ﰡ
﴿ طسم ١ ﴾ :
﴿ طسم١ ﴾( الشعراء ) :
سبق أن تكلمنا عن الحروف المقطعة في أوائل السور، وقلنا : فرق بين اسم الحرف ومسمى الحرف، مسمى الباء مثلا : با أو بو أو بي أو إب في حالة السكون، إنما اسمها : باء مفتوحة، أو مضمومة، أو ساكنة، لكن حين تنطق هذا الحرف في كتب-مثلا- تقول : كتب فتنطق مسمى الحرف لا اسمه.
وقلنا : في هذه المسألة معان كثيرة، أيسرها : أن القرآن، وهو كلام الله المعجز منزل من حروف مثل حروفكم التي تتكلمون بها، وكلمات مثل التي في لغتكم، لكن ما الذي جعله متميزا بالإعجاز عن كلامكم ؟ نقول : لأنه كلام الله، هذا هو الفرق، أما الحروف فواحدة.
ولو تأملت لوجدت أن الحروف المقطعة في أوائل السورة مجموعها لأربعة عشر حرفا١، هي نصف الحروف الهجائية، مرة يأتي حرف واحد، ومرة حرفان، ومرة ثلاثة أحرف، ومرة أربعة أحرف، ومرة خمسة أحرف. وهذا يدلنا على أن القرآن معجز، مع أنه بنفس حروفكم، وبنفس كلماتكم.
وسبق أن ضربنا لتوضيح هذه المسألة مثلا : هب أنك أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج مثلا، فأعطيت أحدهم صوفا، وللثاني حريرا، وللثالث قطنا، وللرابع كتانا، فهل تستطيع أن تحكم على دقة نسج كل منهم وأيهما أرق وأجمل ؟ بالطبع لا تستطيع ؛ لأن الحرير أنعم وأرق من القطن، والقطن أرق من الصوف، والصوف أرق من الكتان، فإن أردت تمييز الدقة والمهارة في هذه الصنعة فعليك أن توحد النوع.
إذن : الإعجاز في القرآن أن تكون مادته ومادة غيره من الكلام واحدة، حروفا وكلمات ؛ لذلك كثيرا ما يقول الحق –تبارك وتعالى –بعد الحروف المقطعة :﴿ تلك آيات الكتاب المبين ٢ ﴾
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ٣ ﴾
هذه التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه حمل نفسه في تبليغ الرسالة فوق ما يطيق، وفوق ما يطلبه الله منه حرصا منه على هداية الناس، وإرجاعهم إلى منهج الله ؛ ليستحقوا الخلافة في الأرض، ولأن من شروط الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك١.
والحق- تبارك وتعالى- يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال له في سورة الكهف :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾( الكهف )
كأن ترى ولدك يرهق نفسه في المذاكرة، فتشفق عليه أن يهلك نفسه، فأنت تعتب عليه لصالحه، كذلك الحق- تبارك وتعالى- يعتب على رسوله شفقة وخوفا عليه أن يهلك نفسه.
ومعنى﴿ باخع.... ٣ ﴾( الشعراء ) البخع : الذبح الذي لا يقتصر على قطع المرئ والودجين٢، إنما يبالغ فيه حتى يفصل الفقرات، ويخرج النخاع من بينها، والمعنى : تحزن حزنا عميقا يستولي على نفسك حتى تهلك، وهذا يدل على المشقة التي كان يعانيها الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه له.
وفي موضع آخر، يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات... ٨ ﴾( فاطر ) فهذا أمر نهائي واضح، ونهي صريح، بعد أن لفت نظره بالإنكار، فقال :﴿ لعلك باخع نفسك... ٣ ﴾( الشعراء ).
وقد نبه الله تعالى رسوله في عدة مواضع حتى لا يحمل نفسه فوق طاقتها، فقال سبحانه وتعالى :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب٤٠ ﴾( الرعد ).
وقال :﴿ لست عليهم بمسيطر٢٢ ﴾( الغاشية ).
وقال :﴿ وما أنتم عليهم بجبار... ٤٥ ﴾( ق ).
فالحق- تبارك وتعالى- يقول لرسوله : يسر على نفسك، ولا تكلفها تكليفا شاقا مضنيا، والعتاب هذا لصالح الرسول، لا عليه.
٢ الودجان: عرقان متصلان من الرأس إلى السحر. والجمع أوداج، وهي عروق تكتنف الحلقوم فإذا فصد ودج.(لسان العرب –مادة: ودج)..
﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فضلت أعناقهم لها خاضعين٤ ﴾ :
والآية هنا ليست آية إقناع للعقول، إنما آية ترغمهم وتخضع رقابهم، وتخضع البنية والقالب، وهذا ليس كلاما نظريا يقال للمكذبين، إنما حقائق وقعت بالفعل في بني إسرائيل، واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة... ١٧١ ﴾( الأعراف ).
فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا ؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعت قوالبهم، لكن الحق- تبارك وتعالى- كما قلنا- لا يريد بالإيمان أن يخضع القوالب، إنما يريد أن يخضع القلوب باليقين والاتباع.
فلو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، لا يختلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلا وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلا عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهد أن يغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان... ٤٢ ﴾( الحجر )
والشيطان نفسه يقول :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ٨٢ إلا عبادك منهم المخلصين٨٣ ﴾( ص )
إذن : لو أراد سبحانه لجعل الناس جميعا مؤمنين وما عز عليه ذلك، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن، فيأتي طواعية مختارا.
حتى في أمور الدنيا وأهلها، قد ترى جبارا يضرب الناس، ويخضعهم لأمره ونهيه، فيطيعونه طاعة قوالب، إنما أيستطيع أن يخضع بجبروته قلوبهم ؟ !.
وقال :﴿ فظلت أعناقهم لها خاضعين ٤ ﴾( الشعراء ) خص الأعناق ؛ لأنها مظهر الخضوع، فأول الخضوع أن تلوي الأعناق، أو الأعناق تطلق عند العرب على وجوه القوم وأعيانهم ؛ لذلك يقولون في التهديد : هذه مسألة تضيع فيها رقاب.
والمراد : الرقاب الكبيرة ذات الشأن، لا رقاب لمامة القوم، والضعفاء، أو العاجزين. ومثلها كلمة صدور القوم يعني : أعيانهم والمقدمين منهم الذين يملأون العيون.
والمعنى : فأنت لا تخضع الناس ؛ لأني لو أردت أن أخضعهم لأخضعتهم ؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ٩٩ ﴾( يونس )
فإذا كان ربك لا يكره الناس على الإيمان، أفتكرههم أنت ؟ ولماذا الإكراه في دين الله ؟ إن الحق-تبارك وتعالى- يوالي تنزيل القرآن عليهم- آية بعد آية- فلعل نجما من نجومه يصادف فراغا، وقلبا صافيا من الموجدة على رسول الله فيؤمن.
لكن هيهات لمثل هؤلاء الذين طبعوا على اللدد والعناد والجحود أن يؤمنوا ؛ لذلك يقول الله عنهم :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا... ١٤ ﴾( النمل ).
﴿ وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين٥ ﴾ :
قوله﴿ محدث.... ٥ ﴾( الشعراء ) يعني : جديد على أذهانهم ؛ لأننا لا نلفتهم بآية واحدة، بل بآيات الواحدة تلو الأخرى :﴿ إلا كانوا عنه معرضين٥ ﴾( الشعراء )
فكلما جاءتهم آية كذبوها، وهذا دليل على اللدد والعداوة التي لا تفارق قلوبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يصادف نجم من القرآن قلوبا خالية، فكأن عدواتهم لك يا محمد منعتهم من الإيمان بالقرآن، فهم مستعدون للإيمان بالقرآن إن جاء من غيرك.
أليسوا هم القائلين :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾( الزخرف )
إذن : فاللدد والخصومة ليست في منهج الله، إنما في شخص رسول الله ؛ لذلك ربك يعزيك ويحرص عليك :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون... ٣٣ ﴾( الأنعام ) مرة ساحر، ومرة مجنون... إلخ.
انظر إلى التسلية :﴿ فإنهم لا يكذبونك... ٣٣ ﴾( الأنعام ) فأنت عندهم صادق وأمين ﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون٣٣ ﴾( الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ إلا كانوا عنه معرضين ٥ ﴾( الشعراء ) أي : في غباء ولدد، وهل هناك أشد لددا من قولهم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ ﴾ ( الأنفال )
بدل أن يقولوا : اهدنا إليه ! !.
أي : كلما جاءهم ذكر من الرحمن، وآية من آياته أصروا على تكذيبها﴿ فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون٦ ﴾( الشعراء ).
كما جاء في آيات أخرى :﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ١ ينقلبون ٢٢٧ ﴾( الشعراء )
وقال :﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ٨٨ ﴾( ص ).
يعني : غدا تعلمون عاقبة تكذيبهم، فآيات الله تسير أمامكم، فكل يوم يزداد المؤمنون بمحمد، ويتناقص عدد الكافرين، كل يوم تزداد أرض الإيمان، وتتراجع أرض الكفر.
ألم يقل الحق سبحانه وتعالى لهم :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها... ٤٤ ﴾( الأنبياء ).
فهذه -إذن – مقدمات ترونها بأعينكم، وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرة وعظة، فبوادر نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة، هذا معنى :﴿ فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون٦ ﴾( الشعراء ).
فليتهم اقتصروا على التكذيب والإصرار عليه، إنما تعدى الأمر منهم إلى الاستهزاء بالرسل وبكلام الله، ألم يقولوا على سبيل الاستهزاء :﴿ أهذا الذي بعث الله رسولا٤١ ﴾( الفرقان )
﴿ أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم٧ ﴾ :
لما لم يفلح الذكر المحدث والآيات المتجددة مع هؤلاء المعاندين فلم يرعووا. ردهم الله تعالى إلى الآيات الكونية الظاهرة لهم والتي سبقتهم في الوجود، آيات في السماء : الشمس والقمر والنجوم، وآيات في الأرض : البحار والقفار والجبال والنبات والحيوان.
وكلها آيات كونية لم يدعها أحد منهم، بل جاء الإنسان إلى الوجود وطرأ عليها، وقد سبقته هذه الآيات التي يراها : الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والعاقل والغير العاقل، ألا ينظرون فيها نظرة اعتبار، فيسألون عن مبدعها ؟.
ضربنا لذلك مثلا بالإنسان الذي انقطعت به السبل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلاك، فأخذته سنة فنام، ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدة، عليها أطايب الطعام والشراب، ألا ينبغي عليه قبل أن تمتد يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له ؟.
كذلك الإنسان طرأ على كون معد لاستقباله، وعلى وجود لا تتناوله قدرته، ولا سلطان له عليه، فهو لا يتناول الشمس مثلا ليوقدها ولم يدع هذه الآيات الكونية أحد، ألا يدل ذلك على الخالق ( عز وجل- ويوجب علينا الإيمان به ؟.
لذلك يقول سبحانه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله... ٢٥ ﴾( لقمان ).
وقال :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله... ٨٧ ﴾( الزخرف ).
ولو تأمل الإنسان في ( اللمبة ) الصغيرة التي تضيء غرفة، ولها عمر افتراضي لا يتعدى عدة أشهر وهي عرضة للكسر وللأعطال، ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال والفنيين، وكثير من الآلات والعدد، ومع ذلك نؤرخ لمخترع المصباح، ونعرف تاريخه، وكيفية صنعه... إلخ. نعرف مخترع ( التليفون والراديو ) و..
أليس من الأولى أن ننظر ونتأمل في خلق الشمس، هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها، دون وقود، أو قطعة غيار، أو عطل طوال هذه المدد المتعاقبة ؟.
فإذا ما جاء رسول، وقطع على الناس هذه الغفلة، وقال لهم : ألا أنبئكم بمن خلق كل هذا ؟ إنه الله. كان يجب عليهم أن يعيروه آذانهم ويؤمنوا.
هنا يقول تعالى :﴿ أولم يروا إلى الأرض.... ٧ ﴾( الشعراء ) وهي آية ظاهرة أمام أعينهم، يرونها هامدة جرداء مقفرة، فإذا نزل عليها الماء أحياها الله بالنبات، ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء بعد نزول المطر، وكيف تكتسي ثوبا بديعا من النبات بعد فصل الشتاء.
ألم يسألوا أنفسهم : من نقل هذه البذور وبذرها في الجبال ؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج٥ ﴾ ( الحج ).
وقوله تعالى هنا :﴿ كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ٧ ﴾( الشعراء ) كم : خبرية تفيد الكثرة، جاءت بصيغة الاستفهام للتقرير، كما تقول لصاحبك : كم أحسنت إليك، بدل أن تعدد مظاهر إحسانك إليه، فتسأل لأنك واثق أن الإجابة في صالحك، فالكلام بالإخبار دعوة منك، لكن الإجابة على سؤال إقرار منه. فالمعنى : أن نبات الأرض كثير يفوق الحصر.
والزوج : الصنف، والزوج أيضا الذكر أو الأنثى، والبعض من العامة يظن أن الزوج يعني الاثنين وهذا خطأ، فالزوج واحد معه مثله، كما في قوله سبحانه :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ١٤٣ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين... ١٤٤ ﴾( الأنعام ).
فهذه أربعة أصناف، فيها ثمانية أزواج، فالزوج فرد واحد معه مثله، فلا تقول زوج أحذية. بل زوجا أحذية. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ٤٥ ﴾( النجم ).
وكذلك النبات لا بد فيه من ذكورة وأنوثة، وإن كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلا في النخل، ففيه ذكر نلقح منه الأنثى لتثمر، وكذلك شجرة الجمير منها ذكر وأنثى. لكن لم نر ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلا أو في الليمونة، لماذا ؟.
قالوا : مرة توجد الذكورة والأنوثة في الشيء الواحد كعودة الذرة مثلا، قبل أن يخرج ثمرته تخرج سنبلة في أعلاه تحمل لقاح الذكورة، وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شرابة ( كوز ) الذرة، وتتم عملية التلقيح، وقد تكون الذكورة والأنوثة في شيء لا تعرفه أنت كالمانجو والتفاح مثلا، فلم نعلم لها ذكرا وأنثى.
لكن الحق تعالى قال :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح... ٢٢ ﴾( الحجر ).
وقال :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين... ٤٩ ﴾ ( الذاريات ).
ثم وصف الزوج بأنه﴿ كريم ٧ ﴾( الشعراء ) فماذا يعني الكرم هنا ؟ قالوا : لأنك إذا أخذت الثمرة الواحدة ونظرت وتأملت فيها لوجدت لها صفات متعددة ونعما كثيرة، كما قال سبحانه :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم الله.
قالوا : لأن الحق- عز وجل- يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيت عناصرها وتكوينها لوجدت في طياتها نعما لا تعد ولا تحصى.
فمعنى﴿ كريم٧ ﴾( الشعراء ) يعني : كثير العطاء وكثير الخيرات.
قوله تعالى :﴿ إن في ذلك.... ٨ ﴾( الشعراء ) أي : في آية الإنبات، وكل زوج كريم يخرج من الأرض ﴿ لآية... ٨ ﴾ ( الشعراء ) شيء عجيب ودلالة واضحة على مكون حكيم يعمل الشيء بقصد ونظام، ينبغي أن تلفتنا إلى قدرة الخالق- عز وجل-.
﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين٨ ﴾( الشعراء ) يعني : مع كل هذه الآيات لم يؤمنوا، إلا القليل منهم كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ١٠٥ ﴾( يوسف ) مع أنك لو تأملت آية واحدة لكانت كافية لأن تلفتك إلى الله.
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه الواحد |
﴿ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ٩ ﴾ :
جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة﴿ العزيز... ٩ ﴾( الشعراء ) يعد أن قال ﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ٨ ﴾( الشعراء ) لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا رغما عن الله، إنما كفروا بما أودع الله فيهم من الاختيار.
فهو سبحانه الذي أعانهم عليه لما أحبوه وأصروا عليه ؛ لأنه تعالى ربهم، بدليل أنه تعالى لو تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئا يخالف منهج الله أبدا، وبدليل أنهم مجبرون الآن على أشياء ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من ذلك.
فمع إلفهم العناد والتمرد على منهج الله، أيستطيع أحدهم أن يتأبى على المرض، أو على الموت، أو على الأقدار التي تنزل به ؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلا، أو يوم وفاته ؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه ؟.
لكن لما أعطاهم الله الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر، فأعانهم الله على ما أحبوا، وختم على قلوبهم حتى لا يخرج منها الكفر، ولا يدخلها الإيمان.
وكلمة﴿ العزيز.... ٩ ﴾( الشعراء ) تعني : الذي لا يغلب ولا يقهر، لكن هذه الصفة لا تكفي في حقه تعالى ؛ لأنها تفيد المساواة للمقابل، فلا بد أن نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضا.
لذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ والله غالب على أمره.... ٢١ ﴾( يوسف ) فالله تعالى عزيز يغلب ولا يغلب.
ومثال ذلك قوله تعالى :﴿ يطعم ولا يطعم.... ١٤ ﴾( الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه.... ٨٨ ﴾( المؤمنون )
ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة، فهو سبحانه مع عزته رحيم، إنه تعالى رحيم حين يغلب، ألم يتابع لهم الآيات ويدعهم إلى النظر والتأمل، لعلهم يثوبون إلى رشدهم فيؤمنوا ؟ فلما أصروا على الكفر أمهلهم، ولم يأخذهم بعذاب الاستئصال، كما أخذ الأمم الأخرى حين كذبت رسلها.
كان الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم يبلغون الدعوة، ويظهرون المعجزة، فمن لم يؤمن بعد ذلك يعاقبه الله، كما قال سبحانه :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا... ٤٠ ﴾( العنكبوت )
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى في شأنها :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ٣٣ ﴾( الأنفال ).
وقال هنا :﴿ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ٩ ﴾( الشعراء ) فالحق –تبارك وتعالى- في كل هذه الآيات يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعطيه عبرة عن الرسل الذين سبقوه، فليس محمد بدعا١ في ذلك، ألم يقل له ربه :﴿ يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون٣٠ ﴾( يس ) فالمسألة – إذن- قديمة – قدم الرسالات.
﴿ وإذا نادى ربك موسى إن ائت القوم الظالمين ١٠ ﴾ :
الحق-تبارك وتعالى- يقص على رسوله قصص الأنبياء، وهو أحسن القصص لحكمة :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.... ١٢٠ ﴾( هود ).
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمعارك كثيرة مع الكفر، فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر كلما تعرض لشدة ؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول الله على مدى عمر الدعوة، والقصص القرآني لا يراد به التاريخ لحياة الرسل السابقين، إنما إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة بمن سبقه من إخوانه الرسل ؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع، وفي كل موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه.
وهنا يقول سبحانه :﴿ وإذا نادى ربك موسى.... ١٠ ﴾( الشعراء ) يعني : اذكر يا محمد، إذ نادى ربك موسى أي : دعاه. لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلام بالذات ؟.
قالوا : لأن كفار مكة كفروا بك أنت، فلا تحزن ؛ لأن غيرهم كان أفظع منهم، حيث ادعى الألوهية، وقال :﴿ ما علمت لكم من إله غيري... ٣٨ ﴾( القصص ).
والسياق هنا لم يذكر : أين ناداه ربه، ولا متى ناداه، وبدأ الحوار معه مباشرة، لكن في مواضع أخرى جاء تفصيل هذا كله.
ثم يأتي الأمر المباشر من الله تعالى لنبيه موسى :﴿ أن ائت القوم الظالمين ١٠ ﴾( الشعراء ) أي : الذين ظلموا أنفسهم، بأن جعلوا لله تعالى شريكا، والشرك قمة الظلم ﴿ إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾( لقمان ).
ولم يبين القرآن من هم هؤلاء الظالمون ؛ لأنهم معروفون مشهورون، فهم في مجال الشرك أغنياء عن التعريف، بحيث إذا قلنا ( القوم الظالمين١٠ }( العراء ) انصرف الذهن إليهم، إلى فرعون وقومه ؛ لأنه الوحيد الذي تجرأ على ادعاء الألوهية.
أي : قل لهم يا موسى ألا تتقون ربكم ؟ واعرض عليهم هذا العرض ؛ لأن الطلب يأتي مرة بالأمر الصريح : افعل كذا، مرة يتحنن إليك بأسلوب العرض، ألا تفعل كذا ؟ على سبيل الاستفهام والعرض والحض.
والمعنى : ألا يتقون الله في ظلمهم لأنفسهم باتخاذهم مع الله شريكا ولا إله غيره، وظلموا بني إسرائيل في أنهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم.
لكن، لماذا تكلم عن قوم فرعون أولا، ولم يعرض عليه هو أولا، وهو رأس الفساد في القوم ؟
ويجيب على هذا السؤال المثل القائل( يا فرعون ماذا فرعنك ؟ قال : لأنني لم أجد أحدا يردني ) فلو وقف له قومه وردعوه لارتدع، لكنهم تركوه، بل ساروا في ركبه إلى أن صار طاغية، وأعانوه حتى أصبح طاغوتا.
﴿ قال ربي إني أخاف أن يكذبون ١٦ ﴾ :
لما دعا الحق- تبارك وتعالى- نبيه موسى- عليه السلام- لأن يذهب إلى قوم فرعون لم يبادر بالذهاب، إنما أبدى لربه هواجس نفسه وخلجاته ؛ لأنه يعلم مقدما مشقة هذه المهمة، فقد عاش مع فرعون ويعلم طبيعته، فقال :﴿ إني أخاف أن يكذبون١٢ ﴾( الشعراء ) وكيف لمن يدعي الألوهية أن يسمع لرسول ؟.
وروى أنه في عهد الخليفة المأمون١ ادعى أحدهم النبوة، فحبسوه، ثم ادعاها آخر فقال : اجمعوا بينهما حتى يواجه أحدهما الآخر، فلما حضروا قالوا : يا هذا إن هذا الرجل يدعي النبوة، فقال : كذب، أنا لم أرسل أحدا. وهكذا جعل من نفسه إلها بعد أن كان نبيا.
﴿ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ١٣ ﴾
يضيق صدري ساعة يكذبونني، وضيق الصدر ينتج عنه أن أتلجلج وأتعصب، فلا أستطيع أن أتكلم الكلام المقنع ؛ ذلك لأنني سأشهد باطلا واضحا يجابه حقا واضحا، ولا بد أن يضيق صدري بذلك، خاصة وأن لموسى عليه السلام سابقة في مسألة الكلام.
لذلك قال :﴿ فأرسل إلى هارون ١٣ ﴾( الشعراء ) وفي آية أخرى :﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا١ يصدقني إني أخاف أن يكذبون٣٤ ﴾( القصص )
يعني : مساعدا لي يتكلم بدلا عني، إن عجز لساني عن الكلام، وهذا يدل على حرصه- عليه السلام- على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه.
وعليه، فقد كان موسى وهارون كلاهما رسول، إلا أن القرآن قال مرة عنهما :﴿ إنا رسول رب العالمين١٦ ﴾( الشعراء ) بصيغة المفرد، وقال مرة أخرى :﴿ إنا رسولا ربك... ٤٧ ﴾( طه ) بصيغة المثنى.
ومعلوم أن الإنسان يحتاج لاستبقاء حياته طعاما وشرابا، وقبل ذك وأهم منه يحتاج لاستبقاء نفسه، ألا تراه يصبر على الطعام، ويصبر على الشراب، لكنه لا يصبر بحال على الهواء، فإن حبس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة ؟.
وسبق أن قلنا : إن من رحمة الله تعالى بنا أن يملك الطعام كثيرا، وقليلا ما يملك الماء، لكن الهواء لا يملكه الله لأحد، لماذا ؟.
لأنه لو ملك عدوك الهواء فمنعه عنك، فسوف تموت قبل أن يرضى عنك، بالإضافة إلى أن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة، وعليه تقوم حركتها.
ونلحظ أن الإنسان إذا صعد مكانا عاليا ( ينهج )، وتزداد ضربات قلبه وحركة تنفسه، لماذا ؟ لأن الحركة تحتاج لكثير من الهواء، فإن قل الهواء يضيق الصدر ؛ لأنه يكفي فقط لاستبقاء الحياة، لكنه لا يكفي الحركة الخارجية للإنسان.
﴿ ولهم علي ذنب١ فأخاف أن يقتلون ١٤ ﴾ :
وليت المسألة تقف بين نبي الله موسى وبين قومه عند مسألة الكلام، إنما هو عنده ثأر قديم ؛ لأنه قتل منهم واحدا، وإن كان عن غير قصد، كما قال تعالى في آية أخرى :{ فوكزه موسى فقضى عليه... ١٥( القصص ) فأخاف أن يقتلوني به.
﴿ قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ١٥ ﴾ :
( كلا ) تفيد نفي ما قبلها، وقبلها مسائل ثلاث :﴿ أخاف أن يكذبون ١٢ ﴾( الشعراء )، ﴿ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني.. ١٣ ﴾( الشعراء، ﴿ فأخاف أن يقتلون ١٤ ﴾( الشعراء ) فعلى أي منها ينصب هذا النفي ؟.
النفي هنا يتوجه إلى ما يتعلق بموسى- عليه السلام- لا بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه، يقول له ربه : اطمئن، فلن يحدث شيء من هذا كله. ولا ينصب النفي على تكذيبهم له ؛ لأنه سيكذب ؛ لذلك نرى دقة الأداء القرآني حيث جاءت﴿ أخاف أن يكذبون ١٢ ﴾( الشعراء ) في نهاية الآية، وبعدها كلام جديد﴿ ويضيق صدري... ١٣ ﴾( الشعراء ) وهو المقصود بالنفي.
وقد بينت سورة الفجر معنى ( كلا ) بوضوح في قوله تعالى ﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه١ رزقه فيقول ربي أهانن١٦ ﴾( الفجر ).
فيقول تعالى بعدها ردا عليها﴿ كلا... ١٧ ﴾( الفجر ) يعني : ليس الإعطاء دليل إكرام، ولا المنع دليل إهانة، إنما المراد الابتلاء بالنعمة وبالنقمة.
وكيف يكون الأمر كما تظنون، وقد أعطاكم الله فبخلتم، وأحببتم المال حبا جما، فلم تنفقوا منه على اليتيم أو المسكين، بل تنافستم في جمعه حتى أكلتم الميراث، وأخذتم أموال الناس.
إذن : فالمال الذي أكرمكم الله به لم يكن نعمة لكم ؛ لأنكم جعلتموه نقمة ووبالا، حين أعطيتم فمنعتم.
وكلمة( كلا ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى- عليه السلام- فقد تعلمها من ربه، ووعى درسها جيدا، فلما حوصر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، حتى أيقن أتباعه أنهم مدركون هالكون، قالها موسى عليه السلام بملء فيه ﴿ قال كلا إن معي ربي سيهدين ٦٢ ﴾( الشعراء ).
وقوله تعالى :﴿ فاذهبا بآياتنا... ١٥ ﴾( الشعراء ) الآيات هنا يقصد بها المعجزات الدالة على صدقهما في البلاغ عن الله، وهي هنا العصا ﴿ إنا معكم مستمعون١٥ ﴾( الشعراء ) كما قال لهما في موضع آخر :﴿ إنني معكما أسمع وأرى٤٦ ﴾( طه ).
فمرة يأتي بالسمع فقط، ومرة بالسمع والرؤية، لماذا ؟ لأن موقفه مع فرعون في المقام الأول سيكون جدلا ونقاشا، وهذا يناسبه السمع، وبعد ذلك ستحدث مقامات في ( فعل ) و( عمل ) في مسألة السحر وإلقاء العصا، وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر ؛ لأن الإيذاء قد يكون من السمع فقط من أول اللقاء، وقد يكون من السمع والعين فيما بعد.
وسبق أن قال سبحانه :﴿ أن ائت القوم الظالمين١٠ قوم فرعون... ١١ ﴾( الشعراء ) فذكر قوم فرعون أولا ؛ لأنهم سبب فرعنته، حين سمعوا كلامه وأعانوه عليه، وهنا يذكره﴿ فأتيا فرعون... ١٦ ﴾( الشعراء ) لأنه حين يهزم فرعون يهزم قومه الذين أيدوه، فالكلام هنا مع قمة الكفر مع فرعون.
﴿ فقولا إنا رسول رب العالمين ١٦ ﴾( الشعراء ) إنا : جمع يقال للمثنى، ومع ذلك جاءت رسول بصيغة الإفراد، ولم يقل : رسولا ؛ لأن الرسول واسطة بين المرسل والمرسل إليه، سواء أكان مفردا أو مثنى أو جمعا.
وكلمة﴿ إنا.... ١٦ ﴾( الشعراء ) سيقولها موسى وهارون في نفس واحد ؟ لا، إنما سيتكلم المقدم منهما، وينصت الآخر، فيكون كمن يؤمن على كلام صاحبه، ألا ترى القرآن الكريم حينما عرض قضية موسى وقومه يوضح أن فرعون علا في الأرض واستكبر... إلخ.
حتى دعا عليهم :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ٨٨ ﴾( يونس ).
هذا كلام موسى- عليه السلام- فرد الله عليه :﴿ قد أجيبت دعوتكما... ٨٩ ﴾( يونس ) بالمثنى مع أن المتكلم واحد، قالوا١ : لأن موسى كان يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، والمؤمن أحد الداعيين، وشريك في الدعوة.
﴿ أن أرسل معنا بني إسرائيل ١٧ ﴾ :
فالأصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب، ثم يبلغهم منهج الله، ويأخذ بأيديهم إليه، وجاءت دعوة فرعون للإيمان ونقاشه في ادعائه الألوهية تابعة لهذا الأصل.
وفي موضع آخر :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك... ٤٧ ﴾( طه )
إذن : فتلوين الأساليب في القصص القرآني يشرح لقطات مختلفة من القصة، ويوضح بعض جوانبها، وإن بدا هذا تكرارا في المعنى الإجمالي، وهذا واضح في قوله تعالى في أول قصة موسى عليه السلام :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا... ٨ ﴾( القصص )
وفي آية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون :﴿ قرت عين لي ولك... ٩ ﴾( القصص ) وكأن الله تعالى يقول : ستأخذونه ليكون قرة عين لكم، إنما هو سيكون عدوا.
والله تعالى يقول :﴿ واعلموا أن الله يحول١ بين المرء وقلبه... ٢٤ ﴾( الأنفال ) ففرعون في حين كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل، ويستحي البنات، جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللافتة للنظر، فكان عليهم أن يفهموا أن من ألقي في التابوت وفي اليم بافتعال، هو بهدف نجاته من القتل، فلو كان فرعون إلها، فكيف مرت عليه هذه الحيلة وجازت عليه ؟.
وهذا يدل على أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم، وحال بين المرء وقلبه، ويدل على غباء قومه ؛ لأنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعوه في ادعائه الألوهية.
﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين١٨ ﴾ :
يريد فرعون أن يذكر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات، حتى شب وكبر، وكأنه يوبخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه.
﴿ ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ ﴾( الشعراء ) ويقال : إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سن الثامنة عشرة، أو سن الثلاثين فالمعنى أنه رباه ولبث معه أيضا عدة سنوات.
والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده، وأنها تكشف عن غبائه، فلو كان إلها كما يدعي لعرف أن هلاكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي ضمه إليه ورعاه.
والمراد بالفعلة قتل موسى عليه السلام للرجل الذي وكزه فمات ﴿ وأنت من الكافرين ١٩ ﴾( الشعراء ) يصح من الكافرين بألوهية فرعون، أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك١.
لذلك العقلاء يرون أن الإنسان حين يربي الأولاد ويراهم كما يحب، فليعلم أنه توفيق وعناية من الله تعالى، بدليل أن الأبناء يربون في بيئة واحدة، وربما كانا توأمين، ومع ذلك ترى أحدهما صالحا والآخر طالحا، فالمسألة عناية إلهية عليك، وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال :
إذا لم تصادف في بنيك عناية | فقد كذب الراجي وخاب المؤمل |
فموسى الذي رباه جبريل كافر | وموسى الذي رباه فرعون مرسل |
-أي: في قتلك القبطي، إذ هو نفس لا يحل قتله. قاله الضحاك.
-أي: بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك. قاله ابن زيد.
-في أني إلهك. قاله الحسن.
- من الكافرين بالله، لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه قاله السدي.
أورد القرطبي هذه الأقوال في تفسيره(٧/٤٩٧٣)..
يقول موسى عليه السلام : أنا لا أنكر أنني قتلت، لكنني قتلت وأنا من الضالين. يعني : الجاهلين بما يترتب على عملية القتل، وما كنت أعتقد أبدا أن هذه الوكزة ستقضي على الرجل.
فكلمة ﴿ الضالين٢٠ ﴾( الشعراء ) هنا لا تعني عدم الهدي، فمن هذا الضلال قولهم : ضل الطريق، وهو لم يتعمد أن يضل، إنما تاه رغما عنه.
ومنه قوله تعالى في الشهادة :﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى... ٢٨٢ ﴾( البقرة )
وقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ووجدك ضالا فهدى ٧ ﴾( الضحى ) أي : متحيرا بين الباطل الذي يمارسه قومه.
﴿ حكما... ٢١ ﴾( الشعراء )أي : في أن أضع الأشياء في مواضعها، وجاءت هذه الكلمة بعد﴿ فعلتها إذا وأنا من الضالين٢٠ ﴾( الشعراء ) كأنه يقول : أنا وكزت الرجل، هذا صحيح، فمات، وهذا خطأ غير مقصود وإنني مظلوم فيه ؛ لأن الله قد أعطاني حكما وقدرة لأضع الأشياء في محلها.
ليس هذا فحسب، إنما أيضا :
﴿ وجعلني من المرسلين ٢١ ﴾( الشعراء ).
يعني : ما من به فرعون على موسى من قوله :
﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ وفعلت فعلتك التي فعلت... ١٩ ﴾( الشعراء ).
كأنه يقول له : أتمن علي بهذه الأشياء، وتذكر هذه الحسنة، وهي لا تساوي شيئا لو قارنتها بما حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم١ واستحياء نسائهم، وتسخيرهم في خدمتك.
