تفسير سورة سورة الحج من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثمان وسبعون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إن زلزلة الساعة ﴾ من أمارات الساعة ما يحدث في الأرض من الزلزلة الشديدة، التي أخبر الله عنها بأنها شيء عظيم الأهوال، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها. والزلزلة : التحريك الشديد، والإزعاج العنيف. مصدر زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا، حركها. وقيل : هذه الزلزلة كناية عن أهوال يوم القيامة.
﴿ تذهل كل مرضعة ﴾ تنسى وتترك كل امرأة الطفل الذي ألقمته ثديها من شدة كربها ودهشتها ؛ من الذهول، وهو شغل يورث حزنا ونسيانا. وفعله كمنع. والمرضعة : المباشرة للإرضاع بالفعل. تقول : أرضعت المرأة فهي مرضع، إذا كان له ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع ولدها بالفعل قلت : مرضعة. ﴿ وتضع كل ذات حمل حملها ﴾ ولدها قبل تمامه من شدة الهول﴿ سكارى ﴾ أي كالسكارى لما شاهدوا من سلطنة الجبروت﴿ وما هم بسكارى ﴾ على التحقيق ؛ جمع سكر وسكران.
﴿ ومن الناس من يجادل... ﴾ ينازع ويخاصم ؛ من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصله من جدلت الجبل : أي أحكمت فتله ؛ كأن المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه. نزلت في النضر بن الحارث. ﴿ ويتبع كل شيطان مريد ﴾ متمرد متجرد للفساد، ومعرى من الخير، [ آية ١١٧ النساء ص ١٦٩ ].
﴿ يأيها الناس... ﴾ لما ذكر تعالى من يجادل في قدرته بغير علم وكان جدالهم في البعث – ذكر دليلين واضحين على صحته : أحدهما في نفس الإنسان وابتداء حلقه وتطوره في أطواره السبعة، وهي التراب، والنطفة، والعلقة، والمضغة، والإخراج طفلا، وبلوغ الأشد، والتوفى، أو الرد إلى أرذل العمر.
والثاني في الأرض التي يشاهد تنقلها من حال إلى حال ؛ فإذا اعتبر العاقل ذلك تبين له جواز البعث عقلا، فإذا ورد الشرع بوقوعه وجب التصديق به لا محالة. ﴿ من نطفة ﴾ من مني [ آية ٤ النحل ص ٤٢٨ ].
﴿ من علقة ﴾ قطعة من الدم جامدة يتحول إليها المني. وجمعها علق. ﴿ من مضغة ﴾ قطعة قليلة من اللحم تتحول إليها العلقة. ﴿ لتبلغوا أشدكم ﴾ كمال عقولكم، ونهاية قواكم [ آية ١٥٢ الأنعام ص ٢٤٨ ]. ﴿ إلى أرذل العمر ﴾ أخسه وأدونه ؛ وهو مثل زمن الطفولة الأولى. ﴿ وترى الأرض هامدة ﴾ يابسة لا نبات فيها. يقال : همدت الأرض تهمد همودا، يبست ودرست. وهمد الثوب بلي. ﴿ اهتزت ﴾ تحركت في رأى العين بسبب حركة النبات. يقال : هز الشيء – من باب رد – فاهتز، حركه فتحرك. ﴿ وربت ﴾ زادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات. يقال : ربا الشيء يربو ربوا، زاد ونما ؛ ومنه الربا والربوة. ﴿ بهيج ﴾ نضر حسن المنظر ؛ من بهج – كظرف – بهاجة وبهجة أي حسن.
﴿ ذلك ﴾ أي ذلك المذكور من خلق الإنسان وإحياء النبات شاهد﴿ بأن الله هو الحق ﴾.
﴿ ومن الناس من يجادل... ﴾ هذه الآية واردة في شأن المتبوعين. والآية الثالثة من هذه السورة واردة في شأن أتباعهم. ؟
﴿ ثاني عطفه... ﴾ لاوي جانبه، أي متكبرا شموخا، معرضا عن الحق ؛ من الثني وهو اللي. يقال : ثني الشيء – كسعى ورمى – رد بعضه على بعض فتثنى انعطف. والعطف : الجانب : ويقال : هو ينظر في عطفيه، أي معجب بنفسه. وثنى عني عطفه : أعرض.
