ﰡ
وقُلْنا: في هذه المسألة معانٍ كثيرة، أيسرها: أن القرآن، وهو كلام الله المعجز مُنزَّل من حروف مثل حروفكم التي تتكلمون
ولو تأملتَ لوجدتَ أن الحروف المقطعة في أوائل السور مجموعها أربعة عشر حرفاً، هي نصف الحروف الهجائية، مرة يأتي حرف واحد، ومرة حرفان، ومرة ثلاثة أحرف، ومرة أربعة أحرف، ومرة خمسة أحرف. وهذا يدُّلنا على أن القرآن مُعْجِز، مع أنه بنفس حروفكم، وبنفس كلماتكم.
وسبق أن ضربنا لتوضيح هذه المسألة مثلاً: هَبْ أنك أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج مثلاً، فأعطيت أحدهم صوفاً، وللثاني حريراً، وللثالث قطناً، وللرابع كتاناً، فهل تستطيع أن تحكم على دِقَّة نَسْج كل منهم وأيهما أرقّ وأجمل؟ بالطبع لا تستطيع؛ لأن الحرير أنعم وأرقّ من القطن، والقطن أرقّ من الصوف، والصوف أرقّ من الكتان، فإنْ أردتَ تمييز الدقة والمهارة في هذه الصنعة فعليك أنْ تُوحِّد النوع.
إذن: سِرّ الإعجاز في القرآن أن تكون مادته ومادة غيره من الكلام واحدة، حروفاً وكلمات؛ لذلك كثيراً ما يقول الحق تبارك وتعالى بعد الحروف المقطعة:
ومعنى ﴿المبين﴾ [الشعراء: ٢] الواضح المحيط بكل شيء، كما قال سبحانه في آية أخرى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾
والحق تبارك وتعالى يُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما قال له في سورة الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [لكهف: ٦].
ومعنى ﴿بَاخِعٌ﴾ [الشعراء: ٣] البخع: الذَّبْح الذي لا يقتصر على قَطْع المرىء والودجين، إنما يبالغ فيه حتى يفصل الفقرات، ويخرج النخاع من بينها، والمعنى: تحزن حزناً عميقاً يستولي على نفسك حتى تهلك، وهذا يدل على المشقة التي كان يعانيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تكذيب قومه له.
وفي موضع آخر، يقول سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨] فهذا أمر نهائي واضح، ونَهْي صريح، بعد أنْ لفتَ نظره بالإنكار، فقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [الشعراء: ٣].
وقد نبّه الله تعالى رسوله في عِدّة مواضع حتى لا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها، فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠].
وقال: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: ٢٢].
وقال: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: ٤٥].
فالحق تبارك وتعالى يقول لرسوله: يسِّر على نفسك، ولا تُكلِّفها تكليفاً شاقّاً مُضْنياً، والعتاب هنا لصالح الرسول، لا عليه.
فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعتْ قوالبهم، لكن الحق تبارك وتعالى كما قلنا لا يريد بالإيمان أنْ يُخضع القوالب، إنما يريد أن يُخضع القلوب باليقين والاتباع.
فلو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً، لا يتخلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلاً وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلاً عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهّد أن يُغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢].
والشيطان نفسه يقول: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢٨٣].
إذن لو أراد سبحانه لجعلَ الناس جميعاً مؤمنين وما عَزَّ عليه ذلك، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن، فيأتي ربه طواعية مختاراً.
وقال: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] خَصَّ الأعناق؛ لأنها مظهر الخضوع، فأول الخضوع أنْ تلوى الأعناق، أو الأعناق تُطلَق عند العرب على وجوه القوم وأعيانهم؛ لذلك يقولون في التهديد: هذه مسألة تضيع فيها رقاب.
والمراد: الرقاب الكبيرة ذات الشأن، لا رقاب لمامة القوم، والضعفاء، أو العاجزين. ومثلها كلمة صدور القوم يعني: أعيانهم والمقدَّمين منهم الذين يملأون العيون.
والمعنى: فأنت لا تُخضِع الناس؛ لأني لو أردتُ أنْ أُخضعهم لأخضعتُهم؛ لذلك يقول تعالى في آية آخرى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩].
فإذا كان ربك لا يُكرِه الناسَ على الإيمان، أفتُكرههم أنت؟ ولماذا الإكراه في دين الله؟ : إن الحق تبارك وتعالى يوالي تنزيل القرآن عليهم آية بعد آية فلعل نجماً من نجومه يصادف فراغاً، وقلباً صافياً من الموجدة على رسول الله فيؤمن.
لكن هيهات لمثل هؤلاء الذين طُبِعوا على اللدد والعناد والجحود أن يؤمنوا؛ لذلك يقول الله عنهم: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤].
وقال عنهم:
فكلما جاءتهم آية كذَّبوها، وهذا دليل على اللدد والعداوة التي لا تفارق قلوبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بحيث لا يصادف نجم من القرآن قلوباً خالية، فكأن عداوتهم لك يا محمد منعتْهم من الإيمان بالقرآن، فهم مستعدون للإيمان بالقرآن إنْ جاء من غيرك.
أليسوا هم القائلين: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١].
إذن: فاللدَد والخصومة ليستْ في منهج الله، إنما في شخص رسول الله؛ لذلك ربُّك يُعزِّيك ويحرص عليك: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] مرة ساحر، ومرة مجنون.. إلخ. انظر إلى التسلية: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] فأنت عندهم صادق أمين ﴿ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].
وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ [الشعراء: ٥] أي: في غباء ولَدَد، وهل هناك أشدّ لَدَداً من قولهم: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
كما جاء في آيات أخرى: ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧].
وقال: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ﴾ [ص: ٨٨].
يعني: غداً تعلمون عاقبة تكذيبكم، فآيات الله تسير أمامكم، فكلُّ يوم يزداد المؤمنون بمحمد، ويتناقص عدد الكافرين، كل يوم تزداد أرض الإيمان، وتتراجع أرض الكفر.
ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى لهم: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ [الأنبياء: ٤٤].
فهذه إذن مقدمات تروْنها بأعينكم، وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرةً وعظة، فبوادر نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة، هذا معنى: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الشعراء: ٦].
فليتهم اقتصروا على التكذيب والإصرار عليه، إنما تعدّى الأمر منهم إلى الاستهزاء بالرسل وبكلام الله، ألم يقولوا على سبيل الاستهزاء: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١].
وكلها آيات كونية لم يدَّعها أحد منهم، بل جاء الإنسان إلى الوجود وطرأ عليها، وقد سبقتْه هذه الآيات التي يراها: الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والعاقل وغير العاقل، أَلاَ ينظرون فيها نظرةَ اعتبار، فيسألون عن مبدعها؟
ضربنا لذلك مثلاً بالإنسان الذي انقطعتْ به السُّبُل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلاك، فأخذته سِنَة فنام، ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدةً، عليها أطايب الطعام والشراب، أَلا ينبغي عليه قبل أنْ تمتدَّ يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له؟
كذلك الإنسان طرأ على كوْن مُعَدٍّ لاستقباله، وعلى وجود لا تتناوله قدرته، ولا سلطانَ له عليه، فهو لا يتناول الشمس مثلاً ليُوقِدها ولم يدَّعِ هذه الآيات الكونية أحد، أَلاَ يدلّ ذلك على الخالق عزَ وجل ويُوجِب علينا الإيمان به؟
وقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧].
ولو تأمل الإنسان في (اللمبة) الصغيرة التي تضيء غرفة، ولها عمر افتراضي لا يتعدَّى عدة أشهر وهي عُرْضَة للكسر وللأعطال، ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال والفنيين، وكثير من الآلات والعِدَد، ومع ذلك نُؤرِّخ لمخترع المصباح، ونعرف تاريخه، وكيفية صنعه.. الخ. نعرف مخترع (التلفون والراديو) و..
أليس من الأَوْلَى أن ننظر ونتأمل في خَلْق الشمس، هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها، دون وقود، أو قطعة غيار، أو عُطْل طِوَال هذه المدَد المتعاقبة؟
فإذا ما جاء رسول، وقطع على الناس هذه الغفلة، وقال لهم: أَلاَ أُنبّئكم بمَنْ خلق كل هذا؟ إنه الله. كان يجب عليهم أنْ يُعيروه آذانهم ويؤمنوا.
هنا يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض﴾ [الشعراء: ٧] وهي آية ظاهرة أمام أعينهم، يروْنَها هامدة جرداء مُقْفرة، فإذا نزل عليها الماء أحياها الله بالنبات، ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء بعد نزول المطر، وكيف تكتسي ثوباً بديعاً من النبات بعد فَصْل الشتاء.
ألم يسألوا أنفسهم: مَنْ نقل هذه البذور وبذرها في الجبال؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥].
فالمعنى: أن نبات الأرض كثير يفوق الحصر.
والزوج: الصنف، والزوج أيضاً الذكر أو الأنثى، والبعض من العامة يظن أن الزوج يعني الاثنين وهذا خطأ، فالزوج واحد معه مثله، كما في قوله سبحانه: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين﴾ [الأنعام: ١٤٣١٤٤].
فهذه أربعة أصناف، فيها ثمانية أزواج، فالزوج فرد واحد معه مثله، فلا تقول زوج أحذية. بل زَوْجَا أحذية. والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى﴾ [النجم: ٤٥].
وكذلك النبات لا بُدَّ فيه من ذكورة وأنوثة، وإنْ كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلاً في النخل، ففيه ذكر نُلقِّح منه الأنثى لتثمر، وكذلك شجرة الجميز منها ذكر وأنثى. لكن لم نَرَ ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلاً أو في الليمون، لماذا؟
قالوا: مرة توجد الذكورة والأنوثة في الشيء الواحد كعود الذرة مثلاً، قبل أنْ يُخرِج ثمرته تخرج سنبلة في أعلاه تحمل لقاح الذكورة، وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شُرَابة (كوز) الذرة، وتتم عملية التلقيح. وقد تكون الذكورة والأنوثة في شيء لا تعرفه أنت كالمناجو والتفاح مثلاً، فلم نعلم لها ذكراً وأنثى.
وقال: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩].
ثم وصف الزوج بأنه ﴿كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧] فماذا يعني الكرم هنا؟ قالوا: لأنك إذا أخذتَ الثمرة الواحدة ونظرت وتأملتَ فيها لوجدتَ لها صفات متعددة ونِعَماً كثيرة، كما قال سبحانه: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم الله.
قالوا: لأن الحق عزّ وجلَّ يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيتَ عناصرها وتكوينها لوجدتَ في طياتها نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.
فمعنى ﴿كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧] يعني: كثير العطاء وكثير الخيرات.
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٨] يعني: مع كل هذه الآيات لم يؤمنوا، إلا القليل منهم كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥] مع أنك لو تأملتَ آية واحدة لكانت كافية لأنْ تلفتك إلى الله.
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ | تَدلُّ عَلَى أَنَّه الوَاحِدُ |
فهو سبحانه الذي أعانهم عليه لَمَّا أحبوه وأصروا عليه؛ لأنه تعالى ربُّهم، بدليل أنه تعالى لو تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئاً يخالف منهج الله أبداً، وبدليل أنهم مجبرون الآن على أشياء ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من ذلك.
فمع إِلْفهم العناد والتمرد على منهج الله، أيستطيع أحدهم أنْ يتأبَّى على المرض، أو على الموت، أو على الأقدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلاً، أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه؟
لكن لما أعطاهم الله الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر، فأعانهم الله على ما أحبُّوا، وختم على قلوبهم حتى لا يخرج منها كفر، ولا يدخلها إيمان.
وكلمة ﴿العزيز﴾ [الشعراء: ٩] تعني: الذي لا يُغلَب ولا يُقْهر، لكن هذه الصفة لا تكفي في حقَّه تعالى؛ لأنها تفيد المساواة للمقابل، فلا بُدَّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضاً.
ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ [المؤمنون: ٨٨].
ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة، فهو سبحانه مع عزته رحيم، إنه تعالى رحيم حين يَغْلب، ألم يتابع لهم الآيات ويَدْعُهم إلى النظر والتأمل، لعلَّهم يثوبون إلى رُشْدهم فيؤمنوا؟ فلما أصرُّوا على الكفر أمهلهم، ولم يأخذهم بعذاب الاستئصال، كما أخذ الأمم الأخرى حين كذَّبتْ رسلها.
كان الرسل قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبلِّغون الدعوة، ويُظهرون المعجزة، فمَنْ لم يؤمن بعد ذلك يعاقبه الله، كما قال سبحانه: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: ٤٠].
أمَّا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد قال تعالى في شأنها: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣].
وقال هنا: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ [الشعراء: ٩] فالحق تبارك وتعالى في كل هذه الآيات يُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعطيه عبرةً من الرسل الذين سبقوه، فليس محمد بِدْعاً في ذلك، ألم يقل
لذلك، يأخذنا السياق بعد ذلك إلى موكب النبوات، فيذكر الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طرفاً من قصة نبي الله موسى: ﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى﴾
لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بمعارك كثيرة مع الكفر، فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر كلما تعرض لشدة؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول الله على مدى عمر الدعوة، والقصص القرآني لا يراد به التأريخ لحياة الرسل السابقين، إنما إعطاء النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عِبرةً وعظة بمَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع، وفي كل موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه.
وهنا يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى﴾ [الشعراء: ١٠] يعني: اذكر يا محمد، إذ نادى ربك موسى أي: دعاه. لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلام بالذات؟
قالوا: لأن كفار مكة كفروا بك أنت، فلا تحزن؛ لأن غيرهم كان أفظع منهم، حيث ادعى الألوهية، وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨].
والسياق هنا لم يذكر: أين ناداه ربه، ولا متى ناداه، وبدأ الحوار معه مباشرة، لكن في مواضع أخرى جاء تفصيل هذا كله.
ولم يُبيِّن القرآن مَنْ هم هؤلاء الظالمون؛ لأنهم معروفون مشهورون، فهم في مجال الشرك أغنياء عن التعريف، بحيث إذا قلنا ﴿القوم الظالمين﴾ [الشعراء: ١٠] انصرف الذِّهْن إليهم، إلى فرعون وقومه؛ لأنه الوحيد الذي تجرّأ على ادعاء الألوهية، وبعد أنْ ذكرهم بالوصف يُعيِّنهم: ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ﴾
والمعنى: ألا يتقون الله في ظلمهم لأنفسهم باتخاذهم مع الله شريكاً ولا إله غيره، وظلموا بني إسرائيل في أنهم يُذبِّحونَ أبناءهم ويستحيُون نساءهم.
لكن، لماذا تكلم عن قوم فرعون أولاً، ولم يعرض عليه هو أولاً، وهو رأس الفساد في القوم؟
ويجيب على هذا السؤال المثل القائل (يا فرعون ماذا فرعنك؟ قال: لأنني لم أجد أحداً يردني) فلو وقف له قومه ورَدَعوه لارتدع، لكنهم تركوه، بل ساروا في رَكْبه إلى أنْ صار طاغية، وأعانوه حتى أصبح طاغوتاً.
ويُرْوَى أنه في عهد الخليفة المأمون ادَّعَى أحدهم النبوة، فحبسوه، ثم ادعاها آخر فقال: اجمعوا بينهما حتى يواجه أحدهما الآخر، فلما حضرا قالوا: يا هذا إن هذا الرجل يدَّعي النبوة، فقال: كذب، أنا لم أُرسِل أحداً. وهكذا جعل من نفسه إلهاً بعد أن كان نبياً.
ويواصل موسى الحديث عن مخاوفه: ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾
لذلك قال: ﴿فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ﴾ [الشعراء: ١٣] وفي آية أخرى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ [القصص: ٣٤].
يعني: مساعداً لي يتكلم بدلاً عني، إنْ عجز لساني عن الكلام، وهذا يدل على حرصه عليه السلام على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه.
وعليه، فقد كان موسى وهارون كلاهما رسول، إلا أن القرآن قال مرة عنهما: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦] بصيغة المفرد، وقال مرة أخرى: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ [طه: ٤٧] بصغية المثنى.
الرسول: هو المرسَل من شخص لآخر، سواء كان واحداً أو مُثَنى أو جمعاً.
ومعلوم أن الإنسان يحتاج لا ستبقاء حياته طعاماً وشراباً، وقبل ذلك وأهمَ منه يحتاج لاستبقاء نفسه، أَلاَ تراه يصبر على الطعام، ويصبر على الشراب، لكنه لا يصبر بحال على الهواء، فإنْ حُبِس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة؟
وسبق أن قلنا: إن من رحمة الله تعالى بنا أنْ يُملِّك الطعام كثيراً، وقليلاً ما يُملِّك الماء، لكن الهواء لا يُملّكه الله لأحد، لماذا؟ لأنه لو ملَّك عدوك الهواء فمنعه عنك، فسوف تموت قبل أنْ يرضى عنك، بالإضافة إلى أن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة، وعليه تقوم حركاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ﴾
فيقول الحق سبحانه لموسى وهارون: ﴿قَالَ كَلاَّ فاذهبا﴾
النفي هنا يتوجَّه إلى ما يتعلق بموسى عليه السلام لا بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه، يقول له ربه: اطمئن، فلن يحدث شيء من هذا كله. ولا ينصبُّ النفي على تكذيبهم له؛ لأنه سيُكذَّب؛
وقد بيَّنَتْ سورة الفجر معنى (كلا) بوضوح في قوله تعالى ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٥١٦].
فيقول تعالى بعدها رداً عليها ﴿كَلاَّ﴾ [الفجر: ١٧] يعني: ليس الإعطاء دليلَ إكرام، ولا المنعُ دليلَ إهانة، إنما المراد الابتلاء بالنعمة وبالنقمة.
وكيف يكون الأمر كما تظنون، وقد أعطاكم الله فبخلتُم، وأحببتم المال حُبّا جماً، فلم تنفقوا منه على اليتيم أو المسكين، بل تنافستُم في جَمْعه حتى أكلتم الميراث، وأخذتم أموال الناس.
إذن: فالمال الذي أكرمكم الله به لم يكُنْ نعمة لكم؛ لأنكم جعلتموه نقمة ووبالاً، حين أُعطيتم فمنعتم.
وكلمة (كَلاَّ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى عليه السلام فقد تعلَّمها من ربه، ووعى درسها جيداً، فلما حُوصِر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، حتى أيقن أتباعه أنهم مُدْركون هالكون، قالها موسى عليه السلام بملء فيه ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
وقوله تعالى: ﴿فاذهبا بِآيَاتِنَآ﴾ [الشعرءا: ١٥] الآيات هنا يُقصَد بها المعجزات الدالة على صِدْقهما في البلاغ عن الله، وهي هنا العصا
فمرّة يأتي بالسمع فقط، ومرّة بالسمع والرؤية، لماذا؟ لأن موقفه مع فرعون في المقام الأول سيكون جدلاً ونقاشاً، وهذا يناسبه السمع، وبعد ذلك ستحدث مقامات في (فعل) و (عمل) في مسألة السحر وإلقاء العصا، وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر؛ لأن الإيذاء قد يكون من السمع فقط في أول اللقاء، وقد يكون من السمع والعين فيما بعد.