وقتل الذكران واستحياء الإناث، لا يعني الرأفة بهن، إنما يعني لهن الذلة والهوان، حيث لا تجد المرأة من محارمها من يحميها أو يدافع عنها، فتبقى بعد الرجال في هوان وذلة في خدمة فرعون.
﴿ قال فرعون وما رب١ العالمين ٢٣ ﴾
يعني : مسألة جديدة هذه التي جئت بها يا موسى.
﴿ قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ٢٤ ﴾ :
لأن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم الشمس وقمر وأفلاك وأبراج، والأرض وما فيها من بحار وأنهار وجبال وقفار ونبات وحيوان، وإنسان. قد وجدت قبل أن توجد أنت أيها الإله الفرعون ! !.
إذن : رد عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه، وقبل مولده. وكأن المعنى المراد لموسى عليه السلام : أخبرني يا فرعون، يا من تدعي الألوهية، ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له ؟ وإن كان هذا الكون كله بسمائه وأرضه لله رب العالمين، فماذا فعلت أنت ؟
ولم يقتصر على السماوات والأرض، وإنما﴿ وما بينهما.... ٢٤ ﴾ ( الشعراء ) أي : من هواء وطير يسبح في الفضاء، وكانوا لا يعرفون ما نعرفه الآن من أسرار الهواء، وانتقال الصوت والصورة من خلاله، ففي جو السماء فيما بين السماء والأرض من الأسرار ما يستحق التأمل.
ثم يتلطف معهم فيقول :﴿ إن كنتم موقنين٢٤ ﴾( الشعراء ) يعني : إن كنتم موقنين بأن هذه الأشياء لم يخلقها إلا الله.
﴿ قال لمن حوله ألا تستمعون ٢٥ ﴾
يقول فرعون لمن حوله من أتباعه الذين أقروا له بالألوهية : ألا تستمعون لما يقول ؟ يعني : موسى عليه السلام. وهذه الكلمة لا يقولها فرعون إلا إذا أحس من قومه ارتياحا لما قاله موسى من نفي الربوبية والألوهية عن فرعون ونسبتها لله تعالى، خالق السماوات والأرض.
وكان فرعون ينتظر من قومه أن يتصدوا لما يقوله موسى. فينهروه ويسكتوه، لكن لم يحدث شيء من هذا، مما يدل على أنهم كانوا يتمنون أن ينتصر موسى، وأن ينحدر فرعون ؛ لأنه كبت حرياتهم وآرائهم، كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلاص منه.
بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن١ الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون، وبدليل الذين أتوا فيما بعد وحسنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يهزم.
﴿ قال ربكم ورب آبائكم الأولين ٢٦ ﴾
هنا ينقل موسى عليه السلام فرعون من الجو الكوني المحيط به في السماء والأرض وما بينهما إلى ذات نفسه، يقول له : إن لك آباء قبل أن تولد، وقبل أن تدعي الألوهية، فمن كان ربهم ؟
﴿ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون٢٧ ﴾
وهذه العبارة من فرعون تفضح المتكلم بها، فقد شهد لموسى بأنه رسول، وخانه لفظه من حيث لا يدري.
يرد موسى عليه السلام بحجة أخرى، لكن يختمها هذه المرة بقوله﴿ إن كنتم تعقلون ٢٨ ﴾( الشعراء ) وقد قال في سابقتها ﴿ إن كنتم موقنين ٢٤ ﴾( الشعراء ) كأنه يقول لفرعون : ما دام قد وصل بك الأمر لأن تتهمني بالجنون فلن أقول إن كنتم موقنين، إنما إن كنتم تعقلون، فجاء بمقابل الجنون.
﴿ قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين١٢٩ ﴾
وهذا من فرعون إفلاس في الحجة، ولو كان عنده رد لما يقوله موسى لرد عليه، ولقرع الحجة بالحجة، لكنه تقوى على خصمه بأن هدده بالسجن والإبعاد، وكان المسجون عندهم يظل في السجن حتى الموت.
ولم يراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله، أن يكتشفوا هذا الإفلاس، وهذا الحمق في رده.
﴿ قال أولو جئتك بشيء مبين٣٠ ﴾
يعني : إذا لم تقتنع بكل الحجج السابقة، فهل لو جئتك بآية واضحة دالة على صدق رسالتي، أتجعلني أيضا من المسجونين ؟.
انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه، فكان عليه ساعة أن يسمع من موسى هذا الكلام أن يصر على سجنه، لكن الحق –تبارك وتعالى- يريد أن يظهر حجته، فيجعل فرعون هو الذي يطلبها بنفسه﴿ قال فأت به إن كنت من الصادقين ٣١ ﴾( الشعراء ) وما كان لموسى أن يأتي بآية إلا أن يطلبها منه فرعون.
إلقاء العصا له في القرآن ثلاث مراحل : الأولى : هي التي واكبت اختيار الله لموسى ليكون رسولا، حين قال له :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى١٧ ﴾( طه ) وقلنا : إن موسى عليه السلام أطال في إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الأنس بالله-عز وجل- فقال :﴿ هي عصاي أتوكأ عليها وأهش١ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى١٨ ﴾( طه )
فالعصا في نظر موسى –عليه السلام- عود من الخشب قريب عهد بأصله، كغصن في شجرة، لكنها عند الله لها قصة أخرى :﴿ قال ألقها يا موسى ١٩ فألقاها فإذا هي حية تسعى ٢٠ ﴾( طه ).
وما صارت العصا عصا إلا بعد أن قطعت من شجرتها، وفقدت الحياة النباتية، وتحولت إلى جماد، فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرة من جديد لكان الأمر معقولا، لكنها تجاوزت مرتبة النباتية، وتحولت إلى الحيوانية، وهي المرتبة الأعلى ؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه :
﴿ قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى٢١ ﴾( طه ).
وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلام ؛ ليألف العصا على هذه الحالة، وكأن الله تعالى أراد لموسى أن يجري هذه التجربة أمامه، ليكون على ثقة من صدق هذه الآية، فإذا ما جاء لقاء فرعون ألقاها دون خوف، وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة.
إذن : كان الإلقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته، ثم كان الإلقاء للمرة الثالثة أمام السحرة.
ومعنى﴿ ثعبان مبين٣٢ ﴾( الشعراء ) يعني : بين الثعبانية، فيه حياة وحركة، وقال﴿ ثعبان مبين٣٢ ﴾( الشعراء ) يعني : واضح للجميع ؛ لأنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويخيلون للناس مثل هذه الأشياء، ويجعلونها تسعى وتتحرك، ولم تكن عصا موسى كذلك، إنما كانت ثعبانا مبينا واضحا وحقيقيا لا يشك في حقيقته أحد.
والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد السياق يسميها مرة ثعبانا، ومرة حية، ومرة جانا٢، لماذا ؟ قالوا، لأنها جمعت كل هذه الصفات : فهي في خفة حركتها كأنها جان، وفي شكلها المرعب كأنها حية، وفي التلوي كأنها ثعبان، والجان : فرخ الحية.
٢ وصفها بأنها:- ثعبان في آيتين: (الأعراف١٠٧)،(الشعراء٣٢).
-حية في آية واحدة: (طه٢٠).
- جان في آيتين: (النمل ١٠)،(القصص٣١)..
﴿ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ٣٣ ﴾
هنا يتكلم عن نزع اليد ؛ لأنه قال في آية أخرى :﴿ اسلك يدك في جيبك١ تخرج بيضاء من غير سوء... ٣٢ ﴾( القصص ).
وهكذا تتكامل لقطات القصة الواحدة، والتي يظنها البعض تكرارا، وليست هي كذلك.
﴿ ونزع.... ٣٣ ﴾( الشعراء ) يعني : أخرج يده﴿ فإذا هي بيضاء للناظرين ٣٣ ﴾( الشعراء ) مع أن موسى عليه السلام كان آدم اللون يعني فيه سمرة، ومع ذلك خرجت يده بيضاء، لها شعاع وبريق يأخذ بالأبصار.
وبمقارنة هذه الآية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب، وهو فتحة الثوب من أعلى، لا الجيب المتعارف عليه، والذي نضع فيه النقود مثلا، وكانوا في الماضي يجعلون الجيب بداخل ملابس الإنسان، ليكون في مأمن، فإذا أراد الإنسان شيئا فيه مد يده من خلال الفتحة العليا للثوب، فسميت جيبا.
الملأ : هم علية القوم، الذي يملأون العيون، ويتصدرون المجالس﴿ إن هذا لساحر عليم ٣٤ ﴾( الشعراء ) فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال : ساحر لأن موسى لم يمارس هذه المسألة إلا مرة واحدة هي التي أجراها أما فرعون، لكن الملأ على علم بالسحر وإلف له، وعندهم ساحرون كثيرون.
وفرق بين ساحر وسحار : ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة، إنما سحار مبالغة تدل على أنها أصبحت حرفته، مثل ناجر ونجار، وخائط وخياط.
و﴿ عليم ٣٤ ﴾( الشعراء ) أي : بسحره.
هنا يستدعي فرعون قومه على موسى، ويحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء، وتكون له الأغلبية، وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يخرجكم من أرضكم، وهذا أقل ما ينتظر منه، يريد أن يهيج عليه الملأ من قومه ؛ ليكونوا أعداء له يقفون في صف فرعون. وعجيب أن يقول الفرعون الإله﴿ فماذا تأمرون ٣٥ ﴾( الشعراء )فهذه هي الألوهية الكاذبة التي انحدرت إلى مرتبة العبيد، ومتى يأخذ الإله رأي عبيده، ويطلب منهم المعونة والمشورة ؟ ولو كان إلها بحق لكان عنده الحل ولديه الرد.
﴿ قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين ٣٦ ﴾
﴿ أرجه.... ٣٦ ﴾( الشعراء ) من الإرجاء وهو التأخير، أي : أخره وأخاه لمدة﴿ وابعث في المدائن حاشرين ٣٦ ﴾( الشعراء ) ابعث رسلك يجمعون السحارين من أنحاء البلاد، ليقابلوا بسحرهم موسى وهارون، والمدائن : جمع مدينة.
وقال﴿ سحار.... ٣٧ ﴾( الشعراء ) بصيغة المبالغة ﴿ عليم ٣٧ ﴾( الشعراء )أي : بفنون السحر وألاعيب السحرة.
الميقات : أي الوقت المعلوم، وفي آية أخرى :﴿ قال موعدكم يوم الزينة.... ٥٩ ﴾( طه ) وكان يوما مشهودا عندهم، ترتدي فيه الفتيات أبهى حللها، وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي سيلقونها فيه، فحدد اليوم، ثم لم يترك اليوم على إطلاقه، إنما حدد من اليوم وقت الضحى١ ﴿ وأن يحشر الناس ضحى٥٩ ﴾( طه ).
وفي لقطة أخرى حدد المكان، فقال :﴿ مكانا سوى٥٨ ﴾( طه ) يعني : فيه سوائية، إما باستواء المكان حتى يتمكن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية، بحيث تكون في ساحة مستوية الأرض، أو يكون مكانا سواسية متوسطا بين المدائن التي سيجمع منها السحرة، بحيث لا يكون متطرفا، يشق على بعضهم حضوره.
وهكذا تتكاثف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة.
ونرى في هذه المشورة حرص الملأ على إتمام هذا اللقاء، وأن يكون على رؤوس الأشهاد، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى، وسوف يفضح هذا اللقاء كذب فرعون في ادعائه الألوهية.
أي : أخذوا يدعون الناس، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء، وإما لفرعون، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلا، فما بالك بمباراة بين سحرة من يدعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول : إن لها إلها غير هذا الإله ؟ إنه حدث هز الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته.
أي : أخذوا يدعون الناس، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء، وإما لفرعون، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلا، فما بالك بمباراة بين سحرة من يدعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول : إن لها إلها غير هذا الإله ؟ إنه حدث هز الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته.
﴿ فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ٤١ ﴾
فانظر إلى مسيرة الإله فرعون في رعيته، فالإله الحق يطعم ولا يطعم، ويجير ولا يجار عليه، الإله الحق يعطي ولا يأخذ، ولما اجتمع السحرة وهم أبطال هذه المباراة، ويعلمون مدى حاجة فرعون إليهم في هذا الموقف ؛ لذلك بادروا بالاتفاق معه والاشتراط عليه، إن كنت تسخر الناس في خدمتك دون أجر، فهذه المسألة تختلف، ولن تمر هكذا دون أجر.
وهذا دليل على معرفتهم بفرعون، وأنه رجل( أكلتي )، لذلك اشترطوا عليه أجرا إن كانوا هم الغالبين، ولا ندري فربما جاء آخر يهدد الألولهية، فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف.
هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سحرته، بل ويزيدهم فوق ما طلبوا﴿ وإنكم إذا لمن المقربين ٤٢ ﴾( الشعراء ) فسوف تكونون من خاصتنا، نستعين بكم في مثل هذه الأمور، ولا نستغني عنكم ؛ لأنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا.
هنا كلام محذوف، نعرفه من سياق القصة ؛ لأن الآية السابقة كان الكلام ما يزال بين فرعون والسحرة، والقرآن يحذف بعض الأحداث اعتمادا على فطنة السامع أو القارئ، كما قلنا في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، حيث قال له :﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ٢٨ ﴾( النمل )
ثم قال بعدها :﴿ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم١ ٢٩ ﴾( النمل ) وحذف ما بين هذين الحدثين مما نعلمه نحن من السياق.
وقوله :﴿ ألقوا ما أنتم ملقون ٤٣ ﴾( الشعراء ) هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع السحرة.
فكانت العصى والحبال هي آلات سحرهم﴿ وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ٤٤ ﴾( الشعراء ) بعزة فرعون : هذا قسمهم، وما أخيبه من قسم ؛ لأن فرعون لا يغلب ولا يقهر في نظرهم، وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة، لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة وكبرياء بلا رصيد من حق، وعزة بالإثم كالتي قال الله عنها :﴿ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم.... ٢٠٦ ﴾ ( البقرة )
وقال تعالى :﴿ ص والقرآن ذي الذكر ١ بل الذين كفروا في عزة وشقاق٢ ﴾( ص ) أي : عزة بإثم، وعزة بباطل.
ومنه أيضا قوله تعالى عن المنافقين :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.... ٨ ﴾( المنافقون ) فصدق القرآن على قولهم بأن الأعز سيخرج الأذل، لكن﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين... ٨ ﴾( المنافقون )
وما دام الأمر كذلك فأنتم الأذلة، وأنتم الخارجون، وقد كان.
﴿ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ٤٥ ﴾ :
ولم يأت إلقاء موسى عليه السلام لعصاه مباشرة بعد أن ألقي السحرة، إنما هنا أحداث ذكرت في آيات أخرى، وفي لقطات أخرى للقصة، يقول تعالى :﴿ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ٦٦ ﴾( طه ).
﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ٦٧ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ٦٨ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا... ٦٩ ﴾( طه ).
هكذا كانت الصورة، فلما خاف موسى ثبته ربه، وأيده بالحق وبالحجة، وتابعه فيما يفعل لحظة بلحظة ؛ ليوجهه وليعدل سلوكه، ويشد على قلبه، وما كان الحق –تبارك وتعالى- ليرسله ثم يتخلى عنه، وقد قال له ربه قبل ذلك :﴿ ولتصنع على عيني٣٩ ﴾( طه ) وقال :﴿ إنني معكما أسمع وأرى٤٦ ﴾( طه ) فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الأوامر، ويعطيه الحجة لتنفيذها، ثم يتابعه بعنايته ورعايته.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا... ٣٧ ﴾( هود )
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث، ويكمل بعضها بعضا، وهذا يظنه البعض تكرارا، وليس هو كذلك.
إذن : جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من الله أثناء المعركة :﴿ وألق ما في يمينك... ٦٩ ﴾( طه ) وهنا :﴿ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ٤٥ ﴾( الشعراء ) ومعنى﴿ تلقف... ٤٥ ﴾( الشعراء ) تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة، أما السرعة واختصار الزمن والقوة، فتدل على الأخذ بشدة وعنف، وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة، فلم تضعف قوته لما رأى من ألاعيب السحرة.
ومعنى﴿ ما يأفكون ٤٥ ﴾( الشعراء ) من الإفك يعني : قلب الحقائق ؛ لذلك سموا الكذب إفكا ؛ لأنه يقلب الحقيقة ويغير الواقع.
ومنها﴿ والمؤتفكة أهوى٥٣ ﴾( النجم ) وهي القرى١ الظالمة التي أهلكها الله، فجعل عاليها سافلها.
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقلب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم، فللكلام نسب ثلاث : نسبة في الذهن، ونسبة على اللسان، ونسبة في الواقع. فإن طابقت النسبة الكلامية الواقع، فأنت صادق، وإن خالفته فأنت كاذب.
وسمى ما يفعل السحرة إفكا ؛ لأنهم يغيرون الحقيقة، ويخيلون للناس غيرها.
لم يقل الحق سبحانه : فسجد السحرة، إنما﴿ فألقي السحرة ساجدين٤٦ ﴾( الشعراء ) والإلقاء يدل على سرعة الاستجابة، وأن السجود ثم منهم دون تفكير ؛ لأنه أمر فوق إرادتهم، وكأن جلال الموقف وهيبته وروعة ما رأوا ألقاهم على الأرض ساجدين لله، صاحب هذه الآية الباهرة.
﴿ قالوا آمنا برب العالمين ٤٧رب موسى وهارون ٤٨ ﴾
وحين نتأمل رد فعل السحرة هنا نجد أنهم خروا لله ساجدين أولا، ثم أعلنوا إيمانهم ثانيا، ومعلوم أن الإيمان يسبق العمل، وأن السجود لا يأتي إلا بعد إيمان، فكيف ذلك ؟
قالوا : هناك فرق بين وقوع الإيمان، وبين أن تخبر أنت عن الإيمان، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به ؛ لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق ينجلي معه كل شك، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله، حتى لم يمهلهم إلى أن يعلنوا عنه، لقد أعادهم إلى الفطرة الإيمانية في النفس البشرية، والمسائل الفطرية لا علاج للفكر فيها.
وكأن سائلا سألهم : لم تسجدون ؟ قالوا :﴿ آمنا برب العالمين ٤٧ رب موسى وهارون ٤٨ ﴾( الشعراء )
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان- عليه السلام- لم تقل : أسلمت لسليمان، إنما قالت :﴿ أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ٤٤ ﴾( النمل ) فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعت لسليمان ؛ لذلك احتاطت في لفظها لتزيل هذا الشك.
إذن : فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان، ولا يشكك في ذلك، لكن المسألة كلها﴿ قبل أن آذن لكم... ٤٩ ﴾( الشعراء ) فما يزال حريصا على ألوهيته وجبروته، حتى بعد أن كشف أمره وظهر كذبه، وآمن الملأ بالإله الحق.
ثم أراد أن يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد : إنه هزم وضاعت هيبته، فقال :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر... ٤٩ ﴾( الشعراء ) في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدم، وألوهيته التي ضاعت.
ثم يهددهم بأسلوب ينم عن اضطرابه، وأنه فقد توازنه، واختل حتى في تعبيره، حيث يقول :﴿ فلسوف تعلمون... ٤٩ ﴾( الشعراء ) وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يؤخر تهديده لهم بدليل أنه قال بعدها :﴿ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ٤٩ ﴾( الشعراء ) ﴿ من خلاف.... ٤٩ ﴾( الشعراء ) يعني : اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى.
وقوله :﴿ ولأصلبنكم.... ٤٩ ﴾( الشعراء ) أوضحه في آية أخرى :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل... ٧١ ﴾( طه )
﴿ قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ٥٠ ﴾
أي : لا ضرر علينا إن قتلتنا ؛ لأن مصير الجميع إلى الموت، لكن إن كانت نهايتنا على يديك فسوف نسعد نحن بلقاء ربنا، وتشقى أنت بجزاء ربك، كالطاغية الذي قال لعدوه : لأقتلنك فضحك، فقال له : أتسخر مني وتضحك ؟ قال : وكيف لا أضحك من أمر تفعله بي يسعدني الله به، وتشقى به أنت ؟.
إذن : لا ضرر علينا إن قتلنا ؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلت فينا جميلا، وأسديت لنا معروفا إذا أسرعت بنا إلى هذا اللقاء، وما تظنه في حقنا شر هو عين الخير، لذلك فهم الشاعر هذا المعنى، فقال عنه :
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي جنب كان في الله مصرعي |
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين : الأول : نفي الضرر ؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والثاني : التأكيد على النفع الذي سينالوه من هذا القتل.
﴿ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ٥١ ﴾ :
لأنك أكرهتنا على السحر، وحملتنا على الكذب، ومكثنا عمرا نعتقد أنك إله، فلعل مبادرتنا إلى الإيمان وكوننا أول المؤمنين يشفع لنا عند ربنا، فيغفر لنا خطايانا، وفي موضع آخر :﴿ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر... ٧٣ ﴾( طه ).
فذكر هناك مسألة الإكراه، وذكر هنا العلة :﴿ أن كنا أول المؤمنين ٥١ ﴾( الشعراء ).
قلنا : الوحي لغة : إعلام بخفاء، وشرعا : إعلام من الله لرسول من رسله بمنهج خير لخلقه.
ومن الوحي المطلق قوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا... ٦٨ ﴾( النحل ).
وقوله سبحانه :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم... ١٢١ ﴾( الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه... ٧ ﴾( القصص ).
فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحي، أو الموحى إليه، أو موضع الوحي، فقد يكون الوحي من الشيطان، والموحى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان، على خلاف الوحي الشرعي، فهو محدد ومعلوم.
فقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى- عليه السلام- وحشد الناس لمشاهدة هذه المباراة، وهذا دليل على أنه قدر أنه سيغلب، لكن خيب الله ظنه، وكانت الجولة لمصلحة موسى عليه السلام، فآمن السحرة بالله تعالى رب موسى وهارون، فأخذ يهددهم ويتوعدهم، وهو يعلم أن ما رأوه من الآيات الباهرات يستوجب الإيمان.
ومع ذلك لما غلب فرعون وضاعت هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس، فلم ينادوا بسقوطه، واكتفوا بسماع أخبار موسى، وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها الآيات التسع التي أنزلها الله ببني إسرائيل.
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار، ولم يحاول التخلص منه حتى لا يزداد أتباعه وتقوى شوكته، فكأن مسألة الآيات التسع التي أرسلها الله عليهم قد هدت كيانه وشغلته عن التفكير في أمر موسى عليه السلام.
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له أغلبية وشعبية، حتى إن الأقباط٢ أتباع فرعون كانوا يعطفون على أمر موسى وقومه ؛ لذلك استعاروا من القبط حلي الناس قبل الخروج مع موسى، ومن هذه الحلى صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد.
وهنا يقول تعالى :﴿ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ٥٢ ﴾( الشعراء ) وقبل ذلك نبهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل :﴿ وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج إني لك من الناصحين ٢٠ ﴾( القصص ).
أما الآن، فالمؤامرة عليه وعلى من معه من المؤمنين.
ومعنى﴿ أسر... ٥٢ ﴾( الشعراء ) الإسراء : المشي ليلا﴿ إنكم متبعون ٥٢ ﴾( الشعراء ) يعني : سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم.
٢ القبط: جيل بمصر، وقيل: هم أهل مصر وبنكها (أصلها) ورجل قبطي. والقبطية: ثياب كتان بيض رقاق تعمل بمصر وهي منسوبة إلى القبط.(لسان العرب –مادة: قبط) فالقبط هم أهل مصر من قبل موسى عليه السلام ومن قبل أن تدخل مصر في المسيحية، فالقبط جنس ليس مرتبطا بالديانة..
﴿ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ٥٣ إن هؤلاء لشرذمة١ قليلون٥٤ وإنهم لنا لغائظون٥٥ ﴾ :
الفاء هنا للتعقيب، فوحي الله لموسى أن يسري ببني إسرائيل تم قبل أن يبعث فرعون في المدائن حاشرين، وكأن الله تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعون الناس، ويجمعهم ضد موسى ويجري لهم ما نسميه نحن الآن ( غسيل مخ )، أو يعلن على موسى وقومه حرب الأعصاب التي تؤثر على خروجهم.
و﴿ حاشرين٥٣ ﴾( الشعراء ) من الحشر أي : الجمع، لكن جمع هذه المرة للجنود لا للسحرة، لأنهم هزموا في مباراة السحرة، فأرادوا أن يستخدموا سلاحا آخر هو سلاح الجبروت والتسلط والحرب العسكرية، فإن فشلت الأولى فلعل الأخرى تفلح، لكن الحق –تبارك وتعالى- أخبر نبيه موسى بما يدبر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل.
يعني : لا بد أن نأخذ حذرنا ونحتاط للأمر.
﴿ فأخرجناهم من جنات١ وعيون ٥٧ وكنوز ومقام كريم ٥٨ ﴾ :
أي : لم ينفعه احتياطه، ولم يجد حذره، فلا يمنع حذر من قدر ﴿ فأخرجناهم من جنات... ٥٧ ﴾( الشعراء ) أي : بساتين وحدائق ﴿ وعيون ٥٧ ﴾( الشعراء ) أي : عيون تجري بالماء ﴿ وكنوز... ٥٨ ﴾( الشعراء ) كانت عندهم﴿ ومقام كريم ٥٨ ﴾( الشعراء ) يعني : عيشة مترفة في سعة ورغد من الحياة، وخدم وحشم.
أي : لم ينفعه احتياطه، ولم يجد حذره، فلا يمنع حذر من قدر ﴿ فأخرجناهم من جنات... ٥٧ ﴾( الشعراء ) أي : بساتين وحدائق ﴿ وعيون ٥٧ ﴾( الشعراء ) أي : عيون تجري بالماء ﴿ وكنوز... ٥٨ ﴾( الشعراء ) كانت عندهم﴿ ومقام كريم ٥٨ ﴾( الشعراء ) يعني : عيشة مترفة في سعة ورغد من الحياة، وخدم وحشم.
﴿ كذلك وأورثناها بني إسرائيل٥٩ ﴾
﴿ كذلك.... ٥٩ ﴾( الشعراء ) أي : الأمر كما أقول لكم وكما وصفت﴿ وأورثناها بني إسرائيل ٥٩ ﴾( الشعراء ) أي : أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل، وهنا قد يسأل سائل : كيف وقد ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها، ولم يأخذوا شيئا من هذا النعيم ؟
قالوا : المعنى أورثهم الله أرضا مثلها، قد وعدهم بها في الشام١.
أي : عند الشروق، وعادة ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح، ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ١٧٧ ﴾ ( الصافات )
وعادة ما يقوم الإنسان من النوم كسولا غير نشيط، فكيف بمن هذه حاله إن التقى بعدوه ؟
﴿ فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ٦١ ﴾ :
معنى﴿ تراءا الجمعان... ٦١ ﴾( الشعراء ) أي : صار كل منهما يرى الآخر، وحدثت بينهما المواجهة، وعندها﴿ قال أصحاب موسى إنا لمدركون ٦١ ﴾( الشعراء ) فالحال أن البحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم، فلا مناص ولا مهرب، لكن موسى- عليه السلام- وقد سبق أن تعلم كلمة( كلا ) من ربه تعالى، حينما قال :﴿ ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون ١٤ ﴾( الشعراء ) فرد عليه ربه :﴿ كلا٦٢ ﴾( الشعراء ) عندها تعلمها موسى، وعرف كيف ومتى يقولها قولة الواثق بها.
لكن كيف يقول موسى عليه السلام هذه الكلمة( كلا ) بملء فيه، والأمر بقانون الماديات أنه عرضة لأن يدرك قبل أن يكلمها ؟.
والإجابة في بقية الآية :﴿ إن معي ربي سيهدين٦٢ ﴾( الشعراء ) فلم يقل موسى : كلا اعتمادا على قوته واحتياطه للأمر، إنما قالها اعتمادا على ربه الذي يكلؤه بعينه، ويحرسه بعنايته.
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، لكن الشيء الذي أثق منه﴿ إن معي ربي سيهدين٦٢ ﴾( الشعراء ) لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة.
ذلك لأن البحر هو عائقهم من أمامهم، والبحر مياه لها قانونها الخاص من الاستطراق والسيولة، فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين، كل فرق- أي : كل جانب –كالطود يعني الجبل العظيم.
لكن بعد أن صار الماء إلى ضده وتجمد كالجبل، وصنع بين الجبلين طريقا، أليس في قاع البحر بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها الإنسان ؟
إننا نشاهد الإنسان لا يكاد يستطيع أن ينقل قدما إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلا، فما بالك بوحل البحر ؟.
لذلك قال له ربه :﴿ لا تخاف دركا ولا تخشى ٧٧ ﴾( طه ) فالذي جعل لك الماء جبلا، سيجعل لك الطريق يابسا.
والحق- تبارك و تعالى- لم يبين لنا في انفلاق البحر، إلى كم فلقة انفلق، لكن العلماء يقولون : إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط١، بحيث يمر كل سبط من طريق.
﴿ وأزلفنا ثم الآخرين ٦٤ ﴾
أي : قربناهم من منتصف البحر، ثم أطبقه الله عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون استطراقه، وهكذا ينجي الله ويهلك بالشيء الواحد و﴿ الآخرين ٦٤ ﴾( الشعراء ) يعني : قوم فرعون، و﴿ ثم.... ٦٤ ﴾( الشعراء ) أي : هناك وسط البحر.
وللعصا مع موسى –عليه السلام- تاريخ طويل منذ أن سأله ربه﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ١٧ ﴾( طه ) فأخبر بما يعرفه عنها ﴿ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي.... ١٨ ﴾( طه ).
وقوله ﴿ أهش بها على غنمي... ١٨ ﴾( طه ) لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها، فأهش تعني أضرب بها أوراق الشجر لتتساقط، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراق الشجر، أو الكبار التي أكلت ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال﴿ ولي فيها مآرب أخرى ١٨ ﴾( طه ) كأن أدافع بها عن نفسي ليلا، إن تعرض لي كلب أو ذئب مثلا، أو أغرسها في الأرض وألقي عليها بثوبي لأستظل به وقت القيلولة، أو أجعلها على كتفي وأعلق عليها متاعي حين أسير... إلخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى- عليه السلام- لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها، فهي حجته وآية من الآيات التي أعطاه الله، فبها انتصر في معركة الحجة مع السحرة، وبها انتصر في معركة السلاح حين ضرب بها البحر فانفلق.
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر، فيصير جبلا، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلا وعملا على الانتصار في كل شيء، فلما كان الخصيب٢ واليا على مصر، وتمرد عليه بعض قطاع الطرق، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها، لذلك قال :
فإن يك باق إفك فرعون فيكم | فإن عصا موسى بكف خصيب |
إذا جاء موسى وألقى العصا | فقد بطل السحر والساحر |
٢ جاء في لسان العرب –مادة: خصب:"الخصيب لقب رجل من العرب"..
فقد حسمت هذه المعركة لصالح موسى ومن معه دون إراقة دماء، ودون خسارة جندي واحد، في حين أن المعارك على فرض الانتصار فيها لا بد أن تكون لها نسبة خسائر في الأرواح وفي العتاد، أما هذه فلا.
قوله سبحانه﴿ إن في ذلك... ٦٧ ﴾( الشعراء ) أي : فيما حدث ﴿ لآية... ٦٧ ﴾( الشعراء ) وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة، فيثير إعجاب الناس، ويستوجب الالتفات إليه والنظر فيه، والآية تقنع العقل بأن الله هو مجريها على يدي موسى، وتدل على صدق رسالته وبلاغه عن الله، وإلا فهي مسألة فوق طاقة البشر.
ومع ذلك﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ٦٧ ﴾( الشعراء ) أي : أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة١ مع هذه الآيات، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة... ١٣٨ ﴾( الأعراف ).
سبحان الله، لقد كفروا بالله، وما تزال أقدامهم مبتلة من عبور البحر، وما زالوا في نشوة النصر وفرحة الغلبة ! !.
أي : بعد ما مر من حيثيات فإن الله تعالى هو العزيز، أي : الذي لا يغلب ولا يقهر، إنما هو الغالب وهو القاهر، فهو سبحانه يغلب ولا يغلب، ويطعم ولا يطعم، ويجير ولا يجار عليه. ومع عزته سبحانه وقوته بحيث يغلب ولا يغلب هو أيضا ﴿ الرحيم ٦٨ ﴾ ( الشعراء ) لأنه رب الخلق أجمعين، يرحمهم إن تابوا، ويقبلهم إن رجعوا إلى ساحته، كما جاء في الحديث الشريف :
" لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بحطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح " ١.
جاءت هذه الآية بعد الانتهاء في إيجاز مبسط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون، وختمت بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ٦٧ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ٦٨ ﴾( الشعراء ).
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم ٦٩ ﴾( الشعراء ) مما يدل على أن المسألة في القرآن ليست سردا للتاريخ، فإبراهيم كان قبل موسى، ولو أردنا التاريخ لجاءت قصة إبراهيم أولا، إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العبرة والعظة واتخاذ الأسوة من تاريخ الرسل، ليثبت الله بها فؤاد رسوله صلى الله عليه وسلم حينما يواجه الأحداث الشاقة والعصبية.
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلام يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة في قمة العقيدة، ويواجه من ادعى الألوهية وقال : إني إله من دون الله، أما إبراهيم فقد عالج مسألة الشرك مع الله وعبادة الأصنام، فعندهم طرف من إيمان، بدليل أنهم إذا ضيقنا عليهم الخناق قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ٣ ﴾( الزمر ).
لذلك كانت قصة موسى أولى بالتقديم هنا.
ومعنى :﴿ واتل عليهم... ٦٩ ﴾( الشعراء ) أي : اقرأ، أو وضح، أو عرب، ونقول للقراءة ( تلاوة ) لأنه لا يتلى إلا المكتوب المعلوم المفهوم﴿ عليهم... ٦٩ ﴾( الشعراء ) على أمة الدعوة كلها، أم على المكذبين خاصة ؟.
