴾.
تصوير لتغيير الله تعالى الأحياء أو مواضعها من حال إلى حال، والخطاب في قوله تعالى :﴿ وترى الأرض هامدة ﴾ لكل من هو أهل للخطاب، لأنه استدلال للجميع على قدرة الله تعالى في الأشياء من حال إلى حال، وأنه يخرج الحي من الميت، ﴿ وترى الأرض هامدة ﴾، أي جف نباتها وذبل ما فيها ومات، وصارت كالأرض الميتة لا حياة فيها ولا نبات ولا ماء، والهمود واضح أنه يعتري النبات، ووصفت به الأرض، لأن محل هموده، ومحل حياته، فهو من إطلاق اسم الشيء وإرادة محله.
﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء ﴾ من السماء أو الأنهار أو العيون، وسمي إنزالا، لأن أكثر الماء الذي يكون غيثا من السماء وماء الأنهار من الغيث، وماء العيون من ماء الأنهار الدفين في الأرض، فالأصل هو الإنزال، فيصح أن يطلق على ماء السماء، وماء الأنهار والمياه الجوفية العذبة.
والضمير في ﴿ عليها ﴾ يعود إلى الأرض، و﴿ اهتزت ﴾، أي اهتز نباتها الأخضر، فيميل يمينا وشمالا بالرياح التي تميله، والاهتزاز للنبات لا للأرض، ولكن أطلقت الأرض وأريد نباتها لأنها محله، ولأن الاهتزاز يراه الرائي في اهتزاز النبات، وهو منبسط بلون سندسي، فيرى كأن الأرض هي التي تهتز لا النبات، ﴿ وربت ﴾ : أي نمت وعلت، والنمو والعلو للنبات، وهذا مجاز على النحو الذي ذكرناه، والعلو وصفت به الأرض، لأن الرائي يراه، كأن الأرض هي التي تعلو، وقال تعالى في إنبات الأرض :﴿ وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾، أي حسن المظهر، يظهر في الأرض كأن يد راسم رسمته وزخرفته، و﴿ زوج ﴾ المراد به الألوان المتقابلة من أبيض وأزرق، وأحمر وأصفر، فتبارك الله الخلاق العليم.
هذا هو الدليل الثاني، وهو محسوس في أنه أحيا الأرض بعد موتها، وأنبت فيها ما فيه قوت الأحياء، وفيها من المناظر، وقد حول الله تعالى بهذا الماء، نباتا فيه غذاء الإنسان والحيوان، أفلا يستطيع إعادة الحياة إلى الإنسان كما بدأ.
بعد ذلك أخذ الله سبحانه النتيجة من هذين الدليلين اللذين ينبهان العقول التي تدرك، وتلهمهم بالدليل المزيل لريبهم، إن كانوا يرتابون، ويفحمهم بالدليل القاطع إن كانوا ينكرون.
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ٦ ﴾.
﴿ ذلك ﴾ الإشارة إلى تحويل كون الإنسان من تراب إلى نطفة، ثم إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم قراره في الرحم حتى يستكمل نموه في الدور الأول في بطن أمه، ثم يخرج طفلا في الوجود، ثم يبلغ أشده، وإنزال الماء والنبات، كل ذلك بسبب أن الله هو الحق، ف"الباء" للسببية ﴿ الحق ﴾، أي الثابت في ذاته المطلق في الوجود كله، فهو الموجود واجب الوجود، وكل موجود يستمد وجوده منه، وهو يخلق سبحانه وتعالى الأشياء ابتداء ويخلق بعضها من بعضها، فلا غرابة أن يخلق من الرميم حيا، ولو كانت في تكوين حجارة أو حديد، أو ما هو أقوى صلابة من هذين، ﴿ وأنه يحيي الموتى ﴾، لأنه خلقها ابتداء فإعادتها أسهل عليه، كما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون ٢٩ ﴾ ( الأعراف )، ثم ذكر سبحانه وتعالى قدرته عز وجل ب "أن" المؤكدة، وذكر لفظ الجلالة الذي يشتمل على الوصف كماله، والتنزيه من كل نقص، وأكده بتقديم الجار والمجرور ﴿ على كل شيء ﴾ على ﴿ قدير ﴾، لأن ذلك يدل على عظيم اهتمامه بخلقه.
وقد قدر سبحانه ما هو قاطع، وهو لب الإيمان، فقال عز من قائل :
﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ٧ ﴾.
الواو عاطفة على ﴿ بأن الله هو الحق ﴾، وهي تتضمن القصر، أي الله وحده هو الحق، ولا حق غيره سبحانه، فعطف على ذلك ﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها ﴾، أي أنه كما أن الله وحده له الوجود، وأنه المعبود وحده، فكذلك الساعة آتية لا ريب فيها فلا يلتفت إلى ريب الذين يرتابون فيها، وإذا كان من الناس من يرتابون، فالأدلة قائمة مثبتة موجبة مزيلة للريب كاشفة للحق، ثم قال تعالى :﴿ وأن الله يبعث من في القبور ﴾، ولو تبددت أشلاؤهم، وتقطعت أوصالهم، وتداخلت في أجسام، فالله على كل شيء قدير.
الجاحدون ومرضى القلوب والمنافقون
قال الله تعالى :
﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ٨ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ٩ ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ١٠ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ١١ يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ١٢ يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ١٣ ﴾.
هذه السورة مدنية، وفي المدينة التقى النبي صلى الله عليه وسلم باليهود، وغيرهم من أهل الكتاب، ولم يكن الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم لذلك تشعبت المناقشة حول الله تعالى إلى شعب شتى فوق الجدل في عبادة الأوثان والإشراك بالله سبحانه وتعالى، فكان الجدل حول ما أشاعه العرب من عبادة، وحول إرسال الرسل من غير بني إسرائيل، ومقام الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع السابقة، وخصوصا شريعة التوراة بعد أن حرف الكلم عن مواضعه، وقد قال تعالى :
﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ٨ ﴾.
المجادلة في الله تعالى هي المجادلة في ذاته ووصفه وقدرته وعلمه ووحدانيته، وكل مجادلة حول شركاء له مجادلة في ذات الله، وقوله تعالى :
﴿ بغير علم ﴾، أي بغير علم يثبت بالضرورة، منكرا كل أمر تهدي إليه الفطرة، ومتجاهلا الحقائق الثابتة بأن يتجاهل أن الأوثان لا تضر ولا تنفع، ومنكر البديهيات، فمعنى ﴿ بغير علم ﴾ بجهالة، ﴿ ولا هدى ﴾، ولا دليل يهدي إلى الحق وبينه، ويسدد المدارك إلى الحق، ﴿ ولا كتاب منير ﴾، أي ولا كتاب منقول غير الحق، ويوضح السبيل إليه، ومعنى ذلك أنهم حائرون بائرون، لا يأخذون بعلم ضروري، ولا يعلم يأتي بالنظر والبرهان، ولا بمنقول من كتاب منزل منير، ويهدي إلى سواء السبيل.
والآية السابقة، ﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ٣ ﴾ مع هذه الآية ليستا واردتين على مورد واحد، فالآية السابقة واردة على الذين يتبعون كل شيطان متمرد من شياطين الإنس ويقلدونه ويسيرون وراءه سير التابع وراء المتبوع، وهذه الآية التي تتكلم في معانيها السامية واردة في الذين يقولون مستقلين غير تابعين لمارد ولا ذي سلطان، ولكنهم لا يتبعون علما ضروريا، ولا علما نظريا، ولا علما منقولا عن معصوم ينسب كلامه إلى رب العالمين.
وهذا من شأنه أن يعرض عن الحق، ويضل غيره، ولذا قال سبحانه :
﴿ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ٩ ﴾.
( العطف ) هو الجانب، و﴿ ثاني ﴾ اسم فاعل من ثنى يثني، أي لواه مستكبرا أو معرضا، أو هما معا، أي مع أنه يجادل في الله بغير أي نوع من العلم، بل بجهالة جهلاء، مع ذلك يلوي عنقه مستكبرا معرضا، مفاخرا بما هو عليه، كما قال تعالى :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ٥ ﴾ ( المنافقون )، وكما قال تعالى :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا... ٧ ﴾ ( لقمان ).
وإنهم بهذا التفاخر بالباطل والكبرياء والاستعلاء يضلون غيرهم لضعفهم، ولذا قال تعالى :﴿ ليضل عن سبيل الله ﴾، أي ليضل غيره عن طريق الحق، فاستعلاء الباطل يغري باتباعه، وإذلال أهل الحق يغري بتركه إلا من ربط الله تعالى على قلبه.
وقد ذكر الله تعالى عند مغالبة الحق والباطل، فقال عز من قائل :﴿ له في الدنيا خزي ﴾، يجعل كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، كما كان الخزي في بدر، والأحزاب، وغيرهما، وذلك لا يعفيهم من عذاب الآخرة ﴿ ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ﴾ هو وضعه في جهنم المحرقة نارها، وعبر ب﴿ نذيقه ﴾، لأن الإلقاء في الجحيم من غير أن يذوق حريق النار، ويلهب إحساسه بها- لا يدرك معه حقيقة العذاب، لأن العذاب في ذات الإحساس بالنار.
﴿ ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ١٠ ﴾.
الإشارة في ﴿ ذلك ﴾ للعذاب و"الياء" للسببية، أي بسبب ما قدمت يداك، والمراد بما قدمت أنت، وعبر عن الذات باليد، من قبل التعبير عن الكل باسم الجزء، وهو من المجاز المرسل، إذا كان لذلك مزيد اختصاص فيما يساق له القول كما يعبر عن الجاسوس بالعين، وهنا كذلك عبر عن الذات باليد التي يكون بها الاعتداء بالبطش وسفك الدماء أو الاغتصاب والإيذاء.
و﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي يقال له ذلك الذي نزل بك متكافئ مع ما قدمت يداك فما كان الله ظالما، ولكن أنت الظالم، ولذا قال تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾، وأن معطوف على ﴿ بما قدمت يداك ﴾، أي بسبب ما قدمت يداك، وبسبب أن الله ليس بظلام للعبيد، و﴿ بظلام ﴾ صيغة المبالغة من الظلم، للإشارة إلى أن الله تعالى لا يعاقب إلا بذنب، وإنه لو عاقب من غير ذنب- معاذ الله- لكان ظلاما وهو ليس بظلام، إذ يؤاخذ كل نفس بما كسبت، وإن قد يعفو عن ظالم لخير فعله، لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولأنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ولكن لا يمكن أن يكون ظالما.
﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ١١ ﴾.
هذا صنف من الناس لا يدخل الإيمان قلبه إلى درجة الصبر على البلاء في إيمانه، بل يكون إسلامه بظاهر، وهو كأولئك الأعراب، الذين قالوا : آمنا، أمرهم الله تعالى أن يقولوا : أسلمنا، ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾.
"الحرف" هنا هو الطرف، أي يعبد الله على طرف من الدين، كالذي يكون على طرف من الجيش يقر فيه إذا أحس بالنصر ليأخذ من الغنيمة، وإن أحس بالهزيمة فر لكيلا يناله القتل وآثار الهزيمة، وقال سبحانه :﴿ يعبد الله على حرف ﴾، أي على طرف الإيمان، فلا يعبده عبادة من امتلأ قلبه بالإيمان، وذاق بشاشته، وأحس باطمئنان نفس، واستقامة اعتقاد، وهذا تصوير لضعفاء الإيمان الذين اضطرب اعتقادهم، فكأنهم يكونون على حرف مع الإيمان وهو أقرب إلى الكفر، فطرف الشيء هو الأقرب إلى ما يجافيه، وقد قالوا : إنها نزلت في بعض الأعراب الذين قدموا المدينة وكان بعضهم إذا صح بدنه، ونتج إبله وولدت امرأته وكسب مالا وماشية، قال ما أصبت من هذا الدين إلا خيرا واطمأن، وإن أصابه شر قال ما أصبت وانقلب، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث، وعام ولاد حسن قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوه عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير، ويصدق على هؤلاء قوله تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله... ٩٧ ﴾ ( التوبة )، وهؤلاء وأشباههم من ضعاف الإيمان هم الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ﴾، أي أصابهم أمر يسرهم، وهو خير اطمأنوا وسكنوا، ﴿ وإن أصابته فتنة ﴾، أي شديدة فيها ابتلاء لإيمانه واختبار لنفسه وتعرف لقوة إيمانه، انقلب على وجهه، أي ارتد بعد إسلام، وكفر بما أعلن الإيمان، وإن كان على طرف، وعبر سبحانه عن ردته بقوله :﴿ انقلب على وجهه ﴾ وهذا التعبير فيه تشبيه حال المرتد عن دينه بحال من انقلب فوق وجهه فصار رأسه في أسفله، ورجلاه في أعلاه أي تصويره بصورة شوهاء، شاه منظرها، وقبحت حقيقتها.
وإن من يكون كذلك خسر الدنيا بما أصابه من فتنة لم يعتبر بها في دينه، وكانت شرا عليه في دنياه، إذا لم يستفد بها في دينه، وخسر الآخرة، لأنه يموت كافرا، وذلك الأمر الذي آل إليه هو الخسران المبين الواضح.
وقد وصف الله تعالى من تكون هذه حاله بأنه كعبدة الأوثان على سواء.
﴿ يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ١٢ ﴾.
أي أن هذا الذي انقلب على وجهه وتشاءم بالإسلام يعود مرتدا إلى من لا يضر وما لا ينفع، فإذا كان لم يعجبه دين الله تعالى وتشاءم إذا أصابته فتنة يختبر بها إيمانه وتسليمه الأمور إلى الله تعالى خالق كل شيء الذي ينفع ويضر، فقد رجا ما لا يضر وما لا ينفع، لقد ترك دعاء الله تعالى وحاد إلى دعاء ما لا يضر وما لا ينفع، و﴿ دون الله ﴾ معناها غير الله، ﴿ ما لا يضره ﴾، أي الذي لا يضر، أي ليس سبب فيه التشاؤم الذي بغض إليكم دين الحق لأنكم فتنتم فيه ليختبر مقدار تسليمكم لله، وقد زعمتم أنه لا يضر إيمانكم به، فهو أيضا لا ينفعكم، ولذا كرر اسم الموصول، أي يدعون ما لا يضر، وهو أيضا ما لا ينفع، فالإسلام دين الله الذي يضر وينفع أما غيره فدين ما لا يضر وما لا ينفع.
وإنكم إذ خرجتم من دينكم، فقد خرجتم من الهدى إلى الضلال، ولذا قال عز من قائل :﴿ ذلك هو الضلال البعيد ﴾، أي ذلك الذي كان منكم، وهو أنكم تريدون الأقدار على ما تحبون، وتسير على ما تشتهون هو الضلال البعيد، أي الذي تبتدئون السير فيه حاسبين أنه هداية، وكلما أوغلتم بعدتم عنها بعدا طويلا، وبذلك تمنعون في الضلال والتيه إمعانا.
﴿ يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ١٣ ﴾.
في الآية السابقة ذكر سبحانه أنهم يدعون ما لا يضرهم، وما لا ينفعهم، وقلنا : إنه كان لا يضرهم فهو لا ينفعهم، وأن الموصوف واحد، ولكن خطر على عقلي بعد كتابة ما تقدم أنهما واردان على موصوفين أولهما لا يضر، وثانيهما لا ينفع كما يدل تكرار الموصول، وهذا ضلال، ويناسب ما ذكر من بعد أنه الضلال البعيد الموغل في طريق الضلال، والمعنيان بين يدي القارئ يتخير أحدهما، والقرآن حمال معان كلها بين لا إيهام فيه قط.
وفي هذه الآية التي نتكلم في معناها، نجدها تشير إلى أن الذي يدعوه من العقلاء، بدليل التعبير ب( من ) في قوله :﴿ لمن ضره أقرب من نفعه ﴾، وتكون الدعوة بمعنى الالتجاء والاستغاثة، أو الموالاة والنصرة، والاعتماد عليه، و( اللام ) في قوله تعالى :﴿ لمن ضره أقرب من نفعه ﴾، تفيد التوكيد، سواء أكانت للتعليق أو للابتداء، فتلك تخريجات نحوية لا تمنع ما تدل عليه من توكيد المعاني و"من" كما أشرنا تفيد أن من يدعونه من العقلاء، وليس معبودا من الأوثان والجمادات، وأن الدعوة للنصرة والموالاة، والمعاونة على الباطل، وكان ضره أكبر من نفعه، لأن الاعتماد عليه فيه ضرر عقلي ونفسي، لأنه يعتمد على غير الله، والاعتماد على غير الله تعالى رق لهذا المخلوق يحد من الحرية، ويمنع الانطلاق إلى العمل الصالح، ولأنه ضعيف مثله، لا ينتصر له، ولأنه يجره إلى الشر، فيكون التعاون بينهما قائما على الإثم والعدوان، ولأن الاعتماد عليه اعتماد على شفير هار ينهار به في نار جهنم.
﴿ لبئس المولى ولبئس العشير ﴾ "اللام" واقعة في جواب قسم محذوف، فهي تؤكد الحكم، وتثبته، و"بئس" من الأفعال الجامدة التي تدل على الذم، وهي في مقابل "نعم" التي تدل على المدح، و﴿ المولى ﴾ النصير الموالي الذي يعتمد عليه من يدعوه، ويندبه للنائبات، ويرجو موالاته في الملمات، و﴿ العشير ﴾ الصاحب الذي يعاشره، فيجره إلى الضلال، والصاحب الذي يواده، ويتعاون معه على غير الخير، بدليل ذمه، إذ لا يذم من يتعاون على الخير، والله وحده هو المستعان في الشدائد المغيث في الضراء، المحمود في السراء.
وخلاصة القول في معنى هذه الآية الكريمة : أن موضوعها ليس دعوة الأوثان والأحجار، إنما موضوعها الاستنصار بالأشخاص، والاعتماد على أهل الباطل في الولاء، والذين يعاشرونهم.
جزاء المتقين والفصل بين الناس
قال الله تعالى :
﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ١٤ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ١٥ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ١٦ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ١٧ ﴾.
أشار سبحانه وتعالى إلى أصناف الناس في ضلالهم، فمنهم من يجادل في الله مقلدا شيطانا مريدا من شياطين الإنس، ومنهم من يجادل في الله غير متبع لغيره، ولكنه يتبع الهوى فلا يفكر بعلم ضروري أو نظري، أو نقل من كتاب منير، ومنهم من يعبد الله على طرف يرجو خير الدنيا فقط، وينقلب على وجهه إذا أصابه ما يختبر به ليتبين مقدار إيمانه بقضاء الله وقدره، وإنه سبحانه هو المتصرف كما يريد هو لا كما يريد ذوو الأهواء ومنهم من يدعو ما لا يضر وما لا ينفع، ومنهم من يستنصرون بالموالي والعشراء، ويحسبون فيهم القوة والنصرة، وكل أولئك في النار.
بعد ذلك بين سبحانه جزاء أهل الإيمان الصادق، فقال :
﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ١٤ ﴾.
هذا جزاء المؤمنين الأبرار الذين آمنوا فطهروا قلوبهم وعقولهم من رجس الوثنية، وأزالوا ضلال الناس في أنفسهم، وفي الاعتماد على غير الله تعالى، ﴿ وعملوا الصالحات ﴾، أي عملوا كل ما فيه خير للناس، وخير لأنفسهم، وسلامة اعتقادهم وطاعتهم في عبادتهم، وإن الله تعالى يسكنهم جنات فيها نعيم دائم مقيم، يلتقي فيها نعيم الجسم بسرور النفس، فالإقامة دائمة في ريحان الجنة، والأنهار تجري من تحت الأشجار فيكون متعة النظر، وراحة البصر، وإن هذه إرادة الله تعالى، وقد أكد سبحانه هذه الإرادة، بقوله تعالى :﴿ إن الله يفعل ما يريد ﴾ أكد سبحانه وتعالى أنه سبحانه فاعل مختار لا تصدر عنه الأشياء صدور العلة عن معلولها، ولا السبب عن سببه، كما ضل الفلاسفة وغيرهم ممن اتبعهم، وقد أكد سبحانه القول بتأكيدات ثلاثة، أولها :"إن"، وثانيها : لفظ الجلالة الذي يتضمن الوصف بكل كمال، وثالثها : التعبير بالمضارع الذي يدل على أنه سبحانه فعل ما أراد، ويفعل دائما ما يريد.
وإنه سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، إن أراد أمرا قال له كن فيكون، ولا يريد شرا أبدا، وإن نزل بأحد ما يسوؤه فلن يستطيع أحد أن يغيره، وإن نال أحد نفعه فلن يمنعه أحد، وإن أراد نصرة من غيره فلن تكون إلا بإرادة الله، ولذا قال عز من قائل :
﴿ من كان يظن أن لمن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ١٥ ﴾.
هذه الآية لبطلان وهم من يتوهم أن الله تعالى لن ينصره إذا طلب النصرة العادلة منه، واعتمد على غيره، وذلك رد على من يوالي العباد من الموالي والعشراء في النصرة، فالله وحده هو نعم المولى ونعم النصير، وبئس من يطلب نصرا من غيره وإنه ناصر نبيه في الدنيا والآخرة.
والضمير في ﴿ ينصره ﴾ في قوله تعالى :﴿ من كان يظن أن لن ينصره ﴾ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لم يجر ذكره في الآيات قبله، أو في الآية السابقة، فإنه حاضر في نفس القارئ للقرآن، وفي قلب كل مؤمن فهو حاضر دائما، وإن محمدا بعد الهجرة قد قامت حروب بينه وبينه المشركين، وبينه وبين اليهود، والله ناصره دائما، ولم يهزم في موقعة، وإذا كان قد أصيب بجراح وقتل من قتل في أحد فهو لم يهزم ولم يندحر فيها، كان ذلك يغيظ الكافرين وخصوصا اليهود الذين كانوا يجاورونه في المدينة، ويذهب بهم في طغيانهم إلى أن يتمنوا ألا ينصره الله تعالى، كما يتمنى الحاسد الحقود، وقد بين سبحانه في هذه الآية أن من المستحيل ألا ينصره الله وليموتوا بغيظهم، ولذا قال :﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ﴾ من كان يظن مستمرا في ظنه الذي لا يصدق، والاستمرار في هذا الظن هو من التعبير ب﴿ كان ﴾، و"أن" مخففة من الثقيلة، واسمها الحال والشأن، أي من يظن أن الحال والشأن أن لن ينصر الله محمدا، وذلك مستحيل، فليمدد بسبب إلى السماء، والسبب : الحبل الذي يصعد به على النخل، والسماء. روي عن ابن عباس أنه قال : إنه سقف البيت، أي ليمدد الحبل إلى سقف البيت، فإذا وصل وهو متصل به، مربوط في عنقه، ثم ليقطع ذلك الحبل، فيختنق اختناقا، قيد هذا الاختناق بذلك الحبل، ﴿ فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ﴾، والاستفهام بمعنى النفي، ولذا كانت نون التوكيد في الفعل، وهي تجئ في الفعل المنفي، تأكيد للنفي، وهذا تأكيد فوق تأكيد النفي بمجيئه بصيغة الاستفهام.
