تفسير سورة الشعراء

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء
هذه السورة مكية كلها فيما قال جمهور الناس، وقال مقاتل : منها مدني الآية التي تذكر فيها الشعراء وقوله تعالى ﴿ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ﴾١.
١ وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة: من قوله: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون﴾ إلى آخرها.
وعدد آيات السورة مائتان وسبع وعشرون آية، وفي رواية: ست وعشرون، وعن البراء ابن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشعراء
هذه السورة مكية كلها فيما قال جمهور الناس، وقال مقاتل منها مدني الآية التي تذكر فيها الشعراء وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ١٩٧].
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور مستوعبا، وتِلْكَ رفع بالابتداء وهو وخبره ساد مسد الخبر عن طسم في بعض التأويلات، والإشارة ب تِلْكَ هي بحسب الخلاف في طسم وعلى بعض الأقوال تكون تِلْكَ إشارة إلى حاضر وذلك موجود في الكلام، كما أن هذه قد تكون الإشارة بها إلى غائب معهود كأنه حاضر، والْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «طسم» بكسر الطاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتحها وبإدغام النون من سين في الميم، وقرأ حمزة وحده بإظهارها وهي قراءة أبي جعفر، ورويت عن نافع، وروى يعقوب عن أبي جعفر ونافع قطع كل حرف منها على حدة، قال أبو حاتم الاختيار فتح الطاء وإدغام آخر سين في أول ميم، فتصير الميم متعلقة، وقوله لَعَلَّكَ الآية تسلية لمحمد ﷺ لما كان من القلق والحرص على إيمانهم فكان من شغل البال في حيز الخوف على نفسه، و «الباخع» القاتل والمهلك بالهم قاله ابن عباس والناس ومن ذلك قول ذي الرمة: [الطويل]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وخوطب «بلعل» على ما في نفوس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال، ومعنى الآية أي لا تهتم يا محمد بهم وبلغ رسالتك وما عليك من إيمانهم فإن ذلك بيد الله. لو شاء لآمنوا، وقوله «أن لا» مفعول من أجله. وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما
224
الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت، وقرأ «تنزّل» بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل» بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء. وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم» وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل، وقوله تعالى: أَعْناقُهُمْ يحتمل تأويلين أحدهما: وهو قول مجاهد وأبي زيد والأخفش، أي يريد جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
إن العراق وأهله... عنق إليك فهيت هيتا
وعليه حمل قول أبي محجن:
واكتم السر فيه ضرب العنق ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فرارا من الاشتراك قاله الزهراوي، فعلى هذا التأويل ليس في قوله خاضِعِينَ موضع قول، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر: [الكامل]
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم... خضع الرقاب نواكس الأبصار
فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله خاضِعِينَ كيف جمعه جمع من يعقل، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب: أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر، ومنه قول الأعشى:
«كما شرقت صدر القناة من الدم» وهذا كثير، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للبشر وهو الخضوع، إذ هو فعل يتبع أمرا في النفس، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١]. وقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤]. وقرأ ابن أبي عبلة «لها خاضعة» ثم عنف الكفار ونبه على سوء فعلهم بقوله: وَما يَأْتِيهِمْ الآية، وقوله مُحْدَثٍ يريد محدث الإتيان، أي مجيء القرآن للبشر كان شيئا بعد شيء. وقالت فرقة يحتمل أن يريد ب «الذكر» محمد ﷺ كما قال تعالى في آية أخرى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [الطلاق: ١٠]. فيكون وصفه بالمحدث متمكنا.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أفصح.
225
وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ. الآية وعيد بعذاب الدنيا والآخرة، ويقوى أنه وعيد بعذاب الدنيا لأن ذلك قد نزل بهم كبدر وغيرها، ولما كان إعراضهم عن النظر في الصانع والإله من أعظم كفرهم وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ويعرضون عن الذكر في ذلك، نبه على قدرة الله وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ الآية، و «الزوج» النوع والصنف، و «الكريم» الحسن المتقن قاله مجاهد وقتادة، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن إنبات ومنه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧]. قال الشعبي الناس من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك وقوله تعالى: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
حتم على أكثرهم بالكفر ثم توعد تعالى بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. يريد عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة، وقال نحو هذا ابن جريج، وفي لفظة الرَّحِيمُ وعد.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١٩]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
التقدير واذكر إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وقوله أَنِ ائْتِ يجوز في أَنِ أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة أي، ويجوز أن تكون غيرها وهي في موضع نصب بتقدير بأن ائت، وقوله أَلا يَتَّقُونَ معناه قل لهم فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى، وقرأ الجمهور «يتقون» بالياء من تحت، وقرأ عبد الله بن مسلم وحماد بن سلمة وأبو قلابة «تتقون» بالتاء من فوق على معنى قل لهم، ولعظيم نخوة فرعون وتألهه وطول مدته وما أشربت القلوب من مهابته قال عليه السلام إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وقرأ جمهور الناس «ويضيق» بالرفع و «ينطلق» كذلك، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما، فقراءة الرفع هي إخبار من موسى بوقوع ضيق صدره وعدم انطلاق لسانه، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة، وقراءة النصب تقتضي أن ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على يُكَذِّبُونِ، وكان في خلق موسى عليه السلام حد وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته، وحكى أبو عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب «ويضيق» وبرفع «ينطلق»، وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق صدر ولم ينطلق اللسان، وقد قال موسى عليه السلام وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [طه: ٢٧] فالراجح قراءة الرفع، وقوله تعالى: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحا واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال عليه، ثم ذكر موسى خوفه
226
القبط من أجل ذنبه، وهو قتله الرجل الذي وكزه، قاله قتادة ومجاهد والناس، فخشي أن يستقاد منه لذلك فقال الله عز وجل له كَلَّا ردا لقوله إِنِّي أَخافُ أي لا تخف ذلك فإني لم أحملك ما حملتك إلا وقد قضيت بنصرك وظهورك وأمر موسى وهارون بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكن قال لموسى «اذهبا» أي أنت وأخوك، والآيات تعم جميع ما بعثهما الله به وأعظم ذلك العصا بها وقع العجز، وبالآيتين تحدى موسى عليه السلام، ولا خلاف في أن موسى عليه السلام هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلها، وأن هارون كان نبيا رسولا معينا له وزيرا، وقوله إِنَّا مَعَكُمْ إما على أن يجعل الاثنين جماعة، وإما أن يريدهما، والمبعوث إليهم وبني إسرائيل، وقوله مُسْتَمِعُونَ على نحو التعظيم والجبروت التي لله تعالى، وصيغة قوله مُسْتَمِعُونَ تعطي اهتبالا بالأمر ليس في صيغة قوله «سامعون»، وإلا فليس يصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى أو تكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع، وقوله تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
هو على أن العرب أجرت الرسول مجرى المصدر في أن وصفت به الجمع والواحد والمؤنث، ومن ذلك قول الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو... ل أعلمهم بنواحي الخبر
ومنه قول الشاعر: وإن كان مولدا.