قالوا : على المكذبين خاصة ؛ لأن المصدقين برسول الله لا يحتاجون هذه التلاوة، وإن تليت عليهم فإنما التلاوة للتذكرة أو لعلم التاريخ، إذن : المراد هنا المكذبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل رسل الله في دعوتهم النصر والغلبة، وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والاندحار.
فكأن القرآن يقول لهم : لا تغتروا بقوتكم، ولا بجاهكم، ولا تنخدعوا بسيادتكم على العرب، ومعلوم أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت الله الحرام، وما أمنوا في طرق تجارتهم إلا بقداسة بيت الله وحرمته.
ولولا البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة، بدليل قوله تعالى :﴿ لإيلاف قريش١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ ﴾( قريش ).
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ولا سيطرة على الجزيرة العربية، وما دام أن الله تعالى فعل معهم هذا﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ٣ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف٤ ﴾( قريش )
ومعنى﴿ نبأ... ٦٩ ﴾( الشعراء ) أي : الخبر الهام الذي يجب أن يقال، ويجب أن ينصت له، وأن تأخذ منه عبرة وعظة، فلا يقال ( نبأ ) للخبر العادي الذي لا يؤبه له.
ولو تتبعت كلمة( نبأ ) في القرآن لوجدتها لا تقال إلا للأمر الهام، كما في قوله تعالى :﴿ عم يتسائلون١ عن النبأ العظيم ٢ ﴾( النبأ ).
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد :﴿ وجئتك من سبأ بنبأ يقين ٢٢ ﴾( النمل )
إذن :﴿ نبأ إبراهيم ٦٩ ﴾( الشعراء ) يعني : الخبر الهام عنه، وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذي مدحه ربه مدحا عظيما في مواضع عدة من القرآن، فقال الحق سبحانه عنه :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا١ لله حنيفا... ١٢٠ ﴾( النحل ).
والأمة لا تطلق إلا على جماعة تنتسب إلى شيء خاص، ويجمعهم مكان وزمان وحال. كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أضفى الله عليه كمالات من صفات كماله لا يستطيع بشر أن يتحملها.
لذلك جاء في الحديث الشريف :" الخير في وفي أمتى إلى يوم القيامة " ٢.
الخير في حصرا، الخير على عمومه، وفي كل جوانب شخصيته : داعية وأبا وزوجا... الخ وخصال الخير من شجاعة، وحلم، وعلم، وكرم... إلخ. وكذلك الخير في أمتى منثور بين أفرادها، يأخذ كل منهم من الخير بطرف، وله منه نصيب، لكن لا أحد يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي أبدا، ولا أن يتصف به.
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام ( أمة ) ؛ لأن خصال الخير توزعه على أفراد الأمة : هذا ذكي، وهذا حليم، وهذا عالم، وهذا حكيم... الخ أما إبراهيم – عليه السلام- فقد جمع من الخير ما في أمة بأكملها، وهذا ليس كلاما يقال في مدح نبي الله إبراهيم، إنما من واقع حياته العملية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى عن إبراهيم :﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إن جاعلك للناس إماما... ١٢٤ ﴾( البقرة ).
وحسب إبراهيم –عليه السلام – من الخير هذه الدعوة :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك... ١٢٩ ﴾( البقرة ).
فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم.
٢ قال العجلوني في كشف الخفاء(١/٤٧٦):"قال في المقاصد: ال شيخنا: لا أعرفه، ولكن معناه صحيح، يعني في حديث: لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة، وقال ابن حجر المكي في الفتوى الحديثية: لم يرد بهذا اللفظ"..
فأول دعوته كانت لأبيه، وأقرب الناس إليه لا للغريب، والدعوة التي توجه أولا للقريب لا بد أنها دعوة حق ودعوة خير ؛ لأن الإنسان يجب الخير أولا لنفسه، ثم لأقرب الناس إليه، ولو كانت في خيريتها شك لقصد بها الغرباء والأباعد عنه.
والمراد بأبيه هو ( آزر ) الذي ورد ذكره في موضع آخر.
وسؤاله لأبيه وقومه﴿ ما تعبدون ٧٠ ﴾ ( الشعراء ) سؤال استهجان واستنكار، وسؤال استدلال ليظهر لهم بطلان هذه العبادة ؛ لأن العبادة أن يطيع العابد المعبود فيما أمر وفيما نهى، فالذين يعبدون الأصنام بماذا أمرتهم وعم نهتهم ؟.
إذن : فهي آلهة دون منهج، وما أسهل أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي لا يأمره بشيء، ولا ينهاه عن شيء، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب ؛ لأنها لا تثيب من أطاعها، ولا تعاقب من عصاها.
إذن : فكلمة عبادة هنا خطأ، ومع ذلك يسميها الناس آلهة، لماذا ؟ لأن الإله الحق له أوامر لا بد أن تنفذ، وإن كانت شاقة على النفس، وله نواه لا بد أن تترك وإن كانت النفس تشتهيها، فهي عبادة شاقة، أما عبادة الأصنام فما أسهلها، فليس عندها أمر ولا نهي، وليس عندها منهج ينظم لهم حركة الحياة ؛ لذلك تمسك هؤلاء بعبادة الأصنام، وسموها آلهة، وهذا خبل واضح.
كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزت عليه أسباب الحياة وأعيته الحيل، أو خرجت عن طاقته، عندها يجد له ربا يلجأ إليه، ويستعين به فيقول : يا رب. فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرض لمثل هذه المسائل ؟ هل يتوجه إليها بالدعاء ؟ وهب أنه يدعو إنسانا مثله يمكن أن يسمعه أيستجيب له ؟.
لذلك يقول سبحانه :﴿ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ٧١ قال هل يسمعونكم إذ تدعون ٧٢ أو ينفعونكم أو يضرون ٧٣ ﴾( الشعراء ).
إذن : فعبادة غير الله حمق وغباء.
لكن هذا البحث من إبراهيم، وهذا الجدل مع أبيه وقومه، أكان بعد الرسالة أم قبلها ؟ قالوا : إن إبراهيم –عليه السلام – كان ناضجا متفتحا منذ صغره، وكان منكرا لهذه العبادة قبل أن يرسل، لذلك قال الله عنه :﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ٥١ ﴾( الأنبياء )
وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كارها للأصنام، معترضا على عبادتها، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها، وقد رأى صلى الله عليه وسلم أحد الآلهة وقد كسر ذراعه فاستعانوا بمن يصلح ذراع الإله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب لما يرى : العابد يصلح المعبود ؟ بعدها اعتزلهم رسول الله، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق.
فكأن أي دين يأمر الله به لو تفكر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول ؛ لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة، فإن توفرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق.
بدليل ما كان يحدث من عمر –رضي الله عنه – وكان يحدث رسول الله بالأمر، فتتنزل به الآيات من عند الله، وقد وافقت الآيات رأيه في أكثر من موقف٣، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أن ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول.
وتستطيع أنت أن تعرض أي قضية من قضايا الدين على العقل السليم، وسوف تجد أنها طيبة وجميلة توافق الذوق السليم والتفكير السوي، فالكذب مثلا خلق يأباه العقل ويأباه الدين، وكذلك الرشوة ؛ لأنك بها تأخذ ما ليس لك، وقد يسلط عليك راش، فيأخذ منك حقك، كما أخذت أنت حقوق الناس.
ولو تأمل العقل مثلا تحريم النظر إلى المحرمات، لوجد أن الدين قيد نظرك وأنت فرد، وقيد من أجلك نظر الناس جميعا، فكما طلب منك طلب لك، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل... إلخ.
وقد سئلنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهد ودين الحق ليظهره على الدين كله... ٣٣ ﴾( التوبة ) ومرة يقول :﴿ ولو كره المشركون ٣٣ ﴾ ( التوبة ) ومرة يقول :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون٣٢ ﴾( التوبة ).
يقولون : وبعد أربعة عشر قرنا، والمسلمون في الكون أقلية، ولم يظهر الدين على الدين كله، فكيف- إذن- نفهم هذه الآية ؟.
فقلت للسائل : لو فهمت الآية السابقة لعرفت الجواب :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ٣٢ ﴾( التوبة ).
فالمعنى : أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول، ولن يكون لها وجود، بل هي موجودة، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور الحجة، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته، كما في مسألة الطلاق مثلا، أو مسألة تعدد الزوجات وغيرها. وبعد ذلك تلجئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم.
ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة ١٩١٧ أول ما شرعوا منعوا الربا الذي كان جائزا عندهم، لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين، لكن مصالحهم في ذلك، فهذه وأمثالها غلبة لدين الله وظهور له على الأديان.
وليس معنى ﴿ ليظهره على الدين كله... ٣٣ ﴾( التوبة ) أن يصير الناس جميعا مؤمنين، لا، إنما يظل كل على دينه وعلى شركه أو كفره، لكن لا يجد حلا لقضاياه إلا في الإسلام، وهذا أوقع في ظهور الدين.
﴿ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ٧١ ﴾ :
إذن : شهد شاهد من أهلها، وقالوا بأنفسهم﴿ نعبد أصناما... ٧١ ﴾( الشعراء ) والعبادة طاعة، فماذا قالت لهم الأصنام ؟ وبماذا أمرتهم ؟ طبعا، ليس عندهم جواب.
وليت الأمر يقف عند العبادة، إنما﴿ فنظل لها عاكفين ٧١ ﴾( الشعراء ) أي : قائمين على عبادته ليل نهار، نعم ولكم حق ؛ لأنها آلهة دون تكليف، وعبادة بلا مشقة وبلا التزام، إنها بلطجة تأخذون فيها حظ أنفسكم، وتفعلون معها ما تريدون.
﴿ قال هل يسمعونكم إذ تدعون٧٢ أو ينفعونكم أو يضرون ٧٣ ﴾ :
فالأصنام لا تسمع من توجه إليها بالدعاء، ولا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها ؛ لذلك لم يجدوا ردا، وحاروا جوابا، ولم يجدوا حجة إلا أن قالوا :﴿ قال هل يسمعونكم إذ تدعون٧٢ أو ينفعونكم أو يضرون ٧٣ ﴾
﴿ قال هل يسمعونكم إذ تدعون٧٢ أو ينفعونكم أو يضرون ٧٣ ﴾ :
فالأصنام لا تسمع من توجه إليها بالدعاء، ولا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها ؛ لذلك لم يجدوا ردا، وحاروا جوابا، ولم يجدوا حجة إلا أن قالوا :﴿ قال هل يسمعونكم إذ تدعون٧٢ أو ينفعونكم أو يضرون ٧٣ ﴾
إذن : أنتم لم تحكموا عقولكم في هذه المسألة، كما قالوا في موضع آخر :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ٢٣ ﴾( الزخرف ).
ونقول لهم : ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون ؟ إنكم لو أقمتم على تقليد الآباء ما ارتقيتم في حياتكم أبدا، فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها.
يقول إبراهيم عليه السلام : لا تلقوا بالمسألة على الآباء، ولا تعلقوا عليهم أخطاءكم، ثم يعلنها صريحة متحدية كأنه يقول لهم : الحمرة في خيلكم اركبوها.
يقول إبراهيم عليه السلام : لا تلقوا بالمسألة على الآباء، ولا تعلقوا عليهم أخطاءكم، ثم يعلنها صريحة متحدية كأنه يقول لهم : الحمرة في خيلكم اركبوها.
فجاءت :﴿ أعداء... ١٠٣ ﴾ ( آل عمران ) هنا جمع ؛ لأنها تعود على عداوة الدنيا، وهي متعددة الأسباب، أما العداوة في الدين فواحدة على قلب رجل واحد.
ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم... ٦١ ﴾( النور ).
كلها بصيغة الجمع إلا في ﴿ صديقكم... ٦١ ﴾( النور ) جاءت بصيغة المفرد ؛ لأن الصداقة الحقة هي ما كانت لله غير متعددة الأغراض، فهي إذن لا تتعدد.
وفي إعلان إبراهيم لعداوته لهذه الأصنام تحد لهم : فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم، فإن كانوا يقدرون على مضرتي فليفعلوا. وبعد أن أعلن إبراهيم –عليه السلام- عداوته للأصنام نجحت دعوته، وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يصبه شيء.
كان الحق – تبارك وتعالى – يقول لهم : يا أغبياء، اعلموا أن للعبادة أسبابا وحيثيات، ويوضح إبراهيم عليه السلام حيثيات عبادة ربه- عز وجل – فيقول :﴿ الذي خلقني فهو يهدين٧٨ ﴾( الشعراء ) أي : خلقني من عدم، وأمدني من عدم، وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي، ويضمن سلامتي حين كلفني بشرعه : افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو سبحانه لا ينتفع بشيء من هذا، بل النفع يعود علينا نحن، وهل فعلت الأصنام لكم شيئا من هذا ؟ إذن : فهو وحده المستحق للعبادة.
وقوله سبحانه ﴿ فهو يهدين ٧٨ ﴾( الشعراء ) أي : بقانون الصيانة الذي يشبه ( الكتالوج ) الذي يجعله البشر لصناعتهم ؛ ليضمنوا سلامتها وأداءها لمهمتها على أكمل وجه، ولا بد أن يحدد لها المهمة قبل أن يشرع في صناعتها، وهل رأينا آلة صنعها صاحبها، ثم قال لنا : انظروا في أي شيء تستخدم هذه، ( بوتاجاز ) أو ثلاجة مثلا ؟.
فإذا ما حدث خلل في هذه الآلة، فعليك بالنظر في هذا ( الكتالوج ) أو أن تهذب بها إلى المهندس المختص بها ؛ لذلك إذا أردت أن تأخذ قانون صيانتك، فلا تأخذه إلا من صانعك وخالقك- عز وجل – ولا يجوز أن يخلق الله تعالى وتضع أنت لخلقة الله قانون صيانتها فهذا مثل : أن تقول للجزار مثلا : اعمل لي قانون صيانة ( التليفزيون ).
ونقف هنا عند الضمير المنفصل ( هو ) الذي جاء للتوكيد، والتوكيد لا يأتي ابتداء، إنما يكون على درجات الإنكار، وقد أكد الحق –تبارك وتعالى- نسبة الهداية والإطعام والسقيا والشفاء إليه تعالى ؛ لأن هذه المسائل الأربع قد يدعيها غيره تعالى، وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو أن الأب مثلا هو الرازق ؛ لأنه الجالب له والمناول.
والهداية قد يدعيها واضعو القوانين من البشر، وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية والبعثية وغيرها، وكلها تدعي أنها لصالح البشر، وأنها طريق هدايتهم ؛ لذلك أكد الله تعالى لنفسه هذه المسألة﴿ الذي خلقني فهو يهدين٧٨ ﴾( الشعراء ) فالهداية لا تكون إلا من الله، وفي شرعته تعالى.
وحين نعرب :﴿ مرضت.... ٨٠ ﴾( الشعراء ) نقول : مرض فعل ماض والتاء فاعل، فهل أنا الذي فعلت المرض ؟ وهذا مثل أن تقول : مات فلان، ففلان فاعل مع أنه لم يحدث الموت ؛ لذلك يجب أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني من فعل الفعل، أو اتصف به، والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما اتصف به. وقال﴿ مرضت... ٨٠ ﴾( الشعراء ) تأدبا مع الله تعالى، فلم يقل : أمرضني ونسب المرض الظاهر إلى نفسه.
﴿ والذي يميتني ثم يحيين٨١ ﴾ :
فلم يقل هنا : هو يميتني أو هو يحييني ؛ لأن الحياة والموت بيده تعالى لا يدعيها أحد، فإن قلت : وماذا عن قتل الإنسان لغيره ألا يعد موتا ؟ وقد سبق أن أوضحنا الفرق بين الموت والقتل، بدليل قوله تعالى :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبت على أعقابكم... ١٤٤ ﴾( آل عمران ).
فالموت أن تخرج الروح، والجسم سليم الأجزاء كامل الأعضاء، وبعد خروج الروح تنقض البنية، أما القتل فيكون بنقض البنية نقضا يترتب عليه خروج الروح.
إذن : الموت لم يدعه أحد لنفسه، ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم- عليه السلام- في ذلك، وكشف زيف هذا الادعاء، كما قال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أن أحيي وأميت... ٢٥٨ ﴾( البقرة ).
ولم يفعل إلا أن جاء برجل فأمر بقتله، ثم عفا عنه ؛ لذلك رأي إبراهيم عليه السلام أن يقطع عليه هذا الطريق، فقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر... ٢٥٨ ﴾( البقرة ).
وهكذا أنهى هذه السفسطة، وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند. وتأمل حرف العطف﴿ يميتني ثم يحيين٨١ ﴾( الشعراء ) و( ثم ) تفيد العطف مع التراخي، ولم يقل : ويحيين ؛ لأن الواو تفيد مطلق العطف، وبين الموت والإحياء الآخر مسافة طويلة، ألا ترى قوله تعالى :﴿ ثم أماته فأقبره ٢١ ثم إذا شاء أنشره٢٢ ﴾( عبس ).
عجيب أن يصدر هذا الدعاء من إبراهيم، وما أدراك ما إبراهيم ؟.
إنه أبو الأنبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتا لله، ولم يكن من المشركين، إبراهيم الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ومع هذا كله يقول :﴿ أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ٨٢ ﴾( الشعراء ).
إنه أدب عال مع الله وهضم لعمله ؛ لأن الإنسان مهما قدم من الخير فهو دون ما يستحق الله تعالى من العبادة ؛ لذلك كان طلب المغفرة من الطمع.
ويجب أن ننظر هنا : متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه ؟ بعد أن ذكر حيثيات الألوهية، واعترف لله بالنعم السابقة وأقر بها، فقد خلقه من عدم، وأمده من عدم، ووفر له كل مقومات الحياة.
وإقرار العبد بنعم الله عليه يقضي على كبرياء نفسه، ويصفي روحه وأجهزته، فيصير أهلا لمناجاة الله، وأهلا للدعاء، فإن اعترفت لله بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللاحقة، على خلاف من لا يذكر لله نعمة، ولا يقر سبحانه بسابقة خير، فكيف يقبل منه دعاء ؟ وبأي وجه يطلب من الله المزيد ؟.
إذن : لا تدع ربك إلا بعد صفاء نفس وإخلاص عبودية ؛ لذلك ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " ٢.
ويقول سبحانه :﴿ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا... ٢٩ ﴾( الأنفال ) يقول لك ربك : أنت مأمون على ما علمت، عامل به، فخذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي، خذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني وصفاء روحي، جعلك أهلا للمناجاة والدعاء.
فإبراهيم-عليه السلام- وهو أبو الأنبياء لم يجترئ على الدعاء بشيء آت إلا بعد أن ذكر لله النعم السابقة، وشكره عليها، فوافق قوله تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم... ٧ ﴾( إبراهيم ).
لذلك فإن أهل المعرفة يقولون : إن العبد مهما اجتهد في الدعاء، فإنه يدعو بالخير على حسب فهمه ومنطقه وبمقدار عمله ولو أنه ذكر النعيم الأول لله تعالى، وأقر له بالفضل، ثم ترك المسألة له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيرا له ؛ لأن ربه عز وجل يعطيه على حسب قدرته تعالى وحكمته.
وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي : " من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطى السائلين " ٣.
فعطاء الله لا شك أوسع، واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه، كما لو ذهبت في رحلة مثلا وقلت لولدك : ماذا تريد أن أحضر لك من البلد الفلاني ؟ فإن قال : أريد كذا وكذا فقد ضيق على نفسه، وإن ترك لك الاختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه.
٢ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (١٠/١٥) من حديث أنس رضي الله عنه، ضعفه الشوكاني في "الفوائد المجموعة "(ص٢٨٦)..
٣ أخرجه الترمذي في سننه(٢٩٢٦) من حديث أبي سعيد الخدري وقال: هذا حديث حسن غريب، وكذا أخرجه أبو نعيم في الحلية (٥/١٠٦)، وكذا الدرامي في سننه (٢/٤٤١) بلفظ "من شغله قراءة القرآن عن مسألتي وذكرى أعطيته أفضل ثواب السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه "قال ابن حجر في فتح الباري(٩/٦٦):"رجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف". وقد شرح فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله هذا الحديث مفصلا في كتاب "الأحاديث القدسية" (١/٤٩١-٥١٤)..
نلحظ أنه لم يدع بشيء من الدنيا، ومعنى﴿ حكما... ٨٣ ﴾( الشعراء ) فرق بين الحكم والحكمة : الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، أما الحكم فأن تعلم الخير أولا، ثم تعمل بما علمت ثانيا.
وقال في دعائه :﴿ هب لي... ٨٣ ﴾( الشعراء ) لأن الهبة عطاء دون مقابل، فكأنه قال : يا رب أنا لا أستحق، فاجعلها لي هبة من عندك﴿ وألحقني بالصالحين ٨٣ ﴾( الشعراء ) أي : ألحقني بهم في العمل والأسوة لأنال بعدها الجزاء، وليس المراد : ألحقني بهم في الجزاء، إنما في العمل.
وقد أجابه الله تعالى في هذه الدعوة، فقال سبحانه :﴿ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض... ٧٥ ﴾( الأنعام ).
والملكوت : المخلوقات غير المحسة، أطلعه الله عليها ؛ لأنه عمل بما علم من الملك المحس، وكذلك قال :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ١٣٠ ﴾( البقرة ) فأجابه في الدعوة الأخرى ﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ٨٤ ﴾
وسبق أن أوضحنا أن الصدق هو الكلام المطابق للواقع، وقد ورد هذا المعنى في الأمهات الخمس في القرآن الكريم، في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق... ٨٠ ﴾( الإسراء ).
يعني : أدخلني بصدق- لا بغش يعني – مدخلا أستطيع منه الخروج، وكذلك أخرجني مخرج صدق.
وفي قوله تعالى :﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ٥٥ ﴾( القمر ).
وفي قوله تعالى ﴿ وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ ﴾( الأحقاف ) هذه المواضع الخمس لكلمة الصدق١.
ومعنى :﴿ في الآخرين ٨٤ ﴾( الشعراء ) يعني : يتعدى الذكر الحسن مدة حياتي إلى من بعدي، فاجعل لي لسان صدق في المعاصرين، وفيمن يأتي بعدي أترك أثرا طيبا يذكر من بعدي ؛ لأن لي نصيبا من الخير والثواب في كل من اقتدى بي، وجعلني أسوة.
وقد أجابه الله في هذه، فقال سبحانه :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ١٠٨ سلام على إبراهيم ١٠٩ ﴾( الصافات ).
لسان العرب: مرتان (مريم: ٥٠)،(الشعراء: ٨٤).
مدخل صدق: مرة واحدة (الإسراء: ٨٠).
مخرج صدق: مرة واحدة (الإسراء: ٨٠).
وعد الصدق: مرة واحدة (مرة واحدة: الأحقاف١٦).
مقعد صدق: مرة واحدة (القمر: ٥٥)
وبالإضافة إلى هذا:
قدم الصدق: مرة واحدة(يونس: ٢)
مبوأ صدق: مرة واحدة (يونس: ٩٣).
الصدق: مرتان (الزمر: ٣٢)، (الزمر: ٣٣) والله تعالى أعلى وأعلم.
بعد أن دعا لأمر في الدنيا، ثم لأمر بعد موته دعا لنفسه بجنة النعيم الدائم في الآخرة، ولا شك أن ربه –عز وجل- قد أجابه إلى هذه، فهو من ورثة جنة النعيم، بدليل قوله تعالى :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ١٣٠ ﴾( البقرة )وكلمة ميراث الجنة وردت في القرآن أيضا في قوله تعالى :
﴿ أولئك هم الوارثون ١٠ الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ١١ ﴾( المؤمنون )
والميراث أن تأخذ ملكا من آخر بعد موته، فكيف تكون الجنة ميراثا ؟.
قال العلماء : إن الخالق- عز وجل- لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار، إنما خلق الجنة تتسع للناس جميعا، إن آمنوا، وخلق النار تتسع للناس جميعا إن كفروا ؛ ذلك لأنه سبحانه خلق الخلق مختارين، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. وعليه، فميراث الجنة يعني أن يرث المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة، يتقاسمونها فيما بينهم.
والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه، لكن لا يسأل عنها، إنما يأخذها طيبة حتى إن جمعها صاحبها من الحرام، إلا إن أراد الوارث أن يبرئ ذمة المورث، فيرد المظالم إلى أهلها.
إذن : الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هبة، وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة أن الله تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبة منه سبحانه، وتفضلا عليهم، وليس بعملهم، فالجنة جاءتهم كما يأتي الميراث لأهله دون تعب منهم ودون سعي.
وهذا تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي :" لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني١ الله برحمته " ٢.
قالوا : فالجنة ميراث ؛ لأن الأصل أنك لا تجازي على الخير الذي قدمته ؛ لأنه تكليف من الله تعالى يعود خيره عليك في الدنيا، حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها، وما دام التكليف في صالحك، فكيف تأخذ أجرا عليه ؟ كالولد حين يحث ولده على المذاكرة والجد في دروسه، فهذا يعود نفعه على الولد، لا على الوالد.
وكأن ربك- عز وجل- يقول لك : ما دمت قد احترمت تكليفي لك، وأطعتني فيما ينفعك أنت، ولا يعود علي منه شيء، فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهبة مني، أو أننا نأخذ الجنة بالعمل، والمنازل بالفضل.
إذن : لا غنى لأحد منا عن فضل الله.
لذلك يقول سبحانه :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ٥٨ ﴾( يونس )
هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة، وينبغي ألا تعول على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة، واعلم أن النجاة لا تكون إلا برحمة الله وفضل منه سبحانه.
٢ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٦٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين ٨٦ ﴾ :
لم ينس إبراهيم- عليه السلام- في دعائه أن يدعو لمن رباه ؛ لأن الحق- تبارك وتعالى- هو الخالق، إنما جعل الوالدين هما السبب المباشر في الخلق والإيجاد ؛ لذلك جعلهما أصحاب الفضل والأحق بالطاعة بعده تعالى، لكن قد ينجب الوالدان ويهملان ولدهما فيربيه غيرهما ؛ لذلك يأخذ المنزلة الثالثة، فعندنا ربوبية خلقت من عدم، وأبوة جاءت بأسباب الإيجاد، وأبوة أخرى ربت واعتنت.
وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا٢٤ ﴾( الإسراء ) فحيثية الدعاء بالرحمة هنا، لا لأنهما أبوان وهما سبب الإيجاد، إنما لأنهما ربياني صغيرا، إذن : لو رباني غير والدي لأخذوا هذه المنزلة واستحقوا مني هذا الدعاء.
لكن لم يستجب لإبراهيم عليه السلام في هذه، لأنه سأل الله لأبيه قبل أن يعرف أنه عدو لله، يقول تعالى :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه... ١١٤ ﴾( التوبة )
﴿ ولا تخزني١ يوم يبعثون ٨٧ ﴾
بأي شيء يكون الخزي في الآخرة ؟ الخزي يكون حين يعاتبك ربك يوم القيامة على رؤوس الأشهاد على ما فرط منك من تقصير ؛ لذلك الحساب اليسير ما كان بين العبد وربه، وقد أجيب إبراهيم عليه السلام في هذه الدعوة بقوله تعالى :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ١٣٠ ﴾( البقرة )
قوله :﴿ يوم لا ينفعك مال ولا بنون ٨٨ ﴾( الشعراء ) فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعا، فكل إنسان يريد أن يكون غنيا صاحب مال وأولاد وعزوة، ومن حرم واحدة منهما حزن وألم أشد الألم.
والحق تبارك وتعالى يقول :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا.... ٤٦ ﴾( الكهف )
ويقول سبحانه :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة... ١٤ ﴾( آل عمران ).
نعم، هي زينة الحياة الدنيا، ومعنى الزينة : الحسن غير الذاتي، فالحسن قد يكون ذاتيا في الجوهر كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها الله عليها، دون أن تتكلف الجمال، أو الزينة الظاهرة من مساحيق أو ذهب خلافه، لذلك سموها في اللغة ( الغانية ) وهي التي استغنت بجمالها الطبيعي الذاتي عن أن تتزين بأي شيء آخر.
يعني : توفر له الإخلاص في هذا كله، وإلا فالرياء يحبط العمل، ويجعله هباء منثورا، إن كنت تفعل الخير في الدنيا ولا تؤمن بالله ولا تنزهه سبحانه عن الشريك، فلن ينفعك عملك، ولن يكون لك منه نصيب في ثواب الآخرة.
كما قال تعالى :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾( الفرقان )
وفي الحديث القدسي :".... فعلت ليقال وقد قيل.... " ١.
فعلت ليقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك، فعلت لتأخذ نيشانا وقد أخذته، فعلت ليكتب اسمك على باب المسجد وقد كتب، إذن : انتهت المسألة.
فقوله تعالى :﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون ٨٨ ﴾( الشعراء ) لا ينفي نفع المال والبنين، فهي نافعة شريطة أن تأتي الله بقلب سليم، والسلامة هنا تعني : أن يظل الشيء على حاله وعلى صالحه الذي خلقه الله عليه لا يصيبه عطب في ذاته، فيؤدي مهمته كما ينبغي.
فكأن السلامة توجد أولا، ونحن الذين نفسد هذه السلامة.
ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ١١ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ١٢ ﴾( البقرة ).
لذلك لو تأمل الناس فيما يتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه الله على مقتضى حكمته تعالى، بدليل أن كل حركة في الكون لا يتدخل فيها الإنسان تراها مستقيمة منتظمة لا تتخلف، فإن تدخل الإنسان وجد الفساد ووجد الظلم للغير، حتى للنبات وللجماد وللحيوان، وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله.
هذا إن تدخل الإنسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه، فإن تدخل على هدى منهج الله استقامت الأمور وتحققت السلامة.
ألا ترى قوله تعالى في سورة الرحمن :
﴿ الشمس والقمر بحسبان٥ والنجم والشجر يسجدان ٦ والسماء رفعها ووضع الميزان٧ ﴾( الرحمن ).
لذلك تجد كل شيء في الكون موزونا بقدر وحكمة : الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء... الخ وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة، لماذا ؟ لأنه لا دخل للإنسان فيها.
فمعنى القلب السليم : القلب الذي لا يعمر إلا بما أراد الله أن يعمر به، وقد ورد في الحديث القدسي :" ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " ٢.
إذن لا تزحم قلبك بما يشغله من أمور الدنيا، واجعله خاليا لله منشغلا به، فهذه هي سلامة القلب ؛ لأن القلب مفطور على هذا، مطبوع عليه... ساعة خلقه الله خلقه صافيا سليما من المشاغل ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... ٧٨ ﴾( النحل ) لماذا ؟ ﴿ لعلكم تشكرون٧٨ ﴾( النحل ).
إذن : لا تأخذ المال والبنين منفصلين عن سلامة القلب ؛ لأن ربك يقول :﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ٤٦ ﴾( الكهف ).
وفي آية :﴿ زين للناس حب الشهوات... ١٤ ﴾( آل عمران ) ختمها الحق سبحانه بقوله :﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ١٤ ﴾( آل عمران ).
ومن سلامة القلب أن يخلو من الشرك، وأن يخلو من النفاق ؛ لأن المنافق يؤمن بلسانه، ولا يؤمن بقلبه، فقلبه لا يوافق لسانه ؛ لذلك هو غير سليم القلب، فكان أشد إثما من الكافر، وجعله الله في الدرك الأسفل من النار.
المنافق أشد تعذيبا من الكافر ؛ لأن الكافر مع كفره هو منطقي مع نفسه، حيث كفر بقلبه وبلسانه، ونطق بما يعتقده، أما المنافق فقد غشنا وحسب علينا ظاهرا، ومنهم من كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول، وهو في حقيقة الأمر من الطابور الخامس داخل صفوف المسلمين.
وكذلك الرياء ينافي سلامة القلب، فالمرائي يعمل للناس ولا يعمل لله، ونعجب حين نرى من يقدم الجميل رياء وسمعة، ثم يتهم من أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل، نقول له : لماذا تتهمه وقد سبقته فأنكرت جميل الله، حيث لم تجعله على بالك حين فعلت الخير.
إذن : فهذا جزاؤك جزاء وفاقا، لأنك ما فعلت الخير لله، إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء. وصفقة المرائي خاسرة، وتجارته بائرة ؛ لأنه حين يعطي رياء يستفيد منه الآخذ ويخرج هو صفر اليدين، كما قال سبحانه :{ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا... ٢٦٤ ) ( البقرة ).
وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي، وينكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلا، ولو عمل ذلك لله لأبقى الله ذكره بين الناس، فحفظوا جميله، وأثنوا عليه بالخير.
ويروى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهما في يدها، فلما سألها عنه قالت : لأني قد نويت أن أتصدق به، فقال لها : تصدقي به وهو على حاله، فقالت : أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، والله طيب لا يقبل إلا طيبا.
٢ قال الملا على القاري في "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة "(ص٢٠٦) دار الكتب العلمية بيروت:" ذكره في الإحياء، وقال العراقي: لم أر له أصلا. وقال ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: وفي"الذيل" وهو كما قال. ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي وبمحبتي، وإلا فالقول بالحلول كفر. وقال الزركشي: وضعه الملاحدة". وانظر: كشف الخفاء ٢/٢٧٣ والدرر المنتثرة للسيوطي ص٣٦٦..
﴿ وأزلفت الجنة للمتقين٩٠ ﴾ :
﴿ أزلفت... ٩٠ ﴾( الشعراء ) يعني : قربت، لكن كيف تقرب منهم وهم بداخلها ؟ قالوا : تقرب منهم قبل أن يدخلوها، وهم ما زالوا في شدة الموقف وهول القيامة والحساب، فتقرب منهم الجنة ليطمئنوا بها، ويهون عليهم هذا الموقف الصعب.
وفي آية أخرى :﴿ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ٣١ ﴾ ( ق ) يعني : يرونها عيانا، ويعرفون أنها النعيم الذي ينتظرهم، وسوف يباشرونه عن قريب، كما لو دعيت إلى مائدة أحد العظماء، وقد أعدت على أتم وجه، فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين وقت الاجتماع عليه.