﴿ خزي ﴾ ذل وهوان بالذكر القبيح.
﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ [ آية ١٨٢ آل عمران ص ١٣٤ ].
﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف... ﴾ على طرف من الدين، لا ثبات له ولا استقرار ؛ كالذي يكون على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قر، وإلا فر. وحرف كل شيء : طرفه وحده ؛ ومنه حرف الجبل. وهو مثل لاضطرابه في أمر دينه وتزلزل قدمه فيه﴿ وإن أصابته فتنة ﴾ ابتلاء بالشرور والآلام في النفس أو الأهل أو المال.
﴿ يدعو من دون الله ﴾ أي يعبد من دونه تعالى.
﴿ مالا يضره ﴾ ترك عبادته له في الدنيا﴿ ومالا ينفعه ﴾ عبادته له في الآخرة وهو الأصنام.
﴿ لبئس المولى ولبئس العشير ﴾ أي يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه، ولا يرى أثرا مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر : والله لبئس الذي يتخذ ناصرا، ولبئس الذي يعاشر ويخالط ! !
﴿ من كان ﴾ من الكفار﴿ يظن أن لن ينصره الله ﴾ أي ينصر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم﴿ فليمدد بسبب ﴾ أي فليمدد حبلا﴿ إلى السماء ﴾ إلى سقف بيته﴿ ثم ليقطع ﴾ أي ليختنق به ؛ من قطع، إذا اختنق. وأصله قطع نفسه ؛ وهو كناية عن الاختناق. ﴿ فلينظر ﴾ أي فليقدر في نفسه النظر﴿ هل يذهبن كيده ما يغيظ ﴾ أي الذي يغيظه من النصر.
﴿ والصائبين ﴾ [ آية ٦٢ البقرة ص ٣٢ ]. ﴿ والمجوس ﴾ هم عبدة الشمس أو القمر أو النار.
أو القائلون بأن للعامل أصلين : النور والظلمة. ﴿ والذين أشركوا ﴾ هم عبدة الأصنام والأوثان.
﴿ ألم تر أن الله له ﴾ [ آية ١٥ الرعد ص ٤٠٢ ]. ﴿ وكثير من الناس ﴾ حق له الثواب، وهم المناقدون لله تعالى ظاهرا وباطنا. ﴿ وكثير حق عليه العذاب ﴾ وهم المتمردون على الله تعالى، الجاحدون لنعمه.
﴿ هذان خصمان ﴾ أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين خصمان في شأنه عز وجل.
﴿ الحميم ﴾ الماء البالغ غاية الحرارة. أو هو النحاس المذاب.
﴿ يصهر به ما في بطونهم ﴾ يذاب به ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء. يقال : صهر الشحم يصهره فانصهر، أذابه فذاب ؛ فهو صهير. أو يصهر بمعنى ينضج.
﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ مطارق تضرب بها خزنة النار رءوسهم إذا أرادوا الخروج منها ؛ جمع مقمعة، وهي آلة تستعمل في القمع عن الشيء والزجر عنه. يقال : قمعه يقمعه، وأقمعه، إذا ضربه لها، وقهره وذلله.
﴿ إن الذين كفروا ويصدون... ﴾ خبر " إن " محذوف لدلالة آخر الآية عليه، بعد قوله " والباد " تقديره : نذيقهم من عذاب أليم. ﴿ والمسجد الحرام ﴾ أي وعن المسجد الحرام والمراد به مكة ؛ عبر به عنها لأنها المقصود الأهم منها. ﴿ الذي جعلناه للناس... ﴾ مطلقا بلا فرق بين مكي وآفاقي.
