تفسير سورة إبراهيم

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
تفسير سورة إبراهيم
هذه السورة مكية إلا آيتين١، وهي٢ قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا ﴾ إلى آخر الآيتين، ذكره مكي، والنقاش.
١ حدد القرطبي الآيات المكية بداية ونهاية، فقال: و هي قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا﴾ إلى قوله: ﴿فإن مصيركم إلى النار﴾، وهي بهذا ثلاث آيات كما هو ثابت في المصحف الشريف، وأرقامها (٢٨، ٢٩، ٣٠)، ونسب القرطبي هذا القول إلى ابن عباس وقتادة، وكذلك قال في "البحر المحيط"، أما الجمهور فيقولون: السورة كلها مكية..
٢ هكذا في جميع النسخ كما هي عادة ابن عطية، وهو يقصد الآيات التي سيذكرها بعد..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة ابراهيم
هذه السورة مكية إلا آيتين وهي قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: ٢٨] إلى آخر الآيتين: ذكره مكي والنقاش.
بسم الله الرحمن الرحيم، قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
تقدم القوم في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك.
وكِتابٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة، وأما من قال فيها، إنها كناية عن حروف المعجم، ف كِتابٌ مرتفع بقوله: الر أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك، وقوله: أَنْزَلْناهُ في موضع الصفة للكتاب.
قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما: إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام.
وقوله: لِتُخْرِجَ أسند الإخراج إلى النبي ﷺ من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية. وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام.
وعم النَّاسَ إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواترا من دعوته العالم كله، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة، ونقل عنهم تواترا، فعلم قطعا والحمد لله.
واستعير الظُّلُماتِ للكفر، والنُّورِ للإيمان، تشبيها.
وقوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم..
321
وإِلَى في قوله: إِلى صِراطِ بدل من الأولى في قوله: إِلَى النُّورِ أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات.
والْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صفتان لائقتان بهذا الموضع، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب، وما في ضمن ذلك من القدرة، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم.
وقرأ نافع وابن عامر «الله الذي» برفع اسم الله على القطع والابتداء وخبره «الذي»، ويصح رفعه على تقدير هو الله الذي. وقرأ الباقون بكسر الهاء على البدل من قوله: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وروى الأصمعي وحده هذه القراءة عن نافع. وعبر بعض الناس عن هذا بأن قال: التقدير: إلى صراط الله العزيز الحميد، ثم قدم الصفات وأبدل منها الموصوف.
قال القاضي أبو محمد: وإذا كانت هكذا فليست بعد بصفات على طريقة صناعة النحو، وإن كانت بالمعنى صفاته، ذكر معها أو لم يذكر.
وقوله: وَوَيْلٌ معناه: وشدة وبلاء ونحوه. أي يلقونه من عذاب شديد ينالهم الله به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد في الدنيا، هذا معنى قوله: وَوَيْلٌ. وقال بعض: «ويل» اسم واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر يحتاج إلى سند يقطع العذر، ثم لو كان هذا لقلق تأويل هذه الآية لقوله: مِنْ عَذابٍ وإنما يحسن تأوله في قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] وما أشبهه، وأما هنا فإنما يحسن في «ويل» أن يكون مصدرا، ورفعه على نحو رفعهم: سلام عليك وشبهه.
والَّذِينَ بدل من الكافرين وقوله: يَسْتَحِبُّونَ من صفة الكافرين الذين توعدهم قبل، والمعنى: يؤثرون دنياهم وكفرهم وترك الإذعان للشرع على رحمة الله وسكنى جنته، وقوله: يَصُدُّونَ يحتمل أن يتعدى وأن يقف، والمعنى على كلا الوجهين مستقل، تقول: صد زيد وصد غيره، ومن تعديته قول الشاعر: [الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وسَبِيلِ اللَّهِ طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله. وقوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: أظهرها أن يريد: ويطلبونها في حالة عوج منهم. ولا يراعى إن كانوا بزعمهم على طريق نظر وبسبيل اجتهاد واتباع الأحسن، فقد وصف الله تعالى حالهم تلك بالعوج، وكأنه قال: ويصدون عن سبيل الله التي هي بالحقيقة سبيله، ويطلبونها على عوج في النظر.
والتأويل الثاني أن يكون المعنى: ويطلبون لها عوجا يظهر فيها، أي يسعون على الشريعة بأقوالهم وأفعالهم. ف عِوَجاً مفعول.
والتأويل الثالث: أن تكون اللفظة من المعنى، على معنى: ويبغون عليها أو فيها عوجا، ثم حذف الجار، وفي هذا بعض القلق.
322
وقال كثير من أهل اللغة: العوج- بكسر العين- في الأمور وفي الدين، وبالجملة في المعاني، والعوج- بفتح العين- في الأجرام.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا القانون بقوله تعالى: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٧] وقد تتداخل اللفظة مع الأخرى، ووصف «الضلال» بالبعد عبارة عن تعمقهم فيه.
وصعوبة خروجهم منه.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام، أي لست يا محمد ببدع من الرسل، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالا في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع قوله: فَيُضِلُّ أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه، وله في ذلك العزة التي لا تعارض، والحكمة التي لا تعلل، لا رب غيره.
قال القاضي أبو محمد: فإن اعترض أعجمي بأن يقول: من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه؟ قيل له: أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك، وفي ذلك كفايتك.
فإن قال: ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة؟ قيل له: الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء.
و «اللسان» في هذه الآية يراد به اللغة.
وقرأ أبو السمال «بلسن» بسكون السين دون ألف- كريش ورياش- ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن- بسكون السين.
وقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى الآية، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع. وقوله: أَنْ أَخْرِجْ تقديره: بأن أخرج، ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وأما الظُّلُماتِ والنُّورِ فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان. وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل
323
بعث موسى أشياعا متفرقين في الدين: قوم مع القبط في عبادة فرعون، وكلهم على غير شيء، وهذا مذهب الطبري- وحكاه عن ابن عباس- وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف الظُّلُماتِ الذل والعبودية، والنُّورِ العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: ولا يترتب هذا إلا بإيمان به. وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل؟ فلو لم يتبع لمضى بأمته، وألا ترى أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر؟ وأيضا فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل. ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل؟ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر. وأيضا فلو كان مبعوثا إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم.
قال القاضي أبو محمد: واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الأعراف: ١٠٣]، وإِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل: ١٢] والله أعلم.