وهذه لمن أتى الله بقلب غير سليم، قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء، وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها... ٧١ ﴾( مريم ).
والورود لا يعني دخول النار، إنما رؤيتها والمرور بها ؛ لأن الصراط مضروب على متن جهنم، فالورود شيء والدخول شيء آخر، ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ٢٣ ﴾( القصص ) مع أن موسى –عليه السلام- ورد الماء يعني : مكان الماء، ولم يشرب منه.
والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أن يعرف المؤمن فضل الإيمان عليه، وأنه سبب نجاته من هذه النار التي يراها، وهذه أعظم نعمة عليه ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.... ١٨٥ ﴾( آل عمران ).
ومعنى﴿ للغاوين ٩١ ﴾( الشعراء ) جمع غاو، وهو إما أن يكون غاويا على نفسه، أو أغوى غيره، فتطلق على الغاوي، وعلى الذي يغوي غيره.
قوله تعالى :﴿ أين ما كنتم تعبدون ٩٢ ﴾( الشعراء ) أرونا من أشركتموهم مع الله، أين هم الآن ؟
وفي موضع آخر :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون٢٢ من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ٢٣ وقفوهم إنهم مسئولون ٢٤ ما لكم لا تناصرون ٢٥ ﴾( الصافات ).
لقد ضلوا عنكم، وتركوكم، بل وتبرأوا منكم :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ١٦٦ ﴾( البقرة )
ثم يأتي الذين اتبعوا فيقولون :﴿ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ٢٩ ﴾( فصلت ).
نعم، إنها معركة ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾( الزخرف ).
﴿ فكبكبوا فيها هم والغاوون٩٤ ﴾
الفعل كبكب، يعني : كبوا مرة مع أخرى على وجوههم، فهي تعني تكرار الكب، فكلما قام كب على وجهه مرة أخرى، وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول : زقزقة العصافير، ونقنقة الضفادع. والمراد هنا الأصنام تكب على وجوهها، وتسبق من عبدها إلى النار، كما قال تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب١ جهنم.. ٩٨ ﴾ ( الأنبياء )
وقال :﴿ هم والغاوون ٩٤ ﴾( الشعراء ) فالغاوون يسبقون من أغووهم وأضلوهم ؛ ليقطع أمل التابعين لهم في النجاة، فلو دخل التابعون أولا لقالوا : سيأتي من عبدنا لينقذونا، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم، كما قال تعالى عن فرعون :﴿ يقدم٢ قومه يوم القيامة فأوردهم النار.... ٩٨ ﴾( هود )
٢ أي: يقودهم ويسير أمامهم إلى جهنم. (القاموس القويم ٢/١٠٥)..
ولإبليس جنود من الجن، وجنود من الإنس، سيجتمعون جميعا في النار.
هذه لقطة من ساحة القيامة، حيث يختصم أهل الضلال مع من أضلوهم، ويلقي كل منهم بالتبعة على الآخر.
وهذه الخصومة وردت في قوله تعالى على لسان الشيطان :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم... ٢٢ ﴾( إبراهيم ) والمعنى : لم يكن لي عليكم سلطان قهر أحملكم به على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به.
كما قال سبحانه :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله... ١٦٥ ﴾( البقرة )
يعني : يا رب أرنا هؤلاء المجرمين، ومكنا منهم لننتقم لأنفسنا، ونجعلهم تحت أقدامنا، وهنا أخرجوا كل سمهم في هؤلاء المجرمين، وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه.
الشافع من الشفع أي : الاثنين، والشافع هو الذي يضم صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك، فيتوسط لك عند من لديه هذا الأمر، والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أذن الله له، يقول تعالى :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى... ٢٨ ﴾( الأنبياء )
ويقول سبحانه :
﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه... ٢٥٥ ﴾( البقرة ).
إذن : ليس كل أحد صالحا للشفاعة معدا لها، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة، وله عند الناس أياد تحملهم على احترامه وقبول وساطته، فهي شفاعة مدفوعة الثمن، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له.
لذلك نرى في الريف مثلا رجلا له جاه ومنزلة بين الناس، فيحكم في النازعات ويفصل في الدم، فحين يتدخل بين خصمين ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته.
ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه١، ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل، لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل، لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس، فنأخذه شريكا معنا بما لديه من هذه الميزة.
والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قومت بالمال ؛ لأنه ما نالها من فراغ، إنما جاءت نتيجة جهد وعمل ومجاملات للناس، احترموه لأجلها، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بقي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس... ومن ذلك أيضا شراء العلامة التجارية.
فإذا لم تكن الصداقة داخلة في الحميمية، فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قال تعالى :﴿ يوم يفر المرء من أخيه ٣٤ وأمه وأبيه ٣٥ وصاحبته وبنيه٣٦ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ٣٧ ﴾( عبس )
وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطا كثيرا من المستشرقين الذين يريدون تصيد المآخد على القرآن الكريم، فجاء أحدهم يقول : تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين، فإن كان الأول بليغا فالآخر غير بليغ، وإن كان الثاني بليغا فالأول غير بليغ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات : إنها تكرار لا فائدة منه.
ونقول له : أنت تنظر إلى المعنى في إجماله، وليس لديك الملكة العربية التي تستقبل بها كلام الله، ولو كانت عندك هذه الملكة لما اتهمت القرآن، فكل آية مما تظنه تكرارا إنما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلا له.
والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة، وهما متفقان في الصدر مختلفتان في العجز، أحدهما :
﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا... ٤٨ ﴾( البقرة ).
والأخرى :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا... ١٢٣ ﴾( البقرة ).
إذن : فصدر الآيتين متفق، أما عجز الأولى :﴿ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل... ٤٨ ﴾( البقرة )
وعجز الأخرى :﴿ ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة... ١٢٣ ﴾ ( البقرة ) فهما مختلفتان.
وحين تتأمل صدري الآيتين الذي تظنه واحدا في الآيتين تجد أنه مختلف أيضا، نعم هو متحد في ظاهره، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما : إما يعود على الشافع، وإما يعود على المشفوع له، فإن عاد الضمير على المشفوع له نقول له : لا نأخذ منك عدلا، ولا تنفعك شفاعة، وإن عاد الضمير على الشافع نقول له : لا نقبل منك شفاعة- ونقدم الشفاعة أولا- ولا نأخذ منك عدلا.
إذن : ليس في الآيتين تكرار كما تظنون، فكل منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى.
وقد أوضحنا هذه المسألة أيضا في قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق.... ٣١ ﴾( الإسراء ).
والأخرى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق... ١٥١ ﴾( الأنعام ).
فصدرا الآيتين مختلف، وكذلك العجز مختلف، فعجز الأولى :﴿ نحن نرزقهم وإياكم... ٣١ ﴾( الإسراء ).
وعجز الأخرى :﴿ نحن نرزقكم وإياهم... ١٥١ ﴾( الأنعام ).
وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض.
ففي الآية الأولى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق... ٣١ ﴾ ( الإسراء ) إذن : فالفقر غير موجود، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد، فهو مشغول برزق الولد، لا برزقه هو ؛ لأنه غني غير محتاج ؛ لذلك قدم الأولاد في عجز الآية، كأنه يقول للأب : اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولا، وسوف ترزق أنت أيضا معهم.
أما في الآية الأخرى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق... ١٥١ ﴾ ( الأنعام ) فالفقر في هذه الحالة موجود فعلا، وشغل الأب برزق نفسه أولى من شغله برزق ولده ؛ لذلك قال في عجز الآية :﴿ نحن نرزقكم وإياهم... ١٥١ ﴾( الأنعام ) فقدمهم على الأولاد.
إذن : لكل آية معناها الذي تؤديه عنها الآية الأخرى.
﴿ فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ١٠٢ ﴾ :
معنى :﴿ كرة... ١٠٢ ﴾( الشعراء ) أي : عودة إلى الدنيا ورجعة﴿ فنكون من المؤمنين ١٠٢ ﴾( الشعراء ) أي : نستأنف حياة جديدة، فنؤمن بالله ونطيعه، ونستقيم على منهجه، ولا نقف هذا الموقف.
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة، يقول تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون٩٩ لعلي أعملا صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ون ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ١٠٠ ﴾( المؤمنون ).
يعني﴿ كلا... ١٠٠ ﴾( المؤمنون ) لن يعودوا مرة أخرى، وما هي إلا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النجاة بها، لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخ يعزلهم عنها، ويمنعهم العودة إليها، وسوف يظل هذا البرزخ إلى يوم يبعثون.
وفي آية أخرى حول هذا المعنى يرقي الحق- تبارك وتعالى- المسألة من موقف الموت إلى موقف القيامة، فيقول سبحانه :﴿ ولو ترى إذا وقفوا على النار فقالوا ا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ٢٧ ﴾( الأنعام ).
وهذا كذب منهم وقول باللسان لا يوافقه العمل ؛ لذلك رد الحق- تبارك وتعالى- عليهم بقوله :﴿ بل بدا لهم ما كانوا من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون٢٨ ﴾( الأنعام )
﴿ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين١٠٣ ﴾ :
الآية : هي الأمر العجيب الملفت للنظر، وما كان ينبغي أن يمر على العقول بدون تأمل واعتبار﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ١٠٣ ﴾( الشعراء ) رغم أن هذه الآيات ظاهرة واضحة، ومع ذلك كان أكثرهم غير مؤمنين.
أي : مع كونهم لم يؤمن أكثرهم، فالله تعالى هو العزيز الذي لا يغلب، إنما يغلب، ومع عزته تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب.
﴿ كذبت قوم نوح المرسلين ١٠٥ ﴾
القوم : هم الرجال خاصة، وسموا قوما ؛ لأنهم هم الذين يقومون بأهم الأشياء، ويقابل القوم النساء، كما جاء شرح هذا المعنى في قوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن... ١١ ﴾( الحجرات )
فالرجال هم القوم ؛ لأنهم يقومون بأهم الأمور، وعليهم مدار حركة الحياة، والنساء يستقبلن ثمار هذه الحركة، فينفقونها بأمانة ويوجهونها التوجيه السليم.
والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله :
وما أدري ولست إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء١ |
لكن الحق- تبارك وتعالى – يقول :﴿ فتشقى١١٧ ﴾( طه ) أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة، فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن تهان أو تشقى، لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تشقى نفسها ؟.
ونلحظ أن الآية تقول :﴿ كذبت قوم نوح المرسلين ١٠٥ ﴾( الشعراء ) كيف وهم ما كذبوا إلا رسولهم نوحا عليه السلام ؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلا.
قالوا : لأن الرسل عن الله إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الأخلاق لا تتغير في أي دين ؛ لذلك فمن كذب رسوله فكأنه كذب كل الرسل، ألا ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا :
﴿ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ٨٤ ﴾( آل عمران ).
وقال تعالى :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله... ٢٨٥ ﴾( البقرة ).
فإن قلت : فماذا عن اختلاف المناهج والشرائع من نبي لآخر ؟ نقول : هذه اختلافات في مسائل تقتضيها تطورات المجتمعات، وهي فرعيات لا تتصل بأصل العقائد والأخلاق الكريمة.
لذلك نجد هذه لازمة في كل مواكب الرسالات، يقول : المرسلين، المرسلين ؛ لأن الذي يكذب رسوله فيما اتفق فيه الأجيال من عقائد وأخلاق، فكأنه كذب جميع المرسلين.
وقوله تعالى :﴿ إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ١٠٦ ﴾( الشعراء ) يريد أن يحنن قلوبهم عليه بكلمة﴿ أخوهم... ١٠٦ ﴾( الشعراء ) التي تعني أنه منهم وقريب الصلة بهم، ليس أجنبيا عنهم، فهم يعرفون أصله ونشأته، ويعلمون صفاته وأخلاقه.
لذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه، وهي السيدة خديجة دون أن تسمع منه آية واحدة، وكذلك الصديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل، لماذا ؟.
لأنهم بنوا على تاريخه السابق، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس.
والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة، وأول عالمة أصول في الإسلام، حينما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ما يعاني، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئيا من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره، قالت له – انظر إلى العظمة- " والله إنك لتصل الرحم، وتقرى الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبدا " ١.
ولما علم الصديق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتصديق، ولم يتردد، ولما سئل عن ذلك قال : إننا نصدقه في الأمر يأت من السماء فكيف لا نصدقه في هذه، فإن كان قال فقد صدق.
إذن : فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله ؛ لذلك استحق الصديق هذا اللقب عن جدارة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول في حقه :" كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان- يعني : في خصال الخير –فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني لاتبعته ".
هذه كلها معان نفهمها من قوله تعالى :﴿ إذ قال لهم أخوهم نوح... ١٠٦ ﴾( الشعراء ).
وهذا معنى قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ١٢٨ ﴾( التوبة ) فهذه من حكمة الله في الرسل، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم : نريد ملكا رسولا، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء، وكان يجب عليهم على الأقل أن يمكنوه من دعوته، ويمكنوا عقولهم من أن تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق.
فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محل واحد ؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة، فعليك أن تخرج من قلبك الباطل أولا، ثم حكم عقلك في الأمر، واستفت قلبك فما سمح به فأدخله.
وهذه نراها حتى في الماديات، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبدا، يقولون : عدم تداخل، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلا، فقبل أن يدخل الماء لا بد أن يخرج الهواء، فنراه على شكل فقاعات.
لذلك يقول تعالى :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض... ٧١ ﴾( المؤمنون )
ولك أن تلاحظ مثلا زجاجة ( الكولونيا ) ذات الثقب الضيق إذا وضعتها في الماء، لا يمكن أن يدخلها الماء، لماذا ؟ لأن ثقبها ضيق، لا يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء.
ولأمر ما سمي الهوى من الهواء، فكما أن الهواء الذي نحسه لو أتى من ناحية واحدة لمبني أو جبل مثلا لانهدم إلى الناحية الأخرى، لماذا ؟ لأن الهواء هو الذي يتولى حفظ توازن هذه المباني العالية وناطحات السحاب التي نراها، يحفظ توازنها حيث يحيط بها من كل جهاتها، فإن فرغت الهواء من إحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة. والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها الإنسان ويحولها إلى طاقة، وانظر مثلا إلى قوة تفريغ الهواء وما تحدثه من هزة عنيفة، أو إلى الحاويات والشاحنات العملاقة التي تسير على الهواء في عجلاتها، وكذلك الهوى إن كان في الباطل كان قويا ومدمرا، ومن هذا المعنى سمي السقوط هويا، تقول : هوى الشيء يعني : سقط.
وقوله :﴿ ألا تتقون١٠٦ ﴾ ( الشعراء ) هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول أول ما يبعث، ومعناها : اتقوا الله و( ألا ) أداة للحض والحث على الفعل. كما تقول للولد المهمل : ألا تذاكر أو هلا تذاكر.
وحين نحلل أسلوب الحض أو الحث نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل، كما تقول للولد الذي لا يصلي وتريد أن تحثه على الصلاة : ألا تصلي ؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد أن يقولها، لكن حين تستفهم بالإثبات : أتصلي ؟ يقولها بفخر : نعم.
إذن : معنى الحث : تعجب من ترك الفعل وإنكار يحمل معنى الأمر.
فمعنى :﴿ ألا تتقون ١٠٦ ﴾( الشعراء ) أنكر عليكم ألا تكونوا متقين، والمراد : أطلب منكم أن تكونوا متقين.
﴿ إني لكم رسول أمين ١٠٧ ﴾ :
وقوله تعالى :﴿ إني لكم رسول أمين ١٠٧ ﴾( الشعراء ) فإن كانت عندكم غفلة فقد رحم الله غفلتكم، ونبهكم برسول أمين يعظكم ويعلمكم ويبلغكم منهج الله، وهو أمين لن يغشكم في شيء حتى لا تقولوا : إنا كنا غافلين.
﴿ فاتقوا الله وأطيعون ١٠٨ ﴾
وكأنه يتصالح معهم، فيخفف من أسلوب النصح، ويأتي بالأمر صريحا بعد أن أتى به في صورة إنكار ألا يكونوا متقين، وثمرة التقوى طاعة الأوامر واجتناب النواهي، وهذه لا نعرفها إلا من الرسول حامل المنهج ومبلغ الدعوة والأمين عليها.
وقد ترددت هذه الآية على ألسنة كثير من رسل١ الله :﴿ إني لكم رسول أمين ١٠٧ فاتقوا الله وأطيعون ١٠٨ ﴾( الشعراء ).
﴿ وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ١٠٩ ﴾
هذه العبارة﴿ وما أسألكم عليه من أجر... ١٠٩ ﴾( الشعراء ) لم نسمعها على لسان إبراهيم عليه السلام، ولا على لسان موسى عليه السلام، فأول من قالها نوح عليه السلام، وكونك تقول لآخر : أنا لا أسألك أجرا على هذا العمل، فهذا يعني أنك تستحق أجرا على هذا العمل، وأنت غير زاهد في الأجر، إنما إن أخذته من المنتفع بعملك، فسوف يقومه لك بمقاييسه البشرية ؛ لذلك من الأفضل أن تأخذ أجرك من الله.
فكأن نوحا عليه السلام يقول : أنتم أيها البشر لا تستطيعون أن تقوموا ما أقوم به من أجلكم ؛ لأنني جئتكم بمنهج هداية يسعدكم في الدنيا، وينجيكم في الآخرة، وأنتم لن تقوموا هذا العمل، وأجري فيه على الله ؛ لأنكم تعطون على قدر إمكاناتكم وعملكم.
وسبق أن حكينا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر، وكان رجل تبدو عليه علامات الصلاح، وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا، فلما توقفنا ليركب معنا مال إلى السائق، وقال( على كم ) يعني : الأجرة فقال له الرجل، وكان المحافظ : نوصلك لله، فقال( غلتها يا شيخ ). نعم، إن كان الأجر على الله فهو غال.
وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون٤٠ ﴾( الطور ).
ثم يقول :﴿ إن أجري إلا على رب العالمين ١٠٩ ﴾( الشعراء ) إن هنا بمعنى ما النافية ؛ لأنه تعالى القادر على أن يكافئني على دعوتي، فهو الذي أرسلني بها، وهو سبحانه رب العالمين الذي تبرع بالخلق من عدم، وبالإمداد من عدم، وخلق لي ولكم الأرزاق، وهذا كله لصالحكم ؛ لأنه سبحانه لا ينتفع من هذا بشيء.
والربوبية تقتضي عناية، وتقتضي نفقة وخلقا وإمدادا، فصاحب كل هذه الأفضال والنعم هو الذي يعطيني أجري.
بعد أن بين لهم كرم الربوبية في مسألة الأجر على الدعوة وأعطاهم ما يشجعهم على التقوى وعلى الطاعة ؛ لأنهم سينتفعون برسالة الرسول دون أجر منهم. ومعنى﴿ فاتقوا الله وأطيعون١١٠ ﴾( الشعراء ) أي : ليست لي طاعة ذاتية، إنما أطيعوني ؛ لأني رسول من قبل الله تعالى.
﴿ قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون١١١ ﴾
الأرذلون : جمع أرذل، وهو الرديء من الشيء. ورذال الفاكهة : المعطوب منها وما نسميه ( نقاضة ) والاستفهام هنا للتعجب : كيف نؤمن لك ونحن السادة، والمؤمنون بك هم الأرذلون ؟
يقصدون الفقراء وأصحاب الحرف والذين لا يؤبه بهم، وهؤلاء عادة هم جنود الرسالة ؛ لأنهم هم المطحونون من المجتمع الفاسد، وطبيعي أن يتلقفوا من يعدل ميزان المجتمع.
وفي آية أخرى :﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا... ٢٧ ﴾( هود )
وقولهم :﴿ أنؤمن لك... ١١١ ﴾( الشعراء ) دليل على عدم فهمهم لحقيقة الإيمان ؛ لأنه لم يقل لهم : آمنوا بي، إنما آمنوا بالله.
أو : أن المعنى ﴿ أنؤمن لك.... ١١١ ﴾( الشعراء ) أي : نصدقك فمن معاني آمن أي : صدق، كما في قوله تعالى :﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه... ٨٣ ﴾( يونس ) أي : صدق به، وآمن تكون بمعنى صدق إذا جاءت بعدها اللام، فإن جاء بعدها الباء فهي بمعنى الإيمان١.
يعني : مادام الحساب على ربي وهم يريدون الإيمان، فلا بد أن يأخذوا جزاءهم وافيا ﴿ لو تشعرون ٢ ١١٣ ﴾( الشعراء ).
٢ قال القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٠٠):"قراءة العامة "تشعرون" بالتاء على المخاطبة للكافر وهو الظاهر. وقرأ بن أبي عبلة ومحمد بن السميقع "لو يشعرون" بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم"..
يعني : مادام الحساب على ربي وهم يريدون الإيمان، فلا بد أن يأخذوا جزاءهم وافيا ﴿ لو تشعرون ٢ ١١٣ ﴾( الشعراء ).
٢ قال القرطبي في تفسيره(٧/٥٠٠٠):"قراءة العامة "تشعرون" بالتاء على المخاطبة للكافر وهو الظاهر. وقرأ بن أبي عبلة ومحمد بن السميقع "لو يشعرون" بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم"..
وقد طلبوا منه أن يطرد هؤلاء المؤمنين من مجلسه ليجلسهم هم، وفي آية أخرى قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ٥٢ ﴾ ( الأنعام ).
فمن يسمع إنذاري، ويسمع بشارتي، ويأتي مجلسي، فعلى عيني أرافقه، فالله ما أرسلني لأخص ذوي الغنى دون الفقراء بمجلسي، إنما أرسلني لأبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله، وإن كان فقيرا.
وهكذا أعلنوا الحرب على نبي الله نوح، يقولون : لا فائدة من تحذيرك، وما زلت مصرا على دعوتك ﴿ لئن لم تنته.... ١٦ ﴾( الشعراء ) عما تدعيه من الرسالة، وما تقول به من تقوى الله وطاعته، وما تفعله من تقريب الأرذلين إلى مجلسك، لتكون جمهورا من صغار الناس، ﴿ لتكونن من المرجومين ١١٦ ﴾( الشعراء ) أي : إذا لم تنته فسوف نرجمك، إنه تهديد صريح للرسول الذي جاءهم من عند الله يدعوهم إلى الخير في الدنيا والآخرة.
كما قال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... ٢٤ ﴾( الأنفال ).
وهذا التهديد منهم لرسول الله دل على أنهم كانوا أقوياء، وأصحاب جاه وبطش.
تأمل هنا أدب نوح- عليه السلام- حين يشكو قومه إلى الله ويرفع إليه ما حدث منهم، كل ما قاله﴿ إن قومي كذبون ١١٧ ﴾ ( الشعراء ) ولم يذكر شيئا عن التهديد له بالرجم، وإعلان الحرب على دعوته، لماذا ؟ لأن ما يهمه في المقام الأول أن يصدقه قومه، فهذا هو الأصل في دعوته.
فإن كان الشيء مربوطا نزيل الإشكال ونفك الأربطة.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف :﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم... ٦٥ ﴾( يوسف ) أي : أزالوا الرباط عن متاعهم، هذا هو الفتح الحسي.
أما الفتح المعنوي فنزيل الأغلاق والأشكال المعنوية ليأتي الخير وتأتي البركة، كما في قوله سبحانه :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض... ٩٦ ﴾( الأعراف ).
وفي آية أخرى :﴿ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده.... ٢ ﴾( فاطر ).
والخير الذي يفتح الله به على الناس قد يكون خيرا ماديا، وقد يكون علما، كما في قوله تعالى :﴿ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم.... ٧٦ ﴾( البقرة ).
أي : من العلم في التوراة، يخافون أن يأخذه المؤمنون، ويجعلونه حجة على أهل التوراة إذا ما كان لهم الفتح والغلبة، فمعنى :﴿ بما فتح الله عليكم... ٧٦ ﴾( البقرة ) أي : بما علمكم من علم لم يعلموه هم.
وقد يكون الفتح بمعنى الحكم، مثل قوله سبحانه :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ٨٩ ﴾( الأعراف ).
ويكون الفتح بمعنى النصر، كما في قوله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ١ ﴾( النصر )
ثم يقول نوح عليه السلام :﴿ ونجني... ١١٨ ﴾( الشعراء ) من كيدهم وما يهددوني به من الرجم﴿ ومن معي من المؤمنين ١١٨ ﴾( الشعراء ) لأن الإيذاء قد يتعداه إلى المؤمنين معه،
﴿ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ١١٩ ﴾
وقد وردت قصة السفينة في الأعراف، وفي هود، ولنوح عليه السلام سورة خاصة هي سورة نوح مثل سورة محمد ؛ ذلك لأن له في تاريخ الرسالات ألف سنة إلا خمسين عاما، ويستحق أن يخصه الله تعالى بسورة باسمه.
لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلام، ويعيده عليك، تقول له ( هيه سورة ). فكلام العامة والأميين له أصل من استعمال اللغة.
وفي موضع آخر ذكر الحق- تبارك وتعالى- قصة صنع السفينة في قوله تعالى :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه... ٣٨ ﴾( هود ) وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة يصنعها الإنسان، وقد صنع نوح سفينته بأمر الله ووحيه وتحت عينه تعالى، وفي رعايته :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا... ٣٧ ﴾( هود ).
وما كان الله تعالى ليكلفه بصنع السفينة ثم يتركه، إنما تابعه، حتى إذا ما حدث خطأ نبهه إليه من البداية، كما قال تعالى لسيدنا موسى :﴿ ولتصنع على عيني٣٩ ﴾( طه ).
وبمثل هذه الآيات نرد على الذين يقولون : إن الله تعالى زاول سلطانه في ملكه مرة واحدة فخلق الخلق، ثم ترك القوانين تسيره، ولو كان الأمر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة { ميكانيكية )، لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدل على قيوميته تعالى على خلقه.
لذلك يقول لهم : ناموا ملء جفونكم، فإن لكم ربا لا ينام، كيف لا وأنت إذا استأجرت حارسا لمنزلك مثلا تنام مطمئنا اعتمادا على أنه يقظ ؟ وكيف إذا حرسك ربك عز وجل الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ؟ وألا يدل ذلك على قيوميته تعالى ؟.
هذه القيومية التي تنقض العزائم، وتفسخ القوانين، قيومية تقول للنار كوني بردا وسلاما فتكون، وتقول للماء : تجمد حتى تكون جبلا فيتجمد، تقول للحجر : انفلق فينفلق... ولو كان الأمر ( ميكانيكيا ) كما يقولون لما حدث هذا، ولما تخلف قانون واحد من قوانين الكون.
والمشحون : الذي امتلأ، ولم يبق به مكان خال، فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها، لأنها صنعت بحساب دقيق، لا يتسع إلا لمن كلف نوح بحملهم في سفينته، وكانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة ١ ومن كل حيوان زوجين اثنين.
والفلك المشحون يطلق ويراد به الواحدة، ويطلق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم... ٢٢ ﴾( يونس ).
وهم الكافرين الذين لم يركبوا معه، و﴿ بعد... ١٢٠ ﴾( الشعراء ) أي : بعد ما ركب من ركب، وبعد﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ١١ وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ١٢ ﴾( القمر )
والآية : الأمر العجيب الذي يجب الالتفات إليه والاعتبار به، لكن من سيعتبر بعد أن غرق الباقون ؟ سيعتبر بهذه الآية المؤمنون الذين ركبوا السفينة حين يرون نتيجة التكذيب، ومصير المكذبين الكافرين.
أي : ورغم كفرهم وتكذيبهم، ورغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين، فالله تعالى هو العزيز الذي يغلب ولا يغلب، وهو سبحانه الرحيم بعباده الذي يتوب على من تاب منهم.
﴿ كذبك عاد المرسلين ١٢٣ ﴾
وقال هنا أيضا﴿ المرسلين ١٢٣ ﴾( الشعراء ) لأن تكذيب رسول واحد تكذيب لكل الرسل ؛ لأنهم جميعا جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الأخلاق.
وعاد : اسم للقبيلة، وكانت القبائل تنسب إلى الأب الأكبر فيها، ولصاحب الشهرة والنباهة بين قومه، فعاد هو أبو هذه القبيلة، وقد يطلق عليهم بنو فلان أو آل فلان.
﴿ إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ١٢٤ ﴾
قلنا : إن( ألا ) للحث والحض، وحيث ينكر النفي ﴿ ألا تتقون ١٢٤ ﴾( الشعراء ) فإنه يريد الإثبات فكأنه قال : اتقوا. وقال﴿ أخوهم... ١٢٤ ﴾ ( الشعراء ) ليرقق قلوبهم ويحننهم إليه، وليعرفوا أنه واحد منهم ليس غريبا عنهم، فهو أخوهم، والأخ من دأبه النصح والشفقة والرحمة، وهذا إيناس للخلق.
وهذه المقولة لازمة من لوازم الرسل في دعوتهم، سبق أن قالها نوح عليه السلام.
وهذه المقولة لازمة من لوازم الرسل في دعوتهم، سبق أن قالها نوح عليه السلام.
قلنا : إن هذه العبارة أول من قالها نوح- عليه السلام- ثم سيقولها الأنبياء من بعده، لكن : لماذا لم يقل هذه العبارة إبراهيم ؟ ولم يقلها موسى ؟.
قالوا : لأن إبراهيم- عليه السلام- أول ما دعا دعا عمه آزر، فكيف يطلب منه أجرا ؟ وكذلك موسى –عليه السلام- أول دعوته دعا فرعون الذي رباه في بيته، وله عليه فضل وجميل، فكيف يطلب منه أجرا، وقد قال له :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ١٨ ﴾( الشعراء ).
لذلك لم تأت هذه المقولة على لسان أحد منهما.
وقال :﴿ إن أجري إلا على رب العالمين ١٢٧ ﴾( الشعراء ) لأن الرب هو الذي يتولى الخلق بالبذل والعطايا والإمداد، وقلنا : إن عدم أخذ الأجر ليس زهدا فيه، إنما طمعا في أن يأخذ أجره من الله، لا من الناس.
﴿ أتبنون بكل ريع آية تعبثون١٢٨ ﴾
وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود، والريع : هو المكان المرتفع، لذلك بعض الناس يقولون : كم ريع بنائك ؟ يعني : ارتفاعه كم مترا، فكأن الارتفاع يثمن البقعة، ويطلق الريع على الارتفاع في كل شيء١.
وكلمة﴿ آية... ١٢٨ ﴾( الشعراء ) بعد﴿ أتبنون... ١٢٨ ﴾( الشعراء ) تعني : القصور العالية التي تعتبر آية في الإبداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والاتساع والرفعة في العلو.
وقال ﴿ تعبثون١٢٨ ﴾( الشعراء ) لأنهم لم يخلدوا في هذه القصور، ومع ذلك يشيدونها لتبقى أجيالا من بعدهم، فعد هذا عبثا منهم ؛ لأن الإنسان يكفيه أقل بناء ليأويه فترة حياته.
أو﴿ تعبثون ١٢٨ ﴾( الشعراء ) لأنهم كانوا يجلسون في شرفات هذه القصور يصدون الناس، ويصرفونهم عن هود وسماع كلامه ودعوته التي تلفتهم إلى منهج الحق.
ونحن لم نر حضارة عاد، ولم نر آثارهم، كما رأينا مثلا آثار الفراعنة في مصر ؛ لأن حضارة عاد طمرتها الرمال، وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تسمى الآن بالربع الخالي ؛ لأنها منطقة من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها، لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله تعالى في سورة الفجر :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ٦ إرم ذات العماد ٧ التي لم يخلق مثلها في البلاد٨ ﴾( الفجر ).
وما دامت لم يخلق مثلها في البلاد، فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الآن، ويفد إليها الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الأهرام مثلا، وقد بنيت لتكون مجرد مقابر، ومع تقدم العلم في عصر الحضارة والتكنلوجيا، ما زال هذا البناء محيرا للعلماء، لم يستطيعوا حتى الآن معرفة الكثير من أسراره.
ومن هذه الأسرار التي اهتدوا إليها حديثا كيفية بناء أحجار الأهرام دون ملاط٢ مع ضخامتها، وقد توصلوا إلى أنها بنيت بطريقة تفريغ الهواء مما بين الأحجار، وهذه النظرية تستطيع ملاحظتها حين تضع كوبا مبللا بالماء على المنضدة مثلا، ثم تتركه فترة حتى يتبخر الماء من تحته، فإذا أردت أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة.
وليس عجيبا أن تختفي حضارة، كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال، فالرمال حين تثور تبتلع كل ما أمامها، حتى إنها طمرت قبيلة كاملة بجمالها ورجالها، وهذه هبة واحدة، فما بالك بثورة الرمال، وما تسفوه الريح طوال آلاف السنين ؟.
وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضا خصبة وآثارا عظيمة، كما نرى الاكتشافات الأثرية الآن كلها تحت الأرض، وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري هناك وجدوا آثارا لقصور ملوك سابقين.
وطالما أن الله تعالى قال عن عاد :﴿ أتبنون بكل ربع آية تعبثون١٢٨ ﴾( الشعراء ) فلا بد أن هناك قصورا ومباني مطمورة تحت هذه الرمال.
سورة الشعراء١
ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره.
الريع: الطريق، قاله قتادة والضحاك والكلبي ومقاتل والسدي، وابن عباس أيضا.
الريع: الفج بين الجبيلين، قاله مجاهد.
الريع: بنيان الحمام، دليله "تعبثون" أي: تلعبون، أي: تبنون بكل مكان مرتفع آية علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبرجها.(تفسير القرطبي ٧/٥٠٠٢-٥٠٠٣)..
٢ ملط الحائط: طلاه. والملاط: الطين الذي يجعل بين سافي البناء ويملط به الحائط(اسان العرب- مادة: ملط)..
المصانع تطلق على موارد الماء، وتطلق على الحصون، لماذا ؟.
