تفسير سورة الحج

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة الحج١
١ - سورة الحج هي السورة رقم (٢٢) في ترتيب المصحف الشريف، وعدد آياتها ٧٨ آية، وهي سورة مختلطة فيها آيات مدنية، وآيات مكية، وهو قول جمهور العلماء. قاله ابن الغرس في أحكام القرآن فيما نقله عنه السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن ١/٣٢) ورجحه القرطبي أيضا في تفسيره (٦/٤٥٣٣) وقال: "وهذا هو الأصح"..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( ١ ) ﴾ :
الخطاب هنا عام للناس جميعا، وعادة ما يأتي الخطاب الذي يطلب الإيمان عاما لكل الناس، إنما ساعة يطلب تنفيذ حكم شرعي يقول : يا أيها الذين آمنوا.
لذلك يقول هنا :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم.. ( ١ ) ﴾ [ الحج ] : يريد أن يلفتهم إلى قوة الإيمان، وكلمة ﴿ اتقوا ربكم.. ( ١ ) ﴾ [ الحج ] : التقوى : أن تجعل بينك وبين ما أحدثك عنه وقاية، أي : شيئا يقيك العذاب الذي لا طاقة لك به.
ونلحظ أن الله تعالى يقول مرة :﴿ اتقوا الله.. ( ١٩٤ ) ﴾ [ البقرة ]، ومرة يقول :﴿ { فاتقوا النار.. ( ٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] : نعم، لأن المعنى ينتهي إلى شيء واحد. معنى :﴿ فاتقوا النار.. ( ٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] : أي : اجعل بينك وبينها وقاية تحميك منها، ويكون هذا بفعل الأمر وترك النهي.
وقوله :﴿ اتقوا الله.. ( ١٩٤ ) ﴾ [ البقرة ] : لأن لله تعالى صفات جمال، وصفات جلال، صفات الجمال كالرحمن، والرحيم، والباسط، والستار، وصفات الجلال كالقهار والجبار وغيرها مما نخاف منه.
فاجعل بينك وبين صفات الجلال وقاية، فليست بك طاقة لقاهريته، وبطشه سبحانه، والنار من جنود الله، ومن مظاهر قهره. فكما نقول : اتق الله نقول : اتق النار.
واختار في هذا الأمر صفة الربوبية، فقال :﴿ اتقوا ربكم.. ( ١ ) ﴾ [ الحج ]، ولم يقل : اتقوا الله، لأن الرب هو المتولي للرعاية وللتربية، فالذي يحذرك هو الذي يحبك ويعطيك، وهو الذي خلقك ورباك ورعاك.
فالربوبية عطاء : إيجاد من عدم وإمداد من عدم، فأولى بك أن تتقيه، لأنه قدم لك الجميل.
أما صفة الألوهية فتعني التكاليف والعبادة بافعل ولا تفعل، الله معبود ومطاع فيما أمر وفيما نهى.
ثم يقول تعالى :﴿ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( ١ ) ﴾ [ الحج ] : الزلزلة : هي الحركة العنيفة الشديدة التي تخرج الأشياء عن ثباتها، كما لو أردت أن تخلع وتدا من الأرض، فعليك أولا أن تهزه وتخلخله من مكانه، حتى تجعل له مجالا في الأرض يخرج منه، إنما لو حاولت جذبه بداية فسوف تجد مجهودا ومشقة في خلعه، وكذلك يفعل الطبيب في خلع الضرس.
فمعنى الزلزلة : الحركة الشديدة التي تزيل الأشياء عن أماكنها، والحق سبحانه وتعالى تكلم عن هذه الحركة كثيرا فقال :﴿ إذا رجت الأرض رجا ( ٤ ) ﴾ وبست١ الجبال بسا ( ٥ ) فكانت هباء منبثا ( ٦ ) } [ الواقعة ].
ويقول :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ( ١ ) وأخرجت الأرض أثقالها ( ٢ ) وقال الإنسان ما لها ( ٣ ) يومئذ تحدث أخبارها ( ٤ ) بأن ربك أوحى لها ( ٥ ) ﴾ [ الزلزلة ].
فالزلزال هنا ليس زلزالا كالذي نراه من هزات أرضية تهدم بعض البيوت، أو حتى تبتلع بعض القرى، فهذه مجرد آيات كونية تثبت صدق البلاغ عن الله، وتنبهك إلى الزلزال الكبير في الآخرة، إنه صورة مصغرة لما سيحدث في الآخرة، حتى لا نغتر بسيادتنا في الدنيا فإن السيادة هبة لنا من الله.
وعندما حدث زلزال " أغادير " لاحظوا أن الحيوانات ثارت وهاجت قبل الزلزال بدقائق، ومنها ما خرج إلى الخلاء، فأي إعلام هذا ؟ وأي استشعار لديها وهي بهائم في نظرنا لا تفهم ولا تعي ؟.
إن في ذلك إشارة للإنسان الذي يعتبر نفسه سيد الكون : تنبه، فلولا أن الله سيدك لوكزتك هذه البهائم فقضت عليك.
نقول : ليس هذا زلزالا عاما، إنما هو زلزال مخصوص منسوب إلى الأرض بوحي من الله، وبأمر منه سبحانه أن تتزلزل.
لذلك وصف هذا الزلزال بأنه شيء عظيم :﴿ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( ١ ) ﴾[ الحج ] : فحين تقول أنت أيها الإنسان : هذا شيء عظيم فهو عظيم بمقياسك أنت، أما العظيم هنا فعظيم بمقاييس الحق سبحانه، فلك أن تتصور فظاعة زلزال وصفه الله سبحانه بأنه عظيم.
لقد افتتحت هذه السورة بزلزال القيامة، لأن الحق سبحانه سبق أن قال :﴿ واقترب الوعد الحق.. ( ٩٧ ) ﴾ [ الأنبياء ] : فلا بد أن يعطينا هنا صورة لهذا الوعد، ونبذة عما سيحدث فيه، وصورة مصغرة تدل على قدرته تعالى على زلزال الآخرة، وان الأرض ليس لها قوام بذاتها، إنما قوامها بأمر الله وقدرته، فإذا أراد لها أن تزول زالت.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ( ٢ ) ﴾ [ الزلزلة ] :
فما نراه من البراكين ومن الثروات في باطن الأرض وعجائب يقع تحت هذه الآية، لذلك قال تعالى :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( ٦ ) ﴾ [ طه ] :
وما دام الحق سبحانه يمتن بملكية ما تحت الثرى فلا بد أن تحت الثرى ثروات وأشياء نفيسة، ونحن الآن نخرج معظم الثروات من باطن الأرض، ومعظم الأمم الغنية تعتمد على الثروات المدفونة من بترول ومعادن ومناجم وذهب.. الخ.
وسبق أن ذكرنا أن الحق- سبحانه وتعالى- بعثر الخيرات في كونه، وجعل لكل منها وقته المناسب، فالرزق له ميلاد يظهر فيه :﴿ وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) ﴾ [ الحجر ].
١ - بسه: فته وجعله أجزاء دقيقة. أي: فتتت تفتيتا شديدا. [القاموس القويم ١/٦٦]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يوم ترونها تذهل١ كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾ :
والرؤية : قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية، والشيء الذي نعلمه إما : علم اليقين، وإما عين اليقين، وإما حقيقة اليقين.
علم اليقين : أن تخبر من تثق به بشيء، كما تواترت الأخبار عن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا، وبها كذا وكذا، فهذا نسميه " علم يقين "، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا " عين اليقين " فإذا نزلت بها وتجولت بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه " حقيقة اليقين ".
لذلك، حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاب في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعلمنا به " علم يقين "، فإذا رأيناها فهذا " عين اليقين " كما قال سبحانه :﴿ ثم لترونها عين اليقين ( ٧ ) ﴾ [ التكاثر ].
فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرها ولظاها- وهذا مقصور على أهل النار- فقد علموها حق اليقين، لذلك يقول تعالى :﴿ وأما إن كان من أصحاب اليمين ( ٩٠ ) فسلام لك من أصحاب اليمين ( ٩١ ) وأما إن كان من المكذبين الضالين ( ٩٢ ) فنزل من حميم ( ٩٣ ) وتصلية جحيم ( ٩٤ ) إن هذا لهو حق اليقين ( ٩٥ ) فسبح باسم ربك العظيم ( ٩٦ ) ﴾ [ الواقعة ] :
ومعنى :﴿ تذهل كل مرضعة عما أرضعت.. ( ٢ ) ﴾ [ الحج ] : الذهول : هو انصراف جارحة عن مهمتها الحقيقية لهول رأته فتنشغل بما رأته عن تأدية وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصا مهيبا أو عظيما، فيسقط ما بيده مثلا، فالذهول- إذن- سلوك لا إرادي قد يكون ذهولا عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة.
العاطفة كالأم التي تذهل عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلا تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفا على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلا تعرض لما يؤذيه أو يودي بحياته.
لذلك، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها، قالت : الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة.
فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأي هول هذا الذي يشغلها، ويعطل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويعطل حتى الغريزة.
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى :﴿ يوم يفر المرء من أخيه ( ٣٤ ) وأمه وأبيه ( ٣٥ ) وصاحبته وبنيه ( ٣٦ ) ﴾ [ عبس ].
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم، قالوا : لأن الوالدين قد يوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر، أما الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.
وقوله تعالى :﴿ كل مرضعة.. ( ٢ ) ﴾ [ الحج ] :
والمرضعة تأتى بفتح الضاد وكسرها : مرضعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية، أما مرضعة بالكسر فهي التي ترضع فعلا، وتضع الآن ثديها في فم ولدها، فهي مرضعة.
فانظر- إذن- إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة.
وقوله تعالى :﴿ وتضع كل ذات حمل حملها.. ( ٢ ) ﴾ [ الحج ] : بعد أن تكلم عن المرضع رقى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أن تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] :
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه- إذن- مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن : وضع هذا الحمل دليل هول كبير وأمر عظيم يحدث.
والحمل نوعان : ثقل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله تعالى :﴿ وساء لهم يوم القيامة حملا ( ١٠١ ) ﴾ [ طه ] : والحمل ( بكسر الحاء ) : هو الشيء الثقيل الذي لا يطيقه ظهرك، أما الحمل بالفتح فهو : الشيء اليسير تحمله في نفسك. وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
ليس يحمل ما أطاق الظهر**** ما الحمل إلا ما وعاه الصدر
أي : أن الشيء الذي تطيق حمله ويقوى عليه ظهرك ليس بحمل، إنما الحمل هو الهم الذي يحتويه الصدر.
ثم يقول سبحانه :﴿ وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾ [ الحج ] : سكارى : أي يتمايلون مضطربين، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر، ( وتطوحهم ) يمينا وشمالا، وتلقي بهم على الأرض، وكلما زاد سكرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديدا.
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سكر ولكن من خوف وهول وفزع ﴿ وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾ [ الحج ].
لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا ؟.
قالوا : لأن الله تعالى خلق الجوارح، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن، وعلماء التشريح يحددون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حفظ التوازن للجسم، فإذا ما تأثرت هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدوار، ويفقد توازنه، كأن تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلا.
فهذا الاضطراب لا من سكر، ولكن من هول ما يرونه، فيحدث لديهم تغييرا في الغدد والخلايا المسئولة عن التوازن، فيتمايلون، كمن اغتالته الخمر.
وقوله تعالى :﴿ ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾ [ الحج ] : إنهم لم يروا العذاب بعد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم، لأن الذي يصدق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يصدق في أن بعدها عذابا في جهنم، إذن : انتهت المسألة وما كنا نكذب به، ها هو ماثل أمام أعيننا.
١ - أي: تشتغل. قاله قطرب. وقيل: تنسى، وقيل: تلهو، وقيل: تسلو والمعنى متقارب. [تفسير القرطبي ٦/٤٥٣٦]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ومن الناس١ من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ( ٣ ) ﴾ :
الجدل : هو المحاورة بين اثنين، يريد كل منهما أن يؤيد رأيه ويدحض رأي الآخر، ومنه : جدل الخوص أو الحبل أي : فتله واحدة على الأخرى.
ولو تأملت عملية غزل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حبلا طويلا، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتم فتله وغزله، فإذا أردت تقوية هذه الفتلة تجدلها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل في الأفكار، فكل صاحب فكرة يحاول أن يقوي رأيه وحجته، ليدحض حجة الآخرين.
فقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يجادل في الله.. ( ٣ ) ﴾ [ الحج ] : فكيف يكون الجدل في الله تعالى ؟.
يكون الجدل في الله وجودا، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله، أو يكون الجدل في الوحدانية، كمن يشرك بالله إله آخر، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يصدقون به، هذا كله جدل في الله.
وقوله :﴿ بغير علم.. ( ٣ ) ﴾ [ الحج ] : إذن : فالجدل في ذاته مباح مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. ( ١٢٥ ) ﴾ [ النحل ] :
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين، وكما يقولون : النصح ثقيل، فلا تجعله جدلا، ولا ترسله جبلا، ولا تخرج الإنسان مما يألف بما يكره، واقرأ قوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. ( ١٢٥ ) ﴾ [ النحل ].
وقال سبحانه :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. ( ٤٦ ) ﴾ [ العنكبوت ].
لذلك، فالقرآن الكريم يعلم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لونا من الجدل في قوله تعالى :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( ٢٥ ) ﴾ [ سبأ ].
فانظر إلى هذا الجدل الراقي والأسلوب العالي : ففي خطابهم يقول :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا.. ( ٢٥ ) ﴾ [ سبأ ] : وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول :﴿ ولا نسأل عما تعملون ( ٢٥ ) ﴾ [ سبأ ] : ولم يقل هنا : تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبل الحق.
ولما اتهموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالجنون رد عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق، فسألهم : ما الجنون ؟ الجنون أن تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ، فهل جربتم على محمد شيئا من هذا ؟ وما هو الخلق ؟ الخلق : استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتم على محمد خلاف هذا ؟.
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا٢ ما بصاحبكم من جنة.. ( ٤٦ ) ﴾ [ سبأ ] :
وكيف يكون صاحب هذا الخلق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنونا ؟.
ولما قالوا : كذاب، جادلهم القرآن :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( ١٦ ) ﴾ [ يونس ] : لقد أتته الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتهم عنه خطيبا أو شاعرا ؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم ؟.
وقالوا : إنها عبقرية كانت عند محمد، فأي عبقرية هذه التي تتفجر بعد الأربعين، ولو تأملت العبقريات لوجدتها في العقد الثاني أو الثالث من عمر صاحبها، فكيف يؤجل محمد عبقريته إلى الأربعين، ومن يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله : أبوه مات قبل أن يولد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجده مات وهو ما يزال صغيرا.
وهكذا، يعطينا القرآن مثالا للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل الصادر عن علم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك لما ذهب الشعبي٣ لملك الروم قال له الملك : عندكم في الإسلام أمور لا يصدقها العقل، فقال الشعبي : ما الذي في الإسلام يخالف العقل ؟ قال : تقولون إن في الجنة طعاما لا ينفذ أبدا، ونحن نعلم أن كل ما أخذ منه مرة بعد مرة لا بد أن ينفذ، انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشعبي : أرأيت لو أن عندك مصباحا، وجاءت الدنيا كلها فقبست من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء ؟ هذا- إذن- جدل راق وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول : كيف نأكل في الجنة كل ما نشتهي دون أن نتغوط أو تكون لنا فضلات ؟ نقول : أرأيتم الجنين في بطن الأم : أينمو أم لا ؟ إنه ينمو يوما بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذى، فهل له فضلات ؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوط في مشيمته لمات، إذن : يتغذى الجنين غذاء على قدر حاجة نموه، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال : أين تذهب الأرواح بعد أن تفارق الأجساد ؟ أجاب الرجل إجمالا : تذهب حيث كانت قبل أن تحل فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح فانطفأ، فقال له : أين ذهب الضوء ؟.
ومن الجدل الذي جاء عن علم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه، حيث قتل أصحاب معاوية عمار بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكروا قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عمار : " تقتله الفئة الباغية " ٤ وأخذوا يتركون جيش معاوية واحدا بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال : لقد فشت في الجيش فاشية، إن هي استمرت فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية : وما هي ؟ قال : يقولون : إننا قتلنا عمارا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال عنه : " تقتله الفئة الباغية ".
فاحتار معاوية ثم قال : قل لهم قتله من أخرجه للقتال٥ - يعني : علي بن أبي طالب، فلما بلغ الكلام سيدنا عليا، قال : قولوا لهم : فمن قتل حمزة بن عبد المطلب ؟ أي : إن كان الأمر كما تقولون فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو قاتل حمزة، لأنه هو الذي أخرجه للقتال.
هذا هو الجدل عن علم، والعلم قد يكون علما بدهيا وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه. أو علما عقليا استدلاليا، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دخل لأحد فيه، وسبق أن ضربنا مثلا للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلا، فيأتي الصغير يريد أن يجلس هو بجوار الأب، فيحاول أولا أن يقيم أخاه من المكان فيشده ويجذبه ليخلى له المكان.
وهنا نتساءل : كيف عرف الطفل الصغير أن الحيز لا يسع اثنين ؟ ولا يمكن أن يحل بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولا ؟.
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية، فعرفنا معنى الحيز وعدم تداخل الأشياء، هذه المسائل يعرفها الطفل بديهة.
ولو تأملت النظريات الهندسية لوجدت أن كل نظرية تبنى على نظرية سابقة، فلو أردت أن تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلا، وهكذا إلى أن تصل إلى نظرية بدهية لا برهان عليها.
وهكذا تستطيع أن تقول : إن كل شيء علمي في الكون مبني على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفا، فالسماء مثلا، يقولون : هي كل ما علاك فأظلك، فالسقف سماء، والغيم سماء، والسحاب سماء، والسماء سماء، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف، لأنك حين تسمع هذه الكلمة ( السماء ) تعرف معناها بديهة دون تعريف.
وهذه الأمور البدهية لا جدل فيها، لأنها واضحة، فلو قلت لهذا الطفل : اجلس على أخيك، فهذا ليس جدلا، لأنه لا يصح.
أما العلم الاستدلالي فأن تستدل بشيء على شيء، كأن تدخل بيتك فتجد ( عقب سيجارة ) مثلا في ( طفاية السجائر ) فتسأل : من جاءكم اليوم ؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء، فوجد على الأرض آثارا لخف البعير وبعره، فقال : البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
أما علم الوحي فيأتي من أعلى، يلقيه الله سبحانه على من يشاء من عباده.
فعلى المجادل أن يستخدم واحدا من هذه الثلاثة ليجادل به، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها.
وقد نزلت هذه الآية :﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم.. ( ٣ ) ﴾ [ الحج ] : في النضر بن الحارث، وكان يجادل عن غير علم في الوجود، وفي الوحدانية، وفي البعث.. الخ.
والآية لا تخص النضر وحده، وإنما تخص كل من فعل فعله، ولف لفه من الجدل.
ثم يقول تعالى :﴿ ويتبع كل شيطان مريد ( ٣ ) ﴾ [ الحج ] : أي : أن هذا الجدل قد يكون ذاتيا من عنده، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله، سواء أكان شيطان الإنس أو شيطان الجن.
إذن : فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة، وإما من الشيطان الذي يلح عليك إلى أن يوقع بك في شراكه.
لكن، لا نجعل الشيطان ( شماعة ) نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا، فليست كل الذنوب من الشيطان، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها، وسبق أن قلنا : إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر، فمن الذي وسوس له أولا ؟ وكما قال الشاعر :*إبليس لما غوى من كان إبليسه ؟ *.
وفرق بين المعصية من طريق النفس، والمعصية من طريق الشيطان، الشيطان يريدك عاصيا على أي وجه من الوجوه، أما النفس فتريدك عاصيا من وجه واحد لا تحيد عنه، فإذا صرفتها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلا أن توقعك في هذا الشيء بالذات.
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيت عليه ولم تطعه في معصية صرفك إلى معصية أخرى، أيا كانت، المهم أن تعصى، وهكذا يمكنك أن تفرق بين المعصية من نفسك، أو من الشيطان.
ولما سئل أحد العلماء : كيف أعرف : أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ قال : هذه مسألة ليست عند العلماء إنما عندك أنت، قال : كيف ؟ قال : انظر في نفسك، فإن كان الذي يأخذ منك الصدقة أحب إليك ممن يعطيك هدية، فاعلم أنك من أهل الآخرة، وإن كانت الهدية أحب إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا.
ذلك لأن الإنسان يحب من عمر له ما يحب، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه. فهذه مسألة لا دخل للشيطان فيها.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ].
فهذه الآية تجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها : فالعلم يراد به البدهيات، والهدى أي : الاستدلال، والكتاب المنير يراد به ما جاء وحيا من الله، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن.
ومعنى :﴿ مريد ( ٣ ) ﴾ [ الحج ] : من مرد أو مرد يمرد كنثر ينثر، والمرود : العتو وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرد، والمارد : هم المستعلي أعلى منك.
١ - قال أبو مالك فيما أخرجه ابن أبي حاتم: نزلت في النضر بن الحارث [الدر المنثور للسيوطي ٦/٨]. قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٣٧): "قال أي: النضر بن الحارث: إن الله غير قادر على إحياء من قد بلى وعاد ترابا"..
٢ - أي: تقوموا قياما خالصا لله عز وجل من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضا: هل بمحمد من جنون فينصح بعضكم بعضا، فينظر الرجل لنفسه في أمر محمد (صلى الله عليه وسلم) ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكر في ذلك. [قاله ابن كثير في تفسيره ٣/٥٤٣]..
٣ - هو: عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد عام ١٩ ه، ونشأ ومات فجأة بالكوفة عام ١٠٣ه عن ٨٤ عاما اتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه ورسوله إلى ملك الروم، كان ضئيلا نحيفا، وهو من رجال الحديث الثقات، وفقيها وشاعرا. [الأعلام للزركلي ٣/٢٥١]..
٤ - عن أم سلمة- رضي الله عنها- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٩١٦) كتاب الفتن، والبخاري في صحيحه (٤٤٧)..
٥ - عن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو ابن العاص فقال: قتل عمار. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تقتله الفئة الباغية، فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع حتى دخل على معاوية فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمار. فقال معاوية: قد قتل عمار، فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال له معاوية: دحضت في بولك أو نحن قتلناه إنما قتله علي وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا- أو قال: بين سيوفنا. أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٩٩)..
﴿ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ( ٤ ) ﴾ :
أي : كتب الله على هذا الشيطان المريد، وحكم عليه حكما ظاهرا، هكذا ( عيني عينك ) كما يقال ﴿ أنه من تولاه.. ( ٤ ) ﴾ [ الحج ] : أي : تابعه وسار خلفه ﴿ فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ( ٤ ) ﴾ [ الحج ] : يضله ويهديه ضدان، فكيف نجمع بينهما ؟.
المراد : يضله عن طريق الحق والخير، ويهديه أي : للشر، لأن معنى الهداية : الدلالة مطلقا، فإن دللت على خير فهي هداية، وإن دللت على شر فهي أيضا هداية.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم١ وما كانوا يعبدون ( ٢٢ ) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( ٢٣ ) ﴾ [ الصافات ] : أي : دلوهم وخذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى :﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( ١٦٨ ) إلا طريق جهنم.. ( ١٦٩ ) ﴾ [ النساء ] : والسعير : هي النار المتوهجة التي لا تخمد ولا تنطفئ.
١ - قال النعمان بن بشير: يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم. قال عمر: يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. [تفسير ابن كثير ٣/٤]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة١ ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل٢ العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ( ٥ ) ﴾ :
قوله :﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] :
الريب : الشك. فالمعنى : إن كنتم شاكين في مسألة البعث، فإليكم الدليل على صدقه ﴿ فإنا خلقناكم من تراب.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : الخلق الأول، وهو آدم عليه السلام، أما جمهرة الناس بعد آدم فخلقوا من ( نطفة ) حية من إنسان حي.
والمتتبع لآيات القرآن يجد الحق- سبحانه وتعالى- يقول مرة في خلق الإنسان :﴿ من تراب.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ]، ومرة ﴿ من ماء.. ( ٦ ) ﴾ [ الطارق ]، و﴿ من طين.. ( ٢ ) ﴾ [ الأنعام ]، و﴿ من حمأ٣ مسنون ( ٢٦ ) ﴾ [ الحجر ]، و﴿ من صلصال كالفخار ( ١٤ ) ﴾ [ الرحمن ] : وهذه التي دعت المستشرقين إلى الاعتراض على أسلوب القرآن، يقولون : من أي هذه الأشياء خلقتم ؟.
وهذا الاعتراض ناشئ من عدم فهم لغة القرآن، فالتراب والماء والطين والحمأ المسنون والصلصال، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد، فإذا وضعت الماء على التراب صار طينا، فإن تركت الطين حتى يتخمر، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا تستطيع أن تميز عنصرا فيه عن الآخر. وهذا عندما يعطن وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون، فإن جف فهو صلصال كالفخار، ومنه خلق الله الإنسان وصوره، ونفخ فيه من روحه، إذن هذه مراحل للشيء الواحد، ومرور الشيء من مراحل مختلفة لا يغيره.
ثم تكلم سبحانه عن الخلق الثاني بعد آدم عليه السلام، وهم ذريته، فقال :﴿ ثم من نطفة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العذب، كما جاء في قول الشاعر :
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها**** مثقلة الأرجاء زرق الجوانب
ولا تظهر زرقة الماء إلا إذا كان صافيا لا يشوبه شيء، وكذلك النطفة هي خلاصة الخلاصة، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق، وعملية الأيض أي : الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم : فالبول، والغائط، والعرق، والدموع، وصمغ الأذن، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء، وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلاصة يستخلص مني الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة، فهو- إذن- خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل، ويتكون الجنين، وكأن الخالق- عز وجل- قد صفاها هذه التصفية ونقاها كل هذا النقاء، لأنها ستكون أصلا لأكرم مخلوقاته، وهو الإنسان.
وهذه النطفة لا تنزل من الإنسان إلا في عملية الجماع، وهي ألذ متعة في وجود الإنسان الحي، لماذا ؟ لو تأملت متعة الإنسان ولذاته الأخرى مثل : لذة الذوق، أو الشم، أو الملمس، فهي لذات معروفة محددة بحاسة معينة من حواس الإنسان، أما هذه اللذة المصاحبة لنزول المني أثناء هذه العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله، ولا تستطيع أن تحدد فيها منطقة الإحساس، بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها.
لذلك أمرنا ربنا- عز وجل- أن نغتسل بعد هذه العملية، لأنها شغلت كل ذرة من ذرات تكوينك، وربما- عند العارفين بالله- لا تغفل عن الله تعالى إلا في هذه اللحظة، لذلك كان الأمر بالاغتسال بعدها، هذا قول العلماء.
أما أهل المعرفة عن الله وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون : إن الله خلق آدم من طين، وجعل نسله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء، ثم أتى منها كل الخلق بعده، فكأن في كل واحد منا ذرة من أبيه آدم، لأنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان نسل بعد آدم، فهذه الذرة موجودة فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك، وهي أصفى شيء فيك، لأنها الذرة التي شهدت الخلق الأول خلق أبيك آدم عليه السلام.
وقد قربنا هذه المسألة وقلنا : لو أنك أخذت سنتيمترا من مادة ملونة، ووضعته في قارورة ماء، ثم أخذت ترج القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه المادة، وهكذا لو ألقيت القارورة في برميل.. الخ.
إذن : فكل إنسان منا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلام، هذه الذرة شهدت خلق آدم، وشهدت العهد الأول الذي أخذه الله على عباده في قوله تعالى :
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ الأعراف ].
لذلك، يسمي الله تعالى إرسال الرسل بعثا فيقول :﴿ بعث الله رسولا ( ٤١ ) ﴾ [ الفرقان ] : بعثه : كأنه كان موجودا وله أصل في رسالة مباشرة من الله حين أخذ العهد على عباده، وهم في ظهر آدم عليه السلام، كما يخاطب الرسول بقوله :﴿ فذكر إنما أنت مذكر ( ٢١ ) ﴾ [ الغاشية ] : أي : مذكر بالعهد القديم الذي أخذناه على أنفسنا.
لذلك اقرأ الآية :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ الأعراف ] :
هذا في مرحلة الذر قبل أن يأتي الهوى في النفوس ﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( ١٧٢ ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
إذن : بعث الله الرسل لتذكر بالعهد الأول، حتى لا تحدث الغفلة، وحتى تقيم على الناس الحجة.
ثم يقول تعالى :﴿ ثم من علقة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : سميت النطفة علقة، لأنها تعلق بالرحم، يقول تعالى في آية أخرى :﴿ ألم يك نطفة من مني يمنى ( ٣٧ ) ثم كان علقة فخلق فسوى ( ٣٨ ) ﴾ [ القيامة ] : فالمني هو السائل الذي يحمل النطفة، وهي الخلاصة التي يتكون منها الجنين، والعلقة هنا هي البويضة المخصبة، فبعد أن كان للبويضة تعلق بالأم، وللحيوان المنوي ( النطفة ) تعلق بالأب، اجتمعا في تعلق جديد والتقيا ليتشبثا بجدار الرحم، وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلق بنفسها، يسمونها ( زيجوت ).
ومنها قولهم : فلان هذا مثل العلقة إذا كان ملازما لك.
بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة ﴿ ثم من مضغة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : والمضغة : هي قطعة لحم صغيرة قدر ما يمضغ من الطعام، وهو خليط من عدة أشياء، كما لو أكلت مثلا قطعة لحم مع ملعقة خضار مع ملعقة أرز، وبالمضغ يتحول هذا إلى خليط، ذلك لأن جسم الإنسان لا يتكون من عنصر واحد، بل من ستة عشر عنصرا.
هذه المضغة ﴿ مخلقة وغير مخلقة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : معنى مخلقة يعني : يظهر عليها هيكل الجسم، وتتشكل على صورته، فهذه للرأس، وهذه للذراع، وهذه للرجل وهكذا، يعني تخلقت على هيئة الإنسان.
أما غير المخلقة، فقد عرفنا مؤخرا أنها الخلايا التي تعوض الجسم وترقعه إذا أصابه عطب فهي بمثابة ( احتياطي ) لإعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها، كما يحدث مثلا في حالة الجرح فإن تركته لطبيعة الجسم يندمل شيئا فشيئا، دون أن يترك أثرا.
نرى هذا في أولاد الفلاحين، حين يجرح الواحد منهم، أو تظهر عنده بعض الدمامل، فيتركونها لمقاومة الجسم الطبيعية، وبعد فترة تتلاشى هذه الدمامل دون أن تترك أثرا على الإطلاق، لأنهم تركوا الجسم للصيدلية الربانية.
أما إذا تدخلنا في الجرح بمواد كيماوية أو خياطة أو خلافه فلا بد أن يترك أثرا، فترى مكانه لامعا، لأن هذه المواد أتلفت مسام الجسم، لذلك نجد مثل هذه الأماكن من الجسم قد تغيرت، ويميل الإنسان إلى حكها ( وهرشها )، لأن هذه المسام كانت تخرج بعض فضلات الجسم على هيئة عرق، فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة. هذا كله لأننا تدخلنا في الطبيعة التي خلقها الله.
إذن : فمعنى ﴿ وغير مخلقة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : هي الصيدلية التي تعوض وتعيد بناء ما تلف من جسم الإنسان.
ثم يقول سبحانه :﴿ لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : نوضح لكم كل ما يتعلق بهذه المسألة ﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : وهي المضغة التي قدر لها أن تكون جنينا يكتمل إلى أن يولد، لذلك قال :﴿ إلى أجل مسمى.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : أو نسقطه ميتا قبل ولادته.
فإن قلت : وما الحكمة من خلقه وتصويره، إن كان قد قدر له أن يموت جنينا ؟ نقول : لنعرف أن الموت أمر مطلق لا رابط له ولا سن، فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه، ففي أي وقت ينتهي الأجل.
وقوله تعالى :﴿ ثم نخرجكم طفلا.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ]، قال :﴿ نخرجكم.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : بصيغة الجمع ولم يقل : أطفالا إنما ﴿ طفلا.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : بصيغة المفرد، لماذا ؟ قالوا : في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، فطفل هنا بمعنى أطفال، وقد وردت أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم٤.. ( ٥٩ ) ﴾ [ النور ].
وكما تقول : هذا رجل عدل، ورجال عدل. وفي قصة سيدنا إبراهيم- عليه السلام- يتكلم عن الأصنام فيقول :﴿ فإنهم عدو لي.. ( ٧٧ ) ﴾ [ الشعراء ]، ولم يقل : أعداء. وحينما تكلم عن ضيفه قال :﴿ هؤلاء ضيفي.. ( ٦٨ ) ﴾ [ الحجر ]، ولم يقل : ضيوفي. إذن : المفرد هنا يؤدي معنى الجمع.
ثم يقول سبحانه :﴿ ثم لتبلغوا أشدكم.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : وهكذا، ينقلنا السياق من الطفولة إلى المرحلة النهائية من عمر الإنسان، وسبق أن تحدثنا عن مراحل عمر الإنسان، وأنه يمر بمرحلة الرشد : رشد البنية حين يصبح قادرا على إنجاب مثله، ورشد العقل حين يصبح قادرا على التصرف السليم، ويحسن الاختيار بين البدائل.
ثم تأتي مرحلة الأشد :﴿ حتى إذا بلغ أشده.. ( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ] : يعني : نضج نضجا من حوادث الحياة أيضا.
ثم يقول تعالى :﴿ ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : وأرذل العمر يعني رديئه، حين تظهر على الإنسان علامات الخور والضعف، ﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : لأنه ينسى، وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه، إنما موهوبة له من الله.
وإذا بلغ الرجل أرذل العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجيا، فيحتاج لمن يأخذ بيده ليقوم أو ليمشي، كما تأخذ بيد الطفل الصغير، فإذا تكلم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلام.. وهكذا في جميع شؤونه.
لذلك يقولون : الزواج المبكر أقرب طريق لإنجاب ( والد ) يعولك في طفولة شيخوختك، ولم يقل : ولدا، لأنه سيقوم معك فيما بعد بدور الوالد، يقولون : لحق والده يعني سنهما متقارب.
لكن، لماذا يرد بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض ؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى لا نقول : يا ليت أعمارنا تطول، لأن أعمار الجميع لو طالت إلى أرذل العمر لأصبح الأمر صعبا علينا، فمن رحمة الله بنا أن خلق الموت.
ثم يقول تعالى :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : كما كان خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم أخرجه طفلا، وبلغ أشده، ومنهم من مات، ومنهم من يرد إلى أرذل العمر، كذلك الحال في الأرض :﴿ وترى الأرض هامدة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] :
هامدة : ساكنة، ومنه قولنا للولد كثير الحركة : اهمد { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت.
١ - النطفة: الماء الصافي، وتطلق في القرآن على ماء الرجل أو المرأة الذي يخلق منه الولد.
العلقة: الدم الجامد الغليظ الذي يعلق بما يمسه. والمضغة: القطعة من اللحم تمضغ لتماسكها. ومخلقة: أي مضغة مشكلة ومصورة على هيئة طفل. وغير مخلقة: أي غير مشكلة، أي غير تامة التصوير [القاموس القويم للقرآن الكريم]..

٢ - هو: الهرم والخرف حتى لا يعقل. [تفسير القرطبي ٦/٤٥٤٤]..
٣ - الحمأ والحمأة: الطين الأسود. والمسنون: المصبوب في قالب إنساني أو مصور بصورة إنسان أو طين كالفخار صالح للتصوير والصقل. [القاموس القويم ١/٣٣١]..
٤ - حلم الصبي يحلم حلما: بلغ مبلغ الرجال. [القاموس القويم ١/١٦٩]..
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ( ٦ ) ﴾ :
أي : أن ما حدث في خلق الإنسان تكوينا، وما حدث في إنبات الزرع تكوينا ونماء، يرد هذا كله إلى أن الله تعالى ﴿ هو الحق.. ( ٦ ) ﴾ [ الحج ] : فلماذا أتى بالحق ولم يقل الخالق ؟ قالوا : لأن الخالق قد يخلق شيئا ثم يتخلى عنه، أما الله- سبحانه وتعالى- فهو الخالق الحق، ومعنى الحق أي : الثابت الذي لا يتغير، كذلك عطاؤه لا يتغير، فسوف يظل سبحانه خالقا يعطيك كل يوم، لأن عطاءه سبحانه دائم لا ينفذ.
وإذا نظرت إلى الوجود كله لوجدته دورة مكررة، فالله عز وجل قد خلق الأرض وقدر فيها أقواتها، فمثلا كمية الماء التي خلقها الله في الكون هي هي لم تزد ولم تنقص، لأن للماء دورة في الحياة، فالماء الذي تشربه طوال حياتك لا ينقص في كمية الماء الموجودة، لأنه سيخرج منك على صورة فضلات ليعود في دورة الماء في الكون من جديد.
وهكذا في الطعام الذي نأكله، وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها، كل ما في الوجود له دورة يدور فيها، وهذا معنى :﴿ وقدر فيها أقواتها.. ( ١٠ ) ﴾ [ فصلت ].
فمعنى :﴿ الحق.. ( ٦ ) ﴾ [ الحج ] : هنا الثابت الذي لا يتغير في الخلق وفي العطاء. فلا تظن أن عطاء الله لك شيء جديد، إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك.
ثم يقول تعالى :﴿ وأنه يحي الموتى.. ( ٦ ) ﴾ [ الحج ] : كما قلنا في الآية السابقة :﴿ وترى الأرض هامدة.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : ساكنة لا حياة فيها، والله وحده القادر على إحيائها، لذلك نجد علماء الفقه يسمون الأرض التي نصلحها للزراعة ( إحياء الموات )١ فالله تعالى هو القادر وحده على إحياء كل ميت، لذلك يقول بعدها :﴿ وأنه على كل شيء قدير ( ٦ ) ﴾ [ الحج ].
١ - إحياء الموات معناه: إعداد الأرض الميتة التي لم يسبق تعميرها وتهيئتها وجعلها صالحة الانتفاع بها في السكنى والزرع ونحو ذلك. ويشترط لاعتبار الأرض مواتا أن تكون بعيدة عن العمران، حتى لا تكون مرفقا من مرافقه، ولا يتوقع أن تكون من مرافقه، ويرجع إلى العرف في معرفة مدى البعد عن العمران. واتفق الفقهاء على أن الإحياء سبب للملكية لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من أحيا أرضا ميتة فهي له". واختلفوا في اشتراط إذن الحاكم في الإحياء فأكثر العلماء على عدم اشتراط إذن الحاكم. وذهب أبو حنيفة إلى اشتراط إذن الإمام وإقراره، وفرق مالك بين الأراضي المجاورة للعمران والأراضي البعيدة عنه. ويجوز للحاكم العادل أن يقطع بعض الأفراد من الأرض الميتة والمعادن والمياه ما دامت هناك مصلحة، فإذا لم تتحقق المصلحة بان لم يعمرها من أقطع له ولم يستثمرها فإنها تنزع منه "[فقه السنة- الشيخ سيد سابق ٣/٢٠١- ٢٠٤ بتصرف]..
وما دام الأمر كذلك وما دمتم تشاهدون آية إحياء الموات في الأرض الميتة فلا تنكروا البعث وإعادتكم بعد الموت. فيقول تعالى :
﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ( ٧ ) ﴾ :
وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( ١٦ ) أو آباؤنا الأولون ( ١٧ ) ﴾ [ الصافات ] :
فيرد عليهم الحق سبحانه : نعم، سنعيدكم بعد الموت، والذي خلقكم من لا شيء قادر على إعادتكم من باب أولى، لذلك يقول تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الروم ] : والحق سبحانه هنا يخاطبنا على قدر عقولنا، لأننا نفهم أن الخلق من موجود أهون من الخلق من عدم، أما بالنسبة للخالق- عز وجل- فليس هناك سهل وأسهل، ولا هين وأهون.
فقوله تعالى :﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها.. ( ٧ ) ﴾ [ الحج ] : كأن عملية إحياء الموتى ليست منتهى قدرة الله، إنما في قدرته تعالى كثير من الآيات والعجائب، ومعنى :﴿ لا ريب فيها.. ( ٧ ) [ الحج ] : أي : لا شك فيها. والساعة : أي زمن القيامة وموعدها، لكن القيامة ستكون للحساب وللفصل بين الناس، فلا بد من بعثهم من القبور، لذلك يقول بعدها :{ وأن الله يبعث من في القبور ( ٧ ) ﴾ [ الحج ].
فكل من تقدم ناشئ من أنه سبحانه هو الحق، ولأنه سبحانه الحق، فهو يحي الموتى، وهو على كل شيء قدير، والساعة آتية لا ريب فيها، وهو سبحانه يبعث من في القبور.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( ٨ ) ﴾ :
تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا : العلم إما علم بدهي أو علم استدلالي عقلي، أو علم بالوحي من الله سبحانه، أما هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير علم بدهي ﴿ ولا هدى.. ( ٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : علم استدلالي عقلي، ﴿ ولا كتاب منير.. ( ٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : وحي من الله، فهؤلاء أهل سفسطة وجدل عقيم لا فائدة منه، وعلى العاقل حين يصادف هذا النوع من الجدال أن لا يجاريه في سفسطته، لأنه لن يصل معه إلى مفيد، إنما عليه أن ينقله إلى مجال لا يحتمل السفسطة.
ولنا في هذه المسألة مثل وقدوة بسيدنا إبراهيم- عليه السلام- حينما جادل النمرود، اقرأ قول الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ].
لقد اتبع النمرود أسلوب السفسطة حين قال ﴿ أنا أحيي وأميت.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] : لأنه ما فعل حقيقة الموت، ولا حقيقة الحياة١، فأراد إبراهيم أن يلجئه إلى مجال لا سفسطة فيه، لينهي هذا الموقف ويسد على خصمه باب اللدد والتهريج، فقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] : وكانت النتيجة أن حار عدو الله جوابا ﴿ فبهت الذي كفر.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] : أي : دهش وتحير.
١ - وذلك أن النمرود قال: " إني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل" قاله قتادة ومحمد بن إسحاق والسدى وغير واحد. أورده ابن كثير في تفسيره (١/٣١٣). ثم قال ابن كثير: "والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ولا في معناه، لأنه مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه فاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت..
﴿ ثاني عطفه١ ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ( ٩ ) ﴾ :
﴿ ثاني.. ( ٩ ) ﴾ [ الحج ] : ثنى الشيء يعني : لواه، وعطفه : يعني : جنبه، والإنسان في تكوينه العام له رأس ورقبة وكتفان، وله جانبان وظهر، وهذه الأعضاء تؤدي دورا في حياته وحركته، وتدل على تصرفاته، فالذي يجادل في الله عن غير علم ولا هدى ولا كتاب منير يثني عنك جانبه، ويلوي رأسه، لأن الكلام لا يعجبه، ليس لأن كلامك باطل، إنما لا يعجبه لأنه أفلس وليست لديه الحجة التي يواجهك بها، فلا يملك إلا هذه الحركة.
لذلك يسمى هذا الجدل " مراء "، ومنه قوله تعالى :﴿ أفتمارونه على ما يرى ( ١٢ ) ﴾ [ النجم ] : يعني : أتجادلون رسول الله في أمر رآه ؟ والمراء : هو الجدل العنيف، مأخوذ من ( مري٢ الضرع ) يعني : حلب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة فيه، وأهل الريف يقولون عن هذه العملية ( قرقر البقرة ) يعني : أخذ كل لبنها ولم يبق في ضرعها شيء.
كذلك المجادل بالباطل، أو المجادل بلا علم ولا حجة تراه يكابر ليأخذ آخر ما عند خصمه، ولو كان عنده علم وحجة لأنهى الموقف دون لجج أو مكابرة.
والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والإعراض عن الحق، فيقول سبحانه :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ( ٥ ) ﴾ [ المنافقون ].
والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للإعراض عن الحق الذي يبدأ بلي الرأس، ثم الجانب، ثم يعطيك دبره وعرض أكتافه، هذه كلها ملاحظ للفرار من الجدل، حين لا يقوى على الإقناع.
ثم يقول سبحانه :﴿ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله.. ( ٩ ) ﴾ [ الحج ] : هذه علة ثني جانبه، لأنه يريد أن يضل من اهتدى، فلو وقف يستمع لخصمه وما يلقيه من حجج ودلائل لانهزم ولم يتمكن من إضلال الناس، لذلك يثني عطفه هربا من هذا الموقف الذي لا يقدر على مواجهته والتصدي له.
فما جزاء هذا الصنف ؟ يقول تعالى :﴿ له في الدنيا خزي.. ( ٩ ) ﴾ [ الحج ] : والخزي : الهوان والذلة، هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الآخرة، ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر ؟ ألم يمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به : " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان " ٣ ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلال في قريش ؟ وبعد انتهاء المعركة كان الأمر كما أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وصرع كل هؤلاء الصناديد في نفس الأماكن التي أشار إليها رسول الله.
ولما قتل في هذه المعركة أبو جهل علاه سيدنا عبد الله بن مسعود، سبحان الله، عبد الله بن مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش، عندها قال أبو جهل- وكان فيه رمق حياة : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم٤، يعني : ركبتني يا ابن الإيه فأي خزي بعد هذا ؟.
وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي الله عنه عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، ورأى موكب النبي يوم الفتح، وحوله رايات الأنصار في موكب رهيب مهيب، لم يملك نفسه ولم يستطع أن يخفي ما في صدره، فقال للعباس رضي الله عنه : لقد أصبح ملك ابن أخيك قويا، فقال له : إنها النبوة يا أبا سفيان٥ يعني : المسألة ليست ملكا، إنما هي النبوة المؤيدة من الله.
وسيدنا أبو بكر- رضي الله عنه- حينما استأذن عليه القوم في الدخول، فأذن للسابقين في الإسلام من العبيد والموالي، وترك بعض صناديد قريش على الباب، ( فورمت ) أنوفهم من هذا الأمر واغتاظوا، وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له : أتأذن لهؤلاء وتتركنا ؟ فقال له : إنه الإسلام الذي قدمهم عليكم. وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال لهم : ما لكم ورمت٦ أنوفكم ؟ وما بالكم إذا أذن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم.
فالغضب الحقيقي سيكون في الآخرة حين ينادى بهؤلاء إلى الجنة، وتتأخرون أنتم في هول الموقف.
واقرأ قوله تعالى :﴿ والسابقون السابقون ( ١٠ ) أولئك المقربون ( ١١ ) ﴾ [ الواقعة ].
ثم يقول تعالى :﴿ ونذيقهم يوم القيامة عذاب الحريق ( ٩ ) ﴾ [ الحج ] : فهذا الخزي الذي رأوه في الدنيا لن يفلتهم من خزي وعذاب الآخرة، ومعنى ﴿ عذاب الحريق ( ٩ ) ﴾ [ الحج ] : الحريق : هو الذي يحرق غيره من شدته، كالنار التي أوقدوها لإبراهيم- عليه السلام- وكانت تشوي الطير الذي يمر بها في السماء فيقع مشويا٧.
١ - العطف: الجانب. عطفا الإنسان: جانباه. ويقال: ثنى عطفه: أي: أعرض وابتعد بجانبه. وقوله: ﴿ثاني عطفه.. (٩)﴾ [الحج]. كناية عن الإعراض كبرا وغرورا. [القاموس القويم ٢/٢٥]..
٢ - المري: مسح ضرع الناقة لتدر. وناقة مري: غزيرة اللبن. [لسان العرب- مادة: مرى]..
٣ - أخرجه مسلم في صحيحه (١٧٧٩) من حديث أنس- رضي الله عنه- وأحمد في مسنده (٣/٢٥٨، ٢١٩) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " هذا مصرع فلان" ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
٤ - قال عبد الله بن مسعود: وجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: يا رسول الله. هذا رأس عدو الله أبي جهل" أورده ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٦٣٦)..
٥ - ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٤٠٤): "قال أبو سفيان: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن"..
٦ - ورم أنفه. أي: غضب. أي: امتلأ وانتفخ من ذلك غضبا، وخص الأنف بالذكر لأنه موضع الأنفة والكبر. وورم فلان بأنفه توريما: إذا شمخ بأنفه وتجبر. [لسان العرب- مادة: ورم]..