وقوله: وَذَكِّرْهُمْ الآية. أمر الله عز وجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام» إذ هي في أيام، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكر بها، ومن هذا المعنى قولهم: يوم عصيب، ويوم عبوس، ويوم بسام، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: أيام الله: نعمه: وعن فرقة أنها قالت: أيام الله: نقمه.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة «الأيام» تعم المعنيين، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعا.
وقوله: لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال.
قوله عز وجل:
324

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٦ الى ٩]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
هذا من التذكير بأيام الله في النعم، وكان يوم الإنجاء عظيما لعظم الكائن فيه، وقد تقدم تفسير هذه الآية وقصصها بما يغني عن إعادته، غير أن في هذه الآية زيادة الواو في قوله: وَيُذَبِّحُونَ وفي البقرة:
يُذَبِّحُونَ [البقرة: ٤٩]- بغير واو عطف. فهناك فسر سوء العذاب بأنه التذبيح والاستحياء، وهنا دل بسوء العذاب على أنواع غير التذبيح والاستحياء، وعطف التذبيح والاستحياء عليها.
وقرأ ابن محيصن: «ويذبحون» بفتح الياء والباء مخففة.
وبَلاءٌ في هذه الآية يحتمل أن يريد به المحنة، ويحتمل أن يريد به الاختبار، والمعنى متقارب.
وتَأَذَّنَ بمعنى آذن. أي أعلم، وهو مثل: أكرم وتكرم، وأوعد وتوعد، وهذا الإعلام منه مقترن بإنفاذ وقضاء قد سبقه، وما في تفعل هذه من المحاولة والشروع إذا أسندت إلى البشر منفي في جهة الله تعالى، وأما قول العرب: تعلم بمعنى أعلم، فمرفوض. الماضي على ما ذكر يعقوب. كقول الشاعر:
تعلم أبيت اللعن... ونحوه.
وقال بعض العلماء: الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة، والدنيا أهون من ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وصحيح جائز أن يكون ذلك، وأن يزيد الله أيضا المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضا منهما جميعا، وفي هذه الآية ترجية وتخويف، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا: معنى الآية: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ من طاعتي وضعفه الطبري، وليس كما قال: بل هو قوي حسن، فتأمله.
قال القاضي أبو محمد: وقوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ هو جواب قسم يتضمنه الكلام.
وقوله: وَقالَ مُوسى الآية، في هذه الآية تحقير للمخاطبين- بشرط كفرهم- وتوبيخ، وذلك بين من الصفتين اللتين وصف بهما نفسه تعالى في آخر الآية، وقوله: لَغَنِيٌّ يتضمن تحقيرهم وعظمته، إذ له الكمال التام على الإطلاق، وقوله: حَمِيدٌ يتضمن توبيخهم، وذلك أنه صفة يستوجب المحامد
325
كلها، دائم كذلك في ذاته لم يزل ولا يزال، فكفركم أنتم بإله هذه حاله غاية التخلف والخذلان، وفي قوله أيضا: حَمِيدٌ ما يتضمن أنه ذو آلاء عليكم أيها الكافرون به كان يستوجب بها حمدكم، فكفركم به مع ذلك أذهب في الضلال، وهذا توبيخ بين.
وقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ الآية، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة. وقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ من نحو قوله: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: ٣٨]، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب النسابون من فوق عدنان»، وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله». وحكى عنه المهدوي أنه قال: «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون».
قال القاضي أبو محمد: وهذا الوقوف على عدتهم بعيد، ونفي العلم بها جملة أصح، وهو ظاهر القرآن واختلف المفسرون في معنى قوله: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ بحسب احتمال اللفظ.
قال القاضي أبو محمد: و «الأيدي» في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم، فمما ذكر على أن «الأيدي» الجوارح أن يكون المعنى: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضا عليها من الغيظ على الرسل، ومبالغة في التكذيب- هذا قول ابن مسعود وابن زيد، وقال ابن عباس:
عجبوا وفعلوا ذلك، والعض من الغيظ مشهور من البشر، وفي كتاب الله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: ١١٩] وقال الشاعر:
قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعضّ عليّ الوظيفا
وقال الآخر: [الرجز]
لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوّدي عضت من الوجد بأطراف اليد
ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت، واستبشاعا لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم ودفعا في صدر قولهم- قاله الحسن- وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الألفاظ معنى رابعا وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي»، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب، فكأن المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي»، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة.
وحكى المهدوي قولا ضعيفا وهو أن المعنى: أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي لا وجه له.
326
ومما ذكر على أن «الأيدي» أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم، أي بأقوالهم- فوصل الفعل ب فِي عوض وصوله بالباء- وروي نحوه عن مجاهد وقتادة.
قال القاضي أبو محمد: والمشهور: جمع يد النعمة: أياد، ولا يجمع على أيد، إلا أن جمعه على أبد، لا يكسر بابا ولا ينقض أصلا، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ- على هذا- معنى ثانيا، أن يكون المقصد: ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل، أي لم يقبلوه، كما تقول لمن لا يعجبك قوله: أمسك يا فلان كلامك في فمك.
ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالا ساغ هذا فيها، كما تقول: كسرت كلام فلان في فمه، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال: معناه: ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه.
وقوله: لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب.
وقرأ طلحة بن مصرف: «مما تدعونّا» بنون واحدة مشددة.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
قوله: أَفِي اللَّهِ مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي ألوهية الله شك؟ وقال أبو علي الفارسي: تقديره: أفي وحدانية الله شك؟.
قال القاضي أبو محمد: وزعم بعض الناس: أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظا للاعتزال وزوالا عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال.
و «الفاطر» المخترع المبتدي، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ، أي أيشك فيمن هذه صفته؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك.
وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ ذهب بعض النحاة إلى أنها زائدة، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى صحيح، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتا عنه ليبقى معه في مشيئة الله تعالى، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض، فصح معنى مِنْ.
وقوله: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف، في قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض. ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول: هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه؟.
فالأول هو قول المعتزلة، والثاني قول أهل السنة:
فتقول المعتزلة: لو لم يقتله لعاش، وهذا سبب القود.
وقالت فرقة من أهل السنة: لو لم يقتله لمات حتف أنفه.
قال أبو المعالي: وهذا كله تخبط، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة، فمحال أن يقع غير ذلك، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه.