﴿فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦] إنَّا: جمع يُقَال للمثنى، ومع ذلك جاءت رسول بصيغة الإفراد، ولم يقُل: رسُولا؛ لأن الرسول واسطة بين المرسَل والمرسَل إليه، سواء أكان مفرداً أو مُثَنى أو جمعاً.
وكلمة ﴿إِنَّا﴾ [الشعراء: ١٦] سيقولها موسى وهارون في نَفَس واحد؟ لا، إنما سيتكلم المقدَّم منهما، وينصت الآخر، فيكون كمنْ يُؤمِّن على كلام صاحبه. ألاَ ترى القرآن الكريم حينما عرض قضية موسى وقومه يوضح أن فرعون علا في الأرض واستكبر.. الخ.
هذا كلام موسى عليه السلام فردّ الله عليه: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: ٨٩] بالمثنى مع أن المتكلم واحد. قالوا: لأن موسى كان يدعو، وهارون يُؤمِّن على دعائه، والمؤمِّن أحد الداعيين، وشريك في الدعوة.
فما مطلوبك يا رسول رب العالمين؟ ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا﴾
وفي موضع آخر: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ [طه: ٤٧].
إذن: فتلوين الأساليب في القصص القرآني يشرح لقطاتٍ مختلفة من القصة، ويُوضِّح بعض جوانبها، وإنْ بدا هذا تكراراً في المعنى الإجمالي، وهذا واضح في وقوله تعالى في أول قصة موسى عليه السلام: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ
والله تعالى يقول: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] ففرعون في حين كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل، ويستحيي البنات، جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللافتة للنظر، فكان عليهم أنْ يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمِّ بافتعال، هو بهدف نجاته من القتل، فلو كان فرعون إلهاً، فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟
وهذا يدل على أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم، وحال بين المرء وقلبه، ويدل على غباء قومه؛ لأنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه الألوهية.
فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلام: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾
﴿وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨] ويقال: إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنِّ الثامنة عشرة، أو سِنِّ الثلاثين، فالمعنى أنه ربَّاه ولبث معه أيضاً عدة سنوات.
لذلك العقلاء يروْنَ أن الإنسان حين يربي الأولاد ويراهم كما يحب، فليعلم أنه توفيق وعناية من الله تعالى، بدليل أن الأبناء يُربَّون في بيئة واحدة، وربما كانا توأميْن، ومع ذلك ترى أحدهما صالحاً والآخر طالحاً، فالمسألة عناية إلهية عليا، وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال:
إِذَا لَمْ تُصاَدِفَ في بَنيكَ عِنَايةً | فقَدْ كذَبَ الراجي وخَابَ المؤَمَّلُ |
فمُوسى الذِي رَبَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ | ومُوسَى الذي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُ |
فكلمة ﴿الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠] هنا لا تعني عدم الهدى، فمن هذا المعنى للضلال قولهم: ضَلَّ الطريق، وهو لم يتعمد أن يضل، إنما تاه رَغْماً عنه.
ومنه قوله تعالى في الشهادة: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى﴾ [البقرة: ٢٨٢].
وقوله تعالى مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧] أي: متحيراً بين الباطل الذي يمارسه قومه، وبين الحق الذي لا يجد له بينة.
﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ﴾ [الشعراء: ١٨١٩].
كأنه يقول له: أتمُنُّ عليَّ بهذه الأشياء، وتذكر هذه الحسنة، وهي لا تساوي شيئاً لو قارنتَها بما حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم، وتسخيرهم في خدمتك.
وقتل الذّكْران واستحياء الإناث، لا يعني الرأفة بهن، إنما يعني لَهُنَّ الذلة والهوان، حين لا تجد المرأة من محارمها مَنْ يحميها أو يدافع عنها، فتبقى بعد الرجال في هوان وذِلَّة في خدمة فرعون.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين﴾
إذن: رَدَّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه، وقبل مولده. وكأن المعنى المراد لموسى عليه السلام: أخبرني يا فرعون، يا مَنْ تدعي الألوهية، ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإنْ كان هذا الكون كله بسمائه وأرضه لله رب العالمين، فماذا فعلتَ أنت؟
ولم يقتصر على السماوات والأرض، وإنما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ [الشعراء: ٢٤] أي: من هواء وطير يَسْبح في الفضاء، وكانوا لا يعرفون ما نعرفه الآن من أسرار الهواء، وانتقال الصوت والصورة من خلاله، ففي جَوِّ السماء فيما بين السماء والأرض من الأسرار ما يستحق التأمل.
ثم يتلطف معهم فيقول: ﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٤] يعني: إنْ كنتم موقنين بأن هذه الأشياء لم يخلقها إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه ذاكراً جدال فرعون، فقال: ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ﴾
وكان فرعون ينتظر من قومه أنْ يتصدَّوْا لما يقوله موسى، فينهروه ويُسْكِتوه، لكن لم يحدث شيء من هذا، مما يدل على أنهم كانوا يتمنْونَ أن ينتصر موسى، وأن يندحر فرعون؛ لأنه كبت حرياتهم وآراءهم، كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلاص منه.
بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون، وبدليل الذين أتوا فيما بعد وحَسَّنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يُهزَم.
وقبل أنْ يردَّ أحد من قوم فرعون بادرهم موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ﴾
فلما ضَيَّق موسى عليه السلام الخناق على فرعون، أراد أنْ يخرج من هذا الجدل وهذه المناظرة الخاسرة فقال محاولاً إنقاذ موقفه: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ﴾
فيُنهي فرعون هذا النقاش، ويأتي بخلاصة الأمر كما يرى، فيقول: ﴿قَالَ لَئِنِ اتخذت﴾
ولم يُراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله، أن يكتشفوا هذا الإفلاس، وهذا الحمق في رَدِّه.
وما صارت العصا عصاً إلا بعد أنْ قُطِعت من شجرتها، وفقدت الحياة النباتية، وتحولت إلى جماد، فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرةً من جديد لكان الأمر معقولاً، لكنها تجاوزتْ مرتبة النباتية، وتحولت إلى الحيوانية، وهي المرتبة الأعلى؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه:
﴿قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾ [طه: ٢١].
وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلام؛ ليألف العصا على هذه الحالة، وكأن الله تعالى أراد لموسى أنْ يُجري هذه التجربة أمامه، ليكون على ثقة من صِدْق هذه الآية، فإذا ما جاء لقاء فرعون ألقاها دون خوف، وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة.
إذن: كان الإلقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته، ثم كان الإلقاء للمرة الثالثة أمام السحرة.
ومعنى ﴿ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الشعراء: ٣٢] يعني: بيِّن الثعبانية، فيه حياة وحركة، وقال ﴿ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الشعراء: ٣٢] يعني: واضح للجميع؛ لأنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويُخيِّلون للناس مثل هذه الأشياء، ويجعلونها تسعى وتتحرك، ولم تكن عصا موسى كذلك، إنما كانت ثعباناً مبيناً واضحاً وحقيقياً لا يشكّ في حقيقته أحد.
والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ﴾
وهكذا تتكامل لطقات القصة الواحدة، والتي يظنها البعض تكراراً، وليست هي كذلك.
﴿وَنَزَعَ﴾ [الشعراء: ٣٣] يعني: أخرج يده ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الشعراء: ٣٣] مع أن موسى عليه السلام كان آدم اللون يعني فيه سُمْرة، ومع ذلك خرجتْ بيضاء، لها شعاع وبريق يأخذ بالأبصار.
وبمقارنة هذه الآية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب، وهو فتحة الثوب من أعلى، لا الجيب المتعارف عليه، والذي نضع فيه النقود مثلاً، وكانوا في الماضي
وفَرْق بين ساحر وسحَّار: ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة، إنما سحَّار مبالغة تدل على أنها أصبحت حِرْفته، مثل ناجر ونجّار، وخائط وخيّاط.
و ﴿عَلِيمٌ﴾ الشعراء: ٣٤] أي: بسحره.
وعجيب أنْ يقول الفرعون الإله ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء: ٣٥] فهذه هي الألوهية الكاذبة التي انحدرتْ إلى مرتبة العبيد، ومتى يأخذ
فلما نزل فرعون من منزلة الألوهية، وطلب الاستعانة بالملأ من قومه التفتوا إلى كذبه، ووجدوا الفرصة مواتية للخلاص منه، ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض، وينتظرون لحظة الخلاص من قَهْره وكذبه؛ لذلك قالوا: ﴿قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾
وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة.
ونرى في هذه المشورة حِرْصَ الملأ على إتمام هذا اللقاء، وأن يكون على رؤوس الأشهاد، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى، وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه الألوهية.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلاً، فما بالك بمباراة بين سحرة مَنْ يدَّعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول: إن له إلهاً غير هذا الإله؟ إنه حَدَثٌ هَزَّ الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة﴾
وهذا دليل على معرفتهم بفرعون، وأنه رجل (أَكَلْتى)، لذلك اشترطوا عليه أجراً إنْ كانوا هم الغالبين، ولا ندري فربما جاء آخر يهدد هذه الألوهية، فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف.
وقوله: ﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ [الشعراء: ٤٣] هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع السحرة.
وقال تعالى: ﴿ص والقرآن ذِي الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: ١٢] أي: عزة بإثم، وعزة بباطل.
ومنه أيضاً قوله تعالى عن المنافقين: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ [المنافقون: ٨] فصدّق القرآن على قولهم
وما دام الأمر كذلك فأنتم الأذّلة، وأنتم الخارجون، وقد كان.
ويقال: إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق، فلما ألقوها في ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلاعب، كأنها تتحرك، وهذا من حيل السَّحَرة وألاعيبهم التي تُخيِّل للأعين وهي غير حقيقية، فحقيقة الشيء ثابتة، أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فألقى موسى عَصَاهُ﴾
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ﴾ [طه: ٦٧٦٩].
هكذا كانت الصورة، فلما خاف موسى ثبَّته ربه، وأيّده بالحق وبالحجة، وتابعه فيما يفعل لحظةً بلحظة؛ ليوجهه وليُعدِّل سلوكه، ويشدّ على قلبه، وما كان الحق تبارك وتعالى ليرسله ثم يتخلى عنه، وقد قال له ربه قبل ذلك: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٩] وقال: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الأوامر، ويعطيه الحجة لتنفيذها، ثم يتابعه بعنايته ورعايته.
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث، ويُكمّل بعضها بعضاً، وهذا يظنه البعض تكراراً، وليس هو كذلك.
إذن: جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من الله أثناء المعركة: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ [طه: ٦٩] وهنا: ﴿فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الشعراء: ٤٥] ومعنى ﴿تَلْقَفُ﴾ [الشعراء: ٤٥] تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة، أما السرعة واختصار الزمن والقوة، فتدل على الأخذ بشدة وعُنْف، وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة، فلم تضعف قوته لما رأى من ألاعيب السَّحَرة.
ومعنى ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الشعراء: ٤٥] من الإفك يعني: قلْب الحقائق؛ لذلك سَمَّوْا الكذب إفْكاً؛ لأنه يقلب الحقيقة ويُغير الواقع.
ومنها ﴿والمؤتفكة أهوى﴾ [النجم: ٥٣] وهي القرى الظالمة التي أهلكها الله، فجعل عاليها سافلها.
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم، فللكلام نِسَبٌ ثلاث: نسبة في الذِّهْن، ونسبة على اللسان، ونسبة في الواقع. فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلامية الواقع، فأنت صادق، وإنْ خالفتْه فأنت كاذب.
قالوا: هناك فَرْق بين وقوع الإيمان، وبين أنْ تخبر أنت عن الإيمان، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به؛ لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكٍّ، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله، حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه، لقد أعادهم إلى الفطرة الإيمانية في النفس البشرية، والمسائل الفطرية لا علاجَ للفكر فيها.
وقالوا: ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول مثلاً: أنا رب العالمين، فأزالوا هذا اللبْس بقولهم ﴿رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾ [الشعراء: ٤٨].
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان عليه السلام لم تقل: أسلمت لسليمان، إنما قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [النمل: ٤٤] فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك.
ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد: إنه هزم وضاعت هيبته، فقال: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾ [الشعراء: ٤٩] في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدّم، وألوهيته التي ضاعت.
وقوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ [الشعراء: ٤٩] أوضحه في آية أخرى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١].
فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ ﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ﴾
إذن: لا ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلتَ فينا جميلاً، وأسديتَ لنا معروفاً إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء، وما تظنه في حقنا شَرٌّ هو عين الخير، لذلك فَهِم الشاعر هذا المعنى، فقال عنه:
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين: الأول: نَفْي الضرر؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصحلة، والثاني: التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ﴾
فذكر هناك مسألة الإكراه، وذكر هنا العلة: ﴿أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين﴾ [الشعراء: ٥١].
وقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١].
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧].
فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحِي، أو الموحَى إليه، أو موضوع الوحي، فقد يكون الوحي من الشيطان، والموحَى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان، على خلاف الوحي الشرعي، فهو محدد ومعلوم.
لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى عليه السلام وحشد الناس لمشاهدة هذه المباراة، وهذا دليل على أنه قدَّر أنه سيغَلِب، لكن خيَّب الله ظنه، وكانت الجولة لمصلحة موسى عليه السلام، فآمن السحرة بالله تعالى رب موسى وهارون، فأخذ يهددهم ويتوعدهم، وهو يعلم أنَّ ما رأوْه من الآيات الباهرات يستوجب الإيمان.
ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس، فلم ينادوا بسقوطه، واكتفوا بسماع أخبار موسى، وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها الآيات التسع التي أنزلها الله ببني إسرائيل.
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار، ولم يحاول التخلص منه حتى لا يزداد أتباعه وتقوى
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية، حتى إن الأقباط أتباع فرعون كانوا يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليَّ النساء قبل الخروج مع موسى، ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد.
وهنا يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ﴾ [الشعراء: ٥٢] وقبل ذلك نبَّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل: ﴿وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين﴾ [القصص: ٢٠].
أما الآن، فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين.
ومعنى ﴿أَسْرِ﴾ [الشعراء: ٥٢] الإسراء: المشي ليلاً ﴿إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ﴾ [الشعراء: ٥٢] يعني: سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن﴾
و ﴿حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٥٣] من الحشر أي: الجمع، لكن جمع هذه المرة للجنود لا للسحرة، لأنهم هُزِموا في مُباراة السحرة، فأرادوا أنْ يستخدموا سلاحاً آخر هو سلاح الجبروت والتسلُّط والحرب العسكرية، فإنْ فشلت الأولى فلعلّ الأخرى تفلح، لكن الحق تبارك وتعالى أخبر نبيه موسى بما يُدبِّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل.
وقَوْل فرعون عن أتباع موسى: ﴿إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤] يريد أن يُهوِّن من شأنهم ويُغري قومه بهم، ويُشجِّعهم على مواجهتهم، لكن مع ذلك يُحذِّرهم من خطرهم، فيقول ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾ [الشعراء: ٥٥] فأَعِدُّوا لهم العدة، ولا تستهينوا بأمرهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ﴾
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ﴾
قالوا: المعنى أورثهم الله أرضاً مثلها، قد وعدهم بها في الشام.
﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين﴾ [الصافات: ١٧٧].
وعادةً ما يقوم الإنسان من النوم كسولاً غير نشيط، فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟
والإجابة في بقية الآية: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] فلم يقُلْ موسى: كَلاّ اعتماداً على قوته واحتياطه للأمر، إنما قالها اعتماداً على ربه الذي يكلؤه بعينه، ويحرسه بعنايته.
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، لكن الشيء الذي أثق منه ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى﴾
لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدِّه وتجمّد كالجبل، وصنع بين الجبلين طريقاً، أليس في قاع البحر بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها الإنسان؟
إننا نشاهد الإنسان لا يكاد يستطيع أن ينقل قدماً إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلاً، فما بالك بوحْل البحر؟
لذلك قال له ربه: ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ [طه: ٧٧].
فالذي جعل الماء جبلاً، سيجعل لك الطريق يابساً.
والحق تبارك وتعالى لم يُبيِّن لنا في انفلاق البحر، إلى كَمْ فلقة انفلق، لكن العلماء يقولون: إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط، بحيث يمر كل سَبْط من طريق.
وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى عليه السلام أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى طبيعته، فيسُدُّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على حَدِّ تفكيره كبشر، لكن الحق تبارك وتعالى نهاه عن ذلك: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٣٢٤].
وللعصا مع موسى عليه السلام تاريخ طويل منذ أن سأله ربه ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾ [طه: ١٧] فأخبر بما يعرفه عنها ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾ [طه: ١٨].
وقوله ﴿وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾ [طه: ١٨] لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها، فأهشُّ تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراقَ الشجر، أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] كأنْ أدافع بها عن نفسي ليلاً، إنْ تعرَّض لي كلب أو ذئب مثلاً، أو أغرسها في الأرض وأُلقي عليها بثوبي لأستظلَّ به وقت القيلولة، أو أجعلها على كتفي وأُعلِّق عليها متاعي حين أسير.. الخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى عليه السلام لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها، فهي حُجّته وآية من الآيات التي أعطاه الله،
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر، فيصر جبلاً، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلاً وعَلَماً على الانتصار في كل شيء، فلما كان الخصيب والياً على مصر، وتمرد عليه بعض قُطَّاع الطرق، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها، لذلك قال:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً | عَلى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرعي |
فَإِنْ يَكُ بَاقٍ إِفْكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ | فَإنَّ عَصَا مُوسَى بكَفِّ خَصِيبِ |
إذَا جَاءَ مُوسَى وأَلْقَى العَصَا | فَقَدْ بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ |
ومع ذلك ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٦٧] أي: أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة مع هذه الآيات، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم:
﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨].
سبحان الله، لقد كفروا بالله، وما تزال أقدامهم مُبتلَّة من عبور البحر، وما زالوا في نَشوة النصر وفرحة الغلبة!!
«لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح».
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الشعراء: ٦٩] مما يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْداً للتاريخ، فإبراهيم كان قبل موسى، ولو أردنا التأريخ لجاءت قصة إبراهيم أولاً، إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة واتخاذ الأُسوة من تاريخ الرسل، ليُثبِّت الله بها فؤاد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يواجه الأحداث الشاقة والعصيبة.