إن التي أبصرتها... سحرا تكلمني رسول
وقوله أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ معناه سرح، فهو من الإرسال الذي هو بمعنى الإطلاق، وكما تقول أرسلت الحجر من يدي، وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي وأمر بمكافحته ومقاومته في الأول، ولم يؤمر بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره، وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط، هذا قول بعض العلماء، وقول فرعون لموسى أَلَمْ نُرَبِّكَ هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا، وَلَبِثْتَ فِينا سِنِينَ، فمتى كان هذا الذي تدعيه، وقرأ جمهور القراء «من عمرك» بضم الميم، وقرأ أبو عمرو «عمرك» بسكونها، ثم قرره على قتل القبطي بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء وهي هيئة الفعل، وقوله وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يريد وقتلت القبطي وَأَنْتَ في قتلك إياه مِنَ الْكافِرِينَ إذ هو نفس لا يحل قتله قاله الضحاك، أو يريد وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد، وهذان بمعنى واحد في حق لفظ الكفر، وإنما اختلفا باشتراك لفظ الكفر والثاني أن يكون بمعنى الهزء على هذا الدين فأنت من الكافرين بزعمك قاله السدي، والثالث هو قول الحسن أن يريد وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الآن يعني فرعون بالعقيدة التي كان يبثها فيكون الكلام مقطوعا من قوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وإنما هو إخبار مبتدأ كان من الكافرين وهذا الثاني أيضا يحتمل أن يريد به كفر النعمة.
قال القاضي أبو محمد: وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا إلى فرعون إحدى عشر سنة غير أشهر.
227
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٨]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
القائل هنا هو موسى عليه السلام والضمير في قوله فَعَلْتُها لقتله القبطي، وقوله إِذاً صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ، وقوله وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قال ابن زيد معناه من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال أبو عبيدة معناه من الناسين لذلك، ونزع بقوله تعالى أن تضل إحداهما، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس «وأنا من الجاهلين» ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، وقوله حُكْماً يريد النبوة وحكمتها، وقرأ عيسى «حكما» بضم الحاء والكاف، وقوله وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ درجة ثانية للنبوة فرب نبي ليس برسول، ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام، فقال قتادة هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتمد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك، وقرأ الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها»، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال الأخفش قيل ألف الاستفهام محذوفة والمعنى «أو تلك» وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال «تروح من الحي أم تبتكر».
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول تكلف، قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما قال قتادة والله المعين، وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي.
قال القاضي أبو محمد: ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه كله، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق، ومتى حصل أحد المجادلين في هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس، ولما لم يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله «رسول رب العالمين» فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء قال مكي كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم ب ما وقد ورد له استفهام «بمن» في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى عليه السلام بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي ربوبية السماوات والأرض، وهذه
المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد فقال فرعون عند ذلك أَلا تَسْتَمِعُونَ على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة، إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية فزاد موسى في البيان بقوله رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ وقرأ جمهور الناس على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حميد الأعرج ومجاهد «أرسل» على بناء الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون وتبين له أنه في غاية البعد عن القدرة عليها وهي ربوبية الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه «رب المشارق والمغارب وما بينهما».
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٧]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
لما انقطع فرعون في الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب، وهذه أبين علامات الانقطاع، فتوعّد موسى عليه السلام بالسجن حين أعياه خطابه، وفي توعده بالسجن ضعف لأنه خارت طباعه معه، وكان فيما روي يفزع منه فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله، وروي أن سجنه كان أشد من القتل في مطبق لا ينطلق منه أبدا فكان مخوفا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة دار النبود إلى اليوم، وكان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يفزعه توعد فرعون فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يتضح لك معه صدقي، أفكنت تسجنني، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أثناءه موضع معارضة فقال له فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى موسى عصاه من يده وكانت من عصي الجنة وكانت عصى آدم عليه السلام، ويروى أنها كانت من غير ورقة الريحان، وكانت عند شعيب عليه السلام في جملة عصي الأنبياء فأعطاها لموسى عليه السلام عند رعايته له الغنم على صورة قد تقدم ذكرها دلت على نبوة موسى وكان لها في رأسها شعبتان فثم كان فم الحية وغير ذلك من قصص هذه، ونزع يده من جيبه فإذا هي تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله ولم يكن له فيه مدفع غير أنه فزع إلى رميه بالسحر، وطمع، لعلو علم السحر في ذلك الوقت وكثرته، أن يكون فيه سبب لمقاومة موسى فأوهم قومه وأتباعه أن موسى عليه السلام ساحر، ثم استشارهم في أمره وأغراهم به في قوله يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ
فأشاروا عليه بتأخير أمره وأمر أخيه وجمع السحرة لمقاومته، وروي أنهم أشاروا بسجنه وهو كان الإرجاء عندهم، و «الإرجاء» التأخير ولم يشيروا بقتله لأن حجته نيرة وضلالتهم في ربوبية فرعون مبينة فخشوا الفتنة وطمعوا أن يغلب بحجة تقنع العوام، و «الحاشر» الجامع، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «بكل سحار»، وهو بناء المبالغة وقرأ عاصم أيضا والأعمش «بكل ساحر».