وقول الكفرة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فيه استبعاد بعثة البشر، وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة أو من يقول من الفلاسفة: إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية وسلطان مُبِينٍ، ولو كانت بعثتهم عندهم محالا لما طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز، أي بعثتكم محال وإلا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدا، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١١ الى ١٢]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
المعنى: صدقتم في قولكم، أي بشر مثلكم في الأشخاص والخلقة لكن تبايننا بفضل الله ومنه الذي يختص به من يشاء.
قال القاضي أبو محمد: ففارقوهم في المعنى بخلاف قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ [المدثر: ٥٠] فإن ذلك في المعنى لا في الهيئة.
وقوله: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره- فمعناها النهي والحظر، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه- فمعناها نفي ذلك الأمر جملة، وكذا هي آيتنا، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي.
واللام في قوله: «ليتوكل» لام الأمر. وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة، وتحريكها بالكسر هو أصلها. وتسكينها طلب التخفيف، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعا.
وقوله: ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ الآية، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى. وما في قوله: ما آذَيْتُمُونا مصدرية، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر، وقال بعض النحويين: «ما» المصدرية بانفرادها اسم. ويحتمل أن تكون ما- في هذا الموضع- بمعنى الذي، فيكون في آذَيْتُمُونا ضمير عائد، تقديره آذيتموناه، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر، هذا مذهب سيبويه، والأخفش يجوز ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٧]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
قوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالت فرقة: أَوْ هنا بمعنى: «إلا أن» كما هي في قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت له لا تبك عيناك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
قال القاضي أبو محمد: وتحمل أَوْ في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر، فتخلصت بمعنى إلا أن، ولذلك نصب الفعل بعدها. وقالت فرقة هي بمعنى «حتى» في الآية، وهذا ضعيف، وإنما تترتب كذلك في قوله: لألزمنك أو تقضيني حقي، وفي قوله: لا يقوم زيد أو يقوم عمرو، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن.
و «العودة» أبدا إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى.
329
لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالا، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.
وخصص تعالى الظَّالِمِينَ من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
وقوله: لَنُسْكِنَنَّكُمُ الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله:
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم: ١٠] أي يؤخركم وأعقابكم.
وقرأ أبو حيوة: «ليهلكن» و «ليسكننكم» بالياء فيهما.
وقوله: مَقامِي يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته- إذا كان مصدرا- إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته- إذا كان ظرفا- إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله: مَقامِي وجائز لو قال: مقامه، وجائز لو قال: مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول: دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.
وقال أبو عبيدة: مَقامِي مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، و «الاستفتاح» طلب الحكم، والفتاح: الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، وقيل: بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.
وقرأت فرقة «واستفتحوا» بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.
وخابَ معناه: خسر ولم ينجح، و «الجبار» : المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقّا، وقيل: معناه يجبر الناس على ما يكرهون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار» بأنه الذي يأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
و «العنيد» الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله: مِنْ وَرائِهِ ذكر الطبري وغيره من المفسرين: أن معناه:
من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: ٧٩] وأنشد الطبري:
أتوعدني وراء بني رياح كذبت لتقصرن يداك دوني
قال القاضي أبو محمد: وليس الأمر كما ذكر، و «الوراء» هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد، الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم.
330
قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر فهو وراء المتقدم، وكذلك قوله: وَكانَ وَراءَهُمْ [الكهف: ٧٩] أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.
وقوله: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء، ثم نعته ب صَدِيدٍ كما تقول: هذا خاتم حديد، و «الصديد» القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك.
وقوله: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.
وقوله: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل من جميع جهاته الست، وقوله: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي لا يراح بالموت، وباقي الآية كأولها، ووصف «العذاب بالغليظ»، مبالغة فيه، وقال الفضيل بن عياض: العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل: إن الضمير في وَرائِهِ هنا هو للعذاب المتقدم.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله: مَثَلُ، فمذهب سيبويه رحمه الله أن التقدير: فيما يتلى عليكم أو يقص: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ومذهب الكسائي والفراء: أنه ابتداء خبره كَرَمادٍ والتقدير عندهم: مثل أعمال الذين كفروا كرماد، وقد حكي عن الفراء: أنه يرى إلغاء مَثَلُ وأن المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد، وقيل: هو ابتداء وأَعْمالُهُمْ ابتداء ثان، وكَرَمادٍ خبر الثاني، والجملة خبر الأول، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت: المتحصل مثالا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة، وهي: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ. وهذا يطرد عندي في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: ٣٥، محمد: ١٥]. وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر، ولا يجتمع منه شيء، ووصف «اليوم» ب «العصوف» - وهي من صفة الريح بالحقيقة- لما كانت في اليوم، ومن هذا المعنى قول الشاعر [جرير] :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
ومنه قول الآخر: يومين غيمين ويوما شمسا
فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء.
وقرأ نافع وحده وأبو جعفر «الرياح» والباقون «الريح» بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله.
وقوله: ذلِكَ إشارة إلى كونهم بهذه الحال، وعلى مثل هذا الغرور، والضَّلالُ الْبَعِيدُ الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة.
وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر «في يوم عاصف» بإضافة يوم إلى عاصف، وهذا بين، وقرأ السلمي: «ألم تر» بسكون الراء، بمعنى ألم تعلم من رؤية القلب. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «خلق السماوات» وقرأ حمزة والكسائي «خالق السماوات» فوجه الأولى: أنه فعل قد مضى، فذكر كذلك، ووجه الثانية: أنه ك فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ١٤ يوسف: ١٠١ إبراهيم: ١٠ الزمر: ٤٦ الشورى: ١١] وفالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: ٩٦].
وقوله: بِالْحَقِّ أي بما يحق في جوده، ومن جهة مصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، ولتدل عليه وعلى قدرته. ثم توعد تبارك وتعالى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يعدمكم ويطمس آثاركم. وقوله:
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يصح أن يريد: من فرق بني آدم، ويصح غير ذلك، وقوله: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
بَرَزُوا معناه، صاروا بالبراز، وهي الأرض المتسعة كالبراح والقواء والخبار فاستعير ذلك لجمع يوم القيامة.
وقولهم تَبَعاً يحتمل أن يكون مصدرا، فيكون على نحو قولهم: قول عدل، وقوم حرب، ويحتمل أن يكون جمع تابع، على نحو غائب وغيب، وهو تأويل الطبري.
