تفسير سورة الحج

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

دفاع الله عن المؤمنين
" إن الله يدافع عن الذين آمنوا.
إن الله لا يحب كل خوان كفور ".
الكلمات :
دفع الشيء، صده ورده، والدفاع عن الشيء، حمايته بصد ما يؤذيه عنه. وقرئ في المتواتر( يدفع )، وقرئ ( يدافع )، وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع فجيء بفاعل، الذي يقتضي المغالبة في أصله ؛ لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ. أو لأن ما يهيئه الله لهم من أسباب الدفع التي يباشرونها، مقابلة لما يقصدهم به أضدادهم ؛ فكان الدفع من الجانبين.
( خان ) : إذا ضيع ما جعل في حفظه وعهدته، والخوان الكثير التضييع لما استحفظ.
( والكفور ) : الكثير الجحود للنعم، فلا يعترف بها، أو لا يؤدي شكرها.
التراكيب :
عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف، وأعداؤهم في كثرة وقوة – كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعد الهجرة – تشك النفوس في سلامتهم من كيد عدوهم ؛ فلذا جاء هذا الخبر مؤكدا بأن.
ولكون هذا الدفع متجددا جيء بالفعل مضارعا.
ولبيان سبب الدفع جيء بالجملة المستأنفة بعد الجملة الأولى، وأكدت بإن، لأن الأولى تحمل المخاطب على أن يسأل سؤال المتردد : هل هؤلاء المدفعون أعداء مبغوضون ؟ فأجيب بالتأكيد١.
وحذف مفعول يدافع، ليعم ك ما يدفع ؛ فشمل كيد الكائدين.
التفسير :
شرط النصر :
هذا من الله – تعالى – خبر حق ووعد صدق للمؤمنين، بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم، ويبطل مكرهم، ويكف شرهم، وإن عظم ذلك منهم وكثر.
وإن هذا منه لم لهم متكرر متجدد، ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم، وعهده لديهم، واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضى عنهم، فأيدهم ونصرهم، ودافع عنهم.
ولأن أعدائهم ضيعوا أمانة الله عندهم، بارتكاب المنهيات، وترك المأمورات، وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – أو ما جاءهم به من شرعه فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين٢.
تحرير في التعليل :
عدم الطاعة يحرم النصر :
إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله، لا تقع إلا على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم.
فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم.
واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم، وليست من صفاتهم.
فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم : في نفوسهم، وعقولهم، وأبدانهم، وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها، باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره.
وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر إيمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم، ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان، ورسوخه في قلوبهم.
فإذا عدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول، وخانوا أماناتهم، وفشت الفواحش و المناكر والبدع فيهم، وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلو، وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير، وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات – إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته، وحرموا نصرته ودفاعه، وكانوا هم الظالمين.
خيانة دون خيانة وكفر دون كفر :
الخيانة خيانتان : خيانة عقيدة، وخيانة أعمال، وكذلك الكفر، وكذلك النفاق، وكذلك الشرك.
وإنما يخرج المرء عن أصل الإسلام بما كان في أصل العقيدة لا بما كان في الأعمال، إلا عملا يدل دلالة ظاهرة على فساد العقيدة وانحلالها.
وعلى هذا عقد البخاري – رحمه الله – في الجامع الصحيح أبوابا في ظلم دون ظلم، وكفر دون كفر.
تطبيق :
من عدل الله :
لما كان المسلمون أهل الإيمان الصادق والشكر والأمانة، دافع الله عنهم، وقد شهد التاريخ بذلك من الله لهم. فلما خانوا وكفروا تركهم ومكن منهم٣.
ولكنه برحمته وعدله لم ينس لهم أصل إسلامهم، فأبقى لهم أصل وجودهم الذاتي، وهم لحم على وضم٤بين الأمم، لا يستطيعون دفعا عن أنفسهم.
وأبقى لهم أصل وجودهم الروحي بكتابة المتلو بين ظهرانيهم، رغم إعراضهم عن تدبره وهجرهم لما فيه – عساهم يرجعون.
تنبيه وتحذير :
كل عمل لا يحل فهو خيانة، وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبه الله على هذا بقوله :" يعلم خائنة الأعين "، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.
خيانة العامة :
وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم أثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمرا من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم.
فحق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها، وخصوصا ما اتصل بالناس منها، ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في خطرها.
سؤال وجوابه :
فإن قيل :
قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة، فيعذب وقد يقتل :" وكأين من نبي قتل " ؟
وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم ؟
البلايا امتحانات :
فالجواب :
إن دفع الله يكون بأسباب وأنواع، وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة، ولا تخلوا كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم وهو ابتلاء بكسبهم القوة والجلد، ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصير منهم، فيتداركو أمرهم بالإصلاح و المتاب، فإذا هم بعد ذلك الابتلاء أصلب عودا، وأطهر قلوبا، وأكثر خبرة، وأمنع جانبا.
وإن في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه، والظلم الذي لا يقدر على إزالته – لبعثا للقوة في نفس غيره ممن يأتسي به، وضعفا في قلب ظالمه، وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
مشاهدة وتوصية :
نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلا بدفع الله، وبطل كيد الكائدين فيها، بمحض صنع الله، وقد كنا فيها – فيما نرى – على شيء من العمل لله.
فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله ؟
وهذه المشاهدة التي شاهدنا – ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا – توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على عهده والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع، وينيل أهله العزة والحفظ.
فعلى المسلم أن يعمل لذلك، ويعتد به ثقة بالله، وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد.
١ ليزول التردد..
٢ فليتدبر ذلك الراجون لنصر الله وهم عصاة منافقون وفاسقون، فشت فيهم البدع وخانوا الأمانات، فصاروا مسلمين بشهادة الميلاد..
٣ نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فأمن منهم أعداءهم تتقاسمهم وتذلهم..
٤ الوضم خشبة الجزار التي يقطع اللحم عليها، أي مغلوبون على أمرهم لا يملكون دفاعا ولا حراكا..
Icon