وهذا تخريج صادق كل الصدق، وهو في مضمونه كقوله تعالى :﴿... قل موتوا بغيظكم... ١١٩ ﴾ ( آل عمران )، وإنا نوافق على التخريج ما دام منتجا معنى سليما مستقيما يتفق مع جلال القرآن، ومع سياق القصص في السيرة، ولكن نخالف فقط تفسير السماء بالسقف، فذلك ليس في القرآن، إنما تفسر السماء بما هو فوقك، من السماء ذات البروج، ومعنى "ليمدد"، أي ليمتد بالحبل إلى السماء، ثم ليقطعه فإنه يسقط مختنقا مجندلا، و"الكيد" التدبير، وإن الله تعالى ناصر عبده محمدا في الدنيا والآخرة، ولتذهب نفس أعدائه حسرات، وكما أن الله تعالى ناصر نبيه في الدنيا والآخرة. ناصر نبيه : مثبت صدق رسالته بالقرآن المبين، ولذا قال تعالى :
﴿ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ١٦ ﴾.
الإشارة إلى إنزال الآيات البينات الواضحات الهادية الدالة على صدق الرسول، والمشابهة بين ما قدر الله تعالى إنزاله وما أنزله فعلا، أي أنزلناه في الواقع كما قدرناه في علمنا، وهذا تأكيد لإرادة الله تعالى في أن تكون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من نوع الوحي بآيات بينات، وقوله تعالى :﴿ وأن الله يهدي من يريد ﴾، أي كذلك الإنزال أن الله تعالى يهدي إليه من يريد له الهداية ويسلكها، وإني أرى أن المشابهة ليست بين الإنزال المقدر في علمه الأزلي، والمنزول الواقعي، وإنما أرى أن المشابهة بين نصر الله لنبيه في الدنيا والآخرة وإقامة الحجة لرسالته في الدنيا، حتى يبلغ الأجل، ويكون المعنى كما ننصره في الدنيا والآخرة أيدناه بالمعجزة الباهرة القاطعة التي تتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، وأنزلنا آيات بينات واضحات، وأن الله يهدي بهديه من يشاء، فيهدي الناس ابتداء بها، ويزيد بها الذين اهتدوا، وذلك كما يريد، ومن يريد وسلك طريق الحق، واتجه إليه غير ملتف لسواه.
وبين بعد ذلك سبحانه أن الناس جميعا مجزيون بعلمهم يستوي في ذلك المؤمن والمشرك واليهودي، والنصراني والصابئ، فقال عز من قائل :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ١٧ ﴾.
الناس جميعا يوم القيامة تميزهم أعمالهم، وهي التي ينالون بها الجزاء عقابا أو ثوابا، والفاصل بينهم هو أحكم الحاكمين رب العالمين وأعمالهم هي التي تقدمهم.
وقد ذكر سبحانه أصنافا ستة، وهم : المؤمنون، واليهود، والصابئون ( وهم عبدة الكواكب الذين ادعوا دخولهم في النصرانية عندما أرادهم المأمون الخليفة العباسي على أن يدخلوا في دين كتابي، وهم أخفى الناس لاعتقاد )، ﴿ والنصارى ﴾ على اختلاف طوائفهم ما بين كاثوليك وأرثوذكس، وإنجيليين، ﴿ والمجوس ﴾، وهم عبدة النار، ﴿ والذين أشركوا ﴾، أي الذين أشركوا مع الله تعالى غيره في العبادة، وبهذا يدخل فيهم الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله، ويدخل البراهمة، لأنهم قالوا : إن كرشنة ابن الله، وهم يصورون آلهتهم بتماثيل، كما يدخل البوذية، لأنهم قالوا إن بوذا ابن الله، ويدخل الكونفوشيوسية الآخذون بتعاليم كونغ فوتس الذي حرف بكونفشيوس، وهكذا فهم يدخلون في المشركون، لأن الإشراك غير مقصور على العرب الأقدمين، بل هو فيهم وفي غيرهم مع ملاحظة أن كونغ فوتس بوذي الديانة ولكن له مذهبا خلقيا أخذ به أهل الصين.
وإن ذكر هؤلاء جميعا في موضوع واحد متعاطفين يدل على أمرين :
الأمر الأول- أنه لا عبرة في إجابة النبيين إلى اختلاف الملل والنحل، بل الجميع أمام الرسالات الإلهية على سواء، فمن أسرف وظلم كان حسابه عسيرا، ومن آمن واهتدى كان من الله قريبا، وإن الله سيفصل بينهم.
الأمر الثاني- أن الله وحده هو الذي يبين يوم القيامة : الحق فيثيب أهله، والباطل فيعذب الذين تردوا فيه، ولذا قال تعالى :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ الفصل بين الأشياء والأشخاص إبانة كل بخيره وشره، والفصل بين الأقوال تبين صادقها من كاذبها، وحقها من باطلها، وكذلك الفصل بين النحل وأصحابها، أي بيان الحق فيها والباطل منها، وجزاء أهل الباطل، وثواب أهل الحق، وإن ذلك الفصل هو الحق، لأن الفاصل هو الله تعالى، وهو خير الفاصلين، ولأنه العالم بكل شيء وبهم جميعا، ولذا قال تعالى :﴿ إن الله على كل شيء شهيد ﴾، أي عالم علم من شاهد وعاين، فهو حكم مؤيد بأسبابه، وشاهده الأكبر، وقوله تعالى :﴿ على كل شيء شهيد ﴾ فيه التعدية ب"على" إشارة إلى معنى الرقابة عليهم، والإحاطة بهم، وهو بكل شيء محيط، لأن كل شيء خاضع له سبحانه.
خضوع الوجود لإرادته سبحانه
قال الله تعالى :
﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ١٨ ﴾.
هذا بيان من الله تعالى لخضوع الناس جميعا والكون كله لإرادته سبحانه، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وهو داخل على حرف النفي "لم" ونفي النفي إثبات مؤكد، كأنه كان استفهام ثم نفي، والمعنى لقد رأيت أيها القارئ للقرآن الكريم أن الله يسجد له من في السماوات والأرض، أي يخضع خضوعا مطلقا كل من في السماوات والأرض طوعا أو كرها، كما قال تعالى في سورة الرعد :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ١٣ ﴾، إلى أن قال عز من قائل :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ١٥ ﴾ والسجود طوعا هو بإرادة العبادة من العقلاء المختارين، والسجود كرها، أي بحكم الخضوع المطلق لإرادة المنشئ للكون الواحد القهار.
و﴿ من ﴾ في قوله :﴿ من في السماوات ومن في الأرض ﴾ ظاهر الكلام أن ذلك من العقلاء كالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم يفعلون ما يؤمرون، والعقلاء من الجن والإنس المختارين المريدين، والباقي ممن ذكر من الشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب، هؤلاء ينطبق عليهم السجود كرها، فالوجود كله خاضع لله سبحانه، وإن من شيء إلا يسبح بحمده فهم خاضعون له خضوع الشيء لمن أوجده، فالجبال تخر له وتصير هباء منبثا، وتتحرك بإرادته وأمره، ثم ذكر سبحانه الظالمين والمهتدين من عباده بالتفرقة بين الضال والمهتدي فقال سبحانه :﴿ وكثير من الناس ﴾، أي كثير اهتدوا وآمنوا فهم في ذاتهم ليسوا عددا قليلا، وإن كان الفريق الثاني أكثر عددا، وإن لم يكونوا مهتدين، ولذا قال تعالى :﴿ وكثير حق عليه العذاب ﴾، أي أنه ليس بالمهتدي، بل كان من عبدة الأوثان أو من أهل التثليث، أو من أعداء البشرية اليهود، أو من عبدة النيران، أو من عبدة الكواكب وعبدة الملائكة الذين قالوا عنهم إنهم بنات الله تعالى.
وذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الضالين بجزائهم، وهو قوله :﴿ حق عليه العذاب للإشارة إلى أنه ملازمهم، به يعرفون، وبه يعينون وقوله تعالى :{ حق عليه العذاب ﴾، أي ثبت لهم ولازمهم وكان عذابهم بحق لأنهم ظلموا أنفسهم والناس، وضلوا ضلالا بعيدا بعد أن جاءهم المرسلون، وقد كذبوا، وآذوا المؤمنين، وعاندوا الحق، وجحدوا به واستيقنته أنفسهم.
وإن الله قسم الناس، مهتد مكرم، ومهين قد لازمته الإهانة، ولا يمكن أن يكرمه أحد أبدا، ولذا قال تعالى :﴿ ومن يهن الله فما له من مكرم ﴾ وإهانة الله تعالى لمن يكتب له في لوحه المحفوظ وقدره المحتوم، إنما تكون لمن سلك سبيل الغواية، وسد مسامع الهداية، فيأخذه سبحانه إلى مواطن الهوان، فبفعله هان، وبإعراضه عن الحق مريدا مختارا عذب، وحق عليه العذاب فما لأحد أن يكرمه، ولا يمكن أن يمكن من ذلك، ولا قدرة له عليه.
وقد أكد سبحانه إرادته الخالدة فقال :﴿ إن الله يفعل ما يشاء ﴾، أي ما يريده ويشاؤه ويحبه، وليس لأحد من خلقه عنده إرادة ﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ٢٣ ﴾ ( الأنبياء )، وأعمالهم في سلطان إرادة الله سبحانه وتعالى فلا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه، وهو السميع العليم، وقد أكد سبحانه أن له وحده المشيئة المطلقة، والإرادة المختارة ب﴿ إن ﴾ المؤكدة، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على الإرادة المطلقة، والاتصال بكل كمال، والله على كل شيء قدير.
الخصمان أمام الله يوم القيامة
قال الله تعالى :
﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ١٩ يصهر به ما في بطونهم والجلود ٢٠ ولهم مقامع من حديد ٢١ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ٢٢ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٢٣ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ٢٤ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبارد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه عن عذاب أليم ٢٥ ﴾.
﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ١٩ ﴾.
الخصمان هما الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهما خصمان، لأنهما في جانبين متقابلين، ولأن المؤمنين يؤمنون بكل ما جاء عن الله، وغيرهم يجادلون في الله، لأن الخصومة في الحق قائمة بينهم وهي من جانب الذين اتبعوا محمد صلى الله عليه وسلم هداية وإرشادا، ومجادلة بالتي هي أحسن، ومن جانب المخالفين لهم عناد وإغواء ودس وخيانة، ومجادلة بالباطل، وادعاء له.
وواضح أن الخصومة كانت في الدنيا، وفي الآخرة كان الجزاء الوفاق، وكل ينال ما يستحق، ﴿ فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ﴾، أي تقدر لهم على قدر أجسامهم، وتقطع وتخاط، بحيث تحيط النار بأجسامهم ماسة أبدانهم كما يمس الثوب جسم اللابس له، ويحتك بلحمه، وتكون النار مشتعلة في الثياب والأجسام معا، و﴿ يصب من فوق رءوسهم الحميم ﴾، وهو الماء الساخن الذي يصل إلى درجة الغليان، فالنار تحرقهم في أجسامهم ورؤوسهم، وتصل إلى داخل أبدانهم، ولذا قال تعالى :
﴿ يصهر به ما في بطونهم والجلود ٢٠ ﴾.
الصهر إذابة الحديد، فقوله تعالى :﴿ يصهر به ما في بطونهم ﴾ من أحشاء من معدة وأمعاء وقلب وكبد وغيرها، يذاب هذا كله، وأي عذاب يكون في هذه الحال، ﴿ والجلود ﴾ أيضا تذاب من شدة الحرارة، ولا شك أن ذلك كله تصوير للعذاب الذي ينزل بهم، وإنه لواقع، والله هو الذي ينجي المؤمنين بفضل رحمته، ويمن منه، وهو الرءوف الرحيم.
وقد وصف سبحانه بقية من عذابهم، فقال :
﴿ ولهم مقامع من حديد ٢١ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ٢٢ ﴾.
المقامع جمع مقمع، وهو ما يذلل به، ويدفع، وكأن خزنة جهنم من الملائكة الأطهار، واقفون كلما هموا أن يخرجوا من النار ردوهم إليها بهذه المقامع التي تزودهم وتدفعهم، وتردهم إليها، ولذا قال تعالى :﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا ﴾ فارين من جهنم ونيرانها وغمها وآلامها ردوا بالمقامع إليها وأعيدوا فيها، وقالوا لهم :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾، أي عذاب النار التي يتحرق أجسامهم في ظاهرها كما شوت أحشاؤكم في باطنها، كما أذقتم المؤمنين العذاب في الدنيا، وقوله :﴿ من غم ﴾، أي بسبب غم العذاب وغم البؤس، وشعورهم بأنه أبدي خالد، هذا جزاء الكافرين المعد لهم الذي يرتقبهم، وهو جزاء الخصم الأول، أما الخصم الثاني وهو المؤمن فجزاؤه روح وريحان وجنة النعيم، ولذا قال عز من قائل :
﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٢٣ ﴾.
﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا ﴾ فارين من جهنم ونيرانها وغمها وآلامها ردوا بالمقامع إليها وأعيدوا فيها، وقالوا لهم :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾، أي عذاب النار التي يتحرق أجسامهم في ظاهرها كما شوت أحشاؤكم في باطنها، كما أذقتم المؤمنين العذاب في الدنيا، وقوله :﴿ من غم ﴾، أي بسبب غم العذاب وغم البؤس، وشعورهم بأنه أبدي خالد، هذا جزاء الكافرين المعد لهم الذي يرتقبهم، وهو جزاء الخصم الأول، أما الخصم الثاني وهو المؤمن فجزاؤه روح وريحان وجنة النعيم، ولذا قال عز من قائل :
﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ٢٣ ﴾.
بعد أن بين سبحانه حال الخصم الأول، ويشمل الكافرين بشتى أنواعهم الذين يجادلون المؤمنين، بين سبحانه حال الخصم الآخر وهم المؤمنون، وإذا كان الفريق الأول قطعت لهم ثياب من نار، وصب من فوق رؤوسهم الحميم وصهرت أحشاؤهم إذا كان هذا الفريق كذلك، فالفريق المؤمن يدخله الله تعالى بسبب إيمانه، ولقد عبر بالموصول، ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ويجتمع فيها النعيم الحسي، والنفسي، فيكون المنظر البهيج بالأنهار تجري من تحت الجنات، وغرف أهل الجنة، وقد أضاف سبحانه وتعالى الإدخال إليه كأنهم في ضيافته مكرمون، لا يلقون في الجحيم مدحورين معذبين.
وإذا كانت ثياب المجرمين قطعت من نار لبسوها، فثياب المؤمنين من ذهب ولآلئ وحرير، ولذا قال تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ﴾.
يصح أن تكون من تبعيضه، أي يحلون بعض أساور من ذهب، وأساور جمع لسوار، إذ هي جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويصح أن تكون ﴿ من ﴾ ابتدائية، أي يحلون، وحليتهم من أساور فتكون بيانية، أي هي من أساور ﴿ ولؤلؤا ﴾ عطف على محل ﴿ من أساور ﴾، لأن محلها النصب أو نقول مفعول لفعل محذوف تقديره وترصع لؤلؤا، ﴿ ولباسهم فيها حرير ﴾، أي لا يلبسون إلا حريرا، وهذا أقصى أحوال النعيم الحسي، وقد يقال : كيف يذكر ذلك على أنه من نعيم أهل الجنة، وقد وردت الآثار بأن الذهب والحرير حرام على رجال الأمة، فكيف يذكران على أنهما من نعيم أهل الجنة١.
والجواب عن ذلك : إن الجنة ليست دار تكليف، إنما هي دار ثواب، ولذا كان فيها أنهار من خمر لذة للشاربين، ﴿ لا يصدعون عنها ولا ينزفون ١٩ ﴾ ( الواقعة )، وفوق ذلك أن الجنة فيها نعيم الرجال والنساء، ولا شك أن الأساور واللآلئ والحرير من نعيم النساء، والله سبحانه وتعالى هو المكافئ العلي القدير.
وإنه بجوار هذا النعيم الحسي من كل الجوانب في الجنة النعيم المعنوي، ولذا قال تعالى :
﴿ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ٢٤ ﴾.
١ : عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم". رواه الترمذي: اللباس – ما جاء في الحرير والذهب. وقال حسن صحيح وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب والفضة والحرير والديباج: هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". رواه البخاري: اللباس – لبس الحرير وافترشه للرجال (٥٣٨٣)، ومسلم: اللباس والزينة (٣٨٤٩)..
هذا وصف لأهل الجنة من أقوالهم وأفعالهم في الدنيا، أم هو وصف لأقوالهم في الجنة، وقبل أن نتكلم في مكان القول نشير إلى بعض ما يدل عليه :
القول الطيب هو القول الحق، الذي يتقرب به إلى الله تعالى، والذي يقرر القاتل له كمال الله تعالى ووحدة ألوهيته والطاعة لله تعالى، وتكبيره، وتقديسه، وتسبيحه، والخضوع المطلق له، وحمده في كل وقت، و﴿ صراط الحميد ﴾، هي طريق الله تعالى بإعلان عبادته وحده لا يشرك به شيئا، و﴿ الحميد ﴾، أي المحمود في كل ما يوصف به، والإضافة إما أن تكون بيانية، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، ويكون المعنى صراط هو الحميد المحمود في كل مسالكه من مبتدئه إلى منتهاه، فهو طريق كل خير، ينتقل فيه من مرحلة خير إلى غيرها، فهو مراحل الاستقامة تبتدئ من أولها إلى نهايتها، ويصح أن يكون المراد من ﴿ الحميد ﴾، ذات الله تعالى لأنه المختص بالحمد، ويكون المعنى، وهدوا إلى طريق الله تعالى البالغة الموصلة له مثل قوله :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ١٥٣ ﴾ ( الأنعام )، وهدوا بالبناء للمجهول في الفعلين، ولم يذكر الفاعل مع أن الهداية كلها من الله تعالى، فحذف للعلم به، ولأن الهداية تتعدد مسالكها، فهي تبتدئ بعمل من المهدي بأن يتجه إلى الحق مخلصا النية، فيأخذ الله بيده ويبلغ به إلى أقصى ما يبلغ به من مراتبه.
بقي أن نتكلم في زمانها ومكانها، أكانت في الدنيا، وهي التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء الوفاق في الآخرة، ويكون ذكرها في الجنة تحقيقا لها، وتأكيدا لها وبيان أن ذلك هو السبب في النعيم الذي آتاهم الله بفضله ومنته، فبعملهم في الدنيا وأقوالهم الطيبة بالتوحيد والعبادة، وسلوكهم الطريق الأقوم نالوا ما نالوا في الآخرة.
وثمة اتجاه آخر، وهو أن هدايتهم إلى القول الطيب، والصراط الحميد هو في الآخرة ويكون من النعيم النفسي، إذ إن أهل الجنة يسمرون ويتبادلون القول الطيب، والسلوك الحميد في الآخرة، فيضاف إلى إنعام الله إنعام بالسامرة التي ليس فيها فسوق في القول، بل مبادلة محبة ومحبة، وعندي أنه يجمع بين القولين، فتكون الهداية إلى القول الطيب والطريق المحمود في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
بعد أن بين الله تعالى جزاء المؤمنين عاد سبحانه إلى ذكر جزاء الكافرين وأعمالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال تعالى :
﴿ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ٢٥ ﴾.
ابتدأ سبحانه وتعالى القول بذكر الكافرين مؤكدا كفرهم ب"إن" الدالة على التأكيد، وقد ذكر الموصول لبيان أن الصلة هي سبب هذا الجزاء، والصلة فيها أمور ثلاثة تستدعي الاستنكار والعذاب الشديد :
الأمر الأول- الكفر، وكفر أهل مكة هو الإشراك بالله تعالى بعبادة الأوثان.
الأمر الثاني- الصد عن سبيل الله تعالى بإيذاء المؤمنين ومحاربتهم، ودعوة العرب إلى عدم الإيمان بالله وبرسوله.
الأمر الثالث- بصدهم عن المسجد الحرام، ومنعهم من أداء المؤمنين الحج فيه، ويظهر أن هذه الآية نزلت في فترة الحديبية، لأن المسلمين حيل بينهم وبين الوصول إلى المسجد الحرام، وهو للناس جميعا، ولذا وصفه الله تعالى بالموصول بقوله :﴿ الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ﴾، أي أن هؤلاء الناس المصدون عن المسجد الحرام من يريد الحج إليه وقد جعله الله – الذي باركه وأكرمهم به – للناس جميعا، وليس لقريش وحدها، فهم فيه كغيرهم من الناس، وإن كان الله تعالى كرمهم بأن جعل منهم سدنة البيت والقائمين عليه وعلى خدمته وعمارته، وكلمة﴿ سواء ﴾ قرئت مفتوحة وتكون مفعولا لجعلناه وهي المفعول الثاني، والأول الهاء، وتكون ﴿ للناس ﴾ متعلقة ب﴿ سواء ﴾، وقرئت مضمومة، وتكون مبتدأ، ويكون المعنى مستوفية العاكف والباد، وتكون الجملة في مقام المفعول الثاني أو حال١.
و﴿ العاكف ﴾ المقيم في مكة، وعبر عنه بالعاكف إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون عاكفا عابدا، لا أن يكون وثنيا مشركا، صادا عنه مانعا له، والبادي : المقيم في البادية، وإذا كان المقيم ببادية يستوي مع المقيم في مكة حول البيت الحرام فأولى المتحضر المقيم في الحاضرة، ولذا قالوا : إن البادي هو من يكون من غير أهل مكة سواء الحاضر فيها والبادي، والتعبير بالمضارع في يصدون إشارة إلى استمرارهم على الصد عن سبيل الله.
وخبر"إن" محذوف، دل عليه ما يجئ بعد ذلك من قوله :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد ﴾ تقديره له عذاب شديد، وقوله تعالى :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ﴾، أي إن الذي يريد فيه إلحادا وميلا عن الحق واحترام البيت وصيانته بظلم يرتكبه بالشرك والاعتداء على حرماته، وصد الناس، ومنعهم من الطواف يذيقه الله تعالى من عذاب أليم ينزل به في الدنيا بالحروب التي تهزمهم، وفي الآخرة بالنار يذوقون حريقها.
وفي قوله تعالى :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد ﴾ أمور بيانية نشير إليها :
الأمر الأول- في قوله ﴿ فيه ﴾ الضمير يعود إلى المسجد الحرام، أي يريد خروجا عن مبادئ الحق والإيمان متلبسا بإلحاد، و﴿ من ﴾ شرطية، وجواب الشرط ﴿ نذقه ﴾ إلى أخره، و"الباء" للملابسة أو الملاصقة أو تقوية التعدية، والإلحاد الميل عن الحق والانحراف إلى الباطل، يقال ألحد إلى كذا : مال إليه، ويقول الأصفهاني في مفرداته : الإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك بالله و إلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عراه ولا يبطله، ومن هذا النحو قوله تعالى :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ﴾.
