تفسير سورة الشعراء

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الشعراء مكية إلا قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية.

(٢٦) سورة الشعراء
مكية إِلا قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالشُّعَراءُ يَتَبِعُهُمُ الغَاوُونَ) إلى آخرها وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
طسم قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإِمالة، ونافع بين بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها، وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الظاهر إعجازه وصحته، والإِشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول «البقرة».
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ قاتل نفسك، وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح، وقرئ «باخع نَّفْسَكَ» بالإِضافة، ولعل للإِشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة.
أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤ الى ٦]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة ملجئة إلى الإِيمان أو بلية قاسرة عليه. فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله.
وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم. وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم:
جاءنا عنق من الناس لفوج منهم، وقرئ «خاضعة» وظلت عطف على نُنَزِّلْ عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ موعظة أو طائفة من القرآن. مِنَ الرَّحْمنِ يوحيه إلى نبيه. مُحْدَثٍ مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلا جددوا إعراضاً عنه وإصراراً على ما كانوا عليه.
فَقَدْ كَذَّبُوا أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله: فَسَيَأْتِيهِمْ أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة. أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنه كان حقاً أم باطلاً، وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧ الى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أو لم ينظروا إلى عجائبها. كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ
محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى، وهاهنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره، وكُلِّ لإِحاطة الأزواج وكَمْ لكثرتها.
إِنَّ فِي ذلِكَ إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد. لَآيَةً على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. الرَّحِيمُ حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى مقدر باذكر أو ظرف لما بعده. أَنِ ائْتِ أي ائْتِ أو بأن ائْتِ.
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم.
قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الأول أو عطف بيان له، ولعل الإِقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك. أَلا يَتَّقُونَ استئناف أتبعه إرساله إليهم للإِنذار تعجيباً له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجراً لهم وغضباً عليهم، وهم وإن كان غيباً حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإِضافة، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله: ألا يا اسجدوا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢ الى ١٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالاً عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنها إذا اجتمعت مسة الحاجة إلى معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته، وليس ذلك تعللاً منه وتوقفاً في تلقي الأمر، بل طلباً لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه، وقرأ يعقوب وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ بالنصب عطفاً على يُكَذِّبُونِ فيكونان من جملة ما خاف منه.
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه، والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قبل أداء الرسالة، وهو أيضاً ليس تعللاً وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة، كما إن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إجابة له إلى الطلبتين بوعده لدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف، وضم أخيه إليه في الإِرسال، والخطاب في فَاذْهَبا على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الذي يدل عليه
كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والذي طلبته. إِنَّا مَعَكُمْ يعني موسى وهارون وفرعون. مُسْتَمِعُونَ سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهر كما عليه، مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعاً لما يجري بينهم وترقباً لإِمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بالإِعانة، ولذلك تجوز بالاستماع الذي هو بمعنى الإِصغاء للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات، وهو خبر ثان أو الخبر وحده مَعَكُمْ لغو.
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة، قال الشاعر:
لَقَدْ كَذبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُم بِسِرٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى، أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به، أو لأنه أراد أن كل واحد منا.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإِرسال المتضمن معنى القول، والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك. أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا في منازلنا. وَلِيداً طفلاً سمي به لقربه من الولادة. وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الغرق خمسين.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطي، وبخه به معظماً إياه بعد ما عدد عليه نعمته، وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي، أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه السلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين، ويجوز أن يكون حكماً مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة، أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ من الجاهلين وقد قرئ به، والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه، أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب، أو الناسين من قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً حكمة. وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ رد أولاً بذلك ما وبخه به قدحاً في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقاً غير قادح في دعواه، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسبباً عنها فقال.
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك. وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أَنْ عَبَّدْتَ، ومحل أَنْ عَبَّدْتَ الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل نِعْمَةٌ أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها. وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء
مبهمة وأَنْ عَبَّدْتَ عطف بيانها والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تَمُنُّها علي، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده، والخوف والفرار منه ومن ملئه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله:
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها، فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لا بد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه رَبُّ السَّماواتِ وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عدولاً إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل.
قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولاً على السخرية.
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما تشاهدون كل يوم أنه يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لا ينهم أولاً، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠)
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ عدولاً إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله أَلا تَسْتَمِعُونَ من نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله كان دهرياً اعتقد أن من ملك قطراً أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله، واللام في الْمَسْجُونِينَ للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك.