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلام
لذلك كانت قصة موسى أَوْلَى بالتقديم هنا.
ومعنى: ﴿واتل عَلَيْهِمْ﴾ [الشعراء: ٦٩] أي: اقرأ، أو وضِّح، أو عبِّر، ونقول للقراءة (تلاوة) لأنه لا يُتلَى إلا المكتوب المعلوم المفهوم ﴿عَلَيْهِمْ﴾ [الشعراء: ٦٩] على أمة الدعوة كلها، أَمْ على المكذبين خاصة؟
قالوا: على المكذِّبين خاصة؛ لأن المصدِّقين برسول الله لا يحتاجون هذه التلاوة، وإنْ تُليَتْ عليهم فإنما التلاوة للتذكرة أو لعلم التاريخ. إذن: المراد هنا المكذِّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل رسل الله في دعوتهم النصر والغلبة، وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والاندحار.
فكأن القرآن يقول لهم: لا تغتروا بقوتكم، ولا بجاهكم، ولا تنخدعوا بسيادتكم على العرب، ومعلوم أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت الله الحرام، وما أَمِنُوا في طرق تجارتهم إلاَّ بقداسة بيت الله وحُرْمته.
ولولا البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة، بدليل قوله تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف﴾ [قريش: ١٢].
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ولا سيطرة
ومعنى ﴿نَبَأَ﴾ [الشعراء: ٦٩] أي: الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال، ويجب أنْ يُنصتَ له، وأنْ تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة، فلا يُقال (نبأ) للخبر العادي الذي لا يُؤبَهُ له.
ولو تتبعتَ كلمة (نبأ) في القرآن لوجدتها لا تُقَال إلا للأمر الهام، كما في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم﴾ [النبأ: ١٢].
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد:
﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢].
إذن: ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الشعراء: ٦٩] يعني: الخبر الهام عنه. وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذي مدحه ربه مدحاً عظيماً في مواضع عدة من القرآن، فقال الحق سبحانه عنه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً﴾ [النحل: ١٢٠].
والأمة لا تُطلَق إلا على جماعة تنتسب إلى شيء خاص، ويجمعهم مكان وزمان وحال. كذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد أضفى الله عليه كمالات من صفات كماله لا يستطيع بشر أن يتحملها.
لذلك جاء في الحديث الشريف: «الخير فِيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة».
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام (أمة) ؛ لأن خصال الخير تُوزَّع على أفراد الأمة: هذا ذكى، وهذا حليم، وهذا عالم، وهذا حكيم.. الخ أما إبراهيم عليه السلام فقد جمع من الخير ما في أمة بأكملها، وهذا ليس كلاماً يُقَال في مدح نبي الله إبراهيم، إنما من واقع حياته العملية.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: ١٢٤].
وحَسْب إبراهيم عليه السلام من الخير هذه الدعوة: ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ [البقرة: ١٢٩].
فكان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعوة أبيه إبراهيم.
والمراد بأبيه هو (آزر) الذي ورد ذكره في موضع آخر.
إذن: فهي آلهة دون منهج، وما أسهلَ أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي يأمره بشيء، ولا ينهاه عن شيء، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لأنها لا تثيب مَنْ أطاعها، ولا تعاقب مَنْ عصاها.
إذن: فكلمة عباده هنا خطأ، ومع ذلك يُسمِّيها الناس آلهة، لماذا؟ لأن الإله الحق له أوامر لا بُدَّ أن تُنفّذ، وإنْ كانت شاقة على النفس، وله نواهٍ لا بُدَّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها، فهي عبادة شاقة، أما عبادة الأصنام فما أسهلها، فليس عندها أمْر ولا نَهْي، وليس عندها منهج يُنظِّم لهم حركة الحياة؛ لذلك تمسَّك هؤلاء بعبادة الأصنام، وسمَّوْها آلهة، وهذا خبل واضح.
كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزَّتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل، أو خرجت عن طاقته، عندها يجد له رباً يلجأ إليه، ويستعين به فيقول: يا رب. فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرَّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ وهَبْ أنه يدعو إنساناً مثله يمكن أنْ يسمعه أيستجيبُ له؟
لذلك يقول سبحانه: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء: ٧١٧٣].
إذن: فعبادة غير الله حُمْق وغباء.
وكذلك كان نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل بعثته كارهاً للأصنام، معترضاً على عبادتها، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها، وقد رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد الآلهة وقد كُسر ذراعه فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الإله، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتعجَّب لما يرى: العابد يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول الله، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق.
فكأن أيَّ دين يأمر الله به لو تفكَّر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول؛ لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة، فإنْ توفَّرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق.
بدليل ما كان يحدث من عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان يُحدث رسول الله بالأمر، فتتنزل به الآيات من عند الله، وقد وافقتْ الآيات رأيه في أكثر من موقف، وقد أقرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول.
ولو تأمل العقل مثلاً تحريم النظر إلى المحرمات، لوجد أن الدين قيَّد نظرك وأنت فرد، وقيَّد من أجلك نظر الناس جميعاً، فكما طلب منك طلب لك، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل.. إلخ.
وقد سُئلْنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] ومرة يقول: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ [التوبة: ٣٣] ومرة يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ [التوبة: ٣٢].
يقولون: وبعد أربعة عشر قرناً، والمسلمون في الكون أقلية، ولم يظهر الدين على الدين كله، فكيف إذن نفهم هذه الآية؟
فقلتُ للسائل: لو فهمتَ الآية السابقة لعرفتَ الجواب: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ [التوبة: ٣٢].
فالمعنى: أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول، ولن يكون لها وجود، بل هي موجودة، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور حجة، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته، كما في مسألة الطلاق مثلاً، أو مسألة تعدُّد الزوجات وغيرها. وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم.
وليس معنى ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] أن يصير الناس جميعاً مؤمنين، لا، إنما يظل كُلٌّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره، لكن لا يجد حلاً لقضاياه إلا في الإسلام، وهذا أوقع في ظهور الدين.
ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردِّهم على إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً﴾
وليت الأمر يقف عند العبادة، إنما ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء: ٧١] أي: قائمين على عبادته ليلَ نهار، نعم ولكم حق؛ لأنها آلهة دون تكليف، وعبادة بلا مشقة وبلا التزام، إنها بلطجة تأخذون فيها حظَّ أنفسكم، وتفعلون معها ما تريدون.
لكن، كيف جادلهم إبراهيم عليه السلام؟ وبم رَدَّ عليهم؟
﴿قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ﴾
ونقول لهم: ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون؟ إنكم لو أقمتُم على تقليد الآباء ما ارتقيتم في حياتكم أبداً، فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها.
﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ [الشعراء: ٧٧] وكلمة عدو جاءت مفردة مع أنها مسبوقة بضمير جمع وتعود على جمع ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ [الشعراء: ٧٧] ومع ذلك لم يقل: أعداء لي. قالوا: لأن العداوة في أمر الدين واحدة على خلاف العداوة في أمر الدنيا؛ لأنها متعددة الأسباب، كما جاء في قوله تعالى: ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
فجاءت: ﴿أَعْدَآءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] هنا جمع؛ لأنها تعود على
ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النور: ٦١].
كلها بصيغة الجمع إلا في ﴿صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] جاءت بصغية المفرد؛ لأن الصداقة الحقة هي ما كانت لله غير متعددة الأغراض، فهي إذن لا تتعدد.
وفي إعلان إبراهيم لعداوته لهذه الأصنام تحدٍّ لهم: فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم، فإنْ كانوا يقدرون على مضرّتي فليفعلوا. وبعد أن أعلن إبراهيم عليه السلام عداوته للأصنام نجحت دعوته، وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يُصبْه شيء.
فإذا ما حدث خلل في هذه الآلة، فعليك بالنظر في هذا (الكتالوج) أو أن تذهب بها إلى المهندس المختص بها؛ لذلك إذا أردتَ أن تأخذ قانون صيانتك، فلا تأخذه إلا من صانعك وخالقك عَزَّ وَجَلَّ ولا يجوز أن يخلق الله تعالى وتضع أنت لخِلْقة الله قانون صيانتها، فهذا مِثْل: أن تقول للجزار مثلاً: اعمل لي قانون صيانة (التلفزيون).
ثم يذكر بعد ذلك مُقوِّمات استبقاء الحياة، فيقول: ﴿والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩٨٠].
ونقف هنا عند الضمير المنفصل (هو) الذي جاء للتوكيد، والتوكيد لا يأتي ابتداءً، إنما يكون على درجات الإنكار، وقد أكّد الحق تبارك وتعالى نسبة الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء إليه تعالى؛ لأن هذه المسائل الأربع قد يدعيها غيره تعالى، وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو أن الأب مثلاً هو الرازق؛ لأنه الجالب له والمناول.
والهداية قد يدّعيها واضعوا القوانين من البشر، وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية والبعثية وغيرها، وكلها تدّعي أنها لصالح البشر، وأنها طريق هدايتهم؛ لذلك أكد الله تعالى لنفسه هذه المسألة ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] فالهداية لا تكون إلا من الله، وفي شِرْعته تعالى.
وحين نُعرب: ﴿مَرِضْتُ﴾ [الشعراء: ٨٠] نقول: مرض فعل ماضٍ والتاء فاعل، فهل أنا الذي فعلتُ المرض؟ وهذا مِثْل أن نقول: مات فلان، ففلان عامل مع أنه لم يحدث الموت؛ لذلك يجب أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني مَنْ فعل الفعل، أو اتصف به، والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما اتصف به. وقال ﴿مَرِضْتُ﴾ [الشعراء: ٨٠] تأدباً مع الله تعالى، فلم يقل: أمرضني ونسب المرض الظاهر إلى نفسه.
أما في المسائل التي لا يدَّعيها أحد، فتأتي بالفعل دون توكيد، كما في الآية بعدها: ﴿والذي يُمِيتُنِي﴾
فالموت أن تخرج الروح، والجسم سليم الأجزاء كامل الإعضاء، وبعد خروج الروح تُنقض البنية، أما القتل فيكون بنقْض البنية نَقْضاً يترتب عليه خروج الروح.
ولم يفعل إلا أنْ جاء برجل فأمر بقتله، ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلام أنْ يقطع عليه الطريق، فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
وهكذا أنهى هذه السفسطة، وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند.
وتأمل حرف العطف ﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] و (ثم) تفيد العطف مع التراخي، ولم يقل: ويحيين؛ لأن الواو تفيد مُطلَق العطف، وبين الموت والإحياء الآخر مسافة طويلة، ألا ترى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ [عبس: ٢١٢٢].
إنه أبو الأنبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتاً لله، ولم يكن من المشركين، إبراهيم الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ومع هذا كله
إنه أدب عَالٍ مع الله وهضم لعمله؛ لأن الإنسان مهما قدَّم من الخير فهو دون ما يستحق الله تعالى من العبادة؛ لذلك كان طلب المغفرة من الطمع.
ويجب أن ننظر هنا: متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه؟ بعد أن ذكر حيثيات الألوهية، واعترف لله بالنعم السابقة وأقرَّ بها، فقد خلقه من عدم، وأمدَّه من عُدْم، وووفّر له كل مقومات الحياة.
وإقرار العبد بنعم الله عليه يقضي على كبرياء نفسه، ويُصفِّي روحه وأجهزته، فيصير أهلاً لمناجاة الله، وأهلاً للدعاء، فإن اعترفتَ لله بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللاحقة، على خلاف مَنْ لا يذكر لله نعمة، ولا يقرّ له سبحانه بسابقة خير، فكيف يقبل منه دعاء؟ وبأيِّ وجه يطلب من الله المزيد؟
إذن: لا تَدْعُ ربك إلا بعد صفاء نفس وإخلاص عبودية؛ لذلك ورد في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم».
ويقول سبحانه: ﴿إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: ٢٩] يقول لك ربك: أنت مأمون على ما علمتَ، عامل به، فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي، خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني وصفاء روحي، جعلك أهلاً للمناجاة والدعاء.
فإبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء لم يجترىء على الدعاء
لذلك فإن أهل المعرفة يقولون: إن العبد مهما اجتهد في الدعاء، فإنه يدعو بالخير على حسْب فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الأول لله تعالى، وأقرّ له بالفضل، ثم ترك المسألة له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيراً له؛ لأن ربه عَزَّ وَجَلَّ يعطيه على حَسْب قدرته تعالى وحكمته.
وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي: «مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
فعطاء الله لا شكَّ أوسع، واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه، كما لو ذهبتَ في رحلة مثلاً وقلت لولدك: ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلاني؟ فإنْ قال: أريد كذا وكذا فقد ضيّق على نفسه، وإنْ ترك لك الاختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه.
وقد أجابه الله تعالى في هذه الدعوة، فقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٥].
والملكوت: المخلوقات غير المحسّة، أطلعه الله عليها؛ لأنه عمل بما علم من الملك المحسّ، وكذلك قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ [البقرة: ١٣٠] فأجابه في الدعوة الأخرى. ﴿واجعل لِّي لِسَانَ﴾
وسبق أن أوضحنا أن الصدق هو الكلام المطابق للواقع، وقد ورد هذا المعنى في الأمهات الخمس في القرآن الكريم، في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠].
يعني: أدخلني بصدق لا بغشٍّ يعني مدخلاً أستطيع منه الخروج، وكذلك أخرجني مُخرج صدق.
وفي قوله تعالى: ﴿وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: ١٦] هذه المواضع الخمس لكلمة الصدق.
ومعنى: ﴿فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤] يعني: يتعدى الذّكْر الحسن مدة حياتي إلى مَنْ بعدي، فاجعل لي لسان صدق في المعاصرين، وفيمن يأتي بعدك أترك أثراً طيباً يُذكَر من بعدي؛ لأن لي نصيباً من الخير والثواب في كل مَن اقتدى بي، وجعلني أُسْوة.
وقد أجابه الله في هذه، فقال سبحانه: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: ١٠٨١٠٩].
﴿أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١١].
والميراث أنْ تأخذ مِلكاً من آخر بعد موته، فكيف تكون الجنة ميراثاً؟
قال العلماء: إن الخالق عَزَّ وَجَلَّ لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار، إنما خلق الجنة تتسع للناس جميعاً، إنْ آمنوا، وخلق النار تتسع للناس جميعاً إنْ كفروا؛ ذلك لأنه سبحانه خلق الخَلْق مختارين، مَنْ شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليكفر. وعليه، فميراث الجنة يعني أنْ يرث المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة، يتقاسمونها فيما بينهم.
والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه، لكن لا يسأل عنها، إنما يأخذها طيبة حتى إنْ جمعها صاحبها من الحرام، إلا إنْ أراد الوارث أن يبرىء ذمة المورِّث، فيردَ المظالم إلى أهلها.
إذن: الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هِبة، وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة أن الله تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبةً منه سبحانه، وتفضّلاً عليهم، وليس بعملهم، فالجنة جاءتهم كما يأتي الميراث لأهله دون تعب منهم ودون سَعْي.
وهذا تصديق لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث النبوي: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ يقول لك: ما دُمْتَ قد احترمتَ تكليفي لك، وأطعتني فيما ينفعك أنت، ولا يعود عليَّ منه شيء، فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهِبَة مني، أو أننا نأخذ الجنة بالعمل، والمنازل بالفضل.
إذن: لا غِنَى لأحد مِنّا عن فَضْل الله.
لذلك يقول سبحانه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨]
هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة، وينبغي ألاَّ تعوِّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة، واعلم أن النجاة لا تكون إلا برحمة الله وفضل منه سبحانه.
ثم ترك الدعاء لذاته وانتقل لمن رباه فقال: ﴿واغفر لأبي﴾
لكن لم يُستجَبْ لإبراهيم عليه السلام في هذه، لأنه سأل الله لأبيه قبل أن يعرف أنه عدو لله، يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ﴾
والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا﴾ [الكهف: ٤٦].
ويقول سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة﴾ [آل عمران: ١٤].
نعم، هي زينة الحياة الدنيا، ومعنى الزينة: الحُسْن غير الذاتي، فالحُسْن قد يكون ذاتياً في الجوهر كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها الله عليها، دون أنْ تتكلّف الجمال، أو الزينة الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلافه، لذلك سمَّوْها في اللغة (الغانية) وهي التي استغنْت بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيِّ شيء آخر.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] يعني: مع أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، فهذا لا يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرُّف في ماله، فأنفقه في الخير، وأحسن تربية أولاده التربية الصالحة، لكن هذه أيضاً لا تصفو له ولا تستقيم إلا إذا ﴿أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩].
يعني: توفّر له الإخلاص في هذا كله، وإلاَّ فالرياء يُحبط العمل، ويجعله هباءً منثوراً، إنْ كنتَ تفعل الخير في الدنيا ولا تؤمن بالله ولا تُنزهه سبحانه عن الشريك، فلن ينفعك عملك، ولن يكون لك منه نصيب في ثواب الآخرة.
كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣].
فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك، فعلتَ لتأخذ نيشاناً وقد أخذتَه، فعلتَ ليُكتب اسمك على باب المسجد وقد كُتِب، إذن: انتهت المسألة.
فقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] لا ينفي نفع المال والبنين، فهي نافعة شريطة أنْ تأتي اللهَ بقلب سليم، والسلامة هنا تعني: أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلاحه الذي خلقه الله عليه لا يصيبه عطب في ذاته، فيؤدي مهمته كما ينبغي.
فكأن السلامة تُوجد أولاً، ونحن الذين نُفسِد هذه السلامة.
ومن ذلك قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١١١٢].
لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه الله على مقتضى حكمته تعالى، بدليل أن كل حركة في الكون لا يتدخل فيها الإنسان تراها مُستقيمة منتظمة لا تتخلف، فإنْ تدخَّل الإنسان وُجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير، حتى للنبات وللجماد وللحيوان، وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله.
هذا إنْ تدخّل الإنسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه، فإنْ تدخَّل على هَدْى من منهج الله استقامتْ الأمور وتحققتْ السلامة.
﴿الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان﴾ [الرحمن: ٥٧].
لذلك تجد كل شيء في الكون موزوناً بقدر وبحكمة: الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء.. الخ وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة، لماذا؟ لأنه لا دَخْلَ للإنسان فيها.
فمعنى القلب السليم: القلب الذي لا يعمُر إلا بما أراد الله أنْ يعمُرَ به، وقد ورد في الحديث القدسي: «ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن».