وفسر الناس الضُّعَفاءُ بالأتباع، و «المستكبرين» بالقادة وأهل الرأي، وقولهم مُغْنُونَ من الغناء، وهي المنفعة التي تكون من الإنسان للآخر في الدفاع وغيره، وقوله: أَجَزِعْنا ألف التسوية، وليست بألف استفهام، بل هي كقوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: ٦] و «المحيص» المفر والملجأ، مأخوذ من حاص يحيص إذا نفر وفر ومنه في حديث هرقل: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، وروي عن ابن زيد وعن محمد بن كعب: أن أهل النار يقولون: إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله، فتعال فلنصبر، فيصبرون خمسمائة سنة، فلا ينتفعون، فيقولون هلم فلنجزع،
فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى، فلا ينتفعون، فحينئذ يقولون هذا القول الذي في الآية، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
المراد هنا ب الشَّيْطانُ إبليس الأفذم نفسه، وروي في حديث عن النبي عليه السلام- من طريق عقبة بن عامر- أنه قال: «يقوم يوم القيامة خطيبان: أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة: ١١٧]، وقال بعض العلماء: يقوم إبليس خطيب السوء، الصادق بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ أي حصل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، وهو تأويل الطبري.
قال القاضي أبو محمد: وقُضِيَ قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: ٤٤] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل، كقوله: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يوسف: ٤١].
و «الوعد»
في هذه الآية على بابه في الخير، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا، ووعدهم إبليس الظفر والأمل إن كذبوا، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم. وال سُلْطانٍ الحجة البينة، وقوله: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ استثناء منقطع، وإِنَّ في موضع نصب، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى: إلا أن النائب عن السلطان، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر: [الوافر] تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى قوله: فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه.
قال القاضي أبو محمد: وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها، والتقليد وإن كان باطلا ففساده من غير هذا الموضع.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد ب «السلطان» في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئا، فأتى رأيكم عليه.
وقوله: فَلا تَلُومُونِي يريد بزعمه إذ لا ذنب لي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب. و «المصرخ» المغيث، والصارخ: المستغيث. ومنه قول الشاعر: [البسيط]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قطع الظنابيب
فيقال: صرخ الرجل، وأصرخ غيره، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح، ويوصف به، كما يقال: رجل عدل ونحوه.
وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب «بمصرخي» بكسر الياء تشبيها لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله:
مصرخيه، ورد الزجاج هذه القراءة، وقال: هي ردية مرذولة، وقال فيها القاسم بن معن: إنها صواب، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم: أن أبا عمرو حسنها، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو.
وقوله: بِما أَشْرَكْتُمُونِ أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها، ف «ما» مصدرية، وكأنه يقول: إني الآن كافر بإشراككم إياي مع الله قبل هذا الوقت.
قال القاضي أبو محمد: فهذا تبر منه، وقد قال الله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤] ويحتمل أن يكون اللفظ إقرارا على نفسه بكفره الأقدم، فتكون «ما» بمعنى الذي، يريد الله تعالى، أي خطيئتي قبل خطيئتكم، فلا إصراخ عندي، وباقي الآية بين.
وقرأ الجمهور «وأدخل» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ الحسن: «وأدخل» على فعل المتكلم، أي يقولها الله عز وجل، وقوله: مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت ما علا منها، كالغرف والمباني والأشجار وغيره.
و «الخلود» في هذه الآية على بابه في الدوام، و «الإذن» هنا عبارة عن القضاء والإمضاء، وقوله:
تَحِيَّتُهُمْ مصدر مضاف إلى الضمير، فجائز أن يكون الضمير للمفعول أي تحييهم الملائكة، وجائز أن يكون الضمير للفاعل، أي يحيي بعضهم بعضا.
وتَحِيَّتُهُمْ رفع بالابتداء، وسَلامٌ ابتداء ثان، وخبره محذوف تقديره عليكم، والجملة خبر الأول، والجميع في موضع الحال من المضمرين في خالِدِينَ أو يكون صفة ل جَنَّاتٍ.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
قوله: أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم، ومَثَلًا مفعول بضرب، وكَلِمَةً مفعول أول بها،
334
وضَرَبَ هذه تتعدى إلى مفعولين، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها: جعل ضربها. وقال المهدوي:
مَثَلًا مفعول، وكَلِمَةً بدل منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في ضَرَبَ هذه.
والكاف في قوله: كَشَجَرَةٍ في موضع الحال، أي مشبهة شجرة.
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس وغيره: «الكلمة الطيبة» هي لا إله إلا الله، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة»، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين، فكأن هذه الكلمة أَصْلُها ثابِتٌ في قلوب المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته- هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد، ويتنزل بها من قبل الله تعالى.
وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها» وقالت فرقة: إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة» المؤمن نفسه، إذ «الكلمة الطيبة» لا تقع إلا منه، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها. وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة، فهو كشجرة فرعها في السماء، وما يكون أبدا من المؤمن من الطاعة، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين.
وقوله عن الشجرة وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي في الهواء نحو السماء، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء، وفي الحديث: خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا، وفي كتاب سيبويه: والقيدودة:
الطويل في غير سماء.
قال القاضي أبو محمد: كأنه انقاد وامتد.
وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: «الشجرة الطيبة» في هذه الآية هي النخلة، وروي ذلك في أحاديث وقال ابن عباس أيضا: هي شجرة في الجنة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات فيدخل في ذلك النخلة وغيرها. وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يتعذر أيضا أن يشبه بشجرتها. و «الأكل» الثمر وقرأ عاصم وحده «أكلها» بضم الكاف.
وقوله: كُلَّ حِينٍ: «الحين» في اللغة- القطيع من الزمن غير محدد كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ [الإنسان: ١] وكقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: ٨٨]. وقد تقتضي لفظة الحين بقرينتها تحديدا، كهذه الآية، فإن ابن عباس وعكرمة ومجاهدا والحكم وحمادا وجماعة من الفقهاء قالوا:
من حلف ألا يفعل شيئا حينا فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أي كل سنة، وقال ابن عباس وعكرمة والحسن: أي كل ستة أشهر، وقال ابن المسيب: الحين شهران لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين، وقال ابن عباس أيضا والضحاك والربيع بن أنس: كُلَّ حِينٍ أي غدوة وعشية ومتى أريد جناها.