٧ - قال ابن إسحاق: جمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. [ذكره القرطبي في تفسيره (٦/٤٤٨١)]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ( ١٠ ) ﴾ :
﴿ ذلك.. ( ١٠ ) ﴾ [ الحج ] : يعني خزي الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة بما قدمت، وبما اقترفت يداك، لا ظلما منا ولا اعتداء، فأنت الذي ظلمت نفسك، كما قال سبحانه :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ [ النحل ].
وهل أخذناهم دون إنذار، ودون أن نجرم هذا الفعل ؟ لأنك لا تعاقب شخصا على ذنب إلا إذا كنت قد نبهته إليه، وعرفته بعقوبته، فإن عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمته، لذلك فأهل القانون يقولون : لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص.
وقد جاءكم النص الذي يبين لكم ويجرم هذا الفعل، وقد أبلغتكم الرسل، وسبق إليكم الإنذار، كما في قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾ [ الإسراء ].
﴿ ذلك بما قدمت يداك.. ( ١٠ ) ﴾ [ الحج ] : فهل الذنوب كلها تقديم اليد فقط ؟.
الذنوب : إما أقوال، وإما أفعال، وإما عمل من أعمال القلب، كالحقد مثلا أو النفاق.. إلخ لكن في الغالب ما تزاول الذنوب بالأيدي١.
ثم يقول تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ( ١٠ ) ﴾ [ الحج ] : ظلام : صيغة مبالغة من الظلم، تقول : ظالم. فإن أردت المبالغة تقول ظلام، كما تقول : فلان آكل وفلان أكول، فالفعل واحد، لكن ما ينشأ عنه مختلف، والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره، فمثلا قد تأكل في الوجبة الواحدة رغيفا واحدا، وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة، فأنت تأكل ثلاث وجبات، لكن تبالغ في الوجبة الواحدة، وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة رغيفا واحدا، لكن تأكل خمس وجبات بدلا من ثلاث. فهذه مبالغة بتكرار الحدث.
وصيغة المبالغة لها معنى في الإثبات ولها معنى في النفي : إذا قلت : فلان أكول وأثبت له المبالغة فقد أثبت له أصل الفعل من باب أولى فهو آكل، وإذا نفيت المبالغة فنفي المبالغة لا ينفي الأصل، تقول : فلان ليس أكولا، فهذا لا ينفي أنه آكل.
فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ( ١٠ ) ﴾ [ الحج ] : فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى ( ظالم ) حاشا لله، وهنا نقول : هناك آيات أخرى تنفي الفعل، كما في قوله تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ( ٤٩ ) ﴾ [ الكهف ]، وقوله تعالى :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ( ٧٦ ) ﴾ [ الزخرف ].
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد، فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار الحدث ﴿ بظلام للعبيد ( ١٠ ) ﴾ [ الحج ] : ظلم هذا، وظلم هذا، وظلم هذا، فالمظلوم عبيد، وليس عبدا واحدا.
والظلم في حقيقته أن يأخذ القوي حق الضعيف، ويكون الظلم على قدر قوة الظالم وقدرته، وعلى هذا إن جاء الظلم من الله تعالى وعلى قدر قوته وقدرته فلا شك أنه سيكون ظلما شديدا لا يتحمله أحد، فلا نقول- إذن- ظالم بل ظلام، وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة.
فالحق سبحانه ليس بظلام للعبيد، لأنه بين الحلال والحرام، وبين الجريمة ووضع لها العقوبة، وقد بلغت الرسل من بداية الأمر فلا حجة لأحد.
١ - قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٤٨): "عبر باليد عن الجملة، لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ( ١١ ) ﴾ :
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : العبادة : أن تطيع الله فيما أمر فتنفذه، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه، بعض الناس يعبد الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر، فإذا أصابه شر أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه ﴿ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ].
والحق سبحانه يريد من عبده أن يقبل على عبادته في ثبات إيمان، لا تزعزعه الأحداث، ولا تهز إيمانه فيتراجع، ربك يريدك عبدا له في الخير وفي الشر، في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، وما آمنت بالله إلا لأنك علمت أنه إله حكيم عادل قادر، ولا بد أن تأخذ ما يجري عليك من أحداث الحياة في ضوء هذه الصفات.
فإن أثقلتك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إن لم تكن لك فلأولادك من بعدك، فلعلهم إذا وجدوك في سعة وفي خير طمعوا وفسدوا وطغوا، ولعل حياة الضيق وقلة الرزق وتعبك لتوفر لهم متطلبات الحياة يكون دافعا لهم.
واقرأ قوله تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ( ٧ ) ﴾ [ العلق ]، وقوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ].
لا بد أن تعرف هذه الحقائق، وأن تؤمن بحكمة ربك في كل ما يجريه عليك، سواء أكان نعيما أو بؤسا، فإن أصابك مرض أقعدك في بيتك فقل : ماذا حدث خارج البيت، أبعدني الله عنه وعافاني منه ؟ فلعل الخير في ما تظنه شرا، كما قال تعالى :{ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. ( ٢١٦ ) [ البقرة ].
وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا، فوجدوا الإخوة في البيت الواحد، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد، وأم واحدة، حتى التعليم في المدارس على مستوى واحد، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيما ملتزما، وتجد الآخر على النقيض، فلما بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضا ويلازم بيته لمدة ست سنوات، فأخذ هذا الولد أكبر قسط من الرعاية والتربية، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق السوء.
وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته كان تاجرا، وكان كثير الأسفار، ومع ذلك كان يغدق على أسرته، فتربى الولد في سعة من العيش، بدون مراقبة الأب.
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين، أحدهما متفوق، والآخر فاشل، ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفا واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة، فمال إلى البيت والقراءة والاطلاع، وكان الآخر صحيحا وسيما، فمال إلى حياة الترف، وقضى معظم وقته خارج البيت. والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
إذن : فالابتلاءات لها مغانم، ومن ورائها حكم، لأنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك، وليست من سعيك ولا من عمل يدك، وما دامت كذلك فارض بها، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر.
ومعنى :﴿ يعبد الله على حرف.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : والحرف : هو طرف الشيء، كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين، وهذا عادة لا يكون معه تمكن واطمئنان، كذلك من يعبد الله على حرف يعني : لم يتمكن الإيمان من قلبه، وسرعان ما يخرجه الابتلاء من الإيمان، لأنه عبد الله عبادة غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يجريه على عبده.
والآية لم تترك شيئا من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر.
وتأمل قول الله تعالى :﴿ فإن أصابه خير.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ]، وكذلك :﴿ وإن أصابته فتنة.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : فأنت لا تقول : أصبت الخير، إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك، لذلك يقول تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( ٢ ) ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ( ٣ ) ﴾ [ الطلاق ].
ويقول أهل المعرفة : رزقك أعلم بمكانك منك بمكانه، يعني يعرف عنوانك أما أنت فلا تعرف عنوانه، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا ترزق منه بشيء، وقد ترى الزرع في الحقول زاهيا تأمل فيه المحصول الوفير، وتبني عليه الآمال، فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه، فلا ترزق منه حتى بما يسد الرمق.
ولنا عبرة ومثل في ابن أذينة٢ حين ضاقت به الحال في المدينة، فقالوا له : إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلافة، وفعلا سافر ابن أذينة إلى صديقه، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام، واستأذن فأذن له، واستقبله صاحبه، وسأله عن حاله فقال : في ضيق وفي شدة. وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له : يا عروة ألست القائل- وكان ابن أذينة شاعرا :
لقد علمت وما الإسراف من خلقي**** أن الذي هو رزقي سوف يأتيني ؟ ٣.
وهنا أحس عروة أن الخليفة كسر خاطره، وخيب أمله فيه، فقال له : جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، لقد ذكرت مني ناسيا، ونبهت مني غافلا، ثم انصرف.
فلما خرج ابن أذينة من مجلس الخليفة، وفكر الخليفة في الموقف وأنب نفسه على تصرفه مع صاحبه الذي قصد خيره، وكيف أنه رده بهذه الصورة، فأراد أن يصلح هذا الخطأ، فأرسل إليه رسولا يحمل الهدايا الكثيرة، إلا أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أذينة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر، إلى أن وصل إلى بيته، فطرق الباب، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه، وهذه عطاياه وهداياه.
وهنا أكمل ابن أذينة بيته الأول، فقال :
أسعى له فيعنيني تطلبه**** ولو قعدت أتاني لا يعنيني
كذلك نلحظ في هذه الآية :﴿ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] ولم يقابل الخير بالشر، إنما سماها ( فتنة ) أي : اختبار وابتلاء، لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شرا في حقه.
ومعنى :﴿ انقلب على وجهه.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : عكس الأمر، فبعد أن كان عابدا طائعا انقلب إلى الضد فصار عاصيا ﴿ خسر الدنيا والآخرة.. ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : وخسران الإنسان لعبادته خسران كبير لا يجبر ولا يعوضه شيء، لذلك يقول بعدها :﴿ ذلك هو الخسران المبين ( ١١ ) ﴾ [ الحج ] : فهل هناك خسران مبين، وخسران غير مبين ؟.
نعم : الخسران هو الخسارة التي تعوض، أما الخسارة التي لا عوض لها فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفك عنه، وهو خسران لا يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أن تعوضه أو تصبر عليه، إنما يمتد للآخرة حيث لا عوض لخسارتها ولا صبر على شدتها. فالخسران المبين أي : المحيط الذي يطوق صاحبه.
لذلك نقول لمن فقد عزيزا عليه، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلا : إن كان الفقيد حبيبا وغاليا فبيعوه غاليا وادخلوا به الجنة، ذلك حين تصبرون على فقده وتحتسبونه عند الله. وإن كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة، فإن لطمنا الخدود وشققنا الجيوب، واعترضنا على قدر الله فيه فقد خسرنا به الدنيا والآخرة.
وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال : " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن " ٤.
والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان، ومرحلة من مراحل اليقين في نفس المؤمن، وهي بداية وعتبة يتلوها مراحل أخرى ومراق، حسب قوة الإيمان.
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزهاد، وكيف كانوا يتبارون في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية، ويتنافسون فيها، لا عن مباهاة ومفاخرة، إنما عن نية خالصة في الرقي الإيماني.
يسأل أحد هؤلاء المتمكنين صاحبه : كيف حال الزهاد في بلادكم ؟ فقال : إن أصابنا خير شكرنا، وإن أصابنا شر صبرنا، فضحك الشيخ وقال : وما في ذلك ؟ إنه حال الكلاب في بلخ. أما عندنا : فإن أصابنا خير آثرنا، وإن أصابنا شر شكرنا.
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس، فكلا الرجلين زاهد سالك لطريق الله، يرى نفسه محسوبا على هذا الطريق، فيحاول أن يرتقي فيه إلى أعلى مراتبه، فإياك أن تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشكر على العطاء، فهذه البداية وبعدها منازل أعلى ومراق أسمى لمن طلب العلا، وشمر عن ساعد الجد في عبادة ربه.
انظر إلى أحد هؤلاء الزهاد يقول لصاحبه : ألا تشتاق إلى الله ؟ قال : لا، قال متعجبا : وكيف ذلك ؟ قال : إنما يشتاق لغائب، ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه ؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل.
١ - سبب النزول: روي فيها عدة روايات، منها:
- عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي (صلى الله عليه وسلم) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به.. (١١)﴾ [الحج]. أورده ابن كثير في تفسيره (٣/٢٠٩)، والواحدي في أسباب النزول (ص ١٧٥).
- عن أبي سعيد الخدري قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده وتشاءم بالإسلام، فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أقلني فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب، قال: ونزلت: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف.. (١١)﴾ [الحج]..

٢ - هو: عروة بن يحي (ولقبه أذينة) بن مالك بن الحارث الليثي: شاعر غزل مقدم، من أهل المدينة، وهو معدود من الفقهاء والمحدثين أيضا، ولكن الشعر أغلب عليه. توفي نحو ١٣٠ه [الأعلام للزركلي ٤/٢٢٧]..
٣ - ذكر هذا البيت والذي بعده خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام (٤/٢٢٧) من شعر عروة ابن أذينة. وانظر: الشعر والشعراء٢٢٥، فوات الوفيات ٢/٣٤..
٤ - أخرجه مسلم في صحيحه (٢٢٩٩) كتاب الزهد، وأحمد في مسنده (٥/٢٤)، والدارمي في سننه (٢/٣١٨) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف :
﴿ يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ( ١٢ ) ﴾ :
معنى :﴿ ما لا يضره.. ( ١٢ ) ﴾ [ الحج ] : هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره ؟ لا، الصنم لا يضر، إنما الذي يضره حقيقة من عانده وانصرف عن عبادته، تضره الربوبية التي يعاندها والمجازي الذي يجازيه بعمله، إذن : فما معنى :﴿ يضره.. ( ١٢ ) ﴾ [ الحج ] هنا ؟.
المعنى : لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده، ولا ينفعه إن عبده :﴿ ذلك هو الضلال البعيد ( ١٢ ) ﴾ [ الحج ] : نعم ضلال : لأن الإنسان يعبد ويطيع من يرجو نفعه في أي شيء، أو يخشى ضره في أي شيء.
وقد ذكرنا سابقا قول بعض العارفين :( واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه )، ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية، واهتم بها القائمون على التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضا بالفساد، ولوقف الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه، ونصائح أبيه وأمه، وكيف أنه سيترك توجيهات من يحبونه ويخافون عليه ويرجون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئا.
لا بد أن نطعم أبناءنا مبادئ الإسلام، ليعرف الولد منذ صغره من يحبه ومن يكرهه، ومن هو أولى بطاعته.
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع :﴿ ما لا يضره وما لا ينفعه.. ( ١٢ ) ﴾ [ الحج ] : لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه، والنفع يزيدك ويضيف إليك، أما الضر فينقصك، لذلك خير لك أن تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد، فإذا وقفت أمام أمرين : أحدهما يجلب خيرا، والآخر يدفع شرا، فلا شك أنك ستختار دفع الشر أولا، وتشتغل بدرء المفسدة قبل جلب المصلحة.
وضربنا لذلك مثلا : هب أن إنسانا سيرمي لك بتفاحة، وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت، فماذا تفعل ؟ تأخذ التفاحة، أو تتقي أذى الحجر ؟ هذا هو معنى " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ".
﴿ يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس االعشير ( ١٣ ) ﴾ :
الآية السابقة تثبت أنه يدعو ما لا يضره وما لا ينفعه، وهذه الآية تثبت أنه يدعو من ضره أقرب من نفعه.
صيغة أفعل التفضيل ( أقرب ) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة، إلا أن أحدهما زاد عن الآخر في هذه الصفة، فلو قلت : فلان أحسن من فلان. فهذا يعني أن كلاهما حسن، لكن زاد أحدهما عن الآخر في الحسن.
فقوله تعالى :﴿ يدعو لمن ضره أقرب من نفعه.. ( ١٣ ) ﴾ [ الحج ] : إذن : هناك نفع وهو قريب، لكن الضر أقرب منه، فهذه الآية في ظاهرها تناقض الآية السابقة، والحقيقة ليس هناك تناقض، ولا بد أن نفهم هذه المسألة في ضوء قوله تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( ٨٢ ) ﴾ [ النساء ].
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سدنة يتحكمون فيها وفي عابديها، فإذا أرادوا من الآلهة شيئا قالوا للسدنة : ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا، إذن : كان لهم نفوذ وسلطة زمنية، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعبادها، هذه الواسطة كانت تدر عليهم كثيرا من الخيرات وتعطيهم كثيرا من المنافع، فكانوا يأخذون كل ما يهدى للأوثان.
فالأوثان- إذن- سبب في نفع سدنتها، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا، ثم يتركونه بالموت، فمدة النفع قصيرة، وربما أتاه الموت قبل أن يستفيد بما أخذه، وإن جاء الموت فلا إيمان ولا عمل ولا توبة، وهذا معنى :﴿ ضره أقرب من نفعه.. ( ١٣ ) ﴾ [ الحج ].
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ لبئس المولى ولبئس العشير ( ١٣ ) ﴾ [ الحج ] : كلمة ( بئس ) تقال للذم وهي بمعنى : ساء وقبح، والمولى : الذي يليك ويقرب منك، ويراد به النافع لك، لأنك لا تقرب إلا النافع لك، إما لأنه يعينك وقت الشدة، ويساعدك وقت الضيق، وينصرك إذا احتجت لنصرته، وهذا هو الولي.
وإما أن تقربه منك، لأنه يسليك ويجالسك وتأنس به، لكنه ضعيف لا يقوى على نصرتك، وهذا هو العشير.
والأصنام التي يعبدونها بئست المولى، لأنها لا تنصرهم وقت الشدة، وبئست العشير، لأنها لا تسليهم، ولا يأنسون بها في غير الشدة.
ثم يقول الحق سبحانه :
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ( ١٤ ) } :
بعد أن تكلم الحق- سبحانه وتعالى- عن الكفار وأهل النار ومن يعبدون الله على حرف، كان لا بد أن يأتي بالمقابل، لأن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار، وفي أسباب دخول الجنة، وهذا أجدى في إيقاع الحجة.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ إن الأبرار لفي نعيم ( ١٣ ) وإن الفجار لفي جحيم ( ١٤ ) ﴾ [ الانفطار ]، وقوله تعالى :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.. ( ٨٢ ) ﴾ [ التوبة ].
فذكر النعمة وحدها دون أن تقابلها النقمة لا تؤتي الأثر المطلوب، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وسلب الضر بإيجاب النفع فإن كلاهما يظهر الآخر، لذلك يقول تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.. ( ١٨٥ ) ﴾ [ آل عمران ] : فإن آمنت لا تزحزح عن النار فقط- مع أن هذه في حد ذاتها نعمة- لكن تزحزح عن النار وتدخل الجنة.
والإيمان : عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس، لكن الإيمان له مطلوب : فأنت آمنت بالله، واطمأن قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود.. إلخ، فما مطلوب هذا الإيمان ؟
مطلوب الإيمان أن تستمع إلى أوامره، لأنه حكيم، وتثق في قدرته لأنه قادر، وتخاف من بطشه لأنه جبار، ولا تيأس من بسطه لأنه باسط، ولا تأمن قبضه لأنه قابض.
لقد آمنت بكل هذه القضايا، فحين يأمرك بأمر فعليك أن تستحضر حيثيات هذا الأمر، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم ينهك من فراغ، إنما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في كل أعمالك وفي كل ما تأتي أو تدع هذه الصفات.
لذلك، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح :{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات.. ( ١٤ )[ الحج ].
وفي سورة العصر :﴿ والعصر ( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ( ٣ ) ﴾ [ العصر ] ليس ذلك فقط إنما أيضا :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( ٣ ) ﴾ [ العصر ].
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من ثماره، لأن المؤمن سيتعرض في رحلة الحياة لفتن كثيرة قد تزلزله، وسيواجه سخرية واستهزاء، وربما تعرض لألوان العذاب.
فعليه-إذن- أن يتمسك بالحق ويتواصى به مع أخيه، وعليه أن يصبر، وأن يتواصى بالصبر مع إخوانه، ذلك لأن الإنسان قد تعرض له فترات ضعف وخور، فعلى القوي في وقت الفتنة أن ينصح الضعيف.
وربما تبدل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى، فمن أوصيته اليوم بالصبر ربما يوصيك غدا، وهكذا يثمر في المجتمع الإيماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
إذن : تواصوا، لأنكم ستتعرضون لهزات ليست هزات شاملة جامعة، إنما هزات يتعرض لها البعض دون الآخر، فإن ضعفت وجدت من إخوانك من يواسيك : اصبر، تجلد، احتسب. وإياك أن تزحزحك الفتنة عن الحق، أو تخرج عن الصبر، وهذه عناصر النجاة التي ينبغي للمؤمنين التمسك بها : إيمان، وعمل صالح، وتواص بالحق، وتواص بالصبر.
وقوله سبحانه :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار.. ( ١٤ ) ﴾ [ الحج ] : الجنات : هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتع : الزرع، والخضرة، والنضارة، والزهور، والرائحة الطيبة، وهذه كلها بنت الماء، لذلك قال :﴿ تجري من تحتها الأنهار.. ( ١٤ ) ﴾ [ الحج ] : ومعنى :﴿ من تحتها.. ( ١٤ ) ﴾ [ الحج ] : أن الماء ذاتي فيها، لا يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع عنها، كما جاء في آية أخرى :﴿ تجري تحتها الأنهار.. ( ١٠٠ ) ﴾ [ التوبة ].
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الله يفعل ما يريد١ ( ١٤ ) ﴾ [ الحج ] : لأنه سبحانه لا يعجزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] : ولو تأملت هذه الآية لوجدت الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجودا في الحقيقة، بدليل أن الله تعالى يخاطبه ﴿ يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] : فهو- إذن- كائن فعلا، وموجود حقيقة، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.
١ - أي: يثيب من يشاء ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله. [قاله القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٥٢)]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع١ فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( ١٥ ) ﴾ :
( يظن ) تفيد علما غير يقيني وغير متأكد، وسبق أن تكلمنا في نسبة القضايا، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه، تقول : زيد مجتهد، فأنت تعتقد في نسبة الاجتهاد لزيد، فإن كان اعتقادك صحيحا فتستطيع أن تقدم الدليل على صحته فتقول : بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق.
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يقدم عليها دليلا كأن سمع الناس يقولون : زيد مجتهد. فقال مثلهم، لكن لا دليل عنده على صدق هذه المقولة، كالطفل الذي نلقنه ﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾ [ الإخلاص ] : هذه القضية واقعية يعتقدها الولد، لكن لا يستطيع أن يقدم الدليل عليها إلا عندما يكبر ويستوي تفكيره.
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها ؟ أخذها من المأمون عليه : من أبيه أو من أستاذه ثم قلده. إذن : إن كانت القضية واقعة، لكن لا تستطيع أن تقيم الدليل عليها فهي تقليد، فإن اعتقدت قضية واقعة، وأقمت الدليل عليها، فهذا أسمى مراتب العلم، فإن اعتقدت قضية غير واقعية، فهذا جهل.
فالجاهل : من يعتقد شيئا غير واقع، وهذا الذي يتعب الدنيا كلها، ويشقي من حوله، لأن الجاهل الأمي الذي لا يعلم شيئا، وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء، تستطيع أن تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك، لأنه خالي الذهن ولا يعارضك.
أما الجاهل صاحب الفكرة الخاطئة فيحتاج منك أولا أن تقنعه بخطأ فكرته حتى يتنازل عنها، ثم تلقي إليه بالفكرة الصواب.
فإن تشككت في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب، فهذا هو الشك، فلا تستطيع أن تجزم باجتهاد زيد، ولا بعدم اجتهاده، فإن غلب الاجتهاد فهو ظن، فإن غلب عدم الاجتهاد فهو وهم.
إذن : نسبة القضايا إما علم تعتقده : وهو واقع وتستطيع أن تقيم الدليل عليه، أو تقليد : وهو ما تعتقده وهو واقع، لكن لا تقدر على إقامة الدليل عليه، أو جهل : حين تعتقد شيئا غير واقع، أو شك : حين لا تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والإثبات، أو ظن : حين ترجح الإثبات، أو وهم : حين ترجح النفي.
فالظن في قوله تعالى :﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله.. ( ١٥ ) ﴾[ الحج ] : أي : يمر بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر محمدا، أو يتوهم ذلك- ولا يتوهم ذلك إلا الكفار- لأنهم يأملون ذلك في معركة الإيمان والكفر- من ظن هذا الظن فعليه أن ينتهي عنه ؛ لأنه أمر بعيد، لن يحدث ولن يكون.
وقد ظن الكفار هذا الظن حين رأوا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه، فاغتاظوا لذلك، ولم يجدوا شيئا يريح خاطرهم إلا هذا الظن.
لذلك، يرد الله غيظهم عليهم، فيقول لهم : ستظلون بغيظكم ؛ لأن النصر للإيمان ولجنوده مستمر، فليس أمامك إلا أن تجعل حبلا في السماء وتربط عنقك به، تشنق نفسك حتى تقع، فإن كان هذا الكيد لنفسك ينجيك من الغيظ فافعل :﴿ فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] :
لكن ما الغيظ ؟ الغيظ : نوع من الغضب مصحوب ومشوب بحزن وأسى وحسرة حينما ترى واقعا يحدث أمام عينيك ولا يرضيك، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئا تمنع به ما لا يرضيك.
وهذه المادة ( غيظ ) موجود في مواضع أخرى٢ من كتاب الله، وقد استعملت حتى للجمادات التي لا تحس، اقرأ قول الله تعالى عن النار :﴿ تكاد تميز من الغيظ.. ( ٨ ) ﴾ [ الملك ]، وقال :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ( ١٢ ) ﴾ [ الفرقان ] : فكأن النار ومغتاظة من هؤلاء، تتأهب لهم وتنتظرهم.
والغيظ يقع للمؤمن وللكافر، فحين نرى عناد الكفار وسخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ، لكن يذهب الله غيظ قلوبنا، كما قال سبحانه :﴿ ويذهب غيظ قلوبهم.. ( ١٥ ) ﴾ [ التوبة ].
أما غيظ الكفار من نصر الإيمان فسوف يبقى في قلوبهم، فربنا- سبحانه وتعالى- يقول لهم : ثقوا تماما أن الله لم يرسل رسولا إلا وهو ضامن أن ينصره، فإن خطر ببالكم خلاف ذلك فلن يريحكم ويشفي غيظكم إلا أن تشنقوا أنفسكم ؛ لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال :﴿ قل موتوا بغيظكم.. ( ١١٩ ) ﴾ [ آل عمران ].
ومعنى :﴿ فليمدد بسبب إلى السماء.. ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ]، ﴿ فليمدد.. ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] : من مد الشيء يعني : أطاله بعد أن كان مجتمعا، ومنه قوله تعالى :﴿ والأرض مددناها.. ( ١٩ ) ﴾ [ الحجر ] فكلما تسير تجد أرضا ممتدة ليس لها نهاية، وليس لها حافة.
والسبب : الحبل، يخرجون به الماء من البئر، لكن هل يستطيع أحد أن يربط حبلا في السماء ؟ إذن : علق المسألة على محال، وكأنه يقول لهم : حتى إذا أردتم شنق أنفسكم فلن تستطيعوا، وسوف تظلون هكذا بغيظكم.
أو : يكون المعنى :﴿ إلى السماء.. ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : سماء البيت وسقفه، كمن يشنق نفسه في سقف البيت.
ويمكن أن نفهم ( السبب ) على أنه أي شيء يوصلك إلى السماء، وأي وسيلة للصعود، فيكون المعنى : خذوا أي طريقة توصلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر ؛ لأن نصر محمد يأتي من السماء فامنعوه، وهذه أيضا لا يقدرون عليها، وسيظل غيظهم في قلوبهم.
وتلحظ أننا نتكلم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم )، مع أن الآية لم تذكر شيئا عنه، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى :﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله.. ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] : والحديث موجه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركب الإيمان، فقوله :﴿ ينصره.. ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] ينصر من ؟ لا بد أنه محمد، لماذا ؟
قالوا : لأن الأسماء حينما تطلق تدل على معان، فعندما تقول " سماء " نفهم المراد، وعندما تقول " قلب " نفهم، " نور " نعرف المراد. والأسماء إما اسم ظاهر مثل : محمد وعلي وعمر وأرض وسماء، وإما ضمائر تدل على هذه الأسماء الظاهرة مثل : أنا، أنت، هو، هم. والضمير مبهم لا يعينه إلا التكلم، فأنت تقول : أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن، فالذي يعين الضمير المتكلم به حال الخطاب، فعمدة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب. فإن لم يكن متكلما ولا مخاطبا فهو غائب، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب ؟
حين تقول : هو، هي، هم. من المراد بهذه الضمائر ؟ كيف تعينها ؟ إن عينت المتكلم بكلامه، والمخاطب بمخاطبته، كيف تعين الغائب ؟ قالوا : لا بد أن يسبقه شيء يدل عليه، كأن تقول : جاءني رجل فأكرمته، أكرمت من ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثت عنه، جاءتني امرأة فأكرمتها، جاء قوم فلان فأكرمتهم. إذن : فمرجع الضمير هو الذي يدل عليه.
لكن لم يسبق ذكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الضمير ليعينه ويدل عليه، نعم لم يسبق ذكر لرسول الله، لكن تأمل المعنى : الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون، فالمقام متعين أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم٣.
ومثال ذلك قوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه.. ( ١ ) ﴾ [ القدر ] : فالضمير هنا متعين، ولا ينصرف إلا إلى القرآن، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه.
اقرأ :﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾ [ الإخلاص ] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر، فالمرجع متأخر، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله، فإذا قيل : هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا إلى الله عز وجل.
كذلك في قوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة.. ( ٦١ ) ﴾ [ النحل ] : على ظهر أي شيء ؟ الذهن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض.
وقوله تعالى :﴿ فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] الاستفهام هنا ممن يعلم، فهو استفهام للتقرير، ليقروا هم بأنفسهم أن غيظهم سيظل كما هو، لا يشفيه شيء، وأنهم سيموتون بغيظهم، كما قال تعالى :﴿ قل موتوا بغيظكم.. ( ١١٩ ) ﴾ [ آل عمران ].
١ - ورد في هذه الآية تأويلان لها:
١- من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب أي بحبل إلى السماء- أي: سماء بيته- ثم ليقطع. أي: ثم ليختنق به. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة وغيرهم.
٢- من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإن أصله في السماء (ثم ليقطع) أي: عن النبي الوحي الذي يأتيه من الله إن قدر. قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢١٠): "قول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم". وانظر الدر المنثور للسيوطي (٦/١٥، ١٦) وقد قال الشيخ الشعراوي- رحمة الله عليه- بكلا القولين، فكلاهما صحيح محتمل والله أعلم..

٢ - وردت هذه المادة في القرآن الكريم:
- يغيظ. الفعل المضارع. ورد ٣ مرات (التوبة : ١٢) (الحج ١٥) (الفتح٢٩).
- الغيظ. الاسم معرف بال ورد ٤ مرات (آل عمران ١١٩-١٣٤) (التوبة١٥). (الملك٨)
- بغيظكم. الاسم قبله حرف جر الباء ومضاف إلى ضمير المخاطب للجمع. ورد مرة واحدة: (الأحزاب٢٥)
- لغائظون إسم الفاعل الجمع مؤكد باللام ورد مرة واحدة :(الشعراء ٥٥).
- تغيظا: مصدر الفعل تغيظ ورد مرة واحدة (الفرقان١٢).

٣ - قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٥٣) "الكناية في ﴿ينصره الله.. ١٥﴾ (الحج). ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه. لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم.".
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ( ١٦ ) ﴾ :
قوله :﴿ { أنزلناه.. ( ١٦ ) ﴾ [ الحج ] أي : القرآن، لأن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه متعين، وما دام مرجعه متعينا فلا يحتاج لذكر سابق. والإنزال يحمل معنى العلو، فإن رأيت في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشق عليك أو يحول بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أعلى منك، من الله، وليس من مساو لك، يمكن أن تستدرك عليه أو تناقشه : لماذا هذا الأمر ؟ ولماذا هذا النهي ؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلا بد أن تسمع وتطيع ولا تناقش.
ولنا أسوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له : إن صاحبك يقول : إنه أسري به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، فما كان من الصديق إلا أن قال : إن كان قال فقد صدق١، هكذا دون مناقشة، فالأمر من أعلى، من الله.
وقلنا : إنك لو عدت مريضا فوجدت بجواره كثيرا من الأدوية فسألته : لماذا كل هذا الدواء ؟ قال : لقد وصفه الطبيب، فأخذت تعترض على هذا الدواء، وتذكر من تفاعلاته وأضراره وعناصره، وأقحمت نفسك في مسألة لا دخل لك بها.
هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء، لكن لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى، وصدق القائل :
سبحان من يرث الطبيب وطبه ويري المريض مصارع الآسينا
إذن : حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أن نعلم الآمر به.
ومعنى :﴿ آيات.. ( ١٦ ) ﴾ [ الحج ] : أي : عجائب ﴿ بينات.. ( ١٦ ) ﴾ [ الحج ] : واضحات. وسبق أن ذكرنا أن كلمة الآيات تطلق على معان ثلاثة : الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صدق بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكون منها القرآن، وتسمى " حاملة الأحكام ".
فالمعنى هنا ﴿ وكذلك أنزلناه آيات بينات.. ( ١٦ ) ﴾ [ الحج ] : تحمل كلمة الآيات كل هذه المعاني، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأن الله يهدي من يريد ( ١٦ ) ﴾ [ الحج ] : وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلا :﴿ يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. ( ٩٣ ) ﴾ [ النحل ] : وأمثالها تمسك بها من ليس لهم حظ من الهداية، يقولون : لم يرد الله لنا الهداية، فماذا نفعل ؟ وما ذنبنا ؟.
وهذه وقفة عقلية خاطئة، لأن الوقفة العقلية تقتضي أن تذكر الشيء ومقابله، أما هؤلاء فقد نبهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي- إذن- وقفة تبريرية، فالضال الذي يقول : لقد كتب الله علي الضلال، فما ذنبي ؟ لماذا لم يقل : الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه ؟
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر ؟.
والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد أنه سبحانه قد بين من شاء أن يضله، وبين من شاء أن يهديه، اقرأ قوله تعالى :﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( ٦٧ ) ﴾ [ المائدة ] إذن : كفره سابق لعدم هدايته وقوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ( ٦ ) ﴾ [ المنافقون ]. وقوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ٥٠ ) ﴾ [ القصص ] : إنما يهدي من آمن به، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، لأنهم أحبوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيمانا :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى.. ( ١٧ ) ﴾ [ محمد ] :
والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير، وسبق أن ضربنا لها مثلا، ولله تعالى المثل الأعلى : هب أنك تسلك طريقا لا تعرفه، فتوقفت عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدلك عليها، ووصف لك الطريق الموصل إليها. لكن، هل دلالته لك تلزمك أن تسلك الطريق الذي وصف لك ؟
بالطبع أنت حر تسير فيه أو في غيره. فإذا ما حفظت لرجل المرور جميله وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنه يعينك بنفسه على عقبات الطريق، وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها. هذا معنى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( ١٧ ) ﴾ [ محمد ].
أما لو تعاليت على هذا الرجل، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق، فإنه يدعك وشأنك، ويضن عليك بمجرد النصيحة.
وهكذا.. الحق- سبحانه وتعالى- دل المؤمن ودل الكافر على الخير، المؤمن رضي بالله وقبل أمره ونهيه، وحمد الله على هذه النعمة، فزاده إيمانا وأعانه على مشقة العبادة، وجعل له نورا يسير على هديه، أما الكافر فقد تركه يتخبط في ظلمات كفره، ويتردد في متاهات العمى والضلال.
١ - ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٩٨) وأخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٦٢) وصححه وأقره الذهبي من حديث عائشة رضي الله عنها..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين١ والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( ١٧ ) ﴾ :
هذه فئات ست أخبر الله عنها بقوله :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة.. ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ] : ومعنى الفصل بينهم أن بينهم خلافا ومعركة، ولو تتبعت الآيات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك آيتين في البقرة وفي المائدة.
يقول تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٢ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي المائدة يقدم الصابئين على النصارى، وفي هذا الموضع تأتي بالرفع بالواو، يقول تعالى :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٩ ) ﴾ [ المائدة ].
﴿ الذين آمنوا.. ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ] : أي : بمحمد( صلى الله عليه وسلم )، ﴿ والذين هادوا.. ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ] : أي : اليهود، ثم النصارى وهما قبل الإسلام، أما الصابئون : فهؤلاء جماعة كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ثم عبدوا الكواكب فسموا الصابئة لخروجهم عن الدين الحق. أما المجوس : فهم عبدة النار، والذين أشركوا : هم المشركون عبدة الأصنام والأوثان.
أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين، قالوا : لأن النصارى فرقة كبيرة معروفة ولهم نبي، أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأتوا بعقيدة غير عقيدته، فهم قلة، لكن سبقوا النصارى في الترتيب الزمني، لذلك حين يراعي السبق الزمني يقول :﴿ الصابئين والنصارى.. ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ]، وحين يراعي الكثرة والشهرة، يقول :﴿ النصارى والصابئين.. ( ٦٢ ) ﴾ [ البقرة ] : فكل من التقديم أو التأخير مراد لمعنى معين.
أما قوله :﴿ والصابئون.. ( ٦٩ ) ﴾ [ المائدة ] بالرفع على خلاف القاعدة في العطف، حيث عطفت على منصوب، والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه، فلماذا وسط مرفوعا بين منصوبات ؟
قالوا : لا يتم الرفع بين المنصوبات إلا بعد تمام الجملة، فكأنه قال : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، والصابئون كذلك، فعطف هنا جملة تامة، فهي مؤخرة في المعنى، مقدمة في اللفظ، وهكذا تشمل الآية التقديم والتأخير السابق.
لكن، كيف ينشأ الخلاف بين الأديان ؟.
ينشأ الخلاف من أن قوما يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلغ عن هذا الإله، لكنهم يختلفون على أشياء فيما بينهم، كما نرى الخلاف مثلا بين المعتزلة وأهل السنة، أو الجبرية والقدرية، فجماعة تثبت الصفات، وآخرون ينكرونها، جماعة يقولون : الإنسان مجبر في تصرفاته، وآخرون يقولون : بل هو مختار.
وقد ينشأ الخلاف بين الأديان للاختلاف في النبوات، فأهل الديانات يؤمنون بالإله الفاعل المختار، لكن يختلفون في الأنبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعا حق. وقد ينشأ الخلاف من الادعاء، كالذين يدعون النبوة كهؤلاء الذين يعبدون النار، أو يعبدون بوذا مثلا.
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الآية، فما حكم هؤلاء جميعا بعد بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
نقول : أما المشركون الذين عبدوا الأصنام، وكذلك الذين عبدوا النبوة المدعاة، فهؤلاء كفار ضائعون. أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار، ويؤمنون بنبوة صادقة، فشأنهم بعد ظهور الإسلام، أن الله تعالى أقام لنا تصفية آخر الأمر لهذه الديانات، فمن كان يهوديا قبل الإسلام، ومن كان نصرانيا قبل الإسلام، فإن الله أجرى لهم تصفية عقدية في الإسلام، فإن كانوا مؤمنين الإيمان الأول بالله تعالى فعليهم أن يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين.
لذلك قال بعدها :﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٢ ) ﴾ [ البقرة ].
فبعد ظهور الإسلام بدأت لهؤلاء جميعا- اليهود والنصارى والمجوس والمشركين- حياة جديدة، وفتحت لهم صفحة جديدة هم فيها أولاد اليوم، حيث لزمهم جميعا الإيمان بالله تعالى والإيمان بنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وكأن الإسلام تصفية ( وأوكازيون إيماني ) يجب ما قبله، وعفا الله عما سلف.
والحق- سبحانه- حينما تكلم عن الأجيال السابقة لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال :﴿ وإذ أخد الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( ٨١ ) ﴾ [ آل عمران ].
لذلك نبه كل من موسى وعيسى- عليهما السلام- بوجود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبشروا به، بدليل قول الله تعالى :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.. ( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ] : والمراد اليهود والنصارى.
وقد جاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة للعالمين، وجامعا للأديان كلها في الإسلام الذي زاد عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر، إلى أن تقوم الساعة.
جاء الإسلام تصفية لهؤلاء، استأنفوها بإيمان، واستأنفوها بعمل صالح، فكان لهم أجرهم كاملا عند ربهم لا يطعن فيهم دينهم السابق، ولا عقائدهم الفاسدة الكافرة.
أما إن حدث خلاف حول النبوات كما تذكر الآية التي نحن بصددها :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ] : والفصل أن نعرف من المحق ومن المبطل، وهكذا جمعت الآيات بين حالة الاتفاق وحالة الاختلاف وبينت جزاء كل منهما.
فالفصل إما فصل أماكن، وإما فصل جزاءات، قالوا : بالطبع فالحكم بينهم : هذا محق وهذا مبطل سيؤدي إلى اختلاف الأماكن واختلاف الجزاءات.
وقوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء شهيد ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ] : لأن الله تعالى هو الحكم الذي يفصل بين عباده، والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود، والشهود لا بد أن يكونوا عدولا، ولا يتحقق العدل في الشهادة إلا بدين يمنع الإنسان أن يميل عن الحق، فإن كان الحكم هو الله فلا حاجة لبينة، ولا حاجة لشهود، لأنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ومن العجيب أن الحكم والفصل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات : التشريعية والقضائية والتنفيذية، فحكمه سبحانه لا يؤجل ولا يتحايل عليه، ولا تضيع فيه الحقوق كما تضيع في سراديب وأدراج المحاكم.
أما حكم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ، فربما صدر الحكم وتعطل تنفيذه، أما حكم الله فنافذ لا يؤجله شيء.
إذن : المسألة لن تمر هكذا، بل هي محسوبة لك أو عليك.
١ - صبأ يصبأ: خرج من دين إلى دين. والصابئون يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقيل: هم عباد الملائكة. وقيل عباد الكواكب والنجوم وقيل: عباد النار. (القاموس القويم١/٣٦٥)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ( ١٨ ) ﴾ :
قوله تعالى :﴿ ألم تر.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : ألم تعلم، لأن السجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا، ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه.
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة : أدناها الجماد، ثم يليه النبات، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة، ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الإحساس، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل.
وكل جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه، حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل ما في كون الله مسخر لخدمة الإنسان، وفي الخبر : " يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له " ١.
فكان على الإنسان أن يفكر في هذه الميزة التي منحه ربه إياها، ويعلم أن كل شيء في الوجود مهما صغر فله مهمة يؤديها، ودور يقوم به. فأولى بك أيها الإنسان وأنت سيد هذا الكون أن يكون لك مهمة، وأن يكون لك دور في الحياة فلست بأقل من هذه المخلوقات التي سخرها الله لك، وإلا صرت أقل منها وأدنى.
إن كانت مهمة جميع المخلوقات أن تخدمك لأنك أعلى منها، فانظر إلى مهمتك لمن هو أعلى منك، فإذا جاءك رسول من أعلى منك لينبهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره، لأنه نبهك إلى ما ينبغي لك أن تشتغل به، وإلى من يجب عليك الاتصال به دائما، لذلك فالرسول لا يصح أن تنصرف عنه أبدا، لأنه يوضح لك مسائل كثيرة هي محل للبحث العقلي.
وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الأجناس التي تخدمه : ألك قدرة عليها ؟ لقد خدمتك منذ صغرك قبل أن توجه إليها أمرا، وقبل أن توجد عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الأشياء، كان عليك أن تتنبه إلى القوة الأعلى منك ومن هذه المخلوقات، القوة التي سخرت الكون كله لخدمتك، وهذا بحث طبيعي لا بد أن يكون.
هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأب عليك، ولم تتخلف يوما عن خدمتك، انظر إلى الشمس والقمر وغيرهما : أقالت الشمس يوما : إن هؤلاء القوم لا يستحقون المعروف، فلن أطلع عليهم اليوم ؟
الأرض : هل ضنت في يوم على زارعها ؟ الريح : هل توقفت عن الهبوب. وكلها مخلوقات أقوى منك، ولا قدرة لك عليها، ولا تستطيع تسخيرها، إنما هي في قبضة الله- عز وجل- ومسخرة لك بأمره سبحانه، ولأنها مسخرة فلا تتخلف أبدا عن أداء مهمتها.
أما الإنسان فيأتي منه الفساد، ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه الله من منطقة الاختيار.
البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة، لا سجودا على حقيقته، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى :﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه.. ( ٤١ ) ﴾ [ النور ].
فلكل مخلوق مهما صغر صلاة وتسبيح وسجود، يتناسب وطبيعته، إنك لو تأملت سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدت اختلافا بين الناس باختلاف الأحوال، وهم نوع واحد، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش، أو جالس على مقعد، وربما يشير بعينه، أو أصبعه للدلالة على السجود، فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره.
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حسب حاله وقدرته وطاقته، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به، والذي يتناسب مع طبيعته ؟
وإذا كان هذا حال السجود في الإنسان، فهل ننتظر مثلا أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر ؟ ما دام الحق- سبحانه وتعالى- قال إنها تسجد، فلا بد أن نؤمن بسجودها، لكن على هيئة لا يعلمها إلا خالقها عز وجل.
بالله، لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش، أتعرف وهو أمامك أنه يسجد ؟ إذن : كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات ؟
ومن معاني السجود : الخضوع والطاعة، فمن يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجودا على الحقيقة، فليعتبر السجود هنا للخضوع والانقياد والطاعة، كما تقول على إنسان متكبر : جاء ساجدا يعني : خاضعا ذليلا، ومنه قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( ١١ ) ﴾ [ فصلت ].
إذن : لك أن تفهم السجود على أي هذه المعاني تحب، فلن تخرج عن مراده سبحانه، ومن رحمة الله أن جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته، لا تنحل عنها أبدا ولا تتخلف، كما قال سبحانه :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ونحن نتناقل الآن، ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين فهموا عن الله وتذوقوا لذة قربه، وكانوا يتحاورون ويتنافسون لا للمباهاة والافتخار، إنما للترقي في القرب من الله.
جلس اثنان من هؤلاء العارفين وفي فم أحدهم نخمة يريد أن يبصقها، وبدت عليه الحيرة، وهو ينظر هنا وهناك فقال له صاحبه : ألقها واسترح، فقال : كيف وكلما أردت أن أبصقها سمعت الأرض تسبح فاستحيت أن ألقيها على مسبح، فقال الآخر- ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه- وقد افتعل البصق وقال : مسبح في مسبح.
إذن : فأهل الكشف والعارفون بالله يدركون هذا التسبيح، ويعترفون به، وعلى قدر ما لديك من معرفة بالله، وما لديك من فهم وإدراك يكون تلقيك وتقبلك لمثل هذه الأمور الإيمانية.
والحق- سبحانه وتعالى- حين قال :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : معلوم أن من في السماوات هم الملائكة ولسنا منهم، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلوله، فلماذا قال بعدها :﴿ وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] ؟.
كلمة :﴿ وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : تبين أن لنا قهرية وتسخيرا وسجودا كباقي أجناس الكون، ولنا أيضا منطقة اختيار. فالكافر الذي يتعود التمرد على خالقه : يأمره بالإيمان فيكفر، ويأمره بالطاعة فيعصي، فلماذا لا يتمرد على طول الخط ؟ لماذا لا يرفض المرض إن أمرضه الله ؟ ولماذا لا يرفض الموت إن حل به ؟.
إذن : الإنسان مؤتمر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان، ومنطقة الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام : كثير آمن، وكثير حق عليه العذاب.
لكن، لماذا لم يجعل الله- سبحانه وتعالى- الخلق جميعا مسخرين ؟.
قالوا : لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت لله تعالى صفة القدرة على الكل، إنما لا تثبت لله المحبوبية، المحبوبية لا تكون إلا مع الاختيار : أن تكون حرا مختارا في أن تؤمن أو تكفر فتختار الإيمان، وأن تكون حرا وقادرا على المعصية، لكنك تطيع.
وضربنا لذلك مثلا- ولله المثل الأعلى- هب أن عندك عبدين، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلا، وتترك الآخر حرا، فإن ناديت عليهما أجاباك، فأيهما يكون أطوع لك : المقهور المجبر، أم الحر الطليق ؟.
إذن : التسخير والقهر يثبت القدرة، والاختيار يثبت المحبة.
والخلاف الذي حدث من الناس، فكثير منهم آمن، وكثير منهم حق عليه العذاب، من أين هذا الاختلاف يا رب ؟ مما خلقته فيك من اختيار، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فكأن كفر الكافر واختياره، لأن الله سخره للاختيار، فهو حتى في اختياره مسخر.