﴿ سواء العاكف فيه ﴾ المقيم فيه. يقال : عكف يعكف ويعكف عكفا وعكوفا، لزم المكان وأقام فيه. ﴿ والباد ﴾ أي الطارئ عليه وهو الآفاقي. وأصله من يكون في البادية ومسكنه المضارب والخيام، وينتجع المناجع ولا يقيم في مكان. " وسواء " مفعول ثان ل " جعلنا "، و " العاكف " فاعل ل " سواء " بمعنى مستو. ﴿ ومن يرد فيه بإلحاد ﴾ أي ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد والاستقامة ؛ فيشمل سائر الآثام، لما فيها من الميل عن الحق إلى الباطل. ومنه كما في السنن : احتكار
الطعام في الحرم. ومنه دخوله بغير إحرام ؛ كما روي عن عطاء. يقال : ألحد في دين الله، أي حاد عنه وعدل. ﴿ بظلم ﴾ أي بغير حق، وهو تأكيد لما قبله ؛ والباء فيهما للملابسة. وقيل : الأولى زائدة، وأيد بقراءة " ومن يرد إلحاده بظلم " أي إلحادا فيه بظلم. والآية نزلت في المشركين حين صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام ؛ فكره صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة، فصالحوه على أن يعود في العام القابل لقضاء العمرة.
﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾ جعلنا مكان البيت – أي الكعبة المشرفة – مباءة له عليه السلام ؛ أي مرجعا ما يرجع إليه للعمارة والعبادة [ آية ١٢١ آل عمران ص ١٢٣ ]. ﴿ وطهر بيتي ﴾ من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات.
﴿ يأتوك رجالا ﴾ مشاة على أرجلهم ؛ جمع راجل أو رجل. يقال : رجل يرجل، فهو رجل وراجل، إذا لم يكن له ظهر يركبه. ﴿ وعلى كل ضامر ﴾ أي وركبانا على كل بعير مهزول أنهكه بعد الشقة. يطلق على الذكر والأنثى، وهو اسم فاعل من ضمر يضمر ضمورا، وضمر ضمرا ؛ فهو ضامر فيهما. ﴿ يأتين من كل فج عميق ﴾ صفة ل " كل ". والجمع باعتبار المعنى ؛ كأنه قيل : وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد. والفج في الأصل : شقة يكتنفها جبلان، ويستعمل في الطريق الواسع. والمراد هنا : مطلق الطريق، وجمعه فجاج. و " عميق " أي بعيد ؛ من العمق. وأصله البعد سفلا ؛ ومنه بئر عميقة. وفعله ككرم وسمع.
﴿ ليشهدوا مناف لهم ﴾ عظيمة دينية ودنيوية.
﴿ ويذكروا اسم الله ﴾ أي يذكروه بالحمد والثناء عند إعداد الهدايا، وعند الذبح والنحر وغير ذلك.
﴿ في أيام معلومات ﴾ هي عشر ذي الحجة على ما ذهب إليه جمهور المفسرين. وقيل : هي أيام النحر، أو يوم العيد وأيام التشريق. ﴿ وأطعموا البائس ﴾ هو الذي أصابه بؤس ؛ أي شدة ومكروه.
﴿ ثم ليقضوا تفثهم ﴾ أي يزيلوا عنهم أدرانهم والمراد به : الخروج من الإحرام بالحلق أو القص، وقلم الأظفار والاستحداد، ولبس الثياب ونحو ذلك. والتفث : الوسخ والقذر من طول الشعر والأظفار والشعث. يقال : تفث يتفت تفثا فهو تفث، إذا ترك الأدهان والاستحداد ونحوهما فعلاه الوسخ. والقضاء في الأصل : القطع والفصل ؛ أريد به الإزالة مجازا. ﴿ وليطوفوا ﴾ طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، وبه تمام التحلل من الإحرام.
﴿ ومن يعظم حرمات الله ﴾ أي ما أمر الله باحترامه، وهو جميع التكاليف في مناسك الحج وغيرها. وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه. ﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان. وهي التماثيل التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى.
﴿ حنفاء ﴾ مائلين عن سائر الأديان الباطلة إلى الدين الحق. ﴿ فتخطفه الطير ﴾ تستلبه جوارح الطير وتذهب به. والخطف : الاختلاس بسرعة. ﴿ أو تهوي به الريح ﴾ أي تسقطه وتقذفه. يقال : هوى يهوي هويا، سقط إلى أسفل. ﴿ سحيق ﴾ بعيد ؛ من السحق. يقال : سحق الشيء – كبعد – فهو سحيق، أي بعيد. وأسحقه الله : أبعده.