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
«اليوم» هو يوم الزينة، وقيل كان يوم كسر خليج النيل، فهو كان يوم الزينة على وجه الدهر بمصر، وقال ابن زيد إن هذا الجمع كان بالإسكندرية، وقوله لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ليس معناه نتبعهم في السحر إنما أراد نتبعهم في نصرة ديننا وملتنا والإبطال على معارضتنا، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «أين لنا» على الاستفهام، وقرأ عيسى «نعم» بكسر العين، والتقريب الذي وعدهم به فرعون هو الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه والقرب من الملك الذي كان عندهم إلههم، واختلف الناس في عدد السحرة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وكانوا مجموعين من مدائن مصر ريف النيل وهي كانت بلاد السحر الفرما وأنصناء وغير ذلك ومعظمهم كان من الفرما، والحبال والعصي كانت أوقار إبل، وقولهم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ يحتمل وجهين أحدهما القسم كأنهم أقسموا بعزة فرعون، كما تقول بالله إني لأفعل كذا وكذا، فكان قسمهم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ غير مبرور، والآخر أن يكون على جهة التعظيم لفرعون إذ كانوا يعبدونه والتبرك باسمه كما تقول ابتدأت بعمل شغل بِسْمِ اللَّهِ «وعلى بركة الله». ونحو هذا.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
تقدم في غير هذه السورة ما ذكر الناس في عظم الحية حين ألقى موسى عصاه، وفي هذه الآيات متروك كثير يدل عليه الظاهر، وقد ذكر في مواضع أخر وهي خوف موسى من ظهور سحرهم واسترهابهم للناس وتخييلهم في حبالهم وعصيهم أنها تسعى بقصد، ثم إن الحية التي خلق الله في العصا التقمت تلك
الحبال والعصي عن آخرها وأعدمها الله تعالى في جوفها وعادت العصا إلى حالها حين أخذ موسى بالفرجة التي في رأسها فأدخل يده في فمها فعادت عصا بإذن الله عز وجل. وقرأ جمهور القراء «تلقّف» بفتح التاء خفيفة واللام وشدّ القاف، وقرأ حفص عن عاصم «تلقف» بسكون اللام وتخفيف القاف، وروى البزي وفليح عن ابن كثير شد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب همزة الوصل وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء الفاعلين، وقوله ما يَأْفِكُونَ، أي ما يكذبون معه وبسببه في قولهم إنها معارضة لموسى ونوع من فعله، والإفك الكذب، ثم إن السحرة لما رأوا العصا، خالية من صناعة السحر ورأوا فيها بعد من أمر الله ما أيقنوا أنه ليس في قوة بشر أذعنوا ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتمسك بأمر الله عز وجل فسجدوا كلهم لله عز وجل مقرين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إيمانهم بسبب موسى وهارون، وصرحوا بأن ذلك على أيديهما لأن قولهم «رب العالمين» مغن فلم يكرروا البيان في قولهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ إلا لما ذكرناه فلما رأى فرعون وملؤه إيمان السحرة وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم وقع فرعون في الورطة العظمى، فرجع إلى السحرة بهذه الحجة الأخرى، فوقفهم موبخا على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وفي هذه اللفظة مقاربة عظيمة وبعض إذعان لأن محتملاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن، ثم توعدهم بقطع الأيدي والأرجل مِنْ خِلافٍ والصلب في جذوع النخل فقالوا له لا ضَيْرَ أي لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه.
وروي أنه أنفذ فيهم ذلك الوعيد وصلبهم على النيل، قال ابن عباس أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقولهم أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يريدون من القبط وصنيفتهم وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، وقرأ الناس «أن كنا» بفتح الألف، وقرأ أبان بن تغلب «إن» بكسر الألف بمعنى أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٦٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)
ثم إن الله عز وجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بني إسرائيل ليلا من مصر، وأخبر أنهم سيتبعون وأمره بالسير تجاه البحر، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم وأن يستكثروا من أخذ أموالهم كيف ما استطاعوا هذا فيما رواه بعض المفسرين، وأمره باتخاذ خبز الزاد، فروي أنه أمر باتخاذه فطيرا لأنه أبقى وأثبت، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اختمار خبز الزاد، وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى هكذا أمرت، فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه
231
ستمائة ألف أدهم من الخيل حاشى سائر الألوان، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا قاله ابن عباس والله أعلم بصحته، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك العدد، قال ابن عباس كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل، و «الشرذمة» الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء بقيته الخسيسة وأنشد أبو عبيدة: «تخذين في شراذم النعال».
وقال الآخر: [الرجز]
جاء الشتاء وقميصي أخلاق... شراذم يضحك منها النواق
وقوله لَغائِظُونَ يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية وتفلتهم منهم تلك الليلة على ما روي، قال أبو حاتم، وقرأ من لا يؤخذ عنه «لشر ذمة قليلون» وليست هذه موثوقة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «حذرون» وهو جمع حذر وهو المطبوع على الحذر وهو هاهنا غير عامل، وكذلك هو في قول أبي أحمر:
[السريع]
هل ينسئن يومي إلى غيره... أنى حوالى وإني حذر
واختلف في عمل فعل فقال سيبويه إنه عامل وأنشد: [الكامل]
حذر أمورا لا تضير وآمن... ما ليس منجيه من الأقدار
وادعى اللاحقي تدليس هذا البيت على سيبويه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «حاذرون» وهو الذي أخذ يحذر، وقال عباس بن مرداس: [الوافر]
وإني حاذر أنهي سلاحي... إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ ابن أبي عمارة وسميط بن عجلان «حادرون» بالدال غير منقوطة من قولهم عين حدرة أي معينة فالمعنى ممتلئون غضبا وأنفة، والضمير في قوله فَأَخْرَجْناهُمْ عائد على القبط، و «الجنات والعيون» بحالتي النيل في أسوان إلى رشيد قاله ابن عمر وغيره، و «الكنوز» قيل هي إشارة إلى الأموال التي احتجنوها قال مجاهد لأنهم لم ينفقوها قط في طاعة، وقيل هي إشارة إلى كنوز المعظم ومطالبه وهي باقية إلى اليوم، «والمقام الكريم» قال ابن لهيعة هو الفيوم، وقيل يعني به المنابر، وقيل مجالس الأمراء والحكام، وقال النقاش المساكن الحسان، وقرأ الأعرج وقتادة بضم الميم من «مقام»، وتوريث بني إسرائيل يحتمل مقصدين: أحدهما أنه تعالى ورثهم هذه الصفة من أرض الشام، والآخر أنه ورثهم مصر ولكن بعد مدة طويلة من الدهر قاله الحسن، على أن التواريخ لم تتضمن ملك بني إسرائيل في مصر ومُشْرِقِينَ، معناه عند شروق الشمس، أي حين دخلوا فيه، وقيل معناه نحو الشرق، وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بصلة الألف وشد التاء، والجمهور على قطع الألف وسكون التاء، فلما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل العدد القوي وراءهم والبحر أمامهم ساءت ظنونهم وقالوا لموسى عليه السلام على جهة التوبيخ والجفاء إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي هذا رأيك، فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكر وعد الله له بالهداية