ونرى أن الإلحاد هنا من النوع الذي يبطل الإيمان، فهو ميل وانحراف إلى عبادة غير الله تعالى، وقد فعل ذلك المشركون في المسجد الحرام، فقد كانت الأوثان مادة ذلك الإلحاد في البيت وموضوعة على الكعبة نفسها.
الأمر الثاني- أن قوله تعالى :﴿ بظلم ﴾، بيان لنوع الإلحاد، وهو الظلم، والشرك أفظع الظلم وأشده، ولقد قال تعالى :﴿... إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ﴾ ( لقمان ) وإن اللفظ المطلق إذا لم يفيد انصرف إلى أكمل أفراده، فهو هنا انصرف إلى الشرك وكان من المشركين مع الشرك الذي هو ألأشد الظلم ظلمات أخرى فكان فيهم ظلم الضعفاء وإيذاؤهم، وكان فيهم ظلم الاعتداء المتكرر منهم على المؤمنين، وكان فيهم ظلم الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيهم ظلم الغدر والخيانة ونكث العهود، وكانوا لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة.
الأمر الثالث- في قوله تعالى :﴿ نذقه من عذاب أليم ﴾، ﴿ من ﴾ هنا بيانية أو ابتدائية، أي نذقه عذابا أليما، أو نذقه ذوقا مرا مأخوذا من عذاب أليم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
١ : كلمة (سواء) منصوبة: قراءة حفص، وجبلة عن المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالنصب. غاية الاختصار: ٢/٥٧٨..
آيات في الحج
قال الله تعالى :
﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ٢٦ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ٢٧ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ٢٨ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ٢٩ ﴾.
الحج شريعة إبراهيم باني البيت صلى الله عليه وسلم، لأنه باني الكعبة، ولأنه أول من أمره الله سبحانه وتعالى بالدعوة إليه، ولأن مناسكه كلها هي مناسك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لأن ما فيه من هدى يومئ إلى فدية الله تعالى الذي فدى بها إسماعيل عليه السلام عندما هم بذبحه، برؤيا إبراهيم عليه السلام، وذكر هنا في المقام إشارة إلى أنه ليس حق الطواف فيه مقصورا على قريش وحدها.
﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ٢٦ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾ متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يا محمد لهؤلاء الذين يصدون عن البيت، ﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم ﴾، بوأ بمعنى هيأ وسوى، وهيأ وسوى، وهيأ المكان سواه وأعده، و"اللام" في قوله تعالى :﴿ لإبراهيم ﴾، "لام" الاختصاص، أي بوأنا المكان وسويناه لإبراهيم يتخذه مكانا للبيت الحرام، ويكون مثابة للناس وأمنا، كما أشارت لذلك الآيات الأخرى الكثيرة، وإن هذه التبوئة والمكان كان مكان عبادة، فهو إشارة إلى الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس، ولذلك كانت التبوئة من سياق تاريخ إبراهيم وأعماله عليه السلام متضمنة معنى العبادة، وقد فسر الله تعالى العبادة التي أمر الله بها نبيه وخليله إبراهيم بقوله تعالى :﴿ أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ﴾ ( أن ) هنا تفسيرية، وهي بيان لما تضمنه معنى التبوئة والتخصيص، وجعله مثابة للناس وأمنا.
فسر الله تعالى العبادة التي طالب الله سبحانه وتعالى خليله بها هي :
أولا- ﴿ لا تشرك بي شيئا ﴾، أي شيئا من الشرك، أي اجعل عبادتك لي خالصة، فلا تشرك في عبادتك صنما، ولا كوكبا، ولا شمسا ولا قمرا، ولا ترائي بأي نوع من الرياء في أي عبادة من العبادات.
وثانيا- تطهير البيت من كل ما فيه قاذورات حسا أو معنى، ﴿ للطائفين والقائمين والركع السجود ﴾، والقائمون هو القائمون للصلاة، فكأنه قد ذكر فيها الأمر بالصلاة، بالأمر بأركان من قيام وركوع وسجود، و﴿ الركع ﴾ جمع راكع، و﴿ السجود ﴾ جمع ساجد وقوله تعالى :﴿ أن لا تشرك ﴾ وما عطف عليها فيها الطلب بالنهي في ﴿ لا تشرك ﴾، وبالطلب في ﴿ وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ﴾، وأضاف سبحانه وتعالى إلى ذاته البيت في قوله تعالى :﴿ وطهر بيتي للطائفين ﴾ إلى آخره، تشريفا لهذا البيت زاده الله تشريفا وتكريما، ولبيان أن البيت بيت الله تعالى للناس أجمعين، فلا يسوغ لأحد أن يصد عنه، لأنه يصد عن أكرم بيوت الله تعالى، فكأن الصد عنه تحد لله تعالى، ولقد أمر سبحانه بعد الأمر بما أمر، وبما نهى عنه- أمر بأن يؤذن للحج، فقال تعالى :
﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامرا يأتين من كل فج عميق ٢٧ ﴾.
﴿ وأذن ﴾ أمر من الله تعالى لإبراهيم باني الكعبة ﴿ وأذن ﴾ – من "أذن" بمعنى أجاز- وأعلم كآذن، والتأذين : الإعلام والدعوة، والمؤذن هو الداعي إلى الله تعالى، وخصص –عرفا- بالدعوة إلى الصلاة.
﴿ في الناس ﴾ إخبار للناس كلهم عربا وعجما، وهي دعوة عامة إلى حج البيت الحرام، وعدى الفعل ب"في"، ولم يقل "الناس"، بل قال تعالى :﴿ في الناس ﴾ للإشارة إلى عموم الإعلام في الناس، لأنه إذا لم يذكر ( في )، فقد يفهم أنه يكلم أهل عصره، أو من يمكنه خطابهم فقط، وذكر ( في ) يدل على أن الإعلام في أوساطهم الناس كلهم، لا فرق بين القريب الداني والبعيد القاصي، فالجمع يجب أن يبادروا إلى الحج إلى بيت الله، لأنه أول بيت وضع للعبادة للناس، ولأن التأذين بالحج يتضمن إعلام الناس، أو معناه إعلام الناس تعدى بالباء.
والحج معناه القصد، وخص بالقصد إلى بيت الله الحرام، وخصص عرفا شرعيا، أو اصطلاحا دينيا بالقصد إلى الكعبة طائفا، وإلى الصفا والمروة ساعيا، وإلى عرفة واقفا في ميقاته، وهو من زوال اليوم التاسع، والبيات بمنى، والوقوف بالمشعر الحرام، وهو المزدلفة، والعود إلى منى ورمي الجمار بها بعد النحر في أيام ثلاث بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق ويكون الهدى، وسيشار إلى كثير من ذلك في الآيات التي نتكلم في معانيها من بعد.
﴿ يأتوك رجالا ﴾، أي إذا ناديت وأعلمتهم بفريضة الحج يأتوك راجلين سائرين على أقدامهم، و﴿ رجالا ﴾ جمع راجل كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، والراجل هو الماشي على رجله، في مقابل الراكب، وهنا أمران بيانيان :
الأمر الأول- في قوله :﴿ يأتوك رجالا ﴾، والدعوة ليست المجيء إلى إبراهيم، إنما المجيء إلى البيت وما حوله، ولكن ذكر المجيء إلى إبراهيم لأنه المؤذن، ولأنه الباني للبيت.
والأمر الثاني- أن ﴿ يأتوك ﴾، جواب الأمر، وهو يدل على قوة الإجابة، إذ يجمع الناس على الحق والهداية والتعاون وهو بيان لما ينبغي ويجب، ولا يمنع ذلك أن يكون في الناس عصاة لا يهتدون ولا يجيبون داعي الله تعالى.
﴿ وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾، الضامر : البعير المهزول الذي ضمر من شدة التعب، وأجهده السفر، وهذه الحال تكون عند وصوله مكة وما حولها، ويكون هذا الوصف دليلا على أن الذين جاءوا إلى البيت، وقد صرحت الآية بذلك في وصف الابتداء الذي ابتدأت به للاتجاه إلى بيت الله تعالى، فقال تعالى :﴿ من كل فج عميق ﴾ الفج يطلق على الطريق بين جبلين ويطلق على الطريق الواسع، والعميق معناه البعيد، وأطلق على البعيد بعدا رأسيا كالآبار ونحوها، ثم أطلق على البعيد مطلقا، و﴿ يأتين ﴾ يعود الضمير إلى الإبل تكريما لها في حمل الحجيج إلى بيت الله الحرام.
وإن هذه الدعوة التي قام بها إبراهيم خليل الله ومنشئ أول بيت وضع للناس في مكة وسط العالم والتي يصلي حولها العباد المسلمون وقد أخذت الآيات الكريمة تشير إلى مناسك الحج من غير بيان تفصيلي.
﴿ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ٢٨ ﴾.
"اللام" هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك السفر الطويل أن يشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، والشهود هو الحضور، أي يحضروا منافع لهم، ويعاينوها، ولكن ما هي هذه المنافع التي تسبق ذكر الله بالعبادة والذبح، قال ابن عباس رضي الله عنه : منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات، وأما منافع الآخرة، فرضوان الله تعالى، وكذا قال مجاهد راوي التفسير عن ابن عباس، ونقول : إنه سبحانه وتعالى ذكر المنافع بلفظ نكرة، والتعبير بالنكرة يدل على أنها منافع عظيمة، لا يقدر قدرها ولا تدرك نهايتها للناس، ونرى أن هذه المنافع مادية ومعنوية وعبادية، وهي سنام المنفعة، أما المنافع المادية فتجارات تتبادل بين الأقاليم الإسلامية، فأهل كل إقليم يجلبون معهم من مواردهم ما لا يكون عند غيرهم، فما عند الهنود من خيرات يفيضون به على غيرهم من المسلمين، وما عند المصريين من خيرات يفيضون به على غيرهم ممن ليس عندهم مثلها أو هو قليل، وتعقد في مواسم الحج الصفقات الاقتصادية وذلك ليس بممنوع، بل هو مطلوب، كما قال تعالى :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم... ١٩٨ ﴾ ( البقرة )، وإن ذلك يجيز بل يوجب أن يعقد في موسم الحج الاتفاقات التجارية، ويتخذ من موسم الحج موعدا للدراسات الاقتصادية بين المسلمين، ولقد كانت في مكة الأسواق التجارية مثل عكاظ وذي المجاز، وغيرهما.
أما المنافع المعنوية، فدراسة التعاون الإسلامي من كل النواحي الاجتماعية والحربية والتعاونية والتعليمية ويعمل كل إقليم على التعرف ببقية الأقاليم الإسلامية والتعريف بحاجاته من العلم والحرب، وغيرهما وكذلك يشعر كل إقليم بأنه يعيش في مدن الأقاليم الإسلامية، ولا يشعر بنفرة الانفراد.
أما المنافع الدينية، فهي قضاء النسك الإسلامي في أماكن النسك، وإن المنافع السابقة لا تخلو من أنها دينية، وأنها تكون عبادة إذا قصد بها وجه الله ورفعة الإسلام، وإيجاد وحدة الإسلامية وتوثيقها، فالمسلمون جميعا أمة واحدة، وبذلك ينتفع الحاج إلى بيت الله الحرام، وهو مزود بالتقوى والمعرفة والأخوة في الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ ذكر الله تسبيحه وامتلاء القلب بالإيمان به، والخضوع له، والخشوع، والضراعة له، وذكر اسمه لهذا أيضا، ولكن يذكر اسم الله على الذبيحة لتكون لله، وللبعد عن رجس الجاهلية في ذبحهم على النصب، وذكر اسم الأوثان، وذكر اسم الله تعالى هنا على ذبائح الهدى من البدن والغنم، والبدن اسم حبشي جمع للبدنة، وهي الذبائح من الإبل والبقر، فالواحدة منها تكفي عن سبعة.
ونلاحظ أنه ذكر سبحانه أن ذكر اسمه تعالى في أيام معلومات، وأن الذكر يكون على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فالذكر يكون على بهيمة الأنعام، والإضافة بيانية، أي بهيمة هي الأنعام جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وسميت نعما، ، لأنها نعمة الله تعالى، وهي التي تكون هديا في الحج، لمن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، أو في إحرامين بينهما تحلل في أشهر الحج.
وذكر اسم الله يكون في أيام معلومات، وهذا يقتضي أن يكون ذبح الهدى في هذه الأيام المعلومات، ولكن ما هي الأيام المعلومات التي يكون فيها الذبح، وذكر اسم الله تعالى فيها، بالتسبيح والتكبير، وامتلاء النفس والمشاعر المؤمنة به، ما هي هذه الأيام المعلومات، روي أنها الليالي العشر التي تبتدئ بيوم عرفات، وينتهي بها الحج، والتي جاء فيها النص القرآني بقوله تعالى :﴿... فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ١٩٨ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ١٩٩ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ٢٠٠ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ٢٠١ ﴾ ( البقرة ).
وقد وردت الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ذكر الله ودعائه في هذه الأيام العشر التي تبتدئ من اليوم التاسع، فقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد١".
وقيل : إن هذه الأيام المعلومات هي الأيام المعدودات في قوله تعالى :﴿ واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى... ٢٠٣ ﴾ ونميل إلى أنها الأيام العشرة، ولقد قيل : إنها الليالي العشر في قوله تعالى :﴿ والفجر ١ والليالي العشر ٢ ﴾ ( الفجر ).
قال تعالى :﴿ فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ﴾، "الفاء" هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا ذبحتموها اذكروا اسم الله تعالى فكلوا منها، فالأكل من الهدى مندوب، وليس فرضا، ولا ممنوعا، والبائس هو الذي يكون في شدة وبؤس شديد من مرض، أو شدة، أو إجهاد في سفر، والفقير المحتاج، وقد قال العلماء في الهدي : إن المندوب أن يأكل ما لا يزيد على الثلث، ويهدي ما لا يزيد على الثلث، ويطعم الفقير المحتاج، وقد يكون ثمة فقر شديد، وحاجة ملحة فيزيد في إطعام البائس الفقير.
١ : رواه بهذا أحمد: مسند المكثرين من الصحابة – مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (٥١٨٩)..
وقال تعالى :
﴿ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ٢٩ ﴾.
التفث : الأوساخ والأدوان التي تكونت بسبب المنع من الاستحمام، وحلق الشعر، والعانة والإبط، مما يوجبه الإحرام، ويستمر به الشخص محرما، لا يتناول شيئا مما حرمه الله تعالى، وذلك ليعيش عيشة الفقراء، فيحس بآلام الفقراء، وبؤس المحرومين من زينة الدنيا، وليكون الناس على سواء أمام الله تعالى، وليجيئوا إلى ضيافة الرحمن، كما ولدتهم أمهاتهم، ويخرجوا من الحج، كما ولدتهم أمهاتهم، وقضاء التفث يرمز إليه بحلق الرأس، أو التقصير والاكتفاء بقدر من قص الشعر، وتقليم الأظفار الذي كان ممنوعا بالتحريم.
والتعبير ب﴿ ثم ﴾ هنا لإفادة التفاوت بين حال المنع بالإحرام، وحال التحلل منه ثوبا مكرما، وحين ذلك يكون نحر الهدى لمن وجب عليه الهدى.
﴿ وليوفوا نذورهم ﴾ أمر بالوفاء بالنذور ووقته هو بعد التحلل من إحرام الحج، لأن الوفاء بالنذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"من نذر أن يطيع الله، فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه١"، وقد قال الفقهاء : إن النذر يجب الوفاء به بشرط ألا يكون معصية وأن يكون طاعة في ذاته، وأن يكون من جنسه، وكان الوفاء بالنذر بعد التحليل من الإحرام، لكيلا تختلط عبادتان، وليكون إحرام الحج خالصا للحج، ثم قال تعالى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ﴾ وشدد سبحانه في الطواف بصيغة الافتعال، تشديدا في الوجوب، لأن صيغة الافتعال تفيد التشديد في الفعل، وإن هذا الطواف الذي يكون بعد النحر والوقوف بعرفة والمشعر الحرام هو الركن، وهو ما يسمى بطواف الزيارة، و"البيت" هو المسجد الحرام، وذكره مجرد إشعار بشرفه، ولأنه معرف من غير تعريف، ووصف بالعتيق، "العتيق" معناه القديم، ومعناه المعتق من التعدي على حرماته، فهو أول بيت وضع للناس، كما قال تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا... ٩٦ ﴾( آل عمران )، وهو معتق من الاعتداء عليه من عدو مهاجم، وبذلك يتبين الإثم الكبير الذي رمى به الطاغية الأثيم الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا إلحاد في البيت، ولا يبرره أي مبرر، ولكن مع إثم الحجاج قد أعاد الله بيته على يده الهادمة، فكان معتقا أيضا.
١ سبق تخريجه..
تعظيم مناسك الحج
قال الله تعالى :
﴿ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ٣٠ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ٣١ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ٣٢ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ٣٣ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ٣٤ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلوات ومما رزقناهم ينفقون ٣٥ ﴾.
﴿ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ٣٠ ﴾ ذلك، الإشارة هنا إلى الحج الذي أذن به خليل الله إبراهيم، وتكون ذلك خبرا لمتبدأ محذوف تقديره الحج هو ذلك، لأن الآيات السابقة أشارت إلى أركانه وواجباته، إذ أشارت إلى الوقوف بعرفة أول الأيام العشرة، وأشارت إلى الطواف بالبيت، وأشارت إلى محرمات الإحرام، والتحلل، وحدت كل شعيرة من شعائره، ووقت لها في ميقاتها المعلوم، ثم حثت الآية الكريمة على المحافظة على حرمات الحج، فلا يتحلل قبل ميقاته لمن أحرم بالحج على حسب ما نوى من حج وعمرة أو أحدهما، ووقت تحلله من إحرامه، فقال :﴿ ومن يعظم حرمات الله ﴾، "الواو" عاطفة على جملة ﴿ ذلك ﴾ الدالة على التعريف الموجز للحج، والإشارة إلى أركانه، ومحرماته، وأوقاته، و﴿ يعظم ﴾ معناها يعطيها حقها من الإعظام والإكبار، فلا ينتهك موانع الإحرام، ولا يؤدي الأركان في مواعيدها، ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج، كما قال تعالى في كتابه الكريم :﴿ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج... ١٩٧ ﴾ ( البقرة )، والحرمات جمع "حرمة"، وهو ما لا يحل انتهاكه مما حرمه الله تعالى في الحج من بعد الإحرام هو فرض الحج عليه، وقد روى عن زيد بن أسلم أنه قال : حرمات الحج خمس : الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، وما حرمه الله تعالى على المحرم بعد فرضه الحج على نفسه١.
﴿ فهو خير له عند ربه ﴾، هذا جواب الشرط﴿ ومن يعظم حرمات الله ﴾ و"الفاء" واقعة في جواب الشرط، وهو قوله :﴿ فهو خير له عند ربه ﴾، فيها تأكيد الخيرية أولا : بذكر ضمير الفصل "هو" – ثانيا : بتخصيص الخيرية "له"، لأنه قام بمناسك الحج، أدى موجباتها وبعد عن موانعها، وقام بحق ضيافة الله تعالى حق قيامه، وتعاون مع المسلمين وتعرف بهم، وذلك خير له ولكل المؤمنين. وثالثا : بأن أضاف الخيرية بأنها ﴿ عند ربه ﴾ الكالئ له والحامي.
وقد ذكر الحرمات مضافة إلى ذي العزة والجلال حضا على صيانتها وتكريمها ومراعاتها حق رعايتها، وأحل ما أحل وحرم ما حرم، وإن الحج لا يكون خيرا إلا إذا طهرت النفوس من الآثام واتجهت إلى الديان وحده لا شريك له، ولذا قال تعالى عاطفا على ما قبله ﴿ وأحلت لكم الأنعام ﴾ الإضافة هنا بيانية، أي البهيمة التي هي الأنعام، أي أنها من النعم التي أنعم الله بها عليكم، فتحريمها بغير تحريم الله تعالى كفر بنعمته، واستباحتها بغير إباحة الله تعالى كفر بنعمته أيضا، ولذا قال تعالى :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ وما تلى هو ما جاء في سورة البقرة والأنعام والمائدة، وآخرها ما جاء في المائدة، فقد قال تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقيموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم بئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ٣ ﴾ ( المائدة ).
هذا ما أحل وهذا ما استثنى من الحلال، وذكرت بهائم الأنعام وإحلالها في هذا المقام لمناسبة الهدى ووجوبه والأكل منه، وإن المشركين كما أشرنا أحلوا ما حرم الله فأكلوا ما أهل به لغير الله من أوثانهم، وحرموا ما أحل الله تعالى في تحريم السائبة والوصيلة والحام، ونسبوا التحريم إلى الله تعالى، وذلك زور في القول، والإهلاك لغير الله وذبح على النصب والاستقسام بالأزلام، كل ذلك من الوثنية أو الكذب على الله تعالى، ولذلك جاء من بعد النهي عن الوثنية وقول الزور، فقال عز من قائل :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ﴾.
﴿ الرجس ﴾ هو الشيء القذر، والقذارة هنا معنوية وليست حسية، لأن النفس والعقل يقذران بتقديس الأحجار وعبادتها، لأنها تنزيل للفكر، وضلال في العقل، وافتئات على الله جل جلاله، والأوثان جمع وثن، وهو ما يعيد من تماثيل، وأصله من وثن الشيء أي أقامه في مقامه، فسمي الوثن كذلك، لأنه يركز في مقامه، وهو بطبعه جماد لا يتحرك إلا بمحرك، و﴿ من ﴾ في قوله تعالى :﴿ من الأوثان ﴾ بيانية، أي اجتنبوا الرجس، وهو الأوثان، ففي الكلام بيان بعد إبهام وهو يمكن المعنى في النفس، واجتنبوا معناها ابتعدوا كل الابتعاد، وهو أبلغ في النهي، وكان النهي عن الأوثان في هذا المقام، لأن الله أحل بهيمة الأنعام، إلا الميتة وما يشبهها، وما أهل لغير الله به، وقد استباحوا ما أهل به للأصنام وما ذبح على النصب، واستقسموا بالأزلام، فلا حج لمن كان كذلك، ولا خير له في حجه.
وعطف الله تعالى الأمر باجتناب قول الزور على اجتناب الأوثان، لأنهم كانوا يحرمون على أنفسهم بعض بهائم الأنعام، وينسبون التحريم إلى الله كاذبين مزورين، ولا حج لهؤلاء، ولا خير لهم في تعظيمهم بعض مناسك الحج، لأن الخير يكون لمن قام بالواجب، وأبعد موانع القربى إلى الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى الذي يكون تعظيم حرمات الله خيرا له عند ربه بقوله تعالى :
﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ٣١ ﴾.
١ : زيد بن أسلم، العدوي القرشي، وكنيته أبو أسامة، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو ثقة يرسل، أقام بالمدينة وتوفي بها ١٣٢ هـ. راجع الطبقات الكبرى لابن سعد- الطبقة الوسطى – زيد بن أسلم..