﴿ ومن يعظم شعائر الله ﴾ جمع شعيرة، وهي كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم وشعائر الله : أعلام دينه في الحج. أو الأعمال التي أمر بها فيه عند هذه الأعلام [ آية ١٥٨ البقرة ص ٥٣ ] ومنها البدن التي تهدى للبيت المعظم. وتعظيم شعائر الله : امتثال ما أمر به عندها، أداء أعمال المناسك على الوجه المشروع. ومن المفسرين من فسر الشعائر هنا بالبدن الهدايا ؛ بقرينة ما بعده. وتعظيمها : اختيارها حسانا سمانا.
﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي لكم في تلك الشعائر منافع بالأجر والثواب الحاصل بتعظيمها. ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو انقضاء أيام الحج. ﴿ ثم محلها ﴾ أي محل الناس منها – أي من إحرامهم – منته﴿ إلى البيت العتيق ﴾ بطواف الزيارة بعد أداء تلك الشعائر.
﴿ ولكل أمة جعلنا منسكنا ﴾ أي إراقة دم وذبح قربان. أي شرعنا لكل أمة مؤمنة أن ينسكوا لله تعالى ؛ أي يذبحوا لوجهه تقربا إليه. ويطلق المنسك – بالفتح – على موضع إراقة الدم أو زمانها.
وقرئ بكسر السين بمعنى الموضع. ﴿ وبشر المخبتين ﴾ المتواضعين لله تعالى، أو المطمئنين ؛ من الإخبات وهو في الأصل نزول الخبت، أي المطمئن من الأرض. وجمعه أخبات وخبوت، ثم استعمل استعمال اللين والتواضع.
﴿ وجلت قلوبهم ﴾ خافت وحذرت مخالفته تعالى [ آية ٢ الأنفال ص ٢٩٤ ].
﴿ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ﴾ البدن : جمع بدنة، وهي الأبل، أو الأبل والبقر المهداة إلى البيت المعظم. وسميت بدنا لعظم أبدانها وضخامتها، وكانوا يسمونها ثم يهدونها إلى البيت ؛ وهي من أعلام دينه تعالى في الحج. و﴿ صواف ﴾ جمع صافة، أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ؛ من صف يصف. وقرئ : " صوافن " جمع صافنة ؛ من صفن الرجل يصفن، إذا صف قدميه. ﴿ وجبت جنوبها ﴾ سقطت جنوبها على الأرض بعد النحر ؛ وهو كناية عن موتها. يقال : وجبت الشمس تجب وجبا ووجوبا، غابت. ووجب الجدار : سقط. وظاهره يؤيد كون المراد من البدن الإبل خاصة. ﴿ وأطعموا القانع ﴾ هو السائل ؛ من القنوع وهو السؤال والتذلل. يقال : قنع يقنع، إذا سأل ؛ فهو قانع وقنيع. ﴿ والمعتر ﴾ هو الذي يتعرض لك لتعطيه ولا يسأل. يقال : عره يعره عرا، وعراه واعتراه واعتره : إذا أتاه طلبا معروفة من غير مسألة.
﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ﴾ بشارة للمؤمنين لتثبيت قلوبهم.
﴿ ولولا دفع الله الناس... ﴾ تحريض على القتال المأذون فيه، بإفادة أن الله تعالى أجرى بذلك عادته في الأمم الغابرة ؛ ليتنظم به الأمر، وتقوم الشرائع، وتصان المتعبدات من الهدم. فلولا دفع الله المشركين بالمؤمنين بالإذن لهم في الجهاد لهدمت في زمن موسى المعابد، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن نبينا عليه الصلاة والسلام المساجد. والذين دفع بهم المشركون في زمن موسى وعيسى عليهما السلام إنما هم المؤمنون من أتباعهم الذين لم يحرفوا ولم يبدلوا، واستمروا على الحق. ﴿ صوامع ﴾ معابد للرهبان ؛ جمع صومعة، وهي البناء المرتفع المحدد الطرف. يقال : صمع الثريدة، أي رفع رأسها وحدده. ﴿ وبيع ﴾ كنائس للنصارى ؛ جمع بيعة ولا تختص بالبرهان. ﴿ وصلوات ﴾ كنائس لليهود
﴿ فأمليت للكافرين... ﴾ أمهلتهم بالعقوبة، ولم أعاجلهم بها ؛ من الإملاء بمعنى الإمهال. ﴿ نكير ﴾ أي إنكاري عليهم بالعذاب والهلاك. مصدر من نكرت عليه وأنكرت، إذا فعلت فعلا يردعه. وهو وعيد للمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ فكأين من قرية... ﴾ فكثير من القرى أهلكنا [ آية ١٤٦ آل عمران ص ١٢٧ ].