232
والظفر، وقرأ الجمهور «إنا لمدركون»، وقرأ الأعرج وابن عمير «إنا لمدرّكون» بفتح الدال وشدّ الراء ومعناها يتتابع علينا حتى نفنى، وقرأ حمزة «تريء الجمعان» بكسر الراء بمد ثم بهمز، وروي مثله عن عاصم، وروي أيضا عنه مفتوحا ممدودا، والجمهور يقرؤونه مثل تداعى وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل، قال أبو حاتم وقراءة حمزة في هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال وما روي عن الأعمش وابن وثاب خطأ.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
لما عظم البلاء على بني إسرائيل أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك لأنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله وإلا فضرب العصا ليس بفالق للبحر ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله واختراعه، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء ساكنا كالجبل العظيم، وروي عن ابن جريج والسدي وغيرهما أن بني إسرائيل ظن كل فريق منهم أن الباقي قد غرق، فأمر الله الماء فصار كالشراجب والطيقان وراء بعضهم بعضا فتأنسوا وَأَزْلَفْنا معناه قربنا، وقرأ ابن عباس عن أبي بن كعب «وأزلقنا» بالقاف ونسبها أبو الفتح إلى عبد الله بن الحارث، وقرأ أبو حيوة والحسن «زلفنا» بغير ألف وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر وقد دخل بنو إسرائيل قيل إنه صمم ومخرق، بأن قال لي انفرق، فدخل على ذلك، وقيل بل كع وهم بتدبير الانصراف فعرض جبريل على فرس وديق فمضى وراءه حصان فرعون، فدخل على نحو هذا وتبعه الناس، وروي أن الله تعالى جعل ملائكة تسوق قومه حتى حصولهم في البحر، ثم إن موسى وقومه خرجوا إلى البر من تلك الطرق ولما أحسوا باتباع فرعون وقومه فزعوا من أن يخرج وراءهم، فهم موسى بخلط البحر فحينئذ قيل له، اترك البحر رهوا، ولما تكامل جند فرعون وهو مقدمهم بالخروج انطبق عليهم البحر وغرقوا، ودخل موسى عليه السلام البحر بالطول. وخرج في الضفة التي دخل منها بعد مسافة وكان بين موضع دخوله وموضع خروجه أوعار وجبال ولا تسلك إلا على تخليق الأيام، وكان ذلك في يوم عاشوراء، وقال النقاش البحر الذي انفلق لموسى نهر النيل بين إيلة ومصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود إن شاء الله، وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ تنبيه على موضع العبرة، وقوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي عز في نقمته من الكفار ورحم المؤمنين من كل أمة وقد مضى كثير مما يلزم من قصة موسى عليه السلام.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)
هذه القصة تضمنت الإعلام بغيب والإيمان بما قطع أن محمدا عليه السلام لم يكن يعرفه ثم ظهر على لسانه في ذلك ما في الكتب المتقدمة، وليست هذه الآية مثالا لقريش إلا في أمر الأصنام فقط لأنه ليس فيها تكذيب وعذاب، وقول إبراهيم عليه السلام ما تَعْبُدُونَ استفهام بمعنى التقرير، والصنم ما كان من الأوثان على صورة ابن آدم من حجر أو عود أو غير ذلك، و «نظل» عرفها في فعل للشيء نهارا وبات عرفها في فعله ليلا، وطفق عامة للوجهين، ولكن قد تجيء ظل بمعنى العموم وهذا الموضع من ذلك، و «العكوف» اللزوم، ومنه المعتكف، ومنه قول الراجز: «عكف النبيط يلعبون الفنزجا». ثم أخذ إبراهيم عليه السلام يوقفهم على أشياء يشهد العقل أنها بعيدة من صفات الله، وقرأ الجمهور بفتح الياء من «يسمعونكم»، وقرأ قتادة بضمها من أسمع وبكسر الميم والمفعول على هذه القراءة محذوف، وقرأ جماعة من القراء إِذْ تَدْعُونَ بإظهار الذال والتاء، وقرأ الجمهور إِذْ تَدْعُونَ بإدغام الذال في التاء بعد القلب ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به وطرد القياس أن يكون اللفظ به «إذ ددعون» والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية بالفعل فكثرت المماثلات، وقولهم بل وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ، أقبح وجوه التقليد لأنه على ضلالة وفي أمر بين خلافه وعظيم قدره، فلما صرحوا لإبراهيم عليه السلام عن عدم نظرهم وأنه لا حجة لهم خاطبهم ببراءته من جميع ما عبد من دون الله وعداوته لذلك وعبر عن بغضته واطراحه لكل معبود سوى الله تعالى بالعداوة إذ هي تقتضي التغيير ومحو الرسم، وقيل في الكلام قلب لأن الأصنام لا تعادي وإنما هو عاداها، وقوله إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قالت فرقة هو استثناء متصل لأن في بغضته الأقدمين من قد عبد الله، وقالت فرقة هو استثناء منقطع لأنه إنما أراد عبادة الأوثان من كل قرن منهم، ولفظة عَدُوٌّ تقع للجميع والمفرد والمؤنث والمذكر.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٨ الى ٨٧]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
أتى إبراهيم عليه السلام في هذه الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها بالصفات التي المتصف بها يستحق الألوهية وهي الأوصاف الفعلية التي تخص البشر، ومنها يجب أن يفهم ربه عز وجل وهذا حسن الأدب
في العبارة، والكل من عند الله تعالى، وقوله يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ تعديد للنعمة في الرزق، وقال أبو بكر الوراق في كتاب الثعلبي يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب، كما قال النبي عليه السلام «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين، وأسند إبراهيم المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله عز وجل. وهذا حسن الأدب في العبارة والكل من عند الله تعالى، وهذا كقول الخضر عليه السلام: أن فأردت ها أن عيبها. وقال جعفر الصادق إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة، وقرأ الجمهور هذه الأفعال «يهدين» بغير ياء، وقرأ نافع وابن أبي إسحاق «يهدين»، وكذلك ما بعده وأوقف عليه السلام نفسه على الطمع في المغفرة وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته، وقوله خَطِيئَتِي، ذهب فيه أكثر المفسرين إلى أنه أراد كذباته الثلاث، قوله هي أختي في شأن سارة، وقوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩]، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: ٦٣]، وقالت فرقة أراد ب «الخطيئة» اسم الجنس فدعا في كل أمره من غير تعيين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أظهر عندي لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعارض، وهي وإن كانت كذبات بحكم قول النبي ﷺ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، وبحكم ما في حديث الشفاعة من قوله في شأن إبراهيم نفسي نفسي فهي في مصالح وعون شرع وحق، وقرأ الجمهور «خطيئتي» بالإفراد، وقرأ الحسن «خطاياي» بالجمع، و «الحكم» الذي دعا فيه إبراهيم هو الحكمة والنبوة، ودعاء إبراهيم في مثل هذا هو في معنى التثبيت والدوام. و «لسان الصدق» في الآخرين هو الثناء وخلد المكانة بإجماع من المفسرين، وكذلك أجاب الله دعوته، فكل ملة تتمسك به وتعظيمه وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، قال مكي وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ، واستغفاره لأبيه في هذه الآية هو قبل أن تبين له بموته على الكفر أنه عدو لله، أي محتوم عليه وهو عن الموعدة المذكورة في غير هذه الآية، وفي قراءة أبي بن كعب «واغفر لي ولأبوي إنهما كانا من الضالين».