335
قال القاضي أبو محمد: وهكذا يشبهها المؤمن الذي هو في جميع أيامه في عمل، أو الكلمة التي أجرها والصادر عنها من الأعمال مستمر، فيشبه أن قول الله تعالى إنما شبه المؤمن أو الكلمة بالشجرة في حال إثمارها إذ تلك أفضل أحوالها. وتأول الطبري في ذلك أن أكل الطلح في الشتاء، وإن أكل الثمر في كل وقت من أوقات العام، وهو إتيان أكل، وإن فارق النخل، وإن فرضنا التشبيه بها على الإطلاق. وهي إنما تؤتي في وقت دون وقت، فالمعنى كشجرة لا تخل بما جعلت له من الإتيان بالأكل في الأوقات المعلومة، فكذلك هذا المؤمن لا يخل بما يسر له من الأعمال الصالحة أو الكلمة التي لا تغب بركتها والأعمال الصادرة عنها بل هي في حفظ النظام كالشجرة الطيبة في حفظ وقتها المعلوم. وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: ومن قال: «الحين» سنة- راعى أن ثمر النخلة وجناها إنما يأتي كل سنة، ومن قال ستة أشهر- راعى من وقت جذاذ النخل إلى حملها من الوقت المقبل. وقيل إن التشبيه وقع بالنخل الذي يثمر مرتين في العام، ومن قال شهرين. قال: هي مدة الجني في النخل. وكلهم أفتى بقوله في الإيمان على الحين.
وحكي الكسائي والفراء: أن في قراءة أبي بن كعب «وضرب الله مثلا كلمة خبيثة»، و «الكلمة الخبيثة» هي كلمة الكفر وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه. و «الشجرة الخبيثة» قال أكثر المفسرين هي شجرة الحنظل- قاله أنس بن مالك ورواه عن النبي عليه السلام، وهذا عندي على جهة المثال. وقالت فرقة: هي الثوم، وقال الزجاج: قيل هي الكشوت.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذه الأقوال من الاعتراض: أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجرة فلا تسمى هذه شجرة إلا بتجوز، فقد قال رسول الله ﷺ في الثوم والبصل: من أكل من هذه الشجرة، وأيضا فإن هذه كلها ضعيفة وإن لم تجتث، اللهم إلا أن نقول: اجتثت بالخلقة.
وقال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.
والظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت فيها هذه الأوصاف. فالخبث هو أن تكون كالعضاه، أو كشجر السموم أو نحوها. إذا اجتثت- أي اقتلعت، حيث جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهاء والضعف- لتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أن بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغني عنه، كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع وهي خبيثة الجني غير باقية.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
336
القول الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، كلمة الإخلاص والنجاة من النار: لا إله إلا الله، والإقرار بالنبوة.
وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء:
الْحَياةِ الدُّنْيا هي مدة حياة الإنسان. وَفِي الْآخِرَةِ هي وقت سؤاله في قبره. وقال البراء بن عازب وجماعة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هي وقت سؤاله في قبره- ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول.
قال القاضي أبو محمد: ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا.
وقوله فِي الْآخِرَةِ هو يوم القيامة عند العرض.
قال القاضي أبو محمد: والأول أحسن، ورجحه الطبري.
والظَّالِمِينَ في هذه الآية، الكافرين، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين، وعادل التثبيت بالإضلال، وقوله: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ تقرير لهذا التقسيم المتقدم، كأن امرأ رأى التقسيم فطلب في نفسه علته، فقيل له: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ بحق الملك.
وفي هذه الآية رد على القدرية.
وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث، منها ما وقع في الصحيح. وهي من عقائد الدين، وأنكرت ذلك المعتزلة. ولم تقل بأن العبد يسأل في قبره، وجماعة السنة تقول: إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلا، إما بحياة كالمتعارفة، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى، غير أن في الأحاديث: «إنه يسمع خفق النعال»، ومنها: «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب»، وفيها: «إنه ليراجع»، وفيها: «فيعاد روحه إلى جسده»، وهذا كله يتضمن الحياة- فسبحان رب هذه القدرة.
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية، هذا تنبيه على مثال من ظالمين أضلوا، والتقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، وهذا كقوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: ٨٢].
ونِعْمَتَ اللَّهِ المشار إليها في هذه الآية هو محمد عليه السلام ودينه، أنعم الله به على قريش، فكفروا النعمة ولم يقبلوها، وتبدلوا بها الكفر.
والمراد ب الَّذِينَ كفرة قريش جملة- هذا بحسب ما اشتهر من حالهم- وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: أنها نزلت في الأفجرين من قريش:
بني مخزوم وبني أمية. قال عمر: فأما بنو المغيرة فكفوا يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وقال ابن عباس: هذه الآية في جبلة بن الأيهم.
قال القاضي أبو محمد: ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته، وإنما أراد أنها تحصر من فعل جبلة إلى يوم القيامة.
337
وقوله: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي من أطاعهم، وكان معهم في التبديل، فكأن الإشارة والتعنيف إنما هي للرؤوس والأعلام، والْبَوارِ الهلاك، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
يا رسول المليك إن لساني فاتق ما رتقت إذ أنا بور
قاله الطبري: وقال هو وغيره: إنه يروى لابن الزبعرى، ويحتمل أن يريد ب الْبَوارِ: الهلاك في الآخرة ففسره حينئذ بقوله: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها، يحترقون في حرها ويحتملونه، ويحتمل أن يريد ب الْبَوارِ: الهلاك في الدنيا بالقتل والخزي فتكون «الدار» قليب بدر ونحوه. وقال عطاء: نزلت هذه الآية في قتلى بدر.
قال القاضي أبو محمد: فيكون قوله: جَهَنَّمَ نصبا، على حد قولك: زيدا ضربته، بإضمار فعل يقتضيه الظاهر.
والْقَرارُ: موضع استقرار الإنسان، وأَنْداداً جمع ند وهو المثيل والمشبه المناوىء والمراد الأصنام.
واللام في قوله: لِيُضِلُّوا- بضم الياء- لام كي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلوا» بفتح الياء- أي هم أنفسهم- فاللام- على هذا- لام عاقبة وصيرورة وقرأ الباقون «ليضلوا» - بضم الياء- أي غيرهم.
وأمرهم بالتمتع هو وعيد وتهديد على حد قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وغيره.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
«العباد» جمع عبد، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد. وقوله: يُقِيمُوا قالت فرقة من النحويين:
جزمه بإضمار لام الأمر على حد قول الشاعر: [الوافر] محمد تفد نفسك كل نفس أنشده سيبويه- إلا أنه قال: إن هذا لا يجوز إلا في شعر. وقالت فرقة: أبو علي وغيره- هو فعل مضارع بني لما كان في معنى فعل الأمر، لأن المراد: أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك: يا زيد لما شبه بقبل وبعد، وقال سيبويه: هو جواب شرط مقدر يتضمنه صدر الآية، تقديره: إن تقل لهم أقيموا يقيموا.