إذن: لا تزحم قلبك بما يَشْغَله من أمور الدنيا، واجعله خالياً لله مُنْشغلاً به، فهذه هي سلامة القلب؛ لأن القلب مفطور على هذا، مطبوع عليه.. ساعة خلقه الله خلقه صافياً سليماً من المشاغل؛ لذلك يقول سبحانه: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ [النحل: ٧٨] لماذا؟ ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨].
إذن: لا تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلامة القلب؛ لأن ربك يقول: ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [الكهف: ٤٦].
ومن سلامة القلب أن يخلو من الشرك، وأن يخلو من النفاق؛ لأن المنافق يؤمن بلسانه، ولا يؤمن بقلبه، فقلبه لا يوافق لسانه؛ لذلك هو غير سليم القلب، فكان أشد إثماً من الكافر، وجعله الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
المنافق أشد تعذيباً من الكافر؛ لأن الكافر مع كُفْره هو منطقيّ مع نفسه، حيث كفر بقلبه وبلسانه، ونطق بما يعتقده، أما المنافق فقد غشَّنا وحُسِب علينا ظاهراً، ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصف الأول، وهو في حقيقة الأمر من الطابور الخامس داخل صفوف المسلمين.
وكذلك الرياء ينافي سلامة القلب، فالمرائي يعمل للناس ولا يعمل لله، ونعجب حين نرى مَنْ يُقدِّم الجميل رياءً وسُمْعة، ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل، نقول له: لماذا تتهمه وقد سبقته فأنكرتَ جميل الله، حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير.
إذن: فهذا جزاؤك جزاءً وفاقاً، لأنك ما فعلتَ الخير لله، إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء. وصَفْقَة المرائي خسارة، وتجارته بائرة؛ لأنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الآخذ ويخرج هو صُفْر اليدين، كما قال سبحانه: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ [البقرة: ٢٦٤].
وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي، ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلاً، ولو عمل ذلك لله لأبقى الله
«ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجدها تجلو درهماً في يدها، فلما سألها عنه قالت: لأنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به، فقال لها: تصدَّقي به وهو على حاله، فقالت: أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، والله طيب لا يقبل إلا طيباً».
ثم يذكر الحق تبارك وتعالى نتيجة سلامة القلب وثمرة الإخلاص في العلم، فيقول: ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾
وفي آية أخرى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [ق: ٣١] يعني: يروْنها عياناً، ويعرفون أنها النعيم الذي ينتظرهم، وسوف يباشرونه عن قريب، كما لو دُعِيْتَ إلى مائدة أحد العظماء، وقد أُعدَّتْ على أتمَّ وجه، فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين وقت الاجتماع عليه.
والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن فَضْل الإيمان عليه، وأنه سبب نجاته من هذه النار التي يراها، وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانه: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
ومعنى ﴿لِلْغَاوِينَ﴾ [الشعراء: ٩١] جمع غَاوٍ، وهو إما أنْ يكون غاوياً في نفسه، أو أغوى غيره، فتطلق على الغاوي، وعلى الذي يُغوِي غيره.
وفي موضع آخر: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٢٢٥].
لقد ضلوا عنكم، وتركوكم، بل وتبرأوا منكم: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ [البقرة: ١٦٦].
ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن
نعم، إنها معركة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ﴾ [الشعراء: ٩٣] يعني: لا يستطيعون نصركم، أو الدفاع عنكم، ولا حتى نَصْر أنفسهم، فإنْ كان نصرهم لأنفسهم ممنوعاً فلغيرهم من باب أَوْلَى، ففي الآية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون الله، وتحقير لشأنهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ﴾
وقال: ﴿هُمْ والغاوون﴾ [الشعراء: ٩٤] فالغاوون يسبقون مَنْ أغْوَوْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل التابعين لهم في النجاة، فلو دخل التابعون أولاً لقالوا: سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم، كما قال تعالى عن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ [هود: ٩٨].
وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطان: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢] والمعنى: لم يكُنْ لي عليكم سلطانُ قَهْر أحملكم به على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به.
ثم يعترف أهل الضلال بضلالهم ويقسمون ﴿تالله﴾ [الشعراء: ٩٧] يعني: والله ﴿إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: ٩٧] يعني: ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية، فأين كانت عقولنا ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ٩٨] أي: في الحب، وفي الطاعة، وفي العبادة.
كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ [البقرة: ١٦٥].
ويقول سبحانه:
﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
إذن: ليس كل أحد صالحاً للشفاعة مُعداً لها، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة، وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته، فهي شفاعة مدفوعة الثمن، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له.
لذلك نرى في الريف مثلاً رجلاً له جاه ومنزلة بين الناس، فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم، فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته.
ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه، ومعلوم أن
والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قُوِّمت بالمال؛ لأنه ما نالها من فراغ، إنما جاءت نتيجة جَهْد وعمل ومجاملات للناس، احترموه لأجلها، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بَقِي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس.. ومن ذلك أيضاً شراء العلامة التجارية.
ومعنى ﴿وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠١] فرْق بين الشافع والصديق، فالشافع لا بُدَّ أن تطلب منه أن يشفع لك، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه، إنما يبادرك بالمساعدة، ووصف الصديق بأنه حميم؛ لأن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه.
فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية، فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قالت تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤٣٧].
وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطاً كثيراً من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم، فجاء أحدهم يقول: تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين، فإنْ كان الأول بليغاً فالآخر غير بليغ، وإنْ كان الثاني بليغاً فالأول غير بليغ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات: إنها تكرار لا فائدة منه.
والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة، هما متفقتان في الصدر مختلفتان في العَجْز، أحدهما:
﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٤٨].
والأخرى:
﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ١٢٣].
إذن: فصدْر الآيتين متفق، أما عَجُز الأولى: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨].
وعَجُز الأخرى: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ١٢٣] فهما مختلفتان.
وحين تتأمل صَدْرَيْ الآيتين الذي تظنه واحداً في الآيتين تجد أنه مختلف أيضاً، نعم هو مُتحد في ظاهره، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما: إما يعود على الشافع، وإما يعود على المشفوع له، فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له: لا نأخذ منك عدلاً، ولا تنفعك شفاعة، وإنْ عاد الضمير على الشافع نقول له: لا نقبل منك شفاعة ونُقدِّم الشفاعة أولاً ولا نأخذ منك عدلاً.
إذن: ليس في الآيتين تكرار كما تظنون، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى.
وقد أوضحنا هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا
والأخرى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ [الأنعام: ١٥١].
فصدْرا الآيتين مختلف، وكذلك العَجْز مختلف، فعَجُز الأولى: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ [الإسراء: ٣١].
وعَجُز الأخرى: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١].
وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض.
ففي الآية الأولى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] إذن: فالفقر غير موجود، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد، فهو مشغول برزق الولد، لا برزقه هو؛ لأنه غني غير محتاج؛ لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية، كأنه يقول للأب: اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولاً، وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم.
أما الآية الأخرى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ [الأنعام: ١٥١] فالفقر في هذه الحالة موجود فعلاً، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الآية: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] فقدَّمهم على الأولاد.
إذن: لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا: ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة، يقول تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٩١٠٠].
يعني: ﴿كَلاَّ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] لن يعودوا مرة أخرى، وما هي إلا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النجاة بها، لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها، ويمنعهم العودة إليها، وسوف يظل هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون.
وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقِّي الحق تبارك وتعالى المسألة من موقف الموت إلى موقف القيامة، فيقول سبحانه: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ [الأنعام: ٢٧].
وهذا كَذِب منهم وقَوْل باللسان لا يوافقه العمل؛ لذلك ردَّ الحق تبارك وتعالى عليهم بقوله: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾
ثم ينتقل السياق القرآني من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى قصة أخرى من رَكْب الأنبياء ومواكب الرسل هي قصة نوح عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾
فالرجال هم القوم؛ لأنهم يقومون بأهم الأمور، وعليهم مدار حركة الحياة، والنساء يستقبلْنَ ثمار هذه الحركة، فينقونها بأمانة ويُوجِّهونها التوجيه السليم.
والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله:
وَمَا أَدْرِي ولسْتُ إخَاَلُ أدْرِي | أَقْوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ |
لكن الحق تبارك وتعالى يقول: ﴿فتشقى﴾ [طه: ١١٧] أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة، فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن تُهَان أو تشقى، لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تُشقِي نفسها؟!
ونلحظ أن الآية تقول: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٠٥] كيف وهم ما كذّبوا إلا رسلهم نوحاً عليه السلام؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلاً.
قالوا: لأن الرسل عن الله إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الأخلاق لا تتغير في أي دين؛ لذلك فمن كذَّب رسوله فكأنه كذَّب كل الرسل، ألاَ ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا:
﴿قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٤].
وقال تعالى: ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥].
فإنْ قُلْتَ: فماذا عن اختلاف المناهج والشرائع من نبي لآخر؟ نقول: هذه اختلافات في مسائل تقتضيها تطورات المجتمات، وهي فرعيات لا تتصل بأصل العقائد والأخلاق الكريمة.
لذلك نجد هذه لازمة في كُلِّ مواكب الرسالات، يقول: المرسِلِين، المرسَلِين؛ لأن الذي يُكذِّب رسوله فيما اتفق فيه الأجيال
لذلك لما بُعِث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه، وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة، وكذلك الصِّديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل، لماذا؟
لأنهم بَنَوْا على تاريخه السابق، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس.
والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة، وأول عالمة أصول في الإسلام، حينما جاءها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشكو ما يعاني، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئياً من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره، قالت له انظر إلى العظمة «والله إنك لتصل الرحم، وتَقْرى الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتُعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً».
إذن: فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله؛ لذلك استحق الصِّديق هذا اللقب عن جدارة، حتى «إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقول في حقه:» كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان يعني: في خصال الخير فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني لاتبعته «.
هذه كلها معانٍ نفهمها من قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ﴾ [الشعراء: ١٠٦].
وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] فهذه من حكمة الله في الرسل، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم: نريد ملكاً رسولاً، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء، وكان يجب عليهم على الأقل أن يُمكِّنوه من دعوته، ويُمكِّنوا عقولهم من أنْ تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق.
فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محلٌّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أولاً، ثم حكِّم عقلك في الأمر، واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله.
وهذه نراها حتى في الماديات، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبداً، يقولون: عدم تداخل، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلاً، فقبل أن يدخل الماء لا بُدَّ أنْ يخرج الهواء، فنراه على شكل فقاعات.
ولك أن تلاحظ مثلاً زجاجة (الكولونيا) ذات الثُّقْب الضيق إذا وضعْتها في الماء، لا يمكن أن يدخلها الماء، لماذا؟ لأن ثقبها ضيق، لا يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء.
ولأمر ما سُمِّي الهوى من الهواء، فكما أن الهواء الذي نُحِسُّه لو أتى من ناحية واحدة لمبنى أو جبل مثلاً لانهدم إلى الناحية الأخرى، لماذا؟ لأن الهواء هو الذي يتولّى حِفْظ توازن هذه المباني العالية وناطحات السحاب التي نراها، يحفظ توازنها حين يحيط بها من كل جهاتها، فإنْ فرّغتَ الهواء من أحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة.
والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها الإنسان ويُحولِّها إلى طاقة، وانظر مثلاً إلى قوة تفريغ الهواء وما تُحدِثه من هزة عنيفة، أو إلى الحاويات والشاحنات العملاقة التي تسير على الهواء في عجلاتها، وكذلك الهوى إنْ كان في الباطل كان قوياً ومدمراً، ومن هذا المعنى سُمِّي السقوط هويّا، تقول: هَوَى الشيء يعني: سقط.
وقوله: ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: ١٠٦] هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول أوَّلَ ما يبعث، ومعناها: اتقوا الله و (أَلاَ) أداة للخصِّ، والحثِّ على الفعل. كما تقول للولد المهمل: أَلاَ تذاكر أو هَلاَّ تذاكر.
وحين نحلل أسلوب الحضِّ أو الحثِّ نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل، كما تقول للولد الذي لا يصلي وتريد أن تحثَّه على الصلاة: ألا تصلي؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد أن يقولها، لكن حين تستفهم بالإثبات: أتصلي؟ يقولها بفخر: نعم.
فمعنى: ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: ١٠٦] أُنكِر عليكم ألاَّ تكونوا متقين، والمراد: أطلب منكم أن تكونوا متقين، وما دُمْت قد أنكرت النفي فلا بُدَّ أنك تريد الإثبات.
وما دُمْت أنا مرسلاً من الله إليكم، وأميناً عليكم وعلى دعوتي، فاسمعوا مني؛ لذلك كرَّر الأمر بالتقوى: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾
وقد ترددتْ هذه الآية على ألسنة كثير من رسل الله: {إِنِّي
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾
فكأن نوحاً عليه السلام يقول: أنتم أيها البشر لا تستطيعون أن تُقوِّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لأنني جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدنيا، ويُنجيكم في الآخرة، وأنتم لن تٌقوِّموا هذا العمل، وأجري فيه على الله؛ لأنكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم.
وسبق إنْ حكيْنَا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر، وكان رجلاً تبدو عليه علامات الصلاح، وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا، فلما توقفنا ليركب معنا مالَ إلى السائق، وقال (على كم) يعني: الأجرة فقال له الرجل، وكان المحافظ: نُوصلك لله، فقال (غَلِّتها يا شيخ). نعم، إنْ كان الأجر على الله فهو غَالٍ.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ [الطور: ٤٠].
والربوبية تقتضي عناية، وتقتضي نفقة وخلقاً وإمداداً، فصاحب كل هذه الأفضال والنعم هو الذي يعطيني أجري.
ثم يقول الحق سبحانه حاكياً ردَّهم على نوح عليه السلام: ﴿قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾
يقصدون الفقراء وأصحاب الحِرَف والذين لا يُؤْبَه بهم، وهؤلاء عادة هم جنود الرسالة؛ لأنهم هم المطحونون من المجتمع الفاسد، وطبيعي أن يتلقفوا مَنْ يعدل ميزان المجتمع.
وقولهم: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾ [الشعراء: ١١١] دليل على عدم فهمهم لحقيقة الإيمان؛ لأنه لم يقُلْ لهم: آمنوا بي، إنما آمنوا بالله.
أو: أن المعنى ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾ [الشعراء: ١١١] أي: نُصدِّقك فمن معاني آمن أي: صدَّق، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] أي: صَدَّق به، وآمن تكون بمعنى صَدَّق إذا جاءت بعدها اللام، فإنْ جاء بعدها الباء فهي بمعنى الإيمان.
كما قال سبحانه: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
وهذا التهديد منهم لرسول الله يدلُّ على أنهم كانوا أقوياء، وأصحابَ جاه وبطْشٍ.
وقوله: ﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ [الشعراء: ١١٨] الفتح في الشيء إما: حسياً وإما معنوياً، فمثلاً الباب المغلَق بقُفْل نقول: نفتح الباب: أي نزيل أغلاقه.
فإنْ كان الشيء مربوطاً نزيل الأشكال ونفكّ الأربطة.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف: ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ٦٥] أي: أزالوا الرباط عن متاعهم، هذا هو الفتح الحسِّيّ.
وفي آية أخرى: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطر: ٢].
والخير الذي يفتح الله به على الناس قد يكون خيراً مادياً، وقد يكون عِلْماً، كما في قوله تعالى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦].
أي: من العلم في التوراة، يخافون أن يأخذه المؤمنون، ويجعلوه حجة على أهل التوراة إذا ما كان لهم الفتح والغَلَبة، فمعنى: ﴿بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] أي: بما علَّمكم من علم لم يعلموه هم.
وقد يكون الفتح بمعنى الحكم، مثل قوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ [الأعراف: ٨٩].
ويكون الفتح بمعنى النصر، كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ [النصر: ١].
ثم يقول نوح عليه السلام: ﴿وَنَجِّنِي﴾ [الشعراء: ١١٨] من كيدهم وما يُهدِّدونني به من الرَّجْم ﴿وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين﴾ [الشعراء: ١١٨] لأن الإيذاء قد يتعدّاه إلى المؤمنين معه، وتأتي الإجابة سريعة: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ﴾
لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلام، ويُعيده عليك، تقول له (هيَّه سورة)، فكلام العامة والأُميين له أَصْلٌ من استعمال اللغة.
وفي موضع آخر ذكر الحق تبارك وتعالى قصة صُنْع السفينة في قوله تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ [هود: ٣٨] وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة يصنعها الإنسان، وقد صنع نوح سفينته بأمر الله ووحيه وتحت عينه تعالى، وفي رعايته: ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: ٣٧].
وما كان الله تعالى ليُكلِّفه بصُنْع السفينة ثم يتركه، إنما تابعه، حتى إذا ما حدث خطأ نبَّهه إليه من البداية، كما قال تعالى لسيدنا موسى: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٩].
وبمثل هذه الآيات نردُّ على الذين يقولون: إن الله تعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة فخلق الخَلْق، ثم ترك القوانين تسيره، ولو كان الأمر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة (ميكانيكية)، لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدلُّ على قيوميته تعالى على خَلْقه.
لذلك يقول لهم: ناموا ملء جفونكم، فإن لكم رباً لا ينام، كيف لا وأنت إذا استأجرتَ حارساً لمنزلك مثلاً تنام مطمئناً اعتماداً على أنه يَقِظ؟ وكيف إذا حرسك ربُّك عَزَّ وَجَلَّ الذي لا تأخذه سِنَة ولا نَوْمٌ؟ وأَلاَ يدلُّ ذلك على قيوميته تعَالى؟
والمشحون: الذي امتلأ، ولم يَبْقَ به مكان خَالٍ، فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها، لأنها صُنِعَتْ بحساب دقيق، لا يتسع إلا لمن كُلِّف نوح بحملهم في سفينته، وكانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ومن كل حيوان زوجين اثنين.
والفلك المشحون يُطلَق ويُراد به الواحدة، ويُطلَق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى في موكب الأمم المكذِّبة: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين﴾
وعاد: اسم للقبيلة، وكانت القبائل تُنسَب إلى الأب الأكبر فيها، ولصاحب الشهرة والنباهة بين قومه، فعاد هو أبو هذه القبيلة، وقد يُطلَق عليهم بنو فلان أو آل فلان، ثم يذكر لنا قصتهم، ومتى كان منهم هذا التكذيب: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ﴾
قالوا: لأن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا دعا عمه آزر، فكيف يطلب منه أَجْراً؟ وكذلك موسى عليه السلام أول دعوته دعا فرعون الذي ربَّاه في بيته، وله عليه فضل وجميل، فكيف يطلب منه أجراً، وقد قال له: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨].
لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما.