هذه الآية جزء متمم للآية السابقة متصلة بألفاظها، ولذا كانت كلمة ﴿ حنفاء ﴾ حال من "الواو" في ﴿ فاجتنبوا ﴾، أي اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم خالصين لله تعالى مستقيمين سائرين في سبيله، و﴿ حنفاء ﴾ جمع حنيف، وهو المائل من الانحراف إلى الاستقامة، فهؤلاء يخلصون من رجس الأوثان، ومن قول الزور الاستقامة والإخلاص لله تعالى أي يكونون كلهم لله تعالى لا يبغونها عوجا فليس فيهم ضلال قط، ولا إشراك قط، بل خلصوا أنفسهم لله وحده، لا يشركون في قلوبهم غيره، ولذا قال تعالى مؤكدا معنى إخلاصهم لله تعالى :﴿ غير مشركين به ﴾، حال بعد حال، أي غير مشركين به أحدا أو شيئا في عبادته، وضرب بعد ذلك مثلا للمشركين يصور كيف ينحدر من سماء العقل والفكر، إلى منهوى الأرض، فقال تعالى :﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ﴾ شبه الله تعالى من يشرك بالله تعالى قد أضله الشيطان وأغواه بتشبيهين مبينين المنهوى الذي انهوى إليه عقله ومداركه، فشبهه في الأول بمن خر من السماء هابطا، ففي هبوطه تخطفه الطير، فتقطعه بمناقيرها، والتهمته أجزاء، وذلك لأن من أشرك قد هوى من سماء الإدراك السليم، والفكر المستقيم إلى مهاو توزعته الأهواء، حتى صار ليس له فكر جامع، بل صار موزعا بين ضلال شتت نفسه، وصار موزعا بين أوهام فاسدة لا راشدا يرشده، ولا عقل يهديه.
والتشبيه الثاني هو أن من يشرك بالله فكأنما خر من السماء، وصار كالريشة في مهب ريح الشك والأوهام فيركب متن ريح هوجاء ألقته في مكان سحيق عن الحق، والهداية، بل صار ينتقل من ضلال إلى ضلال لا إرادة له.
والسحق التفتيت، والمكان السحيق، أي البعيد يلقي إليه مع بعده فتاتا مقطع الفكر موزع الأهواء، ولا فكر يسير ولا عقل يرشد، وقد قبسنا الكلام في هذين التشبيهين مع التوضيح والتوجيه من كلام الزمخشري، فقد قال :"ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به المهاوي الملتفة" أه.
ونرى أنه جعله تشبيها واحدا مركبا ومفرقا، ونرى أنه تشبيهان مفرقين أو مركبين، وإن هذا التصوير كما ذكرنا، وكما ذكر الزمخشري هو على ذلك في الدنيا، لبيان هلاك المشرك، وتخطف الأهواء لمداركه ويبين فساد عقله وضلاله، وإنه لا يكون بالنسبة للدين إلا في حيرة تسيره الأوهام ولا سلطان له على نفسه، وقد قال بعض المفسرين : إن تحقق هذه الحال المبينة بالتشبيه، إنما هي في الآخرة لا في الدنيا. وإننا نرى أن الجميع ممكن بأن تكون هذه حاله في الدنيا والآخرة، وإنه في الدنيا يتردى إلا ضلال الأوهام والأهواء من سماء الإيمان، وفي الآخرة يتردى إلى العذاب الأليم الذي يكون فيه خالدا.
﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ٣٢ ﴾.
الإشارة إلى الحج، والفاصل كان متعلقا بالحج، فقد كان فيه الأمر باجتناب رجس الأوثان، والكذب على الله بقول الزور والأمر بأن تكون الذبيحة لله، وأن يكون البعد عن الإشراك، وكل هذا إن لم يكن من الحج ليس بعيدا عنه، ولذا كان الاعتراض بما هو تتميم للحج، فالمعنى ذلك الحج بما فيه من حرمات، وإذا كانت حرمات الله تعالى يجب أن تكون مصونة غير معتدى عليها، فكذلك شعائر الله تعالى يجب أن تكون مصونة معظمة، وشعائر الله تعالى جمع شعيرة، وهي الأنعام التي وضعت عليها علامة على أنها خصصت للبيت الحرام تذبح فيه، ولذا صحت نسبتها إلى الله تعالى أو إضافتها إليه عز وجل، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني :"ويقال : شعائر الحج الواحد شعيرة... أي ما يهدي إلى بيت الله تعالى، وسمي بذلك، لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أو حديدة يشعر بها"، وكانت واجبة التعظيم، لا لذات البهيمة، بل لأنها لبيت الله تعالى، ولأنها دليل الاتجاه إلى العطاء الكريم في بيت الله، ولأنها تكون لفقراء مكة الذين يكون إطعامهم استجابة لدعاء إبراهيم، وتعظيمها ألا تمس بسوء، وألا يعتدي عليها، وأن يحافظ عليها وعلى الشعائر الذي أشعرت به، وأن تختار من خير صنفها في عظامه وسنامه، وسمنه، وأن يكون لها أكل طيب بالنسبة لها. ويقول تعالى :﴿ فإنها من تقوى القلوب ﴾، الضمير في ﴿ فإنها ﴾ يعود إلا الشعائر، و"الفاء" واقعة في جواب الشرط، وهو قوله تعالى :﴿ ومن يعظم شعائر الله ﴾ وكانت الشعائر من تقوى القلوب لأن تخصيصها لفقراء الحرم، والاتجاه بها في العبادة مظهر حسي يدل على تقوى القلوب، وهي بمقصدها وغايتها نابعة من التقوى، وهي استشعار خشية الله تعالى والشعور بضيافته، ويلتقي بالناس متساويا معهم فقيرا وغنيا، ومعينا لفقيرهم، ومكرما لضيوف الرحمن من الحجيج، وأضيفت التقوى إلى القلوب، لأن القلب هو مكان التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"التقوى هاهنا"، وأشار إلى قلبه الكريم.١
١ : عن هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". رواه مسلم..
﴿ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ٣٣ ﴾.
الضمير في ﴿ فيها ﴾ يعود على الشعائر على أساس أن البدن وغيرها من هدايا البيت هي الشعائر، على أساس ما يرمز إليه من تكريم البيت، والمعاونة في ضيافته، ﴿ لكم فيها منافع ﴾ بدرها وعملها، وصوفها ووبرها ما دامت في حوزتكم ﴿ إلى أجل مسمى ﴾، وهو مدة بقائها في أيديكم إلى أن يحين وقت نحرها في يوم النحر، وفي هذه الحال يكون نسلها لكم، وكل ما يكون لها من نفع، ﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾، ﴿ ثم ﴾ للترتيب والتراخي، والتراخي هنا التراخي الزمنين، إن كان ثمة تراخ في الزمن، وهو زمن السير في ميقات الحج إلى محلها العتيق، والتراخي المعنوي، وهو أنها تنتقل من دابة لمنافع دنيوية إلى مرتبة دينية تشعر وتكون من شعائر الرحمن، وتحبس للفقراء في البيت، و﴿ ثم ﴾ مع دلالتها على التراخي تدل على انتهاء الأجل المسمى والغاية التي تنتهي إليها هذه الشعيرة، وهي المكان الذي تذبح فيه ﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾، أي محل ذبحها ينتهي إلى البيت العتيق، وهو أقدم بيت وأكرمه، وهو المعتق المعصوم من تحكم الملوك وسيطرتهم، فلم يسيطر عليه ملك قط، وما كان من هدم الحجاج الطاغية له مع أنه كان طغيان من لا يهتم لمناسك الله – لم يكن لم يكن تسلطا من سلطان ملك، وقد بناه من بعد عبد الملك بن مروان الذي كان الحجاج يعمل له.
﴿ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ٣٤ ﴾.
"المنسك" اسم مكان من "نسك" هو مكان العبادة، والعبادة يطلق عليها النسك، وقد اختار الله لأمة محمد البيت الحرام مكانا لنسكها وأداء العبادة في حج البيت الحرام، والإقامة فيما حوله، وأن يكون الذبح، وإطعام الفقراء، ﴿ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾، أي يذكروا اسم الله تعالى عند ذبحها، شاكرين له نعمته وإذا كان الله تعالى شارع الشرائع قد جعل لكم أمة منسكا هم ناسكوه، فذلك لأنه إلهكم أنتم وغيركم إلها واحدا، فكان للماضين من الأمم منسك لكل أمة واحد، وإذا كان الله واحدا أحدا، فالمناسك كلها في ماضيها وحاضرها له سبحانه، وهو مبينها للماضين، كما بينها للحاضرين، وجعل منسك أمة خاتم النبيين هي مكة المكرمة التي بها البيت العتيق، أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة.
و"الفاء" في قوله تعالى :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾ هي فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ المعنى إذا كان لكل أمة منسك فالله الذي شرع المناسك واحد، وكلها لعبادته والتقرب إليه سبحانه وتعالى، كذلك كان منسككم، وكان للماضين مناسك شرعها ﴿ فله أسلموا وبشر المخبتين ﴾، "الفاء" عاطفة، ﴿ أسلموا ﴾، أي أذعنوا، وأطيعوا متطامنين غير متمردين، ولا متطاولين ولا مستطيلين على أحد، ولذا قال تعالى :﴿ وبشر المخبتين ﴾ بالثواب الجزيل والنعيم المقيم، ورضوان الله تعالى، وهو أكبر الجزاء، فرضا الخالق بديع السماوات والأرض غاية أهل الإيمان العليا التي هي فوق كل مبتغى.
والمخبت هو المتطامن المتواضع الذي لا يتعالى، ولا يستطيل على أحد، وقد قال الراغب الأصفهاني في مادة خبت :"الخبت المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، ﴿ وبشر المخبتين ﴾، أي : المتواضعين، فالتواضع سمة المؤمنين، والغطرسة سمة الكافرين، والذين لم يشرب قلوبهم حب الإيمان، وهم ليسوا أذلاء، بل هم الأعزاء، ولقد قال محمد صلى الله عليه وسلم :"ما نقصت صدقة من مال. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"١.
١ رواه مسلم (٦٥٤٤)، وقد سبق تخريجه..
وقد وصف الله تعالى المخبتين الذين بشرهم سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ٣٥ ﴾.
خلال أربع هي جماع خصال المؤمن الذي هذبت نفسه، وتجمل بالصبر، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله تعالى.
الخلة الأولى- ﴿ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾، ( الوجل ) الخوف والخشية من الله، لا لأنهم كثيرو الذنوب، إنما هو لاستصغار حسناتهم، واستكثار سيئاتهم وتصورها، فهم من الله تعالى القوي القهار في وجل، ومن خاف الله حذر مخالفته، وحاول طاعته، وسعى في مرضاته، والوجل صفة أهل الإيمان كما قال تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ٢ ﴾ ( الأنفال )، وقال تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... ٢٣ ﴾ ( الزمر ).
هذه حال الذين يعرفون الله ويتقونه حق تقاته.
الخلة الثانية- فيها الصبر، ولذا قال تعالى :﴿ والصابرين على ما أصابهم ﴾، والصبر ضبط النفس، وسيطرة العقل، فإذا أصابهم أمر من أمور الدنيا المزعجة لا يهلعون ولا يفزعون، ويضبطون أنفسهم، فلا يكون عليهم شهوة جامحة، فلا يكون الهوى سيدا مطاعا، بل تكون الشهوة أمة لا سيطرة لها، وإن كل شيء من مصائب الدنيا يهون أمام الصابر.
والخلة الثالثة – إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة في ظاهرها وباطنها، فتكون النفس خاشعة خاضعة قانتة تحس النفس بروعتها، وأنها في حضرة ذي الجلال والإكرام وتمتلئ النفس بهيبته، وتخشع لعظمته، ولذا قال تعالى :﴿ والمقيمي الصلاة ﴾ عبر باسم الفاعل لبيان أن الصلاة صارت شأنا من شئونه لا يتخلف عنها، والصلاة والصبر فيهما عون للمؤمن على الطاعة، قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ٤٠ ﴾ ( البقرة ).
والخلة الرابعة- الاتجاه إلى التعاون الاجتماعي، وذلك بمعونة الفقير، وسد الحاجات الاجتماعية والحربية، وهذا قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾، والإنفاق يشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المنثورة، والصدقات تكفر الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار )١، ويشمل الذنوب والكفارات، ويشمل الإنفاق في الجهاد كما قال تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... ١٩٥ ﴾ ( البقرة )، لأن ترك الإنفاق في الجهاد يؤدي إلى التهلكة والانهزام.
وقد تقدم قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ﴾ على الفعل، لبيان أن الإنفاق مما رزقهم الله وحده فليس من جهودهم ولا أعمالهم ولكن من توفيق الله تعالى، ومن رزقه الذي رزقه إياهم.
وإن الإنفاق بكل أنواعه التي أشرنا إليها هو تعاون اجتماعي في السلم والحرب، ولذا سماه الله تعالى الماعون فقال تعالى :﴿ فويل للمصلين ٤ الذين هم عن صلاتهم ساهون ٥ الذين هم يراءون ٦ ويمنعون الماعون ٧ ﴾ ( الماعون )، وهي الزكاة، لأنها يكون بها التعاون الدائم المستمر.
١ سبق تخريجه..
أعلى أنواع الهدى
قال الله تعالى :
﴿ والبدن جعلناه لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ٣٦ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ٣٧ ﴾.
البدن جمع بدنة، وهي تطلق على البدنة من الإبل، وسميت كذلك، لبدنتها، وسمنها وضخامتها، ولا تطلق إلا على الإبل وتعطى البقرة حكمها، فتجزى عن سبعة كما تجزى البدنة، لأنهما متقاربان في الحجم، وما يؤخذ منهما من لحم، والبدن من شعائر الله، أي أن سوقها في الحج من شعائر الله، وهي جمع شعيرة، وهي العبادة المعلمة التي يجمع فيها بين البينة، والإعلام بمناسك الحج، وذلك لأن أيام الحج كلها أيام إعلام، وإشعار بمناسك الحج، يلتقي فيها المظهر الإعلامي، وتقوى القلوب، فهي باعتبارها، وكون العبد قائما في ضيافة الله، واستشعار عظمته وجلاله في كل عمل من أعماله، وطاعته، وتكبيره، وإهلاله وترتيبه، في كل هذا تقوى القلوب، ولأنها مظهر حسي، كانت شعيرة معلمة كالقيام والقراءة والركوع والسجود شعائر معلمة، ولأنها مناجاة العبد لربه كان فيها تقوى القلوب.
﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، وفي قراءة صوافّ، وصواف جمع صافة، والصافة هي من رفعت إحدى يديها بالفعل لئلا تضطرب، والمعنى اذكر اسم الله تعالى عند إعدادها للذبح، وصافنة كصافة في المعنى.
والذي أراه أن تصف النوق صفوفا عند ذبحها، بحيث تكون مقدمة للذبح في صفوف متتالية بعضها وراء بعض، وذلك فيه روعة في المظهر، وظهور للمشعر، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾ أي مصطفة، وصففت كذا : جعلته على صف واحد، قال تعالى :﴿... على سرر مصفوفة... ٢٠ ﴾ ( الطور ).
﴿ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ﴾، ﴿ وجبت جنوبها ﴾، أي سقطت ذبيحة بعد ذكر اسم الله تعالى، ﴿ فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ﴾، "القانع" من القناعة، وهو الفقير الراضي الذي لا يسأل الناس إلحافا، و"المعتر" افتعل من عر، وهو الذي يكشف فقره ولا يستره، ويطلب من الناس، ولا يمتنع عن السؤال، والإعطاء لهؤلاء صدقة مبرورة، وقدم عليها أكله هو لكيلا يحسب الناس أنه لا يصح أن يأكل، ﴿ كذلك سخرناها لكم ﴾، أي أنها مسخرة لكم تقضون عليها حوائجكم، وتنقلكم في هذه الصحراء المحرقة، وكما يقول الناس : الجمل سفينة الصحراء، إنه ينقل الأحمال في الصحراء كما تنقل السفينة الأحمال من إقليم إلى إقليم على متن البحار، وسخرها معناها زللها لكم لتكون في منافعكم، والكاف للتشبيه، أي أن الإبل كما أن الله جعلها من شعائر الله قد سخرها لكم﴿ لعلكم تشكرون ﴾، أي رجاء أن تشكرون الله تعالى على أنعمه التي أنعمها عليكم ولا تكفروها، ﴿... لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ ( إبراهيم ).
وإن هذا كله لخير العباد، ولإعلان المناسك، ولا يعود على ذات الله تعالى العلية منها شيء.
﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على هداكم وبشر المحسنين ٣٧ ﴾.
نفى الله تعالى نفيا مؤكدا، أن يصل إلى الله تعالى منها شيء، لأنه واجد الوجود غير محتاج حتى يحتاج إلى لحم البدن ودماؤها، فإنما يحتاج إلى ذلك من يكون فقيرا إليها، ولا أن تكون مرضاته في لحومها، ولا في دمائها، فإذا كان قد أوجب عليكم نحرها، والتقرب بذبحها، فليس ذلك لأجل رضائه باللحم والدماء، ﴿ ولكن يناله التقوى منكم ﴾، أي يبلغ مبلغ رضاه وقبوله التقوى منكم، فالله سبحانه لا يرضى بلحم يؤكل ولا تكون مرضاته في دم مهراق، وإن كان ذلك، وإنما يبلغ مرضاته وقبوله التقوى، وهذه إشارة إلى أمرين :
الأمر الأول- أن الدم المهراق مطلوب في الحج تذكيرا بفداء إسماعيل.
والأمر الثاني- أن الله تعالى ما طلب شعيرة البدن إلا لأجل التقوى، ولتكون مظهر هذه التقوى القلبية، وشعار مناسك الحج.
﴿ كذلك سخرها لكم ﴾، أي كهذا التسخير من ذبح وأكل وتصدق﴿ سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ﴾، واللام للعاقبة، أي سخرها لتكون العاقبة أن تكبروا الله في الحج على هدايتكم إليه سبحانه وتعالى، ولتقيموا شعائره، ولتحسنوا أداء التكليفات التي كلفتموها، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، أي أن المحسنين ينالون الخير العميم، والفضل العظيم، والهداية، فبشرهم بالبشرى الطيبة، والجزاء الحسن، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
الإذن بالجهاد
قال الله تعالى :
﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ٣٨ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ٤٠ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ٤١ ﴾.
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات... ٢٥٧ ﴾ ( البقرة )، وإذا كان الذين آمنوا أولياء الله فإنه يتولى الدفاع عنهم، وحمايتهم ما داموا قائمين على الحق يستمسكون بالعروة الوثقى، ولذا قال تعالى :
﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ٣٨ ﴾.
لقد دافع الله عن الذين آمنوا فحفظهم في مكة، وإذا كانوا قد تعرضوا للأذى، فقد حماهم الله بالصبر، والهجرة فارين بدينهم إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة، وأفرغ عليهم الصبر، واحتموا بحمايته، وهو عدة المؤمنين، ولما هاجروا إلى المدينة خف عنهم الإيذاء وزال، ولكن كتب عليهم الجهاد، وأذن لهم في القتال، فكانت حماية الله تعالى أوضح، ونجد هنا أنه سبحانه عبر بالمضارع والمستقبل، أي أن الله من شأنه أن يدافع عن الذين آمنوا، لأنهم أولياؤه، وأحباؤه، ومن نصبهم للدفاع عن الحق ودين الحق، وقد أكد الله دفاعه عن الحق ب"إن" وذكر لفظ الجلالة الله جل جلاله القوي المستقيم، ومن ينصره الله فلا غالب له، وقد أكد سبحانه دفاعه بأن سبحانه لا يحب أعداءهم، لأنهم أعداء الحق المتألبون عليه، ولأنهم خائبون وأشد الناس كفرا، فقال عز من قائل :﴿ إن الله لا يحب كل خوان كفور ﴾ فهذه الجملة السامية في مقام التعليل لمدافعته سبحانه عن المؤمنين، إذ هو سبحانه لا يحب مقاتليهم، قد ذكر وصفين من أوصافهما هما سبب أن الله تعالى لا يحبهم :
الوصف الأول- الخيانة التي بالغوا في الاتصاف بها.
والوصف الثاني- الكفر الذي أوغلوا فيه وأمعنوا، ولذا عبر ب﴿ خوان كفور ﴾، والخيانة تتضمن مخالفة الفطرة، وتتضمن عدم طاعة أوامره ونواهيه، وتتضمن عبادتهم أحجارا، وإشراكهم مع الله، وتتضمن خيانة المؤمنين، ونكث العهود كما كان يفعل اليهود الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ومالأوا أعداءه وعاونوهم، حتى برز لهم وأجلاهم من ديارهم، وقتل رءوس الفساد فيهم، وغزاهم في خيبر. و"الكفور" هو الذي أشرك وسيطرت عليه الأوهام، وكفر بنعمة الله تعالى، وافترى على الله تعالى، فادعى أن الله حرم وما حرم، وأحل وما أحل.
وقد ذكر سبحانه الكلية فقال :﴿ كل خوان كفور ﴾ لعمومهم في الخيانة آحادا وجماعات، فليس منهم إلا خوان كفور.
وقال تعالى :﴿ يدافع ﴾ بصيغة المفاعلة للدلالة على المغالبة بين الحق والباطل، وأن الله معهم في هذه المغالبة.
﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ ﴾.
لم يجئ محمد صلى الله عليه وسلم للقتال، ولكن جاء للحق والدعوة إليه، ولنصرة الفضيلة، وفضيلته إيجابية وليست سلبية، ودينه إيجابي، وليس بسلبي، وما كان ليستخذى أمام الباطل، بل يقاومه، وإلا عم الفساد، ولذا قال تعالى :﴿... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ٢٥١ ﴾ ( البقرة )، ولقد كان المؤمنون في مكة يؤذون فيصبرون، حتى إذا كانوا في المدينة وكانت لهم قوة حامية أذن لهم في القتال دفاعا عن كيانهم ودينهم، فقال تعالى :
﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾ وعبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول.... و﴿ يقاتلون ﴾، إشارة إلى أن المؤمنين لم يبتدئوا بالقتال، بل ابتدأ غيرهم عندما كانوا يؤذون المؤمنين، وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاطوا بداره ليقتلوه، ولكن الله نجاه منهم، كما قال تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ ﴾ ( الأنفال ).
وقد علل الله تعالى الإذن بالقتال : بقوله :﴿ بأنهم ظلموا ﴾، أي بسبب أنهم ظلموا، وانتصار الأمة المظلومة من الظالمين لها أمر يسوغه قانون العدل وقانون الرحمة، فمن الرحمة بالإنسان وقف ظلمه، ورد بغيه عليه، وأن يدافع عن المؤمنين المظلومين كما وعد، ولذا قال سبحانه :﴿ وإن الله على نصرهم لقدير ﴾.
أي أن الله كالئهم، وقادر وقدرته مطلقة على نصرهم إذا أخذوا في الأسباب وأعدوا للقتال عدته، وتقدموا بقلوب خاضعة لله تعالى مؤمنة به سبحانه، وقد أكد سبحانه وتعالى نصره لهم ب"إن" ويذكر لفظ الجلالة وهو ﴿ الله ﴾ القادر الغالب، وبتقديم الجار والمجرور ﴿ على نصرهم ﴾، وب "اللام" في قوله :﴿ لقدير ﴾، والله ينصر من ينصره، ويؤيد بالحق المؤمنين، ويخزي الكافرين.