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
يَوْمَ بدل من الأولى في قوله يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء: ٨٧] والمعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها فقصد من ذلك العظم والأكثر لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا، وقوله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ معناه خالص من الشرك والمعاصي، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين، قال سفيان هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي عموم اللفظة، ولكن السليم من الشرك هو الأهم، وقال الجنيد
بقلب لديغ من خشية الله والسليم اللديغ، وَأُزْلِفَتِ معناه قربت، و «الغاوون» التي برزت لهم الجحيم هم المشركون بدلالة أنهم خوطبوا في أمر الأصنام، والقول لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هو على جهة التقريع والتوبيخ والتوقيف على عدم نصرتهم نحوه، وقرأ الأعمش «فبرزت» بالفاء والجمهور بالواو، وقرأ مالك بن دينار «وبرزت» بفتح الراء والزاي ورفع «الجحيم»، ثم أخبر عن حال يوم القيامة من أن الأصنام تكبكب في النار أي تلقى كبة واحدة ووصل بها ضمير من يعقل من حيث ذكرت بعبادة، وكانت يسند إليها فعل من يعقل، وقيل الضمير في قوله «هم» للكفار، والْغاوُونَ الشياطين، و «كبكب» مضاعف من كب هذا قول الجمهور وهو الصحيح لأن معناها واحد، والتضعيف في الفعل بين مثل صر وصرصر وغير ذلك، والْغاوُونَ الكفرة الذين شملتهم الغواية، وجُنُودُ إِبْلِيسَ نسله وكل من يتبعه لأنهم جند له وأعوان.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٦ الى ١٠٤]
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠)
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
ثم وصف تعالى أن أهل النار يَخْتَصِمُونَ فيها ويتلاومون ويأخذون في شأنهم بجدال، ومن جملة قولهم لأصنامهم على جهة الإقرار وقول الحق قسم تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم، ثم عطفوا يردون الملامة على غيرهم أي ما أضلنا إلا كبراؤنا وأهل الجرم والجرأة والمكانة، ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان عموما، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ وفي هذه اللفظة منبهة على محل الصديق من المرء، قال ابن جريج شافِعِينَ من الملائكة وصَدِيقٍ من الناس.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة «الشفيع» تقتضي رفعة مكانه، ولفظ «الصديق» يقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود، و «الحميم» الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك وحامة الرجل خاصته وباقي الآية بين قد مضى.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآيات من قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء: ٨٨] هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزى فيه.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
236
أسند كَذَّبَتْ إلى «القوم» وفيه علامة التأنيث من حيث القوم في معنى الأمة والجماعة، وقوله الْمُرْسَلِينَ من حيث من كذب نبيا واحدا، كذب جميع الأنبياء إذ قولهم واحد ودعوتهم سواء، وقوله أَخُوهُمْ يريد في النسب والمنشأ لا في الدين، وأَمِينٌ معناه على وحي الله ورسالته، وقرأ ابن كثير وعاصم «أجري» ساكنة الياء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بفتح الياء في كل القرآن، ثم رد عليهم الأمر بالتقوى والدعاء إلى طاعته تحذيرا ونذارة وحرصا عليهم فذهب أشرافهم إلى استنقاص أتباعه بسبب صغار الناس الذين اتبعوه وضعفائهم، وهذا كفعل قريش في شأن عمار بن ياسر وصهيب وغيرهما، وقال بعض الناس الْأَرْذَلُونَ الحاكة، والحجامون والأساكفة، وفي هذا عندي على جهة المثال أي أهل الصنائع الخسيسة لا أن هذه الصنائع المذكورة خصت بهذا، والْأَرْذَلُونَ جمع الأرذل ولا يستعمل إلا معرفا أو مضافا أو ب «من».
قال القاضي أبو محمد: ويظهر من الآية أن مراد «قوم نوح» بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح ما عِلْمِي الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة إنما أقنع بظاهرهم وأجتزئ به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو قول رسول الله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس» الحديث بجملته، وقرأ جمهور الناس «واتبعك» على الفعل الماضي، وقرأ ابن السميفع اليماني وسعيد بن أسعد الأنصاري «وأتباعك» على الجمع، ونسبها أبو الفتح إلى ابن مسعود والضحاك وطلحة، قال أبو عمرو وهي قراءة ابن عباس والأعمش وأبي حيوة، وقرأ عيسى بن عمر الهمذاني «لو يشعرون» بالياء من تحت، وإعراب قوله «وأتباعك» إما جملة في موضع الحال وإما عطف على الضمير المرفوع وحسن لك الفصل بقوله لَكَ، وقولهم مِنَ الْمَرْجُومِينَ، يحتمل أن يريدوا بالحجارة، ويحتمل أن يريدوا بالقول والشتم ونحوه، وهو شبيه برجم الحجارة، وهو من الرجم بالغيب والظن ونحو ذلك، وقوله «افتح» معناه احكم، والفتاح القاضي بلغة يمنية، والْفُلْكِ السفينة وجمعها فلك أيضا، وقد تقدم بسط القول في هذا الجمع في سورة الأعراف، والْمَشْحُونِ معناه المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل، وباقي الآية بين.
237
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
عادٌ قبيلة، وانصرف للخفية، وقيل هو اسم أبيهم وخاطبهم «هود» عليه السلام بمثل مخاطبة سائر الرسل، ثم كلمهم فيما انفردوا به من الأفعال التي اقتضتها أحوالهم فقال أَتَبْنُونَ على جهة التوبيخ، «والريع» المرتفع من الأرض، ومنه قول المسيب ابن عباس يصف ظعنا: [الكامل]
في الآل يخفضها ويرفعها... ريع يلوح كأنّه سحل
والسحل الثوب الأبيض ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة... ندى ليله في ريشه يترقرق
ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
وبهماء قفر تجاوزتها... إذا خب في ريعها آلها
ويقال «ريع» بكسر الراء ويقال «ريع» بفتحها، وبها قرأ ابن أبي عبلة وعبر بعض المفسرين عن الريع بالطريق وبعضهم بالفج وبعضهم بالثنية الصغيرة.
قال القاضي أبو محمد: وجملة ذلك أنه المكان المشرف وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه، و «الآية»، البنيان، قال ابن عباس آية علم، قال مجاهد أبراج الحمام، قال النقاش وغيره القصور الطوال، و «المصانع» جمع مصنع وهو ما صنع وأتقن في بنائه من قصر مشيد ونحوه، قال قتادة هي ما خد للماء، وقوله لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ إما أن يريد على أملكم ورجائكم، وإما أن يريد الاستفهام على معنى التوبيخ والهزء بهم، وقرأ الجمهور «تخلدون» بفتح التاء وضم اللام، وقرأ قتادة «تخلدون» بضم التاء وفتح اللام يقال خلد الشيء وأخلده غيره وقرأ أبي وعلقمة «لعلكم تخلّدون» بضم التاء وفتح الخاء وفتح اللام وشدّها، وروي عن أبي، «كأنكم تخلدون» وروي عن ابن مسعود «كي تخلدون»، و «البطش» الأخذ بسرعة وقوة، و «الجبار» المتكبر، ومنه قولهم نخلة جبارة إذا كانت لا تدرك علوا.