وقال: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٢٧] لأن الربَّ هو الذي يتولَّى الخَلْق بالبذْل والعطايا والإمداد. وقلنا: إن عدم أخذ الأجر ليس زُهْداً فيه، إنما طمعاً في أنْ يأخذ أجره من الله، لا من الناس.
ثم يتوجّه إليهم ليُصحِّح بعض المسائل الخاصة بهم: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ﴾
وكلمة ﴿آيَةً﴾ [الشعراء: ١٢٨] بعد ﴿أَتَبْنُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] تعني: القصور العالية التي تعتبر ِآيةً في الإبداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والاتساع والرِّفْعة في العُلُو.
وقال ﴿تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] لأنهم لن يخلُدوا في هذه القصور، ومع ذلك يُشيِّدونها لتبقى أجيالاً من بعدهم، فعدّ هذا بعثاً منهم؛ لأن الإنسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته.
أو ﴿تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] لأنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدُّون الناس، ويصرفونهم عن هود وسماع كلامه ودعوته التي تَلْفِتهم إلى منهج الحق.
ونحن لم نَرَ حضارة عاد، ولم نَرَ آثارهم، كما رأينا مثلاً آثار الفراعنة في مصر؛ لأن حضارة عاد طمرتْها الرمال، وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمَّى الآن بالرَّبْع الخالي؛ لأنها منطقة من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها، لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله تعالى في سورة الفجر:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ [الفجر: ٦٨].
ومن هذه الأسرار التي اهتدَوْا إليها حديثاً كيفية بناء أحجار الأهرام دون ملاط مع ضخامتها، وقد توصَّلوا إلى أنها بُنيَتْ بطريقة تفريغ الهواء مما بين الأحجار، وهذه النظرية تستطيع ملاحظتها حين تضع كوباً مُبلّلاً بالماء على المنضدة مثلاً، ثم تتركه فترةً حتى يتبخر الماء من تحته، فإذا أردتَ أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة.
وليس عجيباً أنْ تختفي حضارةٌ، كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال، فالرمال حين تثور تبتلع كل ما أمامها، حتى إنها طمرتْ قبيلة كاملة بجِمالها ورجالها، وهذه هبة واحدة، فما بالك بثورة الرمال، وما تسفوه الريح طوال آلاف السنين؟
وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضاَ خصبة وآثاراً عظيمة، كما نرى الاكتشافات الأثرية الآن كلها تحت الأرض، وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري هناك وجدوا آثاراً لقصور ملوك سابقين.
وطالما أن الله تعالى قال عن عاد: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] فلا بُدَّ أن هناك قصوراً ومبانيَ مطمورة تحت هذه الرمال.
قالوا: لأن الحصون لا تُبنَى للإيواء فقط؛ لأن الإيواء يمنع الإنسان من هوام الحياة العادية، أمّا الحصون فمتنعه أيضاً من الأعداء الشرسين الذي يتربصون به، فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة، لماذا؟
﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] يعني: أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوي المسلح تريدون الخلود؟ وهل أنتم مُخلَّدون في الحياة؟ إن فترة مُكْث الإنسان في الدنيا يسيرة لا تحتاج كل هذا التحصين، فهي كظلِّ شجرة، سرعان ما يزول.
لأن الأَخْذ يأخذ صُوراً متعددة: تأخذه بلين وبعطف وشفقة، أو تأخذه بعنف.
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم ﴿بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠].
لأنك قد تأخذ عدوك بعنف، لكن بعد ذلك يرقُّ له قلبك، فترحم ذِلَّته لك، فتُهوِّن عليه وترحمه، لكن هؤلاء جبارون لا ترقّ قلوبهم.
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٨١٣٠].
وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرُّد على الغير، والقرآن يقول: ﴿تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً﴾ [القصص: ٨٣].
فإنْ كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة، فعليك أنْ تؤديها، لا للتّعالي؛ لأن حينئذ ستأخذ حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة، أمّا إنْ فعلتَ وفي بالك ربُّك، وفي بالك أنْ تُيسِّر للناس مصالح الحياة، فإنك تُرقَّي عملك وتُثمِّره، ويظل لك أجره، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أنْ تقوم الساعة، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان.
ولم يفعل قوم عاد شيئاً من هذا، إنما طلبوا العُلُو في الأرض، وبطشوا فيها جبارين، لكن أيتركهم ربهم عَزَّ وَجَلَّ يستمرون على هذه الحال؟
إن من رحمة الله تعالى بعباده أنْ يُذكِّرهم كلما نَسُوا، ويُوقظهم كلما غفلوا، فيرسل لهم الرسل المتوالين؛ لأن الناس كثيراً ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ [الأعراف: ١٧٢١٧٣].
وقلنا: إن الحق تبارك وتعالى يضع المناعة في خليفته في
فإنْ وجدتَ أخاك على باطل فخُذْ بيده إلى الحق.
ومعنى ﴿وَتَوَاصَوْاْ﴾ [العصر: ٣] أي: تبادلوا التوصية، فكل منكم عُرْضة للغفلة، وعُرْضة للانحراف عن المنهج، فإنْ غفلتُ أنا توصيني، وإنْ غفلتَ أنت أوصيك، وهذه المناعة ليست في الذات الآن، إنما في المجتمع المؤمن، فمنْ رأى فيه اعوجاجاً قوَّمه.
لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفسدَتْ في المجتمع، فصار الناس لا يعرفون معروفاً، ولا يُنكِرون منكراً، كما قال تعالى عن بني إسرائيل:
﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩].
وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد، ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس، وتعيدهم إلى جادة ربهم.
ومن شرف أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها، فجعلهم الله توابين، إنْ فعل أحدهم الذنب تاب ورجع، وإنْ لم يرجع وتمادى رَدَّه المجتمع الإيماني وذكَّره.
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة، كما ورد في الحديث: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة».
لذلك يقول سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله﴾ [آل عمران: ١١٠].
وهذه صفة تفردتْ بها هذه الأمة عن باقي الأمم؛ لذلك يقول هود عليه السلام مُذكّراً لقومه ومُوقِظاً لهم: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾
وأنا حين أُوصيكم بتقوى الله وطاعته، لا أوصيكم بهذا لصالحي أنا، فلا أقول لكم، اتقوني أو أطيعوني ولن أنتفع من طاعتكم بشيء. كذلك الحق تبارك وتعالى غني عنكم وعن طاعتكم؛ لأن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق، فهو سبحانه متصف بالخَلْق قبل أن يخلق، وبالقدرة قبل أن يُوجَد المقدور عليه.. إلخ.
إذن: فوجودكم لم يَزِدْ شيئاً في صفاته تعالى، وما كانت الرسالات إلا لمصلحتكم أنتم، فإذا لم تطيعوا أوامر الله، وتأخذوا منهجه، لأنه يفيدكم فأطيعوه جزاءَ ما أنعم عليكم من نِعَم لا تُعدُّ ولا تُحصَى، فالإنسان طرأ على كون أُعِدَّ لاستقباله وهُيِّىء لمعيشته،
وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي جُعِلَتْ لخدمتك أطول عمراً منك، فالإنسان قد يموت يوم مولده، وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات، أمّا الشمس مثلاً فعمرها ملايين السنين، وهي تخدمك دون سلطان لك عليها، ودون أن تتدخل أنت في حركتها.
ثم يقول تعالى: ﴿واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ﴾
﴿أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ [الشعراء: ١٣٢] فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعَدِّدوا نِعَم ربكم عليكم.
فماذا كان ردّهم على مقالة نبيِّهم وموعظته لهم؟ ﴿قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ﴾
وهؤلاء يقولون لنبيهم ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ [الشعراء: ١٣٦] يعني: أرح نفسك، فسواء علينا وعظُك وعدم وعظِك، ونلحظ أنهم قالوا: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ [الشعراء: ١٣٦]
إنما ﴿لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ [الشعراء: ١٣٦] يعني: امتنع منك الوعظ نهائياً، وكأنهم لا يريدون مسألة الوعظ هذه أبداً، حتى في المستقبل لن يسمعوا له.
وقالوا: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾ [يس: ١٥].
فوصفوا نبيهم، ومَنْ سبقوه من الرسل بالكذب والاختلاق وإيجاد شيء لم يكن موجوداً.
والخُلُق: صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الأفعال بيُسْر وسهولة، والصفات التي يكتسبها الإنسان لا تعطي مهارة من أول الأمر، بل تعطي مهارة بعد الدُّرْبة عليها، فتصير عند صاحبها كالحركة الآلية لا تحتاج منه إلى مجهود أو معاناة.
وسبق أن ضربنا مثلاً بالصبي الذي يتعلم مثلاً الحياكة، وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلُّم لضم الخيط في الإبرة، حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائياً، ودون مجهود وربما وهو مُغْمض العينين.
إذن: ﴿خُلُقُ الأولين﴾ [الشعراء: ١٣٧] يعني: دعوى ادعوْهَا جميعاً أي: الرسل.
وفي قراءة أخرى تُوجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللام (خُلْق) أي: اختلاق والمعنى: نحن كمن سبقونا من الأمم لا نختلف عنهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].
وهؤلاء السابقون قالوا: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤].
فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصِّلة في النفس، فلا تحاول زحزحتنا عنها، فالمراد: نحن مثل السابقين لا نؤمن بمسألة البعث، فأرح نفسك، فلن يجديَ معنا وعْظُك.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾
وقد أُمِنَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عذاب الاستئصال، فمَنْ كفر برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأخذه الله كما أخذ المكذِّبين من الأمم السابقة، إنما يقول سبحانه: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤].
وكملة ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ [الشعراء: ١٣٩] كلمة صادقة، لها دليل في الوجود نراه شاخصاً، كما يقول الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ [الفجر: ٦٨].
نعم، كانت لهم حضارة بلغتْ القمة، ولم يكُنْ لها مثيل، ومع هذا كله ما استطاعت أنْ تصون نفسها، وأخذها الله أَخْذ عزيز مقتدر.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٧١٣٨].
وقال: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا﴾ [النمل: ٥٢].
أي: أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرُّون عليها، وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة، فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أَخْذ الله العزيز المقتدر، فينبغي عليكم أنْ تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم، وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذِّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى.
لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آلتْ إلى زوال،
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ [الشعراء: ١٣٩] أي: في إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم، يُلفِت الأنظار، ويدعو للتأمل: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٩].
لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي».
إذن: فمن عظمة الحق تبارك وتعالى أنْ يُعطي نموذجاً لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه، ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكرمُ مخلوق مُربَّى في الأرض؛ لذلك قال ﴿رَبَّكَ﴾ [الشعراء: ١٤٠] ولم يقل: ربهم مع أن الكلام ما يزال مُتعلقاً بهم.
وقوله تعالى: ﴿لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ [الشعراء: ١٤٠] العزيز قلنا: هو الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب، لكن لا تظن أن في هذه الصفة جبروتاً؛ لأنه تعالى أيضاً رحيم، ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يجمع بين هاتين الصفتين: عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلامي يُربِّي
وتأمل قول الله تعالى في صفات المؤمنين:
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤].
فالمسلم ليس مجبولاً على الذلّة ولا على العزة، إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلاً، أو يجعله عزيزاً، فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين، ويتصف بالعزّة على الكافرين.
ومن ذلك أيضاً: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها ضَعْف وخَوَر، فمثلاً الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفاً عليه، نقول له: إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾
فلا بُدَّ أن يجمع الله له الرسل كلهم، ليأخذ من كل واحد منهم لقطة؛ لأنه سيكون منهجاً للناس جميعاً في كُلِّ زمان وفي كُلِّ مكان،
لقد بُعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليكون رسولاً يجمع الدنيا كلها على نظام واحد، وخَلُق واحد، ومنهج واحد، مع تباين بيئاتهم، وتباين داءاتهم ومواهبهم. إذن: لا بُدَّ أن يذكر الحق تبارك وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طرفاً من سيرة كل نبي سبقه.
لذلك قال سبحانه: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: ١٢٠].
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُنْ في حاجة لأن يُثبِّت الله فؤاده مرة واحدة، إنما كلّما تعرّض لمواقف احتاج إلى تثبيت، فيُثّبته الله، يقول له: تذكّر ما كان من أمر إبراهيم، وما كان من أمر نوح وهود... إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت، فالقصة في القرآن وإنْ كانت في مجموعها مكررة، إنما لقطاتها مختلفة تؤدي كُلٌّ منها معنى لا تؤديه الأخرى.
وهنا يقول سبحانه كما قال عن الأمم السابقة: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٤١] لأن الرسل جميعاً إنما جاءوا بعقيدة واحدة، لا يختلف فيها رسول عن الآخر، وصدروا من مصدر واحد، هو الحق تبارك وتعالى، ولا يختلف الرسل إلا في المسائل الاجتماعية والبيئية التي تناسب كلاً منهم.
لذلك يقول تعالى: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى﴾ [النساء: ١٦٣].
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ﴾
ولما كانت التقوى تقتضي وجود منهج نتقي الله به، قال: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء: ١٤٣] وما دُمْتُ أنا رسول أمين لن أغشّكم ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٤٤] وكرر الأمر بالتقوى مرة أخرى، وقرنها بالطاعة.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥].
فمَنْ ظن ذلك فهو مخطيء قاصر الفهم؛ لأن الأشياء التي تخدمك في الحياة لا تخدمك بقدرة منك عليها، فأنت لا تقدر على الشمس فتأمرها أنْ تشرق كل يوم، ولا تقدر على السحاب أن ينزل المطر، ولا تقدر على الأرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت، ولا تقدر على الهواء الذي تتنفسه.. إلخ وهذه من مُقوِّمات حياتك التي لا تستطيع البقاء بدونها.
وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر: مَن الذي سخرَّها لك، وأقدرك عليها؟ كالرجل الذي انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلاك، ثم أخذته سِنَة أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، بالله، أليس عليه قبل أنْ تمتد يده إليها إنْ يسأل نفسه: مَنْ أعدّ لي هذه المائدة في هذا المكان.
كذلك أنت طرأتَ على هذا الكون وقد أُعِدَّ لك فيه كل هذا الخير، فكان عليك أن تنظر فيه، وفيمَنْ أعدّه لك. فإذا جاءك رسول من عند الله ليحلَّ لك هذا اللغز، ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو الله، وأن من صفات كماله كذا وكذا، فعليك أن تُصدِّقه.
لأنه إما أن يكون صادقاً يهديك إلى حَلِّ لغز حار فيه عقلك، وإما هو كاذب والعياذ بالله وحاشا لله أن يكذب رسول الله على الله
ويقول: هذا الرسول مُدَّعٍ وكاذب، وهذا الخَلْق لي: فإذا لم يقُمْ للخَلْق مُدَّعٍ فقد ثبتتْ القضية لله تعالى إلى أنْ يظهر مَنْ يدَّعيها لنفسه.
ومنه الجنون. ويعني: سَتْر العقل. وكذلك الجنة، فهي تستر عن الوجود كله، وتُغنيك عن الخروج منها إلى غيرها، ففيها كل ما تتطلبه نفسك، وكل ما تحتاجه في حياتك.
ومن ذلك ما نسميه الآن (قصراً) لأن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد.
وقال بعدها: ﴿وَعُيُونٍ﴾ [الشعراء: ١٤٧] لأن الجنة تحتاج دائماً إلى الماء، فقال ﴿وَعُيُونٍ﴾ [الشعراء: ١٤٧] ليضمن بقاءها.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا﴾
نعم لو تأملتَ النخلة لوجدتَ أن كل شيء فيها نافع، وله مهمة، وينتفع الزارع به، ولا يُلْقَى منها شيء منهما كان بسيطاً. فالجذوع تُصنع منها السواري والأعمدة، وتُسقف بها البيوت قبل ظهور الخرسانة، ومن الجريد يصنعون الأقفاص، والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى (القحف) والذي لا يصلح للأقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين، فيصير (مقشّة) يكنسون بها المنازل.
ومن الليف يصنعون الحبال، ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها، حتى الأشواك التي تراها في جريد النخل خلقه الله لحكمة وبقدَرٍ؛ لأنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها، والليف الذي يمنو بين أصول الجريد جعله الله حماية للنخلة، وهي في طور النمو، وما تزال غَضَّة طرية، فلا يحمي بعضها على بعض.
إذن: هي شجرة خيِّرة كالمؤمن، وقد تم أخيراً في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى بالقحف، وجعلوه في تربة مناسبة، فأنبتوا منه نخلة جديدة.
لذلك «لما قال ابن عمر: إنها النخلة. ذهب عمر إلى رسول الله، وحكى له مقالة ولده، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صدق ولدك «فقال عمر: (فوالله ما يسرني أن فَطِن ولدي إليها أن لي حمر النعم) ».
ومعنى ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ [الشعراء: ١٤٨] الطَّلْع: هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الأُنْثى ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر، والتي قال الله عنها: ﴿قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ [الأنعام: ٩٩].
وفي الذَّكر يخرج من الكوز المادة المخصِّبة للنخلة، وللقِنْوان أو الشماريخ أطوار في النمو يُسمُّونه (الخلا)، فيظل ينمو ويكبر إلى أنْ يصل إلى نهايته حَدّاً حيث يجمد على هذه الحالة، ويكتمل نموه الحجمي، ثم تبدأ مرحلة اللون.
يقولون (عفَّر) النخل: يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة. فإذا اكتمل احمرار الأحمر واصفرار الأصفر، يسمى (بُسْر) ثم يتحول البُسْر إلى (الرطب) حيث تلين ثمرته وتنفصل قِشْرته، فإنْ كان الجو جافاً فإنَّ الرُّطَب يَيْبس، ويتحول إلى (التمر) حيث تتبخَّر مائيته، وتتماسك قِشْرته، وتلتصق به.
ومعنى ﴿هَضِيمٌ﴾ [الشعراء: ١٤٨] يعني: غَضٌّ ورَطْب طريٌّ، وهذا يدل على خصوبة الأرض، ومنه هضم الطعام حتى يصبر ليِّناً مُسْتساغاً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال﴾
أو: يأتي الإسراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام. وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرَّمه الله. إذن: يأتي الإسراف في صور ثلاثة: إما في الأصل، وإما في الكسب، وإما في الإنفاق.
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما يكلمنا عن الحلال، يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩].
أما في المحرمات فيقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: ١٨٧] أي: ابتعد عنها؛ لأنك لا تأمن الوقوع فيها، ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فلم يقل الحق سبحانه مثلاً: لا تُصَلُّوا وأنتم سكارى. إنما قال: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣].
والمعنى: خُذِ الحلال كله، لكن لا تتعداه إلى المحرَّم، أما المحرَّم فاحذر مجرد الاقتراب منه؛ لأن له دواعي ستجذبك إليه.