قالوا : لأن الحصون لا تبنى للإيواء فقط ؛ لأن الإيواء يمنع الإنسان من هوام الحياة العادية، أما الحصون فتمنعه أيضا من الأعداء الشرسين الذين يتربصون به، فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة، لماذا ؟.
﴿ لعلكم تخلدون ١٢٩ ﴾( الشعراء ) يعني : أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوى المسلح تريدون الخلود ؟ وهل أنتم مخلدون في الحياة ؟ إن فترة مكث الإنسان في الدنيا يسيرة لا تحتاج كل هذا التحصين، فهي كظل شجرة، سرعان ما يزول.
سورة الشعراء١
والبطش : الأخذ بشدة وبعنف، يقول تعالى :﴿ إن بطش ربك لشديد١٢ ﴾( البروج ) ويقول :﴿ أخذ عزيز مقتدر٤٢ ﴾( القمر ).
لأن الأخذ يأخذ صورا متعددة : تأخذه بلين وبعطف وشفقة، أو تأخذه بعنف.
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بطشهم﴿ بطشتم جبارين ١٣٠ ﴾( الشعراء )
لأنك قد تأخذ عدوك بعنف، لكن بعد ذلك يرق له قلبك، فترحم ذلته لك، فتهون عليه وترحمه، لكن هؤلاء جبارون لا ترق قلوبهم.
خ
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود :﴿ أتبنون بكل ربع آية تعبثون ١٢٨ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ١٢٩ وإذا بطشتم بطشتم جبارين ١٣٠ ﴾( الشعراء )
هذه الصفات تخدم صفات التعالي، وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العلو التي تقربهم من الألوهية ؛ لأنه لا أحد أعلى من الحق سبحانه، ثم يريدون أيضا استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية :﴿ لعلكم تخلدون ١٢٩ ﴾( الشعراء ).
وفي صفة البطش الشديد والجبارية يريدون التفرد على الغير، والقرآن يقول :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا... ٨٣ ﴾( القصص )
فإن كنت تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة، فعليك أن تؤديها، لا للتعالي ؛ لأنك حينئذ ستأخذ حظك من العلو والغلبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة، أما إن فعلت وفي بالك ربك، وفي بالك أن تيسر للناس مصالح الحياة، فإنك ترقي عملك وتثمره، ويظل لك أجره، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أن تقوم الساعة، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان.
ولم يفعل قوم عاد شيئا من هذا، إنما طلبوا العلو في الأرض، وبطشوا فيها جبارين، لكن أيتركهم ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال ؟.
إن من رحمة الله تعالى بعباده أن يذكرهم كلما نسوا، ويوقظهم كلما غفلوا، فيرسل لهم الرسل المتوالين ؛ لأن الناس كثيرا ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ١٧٢ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ١٧٣ ﴾( الأعراف ).
وقلنا : إن الحق- تبارك وتعالى- يضع المناعة في خليفته في الأرض، ويعطيه المنهج الذي يصلحه، لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه، فينحرف عنه، والإنسان بطبيعته يحمل المناعة من الحق ضد الباطل وضد الشر، فإن فسدت فيه هذه المناعة فعلى الآخر أن يذكره ويوقظ فيه دواعي الخير. ومن هنا كان قوله تعالى :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر٣ ﴾( العصر ).
فإن وجدت أخاك على باطل فخذ بيده إلى الحق.
ومعنى ﴿ وتواصوا... ٣ ﴾( العصر ) أي : تبادلوا التوصية، فكل منكم عرضة للغفلة، وعرضة للانحراف عن المنهج، فإن غفلت أنا توصيني، وأن غفلت أنت أوصيك، وهذه المناعة ليست في الذات الآن، إنما في المجتمع المؤمن، فمن رأى فيه اعوجاجا قومه.
لكن ما الحال إن فسدت المناعة في الفرد وفسدت في المجتمع، فصار الناس لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، كما قال تعالى عن بني إسرائيل :
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... ٧٩ ﴾( المائدة ).
وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد، ومعجزة جديدة توقظ الناس، وتعيدهم إلى جادة ربهم.
ومن شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها، فجعلهم الله توابين، إن فعل أحدهم الذنب تاب ورجع، وإن لم يرجع وتمادى رده المجتمع الإيماني وذكره.
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة، كما ورد في الحديث : " الخير في وفي أمتى إلى يوم القيامة " ١.
لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المناعة ملازمة لها في الذات، وفي النفس اللوامة، وفي المجتمع الإيماني الذي لا يعدم فيه الخير أيدا.
لذلك يقول سبحانه :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ١١٠ ﴾( آل عمران ).
وهذه صفة تفردت بها هذه الأمة عن باقي الأمم ؛ لذلك يقول هود –عليه السلام- مذكرا لقومه وموقظا لهم :﴿ فاتقوا الله وأطيعون١٣١ ﴾
والبطش : الأخذ بشدة وبعنف، يقول تعالى :﴿ إن بطش ربك لشديد١٢ ﴾( البروج ) ويقول :﴿ أخذ عزيز مقتدر٤٢ ﴾( القمر ).
لأن الأخذ يأخذ صورا متعددة : تأخذه بلين وبعطف وشفقة، أو تأخذه بعنف.
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بطشهم﴿ بطشتم جبارين ١٣٠ ﴾( الشعراء )
لأنك قد تأخذ عدوك بعنف، لكن بعد ذلك يرق له قلبك، فترحم ذلته لك، فتهون عليه وترحمه، لكن هؤلاء جبارون لا ترق قلوبهم.
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود :﴿ أتبنون بكل ربع آية تعبثون ١٢٨ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ١٢٩ وإذا بطشتم بطشتم جبارين ١٣٠ ﴾( الشعراء )
هذه الصفات تخدم صفات التعالي، وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العلو التي تقربهم من الألوهية ؛ لأنه لا أحد أعلى من الحق سبحانه، ثم يريدون أيضا استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية :﴿ لعلكم تخلدون ١٢٩ ﴾( الشعراء ).
وفي صفة البطش الشديد والجبارية يريدون التفرد على الغير، والقرآن يقول :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا... ٨٣ ﴾( القصص )
فإن كنت تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة، فعليك أن تؤديها، لا للتعالي ؛ لأنك حينئذ ستأخذ حظك من العلو والغلبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة، أما إن فعلت وفي بالك ربك، وفي بالك أن تيسر للناس مصالح الحياة، فإنك ترقي عملك وتثمره، ويظل لك أجره، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أن تقوم الساعة، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان.
ولم يفعل قوم عاد شيئا من هذا، إنما طلبوا العلو في الأرض، وبطشوا فيها جبارين، لكن أيتركهم ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال ؟.
إن من رحمة الله تعالى بعباده أن يذكرهم كلما نسوا، ويوقظهم كلما غفلوا، فيرسل لهم الرسل المتوالين ؛ لأن الناس كثيرا ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ١٧٢ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ١٧٣ ﴾( الأعراف ).
وقلنا : إن الحق- تبارك وتعالى- يضع المناعة في خليفته في الأرض، ويعطيه المنهج الذي يصلحه، لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه، فينحرف عنه، والإنسان بطبيعته يحمل المناعة من الحق ضد الباطل وضد الشر، فإن فسدت فيه هذه المناعة فعلى الآخر أن يذكره ويوقظ فيه دواعي الخير. ومن هنا كان قوله تعالى :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر٣ ﴾( العصر ).
فإن وجدت أخاك على باطل فخذ بيده إلى الحق.
ومعنى ﴿ وتواصوا... ٣ ﴾( العصر ) أي : تبادلوا التوصية، فكل منكم عرضة للغفلة، وعرضة للانحراف عن المنهج، فإن غفلت أنا توصيني، وأن غفلت أنت أوصيك، وهذه المناعة ليست في الذات الآن، إنما في المجتمع المؤمن، فمن رأى فيه اعوجاجا قومه.
لكن ما الحال إن فسدت المناعة في الفرد وفسدت في المجتمع، فصار الناس لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، كما قال تعالى عن بني إسرائيل :
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... ٧٩ ﴾( المائدة ).
وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد، ومعجزة جديدة توقظ الناس، وتعيدهم إلى جادة ربهم.
ومن شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها، فجعلهم الله توابين، إن فعل أحدهم الذنب تاب ورجع، وإن لم يرجع وتمادى رده المجتمع الإيماني وذكره.
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة، كما ورد في الحديث :" الخير في وفي أمتى إلى يوم القيامة " ١.
لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المناعة ملازمة لها في الذات، وفي النفس اللوامة، وفي المجتمع الإيماني الذي لا يعدم فيه الخير أيدا.
لذلك يقول سبحانه :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ١١٠ ﴾( آل عمران ).
وهذه صفة تفردت بها هذه الأمة عن باقي الأمم ؛ لذلك يقول هود –عليه السلام- مذكرا لقومه وموقظا لهم :﴿ فاتقوا الله وأطيعون١٣١ ﴾
﴿ فاتقوا الله وأطيعون١٣١ ﴾
أي : أن ربكم –عز وجل – لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلال تعبثون بالآيات، وتتخذون مصانع تطلبون الخلود، وأنكم بطشتم جبارين، وها هو يدعوكم :﴿ فاتقوا الله وأطيعون ١٣١ ﴾ ( الشعراء ) فتقوى الله تعالى وطاعته كفيلة أن تذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم، بل وتبدله خيرا وصلاحا﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ﴾( هود )
وأنا حين أوصيكم بتقوى الله وطاعته، لا أوصيكم بهذا لصالحي أنا، فلا أقول لكم : اتقوني أو أطيعوني، ولن أنتفع من طاعتكم بشيء. كذلك الحق- تبارك وتعالى- غني عنكم وعن طاعتكم، لأن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخلق، فهو سبحانه متصف بالخلق قبل أن يخلق، وبالقدرة قبل أن يوجد المقدور عليه.... إلخ.
إذن : فوجودكم لم يزد شيئا في صفاته تعالى، وما كانت الرسالات إلا لمصلحتكم أنتم، فإذا لم تطيعوا أوامر الله، وتأخذوا منهجه، لأنه يفيدكم فأطيعوه جزاء ما أنعم عليكم من نعم لا تعد ولا تحصى، فالإنسان طرأ على كون أعد لاستقباله وهيئ لمعيشته، وخلق له الكون كله : سماء، فيها الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر، وأرضا فيها الخصب والماء والهواء، هذا كله قبل أن توجد أنت، فطاعتك لله- إذن- ليست تفضلا منك، إنما جزاء ما قدم لك من نعم.
وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي جعلت لخدمتك أطول عمرا منك، فالإنسان قد يموت يوم مولده، وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات، أما الشمس مثلا فعمرها ملايين السنين، وهي تخدمك دون سلطان لك عليها، ودون أن تتدخل أنت في حركتها.
﴿ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ١٣٢ ﴾
لم تعدد الآية ما أمدنا الله به، وتركت لنا أن نعدده نحن ؛ لأننا نعرفه جيدا ونعيشه، وندركه بكل حواسنا ومداركنا، فما من آلة عندك إلا وتحت إدراكها نعمة الله، بل عدة نعم، فالعين ترى المناظر، والأذن تسمع الأصوات، والأنف يشم الروائح، واليد تبطش... إلخ.
﴿ أمدكم بما تعلمون ١٣٢ ﴾( الشعراء ) فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعددوا نعم ربكم عليكم.
المراد بالأنعام : الضأن والماعز والإبل والبقر، ثمانية أزواج.
فإن قلت : فنحن نمر بديارهم، فلا نرى إلا خلاء تسفو فيه الرياح، نعم لقد كانت لهم جنات وعيون هي الآن تحت أطباق التراب ﴿ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا١ ٩٨ ﴾( مريم ).
أي : أن تقوى الله وطاعته لا تعد شكرا على نعمه فحسب، إنما أيضا تكون لكم وقاية من عذاب الآخرة، فلا تظنوا أنكم أخذتم نعم الله، ثم بإمكانكم الانفلات منه أو الهرب من لقائه، فلقاؤه حق لا مفر منه، ولا مهرب، فإن لم تخف السابق من النعم، فخف اللاحق من النقم.
﴿ قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ١٣٦ ﴾
وقولهم﴿ أوعظت... ١٣٦ ﴾ ( الشعراء ) دليل على أن الحق لا بد أن يظهر، ولو على ألسنة المكابرين، ولا يكون الوعظ إلا لمن علم حكما، ثم تركه، فيأتي الواعظ ليذكره به، فهو- إذن- مرحلة ثانية بعد التعليم، فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم، ثم غفلوا عنه.
وهؤلاء يقولون لنبيهم﴿ سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ١٣٦ ﴾( الشعراء ) يعني : أرح نفسك، فسواء علينا وعظك وعدم وعظك، ونلحظ أنهم قالوا :﴿ أم لم تكن من الواعظين ١٣٦ ﴾( الشعراء )
ولم يقولوا مثلا : سواء علينا أوعظت أم لم تعظ ؛ لأن نفي الوعظ يثبت له القدرة عليه.
إنما﴿ لم تكن من الواعظين ١٣٦ ﴾( الشعراء ) يعني : امتنع منك الوعظ نهائيا، وكأنهم لا يريدون مسألة الوعظ هذه أبدا، حتى في المستقبل لن يسمعوا له.
إن : بمعنى ما النافية، يعني : ما هذا الذي جئت به إلا﴿ خلق... ١٣٧ ﴾( الشعراء ) الأولين يعني : عادة من سبقوك واختلاقهم، يقصدون الرسل السابقين، كما قالوا :﴿ لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ٦٨ ﴾( النمل ).
وقالوا :﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء إن أنتم إلا تكذبون ١٥ ﴾( يس )
فوصفوا نبيهم، ومن سبقوه من الرسل بالكذب والاختلاق وإيجاد شيء لم يكن موجودا.
والخلق : صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، والصفات التي يكتسبها الإنسان لا تعطي مهارة من أول الأمر، بل تعطي مهارة بعد الدربة عليها، فتصير عند صاحبها كالحركة الآلية لا تحتاج منه إلا مجهود أو معاناة.
وسبق أن ضربنا مثلا بالصبي الذي يتعلم مثلا الحياكة، وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلم لضم الخيط في الإبرة، حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائيا، ودون مجهود وربما وهو مغمض العينين.
وأنت حينما تتعلم قيادة السيارة مثلا لأول مرة، كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار ؟ لكن بعد التدريب والدربة تستطيع قيادتها بمهارة، وكأنها مسألة آلية، وكذلك الخلق المعنوي، مثل هذه الدربة والآلية في الماديات.
إذن :﴿ خلق الأولين ١٣٧ ﴾( الشعراء ) يعني : دعوى ادعوها جميعا- أي : الرسل.
وفي قراءة أخرى١ توجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللام ( خلق ) أي : اختلاق والمعنى : نحن كمن سبقونا من الأمم لا نختلف عنهم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ٢٣ ﴾( الزخرف )
وهؤلاء السابقون قالوا :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر... ٢٤ ﴾( الجاثية ).
فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصلة في النفس، فلا تحاول زحزحتها عنها، فالمراد : نحن مثل السابقين لا نؤمن بمسألة البعث، فأرح نفسك، فلن يجدي معنا وعظك.
يقولونها صريحة ردا على قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ١٣٥ ﴾( الشعراء )
﴿ فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ١٣٩ ﴾
وكانت السماء قبل محمد صلى الله عليه وسلم تجعل الرسول يدلي بمعجزته، أو يقول بمنهجه، لكن لا تطلب منه أن يؤدب المعاندين والمعارضين له إنما تتولى السماء عنه هذه المهمة فتوقع بالمكذبين عذاب الاستئصال. وقد أمنت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال، فمن كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يأخذه الله كما أخذ المكذبين من الأمم السابقة، إنما يقول سبحانه :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم... ١٤ ﴾( التوبة ).
وكلمة﴿ فأهلكناهم... ١٣٩ ﴾( الشعراء ) كلمة صادقة، لها دليل في الوجود نراه شاخصا، كما يقول سبحانه :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد٦ إرم ذات العماد٧ التي لم يخلق مثلها في البلاد ٨ ﴾( الفجر ).
نعم، كانت لهم حضارة بلغت القمة، ولم يكن لها مثيل، ومع هذا كله ما استطاعت أن تصون نفسها، وأخذها الله أخذ عزيز مقتدر. قال تعالى :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ١٣٧ وبالليل أفلا تعقلون ١٣٨ ﴾( الصافات ).
وقال :﴿ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا... ٥٢ ﴾( النمل ).
أي : أنها شاخصة أمامكم ترونها وتمرون عليها، وأنتم لم تبلغوا مبلغ هذه الحضارة، فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أخذ الله العزيز المقتدر، فينبغي عليكم أن تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم، وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى.
لذلك تجد الحضارات التي تتوارث في الكون كلها آلت إلى زوال، ولم نجد منها حضارة بقيت من البداية إلى النهاية، ولو بنيت هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية... ١٣٩ ﴾( الشعراء ) أي : في إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم، يلفت الأنظار، ويدعو للتأمل :﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ١٣٩ ﴾( الشعراء ).
قال﴿ ربك... ١٤٠ ﴾( الشعراء ) ولم يقل ربهم ؛ لأن منزلة المربي تعظم في التربية بمقدار كمال المربي، فكأنه تعالى يقول ؛ أنا ربك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال، فمن أراد أن يرى قدرة الربوبية فليرها في تربيتك أنت، والمربي يبلغ القمة في التربية إن كان من رباه عظيما.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم :" أدبني ربي فأحسن تأديبي " ١.
إذن : فمن عظمة الحق- تبارك وتعالى- أن يعطي نموذجا لدقة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه، ولما يصنعه على عينه تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى الله عليه وسلم أكرم مخلوق مربى في الأرض ؛ لذلك قال ﴿ ربك... ١٤٠ ﴾( الشعراء ) ولم يقل : ربهم مع أن الكرم ما يزال متعلقا بهم.
وقوله تعالى :﴿ لهو العزيز الرحيم ١٤٠ ﴾ ( الشعراء ) العزيز قلنا : هو الذي يغلب ولا يغلب، لكن لا تظن أن في هذه الصفة جبروتا ؛ لأنه تعالى أيضا رحيم، ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يجمع بين هاتين الصفتين : عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلامي يربي الإسلام عليه أتباعه، ألا وهو الاعتدال فلا تطغى عليك خصلة أو طبع أو خلق، والزم الوسط ؛ لأن كل طبع في الإنسان له مهمة.
وتأمل قول الله تعالى في صفات المؤمنين :
﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ٥٤ ﴾( المائدة ).
فالمسلم ليس مجبولا على الذلة ولا على العزة، إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلا، أو يجعله عزيزا، فالمؤمن يتصف بالذلة والخضوع للمؤمنين، ويتصف بالعزة على الكافرين.
ومن ذلك أيضا :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ﴾( الفتح )
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها ضعف وخور، فمثلا الوالد الذي يرفض أن يجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفا عليه، نقول له : إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محله.
بعد أن ذكر طرفا من قصة إبراهيم وموسى ونوح وهود عليهم السلام ذكر قصة ثمود قوم صالح عليه السلام، وقد تكررت هذه اللقطات في عدة مواضع من كتاب الله ؛ ذلك لأن القرآن في علاجه لا يعالج أمة واحدة في بيئة واحدة بخلق واحد، إنما يعالج عالما مختلف البيئات ومختلف الداءات ومتخلف المواهب والميول.
فلا بد أن يجمع الله له الرسل كلهم، ليأخذ من كل واحد منهم لقطة ؛ لأنه سيكون منهجا للناس جميعا في كل زمان وفي كل مكان، أما هؤلاء الرسل الذين جمعهم الله في سياق واحد فلم يكونوا للناس كافة، إنما كل واحد منهم لأمة بعينها، ولقابل واحد في زمن مخصوص، ومكان مخصوص.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رسولا يجمع الدنيا كلها على نظام واحد، وخلق واحد، ومنهج واحد، مع تباين بيئاتهم، وتباين داءاتهم ومواهبهم. إذن : لا بد أن يذكر الحق- تبارك وتعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم طرفا من سيرة كل نبي سبقه.
لذلك قال سبحانه :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك... ١٢٠ ﴾( هود )
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حاجة لأن يثبت الله فؤاده مرة واحدة، إنما كلما تعرض لموقف احتاج إلى تثبيت، فيثبته الله، يقول له : تذكر ما كان من أمر إبراهيم، وما كان من أمر نوح وهود... إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت، فالقصة في القرآن وإن كانت في مجموعها مكررة، إنما لقطاتها مختلفة تؤدي كل منها معنى لا تؤديه الأخرى.
وهنا يقول سبحانه كما قال عن الأمم السابقة :﴿ كذبت ثمود المرسلين ١٤١ ﴾( الشعراء ) لأن الرسل جميعا إنما جاءوا بعقيدة واحدة، لا يختلف فيها رسول عن الآخر، وصدروا عن مصدر واحد، هو الحق تبارك وتعالى، ولا يختلف الرسل إلا في المسائل الاجتماعية والبيئية التي تناسب كلا منهم.
لذلك يقول تعالى :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى... ١٦٣ ﴾( النساء ).
وقال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... ١٣ ﴾( الشورى ).
﴿ إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ١٤٢ إني لكم رسول أمين ١٤٣ فاتقوا الله وأطيعون ١٤٤ ﴾
قال هنا أيضا :﴿ أخوهم... ١٤٢ ﴾( الشعراء ) ليرقق قلوبهم ويحننها على نبيهم﴿ ألا تتقون ١٤٢ ﴾( الشعراء ) قلنا : إنها استفهام إنكاري. تعني : اتقوا الله، ففيها حث وحض على التقوى، فحين تنكر النفي، فإنك تريد الإثبات.
فكأن العمل الذي أقدمه من أجلكم- في عرف العقلاء – يستحق أجرا، فالعامل الذي يعمل لكم شيئا جزئيا من مسائل الدنيا يزول وينتهي يأخذ أجرا عليه، أما أنا فأقدم لكم عملا يتعدى الدنيا إلى الآخرة، ويمد حياتكم بالسعادة في الدنيا والآخرة، فأجري- إذن- كبير ؛ لذلك لا أطلبه منكم إنما من الله.
يريد أن يوبخهم : أتظنون أنكم ستخلدون في هذا النعيم، وأنتم آمنون، أو أنكم تأخذون نعم الله، ثم تفرون من حسابه، كما قال سبحانه :
﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم وأنكم إلينا لا ترجعون ١١٥ ﴾( المؤمنون )
فمن ظن ذلك فهو مخطئ قاصر الفهم ؛ لأن الأشياء التي تخدمك في الحياة لا تخدمك لقدرة منك عليها، فأنت لا تقدر على الشمس فتأمرها أن تشرق كل يوم، ولا تقدر على السحاب أن ينزل المطر، ولا تقدر على الأرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت، ولا تقدر على الهواء الذي تتنفسه.... إلخ وهذه من مقومات حياتك التي لا تستطيع البقاء بدونها.
وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر : من الذي سخرها لك، وأقدرك عليها ؟ كالرجل الذي انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلاك، ثم أخذته سنة آفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، بالله، أليس عليه قبل أن تمتد يده إليها أن يسأل نفسه : من أعد لي هذه المائدة في هذا المكان ؟.
كذلك أنت طرأت على هذا الكون وقد أعد لك فيه كل هذا الخير، فكان عليك أن تنظر فيه، وفيمن أعده لك. فإذا جاءك رسول من عند الله ليحل لك هذا اللغز، ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو الله، وأن من صفات كماله كذا وكذا، فعليك أن تصدقه.
لأنه إما أن يكون صادقا يهديك إلى حل لغز حار فيه عقلك، وإما هو كاذب- والعياذ بالله وحاشا لله أن يكذب رسول الله على الله –فإن صاحب هذا الخلق عليه أن يقوم ويدافع عن خلقه، ويقول : هذا الرسول مدع وكاذب، وهذا الخلق لي. فإذا لم يقم للخلق مدع فقد ثبتت القضية لله تعالى إلى أن يظهر من يدعيها لنفسه.
وقوله تعالى :﴿ في جنات وعيون ١٤٧ ﴾( الشعراء ) امتداد للآية السابقة، يعني : لا تظنوا أن هذا يدوم لكم. و( جنات ) : جمع جنة، وهي المكان المليء بالخيرات، وكل ما يحتاجه الإنسان، أو هي المكان الذي إن سار فيه الإنسان سترته الأشجار ؛ لأن جن يعني ستر. كما في قوله تعالى :﴿ فلما جن عليه الليل... ٧٦ ﴾( الأنعام ) أي : ستره.
ومنه الجنون. ويعني : ستر العقل. وكذلك الجنة، فهي تستر عن الوجود كله، وتغنيك عن الخروج منها إلى غيرها، ففيها كل ما تتطلبه نفسك، وكل ما تحتاجه في حياتك.
ومن ذلك ما نسميه الآن ( قصرا ) لأن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد.
وقال بعدها :﴿ وعيون ١٤٧ ﴾( الشعراء ) لأن الجنة تحتاج دائما إلى الماء، فقال﴿ وعيون ١٤٧ ﴾( الشعراء ) ليضمن بقاءها.
﴿ وزروع ونخل طلعها هضيم ١٤٨ ﴾
النخل من الزروع، لكن خص النخل بالذكر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتم به، وشبهه بالمؤمن في الحديث :" إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها " ١ قال الراوي : فوقع الناس في شجر البوادي، ولم يهتدوا إليها، فلما خرج عمر وابنه عبد الله قال : يا أبي، لقد وقع في ظني أنها النخلة ؛ لأنها مثل المؤمن كل ما فيه خير.
نعم لو تأملت النخلة لوجدت أن كل شيء فيها نافع، وله مهمة، وينتفع الزارع به، ولا يلقى منها شيء مهما كان بسيطا. فالجدوع تصنع منها السواري والأعمدة، وتسقف بها البيوت قبل ظهور الخرسانة، ومن الجريد يصنعون الأقفاص، والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى ( القحف ) والذي لا يصلح للأقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين، فيصير ( مقشة ) يكنسون بها المنازل.
ومن الليف يصنعون الحبال، ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها، حتى الأشواك التي تراها في جريد النخل خلقه الله لحكمة وبقدر ؛ لأنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها، والليف الذي ينمو بين أصول الجريد جعله الله حماية للنخلة، وهي في طور النمو، وما تزال غضة طرية، فلا يحمى بعضها على بعض.
إذا : هي شجرة خيرة كالمؤمن، وقد تم أخيرا في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى بالقحف، وجعلوه في تربة مناسبة، فأنبتوا منه نخلة جديدة.
لذلك لما قال ابن عمر : إنها النخلة- ذهب عمر إلى رسول الله، وحكى له مقالة ولده، فقال صلى الله عليه وسلم :" صدق ولدك " فقال عمر :( فوالله ما يسرني أن فطن ولدي إليها أن لي حمر النعم )٢.
والذين يزرعون النخيل يرون فيه آيات وعجائب دالة على قدرة الله تعالى.
ومعنى﴿ طلعها هضيم١٤٨ ﴾( الشعراء ) الطلع : هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الأنثى ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر، والتي قال عنها :﴿ قنوان دانية... ٩٩ ﴾( الأنعام )
وفي الذكر يخرج من الكوز المادة المخصبة للنخلة، وللقنوان أو الشماريخ أطوار في النمو يسمونه ( الخلا )، فيظل ينمو ويكبر إلى أن يصل إلى نهايته حدا حيث يجمد على هذه الحالة، ويكتمل نموه الحجمي، ثم تبدأ مرحلة اللون.
يقولون( عفر ) النخل : يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة٣. فإذا اكتمل احمرار الأحمر واصفرار الأصفر، يسمى( بسر ) ثم يتحول البسر إلى ( الرطب ) حيث تلين ثمرته وتنفصل قشرته، فإن كان الجو جافا فإن الرطب ييبس، ويتحول إلى ( التمر ) حيث تتبخر مائيته، وتتماسك قشرته، وتلتصق به.
ومعنى﴿ هضيم١٤٨ ﴾( الشعراء ) يعني : غض ورطب طري، وهذا يدل على خصوبة الأرض، ومنه هضم الطعام حتى يصير لينا مستساغا.
٢ قال ابن عمر لأبيه عمر: ذكرت ذلك لعمر، قال:" لأن تكون قلت: هي النخلة، أحب إلي من كذا وكذا" وهو لفظ مسلم، وفي رواية عند أحمد(٢/١٢٣) أن عمر قال لابنه:"يا بني، ما منعك أن تتكلم، فو الله لأن تكون قلت ذلك أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا"..
٣ العفار: تلقيح النخل وإصلاحه، وعفر النخل: فرغ من تلقيحه.(لسان العرب –مادة: عفر).
﴿ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ١ ١٤٩ ﴾
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الأنفاق مثلا، لا يبنونها كما نبني بيوتنا، ومعنى ﴿ فارهين ١٤٩ ﴾( الشعراء ) الفاره : النشط القوي ظاهر الموهبة، يقولون : فلان فاره في كذا يعني ؛ ماهر فيه، نشط في ممارسته.
فرهين: بغير ألف، قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع.
فارهين. بألف. وهي قراءة الباقين. قاله القرطبي في تفسيره (٧/٥٠٠٩). قال أبو عبيد وغيره: وهما بمعنى واحد. وقال الفراء: معنى فارهين: حاذقين. والفره: النشيط الأشر. والفراهة: النشاط.(انظر لسان العرب-مادة: فره).
.
المسرف : هو الذي يتجاوز الحد، وتجاوز الحد له مراحل ؛ لأن الله تعالى أحل أشياء، وحرم أشياء، وجعل لكم حدودا مرسومة، فالسرف فيما شرع الله أن تتجاوز الحلال، فتدخل فيه الحرام.
أو : يأتي الإسراف في الكسب فيدخل في كسبه الحرام، وقد يلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرمه الله. إذن : يأتي الإسراف في صور ثلاثة : إما في الأصل، وإما في الكسب، وإما في الإنفاق.
ونلحظ أن الحق –تبارك وتعالى- حينما يكلمنا عن الحلال، يقول سبحانه :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها... ٢٢٩ ﴾( البقرة ) أما في المحرمات فيقول سبحانه :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها... ١٨٧ ﴾( البقرة ) أي : ابتعد عنها ؛ لأنك لا تأمن الوقوع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فلم يقل الحق سبحانه مثلا : لا تصلوا وأنتم سكارى. إنما قال :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى... ٤٣ ﴾( النساء ).
والمعنى : خذ الحلال كله، لكن لا تتعداه إلى المحرم، أما المحرم فاحذر مجرد الاقتراب منه ؛ لأن له دواعي ستجذبك إليه.
ونقف عند قوله تعالى :﴿ ولا تطيعوا أمر المسرفين ١٥١ ﴾( الشعراء ) حيث لم يقل : ولا تسرفوا، وكأن ربنا-عز وجل-يريد أن يوقظ غفلتنا وينبهنا ويحذرنا من دعاة الباطل الذين يزينون لنا الإسراف في أمور حياتنا، ويهونون علينا الحرام يقولون : لا بأس في هذا، ولا مانع من هذا، وهذا ليس بحرام. ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالاتهم.
لذلك جاء في الحديث الشريف :" استفت قلبك، واستفت نفسك، وإن أفتوك، وإن أفتوك، وإن أفتوك " ١.
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يفتون بغير علم، ويزينون للناس الباطل، ويقنعونهم به، والفتوى من الفتوة والقوة، ومنه قوله تعالى :﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ٦٠ ﴾( الأنبياء ).
وقوله تعالى :﴿ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ١٣ ﴾( الكهف ).
كذلك الفتوى تعني : القوة في أمر الدين والتمكن من مسائله وقضاياه، وإن كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حد تنتهي عنده فإن القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حد، لأن الدين أمده واسع، وبحره لا ساحل له. والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين.
نقول : فلان فتى يعني : قوي بذاته، وأفتاه فلان أي : أعطاه القوة، كأنه كان ضعيفا في حكم من أحكام الشرع، فذهب إلى المفتى فأفتاه يعني : أعطاه فتوة في أمر الدين. مثل قولنا : غنى فلان أي : بذاته، وأغناه أي : غيره، كما يقول سبحانه :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله... ٧٤ ﴾( التوبة ).
إذن : فمهمة المفتي أن يقوي عقيدتي، لا أن يسرف لي في أمر من أمور الدين، أو يهون علي ما حرم الله فيجرئني عليه، وعلى المفتي أن يتحرى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلها، والبعض بحرمتها، يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف :
" الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك ما شبه له – لا من فعل ما شبه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة- فقد استبرأ لدينه –إن كان متدينا – وعرضه- إن لم يكن متدينا " ٢.
إذن : من لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرئ لدينه ولا لعرضه. ومن لم يفت على هذا الأساس من العلماء فإنما يضعف أمر الدين لا يقويه، وبدل أن نقول : أفتاه. نقول : أضعفه.
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٢٠٥١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير..
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين، كأن الأرض خلقها الخالق- عز وجل- على هيئة الصلاح في كل شيء، لكن يفسدها الإنسان بتدخله في أمورها ؛ لذلك سبق أن قلنا : إنك لو نظرت إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال، وفي منتهى الاستقامة، طالما لا تتناوله يد الإنسان، فإن تدخل الإنسان في شيء ظهرت فيه علامات الفساد.
ولا يعني ألا يتدخل الإنسان في الكون، لا، إنما يتدخل على منهج من خلق فيزيد الصالح صلاحا، أو على الأقل يتركه على صلاحه لا يفسده، فإن تدخل على غير هذا المنهج فلا بد له أن يفسد.
فحين تمر مثلا ببئر ماء يشرب منه الناس، فإما أن تصلح من حاله وتزيده ميزة وتيسر استخدامه على الناس، كأن تبنى له حافة، أو تجعل عليه آلة رفع تساعد الناس، أو على الأقل تتركه على حاله لا تفسده ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ٢٠٥ ﴾( البقرة ).