وقد ذكر سبحانه كيف ظلم المؤمنون، فقال عز من قائل :
﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ٤٠ ﴾.
﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ﴾، بيان لظلمهم، إذ إن الخروج من الديار والبعد عن الأوطان في ذاته ظلم، وإذا كان بغير سبب مسوغ أو حق مبرر يكون الظلم، ولذا ذكر هذا الأشر١ فقال :﴿ بغير حق ﴾، أي بغير مبرر إلا أن يكون ( ظلما )، لأنه إذا لم يكن يسوغ أو يبرر فهو ظلم لا محالة وقد أكد ذلك الظلم، وإنه بغير حق، بل لأمر غير حق﴿ إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وهذا من بديع القول ففيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك كقول النابغة الذبياني :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى للنص السامي أن هؤلاء المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يكون ما شاهت به عقولهم، وضلت به أفهامهم من إشراك بالله تعالى في العبادة، وخضوع للأوهام، فيحسبون قول :﴿ ربنا الله ﴾ باطلا وهو الحق، فإنهم ما أنكروه ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله... ٢٥ ﴾ ( لقمان )، وقوله تعالى حكاية عن المؤمنين ﴿ ربنا الله ﴾ يفيد قصر الربوبية على الله تعالى وحده إذ لا رب سواه، ولا خالق سواه، ولا معبود بحق سواه.
وإنه تجب محاربة الباطل، ومقاومة الشر، ومدافعة الظلم، ولا تحكم الفساد والطغيان، ولكان الناس تحت طاغوت مستمر، ولذا قال تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾، ( لولا ) حرف امتناع لوجود، أي لولا وجود الدفع بأمر الله ﴿ لهدمت صوامع... ﴾، أي دور العبادة لكن لم تهدم بيوت العبادة لوجود منع الله الأخيار للأشرار، والصوامع جمع صومعة، وهي البيوت المخصصة للرهبانية، و"البيع"، وهي كنائس النصارى، و"الصلوات" وهي بيوت العبادة لليهود، قال الزجاج : هي كنائس اليهود وهي بالعبرانية صلوتا، ثم عربت فصارت صلوات.
والنص الكريم يفيد أن دفع الباطل إذا لم يكن لم يستطع أهل دين أن يقيموا عباداتهم، فتهدم صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وكانت تهدم هذه البيوت، ولا تقام شعائر أهل دين من الأديان السماوية قبل انتساخها، وساد الشرك وتحكم، وهذا النص السامي يفيد أمرين :
الأمر الأول- تمكين أهل كل دين من عبادتهم ببقاء أماكن العبادة لا تهدم ولا تمس.
والأمر الثاني- منع هدم معابد أهل الذمة على ألا يحدثوا جديدا.
﴿ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾، ﴿ مساجد ﴾ معطوف على ﴿ صوامع ﴾، أي لهدمت مساجد يهدمها المشركون إذا استطاعوا، ولكن يدفع الله الناس بعضهم ببعض، فلا يمكنون، ووصف الله تعالى المساجد بأنها﴿ يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾، كما قال في آية أخرى :﴿ في بيوت آذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها الغدو والآصال ٣٢ رجال لا تلهبهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ٣٧ ﴾ ( النور ).
وأخيرا نقرر حكم الله تعالى، وهو أن حكم الله تعالى أنه إن لم يدفع الشر يتحكم، وتهدم بيوت العبادة كلها، وتهدم المساجد على العباد، والله سبحانه يتولى عباده.
﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾، هذا قسم من رب العزة جل جلاله، ولذلك كانت "اللام" وكانت "نون" التوكيد الثقيلة، وكان القسم من ذي العزة والجلال أن ينصر من ينصره بأن ينصر دينه ويطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويكون معليا لكلمة الحق والإيمان، وإنه في مقابل نصره لله ينصره، فالله لا ينصر من يكون عدوا لله تعالى ولمبادئه ومشركا به أوثانا لا يضرون ولا ينفعون، وإن من ينصره الله غالب لا محالة، ولذا قال سبحانه :﴿ إن الله لقوي عزيز ﴾، فينصر من يعمل لإعزاز دينه وهو قوي قاهر قادر على كل شيء، وأكد قوته سبحانه ب ﴿ إن ﴾ الدالة على التوكيد، وب"اللام" وبذكر لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾، ويوصفه بالعزة وهي أنه ذو المنعة الغالب القهار.
وإن أولئك الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إن مكنوا في الأرض أقاموا العبادة الحق، وأصلحوا، ولا يفسدون، ولذا قال تعالى :
﴿ الذي إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ٤١ ﴾.
١ : الأشر: البطر. الصحاح..
إن الظلم وقع على الذين أخرجوا من ديارهم بحق إلا أن يقولوا ربنا الله، وإن هؤلاء خير البرية ولهم فضل أنهم لا يشركون بالله، وإنهم ليقولون ربنا الله فيحكمون بوحدة الربوبية ووحدة الخلق ووحدة التكوين، وهم إن تمكنوا من الأرض عمروها، وسادتها العبادة الحق والتعاون في المال والفضيلة.
قال تعالى :﴿ الذين ﴾، هذا وصف ثان للذين أخرجوا من ديارهم، وقد صورهم سبحانه مظلومين أذن لهم بالدفاع عن الحق الذي حملوه، وردع الباطل الذي ظلموا منه، ويصورهم الآن أنهم إن مكنوا في الأرض عمروها، ونشروا فيها الخير والفضيلة، و﴿ إن مكناهم ﴾، أي جعلنا لهم مكانا متميزا في الأرض، ودولة قائمة في الأرض يظلها العدل والخير والفضيلة، وقد ذكر الله تعالى أعمالا يقومون بها إن وجدت في جماعة كانت الأمة الفاضلة في الأرض.
أول هذه الأعمال : إقامة الصلاة التي تقوم بها تلك الجماعة الكريمة تطهير نفوس آحادها، وملؤها بطاعة الله وخشيته، وذلك بإقامة الصلاة فقال :﴿ أقاموا الصلاة ﴾، أي أتوا بها مقومة تمتلئ فيها القلوب بذكره سبحانه، وتستشعر خشيته وهيبته ومحبته وجلالته، وبذلك تتطهر القلوب، وتعمرها خشية الله تعالى ومحبته، فتحب عباده، وتحب كل شيء له، ويتحقق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"١.
ثاني هذه الأعمال : إيتاء الزكاة، ﴿ وآتوا الزكاة ﴾، وهي حق السائل والمحروم، وهي رمز للتعاون الاجتماعي بين القادر والعاجز والغني والفقير، ومن ابتلاه الله تعالى بالمال، ومن ابتلاه الله تعالى بالحرمان.
وثالث هذه الأعمال : التعاون على الخير، ودفع الآثام، وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكوين رأي عام فاضل يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة، وهو قوله تعالى :﴿ وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ﴾ وبها يتكون رأي عام فاضل يشجع الفضلاء، ويقمع الأرذلين.
وقال تعالى في ختام الآية الكريمة :﴿ ولله عاقبة الأمور ﴾، وهو يشير إلى أنهم يؤمنون بلقاء الله تعالى وأنهم لم يخلقوا سدى، فيكون الخير لأهله يوم القيامة جنات النعيم، ولأهل الشر عذاب الحميم.
١ : ورد بلفظ: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وهو جزء من حديث صحيح وقد سبق تخريجه.
.

تكذيب الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى :
﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ٤٢ وقوم إبراهيم وقوم لوط ٤٣ وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ٤٤ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ٤٥ ﴾.
هذه إشارات إلى قصص بعض النبيين الذين طغت أقوامهم في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وكيف كانت عاقبة أمرهم من هلاك لم ينتظروه، وشر لم يتوقعوه، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في عناد قومه له، فهو تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للمشركين الذين جحدوا بآيات الله.
﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ٤٢ وقوم إبراهيم وقوم لوط ٤٣ ﴾.
ذكر الله تعالى ما يشير إلى قوم نوح، وقد عاندوه وجادلوه، وتحدوه أن ينزل بهم ما هددهم به، وقد أغرقهم الله ولم ينج معه في السفينة إلا من آمن وأهله إلا امرأته وابنه إلى آخر ما بينه سبحانه وتعالى في قصصه الحكيم وآياته البينات.
وأشار سبحانه إلى قصة عاد قوم نبي الله تعالى هود عليه السلام أن عاندوه وكفروا به فجاءتهم ريح صرصر عاتية، وإلى قوم ثمود قوم صالح عليه السلام، الذين عقروا الناقة، فدمدم عليهم ربك عذابا ريحا صرصرا عاتية.
وأشار سبحانه إلى قوم إبراهيم عليه السلام الذين أرادوا إحراقه عندما حطم لهم الأوثان، وإلى قوم لوط الذين كانوا يأتون الفاحشة ما سبقتهم بها من أحد من العالمين، وكيف دمر عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
تكذيب الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى :
﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ٤٢ وقوم إبراهيم وقوم لوط ٤٣ وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ٤٤ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ٤٥ ﴾.
هذه إشارات إلى قصص بعض النبيين الذين طغت أقوامهم في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وكيف كانت عاقبة أمرهم من هلاك لم ينتظروه، وشر لم يتوقعوه، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في عناد قومه له، فهو تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للمشركين الذين جحدوا بآيات الله.
﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ٤٢ وقوم إبراهيم وقوم لوط ٤٣ ﴾.
ذكر الله تعالى ما يشير إلى قوم نوح، وقد عاندوه وجادلوه، وتحدوه أن ينزل بهم ما هددهم به، وقد أغرقهم الله ولم ينج معه في السفينة إلا من آمن وأهله إلا امرأته وابنه إلى آخر ما بينه سبحانه وتعالى في قصصه الحكيم وآياته البينات.
وأشار سبحانه إلى قصة عاد قوم نبي الله تعالى هود عليه السلام أن عاندوه وكفروا به فجاءتهم ريح صرصر عاتية، وإلى قوم ثمود قوم صالح عليه السلام، الذين عقروا الناقة، فدمدم عليهم ربك عذابا ريحا صرصرا عاتية.
وأشار سبحانه إلى قوم إبراهيم عليه السلام الذين أرادوا إحراقه عندما حطم لهم الأوثان، وإلى قوم لوط الذين كانوا يأتون الفاحشة ما سبقتهم بها من أحد من العالمين، وكيف دمر عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
﴿ وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ٤٤ ﴾.
وأشار سبحانه إلى تكذيب فرعون لموسى ولأصحاب مدين الذين بعث فيهم شعيب بالتوحيد، وبالإصلاح الاقتصادي فقالوا له :﴿... ولولا رهطك لرجمناك... ٩١ ﴾( هود ).
وبعد أن أشار سبحانه إلى هؤلاء الأنبياء وأقوامهم الذين عاندوا وكفروا وأفسدوا قال سبحانه وتعالى :﴿ فأمليت للكافرين ثم أخذتم فكيف كان نكير ﴾.
"الفاء" هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، "أمليت لهم" أعطيتهم ملاوة من الزمان وأمهلتهم، ثم أخذتهم أخذا شديدا، فانظر كيف"نكير" ياء المتكلم محذوفة، فانظر كيف كان نكيري عليهم، فكيف كان قوم نوح كما أشرقوا أغرقوا، وقوم لوط أهلكوا، وفرعون والملأ معه قد انطبق عليهم البحر، فكانوا من المغرقين.
وعمم سبحانه مآل الجماعات الظالمة، فقال تعالت آياته :
﴿ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ٤٥ ﴾.
"الفاء" عاطفة على قوله تعالى :﴿ فأمليت ﴾، و"كأين" بمعنى"كم" الخبرية الدالة على الكثرة، والمعنى فكثير من القرى، وهي المدن العظيمة بمعنى القبيلة المجتمعة في المدائن، أو الأقاليم، والمعنى كثير من القرى أهلكها الله تعالى بمعنى أهلك أهلها، وأضيف الهلاك إلى المكان، لأنه تخرب وتهدم، وسقطت عروشه على جدرانه وخوي، فكأن الهلاك أصابها في المظهر، وإن كان لا يقع إلا على السكان، وقد ذكر الله سبحانه أن ذلك كان والحال أنها ظالمة، فنسب إليها الظلم، وإن كان من أهلها، وذلك لعموم الظلم في كل ربوعها، وكل كيانها، فأكل أموال الناس بالباطل، وإشراك بالله، واعتداء على الضعفاء، وعدم إقامة لأي نوع من أنواع العدل، فلا عدل في قانون، ولا قضاء، ولا اجتماع، بل فساد في فساد، وقال تعالى :﴿ وهي ظالمة ﴾، ولم يقل ظالمة، للإشارة إلى أن الهلاك جاءها، والظلم محيط بها لا تخرج عنه، ولأن في التعبير بالحال يدل على التلبس به، ولأن كلمة"هي" لتأكيد الظلم، ففيه تكرار لذكر القرية، ثم قال تعالى :﴿ فهي خاوية على عروشها ﴾، "الفاء" عاطفة على ﴿ أهلكناها ﴾، و﴿ خاوية ﴾ بمعنى الخواء والفراغ وبمعنى السقوط، وإن العذاب الذي كان ينزل بأولئك الظالمين الذين أشركوا بالله، وعاثوا في الأرض فسادا، كان يجيئهم بصواعق تنزل بهم أو أمطار بحجارة من سجيل، أو نحوها كجعل عالي الأرض سافلها، ومن شأن هذا أن السقوف، وهي العروش المذكورة في الآية تهوي، ثم تتحطم أو تسقط الجدران من بعد على العروش، ولذا نرجح أن يكون تفسير الخاوية بسقوطها متهدمة على العروش.
﴿ وبئر معطلة ﴾، معطوفة على ﴿ قرية ﴾، وتعطيل البئر كناية عن فناء الذين كانوا يردون إليها يستسقون منها، ومعهم نعمهم، وغيرها، ومعنى هذا أنه لم يكن أحد من أهلها يأخذ الماء ليحيى به هو ودوابه، بل ذهب كل ذلك، فتعطلت الحياة والأمواه.
﴿ وقصر مشيد ﴾ مرتفع ومجصص بالجص مزين، أي أنه تعطل كما تعطلت البئر، وأصبح خاويا لا ساكن فيه، وقد بناه للزينة والراحة، فذهب وبقي القصر، أو تهدم كالقرية أو في ضمنها، وقد أراده للبقاء.
في الأرض في الماضين عبرة
قال الله تعالى :
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ٤٦ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ٤٧ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ٤٨ قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ٤٩ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ٥٠ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ٥‍ ﴾.
هذه الآيات الكريمة موضحة لما تضمنته الآيات السابقة، وهي شواهد حسية، لما أخبر به العليم الحكيم :
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ٤٦ ﴾.
و"الفاء" في قوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي تنبههم إلى السير، وهي مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وتقدير الكلام : فألم يسيروا في الأرض... ، وهذا حث لهم على السير للاعتبار بمن سبقوا والاتعاظ بما نزل، ﴿ فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ﴾، "الفاء" عاطفة ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام حث على السير في الأرض للاتعاظ والاعتبار بمن مضوا، وهذا حث لهم على التعقل، والتدبر، فيترتب على السير أن يتدبروا بعقولهم، ويعملوها للوصول إلى الحق وألا يشركوا به شيئا، ويروا رسوم الديار التي عفت وأهلكها الله بظلم أهلها، ﴿ أو آذان يسمعون بها ﴾، وهذا حث لهم على تعرف أخبار الديار ومن كانوا فيها، وما جرى منهم من ظلم، وما جرى عليهم من هلاك، وخراب أرضهم وديارهم.
ولكنهم لم يعتبروا، ولم يتدبروا أمرهم، ولم يعيشوا حاضرهم على ماضي غيرهم، ولذا قال تعالى :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾.
هذا النص فيه إشارة إلى أنهم وإن كانوا ذوى أبصار تنظر وترى ولكنها عمت عن الحق، ولم تنظره نظرة اعتبار واستبصار، فهم عمت قلوبهم عن الإدراك وكانت غير مبصرة للحق، ولا نافذة إلى لبه ومعناه، وفي الكلام مجاز بالاستعارة إذ شبه عدم إدراك عقولهم للحق وعدم إذعان قلوبهم بالعمى- بجامع عدم الإدراك في كل، وقوله :﴿ التي في الصدور ﴾ ترشيح للاستعارة وإبعاد للأبصار عن أن يكون عماها هو المراد، لأنها في الوجوه دون القلوب، والضمير في ﴿ فإنها ﴾ ضمير الحال والشأن أي الحال والشأن لا تعمى الأبصار وإن المشركين مع أن الرسوم والآثار تعلن ما نزل بالغابرين، يتحدونك فيستعجلون العذاب، فقال تعالى عنهم.
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ٤٧ ﴾.
السين والتاء للطلب، والمعنى يطلبون العجلة بالعذاب متحدين زاعمين أن ذلك الإنذار لا يقع كما قالوا :﴿... فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٧٠ ﴾ ( الأعراف )، وإن هذا التحدي منشؤه غفلة في نفوسهم وعقولهم، إذ حسبوا أنه لن يجئ، على حسب زعمهم، فأكده الله تعالى بقوله :﴿ ولن يخلف الله وعده ﴾، فهو جاء لا محالة. وكل ما يأتي واقع وقريب مهما يكن تمادى الزمان، وإن الزمان قريب أو بطئ، هو بالنسبة للعباد، أما عند الله فإنه لا تحكمه الأزمان والأماكن، ﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾، لأن أزمان أهل الدنيا، أعراض لأحوالهم، أما الزمن عند الله فهو غير مقدور ولا معدود، ولذا قال تعالى :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ فلا تستطيعوا أن تقدروا زمنا لما يعدكم به، فلا يقال لكم هو مائة أو مائتان، ولكن هو محكوم بإرادته وتقديره سبحانه، وهذا تصوير لإمهال الله في تقديره، وهو العظيم الحكيم العلي القدير، وتقديره سبحانه، اليوم عند الله تعالى بألف سنة مما نعده بالأيام والليالي، إشارة إلى أنه لا يعد وهو فوق تقديركم، والعرب ما كانوا يعرفون إلا الألف ومضاعفاته عدا، روى أن أعرابيا أعطاه الخليفة ألف دينار، فذكر ذلك لبعض صحبه، فقال له : لو طلبت أكثر لأعطاك، فقال الأعرابي : ما كنت أعرف فوق الألف عددا، فذكر الألف تقديره بأكبر عدد تعرفه، أو إطلاق للعدد، فالمعنى أنه ليس لكم أن تتصورا سنين معدودة، بل إن وعد الله بالعذاب سيجيئكم لا محالة، ولا تتحدوا رسوله، وإنهم يرونه بعيدا، ونحن نراه قريبا.
﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ٤٨ ﴾.
في الآية السابقة استعجلوا العذاب وتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم به قريبا بعد أن ذكر لهم الله القرى التي أهلكت وهي ظالمة، وفي هذه الآية ضرب لهم الأمثال بمن أملى لهم، وأمهلهم من القرى، وأن ذلك الإمهال قد غرهم أو اغتروا به ولم يفلتوا فقال :﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ﴾، ف﴿ كأين ﴾ هنا كأختها السابقة بمعنى( كم ) الخبرية الدالة على الكثرة، أي كم من قرية أهلكناها ﴿ وهي ظالمة ﴾، والجملة حالية، أي وهي في حال ظلم قد أحاطوا بأعمالها من شرك وعتو، وكبر وفساد في الأرض فأمهلها سبحانه مع بقاء هذه الحال، ثم جاءها العذاب من حيث لا يتوقعون بياتا أو هم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون.
ولذا قال تعالى :﴿ ثم أخذتها وإلي المصير ﴾، ﴿ ثم ﴾ للتراخي ليتناسب التراخي مع الإمهال الذي أملى الله تعالى به لهم، وإضافة الأخذ إليه سبحانه فيه تهديد شديد لأن الآخذ لهم القوى الجبار الذي لا يفلت عن قدرته شيء، ثم قوله تعالى :﴿ وإلي المصير ﴾، أي أنهم يصيرون إليه سبحانه، وهو الذي أنذر وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وهو شديد المحال، يجزيهم بما اكتسبوا من سوء وإيذاء وإضلال.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن الرسالة المحمدية مقصورة على الإنذار، وليس عليه أن يؤمنوا، فقال :
﴿ قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ٤٩ ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ قل ﴾ يا رسول الله تعالى حاسما لهم :﴿ يا أيها الناس ﴾ الخطاب للناس كافة، وللمشركين من أهل مكة خاصة، ﴿ إنما أنا لكم نذير مبين ﴾، ﴿ إنما ﴾ للقصر، والقصر هنا لأنهم طلبوا استعجال العذاب ولضلالهم البعيد، ولاستمكان الغفلة عن الحق في قلوبهم، يقولون للنبي ﴿... فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٧٠ ﴾ ( الأعراف )، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه : إن عملي فيكم، ورسالتي إليكم، أني نذير موضح مبين لكم الحق والشريعة، والعذاب أمره إلى الله تعالى وحده، وكذلك الثواب والعقاب إليه وحده، وكل امرئ بما كسب رهين، ولذا قال سبحانه :
﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ٥٠ ﴾.
"الفاء" تفصح عن شرط مقدر يتبين من الآية السابقة، ومعناه إذا علمتم أني لكم نذير مبين فقط، فإما أن تطيعوا فتكونوا مؤمنين، وإما أن تعصوا فتكفروا بآيات الله تعالى ونعمه، والجزاء يذكر للمؤمنين إيمانا صادقا ويعملون عملا صالحا، والعمل الصالح ذكرناه في موضع أنه الطاعات من أوامر ونواه، والقيام بكل ما هو نافع للناس مرضاة لله تعالى، فلا يقصد بنفعهم إرضاءهم، إنما يقصد إرضاء ربهم، فمن يقصد إرضاء الناس فقط قد يرتكب إثما في سبيل إرضائهم.
وسياق الكلام يتجه إلى أن الكلام كلام النبي بأمر ربه يحكيه الله تعالى عنه، وذكر جزاء المتقين بقوله :﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾، المغفرة تنبئ عن رضا الله تعالى عليهم، وهي ذاتها جزاء، لأن المؤمن مهما يكن تقيا له هفوات وهنات يحس بها في ذات نفسه، وكلما أرهف إحساسه الديني، وكلما هذبت نفسه بالتقوى أحس بهفواته واستكثرها، واستصغر حسناته، ولقد قال الله تعالى لنبيه :
﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك... ‌‌٢ ﴾ ( الفتح )، وما كان له صلى الله عليه وسلم ذنب، ولكن الله تعالى يخبر نبيه بمحبته، إن المغرورين هم الذين يستنكرون حسناتهم، ويستصغرون سيئاتهم، وحالهم هذه قد تجرهم إلى العصيان والوقوع في الشر، وما دام الرجل يستصغر ما فعل من حسنات، فهو لا يدل بها، ولا يمن على الله، كما حكى عن بعض الأعراب قال :﴿ يمنون عليك أن أسلموا... ١٧ ﴾ ( الحجرات ).