ونقف عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين﴾ [الشعراء: ١٥١] حيث لم يقل: ولا تسرفوا، وكأن ربنا عزّ وجلّ يريد
لذلك جاء في الحديث الشريف: «استفت قلبك، واستفتِ نفسك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك».
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم، ويُزيِّنون للناس الباطل، ويُقنعونهم به. والفتوى من الفُتوة القوة، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣].
كذلك الفتوى تعني: القوة في أمر الدين والتمكُّن من مسائله وقضاياه، وإنْ كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حَدٌّ تنتهي عنده فإنْ القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حَدٍّ، لأن الدين أمدُه واسع، وبحره لا ساحلَ له. والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين.
نقول: فلان فتيٌّ يعني: قويٌّ بذاته، وأفتاه فلان أي: أعطاه القوة، كأنه كان ضعيفاً في حُكم من أحكام الشرع، فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني: أعطاه فتوة في أمر الدين. مثل قولنا: غَنيَ فلان أي: بذاته، وأغناه أي: غيره، كما يقول سبحانه: ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٧٤].
«الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مُشْتبهات، فمن ترك ما شُبِّه له لا من فعل ما شُبِّه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة فقد استبرأ لدينه إن كان متديناً وعِرْضه إن لم يكُنْ متديناً».
إذن: مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ولا لعِرْضه. ومَنْ لم يُفْتِ على هذا الأساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين لا يُقوِّيه، وبدل أن نقول: أفتاه. نقول: أضعفه.
ولا يعني هذا ألاَّ يتدخل الإنسان في الكون، لا إنما يتدخل على
فحين تمر مثلاً ببئر ماء يشرب منه الناس، فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسِّر استخدامه على الناس، كأن تبني له حافّة، أو تجعل عليه آلة رَفْع تساعد الناس، أو على الأقل تتركه على حاله لا تفسده؛ لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾ [البقرة: ٢٠٥].
أما هؤلاء القوم فلم يكتَفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب، إنما أيضاً هم ﴿وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء: ١٥٢] ذلك لأن الإنسان قد يُفسِد في شيء، ويُصلح في شيء، إنما هؤلاء دأبهم الفساد، ولا يأتي منهم الصلاح أبداً.
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلاحاً، وهي عَيْن الفساد؛ لأنهم لم يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية، وانظر مثلاً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا: إنها فتح علمي، وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع، وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالاً على البشرية كلها، كيث تسمِّم الزرع وتسمِّم الحيوان، وبالتالي الإنسان، حتى الماء والتُّرْبة والطيور، لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله.
وفي هؤلاء قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: ١٠٣١٠٤].
ولم يقل: بكل ساحر، إنما سحَّار يعني: هذه مهنته، وكما تقول: ناجر ونجار، وخائط وخياط.
وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ [الإسراء: ٤٧] فهؤلاء يقولون لنبيهم ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ [الشعراء: ١٥٣] وعجيب أمر أهل الباطل؛ لأنهم يتخبطون في هجومهم على الأنبياء، فمرَّة يقولون: ساحر. ومرة يقولون: مسحور، كيف والساحر لا يكون مسحوراً؛ لأنه على الأقل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر. قالوا: بل المراد بالمسحور اختلاط عقله، حتى إنه لا يدري ما يقول.
ثم إن نبيكم صالحاً عليه السلام إنْ كان مسحوراً فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره منكم فأنتم تقدرون على كَفِّ سحركم عنه، حتى يعود إلى طبيعته، وترونه على حقيقته، وإنْ كان من أتباعه، لا بُدَّ أنهم سيحاولون أنْ يعينوه على مهمته، لا أن يُقعدوه عنها.
إذن: فقولهم لنبيهم: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ [الشعراء: ١٥٣]
لأن آلهتهم لا تأمرهم بشيء ولا تنهاهم عن شيء. لذلك، فكل الدجالين ومُدَّعُو النبوة رأيناهم يُخفِّفون التكاليف عن أتباعهم، فقديماً أسقطوا عن الناس الزكاة، وحديثاً أباحوا لهم الاختلاط، فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها، وماذا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
فإنْ قالوا: ساحر، نردُّ عليهم نعم هو ساحر، قد سحر مَنْ آمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي هذه المسألة؟ إذن: هذه تُهَم لا تستقيم، لا هو ساحر، ولا هو مسحور، إنه مجرد كذب وافتراء على أنبياء الله، وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾
ولو بعث الله لهم مَلَكاً لجاءهم على صورة بشر، وستظل الشُّبْهة قائمة، فمن يدريكم أن هذا البشر أصله مَلَك؟ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً
فالمعنى: ما دام أن الرسول بشر، لا يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني: معجزة تُثبِت لنا صِدْقه في البلاغ عن ربه ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ [الشعراء: ١٥٤].
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى ينتهز فرصة طلَبهم لآية ومعجزة، فأسرع إليهم بما طلبوا، ليقيم عليهم الحُجة، فقال بعدها: ﴿قَالَ هذه نَاقَةٌ﴾
﴿وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥] أي: تشربون فيه أنتم، وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كلّ مواشيهم في يومهم، وهذه معجزة في حَدِّ ذاتها.
ثم يتوعدهم: ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٥٦].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ﴾
﴿فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٧] وقال العلماء: الندم مقدمة التوبة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾
نعم، الندم من مقدمات التوبة، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ [النساء: ١٨].
إذن: ندموا وتابوا في غير أوان التوبة، أو: أنهم أصبحوا نادمين لا ندمَ توبة من الذنب، إنما نادمون؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إنْ فعلوا.
ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذِّبة: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز﴾
ثم ينتقل الحق سبحانه إلى قصة أخرى من مواكب الأنبياء والرسل: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾
ثم يخصُّ الحق سبحانه قوم لوط لما اشتُهروا به وكان سبباً في إهلاكهم: ﴿أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين﴾
لذلك قال في موضع آخر: ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين﴾ [الأعراف: ٨٠].
أي: أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، ولكنهم فعلوها، فوَصْفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.
أو ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء: ١٦٦] أي: أنهم كانوا يباشرون هذه المسألة أيضاً مع النساء في غير محلِّ الاستنبات، فقوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣].
البعض يظنها على عمومها وأن ﴿أنى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] تعطيهم الحرية في هذه المسألة، إنما الآية محددة بمكان الحَرْث واستنبات الولد، وهذا محله الأمام لا الخلف.
لذلك قال بعدها: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ [الشعراء: ١٦٦] والعادي هو الذي شُرع له شيء يقضي فيه إربته، فتجاوزه إلى شيء آخر حرَّمه الشرع.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾
ثم يقول لوط: ﴿رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي﴾
والمراد: امرأته التي قال الله في حقها: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ﴾ [التحريم: ١٠].
فجعلها الله عَزَّ وَجَلَّ مثالاً للكفر والعياذ بالله؛ لذلك لم تكُنْ من الناجين، ولم تشملها دعوة لوط عليه السلام، وكانت من الغابرين. يعني: الهالكين.
كماء جاء في آية أخرى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٤٢٥].
وهذا يُسمُّونه (يأس بعد إطماع)، وهو أبلغ من العذاب والإيلام، حين تستشرف للخير فيُفاجئك الشر، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شَرْبة ماء، ليروي بها عطشه، فلو حرمه الحارس من البداية لَكانَ الأمر هيِّناً لكنه يحضر له كوب الماء، حتى إذا جعله على فيه أراقه على الأرض، فهذا أشد وأنكَى؛ لأنه حرمه بعد أن أطمعه، وهذا عذاب آخر فوق عذاب العطش.
وفي لقطة أخرى بينَّ ما هية هذا المطر، فقال: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٢٨٣].
فالحجارة من ﴿سِجِّيلٍ﴾ [هود: ٨٢] أي: طين حُرِق حتى تحجَّر وهي ﴿مُّسَوَّمَةً﴾ [هود: ٨٣] يعني: مُعلَّمة بأسماء أصحابها، تنزل عليهم بانتظام، كل حجر منها على صاحبه.
وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قوم آخرين كذبوا رسولهم شعيباً: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة﴾
وباقي الآيات متفقة تماماً مع مَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لأن الوحدة في المنهج العقدي أنتجتْ الوحدة في علاج المنهج؛ لذلك قرأنا هذه الآيات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم.
ثم يأخذ في تفصيل الأمر الخاص بهم؛ لأن كل أمة من الأمم التي جاءها رسول من عند الله إنما جاء ليعالج داءً خاصاً تفشَّى بها، وكانت الأمم من قبل منعزلةً، بعضها عن بعض، ولا يوجد بينها وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لأخرى.
فهؤلاء قوم عاد، وكان داءَهم التفاخُرُ بالبناء والتعالي على الناس، فجاء هود عليه السلام ليقول لهم:
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٨١٣٠].
وثمود كان داءهم الغفلةُ والانصراف بالنعمة عن المُنْعم، فجاء صالح عليه السلام يقول لهم: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ﴾ [الشعراء: ١٤٦١٤٩].
أما قوم لوط عليه السلام فقد تفرَّدوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، وهي إتيان الذكْران، فجاء لوط عليه السلام ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والإقلاع:
أما أصحاب الأيكة، فكان داءهم أنْ يُطفِّفوا المكيال والميزان، فجاء شعيب عليه السلام ليقول لهم: ﴿أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ﴾
ومعنى ﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ [الشعراء: ١٨١] المخسِر: هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر في مسألة الكيل، بأن يأخذ بالزيادة، وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان. وفي الوزن قال ﴿بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء: ١٨٢].
والقسطاس: يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرِّي الدّقّة في الوزن، مع مراعاة اختلاف الموزونات، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلاً، غير وزن العدس أو السمسم، فعليك أنْ تتحرّى الدقة قَدْر إمكانك، لتحقق هذا القسطاس المستقيم.
لكن، لماذا خصَّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم، ولم يذكر مثلاً القياس في المساحات والمسافات بالمتر أو بالذراع؟
قالوا: لأن الناس قديماً وكانت أمماً بدائية لا تتعامل فيما يُقاس، فلا يشترون القماش مثلاً: لأنه يُغزل، تغزله النساء
وقديماً، كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة، وفي هذه الحالة لا يوجد بائع على حِدَة ولا مُشْترٍ على حِدَة، فلا يتفرد البائع بالبيع، والمشتري بالشراء، إلا في حالة مبادلة السلعة بثمن، كما قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] أي: باعوه.
أما في حالة المقايضة، فأنت تأخذ القمح تأكله، وأنا آخذ التمر آكله، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة، فإنْ قدَّرْتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ. تقول: شَرَى وباع. وإنْ قدَّرْت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعاً مباشراً كالذهب والفضة، أو أي معدن آخر، وهذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن، أمّا الأشياء الأخرى فصالحة أنْ تكون سلعة، وصالحة لأنْ تكون ثمناً.
وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي «سورة المطففين»، يقول سبحانه: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ١٣].
نقول: كال له يعني: أعطاه، واكتال عليه يعني: أخذ منه. فإن أخذ أخذ وافياً، وإنْ أعطى أعطى بالنقص والخسارة. والقرآن لا ينعى عليه أن يستوفى حقّه، لكن ينعى عليه أن ينقص من حَقِّ الآخرين، ولو شيئاً يسيراً.
فمعنى (المطففين) من الشيء الطفيف اليسير، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف، فما بال مَنْ يظلم من الكل؟
ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمُّون بقياس دقة آلات الكيل والوزن والقياس، فَوُجِدت هيئات متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة دِقّتها؛ لأنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو الزيادة، فمثلاً سنجة الحديد التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحث تتراكم عليها الزيوت والتراب، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت، كما تنقص مثلاً أكرة الباب من كثرة الاستعمال، فتراها لامعة، ولمعانها دليل النقص، وإنْ كان يسيراً.
وفي فرنسا، نموذج للياردة وللمتر من معدن لا يتآكل، جُعِلَتْ كمرجعٍ يُقاس عليه، وتُضبط عليه آلات القياس.
ورأينا الآن آلاتٍ دقيقة جداً للوزن وللقياس، تضمن لك منتهى الدقة، خاصة في وزن الأشياء الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج، حتى لا تُؤثِّر فيه حركة الهواء من حوله.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾
وهذا كله داخل في ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ [الشعراء: ١٨٣] كل ما ينقص الحق بأخذه بإنقاص. أو غَصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَخْسٌ للشيء.
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه، فالزكاة مثلاً حينما يقول ربك عَزَّ وجَلَّ: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [المعارج: ٢٤٢٥]
فما دام قد قيَّده الشرع، فلا تبخس أنت حَقَّ الفقير، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من مالك للفقير، تجهد أنه وُضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموِّل، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله، حتى وجبتْ فيه الزكاة.
فكلما زادتْ حركتك قَلَّ مقدار الزكاة في مالك، فمثلاً الأرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر، والتي تُسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر، وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال رُبْع العُشْر، ذلك لأن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الأموال، حتى لا يأتي مَنْ يقول: كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي؟
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء، فإنما يحمي به الفقراء والأغنياء على حَدِّ سواء. وقد حدَّد الشارع هذا الحق، حتى لا تزهد في العطاء، خاصة في الزكاة.
إن منهج الله يريد أنْ يُصوِّب حركة الحياة من الأحياء، يريد ألاَّ يجري دم في جسد إلا بخروج عَرق من هذا الجسد، وألا يدخل دم
عندما يفسد المجتمع؛ لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد، والآخذ سيتعوَّد البطالة والكسل والخمول، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل، وتثقُل عليه الحركة، فيركَنُ إلى ما نُسمِّيه (بلطجي) في الحياة، يعيش عالة على غيره.
إذن: الحق تبارك وتعالى يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة سَعْيه، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر؛ لأنه إنْ كان عاجزاً عن الحركة فقد ضمن له ربُّه حقاً في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته، سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة؛ وبذلك تسْلَم حركة الحياة للجميع.
لذلك أراد سبحانه وتعالى أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس: فإنْ كِلْتَ لغيرك فوفِّ الكيل، وإنْ وزنتَ فوَفِّ الميزان، واجعله بالقسطاس المستقيم، ولا تبخس الناس حقوقهم بأي صورة من الصور.
ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب، إنما هي نماذج للتعامل، تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة فيما يُقَاس وفيما يُعَدُّ، في الأعمال وفي الصناعات.. إلخ.
إذن: فاحذر أنْ تتلصَّص على حقوق الآخرين، أو أن تبخسها، بأيِّ نوع من أنواع التسلُّط: غَصْباً أو اختطافاً أو سرقةً أو اختلاساً أو رِشْوة.. إلخ.
فإذا علم كُلُّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعاً إنْ لم يعمل وهو قادر دبَّتْ الحركة في كل الأحياء، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض خاصة، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به، والطاقة التي نعمل بها، والمادة التي نستعين بها، فكلُّ ما علينا أن نُوظّف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفاً مثمراً.
ثم إنْ كانت الزكاة كحقِّ معلومة محددة، فهناك حَقٌّ آخر غير مُحَّدد، في قوله سبحانه: ﴿وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٩] ولم يقل (معلوم) ؛ لأن المراد هنا الصدقة المطلقة، وقد تركها الحق تبارك وتعالى ولم يُقيِّدها ليترك الباب مفتوحاً أمام أريحية المعطي، ومدى كرمه وإحسانه؛ لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين:
﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٥١٩].
ولأن الحق هنا تفضُّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد.
وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع الشعر
فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه، أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر، كالذي يعطي زكاته للخادمة مثلاً، ليُرضِي أمها حتى لا تأخذها من يده، ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى؛ وهذا كله لا يجوز؛ لأن مال الزكاة حَقٌّ للمستحقين المعروفين نصاً في كتاب الله، ولا يصح أنْ يُوجِّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبداً.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: ١٨٣] عثا: أي أفسد. فالمعنى: لا تُفسِدوا في الأرض، فلماذا كرَّر الإفساد مرة أخرى فقال ﴿مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: ١٨٣] ؟ قالوا: المراد: لا تعثَوْا في الأرض حالةَ كونِكم مفسدين، أو في نيتكم الإفساد.
وليس في الآية تكرار؛ لأنه فرَّق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده، إنما حركتك في الحياة أفسدتْه، وبين أنْ تُفسد عن قصد وعَمْد للإفساد، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتُجرِّبَ لتصلَ إلى الأفضل، وتُثري حركة الحياة، فما دُمْتَ قد قصدتَ الصلاح، فلا عليك إنْ أخطأتَ؛ لأن ربك عَزَّ وجَلَّ يتولى تصحيح هذا الخطأ، بل ويُعوِّضك عنه، فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر، ومَنِ اجتهد فأصاب فله أجران.
وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح، والإنسان هو الذي يُفسِدها، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما للإنسان دَخْل فيه، أما مَا لا تطوله يده، فيظل على صلاحه، وعلى استقامته وسلامته.
والإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها، تحقيقاً لقول ربه عَزَّ وجَلَّ: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١].
ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب، فإذا ما كَثُر النسل لا يقابل زيادة في استثمار الأرض، فتحدث الأزمات، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة النسل في خطين متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق، ولما أحاطت بهم الأزمات.
والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلاً تجد المزارع في الصحراء، وتجد القرى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء، فأين كانت هذه الثورة؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة حتى عَضَّنا الجوع، وضاقت بنا الأرض الخضراء في الوادي والدلتا.
وإذا لم يُصلِح الإنسان في الأرض فلا أقلَّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها الله عليه. لكن رأينا الإنسان يُفسد الماء ويُلوثه
لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال، وجعلها آمنة لا ضررَ منها: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨].
وقال: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس﴾ [النحل: ٧] نعم، وسائل النقل الحديث أسرع، وأراحتْ هذه المواشي، لكنها أتعبتْ الإنسان الذي خلق الله الكون كله لراحته.
فترى الرجل يركب سيارته وكل هَمِّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها، فينطلق بها مُخلِّفاً سحابة من الدخان السَّام الذي يؤذي الناس، أما هو فغير مكترث بشيء؛ لأن الدخان خلفه لا يشعر به.
لكن، احذر جيداً، إن ربك عَزَّ وَجَلَّ قيوم لا يغفل ولا ينام، وكما تدين تُدان في نفسك، أو في أولادك.
كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهِّد لها الطرق حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس، وتؤذي تنفسهم، بل وتؤذي الزرع أيضاً، كل هذه وُجوه للإفساد في الأرض؛ لأننا ندرس عاجلَ النفع ولا ندرس آجل الضرر.
وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدِّمات سليمة، لتصل إلى النتائج السليمة، ولا تكُنْ من المفسدين في الأرض.