أما هؤلاء القوم فلم يكتف القرآن بوصفهم بالفساد وحسب، إنما أيضا هم﴿ ولا يصلحون ١٥٢ ﴾( الشعراء ) ذلك لأن الإنسان قد يفسد في شيء، ويصلح في شيء، إنما هؤلاء دأبهم الفساد، ولا يأتي منهم الصلاح أبدا.
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يرونها في ظاهرها صلاحا، وهي عين الفساد ؛ لأنهم لم يأخذوها بكل تقنياتها القيمية، وانظر مثلا إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا : إنها فتح علمي، وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع، وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالا على البشرية كلها، حيث تسمم الزرع وتسمم الحيوان، وبالتالي الإنسان، حتى الماء والتربة والطيور، لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله.
وفي هؤلاء قال تعالى :
﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا١٠٣ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ١٠٤ ﴾( الكهف ).
﴿ قالوا إنما أنت من المسحرين ١٥٣ ﴾
﴿ المسحرين ١٥٣ ﴾ ( الشعراء ) جمع مسحر، وهي صيغة مبالغة تدل على وقوع السحر عليه أكثر من مرة، نقول : مسحور يعني : مرة واحدة ومسحر يعني عدة مرات، ومن ذلك قوله تعالى عن ملأ فرعون أنهم قالوا له :﴿ وابعث في المدائن حاشرين٣٦ يأتوك بكل سحار عليم ٣٧ ﴾( الشعراء )
ولم يقل : بكل ساحر، إنما سحار يعني : هذه مهنته، وكما تقول : ناجر ونجار، وخائط وخياط.
وإن كان بعضهم قال عن نبيهم :﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ٤٧ ﴾( الإسراء ) فهؤلاء يقولون لنبيهم﴿ إنما أنت من المسحرين ١٥٣ ﴾ ( الشعراء ) وعجيب أمر أهل الباطل ؛ لأنهم يتخبطون في هجومهم على الأنبياء، فمرة يقولون : ساحر. ومرة يقولون : مسحور، كيف والساحر لا يكون مسحورا ؛ لأنه على الأقل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر. قالوا : بل المراد بالمسحور اختلاط عقله، حتى إنه لا يدري ما يقول.
ثم إن نبيكم صالحا- عليه السلام- إن كان مسحورا فمن سحره ؟ أنتم أم أتباعه ؟ إن كان سحره منكم فأنتم تقدرون على كف سحركم عنه، حتى يعود إلى طبيعته، وترونه على حقيقته، وإن كان من أتباعه، لا بد أنهم سيحاولون أن يعينوه على مهمته، لا أن يقعدوه عنها.
إذن : فقولهم لنبيهم :﴿ إنما أنت من المسحرين ١٥٣ ﴾( الشعراء ).
يريدون أن يخلصوا إلى عدم اتباعه هو بالذات، فهم يريدون تدينا على حسب أهوائهم، يريدون عبادة إله لا تكليف له ولا منهج. كالذين يعبدون الأصنام وهم سعداء بهذه العبادة، لماذا ؟.
لأن آلهتهم لا تأمرهم بشيء ولا تنهاهم عن شيء. لذلك، فكل الدجالين ومدعو النبوة رأيناهم يخففون التكاليف عن أتباعهم، فقديما أسقطوا عن الناس الزكاة، وحديثا أباحوا لهم الاختلاط، فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخلوة بها والرقص معها، وماذا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين ؟.
فإن قالوا : ساحر، نرد عليهم : نعم هو ساحر، قد سحر من آمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي هذه المسألة ؟ إذن : هذه تهم لا تستقيم، لا هو ساحر، ولا هو مسحور، إنه مجرد كذب وافتراء على أنبياء الله، وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان.
﴿ ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ١٥٤ ﴾
وقولهم :﴿ ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ١٥٤ ﴾( الشعراء ) إذن : فوجه اعتراضهم أن يكون النبي بشرا، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ٩٤ ﴾( الإسراء ).
ولو بعث الله لهم ملكا لجاءهم على صورة بشر، وستظل الشبهة قائمة، فمن يدريكم أن هذا البشر أصله ملك ؟ ﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾( الأنعام ).
فالمعنى : مادام أن الرسول بشر، لا يمتاز علينا في شيء فنريد منه أن يأتينا بآية يعني : معجزة تثبت لنا صدقه في البلاغ عن ربه﴿ إن كنت من الصادقين ١٥٤ ﴾( الشعراء )
﴿ قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ١٥٥ ﴾
هذه إجابة لهم ؛ لأنهم طلبوا من نبيهم أن يخرج لهم من الصخرة١ ناقة تلد سقبا لا يكون صغيرا كولد الناقة، إنما تلد سقبا في نفس حجمها، فأجابهم﴿ قال هذه ناقة لها شرب... ١٥٥ ﴾( الشعراء ) يعني : يوم تشرب فيه، لا يشاركها في شربها شيء من مواشيكم.
﴿ ولكم شرب يوم معلوم ١٥٥ ﴾( الشعراء ) أي : تشربون فيه أنتم، وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كل مواشيهم في يومهم، وهذه معجزة في حد ذاتها.
﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم ١٥٦ ﴾
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون، وأن القوم لن يتركوا هذه الآية، إنما سيعرضون لها بالإيذاء، فقال :﴿ ولا تمسوها بسوء... ١٥٦ ﴾( الشعراء ) لكنهم تعدوا مجرد الإيذاء والإساءة فعقروها.
ثم يتوعدهم :﴿ فيأخذكم عذاب يوم عظيم ١٥٦ ﴾( الشعراء ).
﴿ فعقروها فأصبحوا نادمين ١٥٧ ﴾
قال( عقروها ) بصيغة الجمع، فهل اشتركت كل القبيلة في عقرها : لا بل عقرها واحد منهم، هو قدار بن سالف١، لكن وافقه الجميع على ذلك، وساعدوه٢، وارتضوا هذا الفعل، فكأنهم فعلوا جميعا ؛ لأنه استشارهم فوافقوا.
﴿ فأصبحوا نادمين١٥٧ ﴾( الشعراء ) وقال العلماء : الندم مقدمة التوبة.
فإن قلت : كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا، والندم من مقدمات التوبة ؟.
نعم، الندم من مقدمات التوبة، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن.... ١٨ ﴾( النساء )
إذن : ندموا وتابوا في غير أوان التوبة، أو : أنهم أصبحوا نادمين لا ندم توبة من الذنب، إنما نادمون ؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إن فعلوا.
٢ انطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغووه غواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى فيهم﴿وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ٤٨﴾(النمل).
﴿ فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ١٥٨ ﴾
فإن قلت : كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا، والندم من مقدمات التوبة ؟.
نعم، الندم من مقدمات التوبة، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن.... ١٨ ﴾( النساء )
إذن : ندموا وتابوا في غير أوان التوبة، أو : أنهم أصبحوا نادمين لا ندم توبة من الذنب، إنما نادمون ؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إن فعلوا.
﴿ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ١٥٩ ﴾
عزيز : يغلب ولا يغلب، ومع ذلك هو رحيم في غلبه.
﴿ كذبت قوم لوط١ المرسلين ١٦٠ إذ قال لهم أخوهم لوط لا تتقون ١٦١ ﴾
فقال هنا أيضا ﴿ أخوهم... ١٦١ ﴾( الشعراء ) لأنه منهم ليس غريبا عنهم، وليحنن قلوبهم عليه﴿ ألا تتقون ١٦١ ﴾( الشعراء ) إنكار لعدم التقوى، وإنكار النفي يطلب الإثبات فكأنه قال : اتقوا الله.
﴿ كذبت قوم لوط١ المرسلين ١٦٠ إذ قال لهم أخوهم لوط لا تتقون ١٦١ ﴾
فقال هنا أيضا ﴿ أخوهم... ١٦١ ﴾( الشعراء ) لأنه منهم ليس غريبا عنهم، وليحنن قلوبهم عليه﴿ ألا تتقون ١٦١ ﴾( الشعراء ) إنكار لعدم التقوى، وإنكار النفي يطلب الإثبات فكأنه قال : اتقوا الله.
وهكذا كانت مقالة لوط عليه السلام كما قال إخوانه السابقون من الرسل ؛ لأنهم يصدرون جميعا عن مصدر واحد.
﴿ أتأتون الذكران من العالمين ١٦٥ ﴾
فكأنها مسألة وخصلة تفردوا بها دون العالم كله.
لذلك قال في موضع آخر :﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ٨٠ ﴾( الأعراف )
أي : أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة ؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، ولكنهم فعلوها، فوصفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.
يعني : كان عندكم مندوحة عن هذه الفعلة النكراء بما خلق الله لكم من أزواجكم من النساء، فتصرفون هذه الغريزة في محلها، ولا تنقلونها إلى الغير.
أو﴿ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم... ١٦٦ ﴾ ( الشعراء ) أي : أنهم كانوا يباشرون هذه المسألة أيضا مع النساء في غير محل الاستنبات، فقوله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم... ٢٢٣ ﴾ ( البقرة ).
البعض يظنها على عمومها وأن﴿ أنى شئتم... ٢٢٣ ﴾( البقرة ) تعطيهم الحرية في هذه المسألة، إنما الآية محددة بمكان الحرث واستنبات الولد، وهذا محله الأمام لا الخلف.
لذلك قال بعدها :﴿ بل أنتم قوم عادون ١٦٦ ﴾( الشعراء ) والعادي هو الذي شرع له شيء يقضي فيه إربته، فتجاوزه إلى شيء آخر حرمه الشرع.
﴿ قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ١٦٧ ﴾
أي : إن لم تنته عن ملامنا ومعارضتنا فيما نفعله من هذه العملية ﴿ لتكونن من المخرجين ١٦٧ ﴾( الشعراء ) كما قالوا في آية أخرى :﴿ أخرجوا آل لوط من قريتكم... ٥٦ ﴾( النمل ) أي : لا مكان لهم بيننا، لكن لماذا ؟ ﴿ إنهم أناس يتطهرون ٥٦ ﴾( النمل ) سبحان الله جريمتهم أنهم يتطهرون، ولا مكان للطهر بين هؤلاء القوم الأراذل.
﴿ قال إني لعملكم من القالين ١٦٨ ﴾
وفرق بين كوني لا أعمل العمل، وكوني أكره من يعمله، فالمعنى : أنا لا أعمل هذا العمل، إنما أيضا أكره من يعمله، وهذا مبالغة في إنكاره عليهم.
﴿ رب نجني وأهلي مما يعملون ١٦٩ فنجيناه وأهله أجمعين ١٧٠ إلا عجوزا في الغابرين ١٧١ ﴾
لم يملك لوط عليه السلام أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إلا أن يدعو ربه بالنجاة له ولأهله، .
﴿ رب نجني وأهلي مما يعملون ١٦٩ فنجيناه وأهله أجمعين ١٧٠ إلا عجوزا في الغابرين ١٧١ ﴾
لم يملك لوط عليه السلام أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إلا أن يدعو ربه بالنجاة له ولأهله،.
والمراد : امرأته التي قال الله في حقها :﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط.... ١٠ ﴾( التحريم ).
فجعلها الله- عز وجل – مثالا للكفر والعياذ بالله ؛ لذلك لم تكن من الناجين، ولم تشملها دعوة لوط عليه السلام، وكانت من الغابرين ١. يعني : الهالكين.
﴿ الآخرين ١٧٢ ﴾( الشعراء ) أي : الذين لم يؤمنوا بدعوته، ولم ينتهوا عن هذه الفاحشة.
كما جاء في آية أخرى :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها.... ٢٥ ﴾( الأحقاف )
وهذا يسمونه( يأس بعد إطماع )، وهو أبلغ في العذاب والإيلام، حتى تستشرف للخير فيفاجئك الشر، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شربة ماء، ليروي بها عطشه، فلو حرمه الحارس من البداية لكان الأمر هينا لكن يحضر له كوب الماء، حتى إذا جعله على فيه أراقه على الأرض، فهذا أشد وأنكى ؛ لأنه حرمه بعد أن أطعمه، وهذا عذاب آخر فوق عذاب العطش.
وفي لقطة أخرى بين ماهية هذا المطر، فقال :﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود٨٢ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ٨٣ ﴾( هود )
فالحجارة من ﴿ سجيل... ٨٢ ﴾( هود ) أي : طين حرق حتى تحجر وهي ﴿ مسومة.... ٨٣ ﴾( هود ) يعني : معلمة بأسماء أصحابها، تنزل عليهم بانتظام، كل حجر منها على صاحبه.
وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة.
وتختم القصة بنفس الآيات التي ختمت بها القصص السابقة من قصص المكذبين المعاندين.
﴿ كذب أصحاب الأيكة١ المرسلين ١٧٦ ﴾
الأيكة : هي المكان الخصب الذي بلغ من خصوبته أن تلتف أشجاره، وتتشابك أغصانها، وقال هنا أيضا﴿ المرسلين ١٧٦ ﴾( الشعراء ) مع أنهم ما كذبوا إلا رسولهم ؛ لأن تكذيب رسول واحد كتكذيب كل الرسل ؛ لأنهم جميعا جاءوا بمنهج واحد في العقيدة والأخلاق.
نلحظ اختلاف الأسلوب هنا، مما يدل على دقة الأداء القرآني، فلم يقل : أخوهم شعيب، كما قال في نوح وهود وصالح ولوط، ذلك لأن شعيبا عليه السلام لم يكن من أصحاب الأيكة، إنما كان غريبا عنهم.
وباقي الآيات متفقة تماما مع من سبقه من إخوانه الرسل ؛ لأن الوحدة في المنهج العقدي أنتجت الوحدة في علاج المنهج ؛ لذلك قرأنا هذه الآيات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم.
ثم يأخذ في تفصيل الأمر الخاص بهم ؛ لأن كل أمة من الأمم التي جاءها الرسول من عند الله إنما جاء ليعالج داء خاصا تفشى بها، وكانت الأمم من قبل منعزلة، بعضها عن بعض، ولا يوجد بينها وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لأخرى.
فهؤلاء قوم عاد، وكان داءهم التفاخر بالبناء والتعالي على الناس، فجاء هود- عليه السلام- ليقول لهم :
﴿ أتبنون بكل ريع آية تعبثون ١٢٨ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ١٢٩ وإذا بطشتم بطشتم جبارين ١٣٠ ﴾( الشعراء )
وثمود كان داءهم الغفلة والانصراف بالنعمة عن المنعم، فجاء صالح- عليه السلام- يقول لهم :﴿ أتتركون في ما ههنا آمنين ١٤٦ في جنات وعيون ١٤٧ وزروع ونخل طلعها هضيم١٤٨ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ١٤٩ ﴾( الشعراء )
أما قوم لوط-عليه السلام- فقد تفردوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، وهي إتيان الذكران، فجاء لوط- عليه السلام – ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والإقلاع :
﴿ أتأتون الذكران من العالمين ١٦٥ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ١٦٦ ﴾( الشعراء )
﴿ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ١٨١ وزنوا بالقسطاس المستقيم ١٨٢ ﴾
الكيل : آلة تقدر بها الأشياء التي تكال، ووحدته : كيلة أو قدح أو أردب. والميزان كذلك : آلة يقدر بها ما يوزن.
ومعنى﴿ ولا تكونوا من المخسرين ١٨١ ﴾( الشعراء ) المخسر : هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر في مسألة الكيل، بأن يأخذ بالزيادة، وإن أعطى يعطي بالنقصان.
والقسطاس : يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحري الدقة في الوزن، مع مراعاة اختلاف الموزونات، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلا، غير وزن العدس أو السمسم، فعليك أن تتحرى الدقة قدر إمكانك، لتحقق هذا القسطاس المستقيم.
لكن، لماذا خص الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم، ولم يذكر مثلا القياس في المساحات والمسافات بالمتر أو بالذراع ؟.
قالوا : لأن الناس قديما – وكانت أمما بدائية- لا تتعامل فيما يقاس، فلا يشترون القماش مثلا ؛ لأنه كان يغزل، تغزله النساء ويغزله الرجال، ولم يكن أحد يغزل لأحد أو يبيع له، فهذه صورة حضارية رأيناها فيما بعد.
وقديما، كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة، وفي هذه الحالة لا يوجد بائع على حدة ولا مشتر على حدة، فلا يتفرد البائع بالبيع، والمشتري بالشراء، إلا في حالة مبادلة السلعة بالثمن، كما قال تعالى :﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة... ٢٠ ﴾( يوسف ) أي : باعوه.
أما في حالة المقايضة، فأنت تأخذ القمح تأكله، وأنا آخذ التمر آكله، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة، فإن قدرت أن كل واحد في الصفقة بائع ومشتر. تقول : شرى وباع. وإن قدرت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعا مباشرا كالذهب والفضة، أو أي معدن آخر، وهذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن، أما الأشياء الأخرى فصالحة أن تكون سلعة، وصالحة لأن تكون ثمنا.
وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي " سورة المطففين " يقول سبحانه :﴿ ويل للمطففين ١ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ٢ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ٣ ﴾( المطففين ).
نقول : كال له يعني : أعطاه، واكتال عليه يعني : أخذ منه. فإن أخذ أخذ وافيا، وإن أعطى أعطى بالنقص والخسارة. والقرآن لا ينعى عليه الا يستوفي حقه، لكن ينعى عليه أن ينقص من حق الآخرين، ولو شيئا يسيرا.
فمعنى( المطففين ) من الشيء الطفيف اليسير، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف، فما بال من يظلم في الكل ؟.
فاللوم هنا لمن يجمع بين هذين الأمرين : يأخذ بالزيادة ويعطي بالنقص، أما من يعطي بالزيادة فلا بأس، وجزاؤه على الله، وهو من المحسنين الذين قال الله فيهم :﴿ ما على المحسنين من سبيل... ٩١ ﴾( التوبة ).
ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمون بقياس دقة آلات الكيل والوزن والقياس، فوجدت هيئات متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة دقتها ؛ لأنها مع مرور الزمن عرضة للنقص أو الزيادة، فمثلا سنجة الحديد- التي نزن بها قد تزيد إن كانت في مكان بحيث تتراكم عليها الزيوت والتراب، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت، كما تنقص مثلا أكرة الباب من كثرة الاستعمال، فتراها لامعة، ولمعانها دليل النقص، وإن كان يسيرا.
وفي فرنسا، نموذج للياردة وللمتر من معدن لا يتآكل، جعلت كمرجع يقاس عليه، وتضبط عليه آلات القياس.
ورأينا الآن آلات دقيقة جدا للوزن وللقياس، تضمن لك منتهى الدقة، خاصة في وزن الأشياء الثمينة ؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج، حتى لا تؤثر فيه حركة الهواء من حوله.
﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا١ في الأرض مفسدين ١٨٣ ﴾
البخس : النقص، ومعنى﴿ أشياءهم... ١٨٣ ﴾( الشعراء ) حقوقهم إذن، فالنقص من حق الغير ذنب، وقد يكون البخس بأخذ الشيء كله غصبا، أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه، أو على وجه لا يرضاه.
وهذا كله داخل في﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم... ١٨٣ ﴾ ( الشعراء ) كل ما ينقص الحق بأخذه بإنقاص. أو غصب أو تصرف على غير إرادة صاحبه فهو بخس للشيء.
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أن تعتدي عليه، فالزكاة مثلا حينما يقول ربك- عز وجل- :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم ٢٤ للسائل والمحروم ٢٥ ﴾( المعارج ).
فما دام قد قيده الشرع، فلا تبخس أنت حق الفقير، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من مالك للفقير، تجد أنه وضع بحكمة تراعي مدى حركة الممول، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله، حتى وجبت فيه الزكاة.
فكلما زادت حركتك قل مقدار الزكاة في مالك، فمثلا الأرض التي تسقى بماء المطر فيها العشر، والتي تسقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر، وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال ربع العشر، ذلك لأن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الأموال، حتى لا يأتي من يقول : كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي ؟.
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء، فإنما يحمي به الفقراء والأغنياء على حد سواء. وقد حدد الشارع هذا الحق، حتى لا تزهد في العطاء، خاصة في الزكاة.
إن منهج الله يريد أن يصوب حركة الحياة من الأحياء، يريد ألا يجري دم في جسد إلا بخروج عرق هذا الجسد، وألا يدخل دم في جسد من عرق سواه، وإلا فسد المجتمع، وضن كل قادر على الحركة بحركته ؛ لأنه لا يطمئن إلى ثمار حركته أنها لا تعود عليه، أو أن غيره سيغتصبها منه بأي لون من ألوان الاغتصاب.
عندها يفسد المجتمع ؛ لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد، والآخذ سيتعود البطالة والكسل والخمول، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل، وتثقل عليه الحركة، فيركن إلى ما نسميه ( بلطجي ) في الحياة، يعيش عالة على غيره.
إذن : الحق-تبارك وتعالى- يريد أن يطمئن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة سعيه، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر ؛ لأنه إن كان عاجزا عن الحركة فقد ضمن له ربه حقا في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته، سواء أكانت زكاة أم كانت صدقة ؛ وبذلك تسلم حركة الحياة للجميع.
لذلك أراد –سبحانه وتعالى- أن يعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس : فإن كلت لغيرك فوف الكيل، وإن وزنت فوف الميزان، واجعله بالقسطاس المستقيم، ولا تبخس الناس حقوقهم بأي صورة من الصور.
ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب، إنما هي نماذج للتعامل، تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة فيما يقاس وفيما يعد، في الأعمال وفي الصناعات... إلخ.
إذن : فاحذر أن تتلصص على حقوق الآخرين، أو أن تبخسها، بأي نوع من أنواع التسلط : غصبا أو اختطافا أو رقة أو اختلاسا أو رشوة... إلخ.
وقلنا إن السرقة أن تأخذ شيئا من حرزه في غير وجود صاحبه، والخطف يكون صاحب الشيء موجودا، لكنك تأخذه خطفا وتفر به قبل أن يمسك بك، فإن أمسك بك فغالبته وأخذتها رغما عنه فهي غصب، أما الاختلاس فأن تأخذ من مال أنت مؤتمن عليه، ما لا يحق لك أخذه.
فإذا علم كل متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعا إن لم يعمل وهو قادر دبت الحركة في كل الأحياء، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض خاصة، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به، والطاقة التي نعمل بها، والمادة التي نستعين بها، فكل ما علينا أن نوظف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفا مثمرا.
ثم إن كانت الزكاة كحق معلومة محددة، فهناك حق آخر غير محدد، في قوله سبحانه :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ١٩ ﴾ ( الذاريات ) ولم يقل ( معلوم ) ؛ لأن المراد هنا الصدقة المطلقة، وقد تركها الحق- تبارك وتعالى- ولم يقيدها ليترك الباب مفتوحا أمام أريحية المعطي، ومدى كرمه وإحسانه ؛ لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين :
﴿ إن المتقين في جنات وعيون ١٥ آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ١٦ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ٢ ١٧ وبالأسحار هم يستغفرون ١٨ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ١٩ ﴾( الذاريات ).
ولأن الحق هنا تفضل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد.
وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يخرج أحدهم ربع العشر مثلا من ماله، لا ينظر إلى ما تبقى له من رأس المال، وهي نسبة ٩٧، ٥%، وينظر إلى حق الفقير وهو يسير ٢، ٥%.
فنراه يحتال عليه فيؤثر به أقاربه أو معارفه، أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر، كذلك يعطي زكاته للخادمة مثلا، ليرضي أمها حتى لا تأخذها من يده، ومنهم من يضع أموال الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى ؛ وهذا كله لا يجوز ؛ لأن مال الزكاة حق للمستحقين المعروفين نصا في كتاب الله، ولا يصح أن يوجه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبدا.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ١٨٣ ﴾ ( الشعراء ) عثا : أي أفسد، فالمعنى : لا تفسدوا في الأرض، فلماذا كرر الإفساد مرة أخرى فقال﴿ مفسدين ١٨٣ ﴾( الشعراء ) ؟ قالوا : المراد : لا تعثوا في الأرض حالة كونكم مفسدين، أو في نيتكم الإفساد.
وليس في الآية تكرار ؛ لأنه فرق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده، إنما حركتك في الحياة أفسدته، وبين أن تفسد عن قصد وعمد للإفساد، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتجرب لتصل إلى الأفضل، وتثري حركة الحياة، فما دمت قد قصدت الصلاح، فلا عليك إن أخطأت ؛ لأن ربك- عز وجل – يتولى تصحيح هذا الخطأ، بل ويعوضك عنه، فمن اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران٣.
إذن : المعنى : لا تفسدوا في الأرض وأنتم تقصدون الإفساد، لكن كيف نفسد الأرض ؟ إن إفساد الأرض يعني إفساد المتحرك عليها ؛ لأن الأرض خلقت للإنسان ﴿ والأرض وضعها للأنام ١٠ ﴾( الرحمن ).
وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح، والإنسان هو الذي يفسدها، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما للإنسان دخل فيه. أما ما لا تطوله يده، فيظل على صلاحه، وعلى استقامته وسلامته.
والإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها، تحقيقا لقول ربه عز وجل :﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم ٤ فيها... ٦١ ﴾( هود ).
ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب، فإذا ما كثر النسل لا يقابل زيادة في استثمار الأرض، فتحدث الأزمات، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة في خطين متوازنين لما شعر الناس بالحاجة والضيق، ولما أحاطت بهم الأزمات.
والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلا تجد المزارع في الصحراء، وتجد القوى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء، فأين كانت هذه الثورة ؟ لقد كنا كسالى وفي غفلة حتى عضنا الجوع، وضاقت بنا الأرض الخضراء في الوادي والدلتا.
وإذا لم يصلح الإنسان في الأرض فلا أقل من أن يتركها على حالها الذي خلقها الله عليه. لكن رأينا الإنسان يفسد الماء ويلوثه حين يصرف فيه مخلفاته ويفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع، ويفسد التربة بالكيماويات والمبيدات، وكل هذا الإفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها الله لنا ؛ ذلك لأننا نظرنا إلى النفع العاجل، وأغفلنا الضرر الآجل.
لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال، وجعلها آمنة لا ضرر منها :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة... ٨ ﴾( النحل ).
وقال :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق هذه الأنفس... ٧ ﴾( النحل ) نعم، وسائل النقل الحديث أسرع، وأراحت هذه المواشي، لكنها أتعبت الإنسان الذي خلق الله الكون كله لراحته. فترى الرجل يركب سيارته وكل همه أن يسرع بها دون أن يهتم بضبطها وصيانتها، فينطلق بها مخلفا سحابة من الدخان السام الذي يؤذي الناس، أما هو فغير مكترث بشيء ؛ لأن الدخان خلفه لا يشعر به.
لكن، احذر جيدا، إن ربك- عز وجل – قيوم لا يغفل ولا ينام، وكما تدين تدان في نفسك، أو في أولادك.
كذلك قبل أن نركب السيارات ونسرع بها يجب أن نمهد لما الطرق حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس، وتؤذي تنفسهم، بل وتؤذي الزرع أيضا، كل هذه وجوه للإفساد في الأرض ؛ لأننا ندرس عاجل النفع ولا ندرس آجل الضرر.
وعليك حين تجتهد أن تجتهد بمقدمات سليمة، لتصل إلى النتائج السليمة، ولا تكن من المفسدين.
ومن الإفساد في الأرض قطع الطريق، وهو أن المتلصص يقيم في مكانه يرصد ضحيته إلى أن تمر به، والإغارة وهي أن يذهب المغير إلى المغار عليه في مأمنه، فيسلبه ماله.
ومن الإفساد في الأرض الرشوة، وهي من أنكى النكبات التي بلي بها المجتمع، وهي تولد التسيب وعدم الانضباط، فحين ترى غيرك يستغلك، ويستحل مالك، دون حق، تعامله و تعامل غيره نفس المعاملة، فتصير الأمور في الأجهزة والمصالح إلى فوضى لا يعلم مداها إلا الله.
٢ الهجوع: النوم ليلا. والتهجاع: النومة الخفيفة.(لسان العرب –مادة: هجع).
٣ عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" أخرجه البخاري في صحيحه(٧٣٥٢)، ومسلم في صحيحه (١٧١٦) كتاب الأقضية..
٤ أي: أذن: لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها وجعلكم عماراها. وأعمره المكان واستعمره فيه: جعله يعمره.(لسان العرب- مادة: عمر).
﴿ واتقوا الذي خلقكم والجبلة ١ الأولين ١٨٤ ﴾
فإياك أن تظن أن الله تعالى خلقنا عبثا، أو يتركنا هملا، إنما خلقنا لمهمة في الكون، وجعلنا جميعا عبيدا بالنسبة له سواء، فلم يحاب منا أحدا على أحد، وليس عنده سبحانه مراكز قوى ؛ لذلك لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
ولأننا جميعا أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا، فقد تكفل لنا بالرزق ورعاية المصالح، فمن ابتلاه الله بالعجز عن الحركة فتحركت أنت لقضاء مصالحه، لا بد أن ينظر الله إليك بعين البركة والمضاعفة.
فالمعوق والفقير بحق- لا الذي يتخذها مهنة وحرفة يرزق بها- هذا الفقير وهذا المعوق هم خلق الله وأهل بلائه، فحين تعطيه من ثمرة حركتك أنت، وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته، أنت بهذا العمل إنما تستر على الله بلاءه، وتكون يد الله التي يرزق بها هؤلاء، وعندها لا بد أن يحبك الفقير، وأن يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والأجر والعافية والثواب، ويعلم أن الله خلقه ولم يسلمه.
أما إن ضن الغني الواجد على الفقير المعدم، وتخلى عن أهل البلاء، فلا بد أن يسخط الفقير على الغني، بل يسخط على الله- والعياذ بالله- لأنه ما ذنبه أن يكون فقيرا، وغيره غني في مجتمع لا يرحم.
وعجيب أن نرى مبتلي يظهر بلواه للناس، بل ويستغلها في ابتزازهم، فيظهر لهم إعاقته، كأنه يشكو الخالق للخلق، ولو أنه ستر على الله بلاءه وعلم أنه نعمة أنعم الله بها عليه لسخر الله له عافية غير المبتلي، ولجاءه رزقه على باب بيته، فلو رضي أهل البلاء لأعطاهم الله على قدر ما ابتلاهم.
فمعنى :﴿ واتقوا الذي خلقكم... ١٨٤ ﴾( الشعراء ) أي : احذروا جبروته ؛ لأنه خلقكم، وضمن لكم الأرزاق، وضمن لكم قضاء الحاجات، حتى العاجز عن الحركة سخر له القادر، وجعل للغني شرطا في إيمانه أن يعطي جزءا من سعيه للفقير، ويوصله إليه وهو مطمئن.
ومعنى :﴿ والجبلة الأولين ١٨٤ ﴾( الشعراء ) الجبلة من الجبل، وكان له دور في حياة العربي، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات، فاشتقوا من الجبل ( الجبلة ) وتعني الملازمة والثبات على الشيء.
ومن ذلك نقول : فلان مجبول على الخير يعني : ملازم له لا يفارقه، وفلان كالجبل لا تزحزحه الأحداث، والعامة تقول : فلان جبلة يعني : ثقيل على النفس، وقد يزيد فيقول :( مال جبلتك وارمة ) مبالغة في الوصف.
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل، حتى بعد موته، فيقول عن ممدوحه وقد حملوه في نعشه :
ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى | رضوي٢ على أيدي الرجال يسير |
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا... ٦٢ ﴾( يس ).
ومعنى :﴿ والجبلة الأولين ١٨٤ ﴾( الشعراء ) أي : الناس السابقين الذين جبلوا على العناد وتكذيب الرسل، فالله خلقكم وخلقهم، وقد رأيتم ما فعل الله بهم لما كذبوا رسله، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذبهم، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جبلوا على التكذيب، وكانوا ثابتين عليه لم يزحزحهم عن التكذيب شيء، فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم.
٢ رضوى: جبل بالمدينة. (لسان العرب- مادة: رضي)..
﴿ قالوا إنما أنت من المسحرين ١٨٥ ﴾ :
قلنا : إن مسحر : أي سحره غيره، وهي صيغة مبالغة للدلالة على حدوث السحر ووقوعه عليه أكثر من مرة، فلو سحر مرة واحدة لقلنا : مسحور والمعنى : أنك مختل العقل والتفكير، مجنون، لن نسمع لك.
وما دمت أنت بشرا مثلنا، ولم تتميز عنا بشيء، فكيف تكون رسولا ؟ ثم﴿ وإن نظنك لمن الكاذبين ١٨٦ ﴾ ( الشعراء ) أي : وما نظنك إلا كذابا، كالذين سبقوك.
أي : إن كنت صادقا ﴿ فأسقط علينا كسفا من السماء.... ١٨٧ ﴾ ( الشعراء ) يطلبون العذاب ويستعجلونه، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ قالوا أجئتنا لتأفكنا٢ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ ﴾( الأحقاف ).
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا، كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب ؟
ومعنى﴿ كسفا... ١٨٧ ﴾( الشعراء ) مفردها كسفة، مثل قطع وقطعة، وقد وردت هذه الكلمة على ألسنة كثير من المكذبين، وقالها الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ٩١ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا٩٢ ﴾( الإسراء ).
وقالوا﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ ﴾( الأنفال ).
وكان عليهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، وهذا يدلك على حمقهم وعنادهم.
٢ أي: أجئتنا لتصرفنا وتصدنا. والأفاك: الذي يأفك الناس أي: يصدهم عن الحق بباطله.(لسان العرب- مادة: أفك)..
فهو سبحانه العليم بكم : إن كنتم أهلا للتوبة والندم والأمل، أن تتوبوا فلن يصيبكم العذاب، أو كنتم مصرين على العصيان والتكذيب، فسوف يصيبكم عذاب الهلاك والاستئصال، فأنا لن أحكم عليكم بشيء ؛ لأنني بشر مثلكم لا أعرف ما في نياتكم ؛ لذلك سأكل أمركم إلى ربكم- عز وجل- الذي يعلم أمري وأمركم، وسري وسركم.
﴿ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ١٨٩ ﴾
فكيف يكذبونه، وهو لم ينسب الأمر لنفسه، ووكلهم إلى ربهم إذن : فهم لا يكذبونه إنما يكذبون الله ؛ لذلك يأتي الجزاء :﴿ فأخذهم عذاب يوم الظلة... ١٨٩ ﴾( الشعراء ).