أما قوله تعالى :﴿ وكثير من الناس.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : باختياراتهم، وكان المفروض أن يقول في مقابلها : وقليل، لكن هؤلاء كثير، وهؤلاء كثير أيضا.
ومعنى :﴿ حق عليه العذاب.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : حق : يعني ثبت، فهذا أمر لا بد منه، حتى لا يستوي المؤمن والكافر :﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ( ٣٥ ) ﴾ [ القلم ] : إذن : لا بد أن يعاقب هؤلاء، والحق يقتضي ذلك.
وقوله سبحانه :﴿ ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : لأن أحقية العذاب من مساو لك. قد يأتي من هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأن الحق- سبحانه وتعالى- ييئس هؤلاء من النجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد.
فمن أراد الله إهانته فلن يكرمه أحد، لا بنصرته ولا بالشفاعة له، فالمعنى :﴿ ومن يهن الله.. ( ١٨ ) ﴾ :[ الحج ] أي : بالعذاب الذي حق عليه وثبت ﴿ فما له من مكرم.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : يكرمه ويخلصه من هذا العذاب، كذلك لا يوجد من يعزه، لأن عزته لا تكون إلا قهرا عن الله، وهذا محال، أو يكون بشافع يشفع له عند الله، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه.
لذلك، نقول : إن الحق سبحانه يجير على خلقه ولا يجار عليه، يعني : لا أحد يقول لله : هذا في جواري، لذلك ذيل الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله يفعل ما يشاء ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ].
١ - قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢٢٨) ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء" وقد أخرج أحمد في مسنده (٢/٣٥٨) عن أبي هريرة رفعه "قال الله: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك".
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى١ :
﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ١٩ ) ﴾ :
كلمة خصم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع، وكذلك المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى ﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ( ٢١ ) ﴾ [ ص ].
ويقول تعالى :﴿ خصمان بغى بعضنا على بعض.. ( ٢٢ ) ﴾ [ ص ] :
والمراد بقوله :﴿ خصمان.. ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ] قوله تعالى :﴿ وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب.. ( ١٨ ) ﴾ [ الحج ] : والخصومة تحتاج إلى فصل بين المتخاصمين، والفصل يحتاج إلى شهود، لكن إن جاء الفصل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود ﴿ وكفى بالله شهيدا ( ٧٩ ) ﴾ [ النساء ]
وإن جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم، يقول تعالى :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.. ( ٢١ ) ﴾ [ فصلت ].
فإن قلت كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت ؟.
نقول : هناك فرق بين عمل أريده وعمل أؤديه، وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلا- ولله المثل الأعلى- بالقائد الذي يأمر جنوده، وعليهم أن يطيعوه حتى إن كانت الأوامر خاطئة، فإن رجعوا إلى القائد الأعلى حكوا له ما كان من قائدهم، ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم، وألزمهم طاعته والائتمار بأمره.
فالخالق- عز وجل- جعل لإرادة الإنسان ولاية على جوارحه، فالفعل- إذن- للإرادة، وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ. فحينما تريد مثلا أن تقوم، مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائما دون أن تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركت لتؤدي هذا العمل، مع أنها عملية معقدة تتضافر فيها الإرادة والعقل والأعصاب والأعضاء، وأنت نفسك لا تشعر بشيء من هذا كله، وهل في قيامك أمرت الجوارح أن تتحرك فتحركت ؟
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الإرادة، أفلا يكون أولى من هذا أن ينفعل خلق الله لإرادة الله ؟
إذن : العمدة في الأفعال ليست الجوارح وإنما الإرادة، بدليل أن الله تعالى إذا أراد أن يعطل جارحة من الجوارح عطل الإرادة الآمرة، وقطعها عن الجارحة، فإذا هي مشلولة لا حركة فيها، فإن أراد الإنسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع، لماذا ؟
لأنه لا يعلم الأبعاض التي تحرك هذه الجارحة، ولو سألت أعلم الناس في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي : ما الحركة الآلية التي تتم في جسم الإنسان كي يقوم من نومه أو من جلسته ؟ ولن يستطيع أحد أن يصف لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة.
أما لو نظرت مثلا إلى الحفار، وهو يؤدي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدت صبيا يشغله باستخدام بعض الأزرار، ويستطيع أن يصف لك كل حركة فيه، وما الآلات التي تشترك في كل حركة. فقل لي بالله : ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك ؟ ما الزر الذي تحرك به عينيك، أو لسانك، أو قدمك ؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد، لأن الله تعالى خلقك، وجعل لإرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك، فلا تستبعد أن تنفعل المخلوقات لله- عز وجل- إن أراد منها أن تفعل.
حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض، إنما العذاب للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان إذا تعرض لألم شديد لا يستريح منه إلا أن ينام، فإذا استيقظ عاوده الألم، إذن : فالنفس هي التي تتألم وتتعذب لا الجوارح.
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذين الخصمين، كما قال سبحانه في آية أخرى ﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة.. ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ].
لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه٢ : أنا أول من يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب. هؤلاء في جانب وفي الجانب المقابل : عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
لماذا ؟ لأن بين هؤلاء كانت أول معركة في الإسلام، وهذه أول خصومة وقعت فيه، ذلك لأنهم في معركة بدر أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قوما للمبارزة، وكانت عادتهم في الحروب أن يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أن يعذبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال، ويعرضوا أرواح الناس جميعا للخطر.
ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- في موقعة صفين حيث قال علي لمعاوية : ابرز إلي يا معاوية، فإن غلبتني فالأمر لك، وإن غلبتك فاجعل الأمر لي، فقال عمرو بن العاص وكان في صفوف معاوية : والله، يا معاوية لقد أنصفك الرجل، وفي هذا حقن لدماء المسلمين في الجانبين.
فنظر معاوية إلى عمرو وقال : والله يا عمرو ما أردت إلا أن أبرز له فيقتلني، ويكون لك الأمر من بعدي، وما دمت قد قلت ما قلت فلا يبارزه غيرك فاخرج إليه.
فقام عمرو لمبارزة علي، لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته ؟ وحمل علي على عمرو حملة قوية، فلما أحس عمرو أن عليا سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة، واستعمل دهاءه في صرف علي عنه، فكشف عمرو عن عورته، وهو يعلم تماما أن عليا يتورع عن النظر إلى العورة، وفعلا تركه علي وانصرف عنه، ونجا عمرو بحيلته هذه٣.
وقد عبر الشاعر عن هذا الموقف فقال :
ولا خير في رد الردى بدنية*** كما ردها يوما بسوأته عمرو
ويقول الشريف٤ الرضي- وهو من آل البيت- في القصيدة التي مطلعها :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر*** أما للهوى أمر عليك ولا نهي
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة*** ولكن مثلي لا يذاع له سر
وفيها يقول :
وإنا أناس لا توسط بيننا لنا ***الصدر دون العالمين أو القبر
نعود إلى بدر، حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول الله بعض رجال الأنصار فقالوا : هؤلاء نكرات من الأنصار، نريد أن تخرج لنا أكفاءنا من رجال قريش، فأخرج لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليا وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب، وأخرجوا هم عتبة وشيبة والوليد، وكان ما كان من نصرة المسلمين وهزيمة المشركين٥.
وهذا هو اليوم الذي قال الله فيه :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ( ١٢٣ ) ﴾ [ آل عمران ].
إذن : فبدر كانت فصلا دنيويا بين هذين الخصمين، ويبقى فصل الآخرة الذي قال فيه الإمام علي : " أنا أول من يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ".
ومعنى :﴿ اختصموا في ربهم.. ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ] : أي : بسبب اختلافهم في ربهم، ففريق يؤمن بوجود إله، وفريق ينكره، فريق يثبت له الصفات، وفريق ينفي عنه هذه الصفات، يعني : انقسموا بين إيمان وكفر.
ثم يفصل القول :﴿ فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ] :
﴿ قطعت لهم ثياب من نار.. ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ] كأن النار تفصيل على قدر جسومهم إحكاما للعذاب، ومبالغة فيه، فليس فيها اتساع يمكن أن يقلل من شدتها، وليست فضفاضة عليهم.
ثم ﴿ يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ] : والحميم : الماء الذي بلغ منتهى الحرارة، حتى صار هو نفسه محرقا من شدة حره، ولك أن تتصور ماء يغليه ربنا عز وجل.
وهكذا يجمع الله عليهم ألوان العذاب، لأن الثياب يرتديها الإنسان لتستر عورته، وتقيه الحر والبرد، ففيها شمول لمنفعة الجسم، يقول تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( ١١٢ ) ﴾ [ النحل ].
فالإذاقة ليست في اللباس، إنما بشيء آخر، واللباس يعطي الإحاطة والشمول، لتعم الإذاقة كل أطراف البدن، وتحكم عليه مبالغة في العذاب.
١ - سبب نزول الآية: عن أبي ذر –رضي الله عنه- أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية﴿هذان خصمان اختصموا في ربهم... ﴾(الحج١٩) نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر وهم: حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. قال علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. وأرده الواحدي في أسباب النزول (ص ١٧٦) والدر المنثور للسيوطي (٦/١٨) عزاه البخاري ومسلم وغيرهما..
٢ - أخرجه البخاري في صحيحه (٣٧٣٣) قال :"أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة" قال قيس بن عباد : وفيهم نزلت ﴿هذان خصمان اختصموا في ربهم...﴾ (الحج١٩) قال : هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة..
٣ - ذكره ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" (٤/٢٧٤) أن عليا رضي الله عنه نادى: ويحك يا معاوية، أبرز إلي ولا تفي بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة، فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليه، فليس مثلي يخدع، وذكروا أن عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالرمح فألقاه إلى الأرض فبدت سوءته فرجع عنه فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه؟ فقال : أتدرون ما هو؟ قالوا: لا قال : هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحم فرجعت عنه، فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: أحمد الله وأحمد إستك..
٤ - هو : محمد بن الحسين أبو الحسن الرضي العلوي الحسيني، أشعر الطالبين، مولده ٣٥٩هـ ووفاته (٣٠٦) في بغداد، وانتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده، له "المجازات النبوية" "مجاز القرآن" "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" (الأعلام للزركلي ٦/٩٩).
٥ - ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٦٢٥) أن عتبة بن ربيعة خرج بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم: عوف، ومعوذ، ابنا الحارث –وأمهما عفراء- ورجل آخر يقال : هو عبد الله بن رواحة- فقالوا: من أنتم؟ قالوا رهط من الأنصار، قالوا ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي. فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ قالوا نعم أكفاء كرام. فبارز عبيدة وكان أسن القوم. عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز علي الوليد بن عتبة. .
﴿ يصهر به ما في بطونهم والجلود ( ٢٠ ) ﴾ :
قلنا : إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها، فلم يغل عند درجة الحرارة التي نعرفها، إنما يغليه ربه الذي لا يطيق عذابه أحد. وأنت إذا صببت الماء المغلى على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه من الخارج، إنما لا يصل إلى داخله، أما هذا الماء حين يصب عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم أولا، ثم جلودهم بعد ذلك، فاللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك.
﴿ ولهم مقامع من حديد ( ٢١ ) ﴾ :
المقامع : هي السياط التي تقمع بها الدابة، وتردعها لتطاوعك، أو الإنسان حين تعاقبه، لكنها سياط من حديد، ففيها دلالة على الذلة والانكسار، فضلا عن العذاب.
ثم يبين الحق سبحانه مهمة هذه المقامع، فيقول :
﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ( ٢٢ ) ﴾ :
الحق- سبحانه وتعالى- يصور حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يخفف عنهم، فإذا ما حاولوا الخروج من غم العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا، والإنسان قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه الأمر، كالمسجون مثلا الذي يضرب بالسياط على ظهره، فبعد عدة ضربات يفقد الإحساس ولا يؤثر فيه ضرب بعد ذلك.
وقد أجاد المتنبي١ في وصف هذا المعنى حين قال :
رماني الدهر بالأرزاء حتى*** كأني في غشاء من نبال
فكنت إذا أصابتني سهام**** تكسرت النصال على النصال
لكن أنى يخفف عن أهل النار، والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.. ( ٥٦ ) ﴾ [ النساء ].
ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أن طمعوا في النجاة، وما أشد اليأس بعد الطمع على النفس، لذلك يقولون : لا أفجع من يأس مقمع، بعد أمل مقمع. كما يقول تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الكهف ] : ساعة يسمعون الإغاثة يأملون ويستبشرون، فيأتيهم اليأس في ﴿ بماء كالمهل يشوي الوجوه.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الكهف ].
وقوله تعالى :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ( ٢٢ ) ﴾ [ الحج ] : الحريق : الشيء الذي يحرق غيره لشدته.
وبعد أن تحدثت الآيات عن الكافرين، وما حاق بهم من العذاب كان لا بد أن تتحدث عن المقابل، عن المؤمنين ليجري العقل مقارنة بين هذا وذاك، فيزداد المؤمن تشبثا بالإيمان ونفرة من الكفر، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كفره فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي هذه المقابلات وسائل النجاة والرحمة.
١ - المتنبي : هو احمد بن الحسين أبو الطيب الكندي. ولد (٣٠٣هـ) بالكوفة في محلة تسمى كندة، نشأ بالشام ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية قال الشعر صبيا تنبأ في بادية السماوة أسره أمير حمص وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه توفى ٣٥٤هـ عن ٥٢ عاما (الأعلام للزركلي ١/١١٥).
يقول الحق سبحانه وتعالى :
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ( ٢٣ ) } :
يبين الحق سبحانه وتعالى ما أعده لعباده المؤمنين حيث السكن :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الحج ] : والزينة :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الحج ] : واللباس :﴿ ولباسهم فيها حرير ( ٢٣ ) ﴾ [ الحج ] : فجمع لهم نعيم السكن والزينة واللباس.
وفي الآخرة ينعم الرجال بالحرير والذهب الذي حرم عليهم في الدنيا، وهنا قد يعترض النساء، وما النعيم في شيء تنعمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب ؟.
نعم تتمتعن بالحرير والذهب في الدنيا، أما في الآخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة لا ينغصها شيء، فالحلي للمرأة خالص من المكدرات، وباق معها لا يأخذه أحد، ولا تحتاج إلى تغييره أو بيعه، لأنه يتجدد في يدها كل يوم، فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه١. كما قلنا سابقا في قوله تعالى عن أهل الجنة :﴿ قالوا هذا الذي رزقنا من قبل.. ( ٢٥ ) ﴾ [ البقرة ].
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل، فيبين لهم ربهم أنها ليست كفاكهة الدنيا ﴿ وأتوا بها متشابها.. ( ٢٥ ) ﴾ [ البقرة ] يعني : أنواعا مختلفة للصنف الواحد.
١ - أورد ابن القيم (في حادي الأرواح ص١٨٩) عن كعب الأحبار فيما أخرجه ابن أبي الدنيا: "إن لله عز وجل ملكا منذ يوم خلق يصوغ حلي أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة. لو أن قلبا من حلي الجنة أخرج لذهب بضوء شعاع الشمس، فلا تسألوا بعد هذا عن حلي الجنة". .
ثم يقول الحق :
﴿ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ( ٢٤ ) ﴾ :
( هدوا ) هداهم الله، فالذي دلهم على وسائل دخول الجنة والتمتع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك يهديهم الآن في الجنة ويدلهم على كيفية شكر المنعم على هذه النعمة، هذا معنى :﴿ وهدوا إلى الطيب من القول.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ] : هذا القول الطيب لخصته آيات أخرى، ومنها قوله تعالى :
﴿ الحمد لله الذي صدقنا وعده.. ( ٧٤ ) ﴾ [ الزمر ].
وقوله :﴿ الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله.. ( ٣٥ ) ﴾ [ فاطر ].
وقوله :﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.. ( ٣٤ ) ﴾ [ فاطر ].
فحين يدخل أهل الجنة الجنة، ويباشرون النعيم المقيم لا يملكون إلا أن يقولوا : الحمد لله، كما يقول الحق سبحانه عنهم :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( ١٠ ) ﴾ [ يونس ].
وقالوا١ :﴿ الطيب من القول.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ] : هو كلمة التوحيد : لا إله إلا الله، فهذه الكلمة هي المعشوقة التي أتت بنا إلى الجنة، والمعنى يسع كل كلام طيب، كما قال سبحانه :﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ٢٤ ) ﴾ [ إبراهيم ].
ثم يقول تعالى :﴿ وهدوا إلى صراط الحميد ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ] : أي : هداهم الله إلى طريق الجنة، أو إلى الجنة ذاتها، كما قال في آية أخرى عن الكافرين :﴿ ولا ليهديهم طريقا ( ١٦٨ ) إلا طريق جهنم.. ( ١٦٩ ) ﴾ [ النساء ].
١ - قاله ابن عباس قال : يريد لا إله إلا الله والحمد لله، (تفسير القرطبي ٦/٤٥٦٢) وقال أبو العالية: قولهم الله مولانا ولا مولى لكم، أي في الخصومة، وقال إسماعيل بن أبي خالد: القرآن. وقال الضحاك: الإخلاص وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. (|الدر المنثور ٦/٢٤).
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف١ فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد٢ بظلم نذقه من عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾ :
انتقلت بنا الآيات إلى موضوع جديد :﴿ إن الذين كفروا.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : بصيغة الماضي، لأن الكفر وقع منهم فعلا ﴿ ويصدون.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : بصيغة المضارع، والقياس أن نقول : كفروا وصدوا، لكن المسألة ليست قاعدة ولا هي عملية آلية، لأن الصد عن سبيل الله ناشئ عن الكفر وما يزال صدهم مستمرا.
ومعنى :﴿ عن سبيل الله.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : عن الجهاد ﴿ والمسجد الحرام.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : لأنهم منعوا المسلمين من دخوله، وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم، وهذا ما حدث فعلا في الحديبية حينما اشتاق صحابة رسول الله إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه، فلما ذهبوا منعهم كفار مكة، وصدوهم عن دخوله.
﴿ والمسجد الحرام.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : كلمة حرام يستفاد منها أنه محرم أن تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه. وكلمة ( الحرام ) وصف فيها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء : نقول : البيت الحرام وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام. وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة، هذه أماكن، ثم الخامس وهو زمن : الشهر الحرام الذي قال الله فيه :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.. ( ٢١٧ ) ﴾ [ البقرة ].
وحرمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه، لأنه رب رحيم بخلقه يريد أن يجعل لهم فرصة لستر كبريائهم، والحد من غرورهم، وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تذكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب، حتى أن كلا الفريقين يريد أن يفني الآخر، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها، لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب.
لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حرمة لتكون ستارا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة. وكل حدث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فحرم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيف من قبضة القوي دون أن يجرح كبرياءه، وربما هز رأسه قائلا : لولا الشهر الحرام كنت فعلت بهم كذا وكذا.
فهذه- إذن- رحمة من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويحقن دماءهم.
وما أشبه كبرياء العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجين تخاصما على مضض، ويريد كل منهم أن يأتي صاحبه، لكن يمنعه كبرياؤه أن يتنازل، فجلس الرجل في غرفته، وأغلق الباب على نفسه، فنظرت الزوجة، فإذا به يرفع يديه يدعو الله أن تصالحه زوجته، فذهبت وتزينت له، ثم دفعت الباب عليه وقالت- وكأن أحدا يجبرها على الدخول- ( مودياني فين يا أم هاشم ).
وكذلك، جعل في المكان محرما، لأن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر : ثلاثة سرد وواحد فرد، الفرد هو رجب، والسرد هي : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
فحرم أيضا القتال في هذه الأماكن ليعصم دماء الخلق أن تراق بسبب تناحر القبائل بالغل والحقد والكبرياء والغرور.
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ( ١٩١ ) ﴾ [ البقرة ].
فلعلهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب، فيدركون لذة السلام وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسعار الحرب يجر حربا، ولذة السلام وراحة الأمن والشعور بهدوء الحياة يجر ميلا للتصالح وفض مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائر مركزها بيت الله الحرام وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام وهي مكة، ثم المشعر الحرام الذي يأخذ جزءا من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة فليست كما يظن البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء فهو المكين، فلو نقضت هذا البناء القائم الآن فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إن نزلت في أعماق الأرض أو صعدت في طبقات السماء.
إذن : فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، ألا ترى الناس يصلون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير ؟ إنهم يواجهون جو الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا ؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
ثم يلي البيت المسجد، وهو قطعة أرض حكرت على المسجدية، لكن هناك مسجد بالمكان حين تقيمه أنت، وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الآن يسمى " مسجد " بالمكان، أو مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد، قالوا : ولو امتد إلى صنعاء وتواصلت الصفوف فكله مسجد.
نعود إلى ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية، فقد صد الكفار المسلمين عن بيت الله الحرام وهم على مرمى البصر منه، فاغتاظ المسلمون لذلك، ورأى بعضهم أن يدخل مكة عنوة ورغما عنهم.
لكن كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سر بينه وبين ربه عز وجل، فنزل على شروطهم، وعقد معهم صلحا هو " صلح الحديبية " الذي أثار حفيظة الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فقال لرسول الله : يا رسول الله، ألسنا على الحق ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بلى " قال : أليسوا هم على باطل ؟ قال : " بلى " قال : فلم نعطي الدنية في ديننا ؟ ٣.
وكان من بنود هذا الصلح : إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين٤.
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة- رضوان الله عليها- موقف عظيم في هذه الشدة، ورأي سديد رد آراء الرجال إلى الرشد وإلى الصواب، وهذا مما نفخر به للمرأة في الإسلام، ونرد به على المتشدقين بحقوق المرأة.
فلما عاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى فسطاطه مغضبا فقال لأم سلمة : " هلك المسلمون يا أم سلمة، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا " يعني : أمرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام.
فقالت السيدة أم المؤمنين : يا رسول الله، إنهم مكروبون، فقد منعوا عن بيت الله وهم على مرأى منه، لكن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك به ربك، فافعل فإذا رأوك فعلته علموا أن الأمر عزيمة- يعني لا رجعة فيه- وفعلا أخذ رسول الله بهذه النصيحة، فذهب فحلق، وذبح هديه وفعل الناس مثله، وانتهت هذه المسألة٥.
لكن قبل أن يعودوا إلى المدينة شاءت إرادة الله أن يخبرهم بالحكمة في قبول رسول الله لشروط المشركين مع أنها شروط ظالمة مجحفة.
أولا : في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته، وأنه أصبح مساويا لهم، وهذا مكسب في حد ذاته.
ثانيا : اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات، وهذه الفترة أعطت المسلمين فرصة كي يتفرغوا لاستقبال الوفود ونشر دين الله.
ثالثا : كان في إمكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدخلهم مكة رغما عن أهلها، وكان في مقدوره أن يقتلهم جميعا، لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم ولا يعرفهم أحد ؟ إنهم وسط هؤلاء الكفار، وسينالهم ما ينال الكفار، ولو تميز المؤمنون من الكفار أو خرجوا في جانب لأمكن تفاديهم.
اقرأ قوله تعالى :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا٦ لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( ٢٥ ) ﴾ [ الفتح ].
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام :﴿ الذي جعلناه للناس.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : جميعا ﴿ سواء العاكف فيه والباد.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : العاكف فيه يعني : المقيم، والباد : القادم إليه من خارج مكة، ومعنى ﴿ سواء.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] يعني : هذان النوعان متساويان تماما.
لذلك نقول للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة : أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان.
وقد دعت هذه الآية :﴿ سواء العاكف فيه والباد.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : البعض لأن يقول : لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمن أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب٧.
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان حرا يبني فيه من أراد، أما بعد أن بنى بيتا، وسكنه أصبح مكينا فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته.
وقد دار حول هذه المسألة٨ نقاش بين الحنظلي٩ في مكة والإمام الشافعي١٠، حيث يرى الحنظلي أنه لا يجوز تأجير البيوت في مكة، لأنها حسب هذه الآية للجميع، فرد عليه الشافعي رضي الله عنه : لو كان الأمر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم.. ( ٨ ) ﴾ [ الحشر ].
فنسب الديار إليهم. ولما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل مكة : " وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع ؟ " ١١ وكون عقيل يبيع دورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها. لذلك رجع الحنظلي على رأي الشافعي.
هذا مع أن الآية تعني البيت فقط، لا مكة كلها، فما كان الخلاف ليصل إلى مكة كلها.
ثم يقول تعالى :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى، وهو الإلحاد في الله عز وجل، أما هنا فيراد بالإلحاد : الميل عن طريق الحق، وقوله :﴿ بظلم.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] الظلم في الشيء لا يسمو إلى درجة الكفر، والإلحاد بظلم إن حدث في بيت الله فهو أمر عظيم، لأنك في بيت ربك ( الكعبة ).
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية، مجرد الإرادة هنا تعد ذنبا، لأنك في مقام يجب أن تستشعر فيه الجلال والمهابة، فكما أعطى الله لبيته ميزة في مضاعفة الحسنات، كذلك عظم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته، فتنبه لهذه المسألة١٢
حتى في أمثال أهل الريف يقولون :( تيجي في بيت العالم وتسكر ) يعني : السكر يتصور في بيت أحد العصاة، في بيت فاسق، في خمارة، لكن في بيت عالم، فهذا شيء كبير، وجرأة عظيمة. لماذا ؟.
فللمكان حرمة بحرمة صاحبه، فإذا كان للمكان حرمة بحرمة صاحبه، والبيت منسوب إلى الله، فأنت تعصى ربك في عقر داره، وأي جرأة أعظم من الجرأة على الله ؟.
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكل المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فرق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله، لذلك جعل بيت الله باختيار الله ( البيت الحرام ) هو القبلة التي تتجه إليها كل بيوت الله في الأرض.
فما عاقبة الإلحاد في بيت الله ؟ ﴿ نذقه من عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾ [ الحج ] : إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا، والإذاقة أشد الإدراكات تأثيرا، وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم شرابا كان أو طعاما، إلا أنه تعدى كل محس به، ولو لم يكن مطعوما أو مشروبا، ويقول ربنا عز وجل :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( ٤٩ ) ﴾ [ الدخان ].
أي
١ - العاكف في والباد: أي : المقيم بالحرم وحوله والباد: غير المقيم عند من سكان البادية، أو البلاد البعيدة عن الحرم، (القاموس القويم٢/٣١).
٢ - الإلحاد: العدول عن الحق. أ] من يرد في المسجد عملا لا يرضى الله متلبسا بميل عن الحق ومتلبسا بظلم (القاموس القويم ٢/١٩٠).
٣ - أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣/١٣٨) والبخاري في صحيحه (كتاب الجزية- باب١٨) وكذا مسلم في صحيحه (كتاب الجهاد –باب ٣٤) وفيه"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد مراجعة عمر بن الخطاب له : يا بن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله. وقال له أبو بكر: يا بن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا".
٤ - كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشرط الذي اشترطته قريش ما قاله: من أتاهم منا فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه عليهم، جعل الله له فرجا ومخرجا" أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣/١٤٧) ومسلم في صحيحه (كتاب الجهاد –باب ٣٤).
٥ - أخرجه البخاري في صحيحه (٧/٤٥٣) بشرح فتح الباري – كتاب المغازي من حديث المسور بن مخرمة والبيهقي في دلائل النبوة (٤/١٥٠)..
٦ - لو تزيلوا: لو تفرقوا قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما أحرجه عنه ابن جرير الطبري (ذكره السيوطي في الدر المنثور ٧/٥٣٤).
٧ - قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٦٤) "كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ قال الرجل: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة. فتركه، فاتخذ الناس الأبواب، وروى عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم وقال بهذا جمهور من الأئمة"..
٨ - قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢١) هذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف وأحمد ابن حنبل حاضر أيضا "وذكر احتجاج كل منهما..
٩ - هو إسحاق بن راهويه أبو يعقوب الحنظلي نزيل نيسابور وعالمها ولد عام ١٦١هـ وهو أحد كبار الحفاظ أخذ عنه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والزهد (الأعلام للزركلي ١/٢٩٢) وتذكرة الحفاظ (٢/٤٣٣)..
١٠ - هو : محمد بن ادريس الشافعي أبو عبد الله أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة، ولد عام١٥٠ هـ في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة١٩٩ هـ فتوفي بها و قبره معروف في القاهرة له مصنفات أشهرها كتاب "الأم" أحكام القرآن" (الأعلام للزركلي ١/٢٦).
١١ - حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (١٥٨٨)، وكذا مسلم في صحيحه (١٣٥١) وتمامه "أن أسامة بن زيد قال : يا رسول الله أين تنزل؟ في دارك بمكة؟ قال : وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟ وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين"..
١٢ - قال ابن مسعود: من هم بخطيئة فلم يعملها –في سوى البيت- لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت ولم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم. أخرجه سعيد بن منصور والطبراني فيما أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٢٦).
﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( ٢٦ ) ﴾ :
ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب أن يتكلم عن تاريخه وبنائه، فقال سبحانه :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : معنى بوأه : أي : جعله مباءة يعني : يذهب لعمله ومصالحه، ثم يبوء إليه ويعود، كالبيت للإنسان يرجع إليه، ومنه قوله تعالى :﴿ وباءوا بغضب من الله.. ( ٦١ ) ﴾ [ البقرة ].
وإذ : ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث، والمعنى خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا. وهكذا في كل آيات القرآن تأتي ( إذ ) في خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحدث وقع في ذلك الظرف.
لكن، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوأ بمسألة البيت ؟ قالوا : لأن المكان المتبوأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان، ليرجع إليها من متاعب حياته، ولا يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرت فيه كل مقومات الحياة.
لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.. ( ٥٦ ) ﴾ [ يوسف ].
وقال في شأن بني إسرائيل :﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق.. ( ٩٣ ) ﴾ [ يونس ] : فمعنى :﴿ بوأنا لإبراهيم مكان البيت.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : أي : جعلناه مباءة له، يرجع إليه من حركة حياته بعد أن أعلمناه، ودللناه على مكانه١.
وقلنا : إن المكان غير المكين، المكان هو البقعة التي يقع فيها ويحل بها المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يسمى " مكين في هذا المكان ". وعلى هذا فقد دل الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة : فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت. ونقول لأصحاب هذا الرأي : الحق- تبارك وتعالى- بوأ لإبراهيم مكان البيت، يعني : بينه له، كأن البيت كان موجودا، بدليل أن الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم :﴿ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.. ( ٣٧ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وفي قوله تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل.. ( ١٢٧ ) ﴾ [ البقرة ].
ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شب، وأصبح لديه القدرة على معاونة أبيه، أما مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعا، وقوله تعالى :﴿ عند بيتك المحرم.. ( ٣٧ ) ﴾ [ إبراهيم ] : يدل على أن العندية موجودة قبل أن يبلغ إسماعيل أن يساعد أباه في بناية البيت، إذن : هذا دليل على أن البيت كان موجودا قبل إبراهيم.
وقد أوضح الحق- سبحانه وتعالى- هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( ٩٦ ) ﴾ [ آل عمران ] :
وحتى نتفق على فهم الآية نسأل : من هم الناس ؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة، إذن : فآدم من الناس، فلماذا لا يشمله عموم الآية، فالبيت وضع للناس، وآدم من الناس، فلا بد أن يكون وضع لآدم أيضا.
إذن : يمكنك القول بأن البيت وضع حتى قبل آدم، لذلك نصدق بالرأي الذي يقول : إن الملائكة هي التي وضعت البيت أولا، ثم طمس الطوفان معالم البيت، فدل الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت، وأمره أن يرفعه من جديد في هذا الوادي.
ويقال : إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دلته على المكان ونطقت، يا إبراهيم خذ على قدري، أي : البناء٢.
ولو تدبرت معنى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.. ( ١٢٧ ) ﴾ [ البقرة ] : الرفع يعني : الارتفاع، وهو البعد الثالث، فكأن القواعد كان لها طول وعرض موجود فعلا، وعلى إبراهيم أن يرفعها.
لكن لماذا بوأ الله لإبراهيم مكان البيت ؟
لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة.. ( ٣٧ ) ﴾ [ إبراهيم ] : كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة، الصلاة للإله الحق والرب الصدق، لذلك أمره أولا :﴿ أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : والمراد : طهر هذا المكان من كل ما يشعر بالشرك، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله.
وهل كان يعقل أن يدخل إبراهيم- عليه السلام- في الشرك ؟ بالطبع لا، وما أبعد إبراهيم عن الشرك، لكن حين يرسل الله رسولا، فإنه أول من يتلقى عن الله الأوامر ليبلغ أمته، فهو أول من يتلقى، وأول من ينفذ ليكون قدوة لقومه فيصدقونه ويثقوا به، لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنجوة عنه.
ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) :﴿ يا أيها النبي اتق الله.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] : وهل خرج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن تقوى الله ؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها، حتى يسهل علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه، ولا نرى غضاضة في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله، لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له : يا فلان اتق الله، وربما اعتبرها إهانة واتهاما، وظن أنها لا تقال إلا لمن بدر منه ما يخالف التقوى.
وهذا فهم خاطئ للأمر بالتقوى، فحين أقول لك : اتق الله. لا يعني أنني أنفي عنك التقوى، إنما أذكرك أن تبدأ حركة حياتك بتقوى الله.
إذن : قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام :﴿ أن لا تشرك بي شيئا.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : لا تعني تصور حدوث الشرك من إبراهيم، وقال ﴿ شيئا.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : ليشمل النهي كل أنواع الشرك، أيا كانت صورته : شجر، أو حجر، أو وثن، أو نجوم، أو كواكب.
ويؤكد هذا المعنى بقوله :﴿ وطهر بيتي.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : والتطهير يعني : الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وطهارة حسية مما أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان، فقد يكون به شيء من القاذورات مثلا.
ومعنى ﴿ للطائفين.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : الذين يطوفون بالبيت :﴿ والقائمين.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : المقيمين المعتكفين فيه للعبادة ﴿ والركع السجود ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة، عبر عن الصلاة بالركوع والسجود، لأنهما أظهر أعمال الصلاة.
١ - أي أريناه أصله ليبينه وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام، فرتب قواعده عليه. (تفسير القرطبي ٦/٤٥٦٧).
٢ - أخرج الديلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت...﴾ (البقرة١٢٧) قال جاءت سحابة على تربيع البيت لها رأس تتكلم: ارتفاع البيت على تربيعي فرفعاه على تربيعها (أورده السيوطي في الدر المنثور ١/٣٠٧).
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر١ يأتين من كل فج عميق ( ٢٧ ) ﴾ :
أمر الله نبيه إبراهيم بعد أن رفع القواعد من البيت أن يؤذن في الناس بالحج، لماذا ؟ لأن البيت بيت الله، والخلق جميعا خلق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على من قدر له أن يمر به، أو يعيش إلى جواره ؟.
فأراد الحق- سبحانه وتعالى- أن يشيع هذه الميزة بين خلقه جميعا، فيذهبوا لرؤية بيت ربهم، وإن كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله، لذلك جعله قبلة لبيوته التي اختارها الخلق.
إن من علامات الولاء بين الناس أن نزور قصور العظماء وعلية القوم، ثم يسجل الزائر اسمه في سجل الزيارات، ويرى في ذلك شرفا ورفعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو من قدر لهم المرور به ؟
ومعنى ﴿ أذن.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : الأذان : العلم، وأول وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أخذ الأذان. أي : الإعلام. ومن هذه المادة قوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربكم.. ( ٧ ) ﴾ [ إبراهيم ] : أي : أعلم، لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، والخطاب المبدئي الذي نتعلم به، لذلك قبل أن تتكلم لا بد أن تسمع.
وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته، فلمن يؤذن ؟ ومن سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون ؟ فناداه ربه : " يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ " ٢
مهمتك أن ترفع صوتك بالأذان، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس، في كل الزمان، وفي كل المكان، سيسمعه البشر جميعا، وهم في عالم الذر وفي أصلاب آبائهم٣ بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأنفال ].
يعني : أد ما عليك، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك. فأذن إبراهيم في الناس بالحج، ووصل النداء إلى البشر جميعا، وإلى أن تقوم الساعة، فمن أجاب ولبى : لبيك اللهم لبيك كتبت له حجة، حتى إن من العلماء من قال٤ : من لبى مرة كتبت له حجة، ومن لبى مرتين كتبت له حجتين وهكذا، لأن معنى لبيك : إجابة لك بعد إجابة.
فإن قلت : إن مطالب الله وأوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة ؟ نقول : أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين : لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرت إلى هذه الأركان لوجدت أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإن لم يكن مستطيعا له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قوته، وربما حرم نفسه ليؤدي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا ؟
قالوا : لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال : أذن- يأتوك، هكذا رغما عنهم، ودون اختيارهم، ألا ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم.
وهذا معنى قوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.. ( ٣٧ ) ﴾ إبراهيم ] : ومعنى تهوي : تأتي دون اختيار من الهوي أي : السقوط، وهو أمر لا يملكه الإنسان، كالذي يسقط من مكان عال، فليس له اختيار في ألا يسقط.
وهكذا تحن القلوب إلى بيت الله، وتتحرك شوقا إليه، وكأن شيئا يجذبها لأداء هذه الفريضة، لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله ﴿ يأتوك.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار المكلف، يطيع أو يعصى، إذن : هذه المسألة قضية صادقة بنص القرآن.
وبعض أهل الفهم يقولون : إن الأمر في :﴿ وأذن في الناس بالحج.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : ليس لإبراهيم، وإنما لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )- الذي نزل عليه القرآن، وخاطبه بهذه الآية، فالمعنى ﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : اذكر يا من أنزل عليه كتابي إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، اذكر هذه القضية ﴿ وأذن في الناس بالحج.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : فكأن الأمر هنا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )٥.
لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، فهم لا يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبدا، وقد ثبت أن موسى- عليه السلام- حج بيت الله٦، لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام حج، بدليل أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال " يوشك أن ينزل ابن مريم، ويأتي حاجا، ويزور قبري، ويدفن هناك " ٧.
فقال رسول الله : " ويأتي حاجا " لأنه لم يمت، وسوف يدرك عهد التكليف من رسول الله حين ينزل من السماء، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع أنبياء الله ورسله.
ومن المسائل التي نحتج بها عليهم قولهم : إن الذبيح إسحق، فلو أن الذبيح إسحق كما يدعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورمي الجمار عندكم في الشام، أما هذه المناسك فهي هنا في مكة، حيث كان إسماعيل.
ثم تذكروا جيدا ما قاله كتابكم المقدس٨ في الأصحاح ٢٣، ٢٤ من أن الحق- سبحانه وتعالى- أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران، ويأخذ ولده الوحيد إسماعيل لا إسحق، لأن الله فدى إسماعيل، ثم بشر إبراهيم بإسحق.
ومن حكمة الله- عز وجل- أن جعل في كذب الكاذب منفذا للحق، وثغرات نصل منها إلى الحقيقة، لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة أبدا، لا بد أن يترك المجرم قرينة تدل عليه مهما احتاط لجريمته، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملابسه، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون.. إلخ، لذلك نقول : الجريمة لا تفيد، لأن المجرم سيقع لا محالة في يد من يقتص منه.
ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم، فيظل القاضي يحاوره إلى أن يجد في كلامه ثغرة أو تضاربا يصل منه إلى الحقيقة.
ذلك لأن للصدق وجها واحدا لا يمكن أن يتلجلج صاحبه أو يتردد، أما الكذب فله أكثر من وجه، والكاذب نفسه لو حاورته أكثر من مرة لوجدت تغييرا وتضاربا في كلامه، لذلك العرب يقولون : إن كنت كذوبا فكن ذكورا. يعني : تذكر ما قلته أولا، حتى لا تغيره بعد ذلك.
ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قول أحدهم للآخر : هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة العيد الصغير، وكان القمر ظهرا ؟ فقال : كيف، يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر ؟
وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحيل، ولا بد أن يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه الحق، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة، ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا وكذا، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه، وتوجه إلى صاحب الأمانة، وقال له : اذهب إلى هذا المكان، وابحث لعلك تكون قد نسيته هنا أو هناك.
أو لعل آخر أخذه منك، فذهب صاحب المال، وفجأة سأل القاضي المتهم : لماذا تأخر فلان طوال هذا الوقت ؟ فرد المتهم : لأن المكان بعيد يا سيادة القاضي. فخانته ذاكرته، ونطق بالحق دون أن يشعر.
ثم يقول تعالى :﴿ يأتوك رجالا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : ورجالا هنا ليست جمعا لرجل، إنما جمع لراجل، وهو الذي يسير على رجليه ﴿ وعلى كل ضامر.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] الضامر : الفرس أو البعير المهزول من طول السفر.
وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي ﴿ يأتوك.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إن حج ماشيا.
وقوله :﴿ يأتين من كل فج عميق ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : أي : من كل طريق واسع ﴿ عميق ( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : بعيد.
١ - الضامر : لطيف الجسم قليل اللحم، ومن عادة العرب أن يضمروا الخيل لتكون أقوى وأنشط وأسرع، وقوله تعالى﴿وعلى كل ضامر...﴾(الحج ٢٧) أي حصان ضامر متعود على السفر البعيد بنشاط وقوة (القاموس القويم ١/٣٩٥).
٢ - عن ابن عباس قال : لما فرع إبراهيم من بناء البيت قال : رب فرغت فقال: ﴿وأذن في الناس بالحج... ﴾ (الحج٢٧) قال : رب وما يبلغ صوتي؟ قال أذن وعلي البلاغ. قال : رب كيف أقول؟ قال : يا أيها الناس. كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟ أورده السيوطي في الدر المنثور )٦/٣٢) وعزاه لابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه..
٣ - عن ابن عباس في قوله ﴿وأذن في الناس بالحج..﴾ (الحج٢٧) قال قام إبراهيم عليه السلام على الحجر فنادى : يا أيها الناس كتب الحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجاب من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك الله لبيك أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٣) عزاه لابن جرير الطبري..
٤ - أخرجه الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (رقم ٥٣٠٣) عن علي بن أبي طالب قال السيوطي في الدر المنثور (٦/٣٣) "أخرجه الديلمي بسند واه عن علي رفعه". وقال الفتنى في تذكرة الموضوعات (ص٧٣) "الحديث من نسخة محمد بن الأشعث التي عامة أحاديثها مناكير"..
٥ - قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٦٩):" قيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله ﴿والركع السجود﴾ (الحج٢٦) ثم خاطب الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم فقال :﴿وأذن في الناس بالحج....﴾(الحج٢٧)..
٦ - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: أي واد هذا؟ فقالوا هذا وادي الأزرق. قال كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية، ثم أتى على ثنية هرشى فقال : أي ثنية هذه قالوا: ثنية هرشى، قال كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي" أخرجه مسلم في صحيحه (١٦٦) وأحمد في مسنده (١/٢١٥).
٧ - أورد القرطبي في التذكرة (ص٧٧٣) طبعة مكتبة دار التراث من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال : غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفيه لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم عبد الله ورسوله حاجا أو معتمرا أو ليجمعن الله ذلك له" وقال محمد بن كعب القرظي: أن رجلا قال: إني أشهد أنه لمكتوب في التوراة والانجيل أنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك. فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا".
أما دفن المسيح عليه السلام فقد ذكر القرطبي في التذكرة (ص٧٦٢) عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ويمكث خمسا وأربعين سنة ويدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر" ذكره الميانشى أبو حفص.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يمكث عيسى في الأرض بعدما ينزل أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه ذكره أبو دواد الطيالسي في مسنده (حديث٢٥٤١)..

٨ - تحقيق هذه المسألة أن إبراهيم عليه السلام كان عمره ٨٦ سنة عندما ولد له إسماعيل، و ذلك بنص الكتاب المقدس "كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام" (التكوين ١٦: ١٦) أما عمره عندما وله له إسحاق فكان عمره ١٠٠ سنة بنص الكتاب : وكان إبراهيم ابن مئة سنة حين ولد له إسحاق ابنه" (تكوين ٢١: ٥) أي أن عمر إسماعيل كان ١٤ سنة حينما ولد أخوه إسحاق فكيف يكون وحيده هو إسحاق؟
وهاجر زوجة لإبراهيم بنص الثوراة فأخذت سارأى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت" (تكوين ١٦ : ٣، ٤).
فكيف يقولون بعد هذا : وحث بعد هذه الأمور أن الله امتحن ابراهيم فقال له يا ابراهيم فقال هاأنذا فقال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" (تكوين : ٢٢ : ٢) أنظر (تكوين ٢٢ : ٦ -١٦).

ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( ٢٨ ) ﴾ :
كلمة ﴿ منافع.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الحج ] كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع : مادية دنيوية، أو دينية أخروية، ولا ينبغي أن نضيق ما وسعه الله، فكل ما يتصل بالحج من حركات الحياة يعد من المنافع، فاستعدادك للحج، وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لأهلك ما يكفيهم حتى تعود.
ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج، كلها منافع متبادلة بين الناس، التاجر الذي يبيع لك، وصاحب البيت الذي يؤجره لك، وصاحب السيارة التي تنقلك.
إذن : المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة، متداخلة مع المنافع الدينية الأخروية، فحين تشتري الهدي١ مثلا تؤدي نسكا وتنفع التاجر الذي باع لك، والمربي الذي ربى هذا الهدي، والجزار الذي ذبحه، والفقير الذي أكل منه.
إذن : لا يتم الحج إلا بحركة حياة واسعة، فيها نفع لك وللناس من حيث لا تدري، ولك أن تنظر في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لأهليهم وذويهم، خاصة المصريين منهم، فترى بعضهم ينشغل بجمع هذه الأشياء قبل أن يؤدي نسكه ويقضي معظم وقته في الأسواق، وكأنه لن يكون حاجا إلا إذا عاد محملا بهذه الهدايا.
لذلك كان يأتي إلينا بعض هؤلاء يسألون : أنا علي دم متعة٢ وليس معي نقود، فماذا أفعل ؟ يريد أن يصوم. صحيح : كيف سيؤدي ما عليه وقد أنفق كل ما معه ؟ فكنت أقول له : اعطني حقيبة سفرك، وسأبيع ما بها، ولن أبقي لك إلا ما يكفيك من نفقات حتى تعود.
أليست هذه كلها من المنافع ؟
ومن منافع الحج أن الحاج منذ أن ينوي أداء هذه الفريضة ويعد نفسه لها إعدادا ماديا، وإعدادا نفسيا معنويا، فيحاول أن يعيد حساباته من جديد، ويصلح من نفسه ما كان فاسدا، وينتهي عما كان يقع فيه من معصية الله، ويصلح ما بينه وبين الناس، إذن : يجري عملية صقل خاصة تحوله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم، ويكون أهلا لرؤية بيت الله والطواف به.
ومن الإعداد للحج أن يتعلم الحاج ما له وما عليه، ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما يحرم عليه، وأنه سوف يتنازل عن هندامه وملابسه التي يزهو بها، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس، وكيف أن الإحرام يسوي بين الجميع.
يتعلم كيف يتأدب مع نفسه، ومع كل أجناس الكون من حوله٣، مع نفسه فلا يفكر في معصية، ولا تمتد يده حتى على شعرة من شعره، أو ظفر من أظافره ولا يقرب طيبا، ولا حتى صابونة لها رائحة.
والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الإحرام يحرص كل الحرص على هذه الأحكام، وأتحدى أي إنسان ينوي الحج ويأخذ في الإحرام به، ثم يفكر في معصية، لأنه يعد نفسه لمرحلة جديدة يتطهر فيها من الذنوب، فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلاد بعيدة ليتطهر منها ؟
وفي الحج يتأدب الحاج مع الحيوان، فلا يصيده ولا يقتله، ومع النبات فلا يقطع شجرا. يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره أدنى أجناس الكون، فيحرص على تقبيل الحجر الأسود، ويجتهد في الوصول إليه، فإن لم يستطع أشار إليه بيده.