﴿ فهي خاوية على عروشها ﴾ خالية من أهلها لهلاكهم [ آية ٢٥٩ البقرة ص ٨٥ ].
﴿ وبئر معطلة ﴾ مهجورة لهلاك أهلها ؛ من بأرت الأرض أبأرها بأرا : حفرتها، فهي مبئورة.
﴿ وقصر مشيد ﴾ مجصص بالشيد وهو الجص، أخليناه من ساكنيه بإهلاكهم. يقال : شاد البناء يشيه، طلاه بالشيد.
﴿ معاجزين ﴾ مسابقين للمؤمنين، أي معارضين لهم ؛ فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. يقال : عاجزه فأعجزه، أي سابقه فسبقه ؛ لأن كل واحد منهما يطلب إعجاز الآخر عن اللحاق به.
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول... ﴾ المراد بالرسول : من بعث بكتاب. وبالنبي : من بعث بغير
كتاب. أو بالأول من بعث بشرع جديد. وبالثاني : من بعث لتقرير شرع من قبله. والمراد بالتمني : التمني والتلاوة. وأصله نهاية التقدير ؛ على ما قال أبو مسلم. وأطلق على القراءة لأن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا. والمعنى على ما ذكره العلامة الألوسي : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى " أي تلا على قومه الآيات المرسل بها للدعوة إلى التوحيد، ونبذ ما هم عليه من الشرك. ﴿ ألقى الشيطان ﴾ شبها وتحيلات باطلة، واحتمالات فاسدة﴿ في أمنيته ﴾ في هذه الآيات المتلوة لإغوائهم، وحملهم على مجادلته بالباطل، وقد قال : " لاغوينهم أجمعين " ، كما قال تعالى : " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " ، وقال سبحانه : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " .
وهذا كقولهم عند سماع آية " حرمت عليكم الميتة " : إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ذبيحة الله تعالى، وقولهم عند سماع آية " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " : إن عيسى والملائكة عبدوا من دون الله، ومحو ذلك. ﴿ فينسخ الله ما يلقى الشيطان ﴾ أي يزيله من بعض القلوب بإنزال ما يبطله حتى لا يبقى فيها أثر للشك والزيغ فتؤمن بما جاء به الرسول﴿ ثم يحكم الله آياته ﴾ يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد ؛ فلا يتطرق إلى قلوبهم شك فيها. ﴿ والله عليم حكيم ﴾
وذلك الإحكام ﴿ ليجعل ما يلقى الشيطان ﴾ من تلك الشبه﴿ فتنة ﴾ ابتلاء﴿ للذين في قلوبهم مرض ﴾ وهم المنافقون﴿ والقاسية قلوبهم ﴾ وهم المجاهرون بالكفر من أهل العناد والجحود. ﴿ وإن الظالمين ﴾ وهم هؤلاء جميعا﴿ لفي شقاق بعيد ﴾ أي خلاف شديد ومشاقة تامة لله ولرسوله.
﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم ﴾ فأزال الله عن قلوبهم الشك والزيغ، وحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ﴿ أنه الحق من ربك ﴾ أي إن ما جاء به المرسلون هو الحق من عند الله﴿ فيؤمنوا به ﴾ فيتبق الله بذلك إيمانهم ويزيدهم منه﴿ فتخبت له قلوبهم ﴾ فتخضع وتسكن وتتطامن.
﴿ وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ﴾ إلى طريق الحق الذي يدحض الباطل ويدمغه.
وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآيات قصة الغرانيق المشهورة ؛ وهي من وضع الزنادقة كما قال محمد بن إسحاق. وقال البيهقي : إنها غير ثابتة من جهة النقل ؛ ثم طعن في رواتها. وقال القاضي عياض في الشفاء : يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ؛ ولا رواه بثقة بسند صحيح سليم متصل. وهو مما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ؛ المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وشنع عليهم الإمام أبو منصور الماتريدي وقال : إن حضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية ا ه. والغرانيق : الأصنام، وهي في الأصل : الذكور من طير الماء، واحدها غرنوق وغرنيق ؛ فشبهوها بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء ؛ لزعمهم أنها تشفع لهم.