وهو عذاب يوم مشهود، حيث سلط الله عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام، عاشوها في قيظ شديد، وقد حجز الله عنهم الريح إلا بمقدار ما يبقى رمق الحياة فيهم، حتى اشتد عليهم الأمر وحميت من تحتهم الرمال، فراحوا يلتمسون شيئا يروح عنهم، فرأوا غمامة قادمة في جو السماء فاستشرفوا لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس، وتروح عن نفوسهم، لما استظلوا بها ينتظرون الراحة والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر.
على حد قول الشاعر :
كما أمطرت يوما ظماء غمامة فلما رأوها أقشعت وتجلت ١
ويا ليت هذه السحابة أقشعت وتركتهم على حالهم، إنما قذفتهم بالنار والحمم من فوقهم، فزادتهم عذابا على عذابهم.
كما قال سبحانه في آية أخرى :
﴿ فلما رأوه عارضا٢ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم... ٢٥ ﴾( الأحقاف )
لذلك وصف الله عذاب هذا اليوم بأنه ﴿ إنه كان عذاب يوم عظيم ١٨٩ ﴾( الشعراء ) فما وجه عظمته وهو عذاب ؟ قالوا : لأنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة، ففاجأهم ما زادهم عذابا، وهذا ما نسميه " يأس بعد إطماع " وهو أنكى في التعذيب وأشق على النفوس.
٢ العرض: السحابة إذا كانت في ناحية من السماء، والعارض يكون أبيض اللون.(لسان العرب –مادة: عرض)..
قوله سبحانه :﴿ إن في ذلك... ١٩٠ ﴾ ( الشعراء ) أي : فيما حدثتكم به﴿ لآية.... ١٩٠ ﴾( الشعراء ) يعني : عبرة، وسميت كذلك لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال، فإن كان مكذبا آمن وصدق، وإن كان معاندا لان للحق وأطاع.
وما قصصته عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم، وهذا الموكب يضم سبعة من رسل الله مع أممهم : موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب عليهم جميعا وعلى نبينا السلام، وقد مضى هذا الموكب على سنة لله ثابتة لا تتخلف، هي : أن ينصر الله- عز وجل- رسله والمؤمنين معهم، ويخذل الكافرين المكذبين.
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة﴿ إن في ذلك لآية... ١٩٠ ﴾( الشعراء ) يعني عبرة لكم، وسميت عبرة ؛ لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال، فإن كان مكذبا آمن وصدق، وإن كان معاندا لان للحق وأطاع، وقد رأيتم أننا لم نسلم رسولا من رسلنا للمكذبين به، وكانت سنتنا في الرسل أن ننصرهم.
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ١٧١ إنهم لهم المنصورون ١٧٢ ﴾( الصافات )
وقال :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾( الصافات ).
ومن العبرة نقول : عبر الطريق يعني : انتقل من جانب إلى جانب، والعبرة هنا أن ننتقل من التكذيب واللدد والجحود والكبرياء إلى الإيمان والتصديق والطاعة، حتى العبرة( الدمعة ) مأخوذة من هذا المعنى.
وفي قوله تعالى :﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ١٩٠ ﴾( الشعراء ) حماية واحتراس حتى لا نهضم حق القلة التي آمنت ١.
﴿ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ١٩١ ﴾ :
ربك : الرب هو المتولي الرعاية والتربية. وبهذه الخاتمة ختمت جميع القصص السابقة، ومع ما حدث منهم من تكذيب تختم بهذه الخاتمة الدالة على العزة والرحمة.
﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ١٩٢ ﴾
﴿ وإنه.... ١٩٢ ﴾( الشعراء ) على أي شيء يعود هذا الضمير ؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه هذا الضمير وهو لم يسبق بشيء. تقول : جاءني فأكرمته فيعود الضمير الغائب في أكرمته على ( رجل ).
وكما في قوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد ١ ﴾( الإخلاص ) فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة، مع أنه متأخر عنه، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب.
كذلك﴿ إنه.... ١٩٢ ﴾( الشعراء ) أي : القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه :﴿ لتنزيل رب العالمين ١٩٢ ﴾( الشعراء ) وقدم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذهن إلا إليه، فحين تقول﴿ هو الله أحد ١ ﴾( الإخلاص ) لا ينصرف إلا إلى الله، ﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ١٩٢ ﴾ ( الشعراء )لا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم١.
وقال :﴿ لتنزيل رب العالمين ١٩٢ ﴾( الشعراء ).
أي : أنه كلام الله لم أقله من عندي، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبق له أن وقف خطيبا في قومه، ولم يعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب قول.
إذن : فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة، فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتوا بمثله ؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء ؛ لأنكم أهل دربة في هذه المسألة.
و﴿ العالمين ١٩٢ ﴾( الشعراء ) : كل ما سوى الله عز وجل ؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين للإنس وللجن وللملائكة وغيرها من العوالم.
لذلك لما نزلت :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ١٠٧ ﴾( الأنبياء ) سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام : " أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي يا جبريل ؟ " فقال : نعم، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس، فلما أنزل الله عليك قوله :﴿ ذي قوة عند ذي العرش مكين ٢٠ ﴾( التكوير ) أمنت العاقبة، فتلك هي الرحمة التي نالتني.
وليس القرآن وحده تنزيل رب العالمين، إنما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيل رب العالمين، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صدقه في البلاغ عن الله.
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضا، فالمعجزة هي عين المنهج. فلماذا ؟.
قالوا : لأن القرآن جاء منهجا للناس كافة في الزمان وفي المكان فلا بد- إذن- أن يكون المنهج هو عين المعجزة، والمعجزة هي عين المنهج، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله، فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لأمة بعينها في فترة محددة من الزمن، وقد نزلت هذه الكتب بمعناها لا بنصها ؛ لذلك عيسى-عليه السلام- يقول : " سأجعل كلامي في فمه " ٢ أي : أن كلام الله سيكون في فم الرسول بنصه ومعناه من عند الله، وما دام بنصه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين.
٢ أصل هذه البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة (العهد القديم) المنزل على موسى: "أقيم لهم نبيا وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"(سفر التثنية – الأصحاح ١٨-عدد١٨-١٩). قال رحمت الله الهندي في "إظهار الحق" ص٥١٠ "هو إشارة إلى أن ذلك النبي سينزل عليه الكتاب، وإلى أنه سيكون أميا حافظا للكلام"..
﴿ نزل به الروح الأمين ١٩٣ ﴾
كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاما أو نفثا في الروع ؛ لذلك قال تعالى بعدها :﴿ نزل به الروح الأمين ١٩٣ ﴾ ( الشعراء ) إذن : الأمر ليس نفثا في روع رسول الله بحكم ما، إنما يأتيه روح القدس وأمين الوحي يقول له : قال الله كذا وكذا.
لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السلام، فيأتيه الملك ؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسها، ويتفصد جبينه منه عرقا، ثم يسري عنه، وهذه كلها علامات حضور الملك ومباشرته لرسول الله، هذا هو الوحي، أما مجرد الإلهام أو النفث في الروع فلا يثبت به وحي.
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم كدوى النحل١ أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إن أسند فخذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل٢، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخ به٣، كما قال تعالى :﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا٥ ﴾( المزمل ).
ولم تهدأ مشقة الوحي على رسول الله إلا بعد أن فتر عنه الوحي، وانقطع فترة تشوق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى :﴿ ألم نشرح لك صدرك١ ووضعنا عنك وزرك٢ الذي أنقض ظهرك٣ ورفعنا لك ذكرك ٤ ﴾( الشرح ).
ونزلت عليه :﴿ والضحى ١ والليل إذا سجى ٢ ما ودعك ربك وما قلى ٣ وللآخرة خير لك من الأولى ٤ ﴾( الضحى ).
يعني : سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنت تعاني من قبل.
وقوله تعالى﴿ نزل... ١٩٣ ﴾( الشعراء ) تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطئ ويصيب ويجهل المصلحة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تعدل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عوارها يوما بعد يوم.
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبال الواثق فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه ؛ لأنك تتكبر على مساو لك، أما ما جاءك من أعلى فليلزمك الانقياد له، عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون( اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم ) لماذا ؟ لأنه قطع بأمر الأعلى منك، بأمر الله، لا بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... ١٥١ ﴾( الأنعام ).
كلمة( تعالوا ) تعني : اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأقبلوا على رفعة تشريع السماء، فتعالوا أي : تعلوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتم وعضتكم الأحداث ؛ لأن الذي يشرع لكم أمثالكم وإن كانوا حتى حسني النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإن أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها. إذن : فالأسلم لكم أن تأخذوا من الأعلى ؛ لأنه سبحانه العليم بما يصلحكم.
إذن :﴿ نزل.... ١٩٣ ﴾( الشعراء ) تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير، حتى الحديد وهو من نعم الله، لما تكلم عنه قال سبحانه :﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب... ٢٥ ﴾( الحديد )
ولم يقل مثلا : أنزلنا الألماظ أو الألماس، أو غيره من المعادن النفيسة، لماذا ؟ لأن الحديد أداة من أدوات نصرة الدعوة وإعلان كلمة الله.
وسمي جبريل –عليه السلام- الروح ؛ لأن الروح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة، فكأنهم أرواح مطلقة، أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استعملت عدة استعمالات منها﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي.... ٨٥ ﴾( الإسراء ) والمراد الروح التي نحيا بها.
وسمي القرآن روحا :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا... ٥٢ ﴾( الشورى ) إذن : فالقرآن روح، والملك الذي نزل به روح، فإن قلت : فما حاجتي إلى الروح وفي الروح ؟
نقول لك : هذه الروح التي نحيا بها مادتك، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أما الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
لذلك، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حد سواء، أما الروح التي تأتيك من كتاب الله وفي منهجه، فهي للمؤمن خاصة، وهي باقية، وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة الفانية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... ٢٤ ﴾ ( الأنفال ).
كيف وها نحن أحياء ؟ نعم، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية، أما رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية، وكأنه- عز وجل- يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية ؛ لأنها ستنتهي، وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز ؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ٦٤ ﴾ ( العنكبوت ) فالحيوان مبالغة في الحياة، أي : الحياة الحقيقية، أما حياة المادة فأي حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده، أو حتى بعد مائة عام ؟ !
ثم يصف الحق- سبحانه وتعالى- الروح بأنه﴿ الأمين ١٩٣ ﴾ ( الشعراء ) أي : على الوحي، القرآن- إذن- مصون عند الله، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به، مصون عند النبي الأمين الذي نزل عليه.
لذلك يقول سبحانه :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ٤٤ لأخذنا منه باليمين ٤٥ ثم لقطعنا منه الوثين٤ ٤٦ فما منكم من أحد عنه حاجزين ٤٧ ﴾( الحاقة ).
وقال تعالى :﴿ وما هو على الغيب بضنين ٥٢٤ وما هو بقول شيطان رجيم ٢٥ ﴾( التكوير )
٢ ذكر البخاري في صحيحه- كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ (١٢) قول زيد بن ثابت كاتب الوحي رضي الله عنه موقوفا عليه: أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي(فتح الباري١/٤٧٨). وقال ابن حجر: هو طرف من حديث موصول عند البخاري في تفسير سورة النساء في نزول قوله تعالى:﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين... ٩٥﴾(النساء) (أخرجه البخاري في صحيحه -٤٥٩٢)..
٣ عن أسماء بنت يزيد قالت: "إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه(سورة) المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة" أخرجه أحمد في مسنده(٦/٤٥٥)..
٤ الوتين: عرق في القلب إذا قطع مات صاحبه، وهو الشريان الرئيسي الهام الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب، قال تعالى:﴿ثم لقطعنا منه الوتين ٤٦﴾(الحلقة) أي: أمتناه عاجلا وأهلكناه سريعا إذا خالف أمرنا أي مخالفة.(القاموس القويم ٢/٣١٩)..
٥ الضنين: البخيل. فهو سبحانه لا يكتم غيبا عن رسول الله، بل يبلغه كل ما أوحاه الله إليه من خبر السماء (القاموس القويم١/٣٩٦)..
﴿ على قلبك لتكون من المنذرين ١٩٤ ﴾
نزل القرآن على أذن رسول الله، أم على قلبه ؟ الأذن هي : أداة السمع، لكن قال تعالى﴿ على قلبك... ١٩٤ ﴾( الشعراء ) لأن الأذن وسيلة عبور للقلب، لأنه محل التلقي، وهو( دينامو ) الحركة في جسم الإنسان، فبالدم الذي يضخه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولد الطاقات والقدرة على الحركة وأداء الوظائف.
لذلك نرى المريض مثلا يأخذ الدواء عن طريق الفم، فيدور الدواء دورة الطعام، ويمتص ببطء، فإن أردت سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل، لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد، فتخلط بالدم مباشرة، وتحدث أثرها في الجسم بسرعة، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية.
إذن : فالقلب هو محل الاعتبار والتأمل، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يع القلب ما تسمع الأذن ؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك.... ٩٧ ﴾( البقرة ).
فالمعنى : نزله على قلبك مباشرة، كأنه لم يمر بالأذن ؛ لأن الله تعالى اصطفى لذلك رسولا صنعه على عينه، وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه مباشرة، فكأن قلبه صلى الله عليه وسلم أصبح منتبها لتلقي كلام الله ؛ لأنه مصنوع على عين الله، أما الذين سمعوا كلام الله بآذانهم فلم يتجاوبوا معه، فكانت قلوبهم مغلقة قاسية فلم تفهم.
والقلب محل التكاليف، ومستقر العقائد، وإليه تنتهي محصلة وسائل الإدراك كلها، فالعين ترى، والأذن تسمع، والأنف يشم، والأيدي تلمس... ثم يعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل، فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به ؛ لذلك نسميها عقيدة يعني : أمر عقد القلب عليه، فلم يعد يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، لقد ترسخ في القلب، وأصبح عقيدة ثابتة.
وفي آيات كثيرة نجد المعول والنظر إلى القلب، يقول تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم... ٣٧ ﴾( الحج ).
وفي آية أخرى يبين أن التقوى محلها القلب :﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ٣٢ ﴾( الحج ).
وفي الشهادة يقول تعالى :﴿ ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه... ٢٨٣ ﴾( البقرة ) مع أن الشهادة باللسان، لا بالقلب.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير : " ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ١.
ويحدثنا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي ربعين أو ثلاثة أرباع مرة واحدة، فإذا ما سري عنه صلى الله عليه وسلم قال : اكتبوا، ثم يقرؤها عليهم على وضع كل آية في مكانها من سورتها، ثم يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فتكون هي هي كما أملاها عليهم ؛ ذلك لأن القرآن باشر قلبه لا أذنه.
وكان صلى الله عليه وسلم لحصره على حفظ القرآن يردده خلف جبريل ويكرره حتى لا ينساه، فأنزل الله عليه٢ : سنقرئك فلا تنسى ٦ }( الأعلى ).
وقال في موضع آخر :﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل ربي زدني علما ١١٤ ﴾( طه ).
وقال تعالى :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به١٦ إن علينا جمعه وقرآنه١٧ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ١٨ ثم إن علينا بيانه ١٩ ﴾( القيامة ).
ومن عجيب أمر القرآن أنه لا تجد شخصا يلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلا، ثم يعيدها عليك كما قالها نصا، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تلقى عليه السورة، فيعيدها كما هي، ذلك من قوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ٦ ﴾( الأعلى ).
وقوله سبحانه :﴿ لتكون من المنذرين ١٩٤ ﴾( الشعراء ) المنذر : الذي يحذر من الشر قبل وقوعه ليحتاط السامع فلا يقع في دواعي الشر، ولا يكون الإنذار ساعة وقوع الشر، لأنه في هذه الحالة لا يجدي، وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحث السامع على الخير، وتحفزه إليه.
ويقول سبحانه في آية أخرى :﴿ لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم... ٦ ﴾( يس ).
فكما أنذر الرسل السابقون أقوامهم، أنذر أنت قومك، وانضم إلى موكب الرسالات.
٢ عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ حتى يزمل من الوحي يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن يغشى عليه، فقال له جبريل، لم تفعل ذلك؟ قال: مخافة أن أنسى. فأنزل الله عز وجل﴿سنقرئك فلا تنسى٦﴾(الأعلى). أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (١٢٦٤٩) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٧/١٣٦) وقال "فيه جوبير وهو ضعيف" وكذا ضعفه السيوطي في أسباب النزول (ص٢٩٦)..
﴿ بلسان عربي مبين ١٩٥ ﴾
وقوله تعالى :﴿ بلسان عربي مبين ١٩٥ ﴾( الشعراء ) فإن كان القرآن قد نزل على قلبك، فكيف يسمعونه ؟ ويحفظونه ؟ يأتي هنا دور اللسان العربي الذي يخرج القرآن إلى الناس، إذن : فمنطق رسول الله بعد نزوله على القلب، ويؤخر اللسان ؛ لأنه وسيلة الحفظ والصيانة والقراءة.
ومعنى﴿ مبين ١٩٥ ﴾( الشعراء ) أي : واضح ظاهر، محيط بكل أقضية الحياة، لكن يأتي من يقول : إن كان القرآن نزل بلسان عربي، فما بال غير العربية التي نطق بها ؟ فكلمة قسطاس رومية ١، وآمين حبشية، وسجيل فارسية ٢.
ونقول : معنى اللسان العربي ما نطق به العرب، ودار على ألسنتهم ؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربيا، وإن كان من لغات أخرى، والمراد أنه لم يأت بكلام جديد لم تعرفه العرب، فقبل أن ينزل القرآن كانت هذه الكلمة شائعة في اللسان العربي.
ونزل القرآن باللسان العربي خاصة ؛ لأن العرب هم أمة استقبال الدعوة وحاملوها إلى باقي الأمم، فلا بد أن يفهموا عن القرآن. فإن قلت : فالأمم الأخرى غير العربية مخاطبة أيضا بهذا القرآن العربي، فكيف يستقبلونه ويفهمون عنه ؟ نقول : من سمعه من العرب عليه أن يبلغه بلسان القوم الذين يدعوهم، وهذه مهمتنا نحن العرب تجاه كتاب الله.
٢ أخرج الفريابي عن مجاهد، قال: سجيل بالفارسية. أولها حجارة وآخرها طين.(الإتقان في علوم القرآن للسيوطي٢/١١٢)..
الضمير في ﴿ إنه.... ١٩٦ ﴾( الشعراء ) يصح أن يعود على القرآن كسابقه، ويصح أن يعود على رسول الله، ومعنى﴿ زبر.. ١٩٦ ﴾( الشعراء ) جمع زبور يعني : مكتوب مسطور، ولو أن العقول التي عارضت رسول الله، وأنكرت عليه رسالته، وأنكرت عليه معجزته فطنوا إلى الرسالات السابقة عليه مباشرة، وهي : اليهودية والنصرانية في التوراة والإنجيل لوجب عليهم أن يصدقوه ؛ لأنه مذكور في كتب الأولين.
كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ إن هذا لفي الصحف الأولى ١٨ صحف إبراهيم وموسى ١٩ ﴾( الأعلى ).
فالمبادئ العامة من العقائد والأخلاق والعدل الإلهي وقصص الأنبياء كلها أمور ثابتة في كل الكتب وعند جميع الأنبياء، ولا يتغير إلا الأحكام من كتاب لآخر، لتناسب العصر والأوان الذي جاءت فيه.
وحين تقرأ قوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... ١٣ ﴾( الشورى )
تقول : ولماذا –إذن- نزل القرآن ؟ ولماذا لم يقل وصينا به محمدا ؟
قالوا : لأن الأحكام ستتغير ؛ لتناسب كل العصور التي نزل القرآن لهدايتها، ولكل الأماكن، ولتناسب عمومية الإسلام.
لذلك روي عن عبد الله بن سلام ١ وآخر اسمه ابن يامين، وكانوا من أهل الكتاب، وشهد كلاهما أنه رأى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وفي الإنجيل. والقرآن يقول عنهم :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ١٤٦ ﴾( البقرة )
ولما سمعها ابن سلام قال : ربنا تساهل معنا في هذه المسألة، فوالله إني لأعرفه كمعرفتي لولدي، ومعرفتي لمحمد أشد ٢.
ويقول تعالى في هذا المعنى :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ١٥٧ ﴾( الأعراف ).
ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلام حين يقف خطيبا في قومه :﴿ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد... ٦ ﴾( الصف ).
إذن :﴿ وإنه لفي زبر الأولين ١٩٦ ﴾( الشعراء ) أي : محمد صلى الله عليه وسلم أو هو القرآن الكريم، فكلاهما صحيح ؛ لأن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة في هذه الكتب، أو القرآن في عموم مبادئه في العقائد والأخلاق والبعث وسير الأنبياء.
فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أن يؤمنوا به، خاصة وأن رسول الله كان أميا لم يجلس إلى معلم، وتاريخه في ذلك معروف لهم، حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئا.
والقرآن يؤكد هذه المسألة، فيقول تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عله وسلم :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ٤٨ ﴾( العنكبوت ).
﴿ وما كنت ثاويا ٣ في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ٤٥ ﴾ ( القصص )
﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر.... ٤٤ ﴾( القصص )
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم... ٤٤ ﴾( آل عمران ).
فكل هذه الآيات وغيرها دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا علم له بها إلا بواسطة الوحي المباشر في القرآن الكريم، وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه.
٢ قال ابن كثير في تفسيره(١/١٩٤):"قال القرطبي: يروي عن عمر أنه قال لعبد الله ابن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه"..
٣ ثوي بالمكان: حله وأقام فيه واستقر به. والمعنى: ما كنت مقيما عندهم.(القاموس القويم١/١١٣)..
﴿ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء١ بني إسرائيل ١٩٧ ﴾
آية : أي دليلا وعلامة على أن القرآن من عند الله ؛ لأن علماء بني إسرائيل كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، أو لم يقولوا للأوس والخزرج في المدينة : لقد أطل زمان نبي يأتي سنتبعه ونقتلكم به أيها المشركون قتل عاد وإرم٢، ومع ذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنكروه وكفروا به، وهم يعرفون أنه حق، لماذا ؟
قالوا : لأنهم تنبهوا إلى أنه سيسلبهم القيادة، وكانوا في المدينة أهل علم، وأهل كتاب، وأهل بصر، وأهل حروب.... إلخ. وليلة هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانوا يستعدون لتتويج عبد الله بن أبي ملكا عليها، فلما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم أفسد عليهم هذه المسألة ؛ لذلك حسدوه على هذه المكانة، فقد أخذ منهم السلطة الزمنية والتي كانت لهم.
وقال﴿ علماء بني إسرائيل١٩٧ ﴾( الشعراء ) لأنهم كانوا يعرفون صدق رسول الله، ولأنه صلى الله عليه وسلم جاء بأشياء لا يعرفها إلا هم، وقد اشتهر منهم خمسة، هم : عبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، وثعلبة، وابن يامين.
٢ عن أشياخ من الأنصار قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. ذكره ابن كثير في تفسيره (١/١٢٤) نقلا عن ابن إسحاق..
﴿ ولو نزلناه على بعض الأعجمين ١٩٨ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ١٩٩ ﴾
لقد أنزلنا القرآن بلسان عربي على أمة عربية، ولو أنزلناه على الأعاجم ما فهموه١.
وقال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ٤٤ ﴾( فصلت ).
لماذا ؟ لأن المستقبل مقفول، فإن أردت استقبال أي قضية فعليك أن تخرج من قلبك أي قضية أخرى معارضة لها، ثم بعد ذلك لك أن تدرس القضيتين، فما وافق الحق فأدخله.
لذلك يقول تعالى :﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه... ٤ ﴾( الأحزاب ) فهو قلب واحد، لذلك أخرج منه كل قضية سابقة، وها هو القرآن واحد، وقائله واحد، ومبلغه واحد، ولسانه عربي.
يقول تعالى في وصفهم حال سماع القرآن :﴿ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم٢ إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ١٢٧ ﴾( التوبة ) أي : يريدون التسلل والخروج.
ويقول تعالى في آية أخرى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا... ١٢٤ ﴾( التوبة ) أي : ماذا أفادتكم ؟ وماذا زادت في إيمانكم ؟.
ويقول سبحانه :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا٣ للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ١٦ ﴾( محمد ) يعني : ما الجديد الذي جاء به ؟.
ويقول عن الذين آمنوا :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ١٧ ﴾( محمد ) و﴿ الأعجمين ١٩٨ ﴾( الشعراء ) جمع : أعجمي، والأعجم هو الذي لا يحسن الكلام العربي، وإن كان ينطق به، والعجمي ضد العربي والعجم غير العرب. فالمعنى﴿ ولو نزلناه.... ١٩٨ ﴾( الشعراء ) أي : القرآن العربي على بعض الأعجمين ما فهمه، وقال﴿ بعض... ١٩٨ ﴾( الشعراء ) لمراعاة الاحتمال، فمن العجم من تعلم العربية وأجادها ويستطيع فهم القرآن.
- وقال قتادة أيضا: لو أنزله الله عجميا لكانوا أخسر الناس به لأنهم لا يعرفون العجمية. أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.(ذكرهما السيوطي في الدر المنثور ٦/٣٢٣)..
٢ قال ابن عباس فيما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم: هم المنافقون.(أورده السيوطي في الدر المنثور٤/٣٢٦)..
٣ عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا خرجوا سألوا المؤمنين: ماذا قال آنفا؟ فنزلت(ومنهم من يستمع إليك... ١٦}(محمد). ذكره السيوطي في الدر المنثور (٧/٤٦٦) وعزاه لابن المنذر..
ذلك لأنهم أحبوا الكفر والعناد وأصروا عليه، واستراحت إليه قلوبهم حتى عشقوه، فأعانهم الله عليه، وختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر.
معنى﴿ سلكانه... ٢٠٠ ﴾( الشعراء ) أدخلناه في قلوب المجرمين، كأنهم عجم لا يفهمون منه شيئا.
لذلك لما نزل القرآن وآمن برسول الله بعض الصحابة اضطهد رسول الله وصحابته، وأوذوا حتى صاروا لا يأمنوا على أنفسهم من بطش الكفار، حتى كانوا يبيتون في السلاح، ويستيقظون في السلاح، لا يجدون من يحميهم.
وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾( القمر ) فتعجب عمر رضي الله عنه : أي جمع هذا الذي سيهزم، والمسلمون على هذا الحال ؟ فلما شهد بدرا وما كان فيها من قتل المشركين ونصرة دين الله، قال : نعم صدق الله، سيهزم الجمع يولون الدبر١.
﴿ فيقولوا هل نحن منظرون٢٠٣ أفبعذابنا يستعجلون ٢٠٤ ﴾
أي : انظرونا وتمهلوا علينا، وأخروا عنا العذاب، سبحان الله ألم تستعجلوه١ ؟ وهذه طبيعة أهل العناد والكفر إن تركناهم طلبوا أن ينزل عليهم، وإن نزل بهم العذاب قالوا : انظرونا وتمهلوا علينا.
﴿ أفرأيت إن متعناهم١ سنين٢٠٥ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون٢٠٦ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ٢٠٧ ﴾
﴿ أفرأيت... ٢٠٥ ﴾( الشعراء ) يعني : أخبرني ﴿ إن متعناهم سنين٢٠٥ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون٢٠٦ ﴾( الشعراء ) ومع طول المدة، إلا أن الغاية واحدة٢ ﴿ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون٢٠٧ ﴾( الشعراء ).
٢ أي: لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وإن طال ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم (تفسير ابن كثير ٣/٣٤٨)..
كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون١٣١ ﴾( الأنعام )، فقد جاءهم رسول يعلمهم وينذرهم ؛ ليقيم عليهم الحجة، كما قال تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا١٥ ﴾( الإسراء ).
﴿ وما تنزلت بها الشياطين٢١٠وما ينبغي لهم وما يستطيعون ٢١١ ﴾
لأنهم قالوا : إنما تنزلت الشياطين على محمد بالقرآن، وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره عندهم، فلكل شاعر شيطان يمليه الشعر، وعندهم واد يسمى وادي " عبقر " هو وادي الجن، فيقولون : فلان عبقري أي : موصول بالجن في هذا الوادي.
لكن، كيف والكتاب الذي نزل على محمد عدو للشياطين، يلعنهم في كل مناسبة، ويحذر أتباعه منهم :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء... ٢٦٨ ﴾( البقرة ) ويقول الحق سبحانه :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ٦ ﴾( فاطر )
فكيف- إذن- يمده الشيطان ويمليه عليه، وهو عدوه ؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباؤه ؟ هذه واحدة
﴿ وما تنزلت بها الشياطين٢١٠وما ينبغي لهم وما يستطيعون ٢١١ ﴾
لأنهم قالوا : إنما تنزلت الشياطين على محمد بالقرآن، وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره عندهم، فلكل شاعر شيطان يمليه الشعر، وعندهم واد يسمى وادي " عبقر " هو وادي الجن، فيقولون : فلان عبقري أي : موصول بالجن في هذا الوادي.
لكن، كيف والكتاب الذي نزل على محمد عدو للشياطين، يلعنهم في كل مناسبة، ويحذر أتباعه منهم :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء... ٢٦٨ ﴾( البقرة ) ويقول الحق سبحانه :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ٦ ﴾( فاطر )
فكيف- إذن- يمده الشيطان ويمليه عليه، وهو عدوه ؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباؤه ؟ هذه واحدة
الأخرى :﴿ وما ينبغي لهم وما يستطيعون٢١١ ﴾( الشعراء ) إن الله جعل القرآن معجزا ومنهجا، والمعجزة لا يتسلط عليها إنس ولا جن فيفسدها، لذلك قال سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون٩ ﴾( الحجر )
أما الكتب السابقة فقد طلبت من المؤمنين بها أن يحفظوها، وفرق بين الحفظ مني، وطلب الحفظ منكم ؛ لأن الطلب تكليف وهو عرضة لأن يطاع ولأن يعصى، وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا على كتبهم السابقة ؛ لذلك تولى الحق- سبحانه وتعالى- حفظ قرآنه بنفسه، ولم يكله إلى أحد من خلقه.
لذلك تجد في هذا المجال كثيرا من العجائب والمفارقات، فمع تقدم الزمن وطغيان الحضارات المعادية للإسلام، والتي تمطرنا كل يوم بوابل من الانحرافات والخروج عن تعاليم الدين، ومنا من ينساق خلفهم، وهذا كله ينقص من الأحكام المطبقة من الإسلام.
لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقا، ويزداد حفظا، ويتبارى حتى غير المسلمين في حفظ كتاب الله وتوثيقه، والتجديد في طباعته، حتى رأينا مصحفا في ورقة واحدة، و مصحفا في حجم عقلة الإصبع، ويفخر بعضهم الآن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم... إلخ بصرف النظر عن دوافعهم من وراء هذا.
المهم أن الله تعالى يسخر حتى أعداء القرآن لحفظ القرآن﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ٣١ ﴾( المدثر ).
أليس من وسائل نشر القرآن والمحافظة عليه آلات التسجيل وآلات تكبير الصوت التي تنشر كلام الله في كل مكان ؟ ولم يلق شيء من الكتب السابقة مثل هذه العناية.
إذن : فالعناية بالقرآن كنص لا تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها، وكأن الله- عز وجل- يقول لنا : سأحفظ هذا النص بغير المؤمنين به، وسأجعلهم يوثقونه ويهتمون به ؛ ليكون ذلك حجة عليكم.
لذلك كان عند الألمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج، في كل درج منها آية من القرآن، يحفظ به كل ما كتب عن هذه الآية بداية من تفسير ابن عباس إلى وقتها، وهذا دليل على أنهم مسخرون بقوة خفية لا يقدر عليها إلا الله عز وجل﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون٩ ﴾( الحجر ).
وسبق أن قلنا : إن بعض النساء يسرن في الشوارع كاشفات عن صدورهن، ومع ذلك تتحلى بمصحف على صدرها، وليتها تستر صدرها ولا تعلق المصحف.
فكيف تقولون تنزلت به الشياطين، وقد جاء القرآن ليعلن لأهله عداءه لهم والحذر منهم ؟ كيف والشياطين لا تتنزل إلا على كل كفار أثيم، وأنتم أولى بأن تتنزل عليكم﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم... ١٢١ ﴾( الأنعام )
ومعنى :﴿ وما يستطيعون ٢١١ ﴾( الشعراء ) أن هذه المسألة فوق قدراتهم ؛ لأن الحق تبارك وتعالى قال :﴿ إنهم عن السمع لمعزولون ٢١٢ ﴾
﴿ فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ٢١٣ ﴾
خاطب الحق- تبارك وتعالى- نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ فلا تدع مع الله إلها آخر.... ٢١٣ ﴾( الشعراء ) فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم مظنة أن يدعو مع الله
إلها آخر ؟ قالوا : لا، إنما المراد ابتداء توجيه، وابتداء تكليف، كأنه يقول له : اجعل عندك مبدءا، أنك لا تتخذ مع الله إلها آخر، لا أن الرسول اتخذ إلها، فجاء الوحي لينهاه، إنما هو بداية تشريع وتكليف، وإذا كان العظيم المرسل صلى الله عليه وسلم يتوعده الله إن أراد أن يتخذ إلها آخر، فما بالك بمن هو دونه ؟.
فساعة يسمع الناس هذا الخطاب موجها إلى النبي المرسل إليهم، فلا بد أن يصغوا إليه، ويحذروا ما فيه من تحذير، كما لو وجه رئيس الدولة أمرا إلى رئيس الوزراء مثلا –ولله المثل الأعلى- وحذره من عاقبة مخالفته، فلا شك أن من دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا الأمر.