338
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: قُلْ، وذلك أن يجعل قُلْ في هذه الآية بمعنى: بلغ وأد الشريعة يقيموا الصلاة، وهذا كله على أن المقول هو: الأمر بالإقامة والإنفاق. وقيل إن المقول هو: الآية التي بعد، أعني قوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ.
و «السر» : صدقة التنفل، و «العلانية» المفروضة- وهذا هو مقتضى الأحاديث- وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملا، وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس- وهذا منه- عندي- تقريب للمخاطب.
وخِلالٌ مصدر من خالل: إذا واد وصافى، ومنه الخلة والخليل وقال امرؤ القيس: [الطويل]
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقلي الخلال ولا قال
وقال الأخفش: «الخلال» جمع خلة.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: «لا بيع ولا خلال» بالرفع على إلغاء «لا» وقرأ أبو عمرو والحسن وابن كثير: «لا بيع ولا خلال» بالنصب على التبرية، وقد تقدم هذا. والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ الآية، تذكير بآلاء الله، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة من جهتين.
واللَّهُ مبتدأ، والَّذِي خبره. ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق.
والسَّماواتِ هي الأرقعة السبعة والسماء في قوله، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ [البقرة: ٢٢] السحاب.
وقوله: مِنَ الثَّمَراتِ يجوز أن تكون مِنَ للتبعيض، فيكون المراد بعض جني الأشجار، ويسقط ما كان منها سما أو مجردا للمضرات، ويجوز أن تكون مِنَ لبيان الجنس، كأنه قال: فأخرج به رزقا لكم من الثمرات، وقال بعض الناس: مِنَ زائدة- وهذا لا يجوز عند سيبويه لكونها في الواجب ويجوز عند الأخفش.
والْفُلْكَ جمع فلك- وقد تقدم القول فيه مرارا- وقوله: بِأَمْرِهِ مصدر من أمر يأمر، وهذا راجع إلى الكلام القائم بالذات، كقول الله تعالى للبحار والأرض وسائر الأشياء، كن- عند الإيجاد- إنما معناه: كن بحال كذا وعلى وتيرة كذا، وفي هذا يندرج جريان الفلك وغيره. وفي «تسخير الفلك» ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح، وأما «تسخير الأنهار» فتفجرها في كل بلد، وانقيادها للسقي وسائر المنافع.
ودائِبَيْنِ معناه: متماديين ومنه قول النبي ﷺ لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش عليه: «إن هذا الجمل شكى إلي أنك تجيعه وتديبه»، أي تديمه في الخدمة والعمل- وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة. وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفع إلى ابن عباس أنه قال: معناه: دائبين في طاعة الله- وهذا قول إن كان يراد به- أن الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله: سَخَّرَ وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر، فهذا جيد، والله أعلم.
339
وقوله: وَآتاكُمْ للجنس من البشر، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر، فيقال- بحسب هذا- للجميع أوتيتم كذا- على جهة التعديد للنعمة- وقيل المعنى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أن لو سألتموه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من الأول.
وما في قوله: ما سَأَلْتُمُوهُ يصح أن تكون مصدرية، ويكون الضمير في قوله: سَأَلْتُمُوهُ عائدا على الله تعالى: ويصح أن يكون ما بمعنى الذي، ويكون الضمير عائدا على الذي.
وقرأ الضحاك بن مزاحم «من كلّ ما سألتموه» بتنوين «كل» وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام، ورويت عن نافع، المعنى: وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل. ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به. ف ما في قوله: ما سَأَلْتُمُوهُ مفعول ثان ب آتاكُمْ وقال بعض الناس: ما نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير الضحاك. وأما القراءة الأولى بإضافة كُلِّ إلى ما- فلا بد من تقدير المفعول الثاني جزءا أو شيئا ونحو هذا.
وقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك. وقال طلق بن حبيب: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد. ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ يريد به النوع والجنس المعنى: توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم، والْبَلَدَ: مكة، وآمِناً معناه فيه أمن، فوصفه بالأمن تجوزا- كما قال: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: ١٨]، وكما قال الشاعر:
وما ليل المطي بنائم
340
وَاجْنُبْنِي معناه: وامنعني، يقال: جنبه كذا وجنبه وأجنبه: إذا منعه من الأمر وحماه منه.
وقرأ الجحدري والثقفي «وأجنبني» بقطع الألف وكسر النون.
وأراد إبراهيم بني صلبه، وكذلك أجيبت دعوته فيهم، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنما؟! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة.
والْأَصْنامَ هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد.
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيرا من الناس- تجوز- إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ، وعليها تنشأ الأغيار، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه، وقيل: أراد بالأصنام هنا الدنانير والدراهم.
وقوله: وَمَنْ عَصانِي ظاهره بالكفر، بمعادلة قوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وإذا كان ذلك كذلك فقوله: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه: بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب- صلى الله عليه وسلم- قال قتادة: اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكذلك قال نبي الله عيسى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٨] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته، فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول: من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام؟
وقوله: مِنْ ذُرِّيَّتِي يريد: إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر- بعد أن ولدت إسماعيل- تعذب إبراهيم عليه السلام، بهما، فروي أنه ركب البراق- هو وهاجر والطفل- فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفا من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولّى دعا بمضمن هذه الآية، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري والسير وغيره.
ومِنْ في قوله: مِنْ ذُرِّيَّتِي للتبعيض، لأن إسحاق كان بالشام، و «الوادي» : ما بين الجبلين، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء.
وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقهما الماء، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال: غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.
وقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إما أن يكون البيت قد كان قديما- على ما روي قبل الطوفان، وكان علمه عند إبراهيم- وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتا لله تعالى، فيكون
341
محرما. ومعنى الْمُحَرَّمِ على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه- قاله قتادة وغيره.
وجمعه الضمير في قوله: لِيُقِيمُوا يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل. واللام في قوله: لِيُقِيمُوا هي لام كي هذا هو الظاهر فيها- على أنها متعلقة ب أَسْكَنْتُ، والنداء اعتراض، ويصح أن تكون لام أمر، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه.