ومن الإفساد في الأرض الرِّشْوة، وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع، وهي تُولِّد التسيّب وعدم الانضباط، فحين ترى غيرك يستغلك، ويستحلّ مالك دون حق، تعامله وتعامل غيره نفس المعاملة، فتصير الأمور في الأجهزة والمصالح إلى فوضى لايعلم مداها إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿واتقوا الذي خَلَقَكُمْ﴾
ولأننا جميعاً أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا، فقد تكفّل لنا بالرزق ورعاية المصالح، فَمنِ ابتلاه الله بالعجز عن الحركة فتحركْتَ أنت لقضاء مصالحه، لا بُدَّ ان ينظر الله إليك بعين البركة والمضاعفة.
فالمعوَّق والفقير بحقٍّ لا الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها هذا الفقير وهذا المعوَّق هم خَلْق الله وأهل بلائه، فحين تعطيه من
أمّا إنْ ضَنَّ الغنيُّ الواجد على الفقير المعدَم، وتخلى عن أهل البلاء، فلا بُدَّ أنْ يسخط الفقير على الغني، بل يسخط على الله والعياذ بالله لأنه ما ذنبه أن يكون فقيراً، وغيره غنيٌّ في مجتمع لا يرحم.
وعجيب أن نرى مُبتليً يُظهر بلواه للناس، بل ويستغلها في ابتزازهم، فيُظهِر لهم إعاقته، كأنه يشكو الخالق للخَلْق، ولو أنه ستر على الله بلاءه وعَلِم أنه نعمة أنعم الله بها عليه لَسخَّر الله له عافية غير المبتلى، ولجاءه رزقه على باب بيته، فلو رَضِي أهل البلاء لأعطاهم الله على قَدْر ما ابتلاهم.
فمعنى: ﴿واتقوا الذي خَلَقَكُمْ﴾ [الشعراء: ١٨٤] أي: احذروا جبروته؛ لأنه خلقكم، وضمن لكم الأرزاق، وضمن لكم قضاء الحاجات، حتى العاجز عن الحركة سخَّر له القادر، وجعل للغنى شرطاً في إيمانه أنْ يُعطى جزءاً من سَعْيه للفقير، ويُوصِّله إليه وهو مطمئن.
ومعنى: ﴿والجبلة الأولين﴾ [الشعراء: ١٨٤] الجبلة من الجبَل، وكان له دور في حياة العربي، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات، فاشتقوا من الجبل (الجبلّة) وتعني الملازمة والثبات على الشيء.
ومن ذلك نقول: فلان مجبول على الخير يعني: ملازم له لا يفارقه، وفلان كالجبل لا تزحزحه الأحداث، والعامة تقول: فلان
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل، حتى بعد موته، فيقول عن ممدوحه وقد حملوه في نعشه:
مَا كنتُ أَحْسَبُ قَبْل نَعْشِكَ أنْ أَرَى | رَضْوى عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِير |
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ [يس: ٦٢].
ومعنى: ﴿والجبلة الأولين﴾ [الشعراء: ١٨٤] أي: الناس السابقين الذين جُبِلوا على العناد وتكذيب الرسُل، فالله خالقكم وخلقهم، وقد رأيتُم ما فعل الله بهم لما كذَّبوا رسُله، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذّبهم، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جُبِلوا على التكذيب، وكانوا ثابتين عليه لم يُزحزحهم عن التكذيب شيء، فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم. فماذا كان ردّهم؟
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا، كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟
ومعنى ﴿كِسَفاً﴾ [الشعراء: ١٨٧] مفردها كِسْفة، مثل قِطَع وقطعة، وقد وردتْ هذه الكلمة على ألسنة كثير من المكذِّبين، وقالها الكفار للنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٩٠٩٢].
وكان عليهم أن يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه، وهذا يدلُّك على حُمْقهم وعنادهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ﴾
وهو عذاب يوم مشهود، حيث سلط الله عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام، عاشوها في قيظ شديد، وقد حجز الله عنهم الريح إلا بمقدار ما يُبقي رَمَق الحياة فيهم، حتى اشتد عليهم الأمر وحميَتْ من تحتهم الرمال، فراحوا يلتمسون شيئاً يُروِّح عنهم، فرأوا غمامة
على حَدِّ قوْل الشاعر:
كَمَا أمطَرتْ يَوْماً ظماءً غمامةٌ | فلمَّا رَأؤْهَا أقشعَتْ وتجلَّتِ |
كما قال سبحانه في آية أخرى:
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٤٢٥].
لذلك وصف الله عذاب هذا اليوم بأنه ﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٨٩] فما وَجْه عظمته وهو عذاب؟ قالوا: لأنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة، ففاجأهم ما زادهم عذاباً، وهذا ما نسميه «يأس بعد إطماع» وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس.
وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم، وهذا الموكب يضم سبعة من رسل الله مع أممهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب عليهم جميعاً وعلى نبينا السلام، وقد مضى هذا الموكب على سنة لله ثابتة لا تتخلف، هي: أن ينصر الله عَزَّ وَجَلَّ رسله والمؤمنين معهم، ويخذل الكافرين المكذِّبين.
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ [الشعراء: ١٩٠] يعني عبرةً لكم، وسُمِّيتْ عبرة؛ لأنها تعبر
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ [الصافات: ١٧١١٧٢].
وقال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣].
ومن العبرة نقول: عبر الطريق يعني: انتقل من جانب إلى جانب، والعبرة هنا أن ننتقل من التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى الإيمان والتصديق والطاعة، حتى العَبرة (الدَّمْعة) مأخوذة من هذا المعنى.
وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٠] حماية واحتراس حتى لا نهضم حق القِلَّة التي آمنت.
ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أنْ قدَّم لنا العبرة والعِظة في موكب الرسل السابقين، فيقول الحق سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ﴾
وكما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة، مع أنه متأخر عنه، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب.
كذلك ﴿وَإِنَّهُ﴾ [الشعراء: ١٩٢] أي: القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه ﴿لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٩٢] وقُدِّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذِّهْن إلا إليه، فحين تقول: ﴿هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] لا ينصرف إلا إلى الله، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٩٢] لا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم.
أي: أنه كلام الله لم أقلْهُ من عندي، خاصة وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يسبق له أنْ وقف خطيباً في قومه، ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب قَوْل.
إذن: فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة، فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء؛ لأنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة.
و ﴿العالمين﴾ [الشعراء: ١٩٠] : كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمة للعالمين للإنس وللجن وللملائكة وغيرها من العوالم.
لذلك لما نزلت: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] «سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام:» أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ «فقال: نعم، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس، فلما أنزل الله عليك قوله: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] أمنْتُ العاقبة، فتلك هي الرحمة التي نالتني».
وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين، إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله.
قالوا: لأن القرآن جاء منهجاً للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فلا بد إذن أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة، والمعجزة هي عَيْن المنهج، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله، فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لأمة بعينها في فترة محددة من الزمن، وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها لا بنصِّها؛ لذلك عيسى عليه السلام يقول: «سأجعل كلامي في فمه» أي: أن كلام الله سكيون في فم الرسول بنصِّه ومعناه من عند الله، ما دام بنصِّه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح﴾
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ [المزمل: ٥].
ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١٤].
يعني: سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنتَ تعاني من قبل.
وقوله: ﴿نَزَلَ﴾ [الشعراء: ١٩٣] تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصحلة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدِّل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم.
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه؛ لأنك تتكبر على مساوٍ لك، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له، عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون (اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١].
كلمة (تعالوا) تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء، فتعالوا أيْ: تعلَّوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تُضطرون
إذن: فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنه سبحانه العليم بما يُصلحكم.
إذنك ﴿نَزَلَ﴾ [الشعراء: ١٩٣] تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من نِعَم الله، لما تكلم عنه قال سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب﴾ [الحديد: ٢٥].
ولم يَقُلْ مثلاً: أنزلناه الألماظ أو الألماس، أو غيره من المعادن النفيسة، لماذا؟ لأن الحديد أداة من أدوات نُصْرة الدعوة وإعلاء كلمة الله.
وسُمِّي جبريل عليه السلام الروح؛ لأن الروح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة، فكأنهم أرواح مطلقة، أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استُعملَتْ عدة استعمالات منها ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] والمراد الروح التي نحيا بها.
وسُمِّي القرآن روحاً: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] إذن: فالقرآن روح، والملَك الذي نزل به روح، فإنْ قلتَ: فما حاجتي إلى الروح وفيَّ روح؟
نقول لك: هذه الروح التي تحيا بها مادتك، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أمّا الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
لذلك، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ
واقرأ إن شئت قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
كيف وها نحن أحياء؟ نعم، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية، أمَّا رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية، وكأنه عَزَّ وَجَلَّ يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية؛ لأنها ستنتهي، وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤] فالحيوان مبالغة في الحياة، أي: الحياة الحقيقية، أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده، أو حتى بعد مائة عام؟!
ثم يَصِف الحق سبحانه وتعالى الروح بأنه ﴿الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] أي: على الوحي، القرآن إذن مَصُون عند الله، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به، مَصُون عند النبي الأمين الذي نزل عليه.
لذلك يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤٤٧].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿على قَلْبِكَ لِتَكُونَ﴾
لذلك نرى المريض مثلاً يأخذ الدواء عن طريق الفم، فيدور الدواء دروة الطعام، ويُمتصُّ ببطء، فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل، لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد، فتختلط بالدم مباشرة، وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية.
إذن: قالقلب هو محلُّ الاعتبار والتأمل، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الأذن؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧].
فالمعنى: نزَّله على قلبك مباشرة، كأنه لم يمرّ بالأذن؛ لأن الله الله تعالى اصطفى لذلك رسولاً صنعه على عينه، وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة، فكأن قلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منتبهاً لتلقّي
والقلب محل التكاليف، ومُستقرّ العقائد، وإليه تنتهي مُحِصِّلة وسائل الإدراك كلها، فالعيْن ترى، والأذن تسمع، والأنف يشمّ، والأيدي تلمس.. ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل، فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به؛ لذلك نسميها عقيدة يعني: أمْر عقد القلب عليه، فلم يَعُدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، لقد ترسَّخ في القلب، وأصبح عقيدة ثابتة.
وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب، يقول تعالى: ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧].
وفي آية أخرى يُبيِّن أن التقوى محلُّها القلب: ﴿ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ [الحج: ٣٢].
وفي الشهادة يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] من أن الشهادة باللسان، لا بالقلب.
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: «ألا إن في الجسد مُضْغة، إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
ويُحدِّثنا صحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي رُبْعين أو ثلاثة أرباع مرة واحدة، فإذا ما سُرِّى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: اكتبوا، ثم يقرؤها عليهم مع وَضْع كل آية في مكانها من
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحِرْصه على حفظ القرآن يُردِّده خلف جبريل ويكرره حتى لا ينساه، فأنزل الله عليه: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦].
وقال في موضع آخر: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: ١١٤].
وقال تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦١٩].
ومن عجيب أمر القرآن أنك لا تجد شخصاً يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها نَصّاً، أمّا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت تُلْقَى عليه السورة، فيعيدها كما هي، ذلك من قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦].
وقوله سبحانه: ﴿لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾ [الشعراء: ١٩٤] المنذر: الذي يُحذِّر من الشر قبل وقوعه ليحتاط السامع فلا يقع في دواعي الشر، ولا يكون الإنذار ساعةَ وقوع الشر، لأنه في هذه الحالة لا يُجْدي، وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحثَّ السامع على الخير، وتحفزه إليه.
ويقول سبحانه في آية أخرى: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾
ومعنى ﴿مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] أي: واضح ظاهر، محيط بكل أقضية الحياة، لكن يأتي مَنْ يقول: إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي، فما بال الكلمات غير العربية التي نطق بها؟ فكلمة قسطاس رومية، وآمين حبشية، وسجيل فارسية.
ونقول: معنى اللسان العربي ما نطق به العرب، ودار على ألسنتهم؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربياً، وإنْ كان من لغات أخرى، والمراد أنه لم يَأْتِ بكلام جديد لم تعرفه العرب، فقبل أنْ ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي.
ونزل القرآن باللسان العربي خاصةً؛ لأن العرب هم أمة استقبال
كما قال سبحانه في موضع آخر: ﴿إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ [الأعلى: ١٨١٩].
فالمبادىء العامة من العقائد والأخلاق والعدل الإلهي وقصص الانبياء كلها أمور ثابتة في كل الكتب وعند جميع الأنبياء، ولا يتغير إلا الأحكام من كتاب لآخر، لتناسب العصر والأوان الذي جاءتْ فيه.
وحين تقرأ قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣].
تقول: ولماذا إذن نزل القرآن؟ ولماذا لم يَقُل وصَّينا به محمداً؟
قالوا: لأن الأحكام ستتغير؛ لتناسب كل العصور التي نزل
لذلك رُوي عن عبد الله بن سلام وآخر اسمه ابن يامين، وكانوا من أهل الكتاب، وشهد كلاهما أنه رأى ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة، وفي الإنجيل. والقرآن يقول عنهم: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦].
ولما سمعها ابن سلام قال: ربنا تساهل معنا في هذه المسألة، فوالله إني لأعرفه كمعرفتي لولدي، ومعرفتي لمحمد أشد.
ويقول تعالى في هذا المعنى: ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧].
ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلام حين يقف خطيباً في قومه: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦].
إذن: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين﴾ [الشعراء: ١٩٦] أي: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو هو القرآن الكريم، فكلاهما صحيح؛ لأن صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موجودة في هذه الكتب، أو القرآن في عموم مبادئه في العقائد والأخلاق والبعث وسير الأنبياء.
فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أنْ يؤمنوا به، خاصة وأن رسول الله كان أمياً لم يجلس إلى معلم، وتاريخه في ذلك معروف لهم، حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئاً.
﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ [العنكبوت: ٤٨].
﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [القصص: ٤٥].
﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر﴾ [القصص: ٤٤].
﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
فكل هذه الآيات وغيرها دليل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا عِِْلمَ له بها إلا بواسطة الوَحْي المباشر في القرآن الكريم، وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ﴾
وقال ﴿عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٩٧] لأنهم كانوا يعرفون صِدْق رسول الله، ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بأشياء لا يعرفها إلا هم، وقد اشتهر منهم خمسة، هم: عبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، وثعلبة، وابن يامين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ﴾
وقال الحق وسبحانه وتعالى في موضع آخر: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤].
لذلك يقول تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: ٤] فهو قلب واحد، لذلك أخرج منه كل قضية سابقة، وها هو القرآن واحد، وقائله واحد، ومُبلِّغه واحد، ولسانه عربي.
يقول تعالى في وصفهم حالَ سماع القرآن: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ١٢٧] أي: يريدون التسلُّل والخروج.
ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ [التوبة: ١٢٤] أي: ماذا أفادتكم؟ وماذا زادتْ في إيمانكم.
ويقول سبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦] يعني: ما الجديد الذي جاء به؟
ويقول عن الذين آمنوا: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
وقوله تعالى: ﴿فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٩] لأنهم لم يفهموا منه شيئاً، فكذلك أنتم مثل هؤلاء العجم في تلقِّي واستقبال كلام الله، لم تفهموا منه شيئاً.
ذلك لأنهم أحبوا الكفر والعناد وأصرُّوا عليه، واستراحتْ إليه قلوبهم حتى عَشقوه، فأعانهم الله عليه، وختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمانٌ، ولاَ يخرج منها كفر.
ومعنى ﴿بَغْتَةً﴾ [الشعراء: ٢٠٢] أي: فجأة، ومن حيث لا يشعرون.
وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥] فتعجب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، والمسلمون على هذه الحال؟ فلما شهد بدراً وما كان فيها من قتْل المشركين ونُصْرة دين الله، قال: نعم صدق الله، سيُهزم الجمع ويُولُّون الدبر.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ﴾
هذا كله ﴿ذكرى﴾ [الشعراء: ٢٠٩] تعني: نذكره لنُوقِظ غفلتكم ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٩] فأنتم الذين فعلتم هذا بأنفسكم ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ١١٨].
لكن، كيف والكتاب نزل على محمد عدو للشياطين، يلعنهم في كل مناسبة، ويُحذِّر أتباعه منهم: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ [البقرة: ٢٦٨] ويقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ [فاطر: ٦].
فكيف إذن يمده الشيطان ويُمليه عليه، وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباءه؟ هذه واحدة.
الاخرى: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] إن الله جعل القرآن مُعْجزاً ومنهجاً، والمعجزة لا يتسلَّط عليها إنس ولا جن فيفسدها، لذلك قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
أما الكتب السابقة فقد طلبتْ من المؤمنين بها أنْ يحفظوها، وفَرْق بين الحفظ مني، وطلب الحفظ منكم؛ لأن الطلب تكليف وهو عُرْضة لأنْ يُطاع ولأنْ يُعصَى، وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا على كتبهم السابقة؛ لذلك تولّى الحق سبحانه وتعالى حِفْظ قرآنه
لذلك تجد في هذا المجال كثيراً من العجائب والمفارقات، فمع تقدُّم الزمن وطغيان الحضارات المعادية للإسلام، والتي تُمطرنا كل يوم بوابل من الانحرافات والخروج عن تعاليم الدين، ومِنّا مَنْ ينساق خلفهم، وهذا كله ينقص من الأحكام المطبّقة من الإسلام.
لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقاً، ويزداد حفظاً، ويتبارى حتى غير المسلمين في حِفْظ كتاب الله وتوثيقه، والتجديد في طباعته، حتى رأينا مصحفاً في ورقة واحدة، ومصحفاً في حجم عقلة الإصبع، ويفخر بعضهم الآن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم.. إلخ بصرف النظر عن دوافعهم مِنْ وراء هذا.
المهم أن الله تعالى يُسخِّر حتى أعداء القرآن لحِفْظ القرآن ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: ٣١].
أليس من وسائل نَشْر القرآن والمحافظة عليه آلات التسجيل وآلات تكبير الصوت التي تنشر كلام الله في كل مكان؟ ولم يَلْق شيءٌ من الكتب السابقة مثل هذه العناية.
إذن: فالعناية بالقرآن كنصٍّ لا تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها، وكأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول لنا: سأحفظ هذا النصِّ بغير المؤمنين به، وسأجعلهم يُوثِّقونه ويهتمون به؛ ليكون ذلك حجة عليكم.