إن الحج التزام وانضباط يفوق أي انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات كم هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته، وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تقبل حجرا وهي راضية خاضعة، بل ويحزن الإنسان إذا لم يتمكن من تقبيل الحجر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الحج ] :
يذكروا اسم الله، لأن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر الله وتلبيته، فما من عمل يؤديه الحاج إلا ويقول : لبيك اللهم لبيك. وتظل التلبية شاغله وديدنه إلى أن يرمي جمرة العقبة، ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن مشاغل الدنيا تطلبني، وأنت طلبتني لأداء فرضك علي، فأنا ألبيك أنت أولا، لأنك خالقي وخالق كل ما يشغلني ويأخذني منك.
والأيام المعلومات هي : أيام التشريق٤
ومعنى :﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الحج ] : أي : يشكرون الله على هذا الرزق الوقتي الذي يأكلون منه ويشربون، ويبيعون ويشترون في أوقات الحج. أو يشكرون الله على أن خلق لهم هذه الأنعام، وإن لم يحجوا، ففي خلق الأنعام- وهي الإبل والبقر والغنم والماعز- وتسخيرها للإنسان حكمة بالغة، ففضلا عن الانتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا الله واشكروه أن سخرها لكم، فلولا تسخير الله لها لما استطعتم أن تنتفعوا بها، فالجمل مثلا هذا الحيوان الضخم يقوده الطفل الصغير، وينيخه ويحمله في حين لم يستطع الإنسان تسخير الثعبان مثلا أو الذئب.
لذلك يقول تعالى :﴿ أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( ٨١ ) وذللناها لهم.. ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ].
لذلك نذكر الله ونشكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام استمتاعا بها أكلا، أو استمتاعا بها بيعا أو زينة، كما قال تعالى :﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ( ٦ ) ﴾ [ النحل ].
ولولا أن الله تعالى ذللها لخدمتك ما استطعت أنت تذليلها والانتفاع بها، لذلك من حكمة الله أن يترك بعض خلقه غير مستأنس، ولا يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تذلله لتظل على ذكر لهذه النعمة، وتشكر الله عليها.
وسبق أن ضربنا مثلا بالبرغوث، وهو من أدنى هذه المخلوقات، ولا تكاد تراه، ومع ذلك لا تقدر عليه، وربما أقض مضجعك، وأقلق نومك طوال الليل. وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده الصبي الصغير، إذا حرن٥ منك فلا تستطيع أن تجعله يسير رغما عنه، أو صال فلا يقدر عليه أحد، وقد يقتل صاحبه ويبطش بمن حوله.
إذن : لا قدرة لك عليه بذاتك، إنما بتذليل الله يمكن الانتفاع به، فتسوقه إلى نحره، فيقف ساكنا مستسلما لك.
والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها الله لنا يجد أمرها عجيبا، فالحيوان الذي أحله الله لك تظل تنتفع به طوال عمره، فإذا ما تعرض لما يزهق روحه، ماذا يفعل ؟ يرفع رأسه إلى أعلى، ويعطيك مكان ذبحه، وكأنه يقول لك : أنا في اللحظات الأخيرة فاجتهد في أن تنتفع بلحمي، وأهل الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون : طلب الحلال يعني الذبح. أما الحيوان الذي لا يذبح ولا يحله الله فيموت منكس الرأس، لأنه لا فائدة منه.
هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم.. الخ لو فكرت فيه لتغير رأيك، فالحمار الذي نتخذه رمزا للغباء وعدم الفهم تسوقه أمامك وتحمله القاذورات وتضربه فلا يعترض عليك ولا يخالفك، فإن نظفته وزينته بلجام فضة، وبردعة قطيفة تتخذه ركوبة وزينة ويسير بك ويحملك، وأنت على ظهره، فإن غضبت عليه واستخدمته في الأحمال وفي القاذورات تحمل راضيا مطيعا..
وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثلا للغباء، إذا أردت منه أن يقفز قناة أوسع من مقدرته وإمكانياته، فإنه يتراجع، ومهما ضربته وقسوت عليه لا يقدم عليها أبدا، لأنه يعلم مدى قفزته، ويعلم مقدرته، ولا يقدم على شيء فوق ما يطيق- وبعد ذلك نقول عنه : حمار.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فكلوا٦ منها وأطعموا البائس الفقير ( ٢٨ ) ﴾ [ الحج ] :
البائس : هو الذي يبدو على سحنته وشكله وزيه أنه فقير محتاج، أما الفقير فهو محتاج الباطن، وإن كان ظاهره اليسر والغنى، وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناس إليهم، وربما لا يعلمون حالهم وحاجتهم، وقد قال الله فيهم :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا.. ( ٢٧٣ ) ﴾ [ البقرة ].
والمعنى : كلوا مما يباح لكم الأكل منه، وهي الصدقة المحضة، أو الهدية للبيت غير المشروطة بشيء، يعني : لا هي دم قران أو تمتع، ولا هي فدية لمخالفة أمر من أمور الإحرام، أو كانت نذرا فهذه كلها لا يؤكل منها٧.
إذن : كلوا من الصدقة والتطوع، وأطعموا كذلك البائس والفقير، ومن رحمة الله بالفقراء أن جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحملون مشقة هذا كله، ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحا، يأتيه رزقه من فضل الله سهلا ميسرا.
لذلك يقولون : من شرف الفقير أن جعله الله ركنا من أركان إسلام الغني، أي : في فريضة الزكاة، ولم يجعل الغني ركنا من أركان إسلام الفقير.
١ - الهدي: الذبيحة تهدى إلى الحرم في الحج (القاموس القويم ٢/٣٠١) وهو مستحب للحاج المفر، والمعتمر المفرد، وواجب على القارن والمتمع، وكذلك على من ترك واجبا من واجبات الحج كرمي الجمار أو طواب الوداع وكذالك واجب على من ارتكب محظرا من محظورات الإحرام غير الوطء، كالتطبيب والحلق(انظر تفصيل هذا وشروط الهدي في كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق (١/٥٣١).
٢ - التمتع : هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم يحج من عامه الذي اعتمر فيه وسمى تمتعا للانتفاع بأداء النسكين في أشهر الحج في عام واحد، من غير أن يرجع إلى بلده، وصفة التمتع أن يحرم من الميقات بالعمرة وحدها ويقول عند التلبية "لبيك بعمرة" ويؤدي مناسك العمرة ثم يتحلل من إحرامه ويتمتع بك لما كان محرما عليه إلى أن يجيء يوم التروية فيحرم من مكة بالحج، وهذا يجب عليه الهدي (فقه السنة ١/٣٦٥، ٣٦٦).
٣ - يقصد صيد المحرم بالحج أو العمرة يقول تعالى:﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم...﴾ (المائدة٩٥) ويقول أيضا ﴿أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما...﴾(المائدة٩٦).
٤ - ذكر ابن كثير في تفسيره (٣/٢١٧) أربعة أقوال في تأويل الأيام المعلومات:
- أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة. قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري ومجاهد وغيرهم وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل.
- يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو أيام ١٠. ١١. ١٢. ١٣ من شهر ذي الحجة وهي المسماة بأيام التشريق. قاله ابن عباس وابن عمر وإليه دهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
- يوم النحر ويومان بعده قاله ابن عمر والسدي وهو مذهب مالك.
- يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. قاله زيد ابن أسلم أي أيام ٩. ١٠. ١١. ١٢ ١٣ من شهر ذي الحجة..

٥ - حرنت الناقة: قامت فلم تبرح (أي : رفضت السير) لا تنقاد إذا استدر (طلب منها ) جريها وقفت (لسان العرب –مادة : حرن).
٦ - قال أبو بكر الجصاص (ت٣٧٠ هـ) في كتابه " أحكام القرآن" ط. دار الكتب العلمية (٣/٣٠٧): "ظاهره يقتضي إيجاب الأكل. إلا أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب، وقد روي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل"..
٧ - قال الجصاص في " أحكام القرآن" (٣/٣٠٧) الناس في در القرآن والمتعة على قولين: منهم من لا يجيز الأكل منه. ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه" وقال الشافعي في كتاب الأم(٢/٣٤): "الهدي هديان: واجب وتطوع، فكل ما كان أصله واجبا على إنسان ليس له حبسه، فلا يأكل منه شيئا وذلك مثل : هدي الفساد والطيب وجزاء الصيد والنذور والمتعة، وإن أكل من الهدي الواجب تصدق بقيمة مت أكل منه، وكل ما كان أصله تطوعا مثل الضحايا والهدايا تطوعا أكل منه وأطعم وأهدى وادخر وتصدق وأحب إلي أن لا يأكل ولا يحبس إلا ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ثم ليقضوا تفثهم١ وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( ٢٩ ) ﴾ :
﴿ ليقضوا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ] : كلمة قضاء تقال، إما لقضاء الله الذي يقضيه على الإنسان مثلا، وهو أمر لازم محكوم به، وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين، وأول شيء في مهمة القضاء أن يقطع الخصومة، كأن المعنى ﴿ ليقضوا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ] : أي : يقطعوا.
ومعنى ﴿ تفثهم.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ] : لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش، ولم تكن دائرة على ألسنتهم، فسألوا عنها أهل البادية، فقالوا : التفث يعني : الأدران والأوساخ التي تعلق بالجسم، فقالوا : والله لم نعرفها إلا ساعة نزل القرآن بها.
فالمراد- إذن- ليقطعوا تفثهم أي الأدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام، حيث يمكث الحاج أيام الحج محرما لا يتطيب، ولا يأخذ شيئا من شعره أو أظافره، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هديه يجوز له أن يقطع هذا التفث، ويزيل هذه الأدران بالتحلل من الإحرام، وفعل ما كان محظورا عليه.
وقوله تعالى :﴿ وليوفوا نذورهم.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ] إن كان قد نذر لله شيئا فعليه الوفاء به.
﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : طواف الإفاضة، والطواف : أن تدور حول شيء بحيث تبدأ وتنتهي، وتبدأ وتنتهي، وهكذا، وقد وصف البيت بأنه عتيق، وكلمة عتيق استعملت في اللغة استعمالات واسعة، منها : القديم، وما دام هو أول بيت وضع للناس فهو إذن قديم، والقدم هنا صفة مدح، لأنها تعني الشيء الثمين الذي يحافظ عليه ويهتم به.
كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات " مثل : التحف وغيرها، وكلما مر عليها الزمن زادت قيمتها، وغلا ثمنها.
والعتيق : الشيء الجميل الحسن، والعتيق : المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره، فما المراد بوصف البيت هنا بأنه عتيق ؟
وصف البيت بالقدم يشمل كل هذه المعاني : فهو قديم، لأنه أول بيت وضع للناس، وهو غال ونفيس ونادر حيث نرى فيه ما لا نراه في غيره من آيات، ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر الذنوب، وهو بيت الله الذي لا مثيل له.
وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير، لأن الله حفظه من اعتداء الجبابرة، ألا ترى قصة الفيل، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هدمه ؟ حتى الفيل الذي كان يتقدم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداء على بيت الله، فتراجع عن البيت، وأخذ يتوجه أي وجهة أرادوا إلا ناحية الكعبة.
ويقال : إن رجلا٢ تقدم إلى الفيل. وقال في أذنه : ابرك محمود- اسم الفيل- وارجع راشدا فإنك ببلد الله الحرام. وقد عبر الشاعر٣ عن هذا الموقف، فقال :
حبس الفيل بالمغمس حتى ظل يعوي كأنه معقور٤
ثم ينزل الله عليهم الطير الأبابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت.
لذلك لما ذهب عبد المطلب جد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليكلم أبرهة في الإبل المائة التي أخذها من إبله، قال أبرهة : لقد كنت أهابك٥ حين رأيتك، لكنك سقطت من نظري لما كلمتني في مائة بعير أصبتها لك، وتركت البيت الذي فيه مجدكم وعزتكم.
فماذا قال عبد المطلب ؟ قال : أما الإبل فإنها لي، أما البيت فله رب يحميه.
البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية، وليست هذه سلبية من كبير قريش، إنما ثقة منه في حماية الله لبيته، لذلك رده إلى أقوى منه، وكأنه قال : إن كنت أحميه أنا، فسأحميه بقوتي وقدرتي وحيلتي، لكنني أريد أن أرعبه بقدرة الله وقوته، وما سلمت البيت إلا وأنا واثق أن رب البيت سيحميه، وهذه تزلزل العدو وتربكه.
وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلام، لما قال له قومه :﴿ إنا لمدركون ( ٦١ ) ﴾ [ الشعراء ] : فقال في يقين وثقة :﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾ [ الشعراء ].
إذن : لم يكن عبد المطلب سلبيا كما يتهمه البعض، بل كان إيجابيا من النوع الراقي، فلو كان إيجابيا بالمعنى الذي تريدون لأعطته هذه الإيجابية منعة بقوته هو، إنما تصرفه وما تعتبرونه سلبية أعطاه منعة بقدرة الله وقوته سبحانه، لذلك تدخلت فورا جنود السماء.
لكن، لماذا الطواف والدوران حول الكعبة ؟.
قالوا : لأن المسلم وهو غائب عن الكعبة يصلي لجهتها، كل حسب موقعه منها، فتجد المسلمين في كل أنحاء العالم يتجهون نحوها، كل من ناحية، هذا من الشمال، وهذا من الجنوب، وهذا من الشرق، وهذا من الغرب، يعني بكل الجهات الأصلية والفرعية.
فإذا ما ذهبت إلى الكعبة ذاتها، وتشرفت برؤيتها، فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنت تتجه إليه في صلاتك وغيرك وغيرك ؟ إذن : فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك، كما قال تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله.. ( ١١٥ ) ﴾ [ البقرة ] : فليس هناك مكان أولى من مكان، لذلك نطوف حول البيت.
١ - قال الزجاج: لا يعرف أهل التفث إلا من التفسير: وقال أبو عبيدة : لم يجيء فيه شعر يحتج به، وقال ابن الأعرابي ﴿ثم ليقضوا تفثهم...﴾(الحج٢٩) قال : قضاء حوائجهم من الحلق والتنظيف (لسان العرب مادة: تفث).
٢ - هو : نفيل بن حبيب الخثعمي فيما ذكره ابن هشام في السيرة النبوية(١/٥٢).
٣ - هو: أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي..
٤ - ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (١/٦٠) هذا البيت ضمن أبيات أخرى لأمية بن أبي الصلت..
٥ - ويذكر ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٩) أن عبد المطلب كان أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فملا رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه؟.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان١ واجتنبوا قول الزور ( ٣٠ ) ﴾ :
﴿ ذلك.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : إشارة إلى الكلام السابق بأنه أمر واضح، لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي، فهنا استئناف كلام على كلام سابق، فبعد الكلام عن البيت وما يتعلق به من مناسك الحج يستأنف السياق :
﴿ ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : فالحق- سبحانه- يريد لعبده أن يلتزم أوامره بفعل الأمر واجتناب النهي، فكل أمر لله يحرم عليك أن تتركه، وكل نهي يحرم عليك أن تأتيه، فهذه هي حرمات الله التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة الأمر واجتناب النهي.
وحين تعظم هذه الحرمات لا تعظمها لذاتها، فليس هناك شيء له حرمة في ذاته، إنما تعظمها لأنها حرمات الله وأوامره، لذلك قد يجعل الالتزام بها متغيرا، وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضا في الظاهر.
فالوضوء مثلا، البعض يرى فيه نظافة للبدن، فإذا انقطع الماء وعدم وجوده حل محله التيمم بالتراب الطاهر الذي نغبر به أعضاء التيمم، إذن : ليس في الأمر نظافة، إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مقبل على أمر غير عادي يجب عليك أن تتطهر له بالوضوء، فإن أمرتك بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعلته.
وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها، لأنها من الله، ولم لا ونحن نرى مثل هذا الالتزام أو رياضة التأديب في الالتزام في تعاملاتنا الطبيعية الحياتية، فمثلا الجندي حين يجند يتعلم أول ما يتعلم الانضباط قبل أن يمسك سلاحا أو يتدرب عليه، يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة مهما كانت الظروف فلو لدغه عقرب لا يتحرك.
ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول : ثابت فينفذ الجميع.. الملعقة التي في الطبق تظل في الطبق، والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه، فلا ترى في الصالة الواسعة حركة واحدة. وهذا الانضباط الحركي السلوكي مقدمة للانضباط في الأمور العسكرية الهامة والخطيرة بعد ذلك.
إذن : فربك- عز وجل- أولى بهذا الانضباط، لأن العبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة، لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقيادا لأمر الله، ففي الطواف تقبل الحجر الأسود، وفي رمي الجمار ترمي حجرا، وهذا حجر وذاك حجر، هذا ندوسه وهذا نقبله فحجر يقبل وحجر يقنبل، لأن المسألة مسألة طاعة والتزام، هذا كله من تعظيم حرمات الله.
لذلك الإمام علي- رضي الله عنه- يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم : لو أن الأمر كما نرى لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهرها٢، لأن الأوساخ تعلق بباطن القدم أولا.
وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن الحرمات خمس : البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والمشعر الحرام، والشهر الحرام، وحرمات الله هي الأشياء المحرمة التي يجب ألا تفعلها.
ثم يبين الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام :﴿ فهو خير له عند ربه.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : الخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته، إنما الخيرية للعبد عند الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : قد تقول : كيف وهي حلال من البداية وفي الأصل، قالوا : لأنه لما حرم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائما فلا ينتفعون بها، فبين سبحانه أنها حلال إلا ما ذكر تحريمه، ونص القرآن عليه في قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة٣ والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام.. ( ٣ ) ﴾ [ المائدة ].
وقوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق.. ( ١٢١ ) ﴾ [ الأنعام ].
ومعنى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : الرجس : النجاسة الغليظة المتغلغلة في ذات الشيء. يعني : ليست سطحية فيه يمكن إزالتها، وإنما هي في نفس الشيء لا يمكن أن تفصلها عنه.
﴿ واجتنبوا.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ] : لا تدل على الامتناع فقط، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية، لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بد أن تداعبك وتشغل خاطرك، ومن حام حول الشيء يوشك أن يقع فيه، لذلك لم يقل- الحق- سبحانه وتعالى- امتنعوا إنما قال : اجتنبوا، ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون : إن الأمر في اجتنبوا لا يعني تحريم الخمر، فلم يقل : حرمت عليكم الخمر.
نقول : اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حرمت عليكم، لو قال الحق- تبارك وتعالى- حرمت عليكم الخمر، فهذا يعني أنك لا تشربها، ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها وتبيعها، أما اجتنبوا فتعني : احذروا مجرد الاقتراب منها على أي وجه من هذه الوجوه.
لذلك، تجد الأداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الأوامر والنواهي من الله يفرق بين حدود ما أحل الله وحدود ما حرم، ففي الأوامر يقول :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها.. ( ٢٢٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي النواهي يقول :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها.. ( ١٨٧ ) ﴾ [ البقرة ].
ففي الأوامر وما أحل الله لك قف عند ما أحل، ولا تتعداه إلى غيره، أما المحرمات فلا تقترب منها مجرد اقتراب، فلما أراد الله نهي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة قال لهما :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ البقرة ].
وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجس في عبادة الأصنام قال :﴿ واجتنبوا قول الزور ( ٣٠ ) ﴾ [ الحج ]. فقرن عبادة الأوثان بقول الزور، كأنهما في الإثم سواء، لذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سلم يوما من صلاة الصبح، ثم وقف وقال : " ألا وإن شهادة الزور جعلها الله بعد الأوثان " ٤.
لماذا ؟ لأن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم، فساعة يقول : ليس للكون إله، فهذه شهادة زور، وقائلها شاهد زور، ساعة يقول : الإله له شريك فهذه شهادة زور، وقائلها شاهد زور، كذلك حين يظلم أو يغير في الحقيقة، أو يذم الآخرين، كلها داخلة تحت شهادة الزور.
ولما عدد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الكبائر، قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس- فقال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور، قال الراوي : فما زال يكررها حتى قلنا ( ليته سكت ) أو حتى ظننا أنه لا يسكت " ٥.
ويقولون في شاهد الزور : يا شاهد الزور أنت شر منظور، ضللت القضاة، وحلفت كاذبا بالله.
ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر من شهد لصالحه، فرغم أنه شهد لصالحك، ورفع رأسك على خصمك لكن داست قدمك على كرامته وحقرته، ولو تعرض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول من تفضحه بأنه شهد زورا لصالحك.
١ - الأوثان: جمع وثن. وهو التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها وكانت العرب تنصبها وتعبدها، والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو تمثال أيضا، وقال عدي ابن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ألق هذا الوثن عنك" أي: الصليب وأصله من وثن الشيء أي: أقام في مقامه.(تفسير القرطبي٦/٤٥٨٥).
٢ - روى أبو داود في سننه )١٦٢) عن علي بن أبي طالب أنه قال: ولو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، و في رواية أخرى (١٦٣) لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما..
٣ - المنخنقة : البهيمة التي التف حبلها حول عنقها فخنقها فماتت والموقوذة : هي الحيوان الذي وقذ (ضرب) بعصا أو بحجر حتى مات قبل أن يذكى ذكاة شرعية، والمتردية: هي التي ماتت بسبب سقوطها في حفرة، والنطيحة: ما ماتت بسب النطح. (القاموس القويم).
٤ - عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما انصرف قائما قال: عدلت شهادة الزور الاشرال بالله (ثلاث) ثم تلا هذه الأية ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور﴾(الحج٣٠) أخرجه أحمد في مسنده (٣/٣٢١) والترمذي في سننه (٢٣٠٠) وأبو داود في سننه (٣٥٩٩).
٥ - حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (٥٩٧٦) وكذا مسلم في صحيحه (٨٧) من حديث أبي بكرة، قال ابن دقيق العيد: "اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا: لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذ١لك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ :
اكتفت الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال، وهما حنفاء الله، غير مشركين به. وحنفاء : جمع حنيف، مأخوذة من حنف الرجل يعني : تقوسها وعدم استقامتها، فيقال : فيه حنف أي : ميل عن الاستقامة، وليس الوصف هنا بأنهم معوجون، إنما المراد أن الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة.
لذلك وصف إبراهيم- عليه السلام- بأنه ﴿ كان حنيفا.. ( ٦٧ ) ﴾ [ آل عمران ] : يعني : مائلا عن عبادة الأصنام.
وقلنا : إن السماء لا تتدخل برسالة جديدة إلا حين يعم الفساد القوم، ويستشري بينهم الضلال، وتنعدم أسباب الهداية، حيث لا واعظ للإنسان لا من نفسه وضميره، ولا من دينه، ولا من مجتمعه وبيئته، ذلك لأن في النفس البشرية مناعة للحق طبيعية، لكن تطمسها الشهوات، فإذا عدم هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخلت السماء بنبي جديد، ورسالة جديدة، وإنذار جديد، لأن الفساد عم الجميع، ولم يعد أحد يعظ الآخر ويهديه.
وهذا المعنى الذي قال الله فيه :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( ٧٩ ) ﴾ [ المائدة ].
ومن هنا شهد الله لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنها خير أمة أخرجت للناس، لأن المناعة للحق فيها قائمة، ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير، ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم، لذلك قال فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة " ١
والمعنى : الخير في حصرا وفي أمتي نثرا، فرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جمع خصال الخير كله، وخصه الله بالكمال، لكن من يطيق الكمال المحمدي من أمته ؟ لذلك نثر الله خصال الخير في جميع أمة محمد، فأخذ كل واحد منهم صفة من صفاته، فكماله ( صلى الله عليه وسلم ) منثور في أمته : هذا كريم، وهذا شجاع، وهذا حليم.. إلخ.
ولما كان لأمة محمد هذا الدور كان هو خاتم الأنبياء، لأن أمته ستؤدي رسالته من بعده، فلا حاجة- إذن- لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة.
إذن نقول : الرسل لا تأتي إلا عند الاعوجاج، يأتون هم ليقوموا هذا الاعوجاج، ويميلون عنه إلى الاستقامة، هذا معنى الحنيف أو ﴿ حنفاء لله.. ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ].
وهذه الصفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله لا على أوامر البشر، فنحن لا نضع لأنفسنا أسباب الكمال ثم نقول : ينبغي أن يكون كذا وكذا، لا إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق.
والحق- سبحانه وتعالى- ليس مراده من الفعل أن يفعل لذاته ولمجرد الفعل، إنما مراده من الفعل أن يفعل لأنه أمر به، وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس والمجتمع، لكن ليس من منطلق الدين وأمر الله، إنما من منطلق الإنسانية والمكانة الاجتماعية والمهابة والمنزلة بين الناس، ومثل هذا لا يجحفه الله حقه، ولا يبخسه ثواب عمله، يعطيه لكن في الدنيا عملا بقول الله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( ٣٠ ) ﴾ [ الكهف ].
لكن لا حظ لهؤلاء في ثواب الآخرة، لأنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة، وقد أخذوا المقابل في الدنيا شهرة وصيتا ذائعا، ومكانة وتخليدا.
وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم : " لقد فعلت ليقال وقد قيل " ٢ انتهت المسألة.
والحق- تبارك وتعالى- ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلاء، فقال :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( ٣٩ ) ﴾ [ النور ].
فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد، يظن من وراءه الخير، وهو ليس كذلك، حتى إذا ما عاين الأمر لم يجده شيئا، وفوجئ بوجود إله عادل لم يكن في باله يوم عمل ما عمل.
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء.. ( ١٨ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وقال :﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان٣ عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ( ٢٦٤ ) ﴾ [ البقرة ].
وهل ينبت المطر شيئا إذا نزل على الحجر الصلد الأملس ؟ هكذا عمل الكافر، فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى ﴿ حنفاء لله.. ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ] : ويعمل من منطلق أن الله أمر.
إذن : العمل لا يفعل، لأنه حسن في ذاته، إنما لأن الله أمرك به، بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور لا تجد فيها حسنا، ومع ذلك عليك أن تلتزم بها لتحقق الانضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم، وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحسن في هذا العمل، وتعلم الحكمة منه.
خذ مثلا موقف الإسلام من اليتيم، وقد حث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على رعايته وإكرامه وكفالته حتى أنه قال : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " ٤ فكافل اليتيم قرين لرسول الله في الجنة.
ففي هذا الموقف حكم كثيرة، قد لا يعلمها كثير من الناس، لأن اليتيم فقد أباه وهو صغير، ونظر فلم يجد له أبا، في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم، فإذا لم يجد هذا الصغير حنانا من كل الناس كأنهم آباؤه لتربى عنده شعور بالسخط على الله والاعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره من حنان الأب ورعايته.
لذلك يريد الإسلام أن ينشأ اليتيم نشأة سوية في المجتمع، لا يسخط على الله، ولا يسخط على الناس، لأنهم جميعا عاملوه كأنه ولد لهم.
وهناك ملحظ آخر : حين ترى مكانة اليتيم، وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إن فاجأك الموت وأولادك صغار، هذه مناعات يجعلها الإسلام في المجتمع : مناعة في نفس اليتيم، ومناعة فيمن يرعاه ويكفله.
وكفالة اليتيم وإكرامه لا بد أن تتم في إطار ﴿ حنفاء لله.. ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ] : فيكون عملك لله خالصا، دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا، كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله، أو أن له مطمعا في أمه.. إلخ فهذا عمله كالذي قلنا :( كسراب بقيعة ) أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر أملس صلد لا ينبت شيئا.
فإن حاول الإنسان إخلاص النية لله في مثل هذا العمل فإنه لا يأمن أن يخالطه شيء، كما جاء في الحديث الشريف : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " ٥
الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين :﴿ غير مشركين به.. ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ] : فالشرك أمر عظيم، لأن الحق- تبارك وتعالى- كما قال في الحديث القدسي- أغنى الشركاء عن الشرك، فكيف تلجأ إلى غير الله والله موجود ؟
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه " ٦
ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك :﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ] :
خر : يعني سقط من السماء لا يمسكه شيء، ومنه قوله تعالى :﴿ فخر عليهم السقف من فوقهم.. ( ٢٦ ) ﴾ [ النحل ].
وفي الإنسان جمادية، لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه، فإن صعد إلى أعلى لا بد أن يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية، لا يملك أن يمسك نفسه معلقا في الهواء، فهذا أمر لا يملكه وخارج استطاعته، وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو، وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز، وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل، وبهذه كرم عن سائر الأجناس.
وتلحظ أن ( خر ) ترتبط بارتفاع بعيد ﴿ خر من السماء.. ( ٣١ ) ﴾ [ الحج ] : بحيث لا تستطيع قوة أن تحميه، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره، وقبل أن يصل إلى الأرض تتخطفه الطير، فإن لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به، فهو هالك هالك لا محالة، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.
وعلى العاقل أن يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير، فهذه حال من أشرك بالله، فإن أخذت الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة، فها هي الصورة أمامك واضحة، وإن أردت تفسيرا آخر يوضح أجزاءها : فالسماء هي الإسلام، والطير هي الشهوات، والريح هي ريح الشيطان، يتلاعب به هنا وهناك. فأي ضياع بعد هذا ؟ ومن ذا الذي ينقذه من هذا المصير ؟.
١ - أورده السيوطي في "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (حديث ٢٢٠) وقال: قال حافظ ابن حجر : لا أعرفه" وقال ابن حجر المكي في الفتاوى الحديثية: لم يرد بهذا اللفظ وإنما يدل على معناه الخبر المشهور: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" نقله العجلوني في كشف الخفاء (١/٣٧٦).
٢ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار؟ أخرجه مسلم في صحيحه(١٩٠٥) وأحمد في مسنده (٢/٣٢٢) والنسائي في سننه (٦/٢٣، ٢٤) وذكر مثلين آخرين : رجل تعلم العلم وعلمه، ورجل وسع الله عليه، وقد شرحه فضيلة الشيخ الشعرواي تفصيلا في الأحاديث القدسية ١/١٣٥ -١٥١..
٣ - الصفوان: الحج الأملس الذي لا يصلح للزرع، ومثله الصلد والوابل: المطر الغزير (القاموس القويم).
٤ - أخرجه البخاري في صحيحه (٥٣٠٤، ٦٠٠٥) وأبو داود في سننه (٥١٥٠) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
٥ - ذكره ابن رجب الحنبلي في كتابه "جامع العلوم الحكم" (ص٢٧) من دعاء مطرف ابن عبد الله أنه كان يقول: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالك قلبي منه ما قد علمت..
٦ - أخرجه مسلم في صحيحه (٢٩٨٥) وابن ماجة في سننه (٤٢٠٢) واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ( ٣٢ ) ﴾ :
﴿ ذلك.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الحج ] : كما قلنا في السابقة : إشارة إلى الكلام السابق الذي أصبح واضحا معروفا، ونستأنف بعدها كلاما جديدا تنبه له.
﴿ ومن يعظم شعائر الله.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الحج ] : الشعائر : جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، فالإحرام شعيرة، والتكبير شعيرة، والطواف شعيرة، والسعي شعيرة، ورمي الجمار شعيرة.. إلخ. وهذه أمور عظمها الله، وأمرنا بتعظيمها١.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فعله، أو أدائه، أو عمله، عظم الشعائر يعني : أداها بحب وعشق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طلب منه.
ومثالنا في ذلك : خليل الله إبراهيم، عندما أمره الله أن يرفع قواعد البيت : كان يكفيه أن يبني على قدر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدى ما أمر به، لكنه عشق هذا التكليف وأحبه فاحتال للأمر ووضع حجرا على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر الله مرقى من مراقي الإيمان، يجب أن نسمو إليه، حتى في العمل الدنيوي : هب أنك نقلت إلى ديوان جديد، ووصل إلى علمك أن مدير هذا الديوان رجل جاد وصعب، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فيمنع التأخير أو التسيب أثناء الدوام الرسمي، فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات حرفيا، بل وتزيد عليها ليس حبا في العمل، ولكن حتى لا تسئل أمام هذا المدير في يوم من الأيام.
إذن : الهدف أن نؤدي التكاليف بحب وعشق يوصلنا إلى حب الله عز وجل، لذلك نجد من أهل المعرفة من يقول : رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا٢.
فالمهم أن نصل إلى الله، أن نخضع لله، أن نذل لعزته وجلاله، والمعصية التي توصلك إلى هذه الغاية خير من الطاعة التي تسلمك للغرور والاستكبار.
هذه المحبة للتكاليف، وهذا العشق عبر عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حينما قال : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " ٣ لذلك نعى القرآن على أولئك الذين ﴿ إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( ١٤٢ ) ﴾ [ النساء ].
وابنته فاطمة٤- رضي الله عنها- كانت تجلو الدرهم وتلمعه، فلما سألها رسول الله عما تفعل، قالت : لأنني نويت أن أتصدق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير. هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب.
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء، وبآخرهم خروجا من المسجد بعد أداء الصلاة، ولك أن تقيس حال هؤلاء بحالنا اليوم، هؤلاء قوم عظموا شعائر الله فلم يقدموا عليها شيئا.
وقد بلغ حب التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أن قال : لقد أصبحت أخشى ألا يثيبني الله على طاعته، فسألوه : ولماذا ؟ قال : لأنني أصبحت أشتهيها يعني : أصبحت شهوة عندي، فكيف يثاب- يعني- على شهوة ؟.
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرحب والسعة دون جدال ولا مناقشة، وكيف يناقشون أمر الله وهم يعظمونه ؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في أمور فعلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل تعدد زوجاته مثلا ويعترضون، بل ومنهم من يتهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا يليق.
نقول لهم : ما دمتم آمنتم بأنه رسول الله، فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم. وتقولون : كان ينبغي أن يفعل كذا، ولا يفعل كذا ؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به فعل رسول الله ؟ المفروض أن الكمال منه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن ناحيته، لا من ناحيتكم.
ثم يقول سبحانه :﴿ فإنها من تقوى القلوب ( ٣٢ ) ﴾ [ الحج ] : ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محل نظر الله إليك، ومحل قياس تعظيمك لشعائر الله.
وسبق أن ذكرنا أن الله تعالى لا يريد أن يخضع قوالبنا، إنما يريد أن يخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أن تخضع القوالب لخضعت له راغمة، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾ [ الشعراء ].
وأنت تستطيع أن ترغم من هو أضعف منك على أي شيء يكرهه، إن شئت سجد لك، لكن لا تملك أن تجعل في قلبه حبا أو احتراما لك، لماذا ؟ لأنك تجبر القالب، أما القلب فلا سلطة لك عليه بحال.
١ - هناك قول آخر في تفسير هذه الآية، فالمقصود بشعائر الله هنا: البدن والهدي الذي يهدي إلى الكعبة. وتعظيم شعائر الله هنا معناه: استعظام البدن واستسمانها. واستحسانها. [راجع الآثار التي أوردها السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦/٤٦) عن ابن عباس ومجاهد]..
٢ - من حكم ابن عطاء الله السكندري، ذكره عبد العال كحيل في كتابه "أبو العينين الدسوقي" ص ٧٦- دار الشعب القاهرة..
٣ - أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي في سننه (٧/٦١) والحاكم في مستدركه (٢/١٦٠) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وتمام الحديث "حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب"..
٤ - هي: فاطمة بنت رسول الله محمد بن عبد الله، أمها خديجة بنت خويلد، ولدت ١٨ ق ه، تزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الثامنة عشرة من عمرها، وولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، عاشت بعد أبيها ستة أشهر. توفيت ١١ ه عن ٢٩ عاما. الأعلام للزركلي (٥/١٣٢)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ( ٣٣ ) ﴾ :
يعني : ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظموها، لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي، لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل.
ومعنى ﴿ إلى أجل مسمى.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الحج ] : ما دام الحق- سبحانه وتعالى- ذيل الآية بقوله ﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ( ٣٣ ) ﴾ [ الحج ] : إذن : فالمراد هنا شعيرة الذبح، ولا يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ونتخذها زينة وركوبة.
كل هذا ﴿ إلى أجل مسمى.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : زمن معلوم، وهو حين تقول وتنوي : هذه هدية للحرم، ساعة تعقد هذه النية فليس لك الانتفاع بشيء منها، لا أنت ولا غيرك١ : لذلك يميزونها بعلامة حتى إن ضلت من صاحبها يعرفون أنها مهداة لبيت الله، فلا يأخذها أحد٢.
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى، فلا بد أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ( ٣٣ ) ﴾ [ الحج ] : أي : بعد هذا الأجل المسمى ينتهي بها المطاف عند الحرم حيث تذبح هناك.
وقد كان للعلماء٣ كلام حول هذه الآية :﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ( ٣٣ ) ﴾ [ الحج ] : حيث قالوا : محل الذبح في منى، وليس في مكة، والآية تقول : محلها البيت العتيق.
نقول : الأصل كما جاء في الآية أن الذبح في مكة وفي الحرم، إلا أنهم لما استقذروا الذبح في الحرم بسبب ما يخلفه من قاذورات ودماء وخلافه نتيجة هذه العملية، فرؤي أن يجعلوا الذبح بعيدا عن الحرم حتى يظل نظيفا، وهذا لا يمنع الأصل، وهو أن يكون الذبح في الحرم، كما جاء في آية أخرى :﴿ هديا بالغ الكعبة.. ( ٩٥ ) ﴾ [ المائدة ].
وفي الحديث الشريف : " مكة كلها منحر " ٤.
١ - قال ابن عباس: ما لم يسم بدنا، وقال مجاهد: المنافع الركوب واللبن والولد فإذا سميت بدنا أو هديا ذهب ذلك كله. وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا إذا احتاج إلى ذلك كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلا يسوق بدنة قال: اركبها. قال: إنها بدنة. قال: "اركبها ويحك" [قاله ابن كثير في تفسيره ٣/٢٢٠]..
٢ - وهو قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد.. (٢)﴾ [المائدة]. قال ابن كثير في تفسيره (٢/٤): "يعني: لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها"..
٣ - هناك قولان في تفسير هذه الآية، في عود الضمير في (محلها):
- البدن والهدي، أي: إلى يوم النحر تنحر بمنى. [عن عطاء]. وإذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها [عكرمة]. وهذا ما أخذ به فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله.
- شعائر ومناسك الحج. أي: أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. قاله القرطبي في تفسيره (٦/٤٥٨٨)..

٤ - عن جابر بن عبد الله أنه قال: نحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحلق وجلس للناس، فما سئل عن شيء إلا قال: لا حرج لا حرج، حتى جاءه رجل فقال: حلقت قبل أن أنحر. قال: لا حرج. ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أرمي قال: لا حرج قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "عرفة كلها موقف، والمزدلفة كلها موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر" أخرجه أحمد في مسنده (٣/٣٢٦) والدارمي في سننه (٢/٥٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فألهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ( ٣٤ ) ﴾ :
المنسك : هو العبادة، كما جاء في قول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) ﴾ [ الأنعام ].
ومعنى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكا.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : لأن الشعائر والمناسك والعبادات ليس من الضروري أن تتفق عند جميع الأمم، بل لكل أمة ما يناسبها، ويناسب ظرفها الزمني والبيئي.
لذلك، فإن الرسل لا تأتي لتغير القواعد والأسس التي يقوم عليها الدين، لأن هذه القواعد وهذه الأسس ثابتة في كل رسالات السماء، لا تتبدل ولا تتغير بتغير الرسل.
يقول تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ].
هذا في الأصول العقدية الثابتة، أما في الفرعيات فنرى ما يصلح المجتمع، وما يناسبه من طاعات وعبادات.
ثم يبين الحق سبحانه الحكمة من هذه المناسك :﴿ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : أي : يذكروا الله في كل شيء، ويشكروه على كل نعمة ينالونها من بهيمة الأنعام.
لذلك نذكر الله عند الذبح نقول : بسم الله، الله أكبر، لماذا ؟ لأن الذبح إزهاق روح خلقها الله، وما كان لك أن تزهقها بإرادتك، فمعنى " بسم الله والله أكبر " هنا أنني لا أزهق روحها من عندي، بل لأن الله أمرني وأباحها لي، فالله أكبر في هذا الموقف من إرادتك، ومن عواطفك.
ونرى البعض يأنف من مسألة الذبح هذه، يقول : كيف تذبحون هذا الحيوان أو هذه الدجاجة ؟ يدعي الرحمة والشفقة على هذه الحيوانات، لكنه ليس أرحم بها من خالقها، وما ذبحناها إلا لأن الله أحلها، وما أكلناها إلا بسم الله، بدليل أن ما حرمه الله علينا لا نقرب منه أبدا.
وهل أنا أكرم القطة عن الأرنب، فأذبح الأرنب وأترك القطة ؟ وهل أحترم الكلب عن الخروف ؟ أبدا، المسألة مسألة تشريع وأمر ثبت عن الله، فعلي أن أعظمه وأطيعه.
وقوله تعالى :﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : الرزق يعني : أنه تعالى أوجدها لك، وملكك إياها، وذللها لك فاستأنستها وسخرها لك فانتفعت بها، ولولا تسخيره ما انقادت لك بقوتك وقدرتك.
ثم يقول سبحانه :﴿ فإلهكم إله واحد.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : إن اختلفت الشرائع من أمة لأمة فإياك أن تظن أن هذا من إله، وهذا من إله آخر، إنما هو إله واحد يشرع لكل أمة ما يناسبها وما يصلحها، لأن التشريعات السماوية تأتي علاجا لآفات اجتماعية.
والأصل الأصيل هو إيمان بإله واحد فاعل قادر مختار، يبلغ عنه رسول بمعجزة تبين صدقه في التبليغ عن الله. هذا أصل كل الديانات السماوية، كذلك قواعد الدين وأساسياته واحدة متفق عليها، فالسرقة والزنا وشهادة الزور.. إلخ كلها محرمة في كل الأديان.
لكن، هناك أمور تناسب أمة، ولا تناسب أخرى، والمشرع للجميع إله واحد، الناس جميعا من لدن آدم وإلى أن تقوم الساعة عياله، وهم عنده سواء، لذلك يختار لكل ما يصلحه.
ألا ترى رب الأسرة كيف ينظم حياة أولاده- ولله المثل الأعلى- فيقول : هذا يفعل كذا، وهذا يفعل كذا، وإذا جاء الطعام قال : هذا يأكل كذا وكذا لأنه مريض مثلا، لا يناسبه طعام الآخرين، ويأمر الأم أن تعد لهذا المريض ما يناسبه من الطعام. ذلك لأنه راع للجميع مسئول عن الجميع، وعليه أن يراعي مصلحة كل واحد منهم على حدة١.
إذن : اختلاف التشريعات في هذه المسائل الجزئية بين الأمم لا يعني تعدد الآلهة كلا وحاشا لله، بل هو إله واحد، يعطي عباده كلا على حسب حاجته، كي يتوازن المجتمع ويستقيم حاله.
نذكر أنه كان عند طبيب الوحدة الصحية دورقان، في كل منهما مزيج معين، وكان يعطي كل المرضى مع اختلاف أمراضهم من هذين النوعين فقط، لذلك كانت عديمة الجدوى، أما الآن فالطبيب الماهر لا بد أن يجري على مريضه الفحوص والتحاليل اللازمة ليقف على مرضه بالتحديد، ثم يصف العلاج المناسب لهذه الحالة بمقادير دقيقة تبرئ المرض ولا تضر المريض من ناحية أخرى.. كذلك الأمر في اختلاف الشرائع السماوية بين الأمم.
وما دام أن إلهكم إله واحد، وما دمتم عنده سواء، وليس منكم من هو ابن الله، ولا بينه وبين الله قرابة. إذن :﴿ فله أسلموا.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : أسلموا كل أموركم لله، فإن أمر فعظموا أمره، وخذوه على الرحب والسعة، فإن ترك مجالا لاختيارك فاصنع ما تشاء. ولا تنس أن الله تعالى أعطاك فرصة للترقي الإيماني، وللترقي الإحساني، وفتح لك مجال الإحسان إن أردت.
ثم يقول سبحانه :﴿ وبشر المخبتين ( ٣٤ ) ﴾ [ الحج ] : المخبت : في المعنى العام : يعني الإنسان الخاشع الخاضع المتواضع لكل أوامر الله، والمعنى الدقيق للمخبت : هو الذي إذا ظلم لا ينتصر لنفسه، عملا بقول الله تعالى :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ الشورى ] : هكذا بلام التوكيد.
أما في وصية لقمان لولده :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] : بدون توكيد، لماذا ؟
قالوا : لأن لقمان يوصي ولده بالصبر على ما أصابه، والمصائب قسمان : مصيبة تصيب الإنسان، وله فيها غريم هو الذي أوقع به المصيبة، وهذه يصاحبها غضب وسعار للانتقام، ومصيبة تصيب الإنسان وليس له غريم كالمرض مثلا، فإن كان له غريم فالصبر أشد، لذلك احتاج إلى التوكيد، على خلاف المصيبة التي ليس أمامك فيها غريم، فهي من الله فالصبر عليها أهون من الأولى.
ومع ذلك جعل الحق- سبحانه وتعالى- للنفس البشرية منافذ تنفس من خلالها عن نفسها، حتى لا يختمر بداخلها الغضب، فيتحول إلى حقد وضغينة، قد تؤدي إلى أكثر مما وقع بك، لذلك أباح لك الرد لكن حببك في مراق أخرى، هي أجدى لك، فقال تبارك وتعالى :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ] :
وهذه مراحل ثلاث، تختار منها بحسب فهمك عن الله وقربك منه :
الأولى :﴿ والكاظمين الغيظ.. ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ] : يعني : تكظم غيظك في نفسك، دون أن تترجم هذا الغيظ إلى عمل نزوعي فتنتقم، فالغيظ- إذن- مسألة وجدانية في القلب، وموجود في مواجيد نفسه، وهذه مرحلة.
الثانية :﴿ والعافين عن الناس.. ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ] : يعني : لا ينتقم، ولا حتى يجعل للغيظ مكانا في نفسه، فيصفيها من مشاعر الحنق والغيظ راضيا.
الثالثة :﴿ والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ] : وهي أعلى المراتب، وهي ألا تكتفي بالعفو، بل وتحسن إلى من أساء إليك، والبعض يقول : هذا ضد طباع البشر، نعم هي ضد طباع البشر العاديين، لكن الذين يعرفون الجزاء، ويعرفون أنهم بذلك سيكونون في حضانة ربهم يهون عليهم هذا العمل، بل ويحبون الإحسان إلى من أساء.
لذلك، فالحسن البصري- رضوان الله عليه- لما بلغه أن شخصا نال منه في أحد المجالس- وكان الوقت بواكير الرطب- أرسل خادمه إليه بطبق من الرطب، وقال له : بلغني أنك أهديت إلي حسناتك بالأمس٢.
ومعلوم أن الحسنات أغلى وأثمن بكثير من طبق الرطب. ومن هنا يقولون : ما أعجب من الذي يسيء إلى من أساء إليه، لأنه أعطاه حسناته، وهي خلاصة عمله، فكيف يسيء إليه ؟
وكأن الحق سبحانه يريد أن يحدث توازنا في المجتمع، ويقضي على دواعي الحقد وأسباب الضغائن في النفس البشرية، فحين تحسن إلى من يسيء إليك فإنك تجتث جذور الكره والحقد من نفسه، كما قال سبحانه وتعالى :
﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( ٣٤ ) ﴾ [ فصلت ] : فقد أخرجت خصمك من قالب الخصومة، إلى قالب الولاية والمحبة.
فالمخبت المتواضع لله، أما غير المخبت فتراه متكبرا ( يتفرعن ) على من حوله، ويرى نفسه أعظم من الجميع، ولو أنه استحضر جلال ربه لخشع له، وتواضع وانكسر لخلقه، فالتكبر دليل غفلة عن عظمة الله، كأنه لم يشهد خالقه.
إذن : تستطيع أن تقول أن الإخبات على نوعين : إخبات لله بالخضوع والخشوع والتعظيم لأوامره، وإخبات لخلق الله، بحيث لا ينتصر لظلمه ولا يظلم، إنما يتسامح ويعفو، لأنه يعلم جيدا أنه إذا ظلم من مخلوق تعصب له الخالق.
ولك أن تنظر إلى أولادك إذا ظلم أحدهم الآخر فإلى من تنحاز، ومع من تتعاطف ؟ لا شك أنك ستميل إلى المظلوم، وتحنو عليه، وتريد أن تعوضه عما لحقه من الظلم، حتى إن الظالم ليندم على ظلمه، لأنه ميز أخاه المظلوم عليه، وربما تمنى أن يكون هو المظلوم لا الظالم.