والرزق الكريم بعد المغفرة هو دخول الجنة، فهي ذاتها رزق كريم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس، وأنهار جارية من تحت أشجارها، وعسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين وحور عين، وغير ذلك، وكل رزق من الله كريم رزق المتقين إياه، وهو رزق سخي طيب، جزاء ما فعلوا من خير، وكفوا أنفسهم عن الأهواء والشهوات، وهو رزق واسع دائم، ونعيم مقيم.
هذا ﴿ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ٥١ ﴾.
﴿ والذين سعوا في آياتنا معاجزين ﴾، أي اجتهدوا في آياتنا لا لإدراكها ومعرفة ما فيها من حجة وبرهان، بل ليغالبونا فيها ويعاجزونا، أي ليبادلونا المناقشة في إعجازها، ودلالاتها على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وحدانية الله تعالى جل وعلا، وقد قال الزمخشري في هذه الآية :"وسعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه، وعاجزه : سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب عجز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، والمعنى سعوا في معناها بالإفساد من طعن، حيث سموها سحرا وأساطير الأولين، ومن تثبيط الناس عنها سابقين، أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين في أن كيدهم للإسلام يتم لهم".
والمرمى في هذا الكلام أن هؤلاء المشركين يجتهدون في آيات الله تعالى متعرفين غايتها ودلالتها لا بصدق وأمانة وإدراك سليم، بل لغاية، وهي معاجزة المؤمنين، وتحويل الأمة إلى جدل عقيم، يحاولون إعجاز المؤمنين في حجتهم، والمؤمنون يتحدونهم أن يأتوا، وبتحول الأمر إلى مجادلة ضاعت الحقيقة، وتبعثرت في وسط لجاجتهم في القول.
هؤلاء بين الله تعالى جزاءهم بقوله :﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾ الإشارة إلى هؤلاء الذين يسعون لإفساد الحق على أهله، وضياعه في لجاجة من الباطل يثيرونها، ولكن الحق لا يضيع بلجاجة الباطل، أولئك المتصفون بهذه الصفة بسببها يدخلون النار، وهم أصحاب الجحيم الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه.
الرسول صلى الله عليه وسلم بشر صانه الله وعصمه
قال الله تعالى :
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليكم حكيم ٥٢ ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ٥٣ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ٥٤ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، ٥٥ ﴾.
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله بآياته والله عليم حكيم ٥٢ ﴾.
"التمني" قال فيه الراغب الأصفهاني في مفرداته :"والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، ويكون عن روية، وبناء على أصل لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له، والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني شيء.
و"الرسول" هو الذي يوحى إليه بشرع يكون شريعة للناس، و"النبي" لا يكون له شريعة مستقلة، ولكن يشرح بوحي من الله شريعة رسول كالأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى، ولقد ورد في الأثر :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
وإن هذه الآية الكريمة تصور كيف يدخل الشيطان في قلب الإنسان، إنه يجيئه من ناحية ما يتمناه، وما يجئ نتيجة لهذا التمني وهي الأمنية، فإذا تمنى ألقى الشيطان بزيفه وتضليله في نفس المتمني، ولو كان رسولا مرسلا أو نبيا يوحي إليه، لكن ما يلقيه الشيطان في نفس النبي أو الرسول ينسخه الله تعالى أي يزيله، ولا يبقى له في نفسه أثرا، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، وليست إرادة تكف كإرادة الأنبياء.
وهذا قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ﴾، أي إلا إذا قدر لنفسه شيئا يريده ويحبه ويتمناه إلا وجد الشيطان لنفسه الذريعة التي ينفذ منها بوسوسة، فيلقى ما يوسوس في أمنيته ما يتمناه، ولكن النبي له إرادة حاكمة، وفي قلبه نور وهدى، وبهذه الإرادة والنورانية التي قذفها الله في قلبه يزيل بها الله تعالى ما يوسوس به الشيطان، ثم يحكم الله آياته، أي ينزلها محكمة لا ريب فيها، وهدى للعالمين، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم، يعلم كل شيء ويدبره.
ويذكر بعض علماء الأثر قصة الغرانيق العلا الذي ادعى فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وقال عن اللات والعزى : تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، فهي قصة باطلة كاذبة مهما يكن راويها، ومنزلته في الرواية، فتصديقها يؤدي إلى الطعن في الرسالة المحمدية، وتكذيب راو في قصة مهلهلة خير من تكذيب الرسالة والرسول، ومن يقبلها فهو في غفلة لا يلتفت إليه، ويجب أن ننبه هنا إلى أمرين :
الأمر الأول- أننا لسنا بالنسبة لرواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ممن يسبقون بالقول فنقدم الشك في الرواية على تصديقها ما دامت رواية ثقاة، ولم يكن من النصوص الثابتة ما يخالفها.
الأمر الثاني- أننا لا نقدم ما يرويه الراوي مهما يكن ثقة على نص قطعي غير قابل للتخصيص، فكيف تقدم رواية تؤدي إلى الطعن في صدق الرسالة المحمدية كلها ككون النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وقال عن اللات والعزي : تلك الغرانيق العلا، فهذا كذب لا يمترى في تكذيبه مؤمن.
وننبه أيضا إلى أن الشيطان يأتي قلوب الناس يوسوس فيها من ناحية أمانيهم، وقد أزال تعالى ذلك عن أنبيائه بالنص القرآني القاطع، وادعاء سحره يناقض ذلك النص القاطع، أما غيرهم فإنه يغويهم لأنهم ليسوا عباد الله المخلصين، والأنبياء بلا ريب من عباده المخلصين، وقال تعالى :
﴿ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ٥٣ ﴾.
إن الله تعالى عصم الأنبياء، لأنهم حملة رسالته إلى خلقه، ويعرفوها نيرة سائغة، أما غير الأنبياء فإنهم أقسام، قسم أخلص لله، واستقامت قلوبهم، وهم من عباده المخلصين، وهم الصديقون والشهداء والذين يتبعون النبيين. وقسم آخر في قلوبهم مرض وضعف إيمان، بما قلدوا واتبعوا أهل الشر، وسلموا أنفسهم لهم، ولم يسلموها لله تعالى. وقسم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة بما مردوا عليه من نفاق، وقد غلفوا قلوبهم، فلا يدخلها نور الحق، وهم المنافقون واليهود شر البرية وهذان الفريقان هم الذين قال تعالى فيهم هذه الآية.
وقوله تعالى :﴿ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ﴾، " اللام" هي التي تسمى لام العاقبة، أي لتكون نتيجة ترك الشيطان مسلطا على الناس يأتيهم من قبل أمانيهم، أي يجعل سبحانه ما يلقيه الشيطان من وسوسة وإغواء بمسايرتهم فيما يتمونه حتى يصلوا إلى ما يرديهم ﴿ فتنة ﴾، أي نعاملهم معاملة المختبر لصنفين من الناس يستهويهم بشره، وقد أقسم ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين. والذين في قلوبهم مرض هم الذين قد استولى عليهم الشك، فالشك مرض القلوب، وهم الذين يتبعون آباءهم، ويقولون :﴿... بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ١٧٠ ﴾ ( البقرة )، فالتقليد من غير تفكير، ووزن للأقوال مرض كالشك أو يزيده، والقاسية قلوبهم هم اليهود وغيرهم ممن يستمسكون بما هم عليه من أقوال لا تمت إلى التوراة بسبب، وقد وصفهم الله تعالى بقسوة القلوب، فلا تفتح للحق بل هي مغلقة، تسد كل نور لهداية فقال تعالى فيهم :﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فيه كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ٧٤ ﴾ ( البقرة ).
وقد رأينا المشركين آمنوا بعد شرك، أما اليهود، فلم يؤمنوا، وعاشوا للدس والخيانة ونقض العهود والمواثيق، وختم الله تعالى الآية الكريمة بذكر أولياء الشيطان فقال :﴿ وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ﴾، والظلم وصف يعم ظلم العبادة فيشمل الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، كما قال لقمان الحكيم لابنه، ويشمل ظلم العباد بعضهم لبعض، ويشمل الخيانة والنميمة فعل اليهود. ﴿ وإن الظالمين لفي شقاق ﴾، أي كل فريق منهم في شق يفارق الآخر، فالمشركين في شق، واليهود في شق، والمنافقون في شق، والنفاق ضروب مختلفة، وكل شق بينه وبين الآخر مسافة بعيدة، ولذا وصف الشقاق كله بأنه ﴿ بعيد ﴾، مختلف في أجزائه.
﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتحت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ٥٤ ﴾.
"الواو" عاطفة، و"اللام" هنا ك"اللام" هناك، أي لتكون نتيجة إلقاء الشيطان بوسوسته، للاختبار لمرضى القلوب والقساة الغلاظ، ﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم ﴾ من أتباع النبيين الحق، أي أنهم أوتوا علم النبوة من الأنبياء فنفوا عن أنفسهم بما ألقى الله تعالى في قلوبهم من علم بالصدق والصبر الضابط للنفس ﴿ أنه الحق ﴾، الضمير يعود على القرآن الذي ذكر الله تعالى أنه أحكمت آياته، بعد دفع إغواء الشيطان ووسوسته عن الرسل والأنبياء من وقت مبعثهم إلى أن قبضهم الله سبحانه وتعالى إليه.
وقوله :﴿ أنه الحق ﴾، فيه قصر، لتعريف الطرفين أي أن القرآن الكريم هو الحق، فليس حديثا يفترى ولا أساطير الأولين، ﴿ فيؤمنوا به ﴾، ولذلك يؤمنون به و"الفاء" للسببية، أي بسبب علمهم يؤمنون به ﴿ فتخبت له قلوبهم ﴾، الإخبات قال فيه الراغب في مفرداته : الخبث المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبث أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، والمعنى تواضعت قلوب المؤمنين، ولم تمار في الحق قلوبهم، بل أخبتت وسكنت إلى الحق.
و'الفاء" في قوله تعالى :﴿ فيؤمنوا ﴾ فاء السببية أو عاطفة على العلم الذي أوتوا، وكذلك "الفاء" في قوله تعالى :﴿ فتخبت ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ﴾، أي أن الله من شأنه جل جلاله أن يهدي الذين آمنوا بأن سلكوا إلى الطريق الأقوم أو شرعوا فيأخذ الله بأيديهم، والصراط هو الطريق المستقيم، وهو صراط الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل... ١٥٣ ﴾ ( الأنعام ).
وقد أكد سبحانه هداية الله تعالى المؤمنين إلى الصراط المستقيم ب"إن" المؤكدة وب"اللام" وب"الجملة الاسمية".
﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ٥٥ ﴾.
﴿ ولا يزال ﴾ معناها استمر، وكأنه كان يتوقع بتوالي الأدلة، وتضافر الإثبات أن يزول ريبهم، ولكنه لم يزل بل استمر، والمرية : الشك، والضمير في ﴿ منه ﴾ يعود على القرآن، فبينما الذين أوتوا العلم وهبوا اليقين أنه الحق من ربهم وخالقهم وذارئهم، ولا يمكن أن يكون إلا حقا لتوالي التحدي وتوالي العجز، ﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ﴾، وإنهم مستمرون على هذا الشك﴿ حتى تأتيهم الساعة بغتة ﴾، أي القيامة وينتهي الكون، وهم في ظلاله القديم، ﴿ أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ﴾، في هذا اليوم الذي وصفه الله تعالى بالعقيم، وأنه لا خير فيه، ولا ثمرة تنتج منه، ويحتمل أن يكون يوم القيامة ويكون عقمه في أن كل يوم له يوم يعقبه، وكأنه عقبه الذي أنجبه، أما يوم القيامة فليس له تال يكون كالعقب له، والسياق يجاف ذلك، لأن الساعة يوم القيامة و﴿ أو ﴾ تقتضي أن يكون اليوم العقيم غيره، ويحتمل أن يكون يوما كيوم بدر، ووصف بأنه عقيم، لأن فيه قطعت أرحام قطعها المشركون وفيه حرمت النساء من أولادهن فصاروا كأنهم لم يلدوهم، ولأن يوم بدر وأشباهه يوم حرب، ويوصف رجاله ومقاتلوه بأنهم أبناء الحرب، والحرب لا تنتج، فهي عقيم، ثم هو لا خير فيه للمشركين، فهو يوم عقيم، ويقال كما في القرآن الكريم :﴿... الريح العقيم ٤١ ﴾ ( الذاريات )، أي لا مطر فيها ولا خير.
هذا، وإن الكافرين يستمرون في مريتهم، والشك حيرة واضطراب، حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم يوم يقاتلون فيه، ولا خير فيه يعود عليهم، بل شر مستطير، فهو يوم عقيم، والله يهدي من يشاء بإذنه.
الملك لله يوم القيامة
قال الله تعالى :
﴿ الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ٥٦ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ٥٧ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ٥٨ ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ٥٩ ﴾.
﴿ الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ٥٦ ﴾.
﴿ الملك ﴾ في يوم القيامة لله وحده، فليس لأحد في ذلك سلطان، ولو صوريا كسلطان أهل الدنيا، ولا حكم، ولو تحكيما، كحال الملوك المستبدين، ولا رقابة لأحد غير الله تعالى، كل الملك لله وحده فلا طاغوت ولا طغيان، ولا حكم لغير الله، والتنوين في ﴿ يومئذ ﴾ ينبئ عن مضاف إليه يناسب المقام، وهو يوم القيامة والجزاء والحساب، والمعنى على ذلك يكون الملك المطلق يوم تقوم القيامة، وينصب الميزان، ويكون الحساب ومن بعد الثواب والعقاب، وذلك فيه إنذار شديد بأن المؤمنين ومخالفيهم يلاقون ربهم، ويواجهون أعمالهم، ويفصل بينهم سبحانه بالحق والقسطاس المستقيم.
﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ﴾، "الفاء" للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان تعالى هو الحكم وحده ﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾، من عبادات، وطاعات للأوامر والنواهي، وعمل صالح نافع للناس لا يقصدون به إلا وجه الله، ﴿ في جنات النعيم ﴾، الإضافة هنا بيانية، أي في جنات النعيم الدائم الخالد المقيم.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ٥٧ ﴾.
هذا جزاء المؤمنين عندما يلاقون ربهم أما الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وكذبوا بآياتنا، وعبر بالموصول في الكفر والتكذيب بآيات الله، للإشارة إلى أن سبب الجزاء هو كفرهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم لآيات الله، وتكذيب آيات الله تسجيل تكذيبهم للآيات القرآنية، أي تكذيبهم للقرآن مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وتكذيبهم لدلالة الآيات الكونية الدالة على وحدانيته وإبداعه في خلقه.
وأضاف سبحانه وتعالى الآيات لذاته العلية لبيان عظيم افترائهم، وأنهم فعلوا ذلك استعلاء واستكبارا، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى العذاب النازل بهم بأنه عذاب مهين مذل ملق بهم في الهوان، لاستعلائهم على الحق وآيات الله.
﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ٥٨ ﴾.
هذه الآية فيها حث على تجميع المؤمنين في لواء واحد، وكل مؤمن مدعو للهجرة إلى تجمع المؤمنين، حتى لا يكون المؤمنون مبعثرين في الأرض، فالمستضعف في أرض عليه أن يهاجر إلى موضع تجمع المؤمنين، فليس لمؤمن أن يعيش ذليلا للاستضعاف في أرض عدو لا يستطيع أن يقيم شعائره الإسلامية فيها، فقد قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ٩٩ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ١٠٠ ﴾ ( النساء ).
فالهجرة ليصل إلى جماعة المؤمنين أو ليقاتل ويجاهد ما زال بابه مفتوحا وفيه ثواب الجهاد والهجرة، وحديث "لا هجرة بعد الفتح"١، يراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، فقد صارت مكة أرضا للإسلام، لا يهاجر منها إلا للجهاد في المدينة والتجمع كما يكون في المدينة يكون في مكة.
وإذا كانت الهجرة مطلوبة من أرض فيها ضعف إلى حيث العزة الإسلامية والجهاد، فالذين هاجروا في سبيل الله تعالى ليجتمعوا مع المؤمنين ويجاهدوا معهم لهم جزاء، ولذا قال تعالى :﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ﴾، أي كانت هجرتهم في سبيل الله، أي إن ذات الهجرة للجماعة الإسلامية جهاد في ذاته، وقال تعالى :﴿ ثم قتلوا أو ماتوا ﴾، العطف ب﴿ ثم ﴾ الدالة على التراخي في موضعه، لأن قتلهم ليس عقب الهجرة، ولا موتهم، بل إنهم يعيشون مقيمين مع المؤمنين ما شاء الله أن يقيموا مجاهدين حتى يستشهدوا في قتال أو يموتوا حتف أنوفهم، وقد بين الله تعالى جزاءين أحدهما في الدنيا، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ليرزقهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ﴾.
أقسم الله سبحانه بأنه يرزقهم رزقا حسنا، أي طيبا سخيا، يغدق الله تعالى فيه عليهم من خيره، من الفيء وغنائم الحرب، فإن الله تعالى جعل رزق المجاهدين في ضلال سيوفهم، وشكاة سلاحهم، وفي سنابك خيلهم، ﴿ وإن الله لهم خير الرازقين ﴾، والله أكرم الرازقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، بل إن الله تعالى رزقه في أعلى درجات الرزق، هذا هو جزاء الدنيا، فإن الهجرة من أرض ذل إلى أرض العزة في سبيل الله يكون فيه الرزق.
١ : رواه البخاري: لا هجرة بعد الفتح (٣٨١٢) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كما رواه مسلم (٤٧٨٧)، ولفظه عن عائشة، قالت: سئل رسول الله عن الهجرة؟ فقال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا".
أما الجزاء الأخروي فقد ذكره سبحانه بقوله عز من القائل :
﴿ ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ٥٩ ﴾.
أقسم سبحانه وتعالت قدرته، فقال :﴿ ليدخلنهم مدخلا يرضونه ﴾، أي ليدخلنهم الله، وكأنهم ضيوفه يوم القيامة، وأكد ذلك ب "القسم" و"لامه" و"نون" التوكيد، ﴿ مدخلا ﴾، اسم مكان، وصفه بأنهم ﴿ يرضونه ﴾، يستطيبون نعيمه، ويفكهون في خيره، وهو الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ﴿ وإن الله لعليم حليم ﴾، بأحوال خلقه يعلم مؤمنهم وكافرهم، وهو حليم يغفر السيئات والحسنات، كما قال تعالى :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ﴾ ( هود ) والخلق جميعا قبضته يوم القيامة.
نصر الله تعالى وقدرته العليا، وعلمه
قال الله تعالى :
﴿ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ٦٠ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ٦١ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ٦٢ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ٦٣ له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ٦٤ ﴾.
﴿ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ٦٠ ﴾.
﴿ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ﴾ الآية، الإشارة إلى البعيد، من قوله تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا... ٣٩ ﴾ إلى آخر ما جاء بعد ذلك من جزاء أهل الحق في الدنيا والآخرة، وجزاء أهل الباطل في الدنيا والآخرة ذكر الله سبحانه وتعالى أن من يرد الاعتداء بمثله، ﴿ ثم بغي عليه ﴾، أي إذ بغى عليه بعد ذلك ﴿ لينصرنه الله ﴾.
وسمي سبحانه رد الاعتداء عقابا للجاني، وذلك حق، لأنه أوذي فيعاقب المؤذى بمقدار، ولكن سمي الاعتداء عقابا وذلك من قبيل المشاكلة اللفظية، وليتم القصاص بين الجاني والمجني عليه بالتساوي، وإن الله يذكر أنه بعد العقاب برد الاعتداء بمثله، لا يصح للمعتدي أن يعاود اعتداءه، لأن ذلك يكون بغيا وظلما، ولذا قال تعالى :﴿ ثم بغي عليه ﴾، وكان التعبير ب﴿ ثم ﴾ للإشارة إلى بعد ما بين مرتبة القصاص العادل والبغي الظالم، وإن الله تعالى ينصر العادل على الباغي.
﴿ لينصرنه الله ﴾ الضمير يعود إلى من بغى عليه، وقد أكد الله تعالى نصره للمعاقب المقتص، بالقسم و"لام" القسم وب "نون" التوكيد الثقيلة كما يعبر النحويون.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ إن الله لعفو غفور ﴾ العفو "فعول" من العفو، أي أنه سبحانه وتعالى كثير العفو، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أو اسم من أسمائه، فهو يعفو عن كل تقصير، وكل مخالفة ليست ذنبا، وهو غفور يغفرها إذا كانت مما لم يأثم بالنفس، ويكسبها إعتاما وإظلاما، بل يكون بجواره حسنات تكشف ظلمتها، وتكون مع ذلك توبة نصوح تجب السيئات.
وقد قيل : لماذا ختمت الآية العفو الغفور، مع أن النصرة لدفع الظلم، وذلك يقتضي اسم القدرة والقهر ؟، ومعاذ الله أن يكون المفسرون قد يتطاولون على عبارات القرآن الكريم، ونقول : المناسب هو العفو الغفور، بالنسبة للباغي، والمعاقب، ذلك أن الحرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما قام به الصحابة والتابعون من بعده ما كانت حرب دماء وغلب، بل كانت حرب هداية وإرشاد، وتعليم، ورفع للظلم، ورحمة للعالمين، ولذلك دعا الله تعالى إلى العفو فيها فقال تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ١٦٢ ﴾ ( النحل )، وقال تعالى في هذا المقام أيضا :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ٤٣ ﴾ ( الشورى )، وقال :﴿... فمن عفا وأصلح فأجره على الله... ٤٠ ﴾ ( الشورى ).
وهكذا أكثرت الآيات التي طالبت بالعفو مع القصاص، فكان القصاص سائغا، والعفو والتسامح والصفح مندوبا إليه، كما قال تعالى :﴿... فاصفح الصفح الجميل ٨٥ ﴾ ( الحجر )، ولذا كان ختم الآية بالعفو والغفران له موقعه، وهو من الأسلوب الحكيم الذي لا يعلو إليه متكلم في الأرض، فهو يحث على العفو كما حثت الآيات الأخر، وهو يبين أن حرب الإسلام العادلة يؤثر الله فيها الصفح من أهل الإيمان ما كان سبيل إليه، إذ إنها ليست للانتقام، وإلا تكررت الحروب، فهذا الفريق يقتص، ثم الفريق الآخر يبغي، ويتوالى القصاص والبغي، وفتح باب العفو يغلق باب الحرب، ما دام الحق يمكن إقامته بغير توالي القتال، القتال عادلا، أو باغيا.
وقد صور الله تعالى دفع الباطل بالحق، وكون النص والقتال له يكون دولة بإيلاج الليل في النهار، فقال تعالى :
﴿ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ٦١ ﴾.
الإشارة إلى نصر الله لمن يبغي عليه بعد أن دافع عن نفسه، والولوج الدخول في مضيق كما جاء في قوله تعالى :﴿... حتى يلج الجمل في سم الخياط... ٤٠ ﴾ ( الأعراف )، وجاء في المفردات قوله تعالى :﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ تنبيه على ما ركب الله عز وجل العالم من زيادة الليل في النهار، وزيادة النهار في الليل، وذلك بحسب مطالع الشمس ومغاربها.