وهكذا نقل الأمر من رسول الله إلى أهله وعشيرته الأقربين، ذلك ليطمئن الآخرون من قومه، فهو يأمرهم لأمر ليس بنجوة عنه، فأول ما ألزم به ألزم نفسه ثم عشيرته، وهذا أدعى للطاعة وللقبول، فأنت ترد أمري إذا كنت آمرك به ولا أفعله، لكني آمرك وأسبقك إلى الفعل.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- وكان على المنبر يخطب في الناس، ويقول : أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، فقام أعرابي وقال : لا سمع لك ولا طاعة، انظر إلى هذه الجرأة على من ؟ على عمر وهو على المنبر- فقال له عمر : ولم ؟.
قال : لأن ثيابك أطول من ثيابنا – وكان القماش يوزع بين المسلمين بالتساوي لا فرق بين طويل وقصير- فقال عمر لابنه عبد الله : قم يا عبد الله لترى الناس، فقام عبد الله فقال : إن أبي رجل طوال-مبالغة في الطول- وثوبه في المسلمين لم يكفه، فأعطيته ثوبي فوصله بثوبه، وها أنذا بمرقعتي بينكم، عندها قال الأعرابي : إذن نسمع ونطيع١.
لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الآن ؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر، ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحا ليكون قدوة لمرؤوسيه ؟ وإن من أشد ما ابتلينا به أن نفقد القدوة في الرؤساء والمسؤولين. لذلك أول ما وجه التشريع والتكليف وجه إلى رسول الله، وإلى أقرب الناس إليه وهم عشيرته الأقربون ؛ لأن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القربى والحاشية التي تحيط الإنسان، وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير، لكن حاشيته هي سبب الفساد، حيث تستغل اسمه في فسادها أو تضلله وتعمي عليه الحقائق... إلخ.
لذلك كان سيدنا عمر- رضي الله عنه- ساعة يريد أن يقرر شيئا للأمة، ويعلم أنه قاس عليهم يجمع أهله أولا ويقول لهم : لقد شاء أن أقرر كذا وكذا، فمن خالفني منكم في شيء من هذا جعلته نكالا لعامة المسلمين، وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولا، ويبدأ بهم تنفيذ ما أراده للمسلمين.
وتأمل﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ٢١٤ ﴾( الشعراء ) والإنذار كما ذكرنا التحذير من الشر قبل أوانه، فلم يقل : بشر عشيرتك، كأنه يقول له : إياك أن يأخذك به لين ورأفة، أو عطف لقرابتهم لك، بل بهم فابدأ.
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لقرابته : " يا عباس يا عم رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، ولا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم " ٢.
٢ عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل﴿وأنذر عشيرتك الأقربين ٢١٤﴾(الشعراء) قال: يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا " أخرجه البخاري في صحيحه(٢٧٥٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٠٦)..
﴿ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ٢١٥ ﴾
بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمر باللين، وخفض الجناح لباقي المؤمنين به، وخفض الجناح كناية عن اللطف واللين في المعاملة، وقد أخذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على فراخه، ويضمهم بجناحه.
وخفض الجناح دليل الحنان، لا الذلة والانكسار، وفي المقابل نقول( فلان فارد أجنحته ) إذا تكبر وتجبر، وتقول( فلان مجنح لي ) إذا عصا أوامرك.
وفي موضع آخر :﴿ واخفض جناحك للمؤمنين ٨٨ ﴾( الحجر ).
وقال في حق الوالدين :﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة... ٢٤ ﴾( الإسراء ) فلا نقول : كن ذليلا لهم، إنما كن رحيما بهم، حنونا عليهم، ففي هذا عزك ونجاتك.
فإن عصاك الأقارب فلا تتردد في أن تعلنها﴿ إني بريء مما تعملون ٢١٦ ﴾( الشعراء ) وعندها لا تراعي فيهم حق الرحم، ولا حق القربى، لأنه لا حق لهم ؛ لذلك قال ﴿ فقل... ٢١٦ ﴾( الشعراء ) ولم يقل تبرأ منهم ؛ لأنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم.
لكن الحق- تبارك وتعالى- يريد أن يعلنها رسول الله على الملأ ليعلمها الجميع، وربنا يعلمنا هنا درسا حتى لا نحابى أحدا، أو نجامله لقرابته، أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة.
والذي يفسد حياتنا وينشر فيها الفوضى واللامبالاة أن ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين، ونغطي على تجاوزاتهم، و نأخذهم بالهوادة و الرحمة، و هذا كله يهدم معنويات المجتمع، ويدعو للفوضى والتهاون.
لذلك يعلمنا الإسلام أن نعلنها صراحة﴿ فقل إني بريء مما تعملون ٢١٦ ﴾( الشعراء ) وليأخذ القانون مجراه، وليتساوى أمامه الجميع، ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لارتدع.
لذلك يقال عن عمر رضي الله عنه أنه حكم الدنيا كلها، والحقيقة أنه حكم نفسه أولا، فحكمت له الدنيا، وكذلك من أراد أن يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أن يحكم نفسه، فلا يجرؤ أحد من أتباعه أن يخالفه، وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة.
فقد تقول : إن فعلت هذا قل أنصاري وتفرق الأتباع والحاشية من حولي، نقول لك : إياك أن تظن أنهم يجلبون لك نفعا، أو يدفعون عنك ضرا، فالأمر كله بيده تعالى وبأمره، فخير لك أن تراعي الله، وأن تتوكل عليه.
﴿ وتوكل على العزيز الرحيم ٢١٧ ﴾( الشعراء ) العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويقهر ولا يقهر، ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم. وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم، فهو سبحانه في عزته رحيم، لأن عزة العزيز على المتكبر رحمة بالمتكبر عليه.
وكأن الحق –سبحانه وتعالى- يعلم خليفته في أرضه خاصة أولى الأمر منهم، يعلمه أن يكون أريبا ناصحا، يقول له : إياك أن تتوكل على عبد مثلك إذا عجزت عن العمل ؛ لأنه عاجز مثلك، وما دام الأمر كذلك فتوكل على العزيز الرحيم، فعزته ورحمته لك أنت.
أي : توكل على الذي يحبك، ويقدر عملك وعبادتك حين تقوم، والمعنى تقوم له سبحانه بالليل والناس نيام﴿ وتقلبك في الساجدين ٢١٩ ﴾( الشعراء ) ونفهم من ذلك أنه يصح أن تقوم وحدك بالليل.
وقوله ﴿ الذي يراك حين تقوم ٢١٨ ﴾( الشعراء ) يرى حالك في هذا القيام، وما أنت عليه من الفرح، وسرعة الاستجابة لنداء الله في قوله : الله أكبر، يراك حين تقوم على حالة انشراح القلب والإقبال على الله والنشاط للعبادة، لا على حال الكسل والتراخي.
وإن أقبلت على الله أعطاك من الفيوضات ما يعوضك مكاسب الدنيا وتجارتها، إن تركتها لإجابة النداء ؛ لذلك كان شعار الأذان الذي ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الله أكبر ) أي : أكبر من أي شيء غيره، فإن كنت في نوم، فالله أكبر من النوم، وإن كنت في تجارة، فالله أكبر من التجارة، وإن كنت في عمل فالله أكبر من العمل... إلخ.
وعجيب أن نرى من يقدم العمل على الصلاة بحجة امتداد الوقت، وإمكانية الصلاة بعد انتهاء العمل، وهذه حجة واهية ؛ لأن ربك حين يناديك( الله أكبر ) يريدك أن تستجيب على الفور لا على التراخي، وإلا كيف تسمى الاستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها ؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح والظهر وبين العشاء والصبح لا يعني أن تصلي في طول هذا الوقت ؛ لأن النداء يقتضي الإسراع والاستجابة.
ولنا ملحظ في ( الله أكبر ) فأكبر أفعل تفضيل تدل على المبالغة ودون أكبر نقول : كبير، وكأنها إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئا هينا أو تافها، إنما هو كبير، ينبغي الاهتمام به ؛ لأنه عصب الحياة، ولا تستقيم الأمور في عمارة الأرض إلا به.
لكن، إن كان العمل كبيرا فالله أكبر، فربك- عز وجل- لا يزهدك في العمل، ولا يزهدك في الدنيا ؛ لأنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دورا، وإن شئت فاقرأ :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله... ١٠ ﴾( الجمعة ).
وقال في موضع آخر :﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا... ٧٧ ﴾( القصص ) لأن حركة الحياة هي التي تعينك على أداء الصلاة وعلى عبادة الله، فبها تقتات، وبها تتقوى، وبها تستر عورتك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومع هذا فدعوة الله لك أولى بالتقديم، وأولى بالإجابة ؛ لأن الذي خلقك وخلقها ناداك ( الله أكبر ).
- أي: حين تقوم إلى الصلاة. قاله ابن عباس.
- يرى قيامه وركوعه وسجوده قاله عكرمة.
- يراك إذا صليت وحدك. قاله الحسن البصري.
- يراك حين تقوم من فراشك أو مجلسك. قاله الضحاك.
- يراك قائما وجالسا وعلى حالاتك. قاله قتادة ".
.
أو : أن المعنى﴿ وتقلبك في الساجدين ٢١٩ ﴾( الشعراء ) أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى صحابته وهم يصلون خلفه، فيرى من خلفه، كما يرى من أمامه، وكانت هذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم ٢.
لذلك كان يحذرهم أن يسبقوه في الصلاة في ركوع أو سجود، أو قيام أو قعود. ويحذرهم أن يفعلوا في الصلاة خلفه ما لا يصح من المصلي اعتمادا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يراهم.
٢ عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، ثم انصرف فقال:"يا فلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي". أخرجه مسلم في صحيحه (٤٢٣)، والنسائي في سننه(٢/١١٩)..
السميع لما يقال، العليم بما يجول في الخواطر.
وقد سبق أن قالوا عن القرآن تنزلت به الشياطين، فيرد عليهم : تعالوا أخبركم على من تتنزل الشياطين، وأصحح لكم هذه المعلومات الخاطئة : صحيح أن الشياطين تتنزل، لكن لا تتنزل على محمد ؛ لأنه عدوها، إنما تتنزل على أوليائها.
قال الحق سبحانه :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوك... ١٢١ ﴾( الأنعام )
وكلمة﴿ أفاك... ٢٢٢ ﴾( الشعراء ) مبالغة في الإفك أي : قلب الحقائق. وكان هؤلاء يخطفون الأخبار فيقولون شيئا قد يصادف الصدق، ثم يجعلون معه كثيرا من الكذب.
السمع مصدر وآلته الأذن، فالمراد يلقون الأذن للسمع، كما في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقي السمع وهو شهيد ٣٧ ﴾( ق )
يعني : ألقى سمعه كي يستمع كمن يحرص على السماع من خفيض الصوت، فيميل نحوه ليسمع منه. وقال﴿ وأكثرهم كاذبون ٢٢٣ ﴾( الشعراء ) لأن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليغلف كذبه، ويغطي عليه، فأنت تأخذ من صدقه هذه المرة دليلا على أنه صادق، وهو يخلط الخبر الصادق بأخبار كثيرة كاذبة.
﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون٢٢٤ ﴾
الشعراء : جمع شاعر، وهو من يقول الشعر، وهو الكلام الموزون المقفى، وقد اتهم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، ورد عليهم القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى :﴿ وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ٤١ ﴾( الحاقة ).
وعجيب من كفار مكة، وهم العرب أهل اللسان والبلاغة والبيان، وأهل الخبرة في الكلام الموزون المقفى، بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقا في ذي المجاز وذي المجنة وعكاظ، ويعلقون أجود أشعارهم على أستار الكعبة، ومع ذلك لا يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن الكريم.
إذن : هم يعرفون الفرق، لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآن :﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ٣٠ ﴾( الطور ) يقصدون بالشعر الكلام العذب الذي يستميل النفس، ويؤثر في الوجدان، ولو كان نثرا. وهذه ينادي بها الآن أصحاب الشعر الحر ؛ لأنهم يقولون شعرا، لكنه غير موزون، وغير مقفى.
ومعنى﴿ الغاوون٢٢٤ ﴾( الشعراء ) جمع غاو. وهو الضال، وهؤلاء يتبعون الشعراء. لأنهم يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار ؛ ولأنهم لا يحكم منطقهم مبدأ ولا خلق، بل هواهم هو الذي يحكم المبدأ والخلق، فإن أحبوا مدحوا، وإن كرهوا ذموا.
والدليل على ذلك :﴿ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ٢٢٥ وأنهم يقولون ما لا يفعلون ٢٢٦ ﴾
الضمير في﴿ أنهم... ٢٢٥ ﴾( الشعراء ) يعود على الشعراء، والوادي : هو المنخفض بين جبلين، وكان محل السير ومحل نمو الأشجار والبساتين واستقرار المياه.
﴿ يهيمون٢٢٥ ﴾( الشعراء ) نقول : فلان هام على وجهه أي : سار على غير هدى، وبدون هدف أو مقصد، فالمعنى﴿ في كل واد يهيمون ٢٢٥ ﴾( الشعراء ) أن هذه حال الشعراء، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إن طمع في خيرك، فإن لم تعطه كال لك الذم وتفنن في النيل منك، فليس له واد معين يسير فيه، أو مبدأ يلتزم به، كالهائم على وجهه في كل واد.
فالمتنبي١ وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويضرب به المثل في الحكمة والبلاغة، من أشهر شعره قوله :
فالخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
فالخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي ٣ طمعا فيه، وكان كافور رجلا أسود ؛ لذلك كنوه بأبي المسك، ولما مدحه المتنبي حال الرضا قال فيه :
* أبا كل طيب لا أبا المسك وحده*
وفي قصيدة أخرى يقول :
قضى الله يا كافور أنك أول | وليس بقاض أن يرى لك ثان |
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا | وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا |
أمينا٤ وإخلافا وغدرا وخسة وجبنا | أشخصا لحت لي أم مخازيا |
وتعجبني رجلاك في النعل إنني | رأيتك ذا نعل وإن كنت حافيا |
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة | ليضحك ربات الحداد البواكيا |
ولولا فضول الناس جئتك مادحا | بما كنت في نفسي به لك هاجيا |
متى تأته تعشو٥ إلى ضوء ناره | تجد خير نار عندها خير موقد٦ |
يقول الحطيئة في وصف الكريم :
وطاو ثلاثا عاصب البطن مرمل | ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما٨ |
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة | يرى البؤس فيها من شراسته نعما |
وأفرد في شعب عجوزا إزاءها | ثلاثة أشباح تخالهوا بهما |
حفاة عراة ما اغتدوا خبز ملة٩ | ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طمعا |
رأى شبحا وسط الظلام فراعه١٠ | فلما رأى ضيفا تشمر واهتما |
فقال ابنه لما رآه بحيرة | أيا أبت اذبحني ويسر له طعما |
ولا تعتذر بالعدم على الذي طرا | يظن لنا مالا فيوسعنا ذما |
فبينا هما عنت على البعد عانة | قد انتظمت من خلف مسحلها نظما١١ |
عطاشا تريد الماء فنساب نحوها | على أنه منها إلى دمها أظما |
فأمهلها حتى تروت عطاشها | وأرسل فيها من كنانتها سهما |
فخرت نحوص ذات جحش سمينة | قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما١٢ |
فيا بشره إذ جرها نحو قومه | ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدما١٣ |
وباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم | وما غرموا غرما وقد غنموا غنما |
وبات أبوهم من بشاشته أبا | لضيفهم والأم من بشرها أما |
وفي مرة، اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم اثنان من الشعراء : الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة، فغضب الممدوح ورأى أن هذا قليل في حقه، والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني فوق الذي قال- يعني : لم يوفني حقي- فقال الشاعر : أما والله وقد قال ما قال، فإنه لضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال. سبحان الله في أول المجلس كان سيد قبيلته، والآن هو ضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال ! !.
ثم قال : والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية- يعني : أنا مصيب في القولين- لكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت. عندها قال سيدنا رسول الله " إن من البيان لسحرا " ١٤.
٢ قتل المتنبي هو وابنه وغلامه بالنعمانية علم٣٥٤هـ حيث عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضا، فاقتتل الفريقان، فقتل المتنبي بالقرب من دير العاقول(في الجانب الغربي من سواد بغداد) وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة (الأعلام للزركلي١/١١٥)..
٣ كافور بن عبد الله الإخشيدي، أبو المسك، أمير مشهور، كان عبدا حبشيا اشتراه الإخشيدي ملك مصر(سنة ٣١٢هـ) فنسب إليه، وأعتقه فترقي عنده. وما زالت همته تصعد به حتى ملك مصر (سنة ٣٥٥هـ) وقد ولد(عام ٢٩٢هـ)، وتوفى بالقاهرة ٣٥٧هـ عن ٦٥عاما(الأعلام للزركلي ٥/٢١٦)..
٤ المين: الكذب..
٥ أعشو: أنظر. يقال: عشوت إلى النار إذا أحددت نظرك إليها. قاله أبو علي القالي في الأمالي (١/١٤٩). وقال ابن منظور في اللسان في معنى البيت "أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك"..
٦ أورده أبو علي القالي في "الأمالي" (١/١٤٩). وكذا ابن منظور في (لسان العرب- مادة: عشا). وعزاه للحطيئة. وكذا أورده أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" (١/٢٣٧)..
٧ هو: جرول بن أوس بن مالك، وهو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، أسلم ثم ارتد، لقب بالحطيئة لقصره وقربه من الأرض، كان ذا شر وسفه، كان ينتمي إلى كل واحدة من قبلائل العرب إذا غضب على الأخرى. (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١/٢٢٢)..
٨ الطاوي: الجائع، مرمل: قد اختلط طعامه بالرمل. الرسم: الأثر..
٩ خبز ملة: هو الخبز يوضع في الرماد الحار الذي يحمي ليدفن فيه الخبز لينضج..
١٠ راعه: أخافه وأفزعه..
١١ عنت: ظهرت. عانة: العنون من الدواب: من حمر الوحش. المسحل: قائد القطيع..
١٢ نحوص: سمينة ممتلئة. طبقت شحما: امتلأت شحما ولحما..
١٣ الكلم: الجرح. يدما: ينزف دما.(راجع لسان العرب)..
١٤ أخرج هذا الحديث بهذه القصة البيهقي في دلائل النبوة(٥/٣١٦) بإسنادين الأول منقطع عن محمد بن الزبير الحنظلي، والثاني موصولا من حديث ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم والزبرقان بن بندر وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر الزبرقان، فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه، فقال الزبرقان بن بدر: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن الأهتم: أنا أحسدك، فوالله إنك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا، إن من البيان سحرا..
الضمير في﴿ أنهم... ٢٢٥ ﴾( الشعراء ) يعود على الشعراء، والوادي : هو المنخفض بين جبلين، وكان محل السير ومحل نمو الأشجار والبساتين واستقرار المياه.
﴿ يهيمون٢٢٥ ﴾( الشعراء ) نقول : فلان هام على وجهه أي : سار على غير هدى، وبدون هدف أو مقصد، فالمعنى﴿ في كل واد يهيمون ٢٢٥ ﴾( الشعراء ) أن هذه حال الشعراء، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إن طمع في خيرك، فإن لم تعطه كال لك الذم وتفنن في النيل منك، فليس له واد معين يسير فيه، أو مبدأ يلتزم به، كالهائم على وجهه في كل واد.
فالمتنبي١ وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويضرب به المثل في الحكمة والبلاغة، من أشهر شعره قوله :
فالخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
فالخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي ٣ طمعا فيه، وكان كافور رجلا أسود ؛ لذلك كنوه بأبي المسك، ولما مدحه المتنبي حال الرضا قال فيه :
* أبا كل طيب لا أبا المسك وحده*
وفي قصيدة أخرى يقول :
قضى الله يا كافور أنك أول | وليس بقاض أن يرى لك ثان |
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا | وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا |
أمينا٤ وإخلافا وغدرا وخسة وجبنا | أشخصا لحت لي أم مخازيا |
وتعجبني رجلاك في النعل إنني | رأيتك ذا نعل وإن كنت حافيا |
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة | ليضحك ربات الحداد البواكيا |
ولولا فضول الناس جئتك مادحا | بما كنت في نفسي به لك هاجيا |
متى تأته تعشو٥ إلى ضوء ناره | تجد خير نار عندها خير موقد٦ |
يقول الحطيئة في وصف الكريم :
وطاو ثلاثا عاصب البطن مرمل | ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما٨ |
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة | يرى البؤس فيها من شراسته نعما |
وأفرد في شعب عجوزا إزاءها | ثلاثة أشباح تخالهوا بهما |
حفاة عراة ما اغتدوا خبز ملة٩ | ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طمعا |
رأى شبحا وسط الظلام فراعه١٠ | فلما رأى ضيفا تشمر واهتما |
فقال ابنه لما رآه بحيرة | أيا أبت اذبحني ويسر له طعما |
ولا تعتذر بالعدم على الذي طرا | يظن لنا مالا فيوسعنا ذما |
فبينا هما عنت على البعد عانة | قد انتظمت من خلف مسحلها نظما١١ |
عطاشا تريد الماء فنساب نحوها | على أنه منها إلى دمها أظما |
فأمهلها حتى تروت عطاشها | وأرسل فيها من كنانتها سهما |
فخرت نحوص ذات جحش سمينة | قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما١٢ |
فيا بشره إذ جرها نحو قومه | ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدما١٣ |
وباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم | وما غرموا غرما وقد غنموا غنما |
وبات أبوهم من بشاشته أبا | لضيفهم والأم من بشرها أما |
وفي مرة، اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم اثنان من الشعراء : الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة، فغضب الممدوح ورأى أن هذا قليل في حقه، والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني فوق الذي قال- يعني : لم يوفني حقي- فقال الشاعر : أما والله وقد قال ما قال، فإنه لضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال. سبحان الله في أول المجلس كان سيد قبيلته، والآن هو ضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال ! !.
ثم قال : والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية- يعني : أنا مصيب في القولين- لكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت. عندها قال سيدنا رسول الله " إن من البيان لسحرا " ١٤.
٢ قتل المتنبي هو وابنه وغلامه بالنعمانية علم٣٥٤هـ حيث عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضا، فاقتتل الفريقان، فقتل المتنبي بالقرب من دير العاقول(في الجانب الغربي من سواد بغداد) وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة (الأعلام للزركلي١/١١٥)..
٣ كافور بن عبد الله الإخشيدي، أبو المسك، أمير مشهور، كان عبدا حبشيا اشتراه الإخشيدي ملك مصر(سنة ٣١٢هـ) فنسب إليه، وأعتقه فترقي عنده. وما زالت همته تصعد به حتى ملك مصر (سنة ٣٥٥هـ) وقد ولد(عام ٢٩٢هـ)، وتوفى بالقاهرة ٣٥٧هـ عن ٦٥عاما(الأعلام للزركلي ٥/٢١٦)..
٤ المين: الكذب..
٥ أعشو: أنظر. يقال: عشوت إلى النار إذا أحددت نظرك إليها. قاله أبو علي القالي في الأمالي (١/١٤٩). وقال ابن منظور في اللسان في معنى البيت "أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك"..
٦ أورده أبو علي القالي في "الأمالي" (١/١٤٩). وكذا ابن منظور في (لسان العرب- مادة: عشا). وعزاه للحطيئة. وكذا أورده أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" (١/٢٣٧)..
٧ هو: جرول بن أوس بن مالك، وهو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، أسلم ثم ارتد، لقب بالحطيئة لقصره وقربه من الأرض، كان ذا شر وسفه، كان ينتمي إلى كل واحدة من قبلائل العرب إذا غضب على الأخرى. (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١/٢٢٢)..
٨ الطاوي: الجائع، مرمل: قد اختلط طعامه بالرمل. الرسم: الأثر..
٩ خبز ملة: هو الخبز يوضع في الرماد الحار الذي يحمي ليدفن فيه الخبز لينضج..
١٠ راعه: أخافه وأفزعه..
١١ عنت: ظهرت. عانة: العنون من الدواب: من حمر الوحش. المسحل: قائد القطيع..
١٢ نحوص: سمينة ممتلئة. طبقت شحما: امتلأت شحما ولحما..
١٣ الكلم: الجرح. يدما: ينزف دما.(راجع لسان العرب)..
١٤ أخرج هذا الحديث بهذه القصة البيهقي في دلائل النبوة(٥/٣١٦) بإسنادين الأول منقطع عن محمد بن الزبير الحنظلي، والثاني موصولا من حديث ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم والزبرقان بن بندر وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر الزبرقان، فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه، فقال الزبرقان بن بدر: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن الأهتم: أنا أحسدك، فوالله إنك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا، إن من البيان سحرا..
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعدما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون٢٢٧ ﴾ :
كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد الله بن الزبعري، ومسافح الجمحي يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذمونه، فيلتف الضالون الغاوون من حولهم، يشجعونهم ويستزيدونهم من هجاء رسول الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى :﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون٢٢٤ ﴾ ( الشعراء ) فأسرع إلى سيدنا رسول الله شعراء الإسلام : عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا : أنحن من هؤلاء يا رسول الله ؟ فقرأ عليهم رسول الله هذه الآية :
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... ٢٢٧ ﴾( الشعراء ).
فاستثنى الحق- تبارك وتعالى- من الشعراء من توفرت فيه هذه الخصال الأربع ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا... ٢٢٧ ﴾( الشعراء ) أي : ذكروا الله في أشعارهم ؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ الإيمان، فيلتفتوا إليها، ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هجوه.
وكان هؤلاء الثلاثة ينتصرون للإسلام ولرسول الله، فكلما هجاه الكفار ردوا عليهم، وأبطلوا حججهم، ودافعوا عن رسول الله، حتى أنه صلى الله عليه وسلم نصب منبرا١ لحسان بن ثابت، وكان يقول له : " قل وروح القدس معك، اهجهم وجبريل معك " ٢ وقال لكعب بن مالك ٣ : " اهجهم، فإن كلامك أشد عليهم من رشق النبال " ٤ كما سمح لهم بإلقاء الشعر في المسجد ؛ لأنهم دخلوا في هذا الاستثناء، فهم من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وهم الذين ينتصرون للإسلام ويمجدون رسول الله، ويدافعون عنه، ويردون عنه ألسنة الكفار.
ومعنى :﴿ وانتصروا من بعد ما ظلموا... ٢٢٧ ﴾( الشعراء ) أنهم لم يكونوا سفهاء، ولم يبدأوا الكفار بالهجاء، إنما ينتصرون لأنفسهم، ويدفعون ما وقع على الإسلام من ظلم الكافرين ؛ لذلك لما هجا أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحدهم٥ ردا عليهم :
أتهجوه ولست له بكفء | فشركما لخيركما الفداء |
فإن أبي ووالده وعرضي | لعرض محمد منكم وقاء |
ومن رحمته تعالى وحكمته أن أباح للمظلوم أن ينتصر لنفسه، وأن ينفس عنها ما يعانيه من وطأة الظلم، حتى لا تكبت بداخله هذه المشاعر، ولا بد أن تنفجر، فقال سبحانه :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ١٢٦ ﴾( النحل ).
وقال تعالى :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم... ١٤٨ ﴾( النساء ).
فأباح للمظلوم أن يعبر عن نفسه، وأن يرفض الظلم، ولا عليه إن جهر بكلمة تخفف عنه ما يشعر به من ظلم.
ثم تختم السورة بقوله تعالى :﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ٢٢٧ ﴾ ( الشعراء ) يعني : غدا سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون ؟ والمنقلب هو المرجع والمآب، والمصير الذي ينتظرهم.
فالحق- تبارك وتعالى- يتوعدهم بما يؤذيهم، وبما يسوؤهم، فلن تنتهي المسألة بانتصار المسلمين عليهم، إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخرة.
كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك.... ٤٧ ﴾( الطور ).
لذلك أبهم الله تعالى هذا المنقلب، وإبهامه للتعظيم والتهويل، وقد بلغ من العظم أنه لا يوصف ولا تؤدي العبارة مؤداه، كما أبهم العذاب في قوله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم٧٨ ﴾( طه ).
يعني : شيء عظيم لا يقال، والإبهام هنا أبلغ ؛ لأن العقل يذهب في تصوره كل مذهب، وعلى كل كيفية.
والمنقلب أو المرجع لا يمدح في ذاته، ولا يذم في ذاته، فإن انتهى إلى السوء فهو منقلب سيء، وإن انتهى إلى خير فهو منقلب حسن، فالذي نحن بصدده من منقلب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يذم.
أما منقلب سحرة فرعون مثلا حين قال لهم :﴿ آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف.... ٧١ ﴾( طه ).
فماذا قالوا ؟ ﴿ قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ٥٠ ﴾( الشعراء ) فهذا منقلب حسن يمدح ويحمد.
وقد يظن المرء أن منقلبه منقلب خير، وأنه سينتهي إلى ما يفرح، وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير، والله تعالى يعد منقلبا آخر، كالذي أعطاه الله الجنتين من أعناب وحففهما بنخل، وجعل بينهما زرعا، فلما غرته نعمة الدنيا ظن أن له مثلها، أو خيرا منها في الآخرة، فقال :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ٣٦ ﴾( الكهف ).
والانقلاب والمرجع إلى الله- عز وجل –إنما يفرح به من آمن بالله وعمل صالحا ؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى جزاء من الحق- سبحانه وتعالى- مؤكد ؛ لذلك الحق- تبارك وتعالى- يعلمنا حين نركب الدواب التي تحملنا﴿ وتحمل أثقالنا إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس... ٧ ﴾( النحل ).
علمنا أن نذكره سبحانه :﴿ والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون١٢ لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ١٣ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ١٤ ﴾( الزخرف ).
إذن : فالدواب وما يحل محلها الآن من وسائل المواصلات من أعظم نعم الله علينا، ولولا أن الله سخرها لنا ما كان لنا قدرة عليها، ولا طاقة بتسخيرها ؛ لذلك نقول ﴿ وما كنا له مقرنين ١٣ ﴾( الزخرف ).
أي : لا نستطيع ترويضه، فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم، وينيخه ويحمله الأثقال وهو طائع منقاد، لكنه يفزع إن رأى ثعبانا صغيرا، لماذا ؟ لأن الله –سبحانه وتعالى- سخر لنا الجمل وذلله، ولم يسخر لنا الثعبان.
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه :﴿ أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ٧١ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ٧٢ ﴾( يس ).
ولكن ما علاقة قولنا :﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ١٣ ﴾( الزخرف ) بقولنا :﴿ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ١٤ ﴾( الزخرف ).
قالوا : لأننا سنقلب إلى الله في الآخرة، وسنسأل عن هذا النعيم، فإن شكرنا ربنا على هذه النعمة فقد أدينا حقها، ومن شكر الله على نعمة في الدنيا لا يسأل عنها في الآخرة ؛ لأنه أدى حقها.
وقال سبحانه :﴿ وسيعلم... ٢٢٧ ﴾( الشعراء ) بالسين الدالة على الاستقبال، لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض ؛ لأن الله تعالى أخفى الموت ميعادا، وأخفاه سببا ومكانا، وهذا الإبهام للموت هو عين البيان، لأنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت، في كل وقت، ولو علم الإنسان موعد موته لقال : أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت.
إذن : الوقت الذي تقتضيه السين هنا لا يطول، فقد يفاجئك الموت، وليس بعد الموت عمل أو توبة، واقرأ قوله تعالى :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها٤٦ ﴾( النازعات )
وقلنا : إن في الآية﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون٢٢٧ ﴾ ( الشعراء ) تهديدا ووعيدا، الحق- تبارك وتعالى- حين يضخم الوعيد إنما يريد الرحمة بخلقه، وهو محب لهم، فيهددهم الآن ليسلموا غدا، وينبههم ليعودوا إليه، فينالوا جزاءه ورحمته.
وكأنه –تبارك وتعالى –يريد من وراء هذا التهديد أن يوزع رحمته لا جبروته، كما تقسو على ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد. إذن : فالوعد بالخير خير، والوعيد بالشر أيضا خير، فكل ما يأتيك من ربك، فاعلم أنه خير لك، حتى وإن كان تهديدا ووعيدا.
وهكذا قدمت لنا سورة الشعراء نموذجا من تسلية الحق- تبارك وتعالى- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم، وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم موكب الرسل، وكيف أن الله أيدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم.
ثم سلاه ربه بأن رد على الكفار في افتراءاتهم، وأبطل حججهم، وأبان زيف قضاياهم، ثم تختم هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة ﴿ أي منقلب ينقلبون ٢٢٧ ﴾ ( الشعراء ) ليضخمها.
والشيء إذا حدد إنما يأتي على لون واحد، وإن أبهم كان أبلغ ؛ لأن النفس تذهب في تصوره كل مذهب، كما لو تأخر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرح بنا الظنون في سبب تأخره، وفي احتمالات ما يمكن أن يحدث، وتتوارد على خواطرنا الأوهام، وكل وهم يرد في نفسك بألم ولذعة، في حين أن الواقع شيء واحد.
١ سورة الشعراء هي السورة رقم( ٢٦ ) في ترتيب المصحف الشريف، عدد آياتها ٢٢٧ آية، وهي سورة مكية في قول الجمهور، وهي السورة رقم ٤٦ في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النمل( انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٢٧ ). وقد استثنى ابن عباس وقتادة أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله { والشعراء يتبعهم الغاوون ٢٢٤ ) ( الشعراء ) إلى آخر السورة. ( ذكره القرطبي في تفسيره ٧/٤٩٦٥ ).
٢ أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢١٣، ٦١٥٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٤٨٦) كتاب فضائل الصحابة من حديث براء بن عازب..
٣ هو: كعب بن مالك بن عمرو الأنصاري السلمي الخزرجي، صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة، اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم، عمى في آخر عمره، وعاش ٧٧سنة، توفى ٥٠هـ.(كتاب الأعلام للزركلي)..
٤ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٤٩٠) كتاب فضائل الصحابة..
٥ هو حسان بن ثابت، كما جاء في صحيح مسلم (٢٤٩٠)كتاب فضائل الصحابة، وفيه أن أبياته كالتالي:
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا حنيفا رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وانظر أيضا دلائل النبوة للبيهقي (٥/٤٨-٤٩)..