كذلك حال المخبت يرى أن الخلق جميعا عيال الله، وأن أحبهم إليه أرأفهم بعياله، لذلك يعفو عمن ظلمه، ويترك أمره لله رب الجميع، كما أن المظلوم إذا رد الظلم فإنه يرده بقوته ومقدرته هو، إنما إن ترك الرد لله جاء الرد على مقدار قوته سبحانه.
ملحظ آخر ينبغي أن يتنبه له المظلوم قبل أن يفكر في الانتقام، وهو : من يدريك لعلك ظلمت أنت أيضا دون أن تدري، لعل للناس عندك مظالم لا تشعر بها، وليست في حسبانك، فالمسألة- إذن- لك وعليك.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم دعوت على من ظلمك ".
وهذا مباح لك بقوله تعالى :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم.. ( ١٤٨ ) ﴾ [ النساء ] : يعني : أعطيناك فرصة أن تدعو على من ظلمك.
ثم يقول سبحانه : " ودعا عليك من ظلمته، فإن شئت أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما للآخرة فيسعكما عفوي " ٣.
فالمخبت يستحضر هذا كله، ويركن إلى العفو والتسامح، ليأخذ ربه عز وجل في صفه، لذلك يقولون : لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الكرامة لضن عليه بالظلم.
فحين ترى المظلوم يعفو عنك ويتسامح معك، فلا تظن أنك أخضعته لك، إنما هو خضع لله الذي سيرفعه عليك، ويعلي رأسه عليك في يوم من الأيام.
لذلك من أنماط السلوك السوي إذا تشاجر اثنان يقول أحد العقلاء : لكما أب نرد عليه، أو لكما كبير نرجع إليه في هذه الخصومة.
١ - وذلك مصداقا لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته" أخرجه مسلم في صحيحه (١٨٢٩)، والبخاري في صحيحه (٨٩٣، ٢٤٠٩) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما..
٢ - ذكره أبو حامد الغزالي (٣/١٥٤) أن رجلا قال للحسن: إن فلانا قد اغتابك فبعث إليه رطبا على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك، فأردت أن أكافأك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام..
٣ - ذكره أبو حامد الغزالي (٣/١٨٣) من قول يزيد بن ميسرة: إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول: إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته، فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٥ ) ﴾ :
يبين لنا الحق سبحانه بعض صفات المخبتين، فهم ﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الحج ] :( وجلت ) : يعني خافت، واضطربت، وارتعدت لذكر الله تعظيما له، ومهابة منه.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾ [ الرعد ]،
فمرة يقول ﴿ وجلت قلوبهم.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الحج ]، ومرة ﴿ تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾ [ الرعد ]، لماذا ؟ لأن ذكر الله إن جاء بعد المخالفة لا بد للنفس أن تخاف وتوجل وتضطرب هيبة لله عز وجل، أما إن جاء ذكر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئن به، وتأنس لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه عند الشدة وتركن إليه عند الضيق والبلاء، فإن تعرضت لمصيبة وعزت أسباب دفعها عليك تقول : أنا لي رب فتلجأ إليه، كما كان من موسى- عليه السلام- حين قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾ [ الشعراء ].
﴿ والصابرين على ما أصابهم.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الحج ] : ومعنى أصاب : يعني جاء بأمر سيء في عرفك أنت، فتعده مصيبة، لأننا نقدر المصيبة حسب سطحية العمل الإيذائي، إنما لو أخذت مع المصيبة في حسابك الأجر عليها لهانت عليك وما اعتبرتها كذلك، لذلك في الحديث الشريف يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : " المصاب من حرم الثواب ".
هذا هو المصاب حقا الذي لا تجبر مصيبته، أما أن تصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنال الأجر فليس في هذا مصيبة.
ثم يقول سبحانه :﴿ والمقيمي الصلاة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الحج ] : لأن الصلاة هي الولاء الدائم للعبد المسلم، والفرض الذي لا يسقط عنه بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أن تقولها في العمر مرة، والزكاة إن كان عندك نصاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إن كنت مستطيعا فهو مرة واحدة في العمر، وإن لم تكن مستطيعا فليس عليك حج.
إذن : الصلاة هي الولاء المستمر للحق سبحانه على مدار اليوم كله، وربك هو الذي يدعوك إليها، ثم لك أن تحدد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في حضرته تعالى، لأنه سبحانه مستعد للقائك في أي وقت.
وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلا يدعوك ويحتم عليك أن يراك في اليوم خمس مرات لتكون في حضرته، والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه، لا يدعوهم مرة واحدة إنما خمس مرات في اليوم والليلة، لأنه سبحانه لا يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات، فهو سبحانه يلقى الجميع في وقت واحد.
ولما سئل الإمام علي- رضي الله عنه- : كيف يحاسب الله كل هؤلاء الناس في وقت واحد ؟ قال : كما أنه يرزقهم جميعا في وقت واحد.
وقوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٥ ) ﴾ [ الحج ] : لا ينفقون من جيوبهم، إنما من عطاء الله ورزقه. ومن العجيب أن الله تعالى يعطيك ويهبك ويغدق عليك تفضلا منه سبحانه، فإذا أرادك تعين محتاجا قال لك :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ( ١١ ) ﴾ [ الحديد ] :
وكأن الله تعالى يقول لنا : أنا لا أعود في هبتي ولا في عطائي، فأقول : اعط ما أخذته لفلان، بل إن أعطيت الفقير من مالك فهو أيضا لك مدخر لا يضيع، فرزقك الذي وهبك الله إياه ملكك، ولا نغبنك في شيء منه أبدا، فربك يحترم ملكيتك، ويحترم جزاء عملك وجدك واجتهادك.
نقول- ولله المثل الأعلى- : كالرجل الذي يحتاج مبلغا كبيرا لأحد الأبناء فيأخذ من الباقين ما معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وعد أن يعوضهم بدلا منها فيما بعد.
لذلك يقول بعدها :﴿ فيضاعفه له.. ( ١١ ) ﴾ [ الحديد ] : فيعاملك ربك بالزيادة، لذلك يقول البعض : إن الله تعالى حرم علينا الربا وهو يعاملنا به، نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك : اترك لي أنا هذا التعامل، لأنني حين أزيدك لا أنقص الآخرين، ولا أنقص مما عندي، ولا أرهق ضعيفا ولا محتاجا ولا أستغل حاجته.
والصدقة في الإسلام تأمين لصاحبها ضد الفقر إن احتاج، فأخوف ما يخافه المرء الحاجة عند الكبر، وعدم القدرة على الكسب، وعند الإعاقة عن العمل، يخاف أن ينفذ ماله، ويحتاج إلى الناس حال كبره.
وعندها يقول له ربه : اطمئن، فكما أعطيت حال يسرك سيعطيك غيرك حال عوزك وحاجتك.
إذن : أخذ منك ليعطيك، وليؤمن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه.
الصدقة في الإسلام صندوق لتكافل المجتمع، كصندوق التأمين في شركات التأمين، فإذا ما ضاقت بك أسباب الرزق وشكوت الكبر والعجز نقول لك : لا تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل، وكما طلبنا منك أن تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أن يعطيك وأنت معدم.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف١ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع٢ والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( ٣٦ ) ﴾ :
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة مما رزقكم الله تكلم في النفقة في البدن، والبدن : جمع بدنة، وهي الجمل أو الناقة، أو ما يساويهما من البقر، وسماها بدنة إشارة إلى ضرورة أن تكون بدينة سمينة وافرة، ولا بد أن تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهدي الذي ستقدمه لله، واحذر أن تكون من أولئك الذين يجعلون لله ما يكرهون، إنما كن من الذين قال الله لهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم.. ( ٢٦٧ ) ﴾ [ البقرة ].
وقوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ] : أي : اذكروا الله بالشكر على أن وهبها وذللها لكم، واذكروا اسم الله عليها حين ذبحها.
ومعنى :﴿ صواف.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : واقفة قائمة على أرجلها، لا ضعف فيها ولا هزال، مصفوفة وكأنها في معرض أمامك. وهذه صفات البدن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أن تقدم هديا لبيت الله.
ومعنى :﴿ فإذا وجبت جنوبها.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ] : وجب الشيء وجبا يعني : سقط سقوطا قويا على الأرض، ومعلوم أن البدنة لا تذبح وهي ملقاة على الأرض مثل باقي الأنعام، وإنما تنحر وهي واقفة، فإذا ما نحرت وقعت على الأرض وارتمت بقوة من بدانتها.
﴿ فكلوا منها.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ]. وقلنا : إن الأكل لا يكون إلا من الهدي المحض والتطوع الخالص الذي لا يرتبط بشيء من مسائل الحج، فلا يكون هدي تمتع أو قران، ولا يكون جبرا لمخالفة، ولا يكون نذرا.. إلخ.
وعلة الأمر بالأكل من الهدي، لأنهم كانوا يتأففون أن يأكلوا من المذبوح للفقراء، وكأن في الأمر بالأكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما لا تعافه النفس.
ومعنى :﴿ القانع والمعتر.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ] : القانع : الفقير الذي يتعفف أن يسأل الناس، والمعتر : الفقير الذي يتعرض للسؤال.
ثم يقول سبحانه :﴿ كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : سخرناها لكم، ولو في غير هذا الموقف، لقد سخرها الله لكم منذ وجد الإنسان، لذلك عليكم أن تشكروا الله على أن أوجدها وملككم إياها، وتشكروه على أن سخرها وذللها لكم، وتشكروه على أن هداكم للقيام بهذا المنسك، وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الآخرة.
١ - ورد في هذه الكلمة عدة قراءات منها:
- صواف: أي: قياما على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى. عن ابن عباس ومجاهد وعلي بن أبي طلحة، وهي قراءة الجمهور.
- صوافن: جمع صافنة، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر.
- صوافي: أي: خوالص لله عز وجل، لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. عن الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبي موسى الأشعري.
- صواف: وهي بمعنى التي قبلها. عن الحسن البصري. [تفسير القرطبي ٦/٤٥٩٣]..

٢ - قال ابن الأثير: القانع في الأصل السائل. وقال الحسن البصري فيما رواه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: القانع الذي يقنع إليك بما في يديك. والمعتر الذي يتصدى إليك لتطعمه. ولفظ ابن أبي شيبة: والمعتر الذي يعتريك، يريك نفسه ولا يسألك. [الدر المنثور للسيوطي ٦/ ٥٥ ]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( ٣٧ ) ﴾ :
ذلك لأنهم كانوا قبل الإسلام حين يذبحون للأوثان يلطخون الصنم بدماء الذبيحة١، كأنهم يقولون له : لقد ذبحنا لك، وها هي دماء الذبيحة، وفي هذا العمل منهم دليل على غبائهم وحمق تصرفهم، فهم يرون أنهم إذا لم يلطخوه بالدم ما عرف أنهم ذبحوا من أجله.
وهنا ينبه الحق- سبحانه وتعالى- إلى هذه المسألة :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : لا يأخذ منها شيئا، وهو سبحانه قادر أن يعطي الفقير الذي أمرك أن تعطيه، ويجعله مثلك تماما غير محتاج.
إنما أراد سبحانه من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يحدث توازنا في المجتمع، فالمجتمع ليس آلة ميكانيكية تسير على وتيرة واحدة، إنما هي حياة بشر لا بد أن تقوم على الحاجة وعلى التكامل، فلا بد من التفاوتات بين الناس، ثم تتدخل الشرائع السماوية فتأخذ من القوي وتعطي الضعيف، وتأخذ من الغني وتعطي الفقير.. وساعتها، نقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والأثرة.
فحين يعطي القوي الضعيف من قوته لا يحسده عليها، ويتمنى له دوامها، لأن خيرها يعود عليه، وحين يعطي الغني مما أفاض الله عليه للفقير يؤلف قلبه، ويجتث منه الغل والحسد، ويدعو له بدوام النعمة.
لا بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا " ٢.
لذلك، ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره، إن أصابته في ماله مصيبة يحزن له الآخرون ويتألمون بألمه، لأن نعمته تفيض عليهم، وخيره ينالهم. وأهل الريف إلى عهد قريب كان الواحد منهم يربي البقرة أو الجاموسة، ليحلب لبنها، وكان لا ينسى الجيران وأهل الحاجة، فكانوا يدعون الله له أن يبارك له في ماله، وإن أصابته ضراء في ماله حزنوا من أجله.
إذن : حين تفيض من نعمة الله عليك على من حرم منها تدفع عن نفسك الكثير من الحقد والحسد، فإن لم تفعل فلا أقل من إخفاء هذا الخير عن أعين المحتاجين حتى لا تثير حفائظهم، وربما لو رآك الرجل العاقل يردعه إيمانه فلا تمتد عيناه إلى ما في يدك، إنما حين يراك الأطفال الصغار تحمل ما حرموا منه، أو رأوا ولدك يأكل وهم محرومون هنا تكون المشكلة وقوله تعالى :﴿ ولكن يناله التقوى منكم.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ] :
واتقاء الله هو اتباع منهجه، فيطاع الله باتباع المنهج فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج ب " افعل " و " لا تفعل "، ويذكر فلا ينسى، لأن العبد قد يطيع الله وينفذ منهج الله، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله، والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها، وإياك أن تنسيك النعمة المنعم.
ثم يقول تبارك وتعالى :﴿ كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ].
تلحظ هنا مسألة المتشابهات في القرآن الكريم، ففي الآية السابقة ذيلها الحق سبحانه بقوله :﴿ كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( ٣٦ ) ﴾ [ الحج ].
هذه المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن ويقلبون في آياته، لذلك يجمعون مثل هذه الآيات المتشابهة التي تتحدث في موضوع واحد ويرتبونها في الذهن، لذلك لا يؤتمنون على الحفظ، ومن هنا قالوا : ينبغي لمن أراد حفظ القرآن أن يدع مسألة العلم جانبا أثناء حفظه، حتى إذا نسي كلمة وقف مكانه لا يتزحزح إلى أن يعرفها، أما العالم فربما وضع مرادفها مكانها، واستقام له المعنى.
والمراد بقوله تعالى :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : تذكرونه وتشكرونه على ما وفقكم إليه من هذه الطاعات ﴿ وبشر المحسنين ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ] : بشر يعني : أخبر بشيء سار قبل مجيء زمنه، ليستعد له المبشر ويفرح به، كذلك الإنذار : أن تخبر بشيء سيء قبل حلوله أيضا، ليستعد له المنذر، ويجد الفرصة التي يتلافى فيها خطأه، ويجنب نفسه ما ينذر به، ويقبل على ما ينجيه.
و﴿ المحسنين ( ٣٧ ) ﴾ [ الحج ] : جمع محسن، والإحسان : أعلى مراتب الإيمان، وهو أن تلزم نفسك بشيء من طاعة الله التي فرضها عليك فوق ما فرض، فربك عز وجل فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، وفي إمكانك أن تزيد من هذه الصلوات ما تشاء، لكن من جنس ما فرض الله عليك، لا تخترع أنت عبادة من عندك، كذلك الأمر في الصوم، وفي الزكاة، وفي الحج، وفي سائر الطاعات التي ألزمك الله بها، فإن فعلت هذا فقد دخلت في مقام الإحسان.
وفي الإحسان أمران : محسن به وهو العبادة أو الطاعة التي تلزم نفسك بها فوق ما فرض الله عليك، ودافع عليه، وهو أن تؤدي العمل كأن الله يرقبك، كما جاء في حديث جبريل : " والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ٣.
فمراقبتك لله ومراعاتك لنظره تعالى إليك، يدفعك إلى هذا الإحسان، ألا ترى العامل الذي تباشره وتشرف عليه، وكيف ينهي العمل في موعده ؟ وكيف يجيده ؟ على خلاف لو تركته وانصرفت عنه.
فإن لم تصل إلى هذه المرتبة التي كأنك ترى الله فيها، فلا أقل من أن تتذكر نظره هو إليك، ومراقبته سبحانه لحركاتك وسكناتك.
لذلك، في سورة الذاريات :﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( ١٦ ) ﴾ [ الذاريات ].
ثم يفسر سبب هذا الإحسان :﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( ١٧ ) وبالأسحار هم يستغفرون ( ١٨ ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾ [ الذاريات ].
ومن يلزمك بهذه التكاليف ؟ لك أن تصلي العشاء ثم تنام إلى الفجر، كذلك لم يلزمك بالاستغفار وقت السحر، ولم يلزمك بصدقة التطوع. إذن : هذه طاعات فوق ما فرض الله وصلت بأصحابها إلى مقام الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان، فليشمر لها من أراد.
١ - قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت الآية. [تفسير القرطبي ٦/٤٥٩٦] وذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٥٦) من قول ابن عباس أيضا وعزاه لابن المنذر وابن مردويه..
٢ - حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٤٦)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٥٨٥) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
٣ - حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠)، وكذا مسلم في صحيحه (٨) كتاب الإيمان من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ( ٣٨ ) ﴾ :
صدر الآية :﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الحج ] : يشعرنا أن هناك معركة، والمعركة التي يدافع الله فيها لا بد أنها بين حق أنزله، وباطل يواجهه، وقد تقدم قبل ذلك أن قال تبارك وتعالى :﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم.. ( ١٩ ) ﴾ [ الحج ].
وما دام أن هناك خصومة فلا بد أن تنشأ عنها معارك، هذه المعارك قد تأخذ صورة الألفاظ والمجادلة، وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة والالتحام المباشر بأدوات الحرب.
ومعركة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حد المعركة الكلامية فحسب، فقد قالوا عنه- صلوات الله وسلامه عليه : ساحر، وكاهن، ومجنون، وشاعر، ومفتر.. إلخ ثم تطور الأمر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم، فكانوا يأتون رسول الله مشدوخين ومجروحين فيقول لهم ( صلى الله عليه وسلم ) : " لم أومر بقتال، اصبروا اصبروا، صبرا صبرا.. ".
إلى أن زاد اعتداء الكفار وطفح الكيل منهم أذن الله لرسوله بالقتال، فقال :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) ﴾ [ الحج ].
فقوله تعالى :﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الحج ] : صيغة يدافع : مبالغة من يدفع، معنى يدفع يعني : شيئا واحدا، أو مرة واحدة، وتنتهي المسألة، أما يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله، فالله يدفعهم وهم يقابلون أيضا بالمدافعة، فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين، وهذا لا يكون إلا في معركة.
والمعركة تعني : منتصر ومنهزم، لذلك الحق- تبارك وتعالى- يطمئن المؤمنين أنه سيدخل المعركة في صفوفهم، وسيدافع عنهم.
فقوله تعالى :﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الحج ] : أمر طبيعي، لأن الحق سبحانه ما كان ليرسل رسولا، ويتركه لأهل الباطل يتغلبون عليه، وإلا فما جدوى الرسالة إذن، لذلك يطمئن الله تعالى رسوله ويبشره، فيقول :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الصافات ].
وقال :﴿ ولينصرن الله من ينصره.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ].
وقال :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( ٧ ) ﴾ [ محمد ].
فهذه كلها آيات تطمئن المؤمنين وتبشرهم، وقد جاءت على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه، فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة، ثم جعل القتال فيما بينهم، وقبل أن يأذن لهم في قتال أعدائهم لحكمة : هي أن يبلوا المؤمنين ويمحصهم ليخرج من صفوفهم أهل الخور والجبن، وضعيفي الإيمان الذين يعبدون الله على حرف، ولا يبقى بعد ذلك إلا قوي الإيمان ثابت العقيدة، الذي يحمل راية هذا الدين وينساح بها في بقاع الأرض، لأنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أن تقوم الساعة، ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان لا بد لها من رجال أقوياء يحملونها، وإلا لو استطاع الأعداء القضاء عليها فلن تقوم لدين الله قائمة.
إذن : كان لا بد أن يصفي الحق سبحانه أهل الإيمان كما يصفي الصائغ الذهب، ويخرج خبثه حين يضعه في النار، كذلك كانت الفتن والابتلاءات لتصفية أهل الإيمان وتمييزهم، لكن بالقتال في صف واحد.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الله لا يحب كل خوان كفور ( ٣٨ ) ﴾ [ الحج ] : فكأن الحق- سبحانه وتعالى- أصبح طرفا في المعركة، والخوان : صيغة مبالغة من خائن، وهو كثير الخيانة وكذلك كفور : صيغة مبالغة من كافر.
ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانة خانها. نعم، هناك الأمانة الأولى، وهي أمانة التكليف التي قال الله فيها :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] : فلقد خان هذه الأمانة بعد أن رضي أن يكون أهلا لها.
وهناك أمانة قبل هذه، وهي العهد الذي أخذه الله على عباده، وهم في مرحلة الذر١ :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى٢ شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( ١٧٢ ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم.. ( ١٧٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
فإن قالوا : نعم هذه أمانة، لكنها بعيدة، ومن منا يذكرها الآن ؟
نقول : ألم تقروا بأن الله خلقكم، وأوجدكم من عدم، وأمدكم من عدم ؟ كما قال سبحانه :﴿ ولئن سألتهم من خلقكم ليقولن الله.. ( ٨٧ ) ﴾ [ الزخرف ] : كما أقروا بخلق السماوات والأرض وما فيها من خيرات لله عز وجل، فكان وفاء هذا الإقرار أن يؤمنوا، لكنهم مع هذا كله كفروا، أليست هذه خيانة للأمانة عاصروها جميعا وعايشوها وأسهموا فيها ؟
والكفور : من كفر نعم الله وجحدها.
وما دام هناك الخوان والكفور فلا بد للسماء أن تؤيد رسولها، وأن تنصره في هذه المعركة أولا، بأن تأذن له في القتال، ثم تأمره بأخذ العدة والأسباب المؤدية للنصر، فإن عزت المسائل عليكم، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي.
وقد حدث هذا في بدء الدعوة، فأيد الله نبيه بجنود من عنده٣، بل أيده حتى بالكافر المعاند : ألم يكن دليل٤ رسول الله في الهجرة كافرا ؟ ألم ينصره الله بالحمام وبالعنكبوت وهو في
الغار ؟ ألم ينصره بالأرض التي ساخت تحت أقدام فرس " سراقة " ٥ الذي خرج في طلبه ؟
هذه جنود لم نرها، ولم يؤيد بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بعد أن استنفد أسبابه، ولو أراد سبحانه لطوع لرسوله هؤلاء المعاندين، فما رفع أحد منهم رأسه بعناد محمد، إنما الحق- تبارك وتعالى- يريد أن يعطيه طواعية ويخضع له القوم، ألم يقل سبحانه وتعالى :﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾ [ الشعراء ].
وقلنا : إن الله تعالى يريد أن يخضع قلوب عباده لا قوالبهم، فلو أخضعهم الله بآية كونية طبيعية كالريح أو الصاعقة أو الخسف، أو غيره من الآيات التي أخذت أمثالهم من السابقين لقالوا : إنها آفات طبيعية جاءتنا، لكن جعل الله بين الفريقين هذه المواجهة، ثم يسر لحزبه وجنوده أسباب النصر.
قال سبحانه :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ( ١٤ ) ﴾ [ التوبة ].
١ - الذر في اللغة: صفار النمل، واحدتها ذرة. وذر الله الخلق في الأرض: نشرهم. والذرية: فعلية منه، وهي منسوبة إلى الذر الذي هو النمل الصغار. [لسان العرب- مادة: ذرر]..
٢ - قال ابن كثير في تفسيره (٢/٢٦١): "وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.. فقد قال قائلون من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد"..
٣ - قال تعالى: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (٩) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله.. (١٠)﴾ [الأنفال]. وفي آيات أخرى يقول تعالى: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (١٢٣) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (١٢٤) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (١٢٥)﴾ [آل عمران]..
٤ - هو عبد الله بن أرقط، وهو رجل من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم ابن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. [سيرة ابن هشام ٢/٤٨٥]..
٥ - هو: سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الكناني، صحابي، له شعر، كان ينزل قديدا، كان في الجاهلية قائفا (قصاصا للأثر) أخرجه أبو سفيان ليقتاف أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين خرج إلى الغار مع أبي بكر. أسلم بعد غزوة الطائف سنة ٨ ه. توفي ٢٤ ه. [الأعلام للزركلي ٣/٨٠]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) ﴾ :
ودفاع الحق سبحانه عن الحق يأخذ صورا متعددة، فأول هذا الدفاع : أن أذن لهم في أن يقاتلوا. ثانيا : أمرهم بإعداد القوة للقتال :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الأنفال ].
والمراد أن يأخذوا بكل أسباب النصر على عدوهم، وأن يستنفدوا كل ما لديهم من وسائل، فإن استنفدتم وسائلكم، أتدخل أنا بجنود من عندي لا ترونها، فليس معنى أن الله يدافع عن الذين آمنوا أن تدخل السماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم، لا إنما يأخذون بأسباب القوة ويسعون ويبادرون هم أولا إلى أسباب النصر.
ومعنى ﴿ أذن.. ( ٣٩ ) ﴾ [ الحج ] : أنهم كانوا ينتظرون الأمر بالقتال، ويستشرفون للنصر على الأعداء، لكن لم يؤذن لهم في ذلك، فلما أراد الله لهم أن يقاتلوا أذن لهم فيه، فقال تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) ﴾ [ الحج ] :
وعلة القتال أنهم ظلموا، لذلك أمرهم ربهم- تبارك وتعالى- أن يقاتلوا، لكن لا يعتدوا، كما قال سبحانه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ١٩٠ ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم.. ( ١٩١ ) ﴾ [ البقرة ].
إذن : أمرهم أولا بالصبر، وفي المرحلة الأولى بأن يقاتلوا لرد العدوان، وللدفاع عن أنفسهم دون أن يعتدوا، وفي المرحلة الثانية سيقول لهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( ١٢٣ ) ﴾ [ التوبة ].
وقوله تعالى :﴿ وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) ﴾ [ الحج ] : بأسباب يمكنكم منها، أو بغير أسباب فتأتيهم قوة خفية لا يرونها، وقد رأوا نماذج من ذلك فعلا.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع١ وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( ٤٠ ) ﴾ :
فلو أنهم أخرجوا بحق كأن فعلوا شيئا يستدعي إخراجهم من ديارهم، كأن خدشوا الحياء، أو هددوا الأمن، أو أجرموا، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكان إخراجهم بحق.
إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئا، وليس لهم ذنب ﴿ إلا أن يقولوا ربنا الله.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : هذه المقولة اعتبرها القوم ذنبا وجريمة تستحق أن يخرجوهم بها من ديارهم.
كما قال سبحانه في أهل الأخدود :﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( ٨ ) ﴾
[ البروج ].
وفي آية أخرى :﴿ هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله.. ( ٥٩ ) ﴾ [ المائدة ].
وفي قصة لوط عليه السلام :﴿ قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( ٥٦ ) ﴾ [ النمل ].
إذن : أخرجوهم، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية، إنما لأنهم أناس يتطهرون، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يخرجون من أجلها، كما تقول : لا عيب في فلان إلا أنه كريم، أو تقول : لا كرامة في فلان إلا أنه لص. فهذه- إذن- صفة لا تمدح، وتلك صفة لا تذم.
لقد قلب هؤلاء الموازين، وخالفوا الطبيعة السوية بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع، وأي فساد بعد أن قلبوا المعايير، فكرهوا ما يجب أن يحب، وأحبوا ما يجب أن يكره ؟ ولا أدل على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر، وتركهم عبادة خالق السماوات والأرض.
ثم يقول تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ].
وفي آية أخرى يبين الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.. ( ٢٥١ ) ﴾ [ البقرة ].
والفساد إن حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أن يعوض ويتدارك، أما إن تعدى الفساد إلى مقومات اليقين الإيماني في الأرض فكره الناس ما يربطهم بالسماء، وهدموا أماكن العبادة، فهذه الطامة والفساد الذي لا صلاح بعده، فكأن الآيتين تصوران نوعا من الإيغال في الفساد، والاتضاع في الجرائم.
وتفسد الأرض حين ينعدم هذا التدافع، كيف ؟ هب أن ظالما مستبدا في بلد ما يستعبد الناس ويمتص خيراتهم بل ودماءهم دون أن يرده أحد، لا شك أن هذا سيحدث في المجتمع تهاونا وفوضى، ولن يجتهد أحد فوق طاقته، ولمن سيعمل وخيره لغيره، وهذا بداية الفساد في الأرض.
فإن قلنا : هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أن يصلح فيما بعد، فما بالك إن امتد الفساد إلى أماكن الطاعات والعبادات، وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء ؟
إن كان الفساد الأول قابلا للإصلاح، ففساد الدين لا يصلح، لأنك خربت الموازين التي كانت تنظم حركة الحياة، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : جاءت قضية عامة لكل الناس، فلم يخص طائفة دون أخرى، فلم يقل مثلا : لولا دفع الله الكافرين بالمؤمنين، إنما قال مطلق الناس، لأنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل المجتمعات.
كذلك جاءت كلمة ( بعض ) عامة، لتدل على أن كلا الطرفين صالح أن يكون مدفوعا مرة، ومدفوعا عنه أخرى، فهم لبعض بالمرصاد : من أفسد يتصدى له الآخر ليوقفه عند حده، فليس المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط.
ومثال ذلك قوله تعالى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الزخرف ] : دون أن يحدد أيهما مرفوع، وأيهما مرفوع عليه، لأن كلا منهما مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر، ذلك لأن العباد كلهم عيال الله، لا يحابي منهم أحدا على أحد.
انظر الآن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب، إنهما مثال لقوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : فكل منهما تقف للأخرى بالمرصاد، ترقبها وترصد تحركاتها وتقدمها العسكري، وكأن الله تعالى جعلهما لحماية سلامة الآخرين أن تقف كل منهما موقف الحذر والخوف من الأخرى.
وهذا الخوف والترقب والإعداد هو الذي يمنع اندلاع الحرب بينهما، فما بالك لو قامت بينهما حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم ؟ لا بد أن المنتصر سيعيث في الأرض فسادا ويستبد بالآخرين، ويستشري ظلمه لعدم وجود من يردعه.
ومن رحمة الله بالمؤمنين أن يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم، ويؤدب الظالم بمن هو أشد منه ظلما، ليظل أهل الخير بعيدين عن هذه المعركة، لا يدخلون طرفا فيها، لأن الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليات، لأنهم قوم رقاق القلوب، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغلظة في الانتقام.
اقرأ قول الله تعالى :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ( ١٢٩ ) ﴾ [ الأنعام ] : وهكذا يوفر الله أهل الخير، ويحقن دماءهم، ويريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة.
لذلك لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة دخول المنتصر، بعد أن أخرجه قومه منها، وبعد أن فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل، كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكن من رقاب أعدائه ؟
دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة مطأطئ الرأس، حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس٢ السرج الذي يجلس عليه، تواضعا منه ( صلى الله عليه وسلم )، ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول الله في هذا الموقف، قال للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما٣.
وبعد أن تمكن رسول الله من كفار مكة، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم، قال : " يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم، قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء " ٤.
فأي رحمة هذه ؟ وأي لين هذا الذي جعله الله في قلوب المؤمنين ؟ وهل مثل هذا الدين يعارض وينصرف عنه ؟.
إذن : يسلط الحق- تبارك وتعالى- الأشرار بعضهم على بعض، وهذه آية نراها في الظالمين في كل زمان ومكان، ويجلس الأخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يهلك الله فيها الظالمين بالظالمين.
ثم يقول سبحانه وتعالى :﴿ لهدمت صوامع وبيع.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : صوامع جمع صومعة، وهي مكان خاص للعبادة عند النصارى، وعندهم متعبد عام يدخله الجميع هو الكنائس، أما الصومعة فهي مكان خاص لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة، ولا تكون الصومعة في حضر، إنما تكون في الجبال والأودية، بعيدا عن العمران لينقطع فيها الراهب عن حركة حياة الناس، وهي التي يسمونها الأديرة وتوجد في الأماكن البعيدة.
وقد حرم الإسلام الرهبانية بهذا المعنى، لأنها رهبانية ما شرعها الله، كما قال سبحانه :﴿ ورهبانية٥ ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحديد ].
ومعنى :﴿ وبيع.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : البيع هي الكنائس.
فالحق- سبحانه وتعالى- ما نعى عليهم الانقطاع للعبادة، لكن نعى عليهم انقطاعهم عن حركة الحياة، وأسباب العيش، لذلك قال :﴿ فما رعوها٦ حق رعايتها.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الحديد ].
وقد أباح الإسلام أيضا الترهب والانقطاع للعبادة، لكن شريطة أن تكون في جلوة يعني : بين الناس، لا تعتزل حركة الحياة، إنما تعبد الله في كل حركة من حركات حياتك، وتجعل الله تعالى دائما في بالك ونصب عينيك في كل ما تأتي، وفي كل ما تدع، إذن : هناك فرق بين من يعبد الله في خلوته، ومن يعبد الله في جلوته.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- قال عن الرجل الذي لازم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه يتكفل به وينفق عليه، قال : أخوه أعبد منه. كيف ؟.
قالوا : لأنك تستطيع أن تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة، حين تخلص النية فيها لله عز وجل. ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر، كلاهما يعمل ويجتهد ليقوت نفسه وأهل بيته، ويحيا الحياة الكريمة، وهذا هدف الجميع من العمل، لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف لاستوى مع الكافر تماما.
إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره، المؤمن يفعل على قدر طاقته، لا على قدر حاجته، ثم يأخذ ما يحتاج إليه وينفق من الباقي ويتصدق على من لا يقدر على الحركة الحياتية.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( ٢ ) والذين هم عن اللغو معرضون ( ٣ ) والذين هم للزكاة فاعلون ( ٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هل يعني : مؤدون فقط ؟ لا، بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى، وفي نيته من لا يقدر على السعي والعمل، فكأنه يقبل على العمل ويجتهد فيه، وفي نيته أن يعمل شيئا لله بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا ما يميز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر.
وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلاثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني، وكان مريضا- رحمه الله ورضي الله عنه- وكان يسكن في حارة، وفضلنا أن نأخذ ( تاكسي ) يوصلنا بدل أن نمشي في وحل الشتاء، وعند مدخل الحارة رفض سائق ( التاكسي ) الدخول وقال : إن أجرة التوصيل لا تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوحل، وبعد إلحاح وافق وأوصلنا إلى حيث نريد، فأعطيناه ضعف أجرته، لكني قبل أن أنصرف قلت له : أنت لماذا تعمل على هذا ( التاكسي ) ولماذا تتعب ؟ قال : من أجل مصالحي ومصالح أولادي، فقلت له : وما يضيرك إن زدت على ذلك وجعلت في نيتك أن تيسر بعملك هذا على الناس ؟ فاهتم الرجل ولبسته الكلمة فقال : والله لا أرد راكبا أبدا.
ومعنى :﴿ والذين هم للزكاة فاعلون ( ٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لم يقل مؤدون، لأن ﴿ فاعلون ( ٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تعني : أن نيتهم في الفعل أن يفعلوا على قدر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون منه.
إذن : حرم الإسلام الرهبانية التي تحرم المجتمع من مشاركة الإنسان فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا رهبانية في الإسلام " ٧ لأنه اعتبر كل حركة مقصود منها صالح المجتمع كله حركة إيمانية عبادية، ومن هنا كان العمل عبادة.
وقد وضع العلماء شروطا لمن أراد الانقطاع للعبادة : أولها : ألا يأخذ نفقته من أحد، بمعنى أن يعمل أولا ليوفر احتياجاته طوال فترة انقطاعه، وصدق ( إقبال ) حين قال :
ليس زهدا تصوف من تقي**** فر من غمرة الحياة بدين
إنما يعرف التصوف في ال**** سوق بمال ومطمع وفتون
ثم يقول تعالى :﴿ وصلوات.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : وهذه لليهود يسمون مكان التعبد : صالوتا. لكن، لماذا لم يرتبها القرآن ترتيبا زمنيا، فيقول : لهدمت صلوات وصوامع وبيع ؟ قالوا : لأن القرآن يؤرخ للقريب منه فالأبعد.
﴿ ومساجد.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : وهذه للمسلمين ﴿ يذكر فيها اسم الله كثيرا.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ].
وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل ﴿ لهدمت.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : فهذا دليل على أنه لا بد أن يكون للمسلمين مكان يحكر للعبادة، وإن جعلت الأرض كلها لهم مسجدا وطهورا، ومعنى ذلك أن تصلي في أي بقعة من الأرض، وإن عدم الماء تتطهر بترابها، وبذلك تكون الأرض محلا للعبادة ومحلا لحركة الحياة وللعمل وللسعي، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مثلا وتصلي فيه، لكن الحق سبحانه يريد منا أن نخصص بعض أرضه ليكون بيتا له تنقطع منه حركة الحياة كلها، ويوقف فقط لأمور العباد
١ - البيعة: كنيسة النصارى، والجمع بيع، قاله ابن عباس فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير. وقال أيضا: الصوامع: التي تكون فيها الرهبان، والبيع: مساجد اليهود. وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين. [الدر المنثور للسيوطي ٦/٥٩]..
٢ - القربوس: حنو السرج. وحنو كل شيء: اعوجاجه. فحنو الرحل والسرج: كل عود معوج من عيدانه. [لسان العرب- مادتا: قربس، حنا]. وقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٤٠٥) "أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه (طرف لحيته) ليكاد يمس واسطة الرحل"..
٣ - قال أبو سفيان حين مرت أمامه جيوش المسلمين يوم فتح مكة: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن..
٤ - قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام في خطابه على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلى أن قال: ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء" [السيرة النبوية لابن هشام ٤/٤١٢]..
٥ - الترهب: التعبد، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها والزهد فيها، والعزلة عن أهلها وتعهد مشاقها، حتى إن منهم من كان يخصى نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، والراهب: هو المتعبد في الصومعة. [لسان العرب- مادة: رهب]..
٦ - أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل. قاله ابن كثير في تفسيره (٤/٣١٥)..
٧ - قال العجلوني في كشف الخفاء (٣١٥٤): "قال ابن حجر: لم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند البيهقي "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة". وقد أخرج أحمد في مسنده (٦/٢٢٦) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الرهبانية لم تكتب علينا"..
فإذا ما تمت لكم الغلبة، فاعلموا أن لكم دورا، ألا وهو :
﴿ الذين إذا مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( ٤١ ) ﴾ :
معنى :﴿ مكناهم في الأرض.. ( ٤١ ) ﴾ [ الحج ] : جعلنا لهم سلطانا وقوة وغلبة، فلا يجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أن يعلموا أن الله ما مكنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كل ما يضعف صلاحها أو يفسده.
لذلك، سيدنا سليمان عليه السلام كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد، فداخله شيء من الزهو، فمال به البساط وأوشك أن يلقيه، ثم سمع من البساط من يقول له : أمرنا أن نطيعك ما أطعت الله.
والممكن في الأرض الذي أعطاه الله البأس والقوة والسلطان، يستطيع أن يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إن مكن في الأرض بباطل يستطيع أن يفرض باطله ويخضع الناس له، ولو إلى حين.
فماذا يناط بالمؤمن إن مكن في الأرض ؟.
يقول تعالى :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة.. ( ٤١ ) ﴾ [ الحج ] : ليكونوا دائما على ذكر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين، ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خمس مرات في اليوم والليلة.
﴿ وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ( ٤١ ) ﴾ [ الحج ] : فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع.
﴿ ولله عاقبة الأمور ( ٤١ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : النهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمن التزم هذه التوجيهات وأدى دوره المنوط في مجتمعه، فبها ونعمت، ومن ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.
ثم يسلي الحق سبحانه رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى لا يهتم بما يفعله قومه من كفر وعناد ومجابهة للدعوة.
{ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( ٤٢ ) :
﴿ يكذبوك.. ( ٤٢ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : في دعوتك فيواجهونك، ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها، فاعلم أنك لست في ذلك بدعا من الرسل، فقد كذب كثير من الرسل قبلك، وعليك ألا تلاحظ مسألة التكذيب منفصلة عن عاقبته، نعم : كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة ؟ أتركناهم أم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ؟.
فلا تحزن، فسوف يحل بهم ما حل بسابقيهم من المكذبين والمعاندين.
وقلنا : إن الرسول يتحمل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على قدر رسالته، فكل رسل الله قبل محمد كان الرسول يرسل إلى قومه خاصة، وفي مدة محدودة، وزمان محدود، ومع ذلك تعبوا كثيرا في سبيل دعوتهم، فما بالك برسول بعث إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان، لا شك أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمله إخوانه من الرسل السابقين.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ويوطنه على تحمل المشاق من بداية الطريق حتى لا تفت في عضده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة، يقول له : ليست السيادة أمرا سهلا، إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد، كما تنبه ولدك : انتبه، فالامتحانات ستأتي هذا العام صعبة، فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة، فاجتهد حتى تحصل على مجموع مرتفع، وحين يسمع الولد هذا التنبيه يجمع تماسكه، ويجمع تركيزه، فلا يهتز حين يواجه الامتحانات.
ثم يذكر الحق- تبارك وتعالى- نماذج للمكذبين للرسل :﴿ قوم نوح وعاد وثمود ( ٤٢ ) ﴾ [ الحج ].
ثم يقول تعالى :
﴿ وقوم إبراهيم وقوم لوط ( ٤٣ ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ :
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين، إلا في قصة موسى فذكر المكذب، فلم يقل : وقوم موسى بل قال : وكذب موسى، لماذا ؟ قالوا : لأن مهمته كانت أصعب حيث تعرض في دعوته لمن ادعى الألوهية ذاتها.
وقوله تعالى :﴿ فأمليت للكافرين ثم أخذتهم.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : أمليت : أمهلت حتى ظنوه إهمالا، وهو إمهال بأن يمد الله لهم، ويطيل في مدتهم، لا إكراما لهم، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخذ عزيز مقتدر، وفي آية أخرى يوضح لنا هذه البرقية المختصرة، فيقول سبحانه :
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما.. ( ١٧٨ ) ﴾ [ آل عمران ].
وفي هذا المعنى يقول أيضا :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( ٥٥ ) ﴾ [ التوبة ].
إذن : لا تغتر بما في أيديهم، لأنه فتنة، حتى إذا أخذهم الله كانت حسرتهم أكبر، فمن عدم هذه النعم لا يتعلق قلبه بها، ولا يألم لفقدها.
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول، وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه، لكن فوجئ الجميع بأنه يوليه منصبا مرموقا في القاهرة، فتعجب الناس وسألوه في ذلك فقال : نعم، وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسر عليها حين تسلب منه، وتكون أنكى له. يعني : يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته، لأنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثلا ؟.
ثم يقول تعالى :﴿ فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : الحق سبحانه يلقي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به. والمراد : أعاقبناهم بما يستحقون ؟.
والنكير : هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالذي يكرمك ويواسيك ويبش في وجهك ويغدق عليك، ثم يقطع عنك هذا كله، فتقول : لماذا تنكر لي فلان ؟ يعني : قطع عني نعمته.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أن ينتزع منا الإقرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه ومكذبي رسله، وهذا المعنى جاء أيضا في قوله تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون ( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( ٣١ ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( ٣٣ ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون ( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾ [ المطففين ] : يعني : هل جوزي الكفار بما عملوا ؟ وهل استطعنا أن نعاقبهم بما يستحقون من العذاب ؟.
﴿ فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : أي : إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدلها الله عليهم نقمة.
ثم يقول تعالى :
﴿ وقوم إبراهيم وقوم لوط ( ٤٣ ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ :
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين، إلا في قصة موسى فذكر المكذب، فلم يقل : وقوم موسى بل قال : وكذب موسى، لماذا ؟ قالوا : لأن مهمته كانت أصعب حيث تعرض في دعوته لمن ادعى الألوهية ذاتها.
وقوله تعالى :﴿ فأمليت للكافرين ثم أخذتهم.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : أمليت : أمهلت حتى ظنوه إهمالا، وهو إمهال بأن يمد الله لهم، ويطيل في مدتهم، لا إكراما لهم، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخذ عزيز مقتدر، وفي آية أخرى يوضح لنا هذه البرقية المختصرة، فيقول سبحانه :
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما.. ( ١٧٨ ) ﴾ [ آل عمران ].
وفي هذا المعنى يقول أيضا :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( ٥٥ ) ﴾ [ التوبة ].
إذن : لا تغتر بما في أيديهم، لأنه فتنة، حتى إذا أخذهم الله كانت حسرتهم أكبر، فمن عدم هذه النعم لا يتعلق قلبه بها، ولا يألم لفقدها.
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول، وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه، لكن فوجئ الجميع بأنه يوليه منصبا مرموقا في القاهرة، فتعجب الناس وسألوه في ذلك فقال : نعم، وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسر عليها حين تسلب منه، وتكون أنكى له. يعني : يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته، لأنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثلا ؟.
ثم يقول تعالى :﴿ فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : الحق سبحانه يلقي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به. والمراد : أعاقبناهم بما يستحقون ؟
والنكير : هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالذي يكرمك ويواسيك ويبش في وجهك ويغدق عليك، ثم يقطع عنك هذا كله، فتقول : لماذا تنكر لي فلان ؟ يعني : قطع عني نعمته.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أن ينتزع منا الإقرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه ومكذبي رسله، وهذا المعنى جاء أيضا في قوله تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون ( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( ٣١ ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( ٣٣ ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون ( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾ [ المطففين ] : يعني : هل جوزي الكفار بما عملوا ؟ وهل استطعنا أن نعاقبهم بما يستحقون من العذاب ؟.
﴿ فكيف كان نكير ( ٤٤ ) ﴾ [ الحج ] : أي : إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدلها الله عليهم نقمة.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( ٤٥ ) ﴾ :
قوله تعالى :﴿ فكأين من قرية.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] :( كأين ) أداة تدل على الكثرة مثل : كم الخبرية حين تقول : كم أحسنت إليك. تعني مرات عديدة تفوق الحصر، فهي تدل على المبالغة في العدد والكمية، ومنها قوله تعالى :﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير.. ( ١٤٦ ) ﴾ [ آل عمران ].
والقرية١ : اسم للمكان، وحين يهلك الله القرية لا يهلك المكان، إنما يهلك المكين فيه، فالمراد بالقرية أهلها، كما ورد في قوله تعالى :﴿ واسأل القرية٢ التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾ [ يوسف ] : أي : اسأل أهل القرية.
ويحتمل أن يكون المعنى : اسأل القرية تجبك، لأنك لو سألت أهل القرية فلربما يكذبون، أما القرية فتسجل الأحداث وتخبر بها كما حدثت.
وقد يتعدى الهلاك إلى القرية ذاتها، فيغير معالمها بدليل قوله تعالى :﴿ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.. ( ٥٢ ) ﴾ [ النمل ].
ومعنى :﴿ أهلكناها وهي ظالمة.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : بسبب ظلمها، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( ١١٢ ) ﴾ [ النحل ].
فهلاك القرى لا بد أن يكون له سبب، فلما وقع عليها الهلاك أصبحت ﴿ خاوية على عروشها.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : الشيء الخاوي يعني : الذي سقط وتهدم على غيره، وقوله :﴿ على عروشها.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : يدل على عظم ما حل بها من هلاك، حيث سقط السقف أولا، ثم انهارت عليه الجدران، أو : أن الله تعالى قلبها رأسا على عقب، وجعل عاليها سافلها.
وقوله سبحانه :﴿ وبئر معطلة.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : البئر : هو الفجوة العميقة في الأرض، بحيث تصل إلى مستوى الماء الجوفي، ومنه يخرجون الماء للشرب وللزراعة.. إلخ ومنه قوله تعالى :﴿ ولما ورد ماء مدين.. ( ٢٣ ) ﴾ [ القصص ] : أي : البئر الذي يشربون منه.
والبئر حين تكون عاملة ومستفادا منها تلحظ حولها مظاهر حياة، حيث ينتشر الناس حولها، وينمو النبات على بقايا المياه المستخرجة منها، ويحوم حولها الطير ليرتوي منها، أما البئر المعطلة غير المستعملة فتجدها خربة ليس بها علامات حياة، وربما تسفو٣ عليها الرياح، وتطمسها فتعطل وتهجر، فالمراد معطلة عن أداء مهمتها، ومهمة البئر السقيا.