لذلك كان عند الألمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج، في كل درج منها أية من القرآن، يُحفظ به كل ما كُتب عن هذه الآية بدايةً من تفسير ابن عباس إلى وقتها، وهذا دليل على أنهم مُسخَّرون بقوة خفية لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
فكيف تقولون تنزلت به الشياطين، وقد جاء القرآن ليعلن لأهله عداءه لهم والحذر منهم؟ كيف والشياطين لا تتنزل إلا على كفَّار أثيم، وأنتم أوْلَى بأن تتنزَّل عليكم ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١].
ومعنى: ﴿وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] أن هذه المسألة فوق قدراتهم؛ لأن الحق تبارك وتعالى قال: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ﴾
وبعد ذلك يتكلم عن استقبال المنهج من الرسول ومن آله وأتباعه، ومن المؤمنين جميعاً:
فساعَة يسمع الناس هذا الخطاب مُوجّهاً إلى النبي المرسَل إليهم، فلا بُدَّ أنْ يصغوا إليه، ويحذروا ما فيه من تحذير، كما لو وجَّه رئيس الدولة أمراً إلى رئيس الوزراء مثلاً ولله المثل الأعلى وحذَّره من عاقبة مخالفته، فلا شكَّ أن مَنْ دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا الأمر.
لذلك سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان على المنبر يخطب في الناس، ويقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، فقام أعرابي وقال: لا سمعَ لك ولا طاعة، انظر إلى هذه الجرأة على مَنْ؟ على عمر وهو على المنبر فقال له عمر: ولِمَ؟
لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الآن؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر، ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحاً ليكون قدوة لمرؤوسيه؟ وإن من أشد ما ابتُلينا به أن نفقد القدوة في الرؤساء والمسئولين. لذلك أول ما وُجِّه التشريع والتكليف وُجِّه إلى رسول الله، وإلى أقرب الناس إليه وهم عشيرته الأقربون؛ لأن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القُرْبى والحاشية التي تحيط بالإنسان، وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير، لكن حاشيته هي سبب الفساد، حيث تستغل اسمه في فسادها أو تُضلِّله وتُعمِّي عليه الحقائق.. إلخ.
لذلك كان سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ساعة يريد أن يُقرِّر شيئاً للأمة، ويعلم أنه قَاسٍ عليهم يجمع أهله أولاً ويقول لهم: لقد شاء الله أن أقرر كذا وكذا، فمَنْ خالفني منكم في شيء من هذا جعلته نكالاً لعامة المسلمين، وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولاً، ويبدأ بهم تنفيذ ما أرادوه للمسلمين.
وقد امتثل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهذا التوجيه، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لقرابته: «يا عباس يا عم رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، ولا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم».
وفي الوقت الذي يدعوه إلى إنذار عشيرته الأقربين يقول في مقابلها: ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك﴾
وخَفْض الجناح دليل الحنان، لا الذلّة والانكسار، وفي المقابل نقول (فلان فارد أجنحته) إذا تكبَّر وتجبَّر، وتقول (فلان مجنح لي) إذا عصا أوامرك.
وفي موضع أخر: ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨].
لكن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يعلنها رسول الله على الملأ ليعلمها الجميع، وربنا يُعلِّمنا هنا درساً حتى لا نحابي أحداً، أو نجامله لقرابته، أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة.
والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى واللا مبالاة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين، ونُغطِّي على تجاوزاتهم، ونأخذهم بالهوادة والرحمة، وهذا كله يهدم معنويات المجتمع، ويدعو للفوضى والتهاون.
لذلك يعلمنا الإسلام أنْ نعلنها صراحة ﴿فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٦] وليأخذ القانون مجراه، وليتساوى أمامه الجميع، ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لارتدع.
لذلك يُقال عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه حكم الدنيا كلها، والحقيقة أنه حكم نفسه أولاً، فحكمتْ له الدنيا، وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه، فلا يجرؤ أحد من أتباعه أن يخالفه، وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة.
﴿وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم﴾ [الشعراء: ٢١٧] العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلب، ويَقْهر ولا يُقهر، ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم. وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم، فهو سبحانه في عِزَّته رحيم، لأن عزة العزيز على المتكبِّر رحمة بالمتكبَّر عليه.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم خليفته في أرضه خاصة أُولي الأمر منهم، يُعلِّمه أن يكون أريباً ناصحاً، يقول له: إياك أنْ تتوكّل على عبد مثلك إذا عجزتَ عن العمل؛ لأنه عاجز مثلك، وما دام الأمر كذلك فتوكَّل على العزيز الرحيم، فعِزَّته ورحمته لك أنت.
وإنْ أقبلتَ على الله أعطاك من الفُيوضات ما يُعوِّضك مكاسب الدنيا وتجارتها، إنْ تركتها لإجابة النداء؛ لذلك كان شعار الأذان الذي ارتضاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (الله أكبر) أي: أكبر من أيِّ شيء غيره، فإنْ كنتَ في نوم، فالله أكبر من النوم، وإنْ كنتَ في تجارة، فالله أكبر من التجارة، وإنْ كنتَ في عمل فالله أكبر من العمل.. إلخ.
وعجيب أن نرى مَنْ يُقدِّم العمل على الصلاة بحجة امتداد الوقت، وإمكانية الصلاة بعد انتهاء العمل، وهذه حجة واهية؛ لأن ربك حين يناديك (الله أكبر) يريد أن تستجيب على الفور لا على التراخي، وإلا كيف تسمى الاستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح والظهر وبين العشاء والصبح لا يعني أنْ تصلي في طول هذا الوقت؛ لأن النداء يقتضي الإسراع والاستجابة.
ولنا ملحظ في (الله أكبر) فأكبر أفعل تفضيل تدلُّ على المبالغة ودون أكبر نقول: كبير، وكأنها إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئاً هيناً أو تافهاً، إنماهو كبير، ينبغي الاهتمام به؛ لأنه عَصَب الحياة، ولا تستقيم الأمور في عمارة الأرض إلا به.
لكن، إنْ كان العمل كبيراً فالله أكبر، فربُّك عَزَّ وَجَلَّ لا يُزهِّدك في العمل، ولا يُزهِّدك في الدنيا؛ لأنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دوراً، وإنْ شئتَ فاقرأ: {فَإِذَا قُضِيَتِ
وقال في موضع آخر: ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ [القصص: ٧٧] لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء الصلاة وعلى عبادة الله، فبها تقتات، وبها تتقوَّى، وبها تستر عورتك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومع هذا فدعوة الله لك أَوْلَى بالتقديم، وأَوْلَى بالإجابة؛ لأن الذي خلقك وخلقها ناداك (الله أكبر).
و ﴿وَتَقَلُّبَكَ﴾ [الشعراء: ١١٩] تعني: القعود والقيام والركوع والسجود، فربُّك يراك في كل هذه الأحوال، ويرى سرورك بمقامك بين يديه، فإذا ما توكلتَ عليه فأنت تستحق أن يكون ربُّك عزيزاً رحيماً من أجلك.
أو: أن المعنى ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ [الشعراء: ١١٩] أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يرى صحابته وهم يُصلُّون خلفه، فيرى مَنْ خلفه، كما يرى مَنْ أمامه، وكانت هذه من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لذلك كان يُحذِّرهم أنْ يسبقوه في الصلاة في ركوع أو سجود، أو قيام أو قعود. ويحذرهم أنْ يفعلوا في الصلاة خلفه ما لا يصح من المصلى اعتماداً على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يراهم.
قال الحق سبحانه: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١].
﴿تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢٢] فهذا الذي يناسب الشياطين ويرضيهم، والجن قسمان: فمنه الصالح وغير الصالح وهذا الذي يسمونه الشياطين.
وكلمة ﴿أَفَّاكٍ﴾ [الشعراء: ٢٢٢] مبالغة في الإفك أي: قلب الحقائق. وكان هؤلاء يخطفون الأخبار فيقولون شيئاً قد يصادف الصدق، ثم يجعلون معه كثيراً من الكذب.
يعني: ألقى سمعه كي يستمع كمنْ يحرص على السماع من خفيض الصوت، فيميل نحوه ليسمع منه. وقال ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٣] لأن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليُغلِّف كذبه، ويُغطي عليه، فأنت تأخذ من صِدْقه هذه المرة دليلاً على أنه صادق، وهو يخلط الخبر الصادق بأخبار كثيرة كاذبة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾
وعجيب من كفار مكة، وهم العرب أهل اللسان والبلاغة والبيان، وأهل الخبرة في الكلام الموزون المُقفَّى، بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقاً في ذي المجاز وذي المجنَّة وعكاظ، ويعلِّقون أجود أشعارهم على أستار الكعبة، ومع ذلك لا يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن الكريم.
إذن: هم يعرفون الفَرْق، لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآن: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ [الطور: ٣٠] يقصدون بالشعر الكلام العَذْب الذي يستميل النفس، ويُؤثِّر في الوجدان، ولو كان نثراً. وهذه ينادى بها الآن أصحاب الشعر الحر؛ لأنهم
ومعنى ﴿الغاوون﴾ [الشعراء: ٢٢٤] جمع غاوٍ. وهو الضال، وهؤلاء يتبعون الشعراء. لأنهم يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار؛ ولأنهم لا يحكم منطقهم مبدأ ولا خُلُق، بل هواهم هو الذي يحكم المبدأ والخلق، فإنْ أحبُّوا مدحوا، وإنْ كرِهوا ذَمُّوا.
والدليل على ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ﴾
﴿يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: ٢٥] نقول: فلان هَامَ على وجهه أي: سار على غير هدى، وبدون هدف أو مقصد، فالمعنى ﴿فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٥] أن هذه حال الشعراء، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك، فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنَّن في النَّيل منك، فليس له وادٍ معين يسير فيه، أو مبدأ يلتزم به، كالهائم على وجهه في كل وَادٍ.
فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلاغة، من أشهر شعره قوله:
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني | والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم |
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني | والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم |
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي طمعاً فيه، وكان كافور رجلاً أسود؛ لذلك كَنَّوْه بأبي المِسْك، ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه:
أَبا كُلِّ طِيبٍ لاَ أَبَا المِسْك وَحْدَهُ... وفي قصيدة أخرى يقول:
قَضَى اللهُ يَا كافُورُ أنَّكَ أَوَّلٌ | وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى لَكَ ثَانِ |
أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا | ومَا أَنَا عَنْ نفسي وَلاَ عَنْكَ رَاضيا |
أَمَيْنا وإخْلاَفَاً وغَدْراً وخِسَّةً وجُبْنا | أشخصاً لُحْتَ لي أَمْ مَخَازِيا |
وتُعجِبُني رِجْلاَكَ في النَّعْلِ إنني | رأيتُكَ ذَا نَعْلٍ وإنْ كُنْتَ حَافِيا |
ومِثْلُكَ يُؤتَى مِنْ بِلاَدٍ بَعِيدَة | لِيُضحِكَ ربَّاتِ الحِدَادِ البَوَاكِيَا |
ولَوْلاَ فُضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحاً | بما كنتَ في نَفْسِي به لَكَ هَاجِيَا |
متَّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى ضَوْء نَارِه | تَجِدْ خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْرُ موقِدِ |
يقول الحطيئة في وصف الكريم:
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصٍب البَطْنِ مُرْمل | بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن رَسْما |
أخِي جَفْوة فيه مِنَ الأُنْس وَحْشةٌ | يرى البُؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه نُعْما |
وأَفْردَ في شِعْبٍ عَجُوزاً إزَاءَهَا | ثلاثَة أشْباح تَخَالهوا بُهْما |
حُفاةً عُراةً ما اغتذَوْا خُبْز مَلَّة | ولاَ عَرِفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقُوا طَعْما |
رَأى شَبَحاً وَسْط الظَّلام فَرَاعَه | فلمَّا رأى ضَيْفا تَشمَّر واهْتَما |
فَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ | أيَا أبَتِ أذْبحْني ويَسِّر لَهُ طُعْما |
وَلاَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا | يظنُّ لَنَا مالاً فَيُوسِعُنا ذَمّا |
فَبَيْنَا هُما عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ | قَدِ انتظمتْ من خَلْفِ مِسْحلها نَظْما |
عِطَاشاً تريد الماءَ فانسابَ نحوها | عَلى أنَّه مِنْها إلى دَمِها أظْمَا |
فَأمْهلَها حتَّى تروَّتْ عِطَاشُها | وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه سَهْما |
فخرَّتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سمينةً | قَد اكتنزتْ لَحْماً وقد طبّقَتْ شَحْما |
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّهَا نحو قَومِه | ويَا بشْرهُمْ لما رأوْا كَلْمها يَدْمَا |
وَبَاَتُوا كِراماً قَدْ قَضَوْا حَقَّ ضَيْفهِمْ | ومَا غَرمُوا غُرْماً وقَدْ غَنموا غُنْما |
وَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً | لِضَيْفهِمُ والأم مِنْ بِشرها أُمَّا |
وفي مرة، اجتمع عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اثنان من الشعراء: الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة. فغضب الممدوح ورأى أن هذا
ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الثانية يعني: أنا مصيب في القولين لكني رضيت فقلت أحسنَ ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمتُ. عندها قال سيدنا رسول الله «إن من البيان لسحراً».
ثم يستثني الحق سبحانه من هؤلاء الغاوين: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ﴾
﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [الشعراء: ٢٢٧].
فاستثنى الحق تبارك وتعالى من الشعرءا مَنْ توفَّرت فيه هذه الخصال الأربع ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] أي: ذكروا الله في أشعارهم؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ الإيمان، فيلتفتون إليها، ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هَجَوْه.
وكان هؤلاء الثلاثة ينتصرون للإسلام ولرسول الله، فكلما هجاه الكفار ردُّوا عليهم، وأبطلوا حُججهم، ودافعوا عن رسول الله، حتى «أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَصَب منبراً لحسان بن ثابت، كان يقول له:» قل وروح القدس معك، اهجهم وجبريل معك «
وقال لكعب بن مالك:» اهجهم، فإن كلامك أشدُّ عليهم من
ومعنى: ﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] أنهم لم يكونوا سفهاء، لم يبدأوا الكفار بالهجاء، إنما ينتصرون لأنفسهم، ويدفعون ما وقع على الإسلام من ظلم الكافرين؛ لذلك لما هجا أبو سفيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال أحدهم رداً عليهم:
أتهْجُوهُ وَلسْتَ لَهُ بكُفْءٍ | فَشرُّكما لخيركما الفِدَاءُ |
فَإنَّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي | لِعْرضِ مُحمدٍ منكمُ وِقَاءُ |
ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه، وأنْ يُنفِّس عنها ما يعانيه من وطأة الظلم، حتى لا تُكبتَ بداخله هذه المشاعر، ولا بُدَّ لها أن تنفجر، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: ١٢٦].
أباح للمظلوم أن يُعبِّر عن نفسه، وأن يرفض الظلم، ولا عليه إنْ جهر بكلمة تُخفِّف عنه ما يشعر به من ظلم.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] يعني: غداً سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون؟ والمنقلب هو المرجع والمآب، والمصير الذي ينتظرهم.
فالحق تبارك وتعالى يتوعدهم بما يؤذيهم، وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار المسلمين عليهم، إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخرة.
كما قال سبحانه في موضع آخر: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ﴾ [الطور: ٤٧].
لذلك أبهم الله تعالى هذا المنقلب، وإبهامه للتعظيم والتهويل، وقد بلغ من العِظَم أنه لا يُوصف ولا تؤدي العبارة مؤداه، كما أبهم العذاب في قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨].
يعني: شيء عظيم لا يُقَال، والإبهام هنا أبلغ؛ لأن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب، وعلى كل كيفية.
والمنقلب أو المرجع لا يُمدح في ذاته، ولا يُذمُّ في ذاته، فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء، وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن، فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يُذَم.
أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلاً حين قال لهم: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ
فماذا قالوا؟ ﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٥٠] فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد.
وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير، وأنه سينتهي إلى ما يُفرح وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير، والله تعالى يُعِد له منقلباً آخر، كالذي أعطاه الله الجنتين من أعناب وخففهما بنخل، وجعل بينهما زرعاً، فلما غرَّته نعمة الدنيا ظنَّ أن له مثلها، أو خيراً منها في الآخرة، فقال: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٦].
والانقلاب والمرجع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ إنما يفرح به مَنْ آمن بالله وعمل صالحاً؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى جزاء من الحق سبحانه وتعالى مؤكد؛ لذلك الحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس﴾ [النحل: ٧].
علَّمنا أن نذكره سبحانه: ﴿والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٢١٤].
إذن: فالدوابّ وما يحلّ محلّها الآن من وسائل المواصلات من أعظم نِعَم الله علينا، ولولا أن الله سخَّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها، ولا طاقة بتسخيرها؛ لذلك نقول ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣].
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧١٧٢].
ولكن ما علاقة قولنا: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣] بقولنا: ﴿وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٤].
قالوا: لأننا سننقلب إلى الله في الآخرة، وسنُسأل عن هذا النعيم، فإنْ شكرنا ربنا على هذه النعمة فقد أدَّيْنا حقها، ومَنْ شكر الله على نعمة في الدنيا لا يسأل عنها في الآخرة؛ لأنه أدَّى حقَّها.
وقال سبحانه: ﴿وَسَيَعْلَمْ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] بالسين الدالة على الاستقبال، لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض؛ لأن الله تعالى أخفى الموت ميعاداً، وأخفاه سبباً ومكاناً، وهذا الإبهام للموت هو عَيْن البيان، لأنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت، ولو علم الإنسانُ موعد موته لقال: أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت.
إذن: الوقت الذي تقتضيه السين هنا لا يطول، فقد يفاجئك الموت، وليس بعد الموت عمل أو توبة، واقرأ قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: ٤٦].
وقلنا: إن في الآية ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]
وكأنه تبارك وتعالى يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزِّع رحمته لا جبروته، كما تقسو على ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد. إذن: فالوعد بالخير خير، والوعيد بالشر أيضاً خير، فكل ما يأتيك من ربك، فاعلم أنه خير لك، حتى وإنْ كان تهديداً ووعيداً.
وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجاً من تسلية الحق تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم، وعرضَتْ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موكب الرسل، وكيف أن الله أيَّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم.
ثم سلاَّه ربه بأنْ رَدَّ على الكفار في افتراءاتهم، وأبطل حججهم، وأبان زَيْف قضاياهم، ثم تختم هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة ﴿أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] ليضخمها.
والشيء إذا حُدِّد إنما يأتي على لَوْن واحد، وإنْ أُبهِم كان أبلغ؛ لأن النفس تذهب في تصوُّره كل مذْهب، كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب تأخره، وفي احتمالات ما يمكن أنْ يحدث، وتتوارد على خواطرنا الأوهام، وكل وهم يَرِد في نفسك بألم ولذعة، في حين أن الواقع شيء واحد.