ومنه قوله عليه السلام في المرأة التي أبت أن تتنحى عن طريقه «إنها جبارة»، ومنه الجبروت فالمعنى أنكم كفار الغضب، لكم السطوات المفرطة، والبوادر من غير تثبت، ثم ذكرهم عليه السلام بأيادي الله قبلهم فيما منحهم من الأنعام والذرية والجنات والمياه المطردة فيها، ثم خوفهم عذاب الله تعالى في الدنيا فكانت مراجعتهم أن سووا بين وعظه وتركه الوعظ، وقرأ ابن محيصن «أوعت» بإدغام الظاء في التاء، ثم قالوا إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، واختلفت القراءة في ذلك، فقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر «خلق» بضم اللام فالإشارة بهذا إلى دينهم وعبادتهم وتخرقهم في المصانع، أي هذا الذي نحن عليه خلق الناس وعادتهم وما بعد ذلك بعث ولا تعذيب كما تزعم أنت، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو قلابة «خلق الأولين» بضم الخاء وسكون اللام ورواها الأصمعي عن نافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو «وخلق الأولين» بفتح الخاء وسكون اللام وهي قراءة ابن مسعود وعلقمة والحسن، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما وما هذا الذي تزعمه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك وكذبهم فأنت على منهاجهم، والثاني أن يريدوا وما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون حياة وموت وما ثم بعث ولا تعذيب، وكل معنى مما ذكرته تحتمله كل قراءة، وروى علقمة عن ابن مسعود «إلا اختلاق الأولين» وباقي الآية قد مضى تفسيره.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
ثَمُودُ قبيلة عربية وتصرف على مقصد الحي أو القبيلة، وقرأ بالوجهين، الجمهور بغير صرف وابن وثاب وغيره بالصرف، وصالِحٌ أخوهم في النسب والأنبياء من العرب أربعة هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام، وإسماعيل عليه السلام عربي اللسان سرياني النسب وهو أبو العرب الموجودين اليوم، وقوله أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا تخويف لهم بمعنى أتطمعون أن تقروا في النعم على معاصيكم، و «الهضيم» معناه اللين الرطب و «الطلع» الكفرى وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته فكأن الإشارة إلى أن طلعها يثمر ويرطب، قال ابن عباس إذا أينع وبلغ فهو هَضِيمٌ وقال الزهري
«الهضيم» الرخص اللطيف أول ما يخرج، وقال الزجاج هو فيما قيل الذي رطبه بغير نوى، وقال الضحاك «الهضيم» معناه المنضد بعضه على بعض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقرأ الجمهور «تنحتون» بكسر الحاء، وقرأ عيسى بفتحها، وذكر أنها لغة قال أبو عمرو وهي قراءة الحسن وأبي حيوة، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «فارهين» وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين»، وقرأ مجاهد «متفرهين» على وزن متفعلين، واللفظة مأخوذة من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته وكماله في نوعه فمعنى الآية كيسين متهممين قاله ابن عباس، وقال مجاهد شرهين. وقال ابن زيد أقوياء وقال أبو عمرو بن العلاء آشرين بطرين، وذهب عبد الله بن شداد إلى أنه بمعنى مستفرهين أي مبالغين في استجادة الفاره من كل ما تصنعونه وتشتهونه، وقوله وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ خاطب به جمهور قومه وعنى، ب الْمُسْرِفِينَ كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم، وقولهم مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فيه تأويلان: أحدهما مأخوذ من السّحر بكسر السين أي قد سحرت فأنت لذلك مخبول لا تنطق بقويم، والثاني أنه مأخوذ من السّحر بفتح السين وهي الرئة وبسببها يقال انفتح سحره. وقيل السحر قصبة الرئة بما يتعلق بها من كبد وغيره، أي أنت ابن آدم لا يصح أن تكون رسولا عن الله، وما بعده في الآية يقوي هذا التأويل ومن اللفظة قول لبيد: [الطويل]
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
ويقال للاغتداء التسحير ومنه قول امرئ القيس:
«ونسحر بالطعام وبالشراب»
ثم اقترحوا عليه «آية» وروي أنهم اقترحوا خروج ناقة من جبل من جبالهم، وقصتها في هذه الآية وجيزة وقد مضت مستوعبة، فلما خرجت الناقة قالَ لهم هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ، وهو الحظ من الماء، وقرأ ابن أبي عبلة «لها شرب ولكم شرب» بضم الشين فيهما، وقد تقدم قصص ورود الناقة، و «السوء» عقرها، وتوعدهم عليه بعذاب ظاهر أمره أنه أراد في الدنيا وكذلك استمر الوجود، ونسب «عقرها» إلى جميعهم مع اختصاص قدار الأحمر بعقرها من حيث اتفقوا على ذلك رأيا وتدبيرا، وقوله فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ لما ظهر لهم تغيير ألوانهم حسبما كان صالح أخبرهم ندموا، ورأوا أن الأمر على ما أخبر به حتى نزل بهم العذاب، وكانت صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصبت عليهم حجارة خلال ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
قال النقاش إن في مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة «إذ قال لهم لوط» وسقط «أخوهم»، واختصرت الياء في الخط واللفظ من قوله وَأَطِيعُونِ مراعاة لرؤوس الآي أن تتناسب، ثم وقفهم على معصيتهم البشعة في إتيان الذُّكْرانَ وترك فروج الأزواج والمعنى ويذر ذلك العاصي في حين معصيته لا أن معناه تركوا النساء جملة، وفي قراءة ابن مسعود «ما أصلح لكم ربكم» وعادُونَ، معناه ظالمون مرتكبون للحظر. فتوعدوه بالإخراج من أرضه وداره فلا يتهم عند ذلك واقتصر على الإخبار بأنه قال لعملهم، و «القلى» بغض الشيء وتركه، ثم دعا في النجاة فنجاه الله بأن أمره بالرحلة ليلا، وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه فأصابها حجر فهلكت فيمن هلك، وقوله فِي الْغابِرِينَ معناه في الباقين، فإما أن يريد في الباقين من لداتها وأهل سنها وهذا تأويل أبي عبيدة، وإما أن يريد في الباقين في العذاب النازل بهم وهذا تأويل قتادة، والمشهور في غبرانها بمعنى بقي، وغابر الزمان مستقبله، ولكن الأعشى قد استعمل غابر الزمان بمعنى ماضيه في شعر المنافرة المشهور، وقال الزهراوي يقال للذاهب غابر وللباقي غابر، و «التدمير» الإهلاك بإمطار الحجارة وبذلك جرت السنين في رجم اللوطي وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
قال النقاش في مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة «إذ قال لهم أخوهم شعيب»، قالوا ولا وجه لمراعاة النسب وإنما هو أخوهم من حيث هو رسولهم وآدمي مثلهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «أصحاب ليكة» على وزن فعلة هنا وفي ص، وقرأ الباقون «الأيكة» وهي الدوحة الملتفة من الشجر على الإطلاق، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفه الحمام والقماري ونحوها، وقال قتادة كان شجرهم هذا دوما، و «ليكة» اسم