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي، يعني المعجزة فإنها
الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أن لك بينة أو في دعواك، فإن مدعي النبوة لا بُدَّ له من حجة.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر.
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ
روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ مستقرين حوله فهو ظرف وقع موقع الحال. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما، وقيل إحبسهما. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطاً يحشرون السحرة.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي، وقرئ «بكل ساحر».
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٩ الى ٤٢]
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثاً على مبادرتهم إليه كقول تأبط شراً:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثٌ دِينَارٍ لحَاجَتِنَا أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بن مِخْرَاقِ
أي ابعث أحدهما إلينا سريعاً.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة
المقتضية للاتباع، ومقصودهم الأصلي أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء، وقرئ «نِعْمَ» بالكسر وهما لغتان.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي بعد ما قالوا له إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإِذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق.
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإِتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع، وقرأ حفص تَلْقَفْ بالتخفيف. مَا يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له، وأن التبحر في كل فن نافع. وإنما بدل الخرور بالإِلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل من «ألقي» بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإِشعار على أن الموجب لإِيمانهم ما أجراه على أيديهما.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٤٩]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فعلمكم شيئاً دون شيء ولذلك غلبكم، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح «أأمنتم» بهمزتين. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم وقوله:
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بيان له.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
قالُوا لاَ ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء
للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها.
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا لأن كنا. أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير، أو تعليل للعلة المتقدمة. وقرئ «إِن كُنَّا» على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٥٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتواً وفساداً، وقرأ ابن كثير ونافع أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ «أن سر» من السير. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإِسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسراهم. فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ العساكر ليتبعوهم.
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً بالإِضافة إلى جنوده، إذ
روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة، ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع
، وقَلِيلُونَ باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا.
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ وإنا لجمع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثاً عليه، أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون حاذِرُونَ والأول للثبات والثاني للتجدد، وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضاً من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذرا، وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء قال:
أُحِبُّ الصَّبِيَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حَادِرٌ
أو تامو السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
فَأَخْرَجْناهُمْ بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية.
كَذلِكَ مثل ذلك الإِخراج أخرجنا فهو مصدر، أو مثل ذلك المقام الذي كان لهم على أنه صفة مقام، أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ.
فَأَتْبَعُوهُمْ وقرئ «فَأَتْبَعُوهُم». مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦١ الى ٦٤]

فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، وقرئ «تراءت الفئتان» قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون، وقرئ «لَمُدْرَكُونَ» من أدرك الشيء إذا تتابع ففني، أي: لمتتابعون في الهلاك على أيديهم.
قالَ كَلَّا لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة.
سَيَهْدِينِ طريق النجاة منهم،
روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون، فقال: أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع.
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ بحر القلزم أو النيل. فَانْفَلَقَ أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقاً بينها مسالك. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب.
وَأَزْلَفْنا وقربنا. ثَمَّ الْآخَرِينَ فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وأية آية. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط، وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه. الرَّحِيمُ بأوليائه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي العرب. نَبَأَ إِبْراهِيمَ.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة.
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحاً به وافتخاراً، و «نظل» ها هنا بمعنى ندوم. وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة. إِذْ تَدْعُونَ عليه
وقرئ «يَسْمَعُونَكُمْ» أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعاً مع إِذْ على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ على عبادتكم لها. أَوْ يَضُرُّونَ من أعرض عنها.
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع، والتجؤوا إلى التقليد.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقاً.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه، أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضاً لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعاراً بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار، مبدؤها بالنسبة إلى الإِنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها، والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله:
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده، وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطف على يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب، وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم، ولا ينتقض بإسناد الإِماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحس به لا ضرر فيه وإنما لضرر في مقدماته وهي المرض، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب التي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإِنسان في مطاعمه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر، والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهراً وذلك بقدرة الله العزيز العليم.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ في الآخرة.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]

وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر ذلك هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفاراً لما عسى يندر منه من الصغائر، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث: إِنِّي سَقِيمٌ، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، وقوله «هي أختي»، ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا.
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً كمالا في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورئاسة الخلق. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ جاهاً وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه، أو صادقاً من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها.
وَاغْفِرْ لِأَبِي بالهداية والتوفيق للإِيمان. إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإِيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
وَلا تُخْزِنِي بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوارث، أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلاً، أو بتعذيب والدي، أو ببعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان، أو من الخزاية بمعنى الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ الضمير للعباد لأنهم معلومون أو ل الضَّالِّينَ.
يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لا ينفعان أحداً إلا مخلصاً سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة. وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلاَّ غناه. وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ تنفعه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، وفي اختلاف الفعلين
ترجيح لجانب الوعد.
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم. هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم. أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ أي الآلهة وعبدتهم، والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها.
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ متبعوه من عصاة الثقلين، أو شياطينه. أَجْمَعُونَ تأكيد لل جُنُودُ إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير وما عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله:
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي في استحقاق العبادة، ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في قالُوا والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ إِذِ الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق، وجمع الشافع ووحد ال صَدِيقٍ لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لأن ال صَدِيقٍ الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإِطلاق ال صَدِيقٍ على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل.
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمن للرجعة أقيم فيه «لو» مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير، أو شرط حذف جوابه. فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جواب التمني أو عطف على كَرَّةً أي: لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة إبراهيم. لَآيَةً لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإِشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالقته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً وإيقاظاً لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه. مُؤْمِنِينَ به.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام. الرَّحِيمُ بالإِمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ال قَوْمُ مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين.
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ لأنه كان منهم. أَلا تَتَّقُونَ الله فتتركوا عبادة غيره.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أنا عليه من الدعاء والنصح. مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في أَجْرِيَ في الكلمات الخمس.
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الأقلون جاهاً ومالاً جمع الأرذل على الصحة، وقرأ يعقوب «وأتباعك» وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلاً على بطلانه، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إنهم عملوه إخلاصاً أو طمعاً في طعمة وما عليَّ إلا اعتبار الظاهر.
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. لَوْ تَشْعُرُونَ لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله:
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإِنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، أو ما عليَّ إلا إنذاركم إنذاراً بيناً بالبرهان الواضح فلا عليَّ أن أطردهم لاسترضائكم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول. لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المشتومين أو المضروبين بالحجارة.
قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة. وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من قصدهم أو شؤم عملهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٩ الى ١٢٢]
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء.
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ بعد إنجائه. الْباقِينَ من قومه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً شاعت وتواترت. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦)
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم.
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٢٧]
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٨ الى ١٣١]
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ بكل مكان مرتفع، ومنه ريع الأرض لارتفاعها. آيَةً علماً للمارة. تَعْبَثُونَ ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام، أو بنياناً يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم، أو قصوراً يفتخرون بها.
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ مآخذ الماء وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فتحكمون بنيانها.
وَإِذا بَطَشْتُمْ بسيف أو سوط. بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.
فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء. وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٥]
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ كرره مرتباً على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلاً وتنبيهاً على الوعد عليه بدوام الإِمداد والوعيد على تركه بالإِنقطاع، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالاً بالإِنكار في أَلا تَتَّقُونَ مبالغة في الإِيقاظ والحث على التقوى فقال.
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ثم أوعدهم فقال.
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإِنعام قدر على الإِنتقام.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٩]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنا لا نرعوي عما نحن عليه، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه.
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوليين، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها.
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه.
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب بريح صرصر. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤٠ الى ١٤٨]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله:
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ لطيف لين للطف التمر، أو لأن النخل أنثى وطلع إناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو متدل منكسر من كثرة الحمل، وإفراد ال نَخْلٍ لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٢]
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل
بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين» وهو أبلغ من «فارهين».
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازاً.
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وصف موضح لإِسرافهم ولذلك عطف: وَلا يُصْلِحُونَ على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٤]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا كثيراً حتى غلب على عقلهم، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكيداً له. فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٨]
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
قالَ هذِهِ ناقَةٌ أي بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها. لَها شِرْبٌ نصيب من الماء كالسقي والقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم. وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب وعقر. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب.
فَعَقَرُوها أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعاً. فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفاً من حلول العذاب لا توبة، أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم.
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي العذاب الموعود. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في نفي الإِيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشاً إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٦]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم، أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإِناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم، فالمراد ب الْعالَمِينَ على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس.
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ لأجل استمتاعكم. رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ للبيان إن أريد به جنس الإناث، أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضاً. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات، أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٧ الى ١٦٨]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا. لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من المنفيين من بين أظهرنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإِنكار عليه بالإِبعاد، وهو أبلغ من أن يقول إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٩ الى ١٧١]
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من شؤمه وعذابه.
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.
إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط. فِي الْغابِرِينَ مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٥]
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم. فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٨١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهم شعيباً كما بعثه إلى مدين وكان أجنبياً منهم فلذلك قال:
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ولم يقل أخوهم شعيب. وقيل الأيكة شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة» بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم، وإنما كتبت ها هنا وفي ص بغير ألف اتباعاً للفظ.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه. وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٤]
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السوي، وهو وإن كان عربياً فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تنقصوا شيئاً من حقوقهم. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالقتل والغارة وقطع الطريق.
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٧]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في دعواك.
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قطعة منها، ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد. وقرأ حفص بفتح السين. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٨ الى ١٩٠]
قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩١ الى ١٩٦]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتهديداً للمكذبين به، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان إبتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم.
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ.
عَلى قَلْبِكَ تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله عز وجل، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولاً على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة، والرُّوحُ الْأَمِينُ جبريل عليه السلام فإنه أمين الله على وحيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب الرُّوحُ الْأَمِينُ. لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك.
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب نَزَلَ، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٧ الى ١٩٩]
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً على صحة القرآن أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلاً. وقرأ ابن عامر تكن بالتاء وآيَةً بالرفع على أنها الاسم والخبر لَهُمْ وأَنْ يَعْلَمَهُ بدل أو الفاعل وأَنْ يَعْلَمَهُ بدل لَهُمْ حال، أو أن الاسم ضمير القصة وآيَةً خبر أَنْ يَعْلَمَهُ والجملة خبر تكن.
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم.
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ لفرط عنادهم واستكبارهم، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم، والْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٣]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
كَذلِكَ سَلَكْناهُ أدخلناه. فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ والضمير للكفر المدلول عليه بقوله مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ فتدل الآية على أنه بخلق الله، وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عناداً.
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإِيمان.
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً في الدنيا والآخرة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بإتيانه.
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ تحسراً وتأسفا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٧]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَّا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فيقولون أمطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة.
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَّا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يُمَتَّعُونَ لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٨ الى ٢٠٩]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أنذروا أهلها إلزاماً للحجة.
ذِكْرى تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإِنذار، أو الرفع على أنها صفة
مُنْذِرُونَ بإضمار ذوو، أو بجعلهم ذكرى لإِمعانهم في التذكرة، أو خبر محذوف والجملة اعتراضية. وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك غير الظالمين، أو قبل الإنذار.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢١٣]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة.
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وما يصح لهم أن يتنزلوا به. وَما يَسْتَطِيعُونَ وما يقدرون.
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة. لَمَعْزُولُونَ لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة.
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ تهييج لإِزدياد الإِخلاص ولطف لسائر المكلفين.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٤ الى ٢١٦]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم.
روي أنه لما نزلت صعد الصفا وناداهم فخذاً فخذاً حتى اجتمعوا إليه فقال: «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي» قالوا نعم قال: «فإني نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عذاب شديد».
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط، ومِنَ للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره، أو للتبعيض على أن المراد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المشارفون للإِيمان أو المصدقون باللسان.
فَإِنْ عَصَوْكَ ولم يتبعوك. فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ مما تعملونه أو من أعمالكم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٧ الى ٢٢٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» على الإِبدال من جواب الشرط.
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
إلى التهجد.
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ وترددك في تصفح أحوال المجتهدين
كما روي أنه عليه السلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن. أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم، وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقاً للتوكل وتطميناً لقلبه عليه.
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله. الْعَلِيمُ بما تنويه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٣]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمّدا صلّى الله عليه وسلّم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين: أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإِثم، فإن اتصال الإِنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمّد صلى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك. وثانيهما قوله:
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنوناً وأمارات لنقصان علمهم، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما
جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة»
ولا كذلك محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى: كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٦]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وأتباع محمّد صلّى الله عليه وسلّم ليسوا كذلك، وهو استئناف أبطل كونه عليه الصلاة والسلام شاعرا وقرره بقوله:
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه، وإليه أشار بقوله:
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لحال أربابهما. وقرأ نافع يَتَّبِعُهُمُ على التخفيف، وقرئ بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٢٧]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين،
وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان «قل وروح القدس معك».
وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام قال له «اهجهم فو الّذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل»
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم، وفي أي منقلب ينقلبون أي بعد الموت من الإيهام والتهويل، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد
152
إليه، وقرئ «أي منفلت ينفلتون» من الانفلات وهو النجاة والمعنى: أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمّد عليهم الصلاة والسلام».
153
Icon