﴿ وقصر مشيد ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : القصر : اسم للمأوى الفخم، لأن المأوى قد يكون خيمة، أو فسطاطا، أو عريشة، أو بيتا، أو عمارة، وعندما يرتقي الإنسان في المأوى فيبني لنفسه شيئا خاصا به، لكن لا بد له أن يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلافه، أما القصر فيعني مكان السكن الذي يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه، بحيث لا تحتاج إلى الخروج منه، يعني : بداخله كل مقومات الحياة. ومنه : سميت الحور مقصورات في قوله تعالى :﴿ حور مقصورات في الخيام ( ٧٢ ) ﴾ [ الرحمن ] : يعني : لا تتعداها ولا تخرج منها.
و﴿ مشيد ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : من الشيد، وهو الجير الذي يستعمل كمونة في بناء الحجر يعني : مادة للصق الحجارة، وجعلها على مستوى واحد، وقديما كان البناء بالطوب اللبن، والمونة من الطين، أما في القصور والمساكن الفخمة الراقية فالبناء بالحجر، والمشيد أيضا العالي المرتفع، ومنه قولهم : أشاد به يعني : رفعه وأعلى من مكانته، والارتفاع من ميزات القصور، ومعلوم أن مقاسات الغرف في العمارات مثلا غيرها في القصور، هذه ضيقة منخفضة، وهذه واسعة عالية.
وفي قوله تعالى :﴿ وقصر مشيد ( ٤٥ ) ﴾ [ الحج ] : دليل على أن هؤلاء المهلكين كانوا من أصحاب الغنى والنعيم، ومن سكان القصور ومن علية القوم.
١ - القرية: البلدة الكبيرة تكون أقل من المدينة، أو هي كل مكان اتصلت به الأبنية. [القاموس القويم ٢/١١٥]..
٢ - قال قتادة: المراد بالقرية هنا مصر. نقله ابن كثير في تفسيره (٢/٤٨٧) والقرطبي في تفسيره (٥/٣٥٨٠) وقالا: وقيل قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. لفظ القرطبي..
٣ - سفت الريح التراب: ذرته، وقيل: حملته. والسافياء: الريح التي تحمل ترابا كثيرا على وجه الأرض تهجمه على الناس. [لسان العرب- مادة: سفا]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾ :
السير : قطع مسافات من مكان إلى آخر، ويسمونه السياحة، والحق سبحانه يدعو عباده إلى السياحة في أنحاء الأرض، لأن للسياحة فائدتين :
فإما أن تكون سياحة استثمارية لاستنباط الرزق إن كنت في مكان يضيق بك العيش فيه، كهؤلاء الذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرزق.
وإما أن تكون سياحة لأخذ العبرة والتأمل في مخلوقات الله في ملكه الواسع ليستدل بخلق الله وآياته على قدرته تعالى.
والسياحة في البلاد المختلفة تتيح لك فرصة ملاحظة الاختلافات من بيئة لأخرى، فهذه حارة وهذه باردة، وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء لا يوجد بها حبة رمل، لذلك يخاطبنا ربنا تبارك وتعالى :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا.. ( ١١ ) ﴾ [ الأنعام ].
فالعطف في الآية ب( ثم ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى، هي الاستثمار وطلب الرزق، ففي الآية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين، فحين تذهب للعمل إياك أن تغفل عن آيات الله في المكان الذي سافرت إليه، وخذ منه عبرة كونية تفيدك في دينك.
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا ( ٦٩ ) ﴾ [ النمل ].
العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب، يعني : سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله، فهي خاصة بسياحة الاعتبار والتأمل، لا سياحة الاستثمار وطلب الرزق.
لذلك يقولون في الأمثال :( اللي يعيش ياما يشوف، واللي يمشي يشوف أكثر ) فكلما تعددت الأماكن تعددت الآيات والعجائب الدالة على قدرة الله، وقد ترى منظرا لا يؤثر فيك، وترى منظرا آخر يهزك ويحرك عواطفك، وتأملاتك في الكون.
وقوله :﴿ أفلم يسيروا.. ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلا، كما تقول : أفلم أكرمك ؟ ولا تقول هذا إلا إذا أكرمته فعلا، وقد حدث أنهم ساروا فعلا في البلاد أثناء رحلة الشتاء والصيف، وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين، كما قال تعالى :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( ١٣٧ ) ﴾ [ الصافات ].
يعني : أنتم أهل سير وترحال وأهل نظر في مصير من قبلكم، فكيف يقبل منكم الانصراف عن آيات الله ؟
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ﴾ [ الحج ] : فما داموا قد ساروا وترحلوا في البلاد، فكيف لا يعقلون آيات الله ؟ وكيف لا تحرك قلوبهم ؟.
ولنا وقفة عند قوله تعالى :﴿ فتكون لهم قلوب يعقلون بها.. ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : وهل يعقل الإنسان بقلبه ؟ معلوم أن العقل في المخ، والقلب في الصدر.
نعم، للإنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسات يسمونها تأدبا مع العلم : الحواس الخمس الظاهرة، لأن العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواسا أخرى غير ظاهرة، فحين تمسك بشيئين مختلفين يمكنك أن تميز أيهما أثقل من الآخر، فبأي حاسة من الحواس الخمس المعروفة توصلت إلى هذه النتيجة ؟.
إن قلت بالعين فدعها على الأرض وانظر إليها، وإن قلت باللمس فلك أن تلمسها دون أن ترفعها من مكانها، إذن : فأنت لا تدرك الثقل بهذه الحواس، إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة العضل الذي يميز لك الخفيف من الثقيل.
وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك، فتستطيع أن تميز الثخين من الرقيق، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يذكر، فبأي حاسة أدركته ؟ إنها حاسة البين. كذلك هناك حاسة البعد وغيرها من الحواس التي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان.
فلما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخل العقل ليغربل هذه المدركات، ويختار من البدائل ما يناسبه، فإن كان سيختار ثوبا يقول : هذا أنعم وأرق من هذا، وإن كان سيختار رائحة يقول : هذه ألطف من هذه، إن كان في الصيف اختار الخفيف، وإن كان في الشتاء اختار السميك.
وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذهن وتقتنع بها، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك، ولا لاختيار بين البدائل، وعندها تنفد ما استقر في نفسك، وارتحت إليه بقلبك.
إذن : إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستورا لحياتك، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيت إليه، واستقر في قلبك ووجدانك.
لكن، لماذا القلب بالذات ؟ قالوا : لأن القلب هو الذي يقوم بعملية ضخ سائل الحياة، وهو الدم في جميع أجزاء الجسم وجوارحه، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان، لذلك قالوا : الإيمان محله القلب، كيف ؟ قالوا : لأنك غربلت المسائل وصفيت القضايا إلى أن استقرت العقيدة والإيمان في قلبك، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقر فيه، ومن القلب تمتد العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان، وما دمت قد انتهيت إلى مبدأ وعقيدة، فإياك أن تخالفه إلى غيره، وإلا فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه.
وكلمة ﴿ يعقلون بها ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين البدائل، فالعقل من مهامه أن يعقل صاحبه عن الخطأ، ويعقله أن يشرد في المتاهات، والبعض يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأن يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء، لا، العقل من عقال الناقة الذي يمنعها، ويحجزها أن تشرد منك.
ثم يقول سبحانه :﴿ أو آذان يسمعون بها ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع ؟ نعم، لهم آذان تسمع، لكن سماع لا فائدة منه، فكأن الحاسة غير موجودة، وإلا ما فائدة شيء سمعته لكن لم تستفد به ولم توظفه في حركة حياتك، إنه سماع كعدمه، بل إن عدمه أفضل منه، لأن سماعك يقيم عليك الحجة.
﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : فعمى الأبصار شيء هين، إذا ما قيس بعمى القلوب١، لأن الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أن يسمع، وأن يعمل عقله، وأن يهتدي، وما لا يراه بعينه يمكن أن يخبره به غيره، ويصفه له وصفا دقيقا وكأنه يراه، لكن ما العمل إذا عميت القلوب، والأنظار مبصرة ؟.
وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعوض، فما البديل إذا عمي القلب ؟ الأعمى يحاول أن يتحسس طريقه، فإن عجز قال لك : خذ بيدي، أما أعمى القلب فماذا يفعل ؟.
لذلك، نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر : أعمى القلب. يعني : طمس على قلبه فلا يعي شيئا.
وقوله :﴿ القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] : معلوم أن القلوب في الصدور، فلماذا جاء التعبير هكذا ؟ قالوا : ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي، حتى لا تظن أنه القلب التفكيري التعقلي، كما جاء في قوله تعالى :﴿ يقولون بأفواههم ( ١٦٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
ومعلوم أن القول من الأفواه، لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلام، لأن القول قد يكون بالإشارة والدلالة، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول وآكده، لذلك قال الشاعر :
جراحات السنان لها التئام**** ولا يلتام ما جرح اللسان
ويقولون : احفظ لسانك الذي بين فكيك، وهل اللسان إلا بين الفكين ؟ لكن أراد التوكيد على القول والكلام خاصة، لا على طرق التفاهم والتعبير الأخرى.
١ - قال قتادة: البصر النافذ جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربعة أعين، يعني لكل إنسان أربعة أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. [تفسير القرطبي ٦/٤٦٠٨]..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( ٤٧ ) ﴾ :
ألم يقولوا في استعجال العذاب :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ٣٢ ) ﴾ [ الأنفال ].
وقالوا :﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٧٠ ) ﴾ [ الأعراف ].
ولا يستعجل الإنسان العذاب إلا إذا كان غير مؤمن به، المؤمن بالعذاب- حقيقة- يخاف منه، ويريد أن يبطئ عنه أو أن ينجو منه. والمعنى :﴿ ويستعجلونك بالعذاب.. ( ٤٧ ) ﴾ [ الحج ] : أنهم يظنون أنه إن توعدهم الله بالعذاب فإنه سيقع لتوه. لذلك، الحق سبحانه يصحح لهم هذا الفهم، فيقول :﴿ ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( ٤٧ ) ﴾ [ الحج ] : فلا تتعجلوا توعدكم به، فهو واقع بكم لا محالة، لأنه وعد من الله، والله لا يخلف وعده، لكن اعلموا أن اليوم عند الله ليس كيومكم، اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة، أما عند الله فهو كألف سنة من حسابكم أنتم للأيام.
واليوم زمن يتسع لبعض الأحداث، ولا يسع أكثر مما قدر أن يفعل فيه من الأحداث، أما اليوم عند الله- عز وجل- فيسع أحداثا كثيرة تملأ من الزمن ألف سنة من أيامكم، ذلك لأنكم تزاولون الأعمال وتعالجونها، أما الخالق سبحانه فإنه لا يزاول الأفعال بعلاج، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون، ففعلك يحتاج إلى وقت، أما فعل ربك فبكلمة كن. وقد شاء الحق سبحانه أن يعيش هؤلاء في عذاب التفكير في هذا الوعيد طوال عمرهم، فيعذبون به قبل حدوثه.
إذن : لا تظن أن العذاب الذي توعدكم به سيحدث اليوم أو غدا، لا، لأن حساب الوقت مختلف.
ألم تقرأ قول الله تعالى لنبيه موسى- عليه السلام- لما دعا على قومه :﴿ ربنا اطمس على أموالهم٢ واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( ٨٨ ) ﴾ [ يونس ].
قال له ربه :﴿ قد أجيبت دعوتكما.. ( ٨٩ ) ﴾ [ يونس ].
ويقول المفسرون٣ : حدثت هذه الإجابة لموسى بعد أربعين سنة من دعوته عليهم.
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( ٥ ) ﴾ [ السجدة ].
وتزيد هذه المدة في قوله سبحانه :﴿ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( ٤ ) ﴾ [ المعارج ]. لماذا ؟ لأن الزمن عندكم في هذه الحالة معطل، فأنتم من هول ما ترون تستطيلون القصير، ويمر عليكم الوقت ثقيلا، لذلك تتمنون الانصراف ولو إلى النار.
كما أن صاحب النعيم يستقصر الطويل، ويمر عليه الوقت كأنه لمح البصر، ومن ذلك ما تلاحظه من قصر الوقت مع الأحبة وطوله مع الأعداء ومن لا يهواه قلبك، ولهذه المسألة شواهد كثيرة في شعرنا العربي، منها قول أحدهم :
حادثات السرور توزن وزنا والبلايا تكال بالقفزان٤
وقول الآخر :
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ***ونفى عني الكرى طيف ألم٥
ويقول ابن زيدون :
إن يطل بعدك ليلي فلكم بت أشكو قصر الليل معك.
١ - سبب نزول الآية: قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٦٠٩): "نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله: ﴿فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (٧٠)﴾ [الأعراف]. وقيل نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله ﴿فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (٣٢)﴾ [الأنفال]..
٢ - قال الضحاك: صارت دنانيرهم ودراهمهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. [الدر المنثور للسيوطي ٤/٣٨٤] وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ - قاله مجاهد فيما أخرجه عنه الحكيم الترمذي. وقال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن المنذر: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. أوردهما السيوطي في (الدر المنثور: ٤/٣٨٥)..
٤ - القفزان: جمع قفيز وهو من المكاييل، وهو من الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراعا. [لسان العرب- مادة: قفز]..
٥ - هذا البيت لبشار بن برد. ذكره أبو علي القالي في الأمالي (١/١٣٢) والكرى: النوم والنعاس..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ( ٤٨ ) ﴾ :
﴿ وكأين ( ٤٨ ) ﴾ [ الحج ] : قلنا : تدل على الكثرة يعني : كثير من القرى، ﴿ أمليت ( ٤٨ ) ﴾ [ الحج ] : أمهلت، لكن طول الإمهال لا يعني الإهمال، لأن الله تعالى يملي للكافر ويمهله لأجل، فإذا جاء الأجل والعقاب أخذه.
﴿ ثم أخذتها ( ٤٨ ) ﴾ [ الحج ] : وأخذ الشيء يتناسب مع قوة الآخذ وقدرته وعنف الانتقام بحسب المنتقم، فإذا كان الآخذ هو الله عز وجل، فكيف سيكون أخذه ؟.
في آية أخرى يوضح ذلك فيقول :﴿ أخذ عزيز مقتدر ( ٤٢ ) ﴾ [ القمر ] : لا يغالب، ولا يمتنع منه أحد، وكلمة الأخذ فيها معنى الشدة والعنف والقهر.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإلي المصير ( ٤٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : المرجع والمآب، فلن يستطيعوا أن يفلتوا.
إذن : الإملاء : تأخير العذاب إلى أجل معين، كما قال سبحانه :﴿ فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( ١٧ ) ﴾ [ الطارق ].
هذا الأجل قد يكون لمدة، ثم يقع بهم العذاب، كما حدث في الأمم السابقة التي أهلكها الله بالخسف أو بالغرق.. إلخ، أما في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فيكون الإملاء بأحداث سطحية في الدنيا، كالذي حل بالكفار من الخزي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم، أما العذاب الحقيقي فينتظرهم في الآخرة.
لذلك يقول الحق- تبارك وتعالى- لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تستبطئ عذابهم والانتقام منهم في الدنيا، فما لم تره فيهم من العذاب في الدنيا ستراه في الآخرة :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( ٧٧ ) ﴾ [ غافر ].
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ( ٤٩ ) ﴾ :
والإنذار نوع من الرحمة، لأنك تخبر بشر قبل أوانه، ليحذره المنذر، ويحاول أن ينجي نفسه منه، ويبتعد عن أسبابه، فحين أذكرك بالله، وأنه يأخذ أعداءه آخذ عزيز مقتدر، فعليك أن تربأ بنفسك عن هذه النهاية، وأن تنجو من دواعي الهلاك.
ومعنى ﴿ مبين ( ٤٩ ) ﴾ [ الحج ] : محيط، لا يترك صغيرة ولا كبيرة.
﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ( ٥٠ ) ﴾ :
وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذارة، وأثمرت فيهم، فآمنوا بالله إلها فاعلا مختارا له صفات الكمال المطلق، ثم عملوا على مقتضى أوامره، لذلك يكون لهم مغفرة إن كانت ألمت نفوسهم بشيء من المعاصي، ويكون لهم رزق كريم. والكريم هو البذال، كأن الرزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة، كما أن الكريم هو الذي يده مبسوطة دائما بالعطاء، على حد قول الشاعر :
وإني امرؤ لا تستقر دراهمي ****على الكف إلا عابرات سبيل
فالرزق نفسه كريم، لأنه ممدود لا ينقطع، كما لو أخذت كوب ماء من ماء جار، فإنه يحل محله غيره على الفور، وهكذا.
﴿ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ( ٥١ ) ﴾ :
السعي : عمل يذهب إلى غاية، فإن كان قطع مسافة نقول : سرنا من كذا إلى كذا، وإن كان في قضية علمية فكرية، فيعني : أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية.
والسعي لا يحمد على إطلاقه، ولا يذم على إطلاقه، فإن كان في خير فهو محمود ممدوح، كالسعي الذي قال الله فيه :﴿ أولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) ﴾ [ الإسراء ]، وإن كان في شر فهو قبيح مذموم، كالسعي الذي قال الله تعالى فيه :﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( ٢٠٣ ) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ( ٢٠٥ ) ﴾ [ البقرة ].
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر. وتعني : الوشاية والسعي بين الناس بالنميمة، تقول : فلان سعاء بين الخلق يعني : بالشر ينقله بين الناس بقصد الأذى، وهؤلاء إن علموا الخير أخفوه، وإن علموا الشر أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا.
لذلك، نقول عما ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس : هذا آفة الآخذ، يعني : الذي سمع الشر ونقله وسعى به، وكان عليه أن يحبسه ويخفيه، حتى لا تنتشر هذه الرذيلة بين الخلق.
وقد وشى واش بهمام بن عبد الله السلولي إلى زياد بن أبيه، وكان زياد جبارا فقال للواشي : أأجمع بينك وبينه ؟ فلم يجد الواشي بدا من أن يقول : نعم، فكيف ينكر ما قال ؟ ولعله قال في نفسه : لعل الله يقضي أمرا يخرجني من هذه ( الورطة ) قبل هذه المواجهة ؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأتي به، وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار، وأدخل همام، فقال له : يا همام بلغني أنك هجوتني، فقال : كلا، أصلحك الله ما فعلت، ولا أنت لذلك بأهل، فكشف زياد الستار وقال : هذا الرجل أخبرني أنك هجوتني، فنظر ابن همام، فإذا هو صديق له يجالسه، فقال له :
أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا**** فخنت وإما قلت قولا بلا علم
فأبت من الأمر الذي كان بيننا**** بمنزلة بين الخيانة والإثم١
يعني : أنت مذموم في كل الأحوال، لأنك إما خنت أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سرا فضفضت لك به، وإما اختلقت هذا القول كذبا وبلا علم.
وعندما خلع زياد على همام الخلع٢، لكنه لم يعاقب الواشي، وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل إليهم، وأن آذانهم قد أخذت على ذلك وتعودت عليه.
ومعنى ﴿ في آياتنا ( ٥١ ) ﴾ [ الحج ] : والآيات إما كونية، كالشمس والقمر، وإما معجزات، وإما آيات الأحكام، وسعوا فيها يعني : قالوا فيها قولا باطلا غير الحق، كما يسعى الواشي بالباطل بين الناس، فهؤلاء إن نظروا في آيات الكون قالوا : من صنع الطبيعة. وإن شاهدوا معجزة على يد نبي قالوا : سحر وأساطيل الأولين، وإن سمعوا آيات الأحكام تتلى قالوا : شعر. وهم بذلك كله يريدون أن يفسدوا على أهل الإيمان إيمانهم، ويصدوا عن سبيل الله.
ومعنى ﴿ معاجزين ( ٥١ ) ﴾ [ الحج ] : جمع لاسم الفاعل معاجز مثل : مقاتل، وهي من عاجز غير عجز عن كذا يعني : لم يقدر عليه، عاجز فلان فلانا يعني باراه أيهما يعجز قبل الآخر، فعاجزه مثل باراه ليثبت أنه الأفضل، ومثل : سابقه ونافسه.
إذن : فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة، وكلمة نافسه الأصل فيها من النفس الذي نأخذه في الشهيق، ونخرجه في الزفير، والذي به يتأكسد الدم، وتستمر حركة الإنسان، فإن امتنع التنفس يموت، لأن الإنسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء، لكنه لا يصبر على الهواء ولو لنفس واحد.
وقد حدثت هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي الله عنهما : قال عمر للعباس : أتنافسني في الماء، يعني : نغطس تحت الماء وننظر أيهما يعجز الآخر، ويتحمل عملية توقف النفس، ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها الإنسان إن كتم نفسه وهو في جو الهواء، أما إن نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء، فكيف سيحتال على هذه المسألة ؟ وتحت الماء لا يكون إلا الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته، ومثل هذه المنافسة توضح أيهما أفسح صدرا من الآخر، وأيهما أكثر تحملا تحت الماء. هذه هي المعاجزة.
فمعنى ﴿ سعوا في آياتنا معاجزين.. ( ٥١ ) ﴾ [ الحج ] : أي : يظنون أنهم قادرون أن يعجزونا، فحين نأتي إليهم بكلام بليغ معجز يختلقون كلاما فارغا ليعجزونا به، فأنى يكون لهم ذلك ؟ وأنى لهم أن يطعنوا بكلامهم على كلام الله ؟.
ثم يبين جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة :﴿ أولئك أصحاب الجحيم ( ٥١ ) ﴾ [ الحج ] : فهذا حكم الله فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق، فمن ذا الذي يعجز الله ؟
١ - أورد الغزالي هذه الأبيات في "إحياء علوم الدين" (٣/١٥٧)، ولكنه ذكر قصة غير هذه في مناسبتها، قال: "سعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زياد على الرجل وقال.." وذكر الأبيات..
٢ - الخلعة من الثياب: ما خلعته فطرحته على آخر أو لم تطرحه. كل ثوب تخلعه عنك خلعة. [لسان العرب- مادة: خلع]..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( ٥٢ ) ﴾ :
أثارت هذه الآية جدلا طويلا بين العلماء، ودخل فيه كثير من الحشو والإسرائيليات، خاصة حول معنى ﴿ تمنى ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : وهي ترد في اللغة بمعنيين، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أولى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة، كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنهما :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها وافاه حتم المقادر٢.
يعني : قتل عثمان وهو يقرأ القرآن، وهذا المعنى غريب في حمل القرآن عليه لعدم شيوعه٣.
وتأتي تمنى بمعنى : أحب أن يكون الشيء، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب. أما بمعنى قرأ فهو غير شائع، ويرد هذا القول، وينقضه نقضا أوليا مبدئيا قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ].
ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه، أما النبي فلا ينزل عليه كتاب، بل يعمل بشرع من سبقه من الرسل. إذن : فما دام الرسول والنبي مشتركين في إلقاء الشيطان، فلا بد أن تكون الأمنية هنا بمعنى : أحب أن يكون الشيء، لا بمعنى قرأ، فأي شيء سيقرأ النبي وليس معه كتاب ؟.
والذين فهموا التمني في قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : أنه بمعنى : قرأ، سواء أكانوا من العلماء المتعمقين أو السطحيين، قالوا : المعنى إذا قرأ رسول الله القرآن تدخل الشيطان في القراءة، حتى يدخل فيها ما ليس منها.
وذكروا دليلا على ذلك في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم اللات والعزى ( ١٩ ) ومناة الثالثة الأخرى ( ٢٠ ) ﴾ [ النجم ] : ثم أضافوا : والغرانيق٤ العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام، ثم نسخه الله بعد ذلك، وأحكم الله آياته.
لكن هذا القول يشكك في قضية القرآن، وكيف نقول به بعد أن قال الله تعالى في القرآن :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾ [ الشعراء ].
وقال :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( ٤٤ ) لأخذنا منه باليمين ( ٤٥ ) ثم لقطعنا منه الوتين٥ ( ٤٦ ) فما منكم من أحد عنه حاجزين ( ٤٧ ) ﴾ [ الحاقة ].
إذن : الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث، وكيف ندخل في القرآن هذه الكفريات ؟ وكيف تستقيم عبارتهم : والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى مع قول الله تعالى :
﴿ أفرأيتم اللات والعزى ( ١٩ ) ومناة الثالثة الأخرى ( ٢٠ ) ألكم الذكر وله الأنثى ( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى ( ٢٢ ) ﴾ [ النجم ]. كيف ينسجم هذا وذاك ؟.
فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم، ولا يمكن للشيطان أن يدخل في القرآن ما ليس منه، لكن يحتمل تدخل الشيطان على وجه آخر : فحين يقرأ رسول الله القرآن، وفيه هداية للناس، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات، أتنتظر من عدو الله أن يخلي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أن يشوش عليهم، ويبلبل أفكارهم، ويحول بينهم وبين سماعه ؟
فإذا تمنى الرسول يعني : قرأ ألقى الشيطان في أمنيته، وسلط أتباعه من البشر يقولون في القرآن : سحر وشعر وإفك وأساطير الأولين. فدور الشيطان- إذن- لا أن يدخل في كلام الله ما ليس منه، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يمكنه الله من كتابه أبدا، إنما يمكن أن يلقي في طريق القرآن وفهمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصد الناس عن فهمه والتأثر به، وتفسد القرآن في نظر من يريد أن يؤمن به.
لكن، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصد الناس عنه جاءت بنتيجة، وصرفت الناس فعلا عن كتاب الله ؟.
لقد خيب الله سعيه، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به، لأن القرآن وجد قلوبا وآذانا استمعت وتأملت فآمنت وانهارت لجلاله وعظمته وخضعت لأسلوبه وبلاغته، فآمنوا به واحدا بعد الآخر.
ثم يقول تعالى :﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أن يصد الناس عن القرآن، وأحكم الله آياته، وأوضح أنها منه سبحانه، وأنه كلام الله المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
هذا على قول من اعتبر أن ﴿ تمنى ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : بمعنى : قرأ.
أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه، فنقول : الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخلق، فإن كان قادرا على تطبيق المنهج في نفسه فإن أمنيته أن يصدق وأن يطاع فيما جاء به، أمنيته أن يسود منهجه ويسيطر ويسوس به حركة الحياة في الناس.
والنبي أو الرسول هو أولى الناس بقومه، وهو أحرصهم على نفعهم وهدايتهم، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ٦.
لكن، هل يترك الشيطان لرسول الله أن تتحقق أمنيته في قومه أم يضع في طريقه العقبات، ويحرك ضده النفوس، فيتمرد عليه قومه حيث يذكرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام ؟.
وهكذا يلقي الشيطان في أمنية الرسول ﴿ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم، أليس هو صاحب فكرة :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه.. ( ٢٦ ) ﴾ [ فصلت ].
إن الشيطان لو لم يلق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويشكك فيه لآمن به كل من سمعه، لأن للقرآن حلاوة لا تقاوم، وأثرا ينفذ إلى القلوب مباشرة.
ومع ذلك لم يفت ما ألقى الشيطان في عضد القرآن، ولا في عضد الدعوة، فأخذت تزداد يوما بعد يوم، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدقين به، المهم أن نتنبه : كيف نستقبل القرآن، وكيف نتلقاه، لا بد أن نستقبله استقبال الخالي من هوى، فالذي يفسد الأحكام أن تستقبل وتدخل على هوى سابق.
وسبق أن قلنا : إن الحيز الواحد لا يسع شيئين في وقت واحد، لا بد أن تخرج أحدهما لتدخل الآخر، فعليك- إذن- أن تخلي عقلك وفكرك تماما، ثم تستقبل كلام الله، وابحث فيه كما شئت، فسوف تنتهي إلى الإيمان به شريطة أن تصفي له قلبك، فلا تبق في ذهنك ما يعكر صفو الفطرة التي خلقها الله فيك، عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك، فإذا أشرب قلبك حب القرآن، فلا يزحزحه بعد ذلك شيء.
ولنا في إسلام سيدنا عمر مثال وعظة، فلما سمع القرآن من أخته لأول مرة، وقد أغلق قلبه على كفره لم يتأثر به، وضربها حتى أدمى وجهها، وعندها رق قلبه، وتحركت عاطفته نحو أخته، وكأن عاطفة الحب زحزحت عاطفة العداوة، وكشفت عن صفاء طبعه، فلما سمع القرآن بعدها آمن به على الفور٧.
كذلك، إن أردت أن تناقش قضية الإيمان أو الكفر، وأن تختار بينهما، لأنهما لا يجتمعان أبدا، ولا بد أن تختار، فحين تناقش هذه القضية وأنت مصر على الكفر فلن تصل إلى الإيمان، لأن الله يطبع على القلب المصر فلا يخرج منه الكفر، ولا يدخله الإيمان، إنما أخرج الكفر أولا وتحرر من أسره، ثم ناقش المسائل كما تحب.
كما قال تعالى :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة.. ( ٤٦ ) ﴾ [ سبأ ].
أما أن تناقش قضية، وفي ذهنك فكرة مسبقة، فأنت كهؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا.. ( ١٦ ) ﴾ [ محمد ] : يعني : ما الجديد الذي جاء به ؟ وما المعجزة في هذا الكلام ؟ فيأتي الرد :﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ( ١٦ ) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( ١٧ ) ﴾ [ محمد ].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآن :
﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. ( ٤٤ ) ﴾ [ فصلت ].
فالقرآن واحد، لكن المستقبل مختلف، وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك تنفخ فيه، وكذلك إن أردت أن تدفئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضا تنفخ فيها، كيف- إذن- والفاعل واحد ؟ نعم، الفاعل واحد، لكن المستقبل للفعل مختلف.
وقوله تعالى :﴿ من قبلك من رسول ولا نبي ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ].
( من ) هنا للدلالة على العموم وشمول كل الأنبياء والرسل السابقين، فكل نبي أو رسول يتمنى يعني : يود ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويطبق منهجه، ويؤمن به جميع قومه، لكن هيهات أن يتركه الشيطان وما أحب، بل لا بد أن يقف له بطريق دعوته ليصد الناس عنه ويصرفهم عن دعوته ومنهجه، لكن في النهاية ينصر الله رسله وأنبياءه، وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في طريق الدعوة، ثم يحكم الله آياته، ويؤكدها ويظهرها، فتصير محكمة لا ينكرها أحد.
وساعة تسمع كلمة ﴿ ألقى ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : فاعلم أن بعدها عقبات وشرورا، كما يقول تعالى :﴿ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ( ٦٤ ) ﴾ [ المائدة ].
ومما قاله أصحاب الرأي الأول في تفسير ﴿ تمنى ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : وأنها بمعنى قرأ : يقولون : إن الله تعالى ينزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أشياء تثبت بشريته، ثم يمحو الله آثار هذه البشرية ليبين أن الله صنعه على عينه، حتى إن همت بشريته بشيء يعصمه الله منها.
لذلك يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : " يرد علي فأقول : أنا لست كأحدكم، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ".
إذن : فالرسول بشر إلا أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلات البشر.
ومن بشريته ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تعرض للسحر، وهذه واقعة لا تنكر، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة، وقد كاد الكفار لرسول الله بكل أنواع الكيد : استهزاء، وسبابا، واضطهادا، وإهانة، ثم تآمروا عليه بليل ليقتلوه، وبيتوا له، فلم يفلحوا قال تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك٨ أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنفال ].
وكاد الله لرسوله وأخرجه من بينهم سالما، وهكذا فضح الله تبييتهم وخيب سعيهم، وفشلت محاولاتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول الله ما عجزوا هم عنه، وعملوا لرسول الله سحرا في مشط ومشاطة من شعره ( صلى الله عليه وسلم ) وطلع نخلة ذكر ففضحهم الله، وأخبر رسوله بذلك فأرسل الإمام عليا فأتى به من بئر ذروان٩.
وكأن الحق سبحانه يريد أن يبين لنا بشرية الرسول، وأنه يجري عليه ما يجري على البشر، لكن ربه لا يترك بشريته وحدها، وإنما يعصمه بقيوميته.
وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الأول : أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر العادي، لكن تتدخل السماء لتعصمه. ونحن نختار الرأي الآخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ود وأحب.
١ - سبب نزول الآية: أورد الواحدي في أسباب النزول (ص١٧٨) عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ﴿أفرأيتم اللات والعزى (١٩) ومناة الثالثة الأخرى (٢٠)﴾ [النجم] فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى. ففرح بذلك المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: اعرض علي كلام الله، فلما عرض عليه فقال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته.. (٥٢)﴾ [الحج]
قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢٢٩): "قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم"..

٢ - ذكره ابن منظور في لسان العرب- مادة: منى، بلفظ:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر..

٣ - قال أبو منصور: والتلاوة تسمى أمنية لأن تالي القرآن إذا مر بآية رحمة تمناها، وإذا مر بآية عذاب تمنى أن يوقاه. [لسان العرب- مادة منى]..
٤ - الغرانيق: الأصنام، وهي في الأصل: الذكور من طير الماء. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عز وجل وتشفع لهم إليه، فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. [لسان العرب- مادة غرنق]..
٥ - الوتين: عرق في القلب إذا قطع مات صاحبه، وهو الشريان الرئيسي الهام الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب. [القاموس القويم ٢/٣١٩]..
٦ - حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٣)، ومسلم في صحيحه (٤٥) كتاب الإيمان عن أنس بن مالك بلفظ "والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره- أو قال: لأخيه- ما يحب لنفسه"..
٧ - قصة إسلام عمر بن الخطاب ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٤٤) وفيها أنه قال: "لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى"..
٨ - أي: ليحبسوك ويبقوك في مكانك بمكة تحت سيطرتهم. وقيل: ليقيدوك. [القاموس القويم ١/١٠٥]..
٩ - أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢٦٨)، وكذا مسلم في صحيحه (٢١٨٩) من حديث عائشة رضي الله عنها..
ثم تختتم الآية بقوله تعالى :﴿ والله عليم حكيم ( ٥٢ ) ﴾ [ الحج ] : عليم بكيد الشيطان، وتدبيره، حكيم في علاج هذا الكيد.
﴿ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( ٥٣ ) ﴾ :
ولسائل أن يقول : إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، فلماذا كان الإلقاء بداية ؟.
جعل الله الإلقاء فتنة ليختبر الناس، وليميز من ينهض بأعباء الرسالة، فهي مسئولية لا يقوم بها إلا من ينفذ من الفتن، وينجو من إغراءات الشيطان، ويتخطى عقباته وعراقيله، لذلك قال الله تعالى عنهم :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ( ١١٠ ) ﴾ [ آل عمران ].
وما تبوأتم هذه المنزلة إلا لأنكم أهل لحمل هذه الأمانة، تمر بكم الفتن فتهزؤون بها ولا تزعزعكم، لذلك قال تعالى :﴿ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ( ٥٣ ) ﴾ [ الحج ] : أي : نفاق، فإن تعرض لفتنة انقلب على وجهه. يقول كما يقولون : سحر وكذب وأساطير الأولين.
وكذلك فتنة ﴿ والقاسية قلوبهم ( ٥٣ ) ﴾ [ الحج ] : وهم الذين فقدوا لين القلب، فلم ينظروا إلى الجميل عليهم في الكون خلقا وإيجادا وإمدادا، ولم يعترفوا بفضل الله عليهم، ولم يستبشروا به ويأتوا إليه.
ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه، ويركن إليهما، لأنه ذاق حنانهما، وتربى في رعايتهما، فإن ربته مثلا المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها، ويألف حضنها، ولا يلتفت لأمه، لماذا ؟ لأنه نظر إلى الجميل، من أين أتاه، ومن صاحب الفضل عليه فرق له قلبه، بصرف النظر من هو صاحب الجميل.
فهؤلاء طرأوا على كون الله، لا حول لهم ولا قوة، فاستقبلهم بكل ألوان الخير، ومع ذلك كانت قلوبهم قاسية متحجرة لا تعترف بجميل.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( ٥٣ ) ﴾ [ الحج ] : فهم ظالمون أولا لأنفسهم حين نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة، وتركوا منفعة كبيرة دائمة. والشقاق : الخلاف، ومنه قولنا : هذا في شق، وهذا في شق، يعني : غير ملتئمين، وليته شقاق هين يكون له اجتماع والتئام، ليته كشقاق الدنيا بين الناس على عرض من أعراض الحياة، إنما هم في شقاق بعيد. يعني : أثره دائم، وأثره فظيع.
إذن : العلة الأولى لما يلقي الشيطان أن يكون فتنة. أما العلة الثانية ففي قوله تعالى :
﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( ٥٤ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ( ٥٤ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : يتأكدوا تأكيدا واضحا أن هذا هو الحق، مهما شوش عليهم المشوشون، ومهما قالوا عنه : إنه سحر، أو كذب، أو أساطير الأولين، لأن الله سيبطل هذا كله، وسيقف أهل العلم والنظر على صدق القرآن بما لديهم من حقائق ومقدمات واستدلالات يعرفون بها أنه الحق.
وما دام هو الحق الذي لم تزعزعه هذه الرياح الكاذبة فلا بد أن يؤمنوا به ﴿ فيؤمنوا به ( ٥٣ ) ﴾ [ الحج ]، ثم يتبع هذا الإيمان عمل وتطبيق ﴿ فتخبت له ( ٥٤ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : تخشع وتخضع وتلين وتستكين.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( ٥٤ ) ﴾ [ الحج ].
فمسألة كيد الشيطان وإلقائه لم تنته بموت الرسول، بل هو قاعد لأمته من بعده، فالشيطان يقعد لأمة محمد كلها، ولكل من حمل عنه الدعوة.
يقول تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١١٢ ) ﴾ [ الأنعام ] :
يعني : دعهم جانبا فالله لهم بالمرصاد، فلماذا- إذن- فعلوه ؟ وما الحكمة ؟.
يقول تعالى :﴿ وليمحص الله الذين آمنوا.. ( ١٤١ ) ﴾ [ آل عمران ].
وقال :﴿ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ( ١١٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
فمهمة الشيطان أن يستغل ضعاف الإيمان، ومن يعبدون الله على حرف من أصحاب الاحتجاجات التبريرية الذين يريدون أن يبرروا لأنفسهم الانغماس في الشهوة والسير في طريق الشيطان، وهؤلاء يحلو لهم الطعن في الدين، ويتمنون أن يكون الدين والقيامة والرب أوهاما لا حقيقة لها، لأنهم يخافون أن تكون حقيقة، وأن يتورطوا بأعمالهم السيئة ونهايتهم المؤلمة، فهم- إذن- يستبعدون القيامة ويقولون :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( ١٦ ) ﴾ [ الصافات ].
لماذا ؟ لأنه يريد أن يبرر سلوكه، إنه يريد أن يخرج نفسه من ورطة، لا مخرج منها، وهؤلاء يتبعون كل ناعق، ويجرون وراء كل شبهة في دين الله يتلقفونها ويرددونها، ومرادهم أن يهدموا الدين من أساسه.
نسمع من هؤلاء المسرفين على أنفسهم مثلا من يعترض على تحريم الميتة وأكل الذبيحة، وهذا دليل على خميرة الشرك والكفر في نفوسهم، ولهم حجج واهية لا تنطلي إلا على أمثالهم من الكفرة والمنافقين، وهذه مسألة واضحة، فالموت غير القتل، غير الذبح.
الموت : أن تخرج الروح أولا دون نقض بنية الجسم، وبعد خروج الروح ينقض بناء الجسم، أما القتل فيكون بنقض البنية أولا، ويترتب على نقض البنية خروج الروح، كأن يضرب الإنسان أو الحيوان على رأسه مثلا، فيموت بعد أن اختل مخه وتهشم، فلم يعد صالحا لبقاء الروح فيه.
يقول تعالى :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل.. ( ١٤٤ ) ﴾ [ آل عمران ] : إذن : فالموت غير القتل.
وقد مثلنا لذلك بضوء الكهرباء الذي نراه، والذي يسري في الأسلاك، ويظهر أثره في هذه اللمبات، نحن لا نعرف حتى الآن كنه هذه الكهرباء وماهية هذا الضوء، إنما نراه وننعم به، فإذا ما كسرت هذه اللمبة ينطفئ النور، لأنها لم تعد صالحة لاستقبال هذا النور، رغم أنه موجود في الأسلاك، إذن : لا يظهر نور الكهرباء إلا في بنية سليمة لهذا الشكل الزجاجي المفرغ من الهواء.
كذلك الروح لا تسكن الجسم، ولا تبقى فيه إلا إذا كانت له مواصفات معينة، فإن اختلت هذه المواصفات خرجت الروح من الجسد.
أما الذبح فهو أيضا إزهاق روح، لكن بأمر الله خالقها وبرخصة منه سبحانه، كأن يقتل إنسان في قصاص، أو في قتال مشروع، أو نذبح الحيوان الذي أحله الله لنا وأمرنا بذبحه، ولولا أمر الله بذبحه ما ذبحناه، ولولا أن الله أحله ما أكلناه، بدليل أننا لا نأكل ما لم يحل لنا من الحيوانات الأخرى.
والذين يجادلون في عملية الذبح الشرعية، ويزهقون أرواح الحيوان بالخنق مثلا غفلوا عن الحكمة من الذبح : الذبح إراقة للدم، وفي الدم مواد ضارة بالإنسان يجب أن يتخلص منها بتصفية دم ذبيحته، لأن بها كمية من الدم الفاسد الذي لم يمر على الكلية لتنقيه.
فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وحريص على أن يسود هذا المنهج حركة الحياة، لكن لن يدعه الشيطان يحقق هذه الأمنية، كما لم يدع رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل، فكيده وإلقاؤه لم ينته بموت الرسول، وإنما هو باق، وإلى أن تقوم الساعةلذلك يقول تعالى في الآية بعدها :
﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( ٥٥ ) ﴾ :
قوله :﴿ في مرية ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : في شك من هذا، لذلك قلنا : إن أتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكلفون من الله بأن يكونوا امتدادا لرسالته :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. ( ١٤٣ ) ﴾ [ البقرة ] : شهداء أنكم بلغتم كما كان الرسول شهيدا عليكم، فكل منا كأنه مبعوث من الله، وكما شهد رسول الله عليه أنه أبلغه، كذلك هو يشهد أنه بلغ من بعد رسول الله، لذلك جاءت هذه الآية للأمرين ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس.
والحق- سبحانه وتعالى- حينما حملنا هذه الرسالة قال : ما دمتم امتدادا لرسالة الرسول، فلا بد أن تتعرضوا لما تعرض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم، فإن صمدتم فإن الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، وينصر في النهاية أولياءه، وسيظل الإسلام إلى أن تقوم الساعة، وسيظل هناك أناس يعادون الدين ويشككون فيه، وسيظل الملحدون الذين يشككون الناس في وجود الله يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين الله كقولهم : إن هذا الكون خلق بالطبيعة، وترى وتسمع هذا الكلام في كتاباتهم ومقالاتهم.
ولم يسلم العلم التجريبي من خرافاتهم هذه، فإن رأوا الحيوان منسجما مع بيئته قالوا : لقد أمدته الطبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته.
وفي النبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلا :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل.. ( ٤ ) ﴾ [ الرعد ] : يقولون : إن النبات يتغذى بعملية الانتخاب، يعني النبات هو الذي ينتخب ويختار غذاءه، ففي التربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النبات الحلو والمر والحمضي والحريف، فبدل أن يعترفوا لله تعالى بالفضل والقدرة يقولون : الطبيعة وعملية الانتخاب.
وقد تحدثنا مع بعض هؤلاء في فرنسا، وحاولنا الرد عليهم وإبطال حججهم، وأبسطها أن عملية الانتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تميز بين الأشياء المنتخبة، فهل عند النبات إرادة تمكنه من اختيار الحلو أو الحامض ؟ وهل يميز بين المر والحريف ؟.
إنهم يحاولون إقناع الناس بدور الطبيعة ليبعدوا عن الأذهان قدرة الله فيقولون : إن النبات يتغذى بخاصية الأنابيب الشعرية يعني : أنابيب ضيقة جدا تشبه الشعرة فسميت بها، ونحن نعرف أن الشعرة عبارة عن أنبوبة مجوفة. وحين تضع هذه الأنبوبة الضيقة في الماء، فإن الماء يرتفع فيها إلى مستوى أعلى، لأن ضغط الهواء داخل هذه الأنبوبة لضيقها أقل من الضغط خارجها لذا يرتفع فيها الماء، أما إن كانت هذه الأنبوبة واسعة فإن الضغط بداخلها سيساوي الضغط خارجها، ولن يرتفع فيها الماء.
فقلنا لهم : لو أحضرنا حوضا به سوائل مختلفة، مذاب بعضها في بعض، ثم وضعنا به الأنابيب الشعرية، هل سنجد في كل أنبوبة سائلا معينا دون غيره من السوائل، أم سنجد بها السائل المخلوط بكل عناصره ؟.
لو قمت بهذه التجربة فستجد السائل يرتفع نعم في الأنابيب بهذه الخاصية، لكنها لا تميز بين عنصر وآخر، فالسائل واحد في كل الأنابيب، وما أبعد هذا عن نمو النبات وتغذيته.
وصدق الله حين قال :﴿ الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾ [ الأعلى ].
إذن : ما أبعد هذه التفسيرات عن الواقع، وما أجهل القائلين بها والمروجين لها، خاصة في عصر ارتقى فيه العلم، وتقدم البحث، وتنوعت وسائله في عصر استنارت فيه العقول، واكتشفت أسرار الكون الدالة على قدرة خالقه عز وجل، ومع ذلك لا يزال هناك مبطلون.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ].
فهم- إذن- موجودون في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة، وسنواجههم نحن كما واجههم رسول الله، وسيظل الشيطان يلقي في نفوس هؤلاء، ويوسوس لهم، ويوحي إلى أوليائه من الإنس والجن، ويضع العقبات والعراقيل ليصد الناس عن دين الله. هذا نموذج من إلقاء الشيطان في مسألة القمة، وهي الإيمان بالله.
كما يلقي الشيطان في مسألة الرسول، فنجد منهم من يهاجم شخصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، وكيف وهو الأمي البدوي يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقه، وفي مسألة تعدد زوجاته ( صلى الله عليه وسلم ).. الخ مما يمثل عقبة في سبيل الإيمان به.
ونعجب لهجوم هؤلاء على رسول الله طالما هم كافرون به، إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيمانا بأنه رسول الله، وإلا لما استكثروا عليه ولما انتقدوه، فلو كان شخصا عاديا ما تعرض لهذه الانتقادات.
لذلك لا تناقش مثل هؤلاء في مسألة الرسول، إنما في مسألة القمة، ووجود الإله، ثم الرسول المبلغ عن هذا الإله، أما أن تخوض معهم في قضية الرسول بداية فلن تصل معهم إلى حل، لأنهم يضعون مقاييس الكمال من عندهم، ثم يقيسون عليها سلوكيات رسول الله، وهذا وضع مقلوب، فالكمال نأخذه من الرسول ومن فعله، لا نضع له نحن مقاييس الكمال.
ثم يشككون بعد ذلك في الأحكام، فيعترضون مثلا على الطلاق في الإسلام، وكيف نفرق بين زوجين ؟ وهذا أمر عجيب منهم، فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة لا يبغونها، وكأنهما مقترنان في سلسلة من حديد ؟ كيف وأنت لا تستطيع أن تربط صديقا بصديق لا يريده، وهو لا يراه إلا مرة واحدة في اليوم مثلا ؟ فهل تستطيع أن تربط زوجين في مكان واحد، وهما مأمونان على بعض في حال الكراهية ؟.
ويخيب الله سعيهم، ويظهر بطلان هذه الأفكار، وتلجئهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى تشريع الطلاق، حيث لا بديل عنه لحل مثل هذه المشاكل.
وقد ناقش هؤلاء كثيرا في قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ( ٣٣ ) ﴾ [ التوبة ].
وفي قوله :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ( ٨ ) ﴾ [ الصف ]، ﴿ ولو كره المشركون ( ٩ ) ﴾ [ الصف ].