البلد في قراءة ذلك قاله بعض المفسرين، ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام، وذهب قوم إلى أنها مسهلة من «الأيكة» وأنها وقعت في المصحف هنا وفي سورة ص بغير ألف، وقال أبو علي سقوط ذلك من المصحف لا يرجح النطق بها هكذا، لأن المصحف اتبع فيه تسهيل اللفظ، فكما سقطت الألف من اللفظ سقطت من الخط نحو سقوط الواو من قوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨]، لما سقطت من اللفظ، وأما ترجيح القراءة في «ليكة» بفتح التاء في موضع الجر فلا يقتضيه ما في المصحف وهي قراءة ضعيفة، ويدل على ضعفها أن سائر القرآن غير هذين الموضعين مجمع فيه على «الأيكة» بالهمز والألف والخفض، وكانت مدن القوم سبعة فيما روي ولم يكن شعيب منهم، فلذلك لم يذكر هنا بأنه أخ لهم وإنما كان من بني مدين ولذلك ذكر بأخوتهم، وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحدا بعينه، وفي قولهم عليهم السلام أَلا تَتَّقُونَ عرض رقيق وتلطف كما قال تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨]. وكانت معصيتهم المضافة إلى كفرهم بخس الموازين وتنقص أموال الناس بذلك، و «القسطاس» المعتدل من الموازين وهو بناء مبالغة من القسط، وذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن معنى قوله وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ عدلوا أموركم بميزان العدل الذي جعله الله لعباده، وقرأ الجمهور «بالقسطاس» بضم القاف من «القسطاس»، وقرأ عيسى وأهل الكوفة بكسرها، وتَعْثَوْا معناه تفسدون يقال عثا إذا أفسد، والْجِبِلَّةَ القرون، والخليقة الماضية وقال الشاعر [الكامل]
والموت أعظم حادث... مما يمر على الجبلّه
وقرأ جمهور الناس «والجبلة» بكسر الجيم والباء، وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف «والجبلة» بضمها، و «الكسف» القطع واحدها كسفة كتمرة وتمر، ويَوْمِ الظُّلَّةِ هو يوم عذابهم وصورته فيما روي أن الله امتحنهم بحر شديد، فلما كان في ذلك اليوم غشي بعض قطرهم سحاب فجاء بعضهم إلى ظله فأحس فيه بردا وروحا فتداعوا إليه، حتى تكاملوا فيه فاضطرمت عليهم تلك السحابة نارا فأحرقتهم من عند آخرهم، وللناس في حديث يَوْمِ الظُّلَّةِ تطويلات لا تثبت، والحق أنه عذاب جعله الله ظلة عليهم، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ١٩٩]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
الضمير في إِنَّهُ للقرآن، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر وإنما هو من عند الله تعالى، والرُّوحُ الْأَمِينُ، جبريل عليه السلام بإجماع، ونزل باللفظ العربي والمعاني الثابتة في الصدور والمصاحف، وعلى ذلك كله يعود الضمير في بِهِ و «اللسان»، عبارة عن اللغة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم
242
في رواية حفص «نزل» خفيفة الزاي «الروح» رفع، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بشد الزاي «الروح» نصبا ورجحها أبو حاتم بقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [البقرة: ٩٧]. وبقوله لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقوله، بِهِ في موضع الحال كقوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: ٦١]، وقوله: عَلى قَلْبِكَ إشارة إلى حفظه إياه، وعلل النزول على قلبه بكونه مِنَ الْمُنْذِرِينَ لأنه لا يمكن أن ينذر به إلا بعد حفظه، وقوله: بِلِسانٍ يمكن أن تتعلق الباء ب نَزَلَ بِهِ وهذا على أن النبي ﷺ إنما كان يسمع من جبريل حروفا عربية وهو القول الصحيح، وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه، ويمكن أن يتعلق بقوله لِتَكُونَ وتمسك بهذا من رأى أن النبي ﷺ كان يسمع مثل صلصلة الجرس يتفهم له منه القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف مقتضاه أن بعض ألفاظ القرآن من لدن النبي عليه السلام وهذا مردود، وقوله وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أي في كتبهم يريد القرآن أنه مذكور في الكتب المنزلة القديمة منبه عليه مشار إليه، وقرأ الجمهور «زبر» بضم الباء، وقرأ الأعمش بسكونها ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره كون علماء بني إسرائيل يعلمونه كعبد الله بن سلام ونحوه قاله ابن عباس ومجاهد، وقال ابن عباس أيضا فيما حكى عنه الثعلبي أن أهل مكة بعثوا إلى الأحبار بيثرب يسألونهم عن النبي عليه السلام فقالوا هذا زمانه ووصفوا نعته ثم خلطوا في أمر محمد عليه السلام فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا كون الآية مكية، وقال مقاتل هذه الآية مدنية، فمن قال إنها مكية ذهب إلى أن علماء بني إسرائيل ذكروا في التوراة صفة النبي الأمي فهذه الإشارة إلى ذلك وكلهم قرأ يَكُنْ بالياء آيَةً نصبا غير ابن عامر فإنه قرأ «تكن» بالتاء من فوق «آية» رفعا وهي قراءة عاصم الجحدري، وقرأ جمهور الناس «أن يعلمه» بالياء من تحت، وقرأ الجحدري «تعلمه» بالتاء من فوق، ثم سلى محمدا ﷺ عن صدود قومه عن الشرع بأن أخبر أن هذا القرآن العربي لو سمعوه من أعجمي أي من حيوان غير ناطق أو من جماد، و «الأعجم» كل ما لا يفصح، ما كانوا يؤمنون أي قد ختم الكفر عليهم فلا سبيل إلى إيمانهم، والأعجمون جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له أعجم، وكذلك يقال للحيوانات والجمادات ومنه قول النبي ﷺ «جرح العجماء جبار»، وأسند الطبري عن عبد الله بن مطيع أنه قال حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة: جملي هذا أعجم فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون، والعجمي هو الذي نسبه في العجم وإن كان أفصح الناس، وقرأ الحسن «الأعجميين». قال أبو حاتم أراد جمع الأعجمي المنسوب، وقال بعض النحويين «الأعجمون» جمع أعجم أضيف فقويت بالإضافة رتبته في الأسماء فجمع وليس بأعجمي النسبة إلى العجم، وقرأ جمهور الناس «أو لم يكن» بالياء «لهم آية» بالنصب، وقرأ «أو ليس لم يكن آية» ابن مسعود، والأعمش، وفي مصحف أبي «أليس» بغير واو، وقرأت فرقة «تكن» بالتاء من فوق «آية» رفعا، وقرأ بعض من قرأ بالياء «آية» بالنصب وسائرهم بالرفع، وقد مضى ذكرها في السبع وذكر الطبري أن الضمير في قوله وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ عائد على الذكر في قوله ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ [الأنبياء: ٢].