وأَفْئِدَةً: القلوب، جمع فؤاد. سمي بذلك لإنفاده، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.
وقرأ ابن عامر بخلاف: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً بياء بعد الهمزة.
وقوله: مِنَ النَّاسِ تبعيض، ومراده المؤمنون، قال مجاهد: لو قال إبراهيم: أفئدة الناس- لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: لحجته اليهود والنصارى. وتَهْوِي معناه:
تسير بجد وقصد مستعجل، ومنه قول الشاعر [أبو كبير] :[الكامل]
وإذا رميت به الفجاج رأيته يهوي مخارمها هويّ الأجدل
ومنه البيت المروي: [السريع]
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمنو الجن كأنجاسها
وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تهوي» بضم التاء، من أهوى، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد «تهوي» بفتح التاء والواو. وتعدي هذا الفعل- وهو من الهوى- ب «إلى»، لما كان مقترنا بسير وقصد. وروي عن مسلم بن محمد الطائفي: أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين- وقيل من الأردن- فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعا، ووضعها قريب مكة، فهي الطائف، وبهذه القصة سميت، وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
مقصد إبراهيم عليه السلام بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ التنبيه على اختصاره في الدعاء، وتفويضه إلى ما علم الله من رغائبه وحرصه على هداية بنيه والرفق بهم وغير ذلك، ثم انصرف إلى
الثناء على الله تعالى بأنه علام الغيوب، وإلى حمده على هباته، وهذه من الآيات المعلمة أن علم الله تعالى بالأشياء هو على التفصيل التام.
وروي في قوله: عَلَى الْكِبَرِ أنه لما ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاما، وروي أقل من هذا، وإِسْماعِيلَ أسنّ من إِسْحاقَ، فيما روي، وبحسب ترتيب هذه الآية- وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: بشر إبراهيم وهو ابن مائة وسبعة عشر عاما.
وقوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ، دعا إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابرا عليه متمسكا به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة ذلك الأمر واستمراره.
وقرأ طلحة والأعمش «دعا ربنا» بغير ياء. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «دعائي» بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم دون الوقف في الوصل. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف.
وروى ورش عن نافع: إثبات الياء في الوصل، وقرأت فرقة «ولوالديّ» واختلف في تأويل ذلك، وقالت فرقة: كان هذا من إبراهيم قبل يأسه من إيمان أبيه وتبينه أنه عدو لله، فأراد أباه وأمه، لأنها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم ونوحا عليهما السلام. وقرأ سعيد بن جبير «ولولدي» بإفراد الأب وحده، وهذا يدخله ما تقدم من التأويلات، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «ولولديّ» على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق، وأنكرها عاصم الجحدري، وقال إن في مصحف أبيّ بن كعب «ولأبوي»، وقرأ يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام، والولد لغة في الولد، ومنه قول الشاعر- أنشده أبو علي وغيره: [الطويل]
فليت زيادا كان في بطن أمّه وليت زيادا كان ولد حمار
ويحتمل أن يكون الولد جمع ولد كأسد في جمع أسد.
وقوله: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ معناه يوم يقوم الناس للحساب، فأسند القيام للحساب إيجازا، إذ المعنى مفهوم.
قال القاضي أبو محمد: ويتوجه أن يريد قيام الحساب نفسه، ويكون القيام بمعنى ظهوره وتلبس العباد بين يدي الله به، كما تقول: قامت السوق وقامت الصلاة، وقامت الحرب على ساق.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤)
هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والخطاب بقوله: تَحْسَبَنَّ لمحمد
343
عليه السلام، والمراد بالنهي غيره ممن يليق به أن يحسب مثل هذا.
وقرأ طلحة بن مصرف «ولا تحسب الله غافلا» بإسقاط النون، وكذلك «ولا تحسب الله مخلف وعده» [إبراهيم: ٤٧] وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن والأعرج: «نؤخرهم» بنون العظمة. وقرأ الجمهور:
«يؤخرهم» بالياء، أي الله تعالى.
وتَشْخَصُ معناه: تحد النظر لفزع ولفرط ذلك بشخص المحتضر، و «المهطع» المسرع في مشيه- قاله ابن جبير وقتادة.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه- وهذا هو أرجح الأقوال- وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه، فمن ذلك قول الشاعر: [الكامل]
بمهطع سرج كأن عنانه في رأس جذع من أوال مشذب
ومن ذلك قول عمران بن حطان: [البسيط]
إذا دعانا فأهطعنا لدعوته داع سميع فلونا وساقونا
ومنه قول ابن مفرغ: [الوافر]
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
ومن ذلك قول الآخر: [الطويل]
بمستهطع رسل كأن جديله بقيدوم رعد من صوام ممنع
وقال ابن عباس وأبو الضحى: الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع» : الذي لا يرفع رأسه. قال أبو عبيدة: وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعا الإسراع وإدامة النظر، و «المقنع» هو الذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشيء، ومن ذلك قول الشاعر: [الشماخ] [الوافر]
يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر.
وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وذكر المبرد- فيما حكي عن مكي- أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أشهر.
وقوله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يطرفون من الحذر والجزع وشدة الحال، وقوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، ويحتمل أن يكون
344
في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي- حناجرهم- فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء، فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
ولا تكن من أخدان كل يراعة... هواء كسقب الناب جوفا مكاسره
ومن ذلك قول حسان: [الوافر]
ألا أبلغ أبا سفيان عني... فأنت مجوف نخب هواء
ومن ذلك قول زهير: [الوافر]
كأن الرحل منه فوق صعل... من الظلمان جوجؤه هواء
فالمعنى: أنه في غاية الخفة في إجفاله.
وقوله تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ الآية، المراد ب يَوْمَ يوم القيامة ونصبه على أنه مفعول ب أَنْذِرِ ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأن القيامة ليست بموطن إنذار، وقوله: فَيَقُولُ رفع عطفا على قوله:
يَأْتِيهِمُ وقوله: وَلَمْ تَكُونُوا إلى آخر الآية، معناه: يقال لهم، فحذف ذلك إيجازا، إذ المعنى يدل عليه، وقوله: ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ هو المقسم عليه نقل المعنى، ومِنْ زَوالٍ معناه من الأرض بعد الموت. أي لا بعث من القبور، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى عنهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: ٣٨].
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)
يقول عز وجل: وَسَكَنْتُمْ أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر من الأمم السالفة، فنزلت بهم المثلات، فكان نولكم الاعتبار والاتعاظ.