والمعنى أن هذا تنبيه لاختلاف مدار الأرض حول الشمس، وقربها أو بعدها بجعلها قريبة نسبيا بقدر ضئيل، فيطول النهار، وبعيدة نسبيا بمثله فيطول الليل، وكل شيء عند ربك بمقدر، وهو الكبير المتعال المالك لكل شيء، والمسير للكون بإحكام، وبنواميس لا تتخلف، كما اختار العزيز الحكيم العالم بكل شيء﴿ وأن الله سميع بصير ﴾ "أن" معطوفة على ﴿ بأن الله يولج الليل في النهار ﴾ إلى آخره، ﴿ وأن الله سميع ﴾ لما يجري في الكون، يعلم علم من يسمع، و﴿ بصير ﴾ يعلم علم من يبصر لا يغيب عنه شيء في السماء ولا في الأرض.
ويسأل سائل هنا : لماذا ذكر سبحانه وتعالى ذلك في هذا الموضع من نصره سبحانه وتعالى لمن بغى عليه ؟، وأنه سبحانه وتعالى يعفو عمن يترك ما يؤذيه إليه سبحانه، ويغفر له، والجواب عن ذلك أن الله تعالى ذكر أمرين أو أشار إليهما :
الأمر الأول – أن الله سبحانه ينصر من بعي عليه وأكد سبحانه وتعالى نصره، بالتوكيدات التي ذكرناها في موضعها.
والأمر الثاني- أن الله تعالى يندب إلى العفو والتسامح عند القصاص، وفي هذا النص السامي الكوني يشير سبحانه إلى أنه يجعل النصر والهزيمة دولة بين الناس، والقوة والضعف دولة بين الناس كما يجعل الليل يدخل في النهار، والنهار يدخل في الليل، فيزاد هذا تارة وينقص أخرى، فعلى الدولة المنتصرة أن تذكر أنها قد تنهزم، فلا تغالي في القصاص، بل تفتح زاوية للمعروف من العفو والتسامح.
وبذلك يدعو الإسلام إلى أن لا تكون الحروب الإنسانية قاطعة مانعة لكل سلام، بل يجب أن يشع نور السلام في وقت الحروب العادلة، إلا أن يكون العدو شرسا كاليهود أعداء الإنسانية.
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ٦٢ ﴾.
الإشارة إلى المعنى الآية السابقة من نصره سبحانه لمن بغى عليه مع دعوته إلى العفو إذا كان له موضع، ويفتح باب السلام ولا يغلقه، ما لم يكن مطمعا للباطل في الحق، أي كان ذلك بإجازة القصاص مع فتح الباب بالعفو، ﴿ بأن الله هو الحق ﴾، أي بسبب أن الله هو الحق، والله تعالى هو الحق لأنه منشئ الكون، وناصر الحق والداعي إليه، وهو المعبود الحق الذي لا إله غيره، ولذا وصف بأنه الحق،
وأنه هو الخالق الحق، والواحد في ذاته وصفاته، والمعبود بالحق، لذلك أخبر عنه بأنه الحق، والتعبير بقوله :﴿ هو الحق ﴾ يفيد القصر، أي أنه لا حق غير الله، فكل ما عداه باطل، لأنه إلى فناء.
﴿ وأن ما يدعون من دونه ﴾، أي ما يعبدون من آلهة غيره باطلة، لأنها لا تضر ولا تنفع، وليس لها من وجود في ذاتها، إذ هي جماد، لا يتحرك إلا إن تحرك.
﴿ وأن الله هو العلي ﴾ الذي لا يساميه موجود، ولا يناهده أحد، إذ الجميع خلقه، وهو القاهر فوق العباد، وهو﴿ الكبير ﴾، فهو واجب الوجود المطلق، وكل شيء يستمد منه وجوده فهو وحده الكبير، والنص السامي يدل على انحصار العلا والكبر بذاته وصفاته فيه وحده، ودل على اختصاصه بذلك التعبير بقوله ﴿ هو العلي الكبير ﴾ تعريف الطرفين فإنه يدل على القصر، فكان العلاء والكبرياء مقصورين عليه وحده، إذ كل مخلوق سواه مستمد وجوده منه، ووجوده غير باق، فهو سبحانه الباقي وحده، وهو حده واجب الوجود.
ويبين سبحانه نعمه على خلقه فقال عز من قائل :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ٦٣ ﴾.
﴿ ألم تر ﴾، الاستفهام هنا للتنبيه، وقد جاء على صيغة الاستفهام الإنكاري الدال على نفي الوقوع، وهو داخل على "لم" النافية ونفي النفي إثبات، والمعنى لقد رأيت بنظرك وعلمك﴿ أن الله أنزل من السماء ماء ﴾، والسماء هنا ما علاك، فليست أجرام السماء من شمس وقمر وكواكب في أبراجها، وتماسكها، إنما المطر ينزل من سحاب قريبة دانية أو بعيدة قاصية، وذلك بينه قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يجزي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب بها من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ٤٣ يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار ٤٤ ﴾ ( النور ).
فهذا النص الكريم يوضح نزول المطر من السحاب المتكاثف بقدرة الله تعالى وما كانت لتدره إلا بأمر الله، وإنه ينزل المطر إلى الأرض لتعمل أيدي الزراع فتبذر البذور وترجو الثمار من الرب، وتخضر الأرض، ولذا قال تعالى :﴿ فتصبح الأرض مخضرة ﴾، "الفاء" عاطفة، وهي للتعقيب، وبظاهر اللفظ يكون الاخضرار عقب نزول المطر بلا تراخ في الزمن، وكيف يكون وثمة تراخ بإنبات البذر وظهور عيدانه، وصيرورة الأرض مخضرة ؟، والجواب عن ذلك أن التراخي في أعمال العباد، وليس من الله، بل إن إرادة الله لا تراخي فيها، إنما هي أن يقول كن فيكون، ولأن التعبير ب"الفاء" التي تفيد الفورية فيه تنبيه إلى عجائب الله في الخلق والتكوين، إذ يكون من التلاقح بين الماء والأرض اليابسة نبات مخضر تزدان به الأرض، وتكون ذات منظر بهيج، وقد وصف سبحانه الأرض بأنها مخضرة إذ اختفت طينتها، ولم تبد إلا خضرة زرعها، والاخضرار للزرع لا لها، ولكن لأنه فيها سنح أن توصف هي بالاخضرار باعتبار ما فيها، ولأنه صار لها كسوة باهرة زاهرة.
وختم الله تعالى الآية بقوله :﴿ إن الله لطيف خبير ﴾، أي لطيف بعباده عليم علما دقيقا علم خبرة بما ينفعهم ويقوم به عيشهم، فيوفقهم له.
وجملة ﴿ إن الله لطيف خبير ﴾، في مقام التعليل لأنعامه بهذه النعم الكثيرة المتوالية نعمة تلو أخرى.
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ٦٤ ﴾.
هذه الجملة في مقام التعليل للآية السابقة، أي أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض اليابسة مخضرة تكون بهجة للناظرين، لأن الله تعالى ﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾، وله ما فيها، وهو سبحانه وتعالى غني عن عباده، فهو غير محتاج إليهم وهم محتاجون إليه فالله هو الغني، ونحن الفقراء إليه، ولأنها في معنى التعليل لما تضمنته الآية السابقة كان الفصل بينهما ولم يكن وصل ب"الواو" و"اللام" للملكية، فالله تعالى مالك لما في السماوات من شمس وقمر ونجوم مسخرات بأمره، ومالك لما في الأرض من جبال ووهاد، وزروع وثمار، وحيوان وأنعام، وإبل وأفراس، وما في باطنها من فلزات ومعادن وكنوز، وما فيها من لآلئ وجواهر، ولحم طري، كل ذلك لله، لأنه خالقه، ﴿ وإن الله لهو الغني الحميد ﴾ وتعريف الطرفين في قوله تعالى :﴿ وإن الله لهو الغني الحميد ﴾ يدل على القصر والاختصاص، فالله وحده هو الغني، وجميع الوجود محتاج إليه سبحانه، والحميد بمعنى المحمود، فهو "فعيل" بمعنى مفعول، فهو وحده المستحق لأن يحمد، ولا يحمد في الوجود سواه.
وقد تأكد غناه سبحانه جل جلاله، ب "إن" الدالة على التوكيد، وب"اللام" في قوله :﴿ لهو ﴾، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ١٥ ﴾ ( فاطر )، وكل الوجود يحتاج إليه سبحانه، وهو لا يحتاج لشيء في الوجود.
فضل الله على خلقه
قال الله تعالى :
﴿ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ٦٥ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ٦٦ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ٦٧ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ٦٨ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ٦٩ ﴾.
﴿ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ٦٥ ﴾.
الاستفهام هنا للإنكار بمعنى نفي الوقوع، وهو داخل على "لم" النافية، ونفي النفي إثبات، فهو بيان لأن الله سخر ما في الأرض، والمعنى قد سخر الله لكم ما في الأرض، وكأن الاستفهام هنا مع النفي تنبيه، لأن الله تعالى ذلل ما في الأرض لكم، وقدم﴿ لكم ﴾ على المفعول وهو ﴿ ما في الأرض ﴾، لبيان أن التسخير من الله تعالى لكم، ليذلل كل ما فيها لإرادتكم ورغباتكم، ومعاشكم، فكل ما فيها طاهرا فوق أرضها من زروع وثمار، وغابات، وجبال ووهاد، وما في باطنها من معادن وكنوز، وفي بحارها من لآلئ، ولحم طري، كل هذا سخره الله تعالى وذلله لكم، فهي نعم تنادي من أنعم عليه بها بشكرها، وذكر أمرا في الأرض، وخصّه بالذكر، لوضوح نعمته تعالى فيه، ﴿ والفلك تجري في البحر بأمره ﴾، فهذه الفلك تجري في البحر بإذن الله وأمره وتسيره لها سبحانه وتعالى أنها ﴿ بأمره ﴾ مع أن كل شيء بأمره، وذلك لأنها في مرأى تسير في البحر ماخرات عبابه، لا يسيّرها شيء إلا الهواء، فإن التعبير ﴿ بأمره ﴾ في هذا مسايرة لمرأى العين ومجرى الريح، وهي آية من آيات الله تعالى، ولذا قال تعالى :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ٣٢ ﴾ ( الشورى ) وهي تري في البحر ناقلة ما تحمل من خيرات الأرض إلى أقاليم أخرى، ولذا قال في آية أخرى :﴿... والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس... ١٦٤ ﴾ ( البقرة )، فهي تصل الناس بعضهم ببعض بالمتاجر، والرحلات والتعارف والاتصال الدائم بينهم.
وإن الله رفع السماء عن الأرض بغير عمد ترونها، ولكنها مربوطة بقوى الجاذبية والقصور الذاتي، وحفظ الله توازن الكون، وإنه بهذه النواميس الكونية التي تسري بأمره، والتي خلقها سبحانه، بحفظ الكون، ويمسك السماء أن تقع على الأرض، لأنها بغير عمد ترونها، إنما يمسك سبحانه بقوى ونواميس خلقها، "وأن تقع" مجرورة بمن، وقوله تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت ١ وإذا الكواكب انتثرت ٢ وإذا البحار فجرت ٣ وإذا القبور بعثرت ٤ ﴾ ( الانفطار ).
وإن هذا التوازن الكوني بين السماء والأرض ليعيش الناس في أمن واطمئنان من حوادث الكون، ولذا قال تعالى :﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ﴾ الرءوف من "رؤف"، والرحيم صفة مشبهة للرحمة، والرأفة أصلها رفة القلب، والشفقة بالناس، والرحمة صفة مشبهة للرحمة، والرأفة أصلها رفة القلب، والشفقة بالناس، والرحمة من الناس تشمل معنى الإنعام الذي يناسب الناس، أما الرأفة بالنسبة لله تعالى فهي ما يقتضيه اتصافه بالكمال، وتنزيهه سبحانه عن المشابهة بالحوادث، وهو أنه سبحانه يقدم ما يكون إنعاما عليهم في مشاعرهم وأحاسيسهم، والرحمة الإنعام والإحساس في عامة أمورهم.
وقوله تعالى :﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ﴾، أي يعاملهم معاملة من يرأف بهم ويشفق عليهم، ومعاملة من ينعم عليهم ويرحمهم في عامة أمورهم، وإن هذه الجملة السامية في مقام التعليل لما سبق من تصرفه في الكون، وقد أكد سبحانه رأفته ورحمته بهم، بعدة مؤكدات، أولها، ﴿ إن ﴾، وثانيها تقديم ﴿ بالناس ﴾، وثالثها ب "اللام"، ورابعها بالتعبير بالصفة المشبهة، وذكر سبحانه بيان قدرته فيهم فقال عز من قائل :
﴿ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ٦٦ ﴾.
الضمير يعود على الله جل جلاله، وهي معطوفة على قوله تعالى :﴿ سخر لكم ما في الأرض ﴾، وقد ذكر سبحانه فضله تعالى، وهو المنشئ المنعم في ثلاثة أدوار :
الدور الأول- أنه هو الذي أمدنا بالحياة ذاتها فأخرجنا من التراب، ثم من نطفة، إلى أن جعلنا في أحسن تقويم، وأمدنا بما يبقي حياتنا من نبات وثمار، وحيوان يأكل مما تنبت الأرض، وعبّر سبحانه بقوله :﴿ وهو الذي أحياكم ﴾ وقد أشار سبحانه وتعالى إلى عناصر الحياة التي تمدها بالبقاء بإرادته في آيات أخر.
الدور الثاني- الموت، بعد أجل مسمى من ابتداء الحياة، وهذا محسوس مرئي يحدث كل يوم، ولذا قال تعالى :﴿ ثم يميتكم ﴾ وقد عبر بالمضارع، لأنه مستمر متجدد يرى كل يوم، ولا يرتاب فيه مرتاب، لأنه مرئي بالعيان.
الدور الثالث- الحياة بعد الموت، وهو البعث والنشور، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك الدور بقوله :﴿ ثم يحييكم ﴾ وعبر بالمضارع، لأنه واقع في المستقبل يؤمن به من يؤمن بالغيب، ومن يعلم أن الإنسان لم يخلق عبثا، ولكن لأن هذا الدور ليس مشاهد الآن بالعيان أنكره الكافرون، لأنهم قالوا : أئذا متنا وكنا ترابا﴿... أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ٤٩ ﴾ ( الإسراء )، ولكن الله الذي خلق الإنسان من تراب، وأمده بكل عناصر الحياة والبقاء أخبر بأنه هو القادر الذي خلقهم وأحياهم، وأنه يعيدهم كما بدأهم﴿... كما بدأكم تعودون ٢٩ ﴾ ( الأعراف )، ولكن المشركون وهم كثيرون لم يؤمنوا بالبعث وكفروا به، ولذا قال تعالى عقب ذلك :﴿ إن الإنسان لكفور ﴾، أي يجحد الدور الأخير، لأنه لا يؤمن إلا بالأمر المحسوس، وإنما ذلك أمر مغيب، والفرق بين الكافر والمؤمن أن المؤمن يؤمن بالغيب، والكافر لا يؤمن إلا بالحس، وقد أكد سبحانه كفر الكافر بالغيب، أولا ب﴿ إن ﴾، وثانيا ب"اللام"، وثالثا بالصفة المشبهة "كفور".
و﴿ الإنسان ﴾ هنا هو الذي لا يؤمن بالغيب، ويلاحظ في التعبير ب﴿ ثم ﴾ أنها للتراخي، ففترة ما بين الحياة والموت ليست قصيرة يعمل فيها ما يحاسب عليه بالعقاب أو الثواب، وكذلك الفترة بين الموت والحياة الثانية.
إن أهل الديانات التي تنتمي لأصل سماوي يعترضون على الإسلام بما اشتمل عليه من أحكام ليست عندهم، فرد الله تعالى كلامهم بقوله تعالى :
﴿ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ٦٧ ﴾.
المنسك مكان النسك وهو العبادة، أو مصدر ميمي، والمراد العبادة أيضا، ويقرر أكثر المفسرين أن النسك هو شرائع النبيين، كقوله تعالى :﴿... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا... ٤٨ ﴾ ( المائدة )، فالله تعالى جعل لكل أمة شريعة جاء بها نبيها، وجاءت شريعة مهيمنة على كل الشرائع، وخاتمة لها، وناسخة لما يخالفها، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا إتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأن شريعته هي خاتمة الشرائع الإلهية، وقوله تعالى :﴿ هم ناسكوه ﴾، أي العابدون الله تعالى على منهاجه، والضمير يعود على النسك، وناسكوه كما أشرنا : سالكون طريق العبادة الذي سن فيه.
﴿ فلا ينازعنك في الأمر ﴾، "الفاء" للإفصاح، أي إذا كان لكل أمة دين، فلا ينازعنك في الأمر، و"لا" ناهية، والنهي لمن يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه النهي عن تمكينهم من منازعته، وردهم في هذه المنازعة والمجادلة
وربما يؤيد هذا قوله تعالى من بعد في الآية التالية :﴿ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ٦٨ ﴾، فمضمون النهي عن عدم الالتفات إليهم، والسير على منهاجه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك :﴿ وادع إلى ربك ﴾، أي امض في طريقك داعيا إلى ربك العليم بكل عمل، وبكل قول حقا أو افتراء، وهذا النهي كقوله تعالى :﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك... ٨٧ ﴾ ( القصص )، ثم أكد سبحانه مضيه وعدم التفاته إليهم بقوله :﴿ إنك لعلى هدى مستقيم ﴾، أي وإنك في نسكك وشريعته لمستمكن من الهداية المستقيمة تمكين من يعلو على الهداية، فالتعبير بقوله تعالى :﴿ لعلى هدى ﴾ أنك متمكن من هدايتك تمكن من كان فوق الهداية مستمكنا منها كالقائم عليها والجالس عليها ووصف سبحانه الهدى الذي استمكن منه صلى الله عليه وسلم واقتعده بالاستقامة، والاستقامة وصف للحق، ولكل هداية.
هذا هو الاحتمال الذي يكون النهي فيه موجها للنبي، لأنه صلى الله عليه وسلم صاحب رسالة الله تعالى، وحاملها، وهو المخاطب بتكليفات الرسالة، وليس المخالفون مخاطبين إلا عن طريقه.
وقد ذكر المفسرون احتمالا آخر، ورجحه كثيرون، وهو أن يكون النهي للمخالفين المعترضين، ونراه بعيدا، وإذا كان الله ينهاه عن المنازعة، لأنه لا موضوع لها إذ لكل دين نسكه وشريعته، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة ناسخة ما يخالفها، فقد نهاه أيضا عن الجدل معهم، فقال عز من قائل :
﴿ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ٦٨ ﴾.
الجدل إحكام فتل الحبل، وإحكام البناء، والجدال في مسائل الحق والباطل إحكام كل مجادل قوله ليستطيع أن يزيف الحق أو أن يزيف كلام خصمه، وإنه شاع في قول الباطل، والمجادلة في الحق، وهذا النوع من الجدال من شأنه أن يبعثر الحق، ويشكك فيه، وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه ينهى عن الجدل في الحقائق، وكان يقول : كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى ألا يجادل المشركين واليهود، وأن يفوض أمورهم بعد أن تبين لهم الحق الذي يجب إتباعه، ودلائله من آيات الله المتلوة والكونية، وأمره أن يقول لهم :﴿ فقل الله أعلم بما تعملون ﴾، وهذا فيه تهديد لهم على عملهم، مؤداه لا تحاولوا تبرئتكم في أعمالكم بالملاحاة والمجادلة، فالله اعلم بعملكم.
وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، فلا مفاضلة في علم الله تعالى، إنما المعنى أن الله يعلم بما تعملون علما ليس فوقه علم وإن علم الله بأعمالكم سيبينه يوم القيامة، فقال عز من قائل :
﴿ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ٦٩ ﴾.
إذا كان الله تعالى هو الذي يعلم عملهم علما ليس فوقه علم، فهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وخاطبهم الله تعالى بقوله :﴿ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ٦٩ ﴾ الخطاب للذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره الله تعالى بالإعراض عنهم، وألا يلتفت إليهم، وهم كانوا مختلفين فيما بينهم، فاليهود مختلفون مع المشركين، واليهود مختلفون فيما بينهم في عقائدهم، فمنهم صدوقيون لا يؤمنون بالبعث، ومنهم ربانيون، ومنهم قراء، والمشركون واليهود مختلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يحكم بين هؤلاء أجمعين، وإن الجحيم مأوى الكافرين به.
الله خالق الكل والعليم بما خلق
قال الله تعالى :
﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ٧٠ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ٧١ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ٧٢ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ٧٣ ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ٧٤ ﴾.
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أن الله تعالى هو الذي يحكم بين الكافرين والمؤمنين فيما خالفوا فيه، ويحكم بين الكافرين من أهل الكتاب فيما يختلفون فيه فيما بينهم، وكل باطل، بعد هذا الذي ذكره سبحانه بالعبارة وبالإشارة ذكر أنه حكم عالم لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال عز من قائل :
﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ٧٠ ﴾.
﴿ ألم تعلم ﴾ معناها : قد علمت، وبينا كيف استخلص ذلك المعنى السامي، الاستفهام الإنكاري الداخل على فعل منفى، وسياق القول : قد علمت يا محمد علما مؤكدا يقينيا ﴿ أن الله يعلم ما في السماء والأرض ﴾ من عقلاء وأناس مكلفين، وما مكّن لهم فيهما، وماذا فعلوا فيما سخر لهم، فإذا كان هو الله الذي يحكم بينهم فحكمه هو الفصل، وهو خير الفاصلين، وإنه مع علمه سبحانه المحيط، قد سجل ذلك في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد بين الله تعالى الحكم والإحصاء في كتاب سهل يسير على الله تعالى، فقال تعالت كلماته :﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾، أي سهل لا يحتاج إلى معاناة من الله العلي الكبير، بل إنه سهل عليه سبحانه، وإن الحكم الفاصل يقع منه في ساعات أو لحظات.
هذا هو الحق، وإنه سيلاقيهم يوم يعلم كل إنسان ما قدمت يداه، ولكن المشركين في عماء عن الحق، ولذا قال تعالت كلماته :
﴿ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ٧١ ﴾.
الضمير في ﴿ يعبدون ﴾ يعود إلى الكافرين الذين سيطرت عليهم الأوهام والأهواء والتقليد، فيعبدون ما لم تنزل به حجة ترشدهم إلى عبادته، والسلطان في قوله :﴿ ما لم ينزل به سلطانا ﴾، أي حجة نقلية نزلت من عند الله تعالى، وسميت سلطانا، لأنها تكون قوة تجعل لمن نزلت له قوة تجعل ما عنده قويا كالسلطان ولكن لم ينزل شيء من ذلك، وإذا كان لم ينزل دليل نقلي من عند الله بعبادته، هل لديهم برهان عقلي ينتج يقينا ؟ نفى الله تعالى ذلك أيضا فقال تعالى :﴿ وما ليس لهم به علم ﴾، أي ليس لهم به برهان عقلي يسوغ عبادتهم، بل إن البرهان العقلي يؤدي إلى نقيضه، لأنه لا يسمع ولا يبصر، والقانون العقلي يوجب أن يكون المعبود أعظم من العابد، فكيف يعبدون جمادا، وهم أحياء، وهو لا يعقل، وهم يعقلون ؟..