﴿ حتى تأتيهم الساعة بغتة ﴾ أي حتى تأتيهم ساعة الحشر لموقف الحساب فجأة ؛ فيصيروا إلى العذاب الدائم. ﴿ أو تأتيهم عذاب يوم عقيم ﴾ أي لا مثل له في عظمه وشدته. أولا يوم بعده وهو يوم القيامة.
﴿ ليدخلنهم مدخلا ﴾ أي إدخالا ؛ من أدخل يدخل، وهو مصدر ميمي للفعل الذي قبله، والمفعول به محذوف ؛ أي ليدخلنهم الجنة إدخالا﴿ يرضونه ﴾ أو هو اسم مكان أريد به الجنة ؛ فيكون مفعولا ثانيا.
﴿ يولج الليل في النهار... ﴾ يدخل الليل في النهار فيزيد النهار، ويدخل النهار في الليل فيزيد الليل [ آية ٢٧ آل عمران ص ١٠٢ ].
﴿ هو العلي ﴾ العالي على جميع الأشياء بقدرته ؛ وكل شيء دونه﴿ الكبير ﴾ العظيم الذي لا شيء أعظم منه سبحانه ؛ وكل شيء دونه.
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء... ﴾ ذكر الله في هذه الآية والآيات الثلاث بعدها ستة أدلة على قدرته تعالى، أولها – إنزال الماء الناشئ عنه اخضرار الأرض بالنبات. ثانيها – قوله " له ما في السموات وما في الأرض " ومن جملته خلق المطر والنبات لمنفعة الحيوان مع استغنائه تعالى عن ذلك. ثالثهما – تسخير ما في الأرض للإنسان كالأحجار والمعادن والنار والحيوان. رابعها – تسخير الفلك بالجرى في البحار ؛ ولولا ذلك لكانت تغوص أو تقف. خامسها – إمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بمشيئته تعالى. سادسها – الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء.
﴿ لكل أمة جعلنا منسكا ﴾ بيان للنعم التكليفية إثر بيان النعم الكونية، أي ولكل أهل ملة وشرع – وإن نسخ – جعلنا شريعة ؛ وهو كقوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " . وقيل : المنسك المكان المعين، أو الزمان المعين لأداء الطاعات. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام منسكها التوراة. والتي من مبعث عيسى إلى مبعث نبينا عليهما السلام منسكها الإنجيل. والتي من مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة منسكها القرآن الكريم لا غير. والمراد من الآية : زجر معاصريه صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان الأخرى عن مخالفته وعصيانه.
﴿ يكادون يسطون ﴾ يبطشون﴿ بالذين يتلون عليهم آياتنا ﴾ من القرآن لشدة تكرههم سماعه. والسطوة : شدة البطش. يقال : سطا به وعليه يسطو سطوا وسطوة، إذا بطش به.
﴿ ضرب مثل... ﴾ أي بين الله تعالى لما يعبد من دونه حالة هي في الغرابة كالمثل.
﴿ ما قدروا الله حق قدره ﴾ ما عظموه حق تعظيمه. أو ما عرفوه حق معرفته ؛ حيث أشركوا به العاجزين عن خلق الذبابة وما لا يقدرون على الانتصاف منها إذا سلبتهم شيئا على ضعفها.
﴿ اجتباكم ﴾ اختاركم للذب عن دينه، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله. ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ أي لم يجعل الله في دينه الذي تعبدكم به ضيقا لا مخرج لكم مما ابتليتم به ؛ بل وسع عليكم، فجعل التوبة في بعض مخرجا، والكفارة في بعض مخرجا، والقصاص كذلك. وشرع اليسر في كل شيء ؛ ومنه الرخص المشروعة. ﴿ ملة أبيكم إبراهيم ﴾ أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ؛ منصوب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف﴿ هو ﴾ أي الله تعالى. ﴿ سماكم المسلمين من قبل ﴾ أي قبل نزول القرآن في الكتب السابقة. ﴿ وفي هذا ﴾ أي في القرآن. ﴿ هو مولاكم ﴾ ناصركم ومتولى أموركم. ﴿ فنعم المولى ونعم النصير ﴾ الله تعالى. من تولاه لم يضع، ومن نصره لم يخذل. والله أعلم.