يقولون : ومع ذلك لم يتم الدين، ولا يزال الجمهرة العالمية في الدنيا غير مؤمنين بالإسلام، يريدون أن يشككوا في كتاب الله. وهذا القول منهم ناشئ عن عدم فهم الآية، ولمعنى ﴿ ليظهره ( ٣٣ ) ﴾ [ التوبة ] فهي لا تعني أن ينتصر الإسلام على كل ما عداه انتصارا يمحو المخالفين له.
إنما يظهره يعني : يكتب له الغلبة بصدق حججه وقضاياه على كره من الكافرين والمشركين، فهم- إذن- موجودون، لكن يظهر عليهم، ويعلو دين الإسلام، ويضطرون هم للأخذ بقوانينه وتشريعاته حلا لمشاكلهم، وكونهم يتخذون منه حلا لمشاكلهم وهم كافرون به أبلغ في الرد عليهم لو آمنوا به، فلو آمنوا بالإسلام ما كان ليظهر عليهم ويعلوهم.
فما كنتم تشككون فيه وتقولون إنه ما كان يصدر من إله ولا من رسول، فها هي الأيام قد عضتكم بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الذي تعارضونه، وها أنتم تشرعون بتشريع الإسلام وأنتم كافرون به، وهذا دليل ظهوره عليكم.
ومعنى ﴿ حتى تأتيهم الساعة بغتة ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : فجأة، وقد تكلم العلماء في معنى الساعة : أهي يوم القيامة، أم يوم يموت الإنسان ؟ الساعة تشمل المعنيين معا، على اعتبار أن من مات فقد قامت قيامته حيث انقطع عمله، وموت الإنسان يأتي فجأة، كما أن القيامة تأتي فجأة، فهما- إذن- يستويان.
لكن، إن كانت الساعة بغتة تفجؤهم بأهوالها، فما العلامات الصغرى ؟ وما العلامات الكبرى ؟ أليست مقدمات تأذن بحلول الساعة، وحينئذ لا تعد بغتة ؟ قالوا : علامات الشيء ليست هي إذن وجوده، العلامة تعني : قرب موعده فانتبهوا واستعدوا، أما وقت حدوثه فلا يعلمه أحد، ولا بد أن يأتي بغتة رغم هذه المقدمات.
ثم يقول تعالى :﴿ أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : البعض١ اعتبر :﴿ عذاب يوم عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : يعني القيامة، وبالتالي فالساعة تعني الموت، وآخرون٢ يقولون :﴿ عذاب يوم عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : المراد يوم بدر الذي فصل الله فيه بين الحق والباطل.
وهذا اجتهاد يشكرون عليه، لكن لما نتأمل الآية :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : المرية مستمرة، لكن بدرا انتهت، المرية ستظل إلى أن تقوم الساعة٣.
ولا مانع أن تكون الساعة بمعنى القيامة، واليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة، فيكون المدلول واحدا، لأن هناك فرقا بين زمن الحدث والحدث نفسه، فالساعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو العذاب، فالساعة أولا ثم يأتي العذاب، مع أن مجرد قيام الساعة في حد ذاته عذاب.
ومعنى ﴿ عذاب يوم عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : العقيم : الذي لا يلد، رجل كان أو امرأة، فلا يأتي بشيء بعده، ومنه قوله تعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام :﴿ عجوز عقيم ( ٢٩ ) ﴾ [ الذاريات ] : وكذلك يوم القيامة يوم عقيم، حيث لا يوم بعده أبدا، فهي نهاية المطاف على حد قول أحدهم : حبتهم به الدنيا وأدركها العقم.
أو ﴿ عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : بمعنى : أنها لا تأتي بخير، بل بشر، كما في قوله تعالى :﴿ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( ٤١ ) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( ٣٢ ) ﴾ [ الذاريات ].
ذلك لأن الريح حين تهب ينتظر منها الخير، إما بسحابة ممطرة، أو تحريك لقاح الذكورة بالأنوثة ﴿ وأرسلنا الرياح لواقح.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الحجر ] : أما هذه فلا خير فيها، ولا طائل منها، وليتها تقف عند عدم النفع، ولكن تتعداه إلى جلب الضر ﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( ٣٢ ) ﴾ [ الذاريات ] : فهي تدمر كل شيء تمر عليه.
وكما جاء في قوله سبحانه :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( ٢٤ ) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
فالمعنى- إذن- ﴿ عقيم ( ٥٥ ) ﴾ [ الحج ] : لا خير فيها ولا نفع، بل فيها الشر والعذاب، أو عقيم يعني : لا يأتي يوم بعده، لأنكم تركتم دنيا الأغيار، وتقلب الأحوال حال بعد حال، فالدنيا تتقلب من فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض، ومن صغر إلى كبر، ومن أمن إلى خوف، وتتحول من صيف إلى شتاء، ومن حر إلى برد، ومن ليل إلى نهار.. وهكذا.
أما في الآخرة فقد انتقلتم من عالم الأغيار الذي يعيش بالأسباب إلى عالم آخر يعيش مع المسبب سبحانه، وإلى يوم آخر لا يوم بعده، كأنه عقم أن يكون له عقب من بعده أو مثيل له، كما لو حضرت حفلا مثلا قد استكمل ألوان الكمال والنعم، فتقول : هذا حدث لا يتكرر يعني : عقيم لا يأتي بعده مثله.
وإذا كنت في الدنيا تعيش بالأسباب التي خلقها الله لك، فأنت في الآخرة ستجلس مستريحا تتمتع بالمسبب عز وجل، ويكفي أن يخطر الشيء ببالك، فتراه بين يديك، ولأن القيامة لا أغيار فيها ولا تقلب، فسيظل الجميع كل على حاله في سن واحدة، لا يشيب ولا يهرم، ولا يمرض ولا يموت.
ألا ترى إلى قوله تعالى في نساء الجنة :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ( ٣٥ ) فجعلناه
١ - قاله الضحاك، ومجاهد. قالا: يوم القيامة لا ليلة له. [نقله القرطبي في تفسيره ٦/٤٦١٩، والسيوطي في الدر المنثور ٦/٧٠]..
٢ - قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. [نقله القرطبي في تفسيره ٦/٤٦١٩]..
٣ - قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢٣١): "هذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا، لكن هذا هو المراد، ولهذا قال: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم (٥٦)﴾ [الحج]"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ( ٥٦ ) ﴾ :
ولقائل أن يقول : أليس الملك لله يومئذ، وفي كل يوم ؟ نعم، الملك لله في الدنيا وفي الآخرة، لكن في الدنيا خلق الله خلقا وملكهم، وجعلهم ملوكا من باطن ملكه تعالى، لكنه ملك لا يدوم، كما قال سبحانه :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ].
إذن : ففي الدنيا ملوك ملكهم الله أمرا من الأمور، ففيها ملك للغير، أما في الآخرة فالملك لله تعالى وحده :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
وفي القيامة ﴿ الملك يومئذ لله يحكم بينهم.. ( ٥٦ ) ﴾ [ الحج ] : فقد رد الملك كله إلى صاحبه، وردت الأسباب إلى مسببها.
ومعنى ﴿ يحكم بينهم.. ( ٥٦ ) ﴾ [ الحج ] : أن هناك خصومة بين طرفين، أحدهما على حق، والآخر على باطل، والفصل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود، وإلى بينة، وإلى يمين فيقولون في المحاكم : البينة على المدعي واليمين على من أنكر، هذا في خصومات الدنيا، أما خصومات الآخرة فقاضيها الحق- سبحانه وتعالى- الذي يعلم السر وأخفى، فلا يحتاج إلى بينة ولا شهود ولا سلطة تنفذ ما حكم به.
محكمة الآخرة لا تحتاج فيها إلى محام، ولا تستطيع فيها أن تدلس على القاضي، أو تؤجر شاهد زور، لا تستطيع في محكمة الآخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم، أو تسقطه، لأن الملك يومئذ لله وحده، والحكم يومئذ لله وحده، هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفذ، الذي لا يستدرك على حكمه أحد.
وما دام هناك حكومة، فلا بد أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه، ويوضحهما قوله تعالى :﴿ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ( ٥٦ ) ﴾ [ الحج ].
وهؤلاء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ( ٥٧ ) ﴾ :
وهؤلاء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد، والذين حكم الله عليهم بالعذاب الذي يهينهم بعد عزتهم وسلطانهم في الدنيا، وتلحظ أن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه مهين.
فالعذاب الأليم الذي يؤلم صاحبه، لكنه قد يكون لفترة ثم ينتهي، أما العذاب العظيم فهو الدائم، والمهين هو الذي يذله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها، وأنت تجد الناس يختلفون في تقبل ألوان العذاب : فمنهم من لا يؤثر فيه الضرب الموجع ولا يحركه، لكن تؤلمه كلمة تجرح عزته وكرامته. لذلك جاء العذاب هكذا ألوانا، ليستوعب كل صنوف الملكات النفسية، ويواجه كل نفس بما يؤلمها.
ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان لا بد أن نعرفه، فالمسلمون الأوائل في مكة أخرجوا من ديارهم وأبنائهم وأموالهم لأنهم قالوا : ربنا الله، ولا شك أن للوطن وللأهل والبيئة التي نشأ فيها المرء أثرا في ملكات نفسه، لا يمكن أن يمحى بحال، فإن غاب عنه اشتاق إليه وتمنى العودة، وكما يقول الشاعر :
بلدي وإن جارت علي عزيزة ****أهلي وإن ضنوا علي كرام
لذلك، فطالب العلم عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون : لا بد له أن يرجع، ولو أن تعضه الأحداث والشدائد، فيعود ليطلب من أهله العون والمساعدة، أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده.
وقالوا : إن سيدنا سليمان- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لما تفقد الطير ﴿ فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ( ٢٠ ) لأعذبنه١ عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( ٢١ ) ﴾ [ النمل ] : ذلك لأنه نبي، فالمسألة ليست جبروتا وتعذيبا، دون أن يسمع منه. وقالوا : إن الطير سأل سليمان : كيف يعذب الهدهد ؟ قال : أضعه في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني : في غير موطنه.
١ - قال ابن عباس: يعني نتف ريشه. وقال عبد الله بن شداد: نتف ريشه وتشميسه. وكذا قال غير واحد من السلف: إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل. [تفسير ابن كثير ٣/٣٦٠]..
يقول تعالى :
﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ( ٥٨ ) ﴾ :
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ] : هؤلاء تحملوا الكثير، وتعبوا في سبيل عقيدتهم، فلا بد أن يعوضهم الله عن هذه التضحيات، لذلك يقول هنا :﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا ( ٥٨ ) ﴾ [ الحج ] : وأوضحنا أن الموت غير القتل : الموت أن تخرج الروح دون نقض للبنية، أما القتل فهو نقض للبنية يترتب عليه خروج الروح.
﴿ ليرزقنهم الله رزقا حسنا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الحج ] : تعويضا لهم عما فاتوه في بلدهم من أهل ومال، كما يعوض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر مما أخذ منه، لذلك يقول سبحانه في موضع آخر :﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله.. ( ١٠٠ ) ﴾ [ النساء ].
لأن من قتل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحسنيين، أما من مات فقد حرم هذا الشرف، لذلك فقد وقع أجره على الله، وما بالك بأجر مؤديه ربك عز وجل ؟ وكما لو أن رجلا متعبا يسير ليس معه شيء ولا يجد حتى من يقرضه، وفجأة سقطت رجله في حفرة فتكدر وقال : حتى هذه ؟ لكن سرعان ما وجد قدمه قد أثارت شيئا في التراب له بريق، فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه.
ويروى أن فضالة١ حضرهم وهم يدفنون شهيدا، وآخر مات غير شهيد، فرأوه ترك قبر الشهيد وذهب إلى قبر غير الشهيد، فلما سألوه : كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد ؟ قال : والله ما أبالي في أي حفرة منهما بعثت٢ ما دام قد وقع أجري على الله، ثم تلا هذه الآية :﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله.. ( ١٠٠ ) ﴾ [ النساء ].
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن الله لهو خير الرازقين ( ٥٨ ) ﴾ [ الحج ] : حين يصف الحق سبحانه ذاته بصفة، ثم تأتي بصيغة الجمع، فهذا يعني أن الله تعالى أدخل معه الخلق في هذه الصفة، كما سبق أن تكلمنا في قوله تعالى :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فقد أثبت للخلق صفة الخلق، وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة، لأنه سبحانه لا يبخس عباده شيئا، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم، فكل من أوجد شيئا فقد خلقه، حتى في الكذب قال ﴿ وتخلقون إفكا.. ( ١٧ ) ﴾ [ العنكبوت ].
لأن الخلق إيجاد من عدم، فأنت حين تصنع مثلا كوب الماء من الزجاج أوجدت ما لم يكن موجودا، وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة لله تعالى، وأعملت فيها عقلك حتى توصلت إلى إنشاء شيء جديد لم يكن موجودا، فأنت بهذا المعنى خالق حسن، لكن خلق ربك أحسن، فأنت تخلق من موجود، وربك يخلق من عدم، وما أوجدته أنت يظل على حالته ويجمد على خلقتك له، ولا يتكرر بالتناسل، ولا ينمو، وليست فيه حياة، أما خلق ربك سبحانه فكما تعلم.
كذلك يقول سبحانه هنا :﴿ وإن الله لهو خير الرازقين ( ٥٨ ) ﴾ [ الحج ] : فأثبت لخلقه أيضا صفة الرزق، من حيث هم سبب فيه، لأن الرزق : هو كل ما ينتفع به حتى الحرام يعد رزقا، لذلك قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ البقرة ].
نقول : فالعبد سبب في الرزق، لأن الله تعالى هو خالق الرزق أولا، ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل فيه، وتعطي منه للغير، فالرزق منك مناولة عن الرازق الأول سبحانه، فأنت بهذا المعنى رازق وإن كرهوا أن يسمى الإنسان رازقا، رغم قوله تعالى :﴿ وإن الله لهو خير الرازقين ( ٥٨ ) ﴾ [ الحج ]. لماذا ؟ قالوا : حتى لا يفهم أن الرزق من الناس.
لذلك نسمع كثيرا من العمال البسطاء، أو موظفا صغيرا، أو بواب عمارة مثلا حين يفصله صاحب العمل، يقول له : يا سيدي الأرزاق بيد الله. كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله ؟ قالوا : لأنه نظر إلى المناول الأول للرزق، ولم ينظر إلى المناول الثاني.
١ - هو: فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي، أبو محمد، صحابي ممن بايع تحت الشجرة شهد أحدا وما بعدها، وشهد فتح الشام ومصر، وسكن الشام، ولي الغزو والبحر بمصر، ثم ولاه معاوية قضاء دمشق وتوفي فيها عام (٥٣ ه) [الأعلام للزركلي ٥/١٤٦]..
٢ - ذكره القرطبي في تفسيره (٦/٤٦٢٠) وعزاه لابن المبارك أنه ذكر عن فضالة بن عبيد..
أما الرزق الحسن الذي أعده الله للذين هاجروا في سبيله، فيوضحه سبحانه في قوله :
﴿ ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ( ٥٩ ) ﴾ :
لأن الرزق قد يكون حسنا لكنه لا يرضي صاحبه، أما رزق الله لهؤلاء فقد بلغ رضاهم، والرضا : هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه، ولا تبغي أكثر من ذلك.
لذلك بعد أن ينعم أهل الجنة بنعيمها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بعدها يتجلى الحق- سبحانه عليهم فيقول لعباده المؤمنين : يا عبادي أرضيتم ؟ فيقولون : وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ؟ قال : ألا أعطيكم أفضل من هذا ؟ قالوا : وهل شيء أفضل مما نحن فيه ؟ قال : نعم، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا١.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ( ٥ ) ﴾ [ الضحى ].
وقوله تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ( ٢٧ ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية ( ٢٨ ) ﴾ [ الفجر ].
يبالغ في الرضا، بحيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية، وكأنها تعشقك هي، وترضى بك.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن الله لعليم حليم ( ٥٩ ) ﴾ [ الحج ].
عليم : بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم، ثم يزيد من يشاء من فضله، فليس حساب ربك في الآخرة كحسابكم في الدنيا، إنما حسابه تعالى بالفضل لا بالعدل.
وحليم : يحلم على العبد إن أساء، ويتجاوز للصالحين عن الهفوات، فإن خالط عملك الصالح سوء، وإن خالفت منهج الله في غفلة أو هفوة، فلا تجعل هذا يعكر صفو علاقتك بربك أو ينغص عليك طمأنينة حياتك، لأن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حد قولهم ( حبيبك يبلع لك الزلط ).
لذلك لما وشى أحد المؤمنين٢ للكفار في فتح مكة، وهم عمر أن يقتله فنهاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : " لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ٣
ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعدة، ألا نذكر لهم هذا الموقف ؟ ألم يقل الحق سبحانه :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات.. ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ] : ومن ابتلي بشيء يضعف أمامه، فليكن قويا فيما يقدر عليه، وإن غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمر له أنت في أبواب الخير، فإن هذا يعوض ذاك.
١ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٧٥١٨)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨٢٩) كتاب الجنة وصفة نعيمها. من حديث أبي سعيد الخدري..
٢ - هو حاطب بن أبي بلتعة، وقصته أنه كاتب أهل مكة بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لفتح مكة، فقال عمر: دعني أضرب عنقه فقال إنه شهد بدرا واعتذر حاطب بأنه لم يكن له في مكة عشيرة تدفع عن أهله فقبل عذره. قال المرزباني في "معجم الشعراء": كان أحد فرسان قريش في الجاهلية وشعرائها. قال المدايني: مات حاطب في سنة ثلاثين في خلافة عثمان وله ٦٥ سنة. [الإصابة لابن حجر ١/٣١٤]..
٣ - حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٨٩٠)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٤٩٤) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
{ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ( ٦٠ ) :
﴿ ذلك ﴾ يعني هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر، وإليك هذا الكلام الجديد ﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ].
الحق- سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة، هذه العواطف لا يحكمها قانون. وخلق لنا أيضا غرائز ولها مهمة، لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق، فإياك أن تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها.
فمثلا، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة، فلا تجعلها غرضا أصيلا لذاتها، فتأكل لمجرد أن تتلذذ بالأكل، لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة. وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تماما كما تضبط المنبه مثلا، فحين تجوع تجد نفسك تاقت للطعام وطلبته، وإن عطشت مالت نفسك نحو الماء، وكأن بداخلك جرسا ينبهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مقومات استبقائها.
حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته، فلا تتعدى هذا الغرض، ولا تحرك هذه الغريزة إلى التجسس على الخلق والوقوف على أسرارهم.
التناسل غريزة جعلها الله لحفظ النوع، فلا ينبغي أن تتعدى ما جعلت له إلى ما حرم الله.
الغضب غريزة وانفعال قسري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب، إنما إن تعرضت لأسبابه فلا تملك إلا أن تغضب، ومع ذلك جعل له حدودا وقنن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع.
الحب والكره غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون، ولا يحكمها العقل، فلك أن تحب وأن تكره، لكن إياك أن تتعدى هذه العاطفة إلى عمل عقلي ونزوع تعتدي به أو تظلم.
لذلك يقول تعالى :﴿ ولا يجرمنكم شنآن١ قوم على ألا تعدلوا.. ( ٨ ) ﴾ [ المائدة ].
لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون، وليس بيدك الحب أو الكره، لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر : أدر وجهك عني فإني لا أحبك. وكان الرجل عاقلا فقال لسيدنا عمر : أو عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي ؟ قال عمر : لا، فقال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء. يعني أحب أو اكره كما شئت، لكن لا تتعد ولا تحرمني حقا من حقوقي.
فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها ؟ لو تأملت مثلا الغريزة الجنسية التي يصفها البعض بملء فيه يقول : غريزة بهيمية.. سبحان الله ألا تستحي أن تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلم، وهي أفهم لهذه الغريزة منك، ألا تراها بمجرد أن يخصب الذكر أنثاه لا يقربها أبدا، وهي لا تمكنه من نفسها إذا ما حملت، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة، وتنطلق فيها انطلاقا يخرجها عن هدفها والحكمة منها ؟ على مثل هذا أن يخزي أن يقول مثل هذه المقولة، وألا يظلم البهائم، فمن الناس من هم أدنى من البهائم بكثير.
وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب.
إذن : الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك، ولم يكبتها، وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في حياتك، لذلك أحاطها بسياج من التكليف ينظمها ويحكمها حتى لا تشرد بك، فقال مثلا في غريزة الطعام والشراب :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأعراف ].
وقال في غريزة حب الاستطلاع :﴿ ولا تجسسوا.. ( ١٢ ) ﴾ [ الحجرات ] : وهكذا في كل غرائزك تجد لها حدودا يجب عليك ألا تتعداها.
لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر أن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم ﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الفتح ] : لأنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع الأعداء، والرحمة مع إخوانهم المؤمنين، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب مقاييسها، ويلتزم بقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.. ( ٥٤ ) ﴾ [ المائدة ].
وكأن الخالق عز وجل يسوينا تسوية إيمانية، فالمؤمن لم يخلق عزيزا ولا ذليلا، إنما الموقف هو الذي يضعه في مكانه المناسب، فهو عزيز شامخ مع الكفار، وذليل منكسر متواضع مع المؤمنين.
ويتفرع عن هذه المسألة مسألة رد العقوبة إذا اعتدي عليك :﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ] : الحق- سبحانه وتعالى- هو خالق النفس البشرية، وهو أعلم بنوازعها وخلجاتها، لذلك أباح لك إن اعتدي عليك أن ترد الاعتداء بمثله، حتى لا يختمر الغضب في نفسك، وقد ينتج عنه ما هو أشد وأبلغ في رد العقوبة، يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ولا تتفاقم، فمن ضربك ضربة فلك أن تنفس عن نفسك وتضربه مثلها، لك ذلك، لكن تذكر المثلية هنا، لا بد أن تكون تامة، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. ( ١٢٦ ) ﴾ [ النحل ].
وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فترد الضربة بمثلها ؟ وهل قوتك كقوته، وحدة انفعالك في الرد كحدة انفعاله ؟ ولو حدث وزدت في ردك نتيجة غضب، ماذا تفعل ؟ أتسمح له أن يرد عليك هذه الزيادة ؟ أم تكون أنت ظالما معتديا ؟.
إذن : ماذا يلجئك لمثل هذه المتاهة، ولك في التسامح سعة، وفي قول الله بعدها :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ [ النحل ] : مخرج من هذا الضيق ؟.
وسبق أن حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدين : إن تأخرت في السداد أشترط عليك أن آخذ رطلا من لحمك. وجاء وقت السداد ولم يوف المدين، فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره بما اشترطه عليه، فقال القاضي : نعم من حقك أن تأخذ رطلا من لحمه لكن بضربة واحدة بالسكين تأخذ رطلا، إن زاد أو نقص أخذناه منك.
إذن : مسألة المثلية هنا عقبة تحد من ثورة الغضب، وتفتح بابا للارتقاءات الإيمانية، فإن كان الحق سبحانه سمح لك أن تنفس عن نفسك فقال :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الشورى ]، فإنه يقول لك : لا تنس العفو والتسامح ﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ].
لذلك، فالآية التي معنا تلفتنا لفتة إيمانية :﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ] : واحدة بواحدة ﴿ ثم بغي عليه.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : زاده بعد أن رد العدوان بمثله وظلمه واعتدى عليه ﴿ لينصرنه الله.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ] : ينصره على المعتدي الذي لم يرتض حكم الله في رد العقوبة بمثلها.
وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله ﴿ إن الله لعفو غفور ( ٦٠ ) ﴾ [ الحج ] : مع أن الصفة التي تناسب النصرة أن يقول قوي عزيز، لأن النصرة تحتاج قوة وتحتاج عزة، لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر من أراد أن يعاقب إلى هذه الارتقاءات الإيمانية : اغفر وارحم واعف، لأن ربك عفو غفور، فاختار الصفة التي تحنن قلب المؤمن على أخيه المؤمن.
ثم أليس لك ذنب مع الله ؟ ﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : فما دمت تحب أن يغفر الله لك فاغفر لعباده، وحين تغفر لمن يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل :﴿ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( ٣٤ ) ﴾ [ فصلت ].
فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلاحم الإيماني، فأعطاك حق رد العقوبة بمثلها لتنفس عن نفسك الغيظ، ثم دعاك إلى العفو والمغفرة.
١ - شنأه وشنئه شنآنا: أبغضه وكرهه. والشانئ: المبغض. [القاموس القويم ١/٣٥٧] وجرمه: حمله على فعل شر أو ذنب أو جرم. أي: لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل، أي: التزموا العدل حتى مع من تكرهونهم. [القاموس القويم ١/١٢١]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ( ٦١ ) ﴾ :
﴿ ذلك.. ( ٦١ ) ﴾ [ الحج ] : يعني ما قلته لك سابقا له دليل، فما هو ؟ أن الله يأخذ من القوي ويعطي للضعيف، ويأخذ من الطويل ويعطي للقصير، فالمسألة ليست ثابتة ( أو ميكانيكا ) وإنما خلقها الله بقدر. والليل والنهار هما ظرفا الأحداث التي تفعلونها، والحق سبحانه ﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.. ( ٦١ ) ﴾ [ الحج ].
يولج الليل يعني : يدخل الليل على النهار، فيأخذ منه جزءا جزءا فيطول الليل ويقصر النهار، ثم يدخل النهار على الليل فيأخذ منه جزءا جزءا، فيطول النهار ويقصر الليل، لذلك نراهما لا يتساويان، فمرة يطول الليل في الشتاء مثلا، ويقصر النهار، ومرة يطول النهار في الصيف، ويقصر الليل. فزيادة أحدهما ونقص الآخر أمر مستمر، وأغيار متداولة بينهما.
وإذا كانت الأغيار في ظرف الأحداث، فلا بد أن تتغير الأحداث نفسها بالتالي، فعندما يتسع الظرف يتسع كذلك الخير فيه، فمثلا عندنا في المكاييل : الكيلة والقدح والويبة وعندنا الأردب، وكل منها يسع من المحتوى على قدر سعته. وهكذا كما نزيد أو ننقص في ظرف الأحداث نزيد وننقص في الأحداث نفسها.
ثم تذيل الآية بقوله سبحانه :﴿ وأن الله سميع بصير ( ٦١ ) ﴾ [ الحج ] : سميع لما يقال، بصير بما يفعل، فالقول يقابله الفعل، وكلاهما عمل، والبعض يظن أن العمل شيء والقول شيء آخر، لا، لأن العمل وظيفة الجارحة، فكل جارحة تؤدي مهمتها فهي تعمل، عمل العين أن ترى، وعمل الأذن أن تسمع، وعمل اليد أن تلمس، وعمل الأنف أن يشم، وكذلك عمل اللسان القول، فالقول للسان وحده، والعمل لباقي الجوارح وكلاهما عمل، فدائما نضع القول مقابل الفعل، كما في قوله تعالى :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ( ٢ ) ﴾ [ الصف ].
والسمع والبصر هما الجارحتان الرئيسيتان في الإنسان، وهما عمدة الحواس كلها، حيث تعملان باستمرار على خلاف الشم مثلا، أو التذوق الذي لا يعمل إلا عدة مرات في اليوم كله.
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( ٦٢ ) ﴾ :
﴿ ذلك.. ( ٦٢ ) ﴾ [ الحج ] : أي الكلام السابق أمر معلوم انتهينا منه ﴿ بأن الله هو الحق.. ( ٦٢ ) ﴾ [ الحج ] : والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبدا، فكل ما سوى الله- عز وجل- يتغير، وهو سبحانه الذي يغير ولا يتغير، ولذلك أهل المعرفة يقولون : إن الله تعالى لا يتغير من أجلكم، لكن يجب عليكم أن تتغيروا أنتم من أجل الله.
وما دام أن ربك- عز وجل- هو الحق الثابت الذي لا يتغير، وما عداه يتغير، فلا تحزن، ويا غضبان ارض، ويا من تبكي اضحك واطمئن، لأنك ابن أغيار، وفي دنيا أغيار لا تثبت على شيء، لذلك فالإنسان يغضب إذا أصيب بعقبة في حياته يقول : لو لم تكن هذه، نقول له : وهل تريدها كاملة ؟ لا بد أن يصيبك شيء، لأنك ابن أغيار، فماذا تنتظر إن وصلت إلى القمة لا بد أن تتراجع، لأنك ابن أغيار، دائم التقلب في الأحوال، وربك وحده هو الثابت الذي لا يتغير.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.. ( ٦٢ ) ﴾ [ الحج ] : كل ما تدعيه أو تعبده من دون الله هو الباطل، يعني الذي يبطل، كما جاء في قوله تعالى :﴿ إن الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) ﴾ [ الإسراء ] : يعني : يزول ولا يثبت أبدا ﴿ وأن الله هو العلي الكبير ( ٦٢ ) ﴾ [ الحج ] : العلي يعني : كل خلقه دونه. وكبير يعني : كل خلقه صغير.
ومن أسمائه تعالى ﴿ الكبير ( ٦٢ ) ﴾ [ الحج ] : ولا نقول أكبر إلا في الأذان، وفي افتتاح الصلاة، والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير، لكن هذا غير صحيح، لأن أكبر ما دونه كبير، إنما كبير مقابله صغير، فهو سبحانه الكبير، لأن ما دونه وما عداه صغير.
أما حين يناديك ويستدعيك لأداء فريضة الله يقول : الله أكبر، لأن حركة الحياة وضروريات العيش عند الله أمر كبير وأمر هام لا يغفل، لكن إن كانت حركة الحياة والسعي فيها أمرا كبيرا فالله أكبر، فربك يخرجك للصلاة من عمل، ويدعوك بعدها إلى العمل :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.. ( ١٠ ) ﴾ [ الجمعة ].
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ( ٦٣ ) ﴾ :
﴿ ألم تر.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ] : إن كانت للأمر الحسي الذي تراه العين، فأنت لم تره وننبهك إليه، وإن كانت للأمر الذي لا يدرك بالعين فهي بمعنى : ألم تعلم. وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي يعلمك الله به أوثق مما تهديك إليه عينك.
فالمعنى : ألم تعلم وألم تنظر ؟. المعنيان معا.
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ] : فهذه آية تراها، لكن ترى منها الظاهر فقط، فترى الماء ينهمر من السماء، إنما كيف تكون هذا الماء في طبقات الجو ؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذات ؟ هذه عمليات لم ترها، وقدرة الله تعالى واسعة، ولك أن تتأمل لو أردت أن تجمع كوب ماء واحد من ماء البخار، وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف، فهل رأيت هذه العمليات في تكوين المطر ؟
إذن : رأيت من المطر ظاهره، لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله.
لذلك، جعل الخالق- عز وجل- مسطح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، فاتساع مسطح الماء يزيد من البخر الذي ينشره الله تعالى على اليابس، كما لو وضعت مثلا كوب ماء في غرفتك، وتركته مدة شهر أو شهرين، ستجد أنه ينقص مثلا سنتيمترا، أما لو نثرت الكوب على أرض الغرفة فسوف يجف بعد دقائق.
إذن : فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها، ونحن على اليابس نحتاج كمية كبيرة من الماء العذب الصالح للزراعة وللشرب.. الخ، ولا يتوفر هذا إلا بكثرة كمية الأمطار.
ثم يبين سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء :﴿ فتصبح الأرض مخضرة.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية. دون أن يذكر شيئا عن تدخل الإنسان في هذه العملية، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يرو، إنما المسألة كلها بقدرة الله، لكن من أين أتت البذور التي كونت هذا النبات ؟ ومن بذرها ووزعها ؟ البذور كانت موجودة في التربة حية كامنة لم يصبها شيء، وإن مر عليها الزمن، لأن الله تعالى يحفظها إلى أن تجد الماء وتتوفر لها عوامل الإنبات فتنبت، لذلك نسمي هذا النبات ( العذي )، لأنه خرج بقدرة الله لا دخل لأحد فيه.
وتولت الرياح نقل هذه البذور من مكان لآخر، كما قال تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الحجر ] : ولو سلسلت هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أم، خلقها الخالق سبحانه لا شجرة قبلها ولا بذرة. لذلك يروى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها السلام ويشرف عليها، ويقال كان خطيبها- لما رآها حاملا وليس لها زوج سألها بأدب : يا مريم، أتوجد شجرة بلا بذرة ؟ قالت : نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الله لطيف خبير ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ] : اللطف هو دقة التناول للأشياء، فمثلا حين تريد أن تدخل خيطا في إبرة، تجد الخيط لا ينفذ من ثقبها لأول مرة، فتحاول أن ترقق من طرف الخيط وتبرمه حتى يدق فينفذ من الثقب، فالخيط بعد أن كان غليظا أصبح لطيفا دقيقا.
ويقولون : الشيء كلما لطف عنف، في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي، لكن هذا غير صحيح، فكلما كان الشيء لطيفا دقيقا كان خطره أعظم، ألا ترى الميكروب كيف يصيب الإنسان وكيف لا نشعر به ولا نجد له ألما ؟ ذلك لأنه دقيق لطيف، وكذلك له مدخل لطيف لا تشعر به، لأنه من الصغر بحيث لا تراه بالعين المجردة.
والبعوضة كم هي هينة صغيرة، لذلك تؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي لا تكاد تراه، وكلما دق الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره، فمثلا إن أردت بناء بيت في الخلاء أو منطقة نائية، فإنك ستضطر أن تضع حديدا على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة كالذئاب مثلا، ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران، فإن أردت أن تحمي نفسك من الذباب والبعوض احتجت إلى سلك أدق، وهكذا كلما صغر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر.
فاللطيف هو الذي يدخل في الأشياء بلطف، لذلك يقولون : فلان لطيف المدخل يعني : يدخل لكل إنسان بما يناسبه، ويعرف لكل إنسان نقطة ضعف يدخل إليه منها، كأن معه ( طفاشة ) للرجال، يستطيع أن يفتح بها أي شخصية.
لكن، ما علاقة قوله تعالى ﴿ إن الله لطيف خبير ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ]، بعد قوله :﴿ فتصبح الأرض مخضرة.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ] ؟ قالوا : لأن عملية الإنبات تقوم على مسام وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات، وتمتص الغذاء من التربة، هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى لطف، وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة، كما قال تعالى :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل.. ( ٤ ) ﴾ [ الرعد ].
فالأرض تصبح مخضرة من لطف الحق سبحانه، ومن خبرته في مداخل الأشياء، لذلك قال بعدها :﴿ إن الله لطيف خبير ( ٦٣ ) ﴾ [ الحج ].
ولدقة الشعيرات الجذرية نحرص ألا تعلو المياه الجوفية في التربة، لأنها تفسد هذه الشعيرات فتتعطن وتموت فيصفر النبات ويموت.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ( ٦٤ ) ﴾ :
فما في السماوات وما في الأرض ملك لله تعالى، ومع ذلك لا ينتفع منها الحق سبحانه بشيء، إنما خلقها لمنفعة خلقه، وهو سبحانه غني عنها وغني عنهم، وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في السماوات وما في الأرض، لذلك قال بعدها :﴿ وإن الله لهو الغني الحميد ( ٦٤ ) ﴾ [ الحج ].
وصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خلق، وملكيته تعالى للسماوات وللأرض، ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف، ونحن لا نملك السماوات، ولا نملك الأرض، إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملكنا الله له، فهو الغني سبحانه، المالك لكل شيء، وما ملكنا إلا من باطن ملكه.
والحميد : يعني المحمود، فهو غني محمود، لأن غناه لا يعود عليه سبحانه، إنما يعود على خلقه، فيحمدونه لغناه، لا يحقدون عليه، ومن العجيب أن الحق سبحانه يملك خلقه من ملكه، فمن استخدم النعمة فيما جعلت له، ومن أعطى غير القادر من نعمة الله عليه يشكر الله له، وهي في الأصل نعمته. ذلك لأنك أنت عبده، وقد استدعاك للوجود، وعليه سبحانه أن يتولاك ويرعاك.
فإن احتاج غير القادر منك شيئا، قال تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ( ٢٤٥ ) ﴾ [ البقرة ].
فاعتبره قرضا، وهو ماله، لكنه ملكك إياه، لذلك لا يسلبه منك إنما يأخذه قرضا حسنا ويضاعفه لك، لأنه غني حميد أي : محمود، ولا يكون الغنى محمودا إلا إذا كان غير الغني مستفيدا من غناه.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ( ٦٥ ) ﴾ :
هذه الآية امتداد للآية السابقة، فما في السماء وما في الأرض ملك له سبحانه لكنه سخره لمنفعة خلقه، فإن سأل سائل : فلماذا لا يجعلها الله لنا ويملكنا إياها ؟ نقول : لأن ربك يريد أن يطمئنك أنه لن يعطيها لأحد أبدا، وستظل ملكا لله وأنت تنتفع بها، وهل تأمن إن ملكها الله لغيره أن يتغير لك ويحرمك منها ؟ فأمنك في أن يظل الملك لله وحده، لأنه ربك ومتوليك، ولن يتغير لك، ولن يتنكر في منفعتك.
وقوله تعالى :﴿ والفلك تجري في البحر بأمره.. ( ٦٥ ) ﴾ [ الحج ] : الفلك : السفن، تطلق على المفرد وعلى الجمع، تجري في البحر بأمره تعالى، فتسير السفن بالريح حيث أمرها الله، كما قال سبحانه :﴿ وتصريف الرياح.. ( ١٦٤ ) ﴾ [ البقرة ] : وهذه لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله، وقال في آية أخرى :﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الشورى ].
وتأمل دقة الأداء القرآني من الله الذي يعلم ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، فلقائل الآن أن يقول : لم نعد في حاجة إلى الريح تسير السفن، أو توجهها، لأنها أصبحت تسير الآن بآلات ومحركات، نعم السفن الآن تسير بالمحركات، لكن للريح معنى أوسع من ذلك، فالريح ليست هذه القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء، إنما الريح تعني القوة في ذاتها، أيا كانت ريحا أم بخارا أم كهرباء أم ذرة.. إلخ.
بدليل قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.. ( ٤٦ ) ﴾ [ الأنفال ] : يعني : تذهب قوتكم أيا كانت هذه القوة حتى الصياد الذي يركب البحر بقارب صغير يسيره بالمجاديف بقوة يده وعضلاته هي أيضا قوة، لا تخرج عن هذا المعنى.
وهكذا يظل معنى الآية صالحا لكل زمان ولكل مكان، وإلى أن تقوم الساعة.
والريح أن أفردت دلت على حدوث شر وضرر، كما في قوله تعالى :﴿ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( ٤١ ) ﴾ [ الذاريات ].
وقوله :﴿ وتذهب ريحكم.. ( ٤٦ ) ﴾ [ الأنفال ].
وقوله :﴿ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( ٢٤ ) ﴾ [ الحج ].
وإن جاءت بصيغة الجمع دلت على الخير، كما في قوله تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الحجر ].
وسبق أن تحدثنا عن مهمة الريح في تماسك الأشياء وقيامها بذاتها، فالجبل الأشم الذي تراه ثابتا راسخا إنما ثبت بأثر الريح عليه، وإحاطته به من كل جانب، بحيث لو فرغ الهواء من أحد جوانب الجبل لانهار، وهذه هي الفكرة التي قامت عليها القنبلة، فالهواء هو الذي يقيم المباني والعمارات ويثبتها، لأنه يحيطها من كل جانب، فيحدث لها هذا التوازن، فإن فرغ من أحد الجوانب ينهار المبنى.
ثم يقول سبحانه :﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.. ( ٦٥ ) ﴾ [ الحج ] : فالسماء مرفوعة فوقنا بلا عمد، لا يمسكها فوقنا إلا الله بقدرته وقيوميته أن تقع على الأرض إلا بإذنه تعالى، كما قال في آية أخرى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.. ( ٤١ ) ﴾ [ فاطر ].
﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ( ٦٥ ) ﴾ [ الحج ] : فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة، والفهم السطحي لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد، لكن هما صفتان مختلفتان، فالرأفة تزيل الآلام، والرحمة تزيد الإنعام، والقاعدة أن درء المفسدة مقدم دائما على جلب المصلحة، فربك يرأف بك فيزيل عنك أسباب الألم قبل أن يجلب لك نفعا برحمته.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل : قلنا هب أن واحدا يرميك بحجر، وآخر يرمي لك بتفاحة، فأيهما يشغلك أولا ؟ لا شك ستشغل بالحجر، كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال هذه التفاحة ؟.
لذلك قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.. ( ٦١ ) ﴾ [ النحل ].
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ( ٦٦ ) ﴾ :
الحق- تبارك وتعالى- يذكرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها على نعم الله علينا، ولم ننسها أبدا.
أولها :﴿ وهو الذي أحياكم.. ( ٦٦ ) ﴾ [ الحج ] : والإحياء : أن يعطي المحيي ما يحييه قوة يؤدي بها المهمة المخلوق لها. والإحياء الأول في آدم- عليه السلام- حين خلقه ربه وسواه ونفخ فيه من روحه، ثم أوجدنا نحن من ذريته.
﴿ ثم يميتكم.. ( ٦٦ ) ﴾ [ الحج ] : وكما أن الخلق آية من آيات الله، فكذلك الموت آية من آيات الله، نراها ونلمسها، وما دمت تصدق بآية الخلق وآية الموت، وتراهما، ولا تشك فيهما، فحين نقول لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدق، لأن صاحب هذه الآيات واحد، والمقدمات التي تحكم أنت بصدقها يجب أن تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضا بصدقها، وها هي المقدمات بين يديك صادقة.
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ ثم يحييكم.. ( ٦٦ ) ﴾ [ الحج ] : والإحياء يطلق في القرآن على معان متعددة، منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والأكل والشرب، ومنها الحياة في الآخرة التي قال الله عنها :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ( ٦٤ ) ﴾ [ العنكبوت ].
وهذه هي الحياة الحقيقية، لأن حياة الدنيا تعتريها الأغيار، ويتقلب فيها الإنسان بين القوة والضعف، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والصغر والكبر، وبعد ذلك يعتريها الزوال، أما حياة الآخرة التي وصفها الله بأنها الحيوان يعني : مبالغة في الحياة، فهي حياة لا أغيار فيها ولا زوال لها.
إذن : لديك حياتان، حياة لبنية المادة وبها تتحرك وتحس وتعيش، وحياة أخرى باقية لا زوال لها.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الأنفال ]. كيف- إذن- ونحن أحياء ؟ قالوا : لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي تعتريها الأغيار، إنما يحييكم الحياة الحقيقية في الآخرة، الحياة الباقية التي لا تزول، التي قال الله عنها :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ( ٦٤ ) ﴾ [ العنكبوت ] : يعني : العلم الحقيقي الذي يهدي صاحبه.
فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفخ الروح في الإنسان، فبم تكون الحياة الثانية ﴿ إذا دعاكم لما يحييكم.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الأنفال ].
قالوا : هذه الحياة تكون بروح أيضا، لكن غير الروح الأولى، إنها بروح القرآن الذي قال الله فيه :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الشورى ] : وسمي الملك الذي ينزل به روحا :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) ﴾ [ الشعراء ].
فالروح الثانية التي تحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج الله في كتابه الكريم، إن اتبعته نلت هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعت فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الإنسان لكفور ( ٦٦ ) ﴾ [ الحج ] : كفور : صيغة مبالغة من كافر، والكفور الذي لم يعرف للمنعم حق النعمة، مع أنه لو تبينها لما انفك أبدا عن شكر المنعم سبحانه.
والإنسان يمر بمراحل مختلفة بين الحياة والموت، كما جاء في قوله تعالى :﴿ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ( ١١ ) ﴾ [ غافر ]، فمتى سيقولون هذا الكلام ؟.
قالوا : هذا يوم القيامة، وقد أحياهم الله من موت العدم، فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم، ثم أحياهم في الآخرة، فهناك موت قبل إيجاد، وموت بعد إيجاد، ثم يأتي البعث في القيامة.
وقوله تعالى :﴿ وهو الذي أحياكم.. ( ٦٦ ) ﴾ [ الحج ] : قضية قالها الخالق- عز وجل- ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة الكفار والملاحدة والأفاقين في كل زمان ومكان، لم نسمع من ادعى مسألة الخلق، وهذه قضية يجب أن نقف عندها وأن نبحث : لماذا لم يظهر من يدعي ذلك ؟ وإذا لم يدع الخلق أحد، ولم يدع الإحياء أحد، فمن- إذن- صاحب الخلق والإحياء والإماتة ؟.
إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون لأي مخترع اخترع آلة مثلا، فيقولون : مخترع الكهرباء فلان وعاش في بلدة كذا، وكان من أمره كذا وكذا، وتعلم من كذا، وحصل على كذا.. الخ فكيف بمن خلقكم وأحياكم من عدم ؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لكل أمة جعلنا منسكا١ هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ( ٦٧ ) ﴾ :
الحق- سبحانه وتعالى- خلق آدم عليه السلام خليفة له في الأرض، وأجرى له تدريبا على مهمته بالأمر الإلهي والنهي الإلهي، وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته، وحذره أن يتبع خطواته، وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الأرض ليباشر مهمته كخليفة لله في أرضه على أن يظل على ذكر من تجربته مع الشيطان. وقد سخر الله له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله.
ثم أنزل الله عليه منهجا، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته، وذكره بالمنهج التدريبي السابق الذي كلفه به في الجنة، وما حدث له لما خالف منهج ربه، حيث ظهرت عورته :﴿ وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الأعراف ].
كذلك إن خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم، لذلك إذا رأيت أي عورة في المجتمع في أي ناحية، في الاجتماع، في الاقتصاد، في التربية، فاعلم أن حكما من أحكام الله قد عطل، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع، لأن منهج الله هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة.
كما لو دخلت بيتك فوجدت آلة من آلات البيت لا تؤدي مهمتها، فتعلم أن بها عطلا فتذهب بها إلى المهندس المختص بصيانتها، كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردوه إلى صاحب صيانته إلى الله وإلى الرسول، وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن ترد الصنعة إلى صانعها، وإلى العالم بقانون صيانتها، وأنت لم يدع أحد أنه خلقك، فحين يحدث فيك خلل، فعليك أن تذهب إلى ربك وخالقك.
لذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، ومعنى " حزبه أمر " يعني : شيء فوق طاقته وأسبابه، يهرع إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه عز وجل، فإن وجدت في نفسك خللا في أي ناحية، فما عليك إلا أن تتوضأ، وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك.
وإن كان المهندس يصلح لك الآلة بشيء مادي، ولو قطعة صغيرة من السلك، فإن ربك عز وجل غيب، وعلاجه أيضا غيب، يأتيك من حيث لا تدري.
ومنهج الله الذي وضعه لصيانة خلقه فيه أصول وفيه فروع، الأصول : أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أي من رسالات السماء أبدا، كما يقول تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك.. ( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ] :
فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان، لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الأرض، تعيش كل جماعة منهم منعزلة عن الأخرى لبعد المسافات وانعدام وسائل الاتصال والالتقاء التي نراها اليوم، والتي جعلت العالم كله قرية واحدة، ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في أقصى الغرب، وفي نفس الوقت. لما عاش الناس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات جديدة.
وقد نشأ عن هذه العزلة أن تعددت الداءات بتعدد الجماعات، فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج الداءات في جماعة بعينها يبعث إلى قومه خاصة، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان، وهذا ليعالج طغيان المال، وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها، وهذا ليعالج التعصب القبلي.
أما رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم )، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك، فكانت رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) عامة للناس كافة، وتجد أصول الرسالات عند موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أصولا واحدة، أما الفروع فتختلف باختلاف البيئات.
لكن، لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي، وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتحد فيها الداءات، لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعا على امتداد الزمان والمكان.
وفي هذه الآية :﴿ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه.. ( ٦٧ ) ﴾ [ الحج ] : أي : أن الحق سبحانه جعل لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم، لأنهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا.. ( ٤٨ ) ﴾ [ المائدة ].
فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة، أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة، فالله عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء، والكذب محرم في كل ديانات السماء لم يأت نبي من الأنبياء ليبيح لقومه الكذب.
والمنسك : المنهج التعبدي، ومنه قوله تعالى :﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) ﴾ [ الأنعام ].