وقرأ الجمهور «وتبين» بتاء. وقرأ السلمي- فيما حكى المهدوي- «ونبين» بنون عظمة مضمومة وجزم، على معنى: أو لم يبين، عطف على أَوَلَمْ تَكُونُوا [إبراهيم: ٤٤] قال أبو عمرو: وقرأ أبو عبد الرحمن: بضم النون ورفع النون الأخيرة.
345
وقوله: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ هو على حذف مضاف تقديره: وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم، ويحتمل قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أن يكون خطابا لمحمد عليه السلام، والضمير لمعاصريه، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم.
وقرأ السبعة سوى الكسائي: «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» بكسر اللام من لِتَزُولَ وفتح الأخيرة، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن» نافية بمعنى ما، ومعنى الآية: تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم، أي وإن كان شديدا إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور.
وقرأ الكسائي: «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» بفتح اللام الأولى من لِتَزُولَ وضم الأخيرة، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب، وهذا على أن تكون «إن» مخففة من الثقيلة، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه، وهذا أشد في العبرة.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم»، ويترتب مع هذه القراءة في لِتَزُولَ ما تقدم. وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال». وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد أن أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود: ماذا ترى؟ قال: أرى بحرا وجزيرة- يريد الدنيا المعمورة- ثم قال:
ماذا ترى؟ قال: أرى غماما ولا أرى جبلا، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب. وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا.
وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ الآية، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته.
وقرأ جمهور الناس «مخلف وعده» بالإضافة، «رسله» بالنصب، وإضافة «مخلف» إلى الوعد، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل، وهذا نحو قول الشاعر: [الطويل]
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه... وسائره باد إلى الشمس أجمع
وكقولك: هذا معطي درهم زيدا. وقرأت فرقة: «مخلف وعده رسله» بنصب الوعد وخفض الرسل، على الإضافة، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهي كقول الشاعر: [مجزوء الكامل]
فزججتها بمزجّة... زج القلوص أبي مزادة
346
وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر:
لله در اليوم من لامها وقال آخر: [الوافر]
كما خط الكتاب بكفّ يوما يهوديّ يقارب أو يزيل
والمعنى: لا تحسب يا محمد- أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم- أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله، وإظهارهم، ومعاقبة من كفر بهم، في الدنيا أو في الآخرة، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم.
وقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ الآية، يَوْمَ ظرف للانتقام المذكور قبله. ورويت في «تبديل الأرض» أقوال، منها في الصحيح: أن الله يبدل هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي، وفي الصحيح:
أن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه. وروي أنها تبدل أرضا من فضة. وروي: أنها أرض كالفضة من بياضها. وروي أنها تبدل من نار. وقال بعض المفسرين: تبديل الأرض: هو نسف جبالها وتفجير بحارها وتغييرها حتى لا يرى فيها عوج ولا أمت: فهذه حال غير الأولى، وبهذا وقع التبديل.
قال القاضي أبو محمد: وسمعت من أبي رضي الله عنه: أنه روي: أن التبديل يقع في الأرض، ولكن يبدل لكل فريق بما تقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكون على فضة- إن صح السند بها- وفريق الكفرة يكونون على نار. ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله تعالى.
وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها. ولا سفك فيها دم، وليس فيها معلم لأحد، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش»، وروي عنه أنه قال: «الناس وقت التبديل على الصراط»، وروي أنه قال «الناس حينئذ أضياف الله فلا يعجزهم ما لديه».
وبَرَزُوا مأخوذ من البراز، أي ظهروا بين يديه لا يواريهم بناء ولا حصن. وقوله: الْواحِدِ الْقَهَّارِ صفتان لائقتان بذكر هذه الحال.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
الْمُجْرِمِينَ هم الكفار، ومُقَرَّنِينَ مربوطين في قرن، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر، ومنه قول الشاعر: [البسيط].
347
والْأَصْفادِ الأغلال، واحدها: صفد، يقال: صفده وأصفده وصفده: إذا غلله، والاسم:
الصفاد، ومنه قول سلامة بن جندل: [الوافر]
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
وزيد الخيل قد لاقى صفادا يعض بساعد وبعظم ساق
وكذلك يقال في العطاء، و «الصفد» العطاء، ومنه قول النابغة.
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد.
و «السرابيل» : القمص، و «القطران» هو الذي تهنأ به الإبل، وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه، ويقال: «قطران» بفتح القاف وكسر الطاء، ويقال: «قطران» بكسر القاف وسكون الطاء، ويقال: «قطران» بفتح القاف وسكون الطاء.
وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف، وابن عباس وأبو هريرة وعلقمة وسنان بن سلمة وعكرمة وابن سيرين وابن جبير والكلبي وقتادة وعمرو بن عبيد «من قطر آن» و «القطر» :
القصدير، وقيل: النحاس. وروي عن عمر أنه قال: ليس بالقطران ولكنه النحاس يسر بلونه. و «آن» وهو الطائب الحار الذي قد تناهى حره قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره. وقال ابن عباس المعنى: أنى أن يعذبوا به.
وقرأ جمهور الناس «وجوههم» بالنصب، «النار» بالرفع. وقرأ ابن مسعود «وجوههم» بالرفع. «النار» بالنصب. فالأولى على نحو قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: ١] فهي حقيقة الغشيان، والثانية على نحو قول الشاعر: [الكامل]
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
فهي بتجوز في الغشيان، كأن ورود الوجوه على النار غشيان.
وقوله: لِيَجْزِيَ أي لكي يجزي، واللام متعلقة بفعل مضمر، تقديره: فعل هذا، ونفذ هذا العقاب على المجرمين ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته. وجاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن، لينبه على أن المحسن أيضا يجازي بإحسانه خيرا.
وقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ أي فاصله بين خلقه بالإحاطة التي له بدقيق أمرهم وجليلها. لا إله غيره، وقيل لعلي بن أبي طالب: كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم في وقت واحد.
وقوله: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ الآية، إشارة إلى القرآن والوعيد الذي يتضمنه ووصفه بالمصدر في قوله: بَلاغٌ والمعنى: هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به.
وقرأ جمهور الناس «ولينذروا» بالياء وفتح الذال على بناء الفعل للمفعول. وقرأ يحيى بن عمارة وأحمد بن يزيد بن أسيد: «لينذروا به» بفتح الياء والذال كقول العرب: نذرت بالشيء إذا أشعرت وتحرزت منه وأعددت وروي أن قوله: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
348
Icon