243
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٩]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
الإشارة بذلك إلى ما يتحصل لسامع الآية المتقدمة من الحتم عليهم بأنهم لا يؤمنون وهي قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ [الشعراء: ١٩٨]، وسَلَكْناهُ معناه أدخلناه، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: ١٩٨] قاله الحسن. قال الرماني لا وجه لهذا لأنه لم يجر ذكره وإنما الضمير للقرآن وإحضاره بالبال، وحكى الزهراوي أن الضمير للتكذيب المفهوم وحكاه الثعلبي، وقرأ ابن مسعود «كذلك جعلناه في قلوب»، وروي عنه «نجعله»، و «المجرمون» أراد بهم مجرمي كل أمة، أي إن هذه عادة الله تعالى فيهم، أنهم لا يؤمنون حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب ما تضمنته هذه الآية يوم بدر، وقرأ الجمهور «فيأتيهم» بالياء أي العذاب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فتأتيهم» بالتاء من فوق يعني الساعة، وفي قراءة أبي بن كعب «فيروه بغتة» ومن قول كل أمة معذبة هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي مؤخرون، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة، ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله تعالى في طلبهم سقوط السماء كسفا وغير ذلك وقولهم لمحمد ﷺ أين ما تعدنا أي إنه لا ينبغي لهم ذلك لأن عذابنا بالمرصاد إذا حان أجله، ثم خاطب محمدا ﷺ بإقامة الحجة عليهم في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني مع نزول العذاب بعدها ووقوع النقمة، وذلك في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ الآية، قال عكرمة سِنِينَ يريد عمر الدنيا، ولأبي جعفر المنصور، قصة في هذه الآية، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله عز وجل ذِكْرى لهم وتبصرة وإقامة حجة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وذِكْرى عند الكسائي نصب على الحال، ويصح أن يكون في موضع نصب على المصدر، وهو قول الزجاج، ويصح أن يكون في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره ذلك ذكرى، ثم نفى عن جهته عز وجل الظلم إذ هو مما لا يليق به.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢١٦]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
لما كان بعض ما قال الكفار إن هذا القرآن كهانة نزلت هذه الآية مكذبة لذلك أي ما تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشَّياطِينُ
لأنها قد عزلت عن السمع الذي كانت تأخذ له مقاعدها، وقوله وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يمكنهم، وقد تجيء هذه اللفظة عبارة عما لا يمكن وعبارة عما لا يليق وإن كان ممكنا، ولما جاء الله بالإسلام حرس السماء بالشهب الجارية إثر الشياطين فلم يخلص شيطان بشيء يلقيه كما كان يتفق لهم في الجاهلية، وقرأ الجمهور «الشياطين»، وروي عن الحسن أنه قرأ «الشياطون» وهي قراءة مردودة، قال أبو حاتم هي غلط منه أو عليه وحكاها الثعلبي أيضا عن ابن السميفع، وذكر عن يونس بن حبيب أنه قال سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون قال يونس فقلت ما أشبه هذه بقراءة الحسن، ثم وصى عز وجل نبيه عليه السلام بالثبوت على توحيد الله تعالى وأمره بنذارة عشيرته تخصيصا لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية. وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته. وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم، وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ولما أمر رسول الله ﷺ بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر، فمن ذلك أنه أمر عليا رضي الله عنه بأن يصنع طعاما وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلا ينقصون رجلا أو يزيدونه، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله ﷺ وافترق جمعهم من غير شيء، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم: «لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد» في حديث مشهور، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف وا صباحاه» فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى، على بطون قريش جميعا، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن. قال لهم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي» قالوا نعم، فإنا لم نجرب عليك كذبا، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد»، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك سائر اليوم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] السورة، و «العشيرة» قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر، والضمير في عَصَوْكَ عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالا فأمره الله بالتبري منهم وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٧ الى ٢٢٦]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١)
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة «فتوكل» بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام،
245
والجمهور بالواو وكذلك في سائر المصاحف، وأمره الله تعالى بالتوكل عليه في كل أمره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة المذكورتان في أواخر قصص الأمم المذكورة في هذه السورة، وضمنها نصر كل نبي على الكفرة والتهمم بأمره والنظر إليه، وقوله الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
، يَراكَ
عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أراد قيام الصلاة، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات وهو تأويل مجاهد وقتادة، وقوله فِي السَّاجِدِينَ قيل يريد أهل الصلاة أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وقال أيضا مجاهد يريد تقلبك أي تقليبك عينك وأبصارك الساجدين حين تراهم من وراء ظهرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى أجنبي هنا، وقال ابن عباس أيضا وقتادة أراد تقلبك في المؤمنين فعبر عنهم ب السَّاجِدِينَ، وقال ابن جبير أراد الأنبياء أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء، وقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ معناه قل لهم يا محمد هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ وهذا استفهام توقيف وتقرير، و «الأفاك» الكذاب، و «الأثيم» الآثم. ويريد الكهنة لأنهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء، فيخلطون معها مائة كذبة، فإذا صدقت تلك الكلمة كانت سبب ضلالة لمن سمعها، وقوله يُلْقُونَ يعني الشياطين، ويقتضي ذلك أن الشيطان المسترق أيضا كان يكذب إلى ما سمع هذا في الأكثر، ويحتمل الضمير في يُلْقُونَ أي يكون للكهنة فإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام كتاب الله عقب ذلك بذكر الشُّعَراءُ وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن، إذ قال في القرآن بعض الكفرة إنه شعر، وهذه الكناية هي عن شعراء الجاهلية، حكى النقاش عن السدي أنها في ابن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ومسافع الجمحي وأبي عزة وأمية بن أبي الصلت.
قال القاضي أبو محمد: والأولان ممن تاب رضي الله عنهما، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، وقرأ نافع «يتبعهم» بسكون التاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنه، وقرأ الباقون بشد التاء وكسر الباء، واختلف الناس في قوله الْغاوُونَ، فقال ابن عباس هم الرواة وقال ابن عباس أيضا هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم، وقال عكرمة هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويتغنمون إنشاده وهذا أرجح الأقوال، وقال مجاهد وقتادة الْغاوُونَ الشياطين، وقوله فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن قاله ابن عباس وغيره، وقوله، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب، وفي هذا اللفظ عذر لبعضهم أحيانا فإنه يروى أن النعمان بن عدي لما ولاه عمر بن الخطاب ميسان وقال لزوجته الشعر المشهور عزله عمر فاحتج عليه بقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فدرأ عنه عمر الحد في الخمر، وروى جابر ابن عبد الله عن النبي ﷺ أنه قال من مشى سبع خطوات في شعر كتب من الغاوين ذكره أسد بن موسى وذكره النقاش.
قوله عز وجل:
246

[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٢٧]

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكل من اتصف بهذه الصفة، ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أن هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل في الشعراء وذكروا ذلك للنبي عليه السلام فنزلت آية الاستثناء بالمدينة، وقوله وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً يحتمل أن يريد في أشعارهم وهو تأويل ابن زيد، ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة قاله ابن عباس، وهذا كما قال لبيد حين طلب منه شعره إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه وكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح من غير حق ولا يرتدع عن قول دنيء فهم داخلون في هذه الآية وكل تقي منهم يكثر من الزهد ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في الاستثناء، وقوله وَانْتَصَرُوا إشارة إلى ما قاله من الشعر علي وغيره في قريش قال قتادة وفي بعض القراءة، «وانتصروا بمثل ما ظلموا»، وباقي الآية وعيد للظلمة كفار مكة وتهديد لهم، وعمل يَنْقَلِبُونَ في أَيَّ لتأخيره.
Icon