﴿ هم ناسكوه.. ( ٦٧ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : فاعلوه.
ثم يقول سبحانه :﴿ فلا ينازعنك في الأمر.. ( ٦٧ ) ﴾ [ الحج ] : كأن يقولوا : أنت رسول ونحن أيضا نتبع رسولا، له منهج وله شريعة، نعم : لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع قبلها، ومناسبة لمستجدات الأمور.
لذلك يطمئن الحق- تبارك وتعالى- رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها :﴿ وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ( ٦٧ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : اطمئن، فأنت على الحق وادع إلى ربك، لأنك على هدى مستقيم سيصل إليهم إن لم يكن إيمانا فسيكون إصلاحا وتقنينا بشريا تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشاكلها، فلن يجدوا أفضل من شرع الله يحكمون به، وإن لم يؤمنوا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تنازعهم ولا ينازعونك، وخذ ما أمرك الله به :﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( ٩٤ ) ﴾ [ الحجر ] : الذين يجادلونك وينازعونك في الرسالة، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك ليحلوا به مشاكلهم.
والهدى وصف بأنه مستقيم، لأنه هدى من الله صنعه لك، هدى الخالق الذي يعلم ملكات النفس الإنسانية كلها، وشرع لكل ملكة ما يناسبها، وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن الله لخلافته في الأرض.
١ المنسك: الموضع الذي تذبح فيه النسك. والمنسك: شرعة النسك وهو الذبح. والمناسك: المتعبدات. [لسان العرب- مادة: نسك]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ( ٦٨ ) ﴾ :
الجدل : مأخوذ من جدل الحبل بعضه على بعض لتقويته، وإن كانت خيطا رفيعا نبرمه فنعطيه سمكا وقوة، لذلك الخيط حين نبرمه يقل في الطول، لأن أجزاءه تتداخل فيكون أقوى، فالجدل من تمتين الشيء وتقويته، وكذلك الجدال، فهو محاولة تقوية الحجة أمام الخصم.
وفي آية أخرى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. ( ١٢٥ ) ﴾ [ النحل ] : فالمعنى : إن جادلوك بعد التي هي أحسن فقل ﴿ الله أعلم بما تعملون ( ٦٨ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : ردهم إلى الله واحتكم إليه، لذلك جاء بعدها :
﴿ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( ٦٩ ) ﴾ :
﴿ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( ٦٩ ) ﴾ :
لاحظ أن الحق سبحانه لم يقل : يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى : لأنكما طرفان تتجادلان. وكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : أتركهم فسوف يختلفون هم فيما بينهم، ولن يظل الخلاف معك، لأن الخلاف في شيء واحد ينشأ عن هوى النفس، وهوى النفس ينشأ من الحرص على السلطة الزمنية، يعني : أرح نفسك، فربك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ( ٧٠ ) ﴾ :
هذه قضية حكم بها الحق سبحانه لنفسه، ولم يدعها أحد، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال : ما دام الأمر من الله أحكاما تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها، فما ضرورة أن يجئ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للناس كافة.
وقلنا : إن الدين نوعان : نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير، وهي العقائد والأصول والأخلاق، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسبا لكل عصر، ولكل أمة.
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال :﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض.. ( ٧٠ ) ﴾ [ الحج ] : أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فأنا أحكم من علم وعن خبرة.
﴿ إن ذلك في كتاب.. ( ٧٠ ) ﴾ [ الحج ] : والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب ؟.
قالوا١ : الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء. وفي آية أخرى قال :﴿ كلا إنها تذكرة ( ١١ ) فمن شاء ذكره ( ١٢ ) في صحف مكرمة ( ١٣ ) مرفوعة مطهرة ( ١٤ ) بأيدي سفرة ( ١٥ ) ﴾ [ عبس ].
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب :﴿ بل هو قرآن مجيد ( ٢١ ) في لوح محفوظ ( ٢٢ ) ﴾ [ البروج ].
وقال تعالى :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ( ٣٩ ) ﴾ [ الرعد ]، ويقول تعالى :﴿ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( ٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
فضرورة الكتاب ليدلك وليدل الملائكة المطلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلا كتبها الله أزلا، فمجيئها في المستقبل على وفق ما كتبه دليل علمه سبحانه بها، فالذي كتب الشيء قبل أن يكون، ثم جاء الشيء موافقا لما كتب أكبر دليل على علمه وإحاطته.
إذن : مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنما ليكون حجة عليك، فيقال لك :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾ [ الإسراء ] : ها هو تاريخك، وها هي قصتك، ليس كلاما من عندنا، وإنما فعلك والحجة عليك.
وعلم الله تعالى في قوله :﴿ يعلم ما في السماء والأرض.. ( ٧٠ ) ﴾ [ الحج ] : يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآني، أن يعطي الشيء ونقيضه، كيف ؟ هب أن عندك ولدين اعتدى أحدهما على الآخر في غيبتك، فلما عدت أسرعا بالشكوى، كل من صاحبه، فقلت لهما : اسكتا لا أسمع لكما صوتا، وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وفق ما علمت، لا شك عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه.
إذن : فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خلقه وعد للمحق، ووعيد للمبطل.
١ - قاله ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن مردويه. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٧٤)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ( ٧١ ) ﴾ :
كأن العبادة- هي : طاعة أمر واجتناب نهي- يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعا، فليس لأحد منا أن يشرع للآخر، فيأمره أو ينهاه، لأن الأمر من المساوي لك لا مرجح له، وله أن يقول لك : لماذا أنت تأمر وأنا أطيع ؟ أما إن جاء الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى، تقول : أبي أمرني بكذا وكذا، أو ربي أمرني بكذا وكذا، أو نهاني عن كذا وكذا.
إذن : كل دليل على حكم الفعل أو الترك لا بد أن يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى، فهو الأعلى مني ومنك، وإذا انصعت لأمره ونهيه فلا حرج علي ولا ضرر، لأنني ما انصعت لمساو إنما انصعت لله الذي أنا وأنت عبيد له، ولا غضاضة في أن نتبع حكمه.
لذلك في حكم أهل الريف يقولون :( اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم ) لماذا ؟ لأنك ما قطعته أنت إنما قطعه الله، فليس في الأمر تسلط أو جبروت من أحد، وليس فيه مذلة ولا استكانة لأحد.
ومعنى :﴿ ويعبدون من دون الله.. ( ٧١ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : يعبدون غيره تعالى ﴿ ما لم ينزل به سلطانا.. ( ٧١ ) ﴾ [ الحج ] : السلطان : إما سلطان قهر، أو سلطان حجة، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم ترد فعله، أما سلطان الحجة فيقنعك ويثبت لك بالحجة أن تفعل باختيارك، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ليس لها سلطان، لا قهر ولا حجة.
لذلك، في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي.. ( ٢٢ ) ﴾ [ إبراهيم ] : يعني : كنتم على إشارة فاستجبتم لي، وليس لي عليكم سلطان، لا قوة أقهركم بها على المعصية، ولا حجة أقنعكم بها.
ثم يقول تعالى :﴿ وما ليس لهم به علم.. ( ٧١ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : علم الاجتهاد الذي يستنبط الأحكام من الحكم المجمل الذي ينزله الحق تبارك وتعالى، وهذه هي حجة العلم التي قال الله تعالى عنها :﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. ( ٨٣ ) ﴾ [ النساء ] : يعني : أهل العلم.
إذن : العبادة لا بد أن تكون بسلطان من الله نصا قاطعا وصريحا لا يحتمل الجدل، وإما أن تكون باجتهاد أولي العلم.
وقوله تعالى :﴿ وما للظالمين من نصير ( ٧١ ) ﴾ [ الحج ]، لم يقل سبحانه : لن ينتصر الظالمون، ولم ينف عنهم النصر، لأن هذه مسألة مسلمة إنما لا يفزع لنصرتهم أحد، فلن ينتصروا ولن ينصرهم أحد، ولا يفزع أحد لينصر أحدا إلا إذا كان المنصور ضعيفا.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ( ٧٢ ) ﴾ :
تصور هذه الآية حال الكفار عند سماعهم لكتاب الله وآياته من رسول الله أو صحابته، فإذا سمعوها ﴿ تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ] : أي : الكراهية تراها وتقرؤها في وجوههم عبوسا وتقطيبا وغضبا وانفعالا، ينكر ما يسمعون، ويكاد أن يتحول الانفعال إلى نزوع غضبي يفتك بمن يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم.
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ] : والسطو : الفتك والبطش، لأن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولا على وجوههم انفعالا ينبئ بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين، ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش.
( قل ) في الرد عليهم : ماذا يغضبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب الله. والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة، وعدم قدرتهم أيضا على الإيمان، لذلك يتقلبون بين غيظ وكراهية.
لذلك يخاطبهم بقوله :﴿ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : مالي أراكم مغتاظين من آيات الله كارهين لها الآن، والأمر ما يزال هينا ؟ أمجرد سماع الآيات يفعل بكم هذا كله ؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الآخرة، الغيظ الذي تظنونه شرا فتسطون علينا بسببه أمر بسيط، وهناك أشر منه ينتظركم ﴿ النار وعدها الله الذين كفروا.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ].
وما أشبه هذا بموقف الصديق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب، وقدم عليهم المستضعفين من المؤمنين، فغضبوا لذلك وورمت أنوفهم، فقال لهم : أورمت أنوفكم أن قدمتهم عليكم الآن، فكيف بكم حين يقدمهم الله عليكم في دخول الجنة ؟.
وكلمة ﴿ وعدها.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ] : الوعد دائما يكون بالخير، أما هنا فاستعملت على سبيل الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم، كما قال في آية أخرى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ( ٢٤ ) ﴾ [ الانشقاق ] : فساعة أن يسمع البشرى يستشرف للخير، فيفاجئه العذاب، فيكون أنكى له.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الكهف ] : لأن انقباض النفس ويأسها بعد بوادر الانبساط أشد من العذاب ذاته.
وقوله :﴿ وبئس المصير ( ٧٢ ) ﴾ [ الحج ] : أي : ساءت نهايتكم ومرجعكم.
﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ﴾ :
قلنا : الضرب إيقاع شيء على شيء بقوة، ومنه نقول : ضربنا الدينار يعني : بعد أن كان قطعة من الذهب أو الفضة مثلا أصبح عملة معروفة متداولة.
والمثل : تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم وعجيب وبديع يعلق في الذهن، كما نصف لك إنسانا لم تره بإنسان تعرفه. نقول : هو مثل فلان. وهكذا كل التشبيهات : شيء تريد أن تعلمه للمخاطب وهو لا يعلمه.
ومنه قوله تعالى :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( ١٧ ) ﴾ [ البقرة ].
وقوله تعالى :﴿ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( ١٧٦ ) ﴾ [ الأعراف ].
وقوله تعالى :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( ٤١ ) ﴾ [ العنكبوت ].
إذن : الأمثال : إعلام بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول، وكلمة ( مثل ) استقلت بأن يكون المثل بديعا في النسج، بليغا موجزا، بحيث تتناقله الألسنة بسرعة في كلمات معدودة.
فلو وجدت مثلا تلميذا مهملا تكاسل طوال العام، ولم يذاكر، فلما حضر الامتحان راح يجتهد في المذاكرة، فتقول له :( قبل الرماء تملأ الكنائن ) يعني : قبل أن تصطاد بالسهام يجب أن تعدها أولا وتملأ بها كنانتك، فهذا مثل يضرب للاستعداد للأمر قبل حلوله.
ومن أمثلة أهل الريف يقولون :( أعط العيش لخبازه ولو يأكل نصفه ) ويضرب لمن يجعل الصنعة عند غير صانعها والمتخصص فيها.
ويقولون فيمن يقصر في الأمر المنوط به :( باب النجار مخلع ).
وحين ترسل من يقضي لك حاجة فيفلح فيها ويأتي بالنتيجة المرجوة يقول لك :( أبدى المخض عن الزبد ) والمخض عملية خض اللبن في القربة لفصل الزبد عن اللبن.
وهكذا، المثل قول موجز بليغ قيل في مناسبته، ثم استعمله الناس لخفته وجماله وبلاغته في المواقف المشابهة، والمثل يظل على حاله الأول لا يغير، ويجب الالتزام بنصه مع المفرد والمثنى والجمع، ومع المذكر والمؤنث، فمثلا إن أرسلت رسولا يقضي لك حاجة، فعندما يعود تقول له :( ما وراءك يا عصام ) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل، لماذا ؟ لأن المثل قيل أول ما قيل لمؤنث، فظل على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخاطب مذكرا.
وقصة هذا المثل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس، وبعث من تخطبها له، وكان اسمها عصام، فلما ذهبت إليها قالت لها أمها : إن فلانة جاءت تخطبك لفلان، فلا تخفي عنها شيئا، ودعيها تشمك إن أرادت، وناطقيها فيما استنطقتك به، فلما دخلت على الفتاة وأرادت أن ترى جسمها خلعت ثوبها، وكشفت عن جسمها، فقالت المرأة :( ترك الخداع من كشف القناع ) فسارت مثلا، ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلا ردها فقال :( ما وراءك يا عصام ) يعني : ما الخبر ؟ فظل المثل هكذا للمؤنث، وإن خوطب به المذكر.
والحق- تبارك وتعالى- يضرب لكم هذا المثل ويقول : خذوه في بالكم، وانتبهوا له، وافتحوا له آذانكم جيدا واعقلوه، لأنه سينفعكم في علاقتكم برسول الله وبالمؤمنين.
والخطاب هنا موجه للناس كافة، لم يخص أحدا دون أحد :﴿ يا أيها الناس ضرب لكم مثل فاستمعوا له.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : فلم يقل يا أيها المؤمنون، لأن هذا المثل موجه إلى الكفار، فالمؤمنون ليسوا في حاجة إليه ﴿ فاستمعوا له.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : انصتوا وتفهموا مراده ومرماه، لتسيروا في حركتكم على وفق ما جاء فيه، وعلى وفق ما فهمتم من مغزاه.
فما هو هذا المثل ؟.
﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ].
أي : الذين تعبدونهم وتتجهون إليهم من دون الله ﴿ لن يخلقوا ذبابا.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : وهو أصغر المخلوقات ﴿ ولو اجتمعوا له.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : تضافرت جهودهم، واجتمع أمرهم جميعا لا واحدا واحدا، وهذا ترق في التحدي، حيث زاد في قوة المعاند.
كما ترقى القرآن في تحدي العرب، فتحداهم أولا بأن يأتوا بمثل القرآن، ولأن القرآن كثير تحداهم بعشر سور فما استطاعوا، فتحداهم بسورة واحدة فلم يستطيعوا.
ثم يترقى في التحدي فيقول : اجمعوا كل فصحائكم وبلغائكم، بل والجن أيضا يساعدونكم ولن تستطيعوا :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.. ( ٨٨ ) ﴾ [ الإسراء ].
وقوله تعالى :﴿ لن يخلقوا ذبابا.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : جاءت بنفي المستقبل فلم يقل مثلا : لم يخلقوا، فالنفي هنا للتأبيد، فهم ما استطاعوا في الماضي، ولن يستطيعوا أيضا فيما بعد حتى لا يظن أحد أنهم ربما تمكنوا من ذلك في مستقبل الأيام، ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد، لأنك قد تترك الفعل مع قدرتك عليه، إنما حين تتحدى به تفعل لترد على هذا التحدي، فأوضح لهم الحق سبحانه أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي، ولن يستطيعوا بعد التحدي.
ثم يقول تعالى :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : فقد تقول : إن عملية الخلق هذه عملية صعبة لا يتحدى بها، لذلك تحداهم بما هو أسهل من الخلق ﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : وهل يستطيع أحد أن يعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه أو أرجله أو خرطومه ؟.
وكانوا يذبحون القرابين عند الأصنام، ويضعون أمامها الطعام ليباركوه، فكانت الدماء تسيل عندها وتتناثر عليها، فيحيط عليها الذباب، ويأخذ من هذه الدماء على أرجله النحيفة هذه أو على أجنحته أو على خرطومه، فتحداهم أن يعيدوا من الذباب ما أخذه، وهذه مسألة أسهل من مسألة الخلق.
ولك أن تجرب أنت هذه العملية، إذا وقع ذباب على العسل الذي أمامك، فلا بد أن يأخذ منه شيئا ولو كان ضئيلا لا يدرك ولا يوزن ولا تكاد تراه، لكن أتستطيع أن تمسك الذبابة وترد ما أخذت منك ؟.
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : يعني : كلاهما ضعيف، فالذباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء، بدليل أنهم لن يقدروا على هذه المسألة، لكن هناك ضعيف يدعي القوة، وضعيف قوته في أنه مقر بضعفه، فالذباب وإن كان ضعيفا إلا أن الله تعالى قال فيه :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ( ٢٦ ) ﴾ [ البقرة ] : يعني : ما فوقها في الصغر، ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلا.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( ٧٤ ) ﴾ :
يعني : هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذبابا، ولا تستطيع حتى أن ترد من الذباب ما أخذه، هؤلاء ما عرفوا لله قدره، ولو عرفوا قدر الله ما عبدوا غيره.
والقدر : يعني : مقدار الشيء، وقلنا : إن مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير، فالطول مثلا له مقياس يقاس به مقدار الطول، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس، فإن أردت أن تقيس المسافة بين القاهرة والإسكندرية مثلا لا تستخدم المللي أو السنتيمتر ولا حتى المتر، إنما تستخدم الكيلومتر، فإن أردت شراء قطعة من القماش تقول متر، أما إن أردت صورة شخصية تقول سنتيمتر.
إذن : لكل شيء مقدار يقدر به، ومعيار يقاس به، فإن أردت المسافة تقيس الطول، فإن أردت المساحة تقيس الطول في العرض، فإن أردت الحجم تقيس الطول في العرض في الارتفاع، الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع، والحجم بالمتر المكعب. كذلك في الوزن تقدره بالكيلو أو الرطل أو الجرام.. إلخ.
وقدر تأتي بمعنى : ضيق، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه.. ( ١٦ ) ﴾ [ الفجر ].
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله.. ( ٧ ) ﴾ [ الطلاق ] :
والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضا في المعنويات، فمثلا تعبر عن الزيادة المادية تقول : فلان كبر يعني شب وزاد، أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه : كبر ﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. ( ٥ ) ﴾ [ الكهف ] : يعني : عظمت.
والحق- تبارك وتعالى- ليس مادة، لأنه سبحانه فوق المادة، فمعنى المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه ﴿ ما قدروا الله حق قدره.. ( ٧٤ ) ﴾ [ الحج ] : ما عظموه حق التعظيم الذي ينبغي له، وما عرفوا قدره، ولو عرفوا ما عبدوا غيره، ولا عبدوا أحدا معه من هذه الآلهة التي لا تخلق ذبابا، ولا حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب، فكيف يسوون هؤلاء بالله ويقارنونهم به عز وجل ؟ إنهم لو عرفوا لله تعالى قدره لاستحيوا من ذلك كله.
ثم تذيل الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله لقوي عزيز ( ٧٤ ) ﴾ [ الحج ] : فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق الذي نحن بصدده ؟.
قالوا : لأن الحق- سبحانه وتعالى- تكلم في المثل السابق عمن انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى عبادة الأصنام وقال :﴿ ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] : فقال في مقابل هذا الضعف إن الله لقوي، قوة عن العابد، لأنه ليس في حاجة إلى عبادته، وقوة عن المعبود لأنه لو شاء حطمه، وما دمتم انصرفتم عن الله وعبدتم غيره، فهذا فيه مضارة، وكأن هناك معركة، فإن كان كذلك فالله عزيز لا يغالب.
والآية :﴿ ما قدروا الله حق قدره.. ( ٧٤ ) ﴾ [ الحج ] : وردت في عدة مواضع في كتاب الله، منها :﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء.. ( ٩١ ) ﴾ [ الأنعام ] : فلم يعرفوا لله تعالى قدره لأنهم اتهموه، وله سبحانه كمال العدل، فكيف يكلف عباده بعبادته، ولا يبلغهم برسول ؟ وهو سبحانه القائل :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾ [ الإسراء ].
فحين يقولون :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء.. ( ٩١ ) ﴾ [ الأنعام ] : كأنهم يصفون الحق سبحانه بأنه يعذب الناس دون أن يبلغهم بشيء. ويرد عليهم في هذه المسألة :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى.. ( ٩١ ) ﴾ [ الأنعام ].
وفي موضع آخر :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه.. ( ٦٧ ) ﴾ [ الزمر ].
ونقول : قدره حق قدره، وقدره قدره، كأن الأمور تختلف في تقدير الأشياء، فمثلا تنظر إلى حجرة فتقول : هذه تقريبا ٤x٥ هذا تقدير إجمالي تقريبي، إنما إن أخذت المقياس وقدرت تقديرا حقيقيا، فقد تزيد أو تنقص، فالأول تقول : قدرت الحجرة قدرها. والآخر تقول : قدرت الحجرة حق قدرها.
وعليه فإنك إن أردت أن تقدر الله تعالى حق قدره فإنك تقدره على قدر استيعاب العقل البشري، إنما قدره تعالى حقيقة فلا تحيط به، لأن كمالاته تعالى لا تتناهى ولا تدرك إدراكا تاما.
ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. ولما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته.. ( ١٠٢ ) ﴾ [ آل عمران ] : قال بعض الصحابة١ : ومن يقدر على ذلك، إنها مسألة صعبة أن نتقي الله التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل، فأنزل الله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. ( ١٦ ) ﴾ [ التغابن ]، ونزلت :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. ( ٢٨٦ ) ﴾ [ البقرة ].
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أثنى على الله تعالى يقول : " سبحانك، لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " ٢.
لماذا ؟ لأنه لا يملك أحد مهما أوتي من بلاغة الأسلوب أن يثني على الله الثناء المناسب الذي يليق به سبحانه، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على نفسه، وعلمنا كيف نثني عليه سبحانه، فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على الله بفنون القول والثناء، فإن العيي الذي لا يجيد الكلام يطمئن حيث يثني على ربه بما علمه من الثناء، وما وضعه من صيغ يقولها الفيلسوف، ويقولها راعي الشاة.
ولولا أن الله تعالى علمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال :﴿ الحمد لله رب العالمين ( ٢ ) ﴾ [ الفاتحة ] : ما تعلمنا هذه الصيغة، فتعليم الله لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد، والحمد يستحق الحمد، وهكذا في سلسلة لا تنتهي، ليظل الحق- تبارك وتعالى- محمودا دائما، ويظل العبد حامدا دائما.
١ - عن سعيد بن جبير وهو من كبار التابعين قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين ﴿فاتقوا الله ما استطعتم (١٦)﴾ [التغابن]. فنسخت الآية الأولى. [أخرجه ابن أبي حاتم]. وابن عباس في قوله ﴿اتقوا الله حق تقاته (١٠٢)﴾ [آل عمران] قال: لم تنسخ ولكن ﴿حق تقاته (١٠٢)﴾ [آل عمران] أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم. [أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه]. أوردهما السيوطي في الدر المنثور ٢/٢٨٣..
٢ - أخرجه أحمد في مسنده (٦/٥٨، ١٢٠) وكذا مسلم في صحيحه (٤٨٦) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"..
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة الألوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق، وحذر أن ندخل عليها ما ليس منها وما لا يستحقها، وهذه قمة العقائد، وبعد أن نؤمن بالإلهيات بهذا الصفاء ونخلص إيماننا من كل ما يشوبه لا بد من البلاغ عن هذه القوة الإلهية التي آمنا بها، والبلاغ يكون بإرسال الرسل لذلك قال سبحانه :
﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ( ٧٥ ) ﴾ :
إذن : المرحلة الثانية في الإيمان بعد الإيمان بالقمة الإلهية الإيمان بالرسل ﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.. ( ٧٥ ) ﴾ [ الحج ] : والاصطفاء : اختيار نخبة من كثير، واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلاصة والصفوة، كما يختلف الاصطفاء باختلاف المصطفى، فإن كان المصطفى هو الله تعالى فلا بد أن يختار خلاصة الخلاصة.
والاصطفاء سائر في الكون كله، يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، ويصطفي من الزمان، ويصطفي من المكان، كما اصطفى رمضان من الزمان، والكعبة من المكان، ولم يجعل الحق سبحانه الاصطفاء لتدليل المصطفى على غيره، إنما ليشيع اصطفاءه على خلق الله، فلما اصطفى رمضان على سائر الزمن- لا ليدلل رمضان- إنما لتأخذ منه شحنة تقوي روحك، وتصفيها بقية الأيام، لتستفيد من صالح عملك فيها.
وقد يتكرر الاصطفاء مع اختلاف متعلق الاصطفاء، لذلك وقف المستشرقون عند قول الله تعالى :﴿ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ( ٤٢ ) ﴾ [ آل عمران ].
يقولون : ما فائدة تكرار الاصطفاء هنا ؟ ولو تأملنا الآية لوجدنا فرقا بين الاصطفاء الأول والآخر، الاصطفاء الأول اصطفاء، لأن تكوني عابدة نقية متبتلة منقطعة في محرابك لله، أما الاصطفاء الآخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعا، بأن تكوني أما لمولود بلا أب، فمتعلق الاصطفاء- إذن- مختلف.
وتنقسم الملائكة في مسألة الاصطفاء إلى ملائكة مصطفاة، وملائكة مصطفى منها. وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ جاعل الملائكة رسلا ( ١ ) ﴾ [ فاطر ] : يعني : كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى غيرنا.
أما في الآية التي معنا، فالكلام عن الملائكة الذين لهم صلة بالإنسان أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ الإنسان، فالله تعالى يصطفي هؤلاء، أما الباقون منهم فالله مصطفيهم لعبادته فهم مهيمون، لا يدرون عن هذا الخلق شيئا، وهم الملائكة العالون الذين قال الله عنهم في الحديث عن إبليس :﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ( ٧٥ ) ﴾ [ ص ] يعني : الذين لم يشملهم الأمر بالسجود، لأن لهم مهمة أخرى.
ثم يقول تعالى :﴿ إن الله سميع بصير ( ٧٥ ) ﴾ [ الحج ] : السمع يتعلق بالأصوات، والبصر يتعلق بالأفعال، وهما كما قلنا عمدة الحواس كلها، والحق سبحانه في قوله :﴿ سميع بصير ( ٧٥ ) ﴾ [ الحج ] : يبين لنا أن رسله سيواجهون بأقوال تؤذيهم واستهزاء، وسيقابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم، فليكن هذا معلوما حتى لا يفت في عضدهم، وأنا معهم سميع لما يقال، بصير بما يفعل، فهم تحت سمعي وبصري وكلاءتي.
﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ( ٧٦ ) ﴾ :
﴿ ما بين أيديهم ( ٧٦ ) ﴾ [ الحج ] ما أمامهم، ويعلم أيضا ما خلفهم، فليعمل الإنسان ما يشاء، فعلم الله محيط به.
﴿ وإلى الله ترجع الأمور ( ٧٦ ) ﴾ [ الحج ] فالمرجع في النهاية إليه سبحانه، فالحق- تبارك وتعالى- لم يخلق خلقه ليتركهم هملا، إنما خلقهم لحكمة، وجعل لهم نهاية يجازى فيها كل بعمله، فمن تعب ونصب في سبيل دعوة الله وتحمل المشاق في مساندة رسل الله فله جزاؤه، ومن جابههم وعاندهم سواء بالأقوال السابة الشاتمة المستهزئة، أو بالأفعال التي تعوق دعوتهم، فله أيضا ما يستحق من العقاب.
وبعد أن حدثنا ربنا عز وجل عن الإلهيات وعن الرسل التي تبلغ عنه سبحانه، يحدثنا عن المنهج الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا، هذا المنهج موجز في افعل كذا، ولا تفعل كذا، وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة. فالأوامر والنواهي محصورة في عدة أمور، والباقي مباح، لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أي وجه تريد.
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه الأمور التي تركها الله لنا، ولو أراد سبحانه لأنزل فيها حكما محكما، لا يختلف عليه أحد. ولك أن تقول : ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال، وتختلف فيها الآراء، وتحدث فيها نزاعات بين الناس ؟.
قالوا : هذا مراد الله، لأن الله تعالى خلق الإنسان مسخرا في أشياء، ومختارا في أشياء أخرى، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل، لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله، إنما تركه محتملا للآراء.
إذن : أراد سبحانه أن تكون هذه الآراء لأن الإنسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات وله اختيار في بعض الأمور، كذلك الحال في التكليف، فهو مقهور في الأصول التي لو حاد عنها يفسد العالم، ومختار في أمور أخرى يصح فعلها ويصح تركها.
يقول تعالى في هذا المنهج :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ :
النداء في ضرب المثل السابق١ كان للناس كافة، لأنه يريد أن يلفت عباد الأصنام إلى هذا المثل، ويسمعهم إياه، أما هنا فالكلام عن منهج ودستور موجه، خاصة إلى الذين آمنوا، لأنه لا يكلف بالحكم إلا من آمن به، أما من كفر فليس أهلا لحمل هذه الأمانة، لذلك تركه ولم ينظم له حركة حياته. وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد من استعان به ووثق فيه، فيدله ويرشده، أما من شك في كلامه وقلل من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق.
فإذا ناداك ربك بما يكلفك به، فاعلم أن الجهة منفكة، كما في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا.. ( ١٣٦ ) } [ النساء ].
وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الآية بعض الذين يأخذون الآيات على ظاهرها، يقولون : كيف يخاطبهم بيأيها الذين آمنوا ثم يقول : آمنوا، كيف وهم يؤمنون بالفعل ؟
قالوا : المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظلوا على إيمانكم في الحكم الجديد، واستمروا على إيمانكم، لذلك إذا طلبت شيئا ممن هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه.
كما أن هناك فرقا بين الإيمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم، فقد تؤمن بالحكم أنه من الله ولا تشك فيه ولا تعترض عليه، لكنك لا تنفذه وتعصاه، فمثلا في الحج يقول تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت.. ( ٩٧ ) ﴾ [ آل عمران ] الذي لله تعالى على عباده أن يحجوا البيت ﴿ من استطاع إليه سبيلا ( ٩٧ ) ﴾ [ آل عمران ] وهذا شرط ضروري، فلا تكليف بلا استطاعة، ثم يقول :﴿ ومن كفر ( ٩٧ ) ﴾ [ آل عمران ] فهل يعني هذا أن من لم يحج فهو كافر ؟.
قالوا : لا، لأن المراد : لله على الناس حكم يعتقده المؤمن، بأن لله على الناس حج البيت، فمن اعتقد هذا الاعتقاد فهو مؤمن، أما كونه ينفذه أو لا ينفذه هذه مسألة أخرى.
ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلاة :﴿ اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم.. ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ]، لقد جاء الرسل من عند الله بتكاليف كثيرة، لكن خص هنا الصلاة لأنها التكليف الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، أما بقية التكاليف فهي موسمية، فالصوم شهر في العام كله، والحج مرة في العمر كله لمن استطاع، والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول الحول.
إذن : تختلف فريضة الصلاة عن باقي الفرائض، لذلك خصها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " ٢.
ويقول : " الصلاة عماد الدين " ٣.
وخصها الحق- تبارك وتعالى- بظرف تشريعي خاص، حيث فرضت الصلاة بالمباشرة، وفرضت باقي الفرائض بالوحي.
وضربنا لذلك مثلا- ولله المثل الأعلى- قلنا : إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول : افعل كذا وكذا، فإن كان أمرا هاما اتصل بك تليفونيا، وأخبرك بما يريد لأهميته، فإن كان الأمر أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك : تعال عندي لأمر هام، ويكلفك به مباشرة، وكذلك على حسب الأهمية يوجد ظرف التشريع.
فالصلاة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض، إنما جاءت مباشرة من الموحى سبحانه وتعالى، لأنها ستكون صلة بين العبد وربه، فشاء أن ينزهها حتى من هذه الواسطة، ثم ميزها على غيرها من التكاليف، فجعلها الفريضة التي لا تسقط عن المسلم بحال أبدا، فقد تكون فقيرا فلا تلزمك الزكاة، وغير مستطيع فلا يلزمك حج، ومريض أو مسافر فلا يلزمك صوم.
أما الصلاة فلا يسقطها عنك شيء من هذا كله، فإن كنت غير قادر على القيام فلك أن تصلي قاعدا أو مضطجعا أو راقدا، تشير بطرفك لركوعك وسجودك، ولو حتى تجري أفعال الصلاة على قلبك، المهم أن تظل ذاكرا لربك متصلا به، لا يمر عليك وقت إلا وهو سبحانه في بالك.
وقلنا : إن ذكر الله في الأذان والإقامة والصلاة ذكر دائم في كل الوقت لا ينقطع أبدا، فحين تصلي أنت الصبح مثلا غيرك يصلي الظهر، وحين تركع غيرك يسجد، وحين تقول : بسم الله الرحمن الرحيم. غيرك يقول : الحمد لله رب العالمين.. الخ.
فهي عبادة متداخلة دائمة لا تنقطع أبدا، لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطبا للزمن : يا زمن فيك كل الزمن. يعني : في كل جزئية من الزمن الزمن كله، كأنه قال : يا ظهر، وفيك العصر، وفيك المغرب، وفيك العشاء، وهكذا العالم كله يدور بعبادة لله لا تنتهي.
وذكر من الصلاة الركوع والسجود، لأنهما أظهر أعمال الصلاة، لكن الركوع والسجود حركات يؤديها المؤمن المخلص، ويؤديها المنافق، وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى، لذلك أراد الحق سبحانه أن يميز هذا من هذا، فقال :﴿ واعبدوا ربكم.. ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ].
فليست العبرة في حركات الركوع والسجود، إنما العبرة في التوجه بها إلى الله، وإخلاص النية فيها لله، وإلا أصبحت الصلاة مجرد حركات لا تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض أن يقول : الصلاة فيها تمارين رياضية تحرك كل أجزاء الجسم، نعم هي كما تقولون رياضة، لكنها ليست عبادة، العبادة أن تؤديها لأن الله تعالى أمرك بها.
ثم يقول تعالى :﴿ وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف، لكن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالخير- إذن- كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع، لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيما يتعاون ويتساند لا يتعاند، فإن جاء الأمر على هذه الصورة سعد المجتمع بأسره.
ولا تنس أن المنهج حين يضيق عليك ويقيد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت، وأنت المستفيد من تقييد الحركة، لأن ربك قيد حركتك وضيق عليك حتى لا تلحق الشر بالآخرين، وفي الوقت نفسه ضيق على الآخرين جميعا أن يتحركوا بالشر ناحيتك، وأنت واحد وهم كثير، فمن أجل تقييد حركتك قيد لك حركة الناس جميعا، فمن الكاسب في هذه المسألة.
الشرع قال لك : لا تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعا : لا تسرقوا منه، وقال لك : غض بصرك عن محارم الغير وأنت واحد. وقال لكل غير : غضوا أبصاركم عن محارم فلان، فكل تكليف من الله للخلق يعود عليك.
فالمعنى :﴿ وافعلوا الخير ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] أي : الذي لا يأتي منه فساد أبدا، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون، فإن كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمت الأهواء وتعاندت، والخير : كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى.
ثم يقول سبحانه :﴿ لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] لكن، أين سيكون هذا الفلاح : في الدنيا أم في الآخرة ؟.
الفلاح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير، فالفلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أي مجتمع يتحرك أفراده في اتجاه الخير لهم وللغير، مجتمع يعمل بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ٤ وعندها لن ترى في المجتمع تزاحما ولا تنافرا ولا ظلما ولا رشوة.. الخ هذا الفلاح في الدنيا، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة.
إذن : لا تظنوا التكاليف الشرعية عبئا عليكم، لأنها في صالحكم في الدنيا، وبها فلاح دنياكم، ثم يكون ثوابها في الآخرة محض الفضل من الله.
وقد نبهنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى هذه المسألة فقال : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته " ٥ ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى :﴿ ويزيدهم من فضله ( ١٧٣ ) ﴾ [ النساء ].
وقوله تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] نعرف أن لعل أداة للترجي، وهو درجات بعضها أرجى من بعض، فمثلا حين تقول : لعل فلانا يعطيك، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه، فإن قلت : لعلي أعطيك. فالرجاء- إذن- في يدك، فهذه أرجى من سابقتها، لكن ما زلنا أنا وأنت متساويين، وربما أعطيك أولا، إنما حين تقول : لعل الله يعطيك فقد رجوت الله، فهذه أرجى من سابقتها، فإذا قال الله تعالى بذاته : لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها، لأن الوعد من الله والرجاء فيه سبحانه لا يخيب.
١ - يقصد لقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له.. (٧٣)﴾ [الحج]..
٢ - أخرجه الترمذي في سننه (٢٦٢١)، والنسائي في سننه (١/٢٣١) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب..
٣ - قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء (١/١٤٧): "رواه البيهقي في الشعب بسند ضعفه من حديث عمر" وقال الملا على القارئ في "الأسرار المرفوعة" (حديث ٥٧٨) قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: إنه غير معروف. وقال النووي في التنقيح: إنه منكر باطل، لكن رواه الديلمي عن علي كما ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة (ح ٢٧٩)..
٤ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٣)، ومسلم في صحيحه (٤٥) كتاب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
٥ - حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٦٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨١٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ( ٧٨ ) ﴾ :
معنى :﴿ حق جهاده ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] كالذي قلناه في ﴿ ما قدروا الله حق قدره ( ٧٤ ) ﴾ [ الحج ] لأن الجهاد أيضا يحتاج إلى إخلاص، وأن تجعل الله في بالك، فربما خرجت لمجرد أن تدفع اللوم عن نفسك وحملت السلاح فعلا ودخلت المعركة، لكن ما في بالك أنها لله وما في بالك إعلاء كلمة الله، كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته، أو يقاتل طمعا في الغنائم، أو لأنه مغتاظ من العدو وبينه وبينه ثأر، ويريد أن ينتقم منه، هذه وغيرها أمور تخرج القتال عن هدفه وتفرغه من محتواه.
لذلك لما سئل سيدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ١ وهذا هو حق الجهاد، وأنت فيه حكم على نفسك، لأن ميزان ذلك في يدك.
وقد تسأل : ولماذا الجهاد ؟ قالوا : لأنك إذا انتفعت بالمنهج تطبيقا له بعد التحقيق الذي أتى به الرسل تنفع نفسك، لكن ربك- عز وجل- يريد أن يشيع النفع لمن معك أيضا، وهذا لا يتأتى إلا بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب، وإلا فكيف ستربح الصفقة التي قال الله تعالى عنها :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.. ( ١١١ ) ﴾ [ التوبة ].
وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة، كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة : الجندي حين يقتحم الأهوال والمخاطر ويعرض نفسه للموت، فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرض نفسه للقتل إلا وهو واثق تمام الثقة، أن ما يذهب إليه بالقتل خير مما يناله بالجبن، وهذا يشجع الآخرين ويحثهم على القتال.
لذلك، في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أجر الشهيد وكان في فمه تمرة يمصها، فقال : يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل في سبيل الله ؟ قال : نعم، فألقى التمرة من فيه وخرج لتوه إلى الجهاد٢ لأنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه بالشهادة خير مما ترك.
أما الذين بقوا ولم يخرجوا، فمهمتهم أن يحملوا المنهج، وأن يحققوه، وإلا لو خرج الجميع إلى القتال واستشهدوا جميعا، فمن يحمل منهج الله وينشره ؟.
وجاءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد، فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتغلبنا على الكفر فلم يعد هناك كفار، أو خلوا طريق دعوتنا وتركونا، وأحبوا أن يعيشوا في بلادنا أهل ذمة، فلا داعي- إذن- للقتال، ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس.
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ هو اجتباكم.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] يعني : اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة أخرجت للناس، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلا له، وعلى مستوى مسئوليته، وأن نحقق ما أراده الله منا.
كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها، نقول لهم : لقد اختاركم الله، فكونوا أهلا لهذا الاختيار، واجعلوا كلامه تعالى في محله.
ثم يقول سبحانه :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] يعني : ما اجتباكم ليعنتكم، أو ليضيق عليكم، أو ليعسر عليكم الأمور، إنما جعل الأمر كله يسر، وشرعه على قدر الاستطاعة، ورخص لكم ما يخفف عنكم، ويذهب عنكم الحرج والضيق، فمن لم يستطع القيام صلى قاعدا، ومن كان مريضا أفطر، والفقير لا زكاة عليه ولا حج.. الخ.
كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم.. ( ٢٢٠ ) ﴾ [ البقرة ] لكنه سبحانه ما أعنتكم ولا ضيق عليكم، وما كلفكم إلا ما تستطيعون القيام به.
وقوله تعالى :﴿ ملة أبيكم إبراهيم ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] كلمة ( ملة ) جاءت هكذا بالنصب، لأنها مفعول به لفعل تقديره :( الزموا ) ملة أبيكم إبراهيم، لأنكم دعوته حين قال :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ البقرة ]
ومن دعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم.. ( ١٢٩ ) ﴾ [ البقرة ] لذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى " ٣.
يعني : من ذريته وذرية ولده إسماعيل ﴿ وأرنا مناسكنا.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ البقرة ] أعطنا التكاليف، وكأنه متشوق إلى تكاليف الله، وهل يشتاق الإنسان للتكليف إن كان فيه ضيق أو مشقة ؟
وكذلك كان صحابة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعشقون تكاليف الإسلام، ويسألون عنها رسول الله رغم قوله لهم : " ذروني ما تركتكم " ٤ إلا أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة، لا على ما كانت الجاهلية تفعله، بل على ما أمر به الإسلام.
ولنا ملحظ في قوله تعالى :﴿ ملة أبيكم إبراهيم.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] فالخطاب هنا لأمة الدعوة، ولأمة الإجابة، وهل أمة الإسلام كلها من ذرية إبراهيم حتى يقول :﴿ ملة أبيكم إبراهيم.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] ؟.
نقول : الإسلام انقياد عقدي للجميع، وفي أمة الإسلام من ليس من ذرية إبراهيم، لكن إبراهيم عليه السلام أب لرسول الله محمد ( صلى الله عليه وسلم )، والرسول أب لكل من آمن به، لأن أبوة الرسول أبوة عمل واتباع، كما جاء في قول الله تعالى في قصة نوح عن ابنه :﴿ إنه ليس من أهلك.. ( ٤٦ ) ﴾ [ هود ].
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا لكل من آمن به سمى الله زوجاته أمهات للمؤمنين، فقال سبحانه :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وما دامت الأزواج أمهات، فالزوج أب، وبناء على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلام أبا لأمة الإسلام، وإن كان فيهم من ليس من سلالته.
ونجد البعض ممن يحبون الاعتراض على كلام الله يقولون في مسألة أبوة الرسول لأمته : لكن القرآن قال غير ذلك، قال في قصة زيد بن حارثة :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فنفى أن يكون محمد أبا لأحد، وفي هذا ما يناقض كلامكم.
نقول : لو فهمتم عن الله ما اعترضتم على كلامه، فالله يقول : ما كان محمد أبا لأحدكم، بل هو أب للجميع، فالمنفي أن يكون رسول الله أبا لواحد، لا أن يكون أبا لجميع أمته. وقال بعدها :﴿ ولكن رسول الله.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] وما دام رسول الله، فهو أب للكل.
ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلام :﴿ هو سماكم المسلمين من قبل.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] يعني : إبراهيم عليه السلام سماكم المسلمين، فكأن هذه مسألة واضحة وأمر معروف أنكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السلام :﴿ وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ].
وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير، فيقول سبحانه :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( ١٤٣ ) ﴾ [ البقرة ].
لماذا ؟ قالوا : لأن رسول الله بلغ رسالة الله، وأشهد الله على ذلك حين قال : " اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد " ٥ اشهد أني بلغت، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملا لهذه الرسالة، مبلغا لها حتى يسمع كلام الرسول من لم يحضره ولم يره، وهكذا يكون الرسول شهيدا على من آمن به، ومن آمن شهيدا على من بلغه.
لذلك من شرف أمة محمد أولا أنه لا يأتي بعده رسول، لأنهم مأمونون على منهج الله، وكأن الخير لا ينطفئ فيهم أبدا، وقلنا : إن الرسل لا يأتون إلا بعد أن يعم الفساد، ويفقد الناس المناعة الطبيعية التي تحجزهم عن الشر، وكذلك يفقدها المجتمع كله فلا ينهى أحد أحدا عن الشر، عندها يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليصلح ما فسد.
فختام الرسالات بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شهادة أن الخير لا ينقطع من أمته أبدا، ومهما انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم. لذلك حدد رسول الله هذه المسألة فقال : " الخير في حصرا، وفي أمتي نثرا " فالخير كله والكمال كله في شخص رسول الله، ومنثور في أمته.
ثم يعود السياق إلى الأمر بالصلاة :﴿ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] لأنها الفريضة الملازمة للمؤمن، وفيها إعلاء الولاء المكرر في اليوم خمس مرات، وبها يستمر ذكر الله على مدى الزمن كله لا ينقطع أبدا في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله، وتضم بعضه إلى بعض.
والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق- تبارك وتعالى- يجده دائما لا ينقطع، فاليوم مثلا عندنا أربع وعشرون ساعة، واليوم عند الله ألف سنة مما تعدون، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة، وهناك يوم اسمه يوم الآن أي : اللحظة التي نحن فيها، وهو يوم الله الذي قال عنه :﴿ كل يوم هو في شأن ( ٢٩ ) ﴾ [ الرحمن ] لذلك يقول : ما شغل ربك الآن وقد صح أن القلم قد جف ؟ قال : أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواما، ويضع آخرين " ٦.
فيوم الآن يوم عاد، لا هو يوم مصر، ولا يوم سوريا، ولا يوم اليابان إذن : في كل لحظة يبدأ لله يوم وينتهي يوم، فيومه تعالى مستمر لا ينقطع.
ونقرأ في الحديث النبوي الشريف : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " ٧.
نهار من ؟ وليل من ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم لا ينقطع، وفي كل لحظة من لحظات الزمن ينتهي يوم ويبدأ يوم، وينتهي ليل ويبدأ ليل. إذن : فالله تعالى يده مبسوطة دائما لا يقبضها أبدا، كما قال سبحانه :﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( ٦٣ ) ﴾ [ المائدة ]
ثم يقول سبحانه :﴿ واعتصموا بالله ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] الجئوا إليه في الشدائد، وهذا يعني أنكم ستواجهون وتضطهدون، فما من حامل منهج لله إلا اضطهد، فلا يؤثر فيكم هذا ولا يفت في عضدكم، واجعلوا الله ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم، كما قال سبحانه :﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( ٤٣ ) ﴾ [ هود ].
واعتصامكم بالله أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنما ﴿ هو مولاكم ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ] يعني : المتولي لشأنكم، وما دام هو سبحانه مولاكم ﴿ فنعم المولى ونعم النصير ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ].
١ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٢٣)، ومسلم في صحيحه (١٩٠٤) عن أبي موسى الأشعري..
٢ - عن جابر بن عبد الله قال: قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات كن في يده. ثم قاتل حتى قتل. وفي حديث سويد: قال رجل للنبي (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٠٤٦)، وكذا مسلم في صحيحه (١٨٩٩) كتاب الإمارة. قال ابن حجر في الفتح (٧/٣٥٤): "لم أقف على اسم الرجل، وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام وسبقه إلى ذلك الخطيب واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس. قلت: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر"..
٣ - قال أبو أمامة: قلت يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منهما نور أضاءت منها قصور الشام. أخرجه أحمد في مسنده (٥/٢٦٢)..
٤ - أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٤٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم فائتوا منه ما استطعتم"..
٥ - أخرجه البخاري في صحيحه (١٧٣٩) في خطبة الوداع من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"..
٦ - عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: ﴿كل يوم هو في شأن (٢٩)﴾ [الرحمن] قال: "من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين". أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (١/١٢٩) وابن ماجه في سننه (٢٠٢)، وأبو نعيم في الحلية (٥/٢٥٢) وأبو الشيخ في العظمة (ح ١٥٠)..
٧ - أخرجه أحمد في مسنده (٤/٣٩٥، ٤٠٤) ومسلم في صحيحه (٢٧٥٩) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
Icon