إذا لم يكن عندهم دليل من عند الله أنزله فكان لهم سلطان، ولا علم عقلي فإن ذلك يكون ظلما، ولذا ختم الله سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ وما للظالمين من نصير ﴾، وإذا كانوا يعبدون ما لا دليل عليه من نقل أو عقل، ويشركون مع خالقهم في العبادة، وهو الواحد الأحد، فإن ذلك لأنفسهم ولقولهم ضلال وفساد، وقد نفى الله تعالى أن يكون لهم نصير أيّ نصير، إذ لا يمكن أن يكون نصيرا أمام قوة الله.
ومن لاستغراق النفي أي ليس نصير أيّ نصير من ملك أو إنسان.
ونشير هنا إشارة بيانية في قوله تعالى :﴿ وما ليس لهم به علم ﴾ فيه أن كلمة ﴿ لهم ﴾ قدمت على ﴿ عمل ﴾، وهي المبتدأ، للدلالة على أنهم تهجموا من غير علم فقدم عقابه في الاهتمام، وللدلالة على ضلالهم، وقدم ﴿ به ﴾ على ﴿ علم ﴾ للدلالة على إمعانهم في الضلال وظلمهم للحق، والله وليّ المؤمنين.
وإن هؤلاء الذين سيطرت عليهم الأوهام، وتحكمت فيهم الأهواء والتقليد الأعمى لا يلقون آيات الله تعالى بما يستحق من عناية، بل يقابلون بالاستنكار والسخرية، فلا يهتدون ولا يفتحون قلوبهم لدخول الهداية، ولذا قال تعالى عنهم :
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ٧٢ ﴾.
إن حال هؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا دليل عندهم يسوغ عبادته إلا أن تكون الأوهام التي تضلل الأفهام – من شأنهم ألا يستمعوا إلى الحق، بل يعرضون عنه إعراضا، ولذا قال عز من قائل :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ﴾ الآيات هنا آيات القرآن المنكرة فإذا تتلى عليهم تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر- يصح أن يفسر المنكر هنا بالإنكار ويكون من قبيل المصدر الميمي، كالمكرم بمعنى الإكرام، وتكون معرفة الإنكار من الوجوه بالتهجم، والغيظ، ويصح أن يكون المنكر هو حال وجوههم من التغيظ والبسور، والاستفظاع، وسميت هذه الحال، ﴿ المنكر ﴾، لأنها في ذاتها أمر منكر، إذ لا يتلقون الحق بالتفهم والتدبر، بل يبادرون برده ردا عنيفا مستكبرين، قد غلظت أعناقهم، وتجهمت وجوههم ﴿ يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ﴾ السطو : الوثب للفتك بالذين يتلون، كما حاولوا أن يسطوا بأبي بكر الصديق، وكما حاول الجاهلون بالسطو على المستضعفين من المؤمنين، وقال تعالى :﴿ يكادون يسطون ﴾، مع أنهم سطوا بالفعل، ونقول : إن ذلك حكم عام، والسطو الفعلي كان من بعضهم، لا من جميعهم، وما كان من التلاوة فقط، بل كان من اعتناقهم الإسلام مع هذه التلاوة، فالمقاربة بالنسبة لجميعهم، لا بالنسبة لبعضهم.
وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يقول لهم :﴿ قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ﴾، الإنباء الإخبار بأخبار خطيرة لا تسرهم بل تضرهم، والتنبئ كالإنباء بيد أن اللفظ ينبئ عن خطر ما تضمنه، و"الفاء" في ﴿ أفأنبئكم ﴾ فاء الإفصاح عن شرط، تقديره مثلا أئذا كنتم تتجهمون من التلاوة أفأنبئكم بشر من هذه التلاوة، وهذا نوع من التهكم بهم وإنذارهم بالإنذار الشديد، والعقاب العتيد، وبيان لمقابلة التهجم من القرآن والإعراض عنه بأنه يستقبلهم بما يوجب الغيظ والتجهم، والبسور أشد وأفظع، وهو النار أنذر الله تعالى بها الذين كفروا، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن الصلة وهي الكفر، والإعراض عن الآيات البينات ( هي سبب الحكم )، وإنها نار لا نهاية لعذابها، بل هم خالدون فيها، وهي مصيرهم الذي لا ينتهي، ولذا قال تعالى :﴿ وبئس المصير ﴾ بئس من أفعال الذم، ومع أنها جامدة فهي من الألفاظ الدالة على البؤس، فالنار مصير هو بؤس.
وقد بين الله سبحانه ضلالهم في اعتقادهم الباطل الذي لم يُبن على علم نقلي أو عقلي بمثل عظيم، فقال :
﴿ يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ٧٣ ﴾.
الخطاب عام للناس وقالوا : إنه إذا كان النداء :﴿ يا أيها الناس ﴾ كان يعم الناس عامة والمشركين خاصة، وإن موضوع القول، وهو عبادة الأوثان يجعل الخطاب للمشركين أمسّ وأقرب، و﴿ ضرب ﴾ معناها : بُيّن، والمثل الحال والشأن، ففيه تقريب حال بحال، فحال ضعفهم الشديد صورها سبحانه بأنهم لعجزهم ﴿ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ فحالهم حال عجز عن خلق أي حي، ولو اجتمعت الأوثان كلها، وكيف تُعبد، وهي لا تستطيع خلق الذباب، ولو اجتمعت له كل هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى، و﴿ لن ﴾ هي لتأكيد النفي، وذكر ضمير الأوثان ضمير عقلاء على زعمهم وتفكيرهم، وليسوا أحياء فضلا عن أن يكونوا عاجزين، وعبر سبحانه عن حال عجزهم بالمثل، كأنه مثل مضروب سائر، وبيّن ذلك الزمخشري فقال :"قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة". وإن هذا التصوير السامي الذي سماه جل جلاله مثلا، هو برهان على عدم صلاحيتهم للألوهية، لأنها عاجزة محتاجة، والمعبود قادر غير عاجز.
﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ﴾ هذا النص السامي دل على أن هذه الآلهة أعجز من الذباب، لأنه يعدو عليها، لأنه لو أخذ منها شيئا على سبيل السلب لا يستطيعون أن يستردوه منه، فهو القادر عليها، و﴿ يستنقذوه ﴾، السين والتاء للطلب، أي لا يستطيعون بأكثر جهد وطلب أن ينقذوه منه، لأنها لا قوة لها في أي ناحية، فهي جماد لا يتحرك، ولكن الوهم هو الذي جعل لها قوة في نظرهم الذي يبصر، وسوّل لهم الشيطان عبادتها.
ونقف هنا وقفة قصيرة، فنسأل الذين ينكرون وجود الله، وهم ملاحدة هذا الزمان الذين يحسبون إلحادهم يقوم على فلسفة عقلية : لقد اختبرتم الكون وعلمتم علمه، وعرفتم النواميس التي خلقها الله، وإن كنتم تحسبونه ظواهر للأشياء، وعلوتم إلى داخل الفضاء حتى وصلتم إلى القمر وإلى المشتري، وعلمتم تكوين الأشياء وأجزاءها وعناصرها، فهل استطعتم أن تخلقوا ذبابة، إن الله في كل شيء آية، فآمنوا به ولا تنكروه.
لم تستطع آلهتهم أن تستنقذ ما يسلبه الذباب، ولو بذلت أقصى الجهد إن كان لها جهد، ولذا قال تعالى :﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾، ﴿ الطالب ﴾ هو الأوثان فإنها لا حياة فيها ولا قوة لها، ﴿ والمطلوب ﴾ وهو الذباب فهو حيوان ضعيف يستحقر في أعين الناس ولكنه مخلوق لله يضرب به المثل، كما قال تعالى :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فوقها... ٢٦ ﴾( البقرة )، فسر بعض السلف الطالب بالعابد والمطلوب بالصنم، فضعيف الفكر والعقل والإدراك يدعو ضعيفا في ذاته لأنه جماد، وكلا الرأيين معقول.
﴿ ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ٧٤ ﴾.
هذه الآية نتيجة للآيات السابقة، ولذلك كان الفصل بدل الوصل، فبينهما ما يشبه علاقة العلة في الحكم بالمعلول، أو المقدمة والنتيجة.
إن هؤلاء الذين خضعوا لأوهامهم فعبدوا حجارة لا تنفع ولا تضر، وبالأولى لا تخلق ذبابا، ولو اجتمعت أصنام كل أمة وثنية ما عرفوا الله حق المعرفة، ولا أدركوا كماله وجلاله حق الإدراك، ولا عرفوا معنى الألوهية حق المعرفة، إن الله تعالى هو القادر الخالق، وهو الواحد في ذاته وصفاته، وليس في الأوثان من هذا، والله تعالى قوي قاهر، ولا يمكن أن يكون عاجزا، ولذا عرف الله تعالى رب العالمين بقوله :﴿ إن الله لقوي عزيز ﴾، أي قوي قادر على كل شيء، عزيز غالب لا يحتاج لشيء، ويحتاج إليه كل شيء، وهو العليم القدير.
وأكد سبحانه قوته ب﴿ إن ﴾ الدالة على توكيد الحكم، وب "اللام" في قوله تعالى :﴿ لقوي ﴾ وب"الجملة الاسمية"، سبحانه إنه القاهر فوق عباده.
الرسل مصطفون، والرسالات الإلهية متصلة
قال الله تعالى :
﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ٧٥ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ٧٦ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ٧٧ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ٧٨ ﴾.
﴿ الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ٧٥ ﴾.
﴿ الله ﴾ ذو الجلال والإكرام، ﴿ يصطفي ﴾، أي يختار من صفوة خلقه ﴿ من الملائكة رسلا ﴾ كجبريل الأمين روح القدس، اختاره ليكون رسولا لأنبيائه ورسله الذين اختارهم أيضا من صفوة عباده، فاختار سبحانه من الملائكة من يبلغون عن الله تعالى مصطفين من الناس ليتلقوا رسالة الله إلى الناس، فالذين اختارهم من صفوة الملائكة ما اختارهم تعالى إلا ليبلغوا خلقه، وكل ذلك بأمر الله وباختباره، وإن هؤلاء المختارين من الملائكة يبلغون إما بالوحي وإما برسل يرسلون، كما قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا... ٥١ ﴾ ( الشورى ).
وإن الله تعالى لا يختار لهذا المنصب الأقدس منصب التبليغ عن الله تعالى إلا من كانوا في أغلى القداسة والنزاهة النقية﴿... الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾ ( الأنعام )، ولذا قال تعالى مبينا أن الله تعالى لا يصطفي إلا عن علم من لا يخفى عليه شيء، فقال :﴿ إن الله سميع بصير ﴾، أي أن الله عليم علما يقينيا هو علم من يسمع، فهو السميع، وعلم من يبصر فهو البصير.
ولقد أكد سبحانه إحاطة علمه فقال تعالى :
﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ٧٦ ﴾.
﴿ ما بين أيديهم ﴾ وهو الحاضر المهيأ، وسمي بين أيديهم، لأنه أمامهم، فشبه علم حاضر بما يكون مهيأ معدا، ﴿ وما خلفهم ﴾ الخلف يطلق على ما هو خلف الإنسان وهو ضد القُدّام، فهو يطلق على الماضي والقابل، وهو الذي يخلفه من بعده، ولعله من الخلافة، وقد فسر بالقابل الذي لم يقع، ويكون المعنى يعلم حاضرهم، وقابلهم الذي يخلف ذلك الحاضر والضمير في قوله تعالى :﴿ ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾، قيل : يعود إلى الرسل، والظاهر أنه يعود إلى الذين يبلغهم الرسل فالضمير يعود إلى كل الناس، ولذا عقب الآية بقوله :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾، أي أن الأمور كلها ترجع إليه وحده يوم القيامة، ليحاسب كل نفس بما كسبت، وتجد كل نفس ما عملت محضرا، من خير أو من شر، ويكون له وحده الجزاء، وفي تقديم الجار والمجرور بيان أن المرجع إليه وحده، وله وحده الحساب، وهو بكل شيء عليم.
بعد ذلك خاطب الله تعالى الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ٧٧ ﴾.
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه، وليس لكل الناس، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها، وهو الصلاة، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى الله واتجاه إليه سبحانه، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى الله وحده، ولأنها امتلاء النفس بذكر الله تعالى، ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل، وضراعة صادقة، واستحضار النفس لكل معانيها، لا تقع من الإنسان المنهيات، كما قال تعالى في خاصتها :﴿... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ٤٥ ﴾ ( العنكبوت )، وخص الركوع والسجود بالطلب مع أن الصلاة لها أركان قراءة وتكبير، وركوع وسجود، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ﴾، وذلك لأن الركوع والسجود هما المظهر الحسي للخضوع لله تعالى خضوعا كاملا، ولأنهما لا يسقطان عن المكلف قط، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ، وتسقط عن المكلف قط، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ، وتسقط عند العجز عن القراءة، أما الركوع والسجود فلا يسقطان فإن لم يستطع الصلاة قائما، صلى قاعدا، وإذا لم يستطع الصلاة بحركات صلى بالإيماء، وإلا فهو في عفو الله، وروى أن بعض الشافعية أجاز الصلاة بالإيماء بالعينين، ولأنهما لا يسقطان فكانا رمزا للصلاة كلها.
وبعد الصلاة أمر سبحانه وتعالى بالعبادات كلها، وهذا من قبيل ذكر العام بعد الخاص، فيشمل ذكر العبادة الصوم والحج، والكفارات والنذور، والزكاة، والصدقات المنثورة، وأن يعبد الله تعالى في كل عمل يعمله، بأن يقصد به وجه الله تعالى، فالعامل في مصنع أو في متجر أو فلاحة الأرض يقصد وجه الله ونفع الناس، فيكون في عبادة مستمرة، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله )١.
وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل :﴿ وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ﴾، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها.
وقال تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ﴾، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( خير الناس أنفعهم للناس ) والرجاء من العباد لا من الله، لأن الله تعالى لا يرجو بل يعلم وينفذ. إنه عليم حكيم.
ونرى أن الآية ابتدأت بالأمر بتطهير النفوس بتوجهها إلى الله تعالى في الصلاة والعبادة، ثم اتجهت الأوامر إلى نفع الجماعة وأن يكون كل واحد عنصر نفع إنساني فيها.
١ : سبق قريبا..
ثم اتجهت من بعد إلى ما فيه حماية الأمة الإسلامية ونشر دعوتها، فقال تعالى :
﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ٧٨ ﴾.
هذا تكميل ما جاء في الآية السابقة، ففي الآية السابقة كان التدرج من الأمر بتطهير النفس، وملئها بالله تعالى في الصلاة والعبادة، ثم فعل الخير لأكبر عدد ممكن في الأمة، وفي هذه الآية المطالبة بالنفع الإنساني بتبليغ الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية للناس جميعا، وذلك بالدعوة إلى الإسلام، وهو جهاد، وتذليل العقبات في سبيل هذه الدعوة، وإزالة كل المحاجزات التي تحاجز دونها، ولو كان ذلك بالحرب، ولذا قال تعالى :﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ﴾.
الجهاد مفاعلة ببذل الجهد، فالمؤمن يبذل جهده في الدعوة إلى الله، والمقاوم من الكفار ببذل جهده في الصد عن سبيل الله، ومقاومة الحق.
وقوله تعالى :﴿ في الله ﴾، أي الجهاد لأجل ذات الله وابتغاء مرضاته ف﴿ في ﴾ هنا تفيد السببية، كما في الحديث الشريف :"دخلت امرأة النار في هرة"١، والإتيان ب﴿ في ﴾ بدل "الباء" أو "من" فيه معنى إحاطة الله تعالى بالجهاد بأن يكون الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ حق ﴾الإضافة فيه بيانية، أي الجهاد بأن يكون كله لله تعالى، وقوله تعالى :﴿ حق ﴾ الإضافة فيه بيانية، أي الجهاد الحق الذي يكون من غير إرادة الفخر، أو ابتغاء دنيا يصيبها، وحق الجهاد أن يخلص النفس من أدران الهوى، وإرادة إراقة الدماء، وأن يجاهد المقاتل نفسه أولا، فيقيها عن شهواتها، ويبعد عنها نزغات الشيطان، وأن يجاهد المقاتل نفسه أولا، فيقيها عن شهواتها، ويبعد عنها نزغات الشيطان، وأن يجاهد للحق ورفعته، ويكون الجهاد أحيانا أمام الحكام الغاشمين، ولقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :( أعظم الجهاد كلمة حق عند حق عند سلطان جائر )٢، وإذا قتله يكون خير الشهداء.
وحق الجهاد ألا يرفع السيف في سبيل الدعوة الإسلامية إلا إذ تعذرت الإجابة بالتي هي أحسن، وإلا بعد البيان، ومحاجزة أهل الباطل بين الدعوة المحمدية والناس، ولذلك كان الجهاد في الإسلام ليس للشعوب، ولكن لمعسكر السلطان الذي يحول بين الدعوة الإسلامية والشعوب، وإذا وصلت الدعوة إلى الشعوب فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد، فلا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.
ويقول سبحانه مشيرا إلى الحقائق الإسلامية، ومبينا أن الأمة الإسلامية هي المختارة لهذه الدعوة فقال تعالى :﴿ هو اجتباكم ﴾، أي اختاركم من سائر الناس، أي اختاركم واصطفاكم، ونقول هنا : هذا خطاب لكل المسلمين على أنهم الأمة المختارة للتوحيد والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أم أن المخاطب هم العرب على أساس أن البعثة المحمدية كانت فيهم، وأن الله اختار نبيه منهم، وأنهم الذين حملوا الدعوة، وقد بينا لماذا كان الاجتباء في كتاب خاتم النبيين.
ومعنى ﴿ اجتباكم ﴾، من الجبي بمعنى الجمع، يقال : جبى الخراج، بمعنى جمعه، واجتباه، افتعال من جبى، فهو سبحانه وتعالى جمع الناس جمعا كاملا، وخص بعض هذه الجموع بالخير، فكان المجتبي، وإن الله تعالى اجتبى العرب أو المسلمين بعامة، ليكونوا حاملي الدعوة، والمجاهدين ابتداء في سبيلها، ومنع المحاجزات التي تعترض طريقها بكل طرق الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم :( جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم )٣.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أعذار الجهاد، فقال عز من قائل :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ومع أن هذا النص يشير إلى أن الجهاد مفروض على كل القادرين يشير إلى أصحاب المعاذير كالذين في قوله تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ٩١ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينكم من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقوا ٩٢ ﴾ ( التوبة ).
فقوله تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ فيه إشارة إلى أن فرضية الجهاد مرفوعة عن أصحاب المعاذير وقت عذرهم، وهي في الوقت ذاته قاعدة عامة في معاني الشريعة الإسلامية، والحرج أصله الضيف بين الأشياء المجتمعة فهو الضيق في صدور الناس وفي تكليفاتهم.
والشريعة الإسلامية جاءت لنفع الناس وجلب الخير لهم، "وخير الدين أيسره"٤، كما روى عنه صلى الله عليه وسلم، وقد روت أم المؤمنين عائشة عن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ذلك أن الشاق يصعّب على المؤمن المداومة، والمداومة تربي في النفس عادة الطاعة، وتكون لها في النفس مجار تنير الخير، ولذلك روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أحب الأعمال أدومها وإن قل )، وروى عنه أنه قال :﴿ إن الله يحب الديمة من الأفعال ﴾، ونهى عن التشدد في الدين، وقال :( لا تشددوا ولكن سددوا وقاربوا )، وقد وصل الله تعالى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بشريعة إبراهيم أبى العرب لتقريبها إليهم، فقال :
﴿ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ﴾، ﴿ ملة ﴾ منصوب على الاختصاص، أي أعنى ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام، وسمي أبا للعرب، وإن كان أبا لبعضهم، وذلك لأن العرب جميعا كانوا يتفاخرون بالانتساب إليه، ولأنه باني البيت الحرام الذي كان مناط عزة العرب أجمعين، ولأنه أب بالفعل لقريش الذين ابتدأت الدعوة المحمدية فيهم، وكان ذكر هذه الدعوة الكريمة تقريبا وتأليفا، وإدناء من الإسلام، ﴿ هو سماكم المسلمين من قبل ﴾، الإشارة إلى القرآن، وسماهم المسلمين من قبل في مثل ما حكاه الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ١٢٧ ﴾ ( البقرة ) وسمي القرآن المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾ ( آل عمران ).
قوله تعالى :﴿ ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ﴾ "اللام" وما بعدها متعلق بقوله تعالى، ﴿ وجاهدوا ﴾، والمعنى جاهدوا لأجل أن يكون الرسول شهيدا عليكم بأنكم بلغتم وأديتم الأمانة التي أودعها الله ونبيه إياكم، فيشهد الرسول بأنكم أديتموها حق أدائها، ورغيتموها حق رعايتها، وإن رسالة نبيكم ولقرآن فيهما شهادة للأنبياء أجمعين ومعجزاتهم، ومن أطاعوا ومن كفروا، وأنتم بهذا تكونون شهداء بأن بلغتم لهم رسالات الله مؤيدة بمعجزاتها، وأن منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولأن لهم هذه المنزلة، ومقامهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والرسائل السابقة أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالت كلماته :﴿ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ﴾، "الفاء" للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانت لكم هذه المكانة، فادرعوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله فأمرهم بأركانها من ركوع وسجود وقعود خاشعين لله مستحضرين لذاته العلية، إذا ذكرتموه وإذا كبرتم، ﴿ وآتوا الزكاة ﴾، وقد جمع سبحانه بذلك بين التهذيب الروحي بالصلاة، والتعاون الاجتماعي بالزكاة، ثم أمر بالاتفاق على طاعة الله تعالى فقال :﴿ واعتصموا بالله ﴾ الاعتصام الاستمساك، فمعنى الاعتصام بالله الاستمساك به، بأن يكونوا مستمسكين بأوامرهم ونواهيه، ومستمسكين بذاته العلية لا يفكرون إلا فيه، ولا يبتغون غيره، ويلتفون حول شريعته غير منفصلين عنه، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولذا ختم السورة بقوله :﴿ فنعم المولى ﴾ الذي تكون له ولاية المؤمن لا يوالي غيره ولا يواد من يحاد الله ورسوله، ﴿ ونعم النصير ﴾ الناصر، فلا ناصر في الشدائد، ولا منجي سواه.
١ : عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". رواه البخاري: (٣٢٤٨)، ومسلم (٦٩٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ : سبق تخريجه..
٣ : سبق تخريجه..
٤ : رواه الطبراني في الكبير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه: "خير دينكم أيسره ". مجمع الزوائد (٧٣٨٥)..
Icon