ﰡ
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ...﴾، الآية، سبب نزولها: أن قريشًا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾ (١) يشير بالألف إلى القسم بآلائه ونعمائه، وباللام إلى لطفه وكرمه وبالراء إلى القرآن، يعني،: قسمًا بآلائي ونعمائي إن صفة لطفي وكرمي اقتضت إنزال القرآن وهو كتاب... إلخ، وتقدم في سورتي يونس وهود طريقة قراءته، والمعنى: المراد منه بها أغنى عن إعادته هنا. وقوله: ﴿كِتَابٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن المشتمل على هذه السورة وغيرها كتاب ﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ يا محمد بواسطة جبرائيل حالة كونه حجة على رسالتك بإعجازه. ثم بين المصلحة في إنزال الكتاب على رسول الله - ﷺ - بقوله: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ كافةَ بدعائك وإرشادك إياهم إلى ما تضمَّنه الكتاب من العقائد الحقَّة والأحكام النافعة. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: من أنواع الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والنفاق والشك والبدعة إلى نور الإيمان والإخلاص واليقين والسنة ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: بحوله وقوته؛ أي: لا سبيل له إلى ذلك إلا به، وإنما قال: ﴿رَبِّهِمْ﴾: لأنه تعالى مربيهم، ولم يقل: بإذن ربك، ليعلم أن هذه التربية من الله تعالى، لا من النبي عليه السلام.
واعلم (٢): أن الدعوة عامة، والهداية خاصة كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وإذن الله شامل لجميع الناس
(٢) روح البيان.
والمعنى: هذا القرآن الذي نتلوه عليك كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول؛ لتنقذ (١) الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصَّر به أهل الجهل والعمى سبيل الرشاد والهدى بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات المرشدة إلى النظر في حقائق الكون الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له، وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع وكشف التفسير، وفيها أيضًا سعادة البشر وصلاحهم في الدنيا والآخرة بإذن ربهم، وتوفيقه ولطفه بهم لإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.
وقوله: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ بدل من قوله: ﴿إِلَى النُّورِ﴾ بتكرير العامل وإضافة الصراط إلى العزيز، وهو الله على سبيل التعظيم له، والمراد به: دين الإِسلام، فإنه طريق موصل إلى الجنة والقربة والوصلة، والعزيز: الغالب الذي ينتقم لأهل دينه من أعدائهم، والحميد: المحمود الذي يستوجب بذلك الحمد من عباده.
والمعنى: لتخرج الناس إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم؛ وهو العزيز الذي لا يغالب المحمود في جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه. ونحو الآية قوله تعالىِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ...﴾ الآية، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾ الآية. وقوله: ﴿اللَّهِ﴾ بالجر عطف بيان لـ ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾؛ لأنه علم للذات الواجب الوجود الخالق العالم،
٢ - وقوله: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الموجودات من العقلاء وغيرهم صفة للجلالة؛
وفيه (١) إشارة إلى أن سير السائرين إلى الله لا ينتهي بالسير في الصفات وهو العزيز الحميد، وإنما ينتهي بالسير في الذات وهو الله، فالمكونات أفعاله، فمن بقي في أفعاله لا يصل إلى صفاته، ومن بقي في صفاته لا يصل إلى ذاته، ومن وصل إلى ذاته وصولًا بلا اتصال ولا انفصال، بل وصولًا بالخروج من أنانيته إلى هويته تعالى ينتفع به في صفاته وأفعاله، قال الملّا الجامي رحمه الله تعالى:
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلا مَا | عَلَّمْتَ وَأَلْهَمْتَ لَنَا إِلْهَامًا |
وجاء في سورة يوسف توبيخًا للغافلين، وحثًّا لهمم المستبصرين: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ ومع كل هذا فوا أسفًا رأينا كثيرًا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوي عليه من المقاصد والمرامي، ولو كان ذلك كافيًا؛ لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيًا في الشبع، والنظر إلى الماء كافيًا في الري.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (٣): ﴿الله﴾ - بالرفع - على أنه خبر مبتدأ
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
ثم توعد سبحانه الذين جحدوا آياته وكفروا بوحدانيته، فقال: ﴿وَوَيْلٌ﴾ الويل (١): الهلاك والدمار، وهو مبتدأ خبره ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ بالكتاب، وأصله: النصب كسائر المصادر إلا أنه لم يشتق منه فعل، لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه، فيقال: ويل لهم كسلام عليكم ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ ﴿مِنْ﴾: لبيان الجنس صفة لـ ﴿وَوَيْلٌ﴾، أو حال من ضميره في الخبر، أو ابتدائية متعلقة بالويل على معنى: إنهم يولون ويصيحون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا إليه، ويقولون: يا ويلاه كقوله تعالى: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾.
والمعنى: أي وهلاك (٢) ودمار بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك ولم يستجب دعوتك بإخلاص التوحيد لخالق السماوات والأرض، وترك عبادة من لا ليملك لنفسه شيئًا، بل هو مملوك له تعالى؛ لأنه بعض ما في السماوات ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث:
٣ - ١ ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ الموصول في محل الجر
(٢) المراغي.
قال ابن عباس (١) - رضي الله عنهما -: يأخذون ما تعجل فيها تهاونًا بأمر الآخرة، وهذا من أوصاف الكافر الحقيقي، فإنه يجد ويجتهد في طلب الدنيا وشهواتها، ويترك الآخرة بإهمال السعي في طلبها، واحتمال الكلفة والمشقة في مخالفة هوى النفس وموافقة الشرع، فينبغي للمؤمن الحقيقي أن لا يرضى باسم الإسلام، ولا يقنع بالإيمان التقليدي، فإنه لا يخلو عن الظلمات بخلاف الإيمان الحقيقي، فإنه نور محض وليس منه تغيير أصلًا.
والمعنى: أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها، ويقترفون الآثام ويرتكبون الموبقات، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقربهم إلى الله زلفى، وينسون يومًا تجازى فيه كل نفس بما عملت، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤييه ومن في الأرض جميعًا.
٢ - ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ الناس ويمنعونهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن قبول دينه الذي شرعه لعباده، وجملة ﴿يصدون﴾ وكذلك ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾ معطوفتان على ﴿يَسْتَحِبُّونَ﴾؛ أي: ويمنعون من تتجه عزائمهم إلى الإيمان باللهِ، واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه أن يؤمنوا به ويتبعوه؛ لما زين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان، والبعد عن كل ما يقرب إلى الرحمن. وقرأ الحسن شذوذًا (٢): ﴿وَيُصِدُّونَ﴾ مضارع أصد الداخل عليه همزة النقل، من صد اللازم صدودًا.
٣ - ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾؛ أي: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي (١) ويطلبون لها الزيغ والعوج، وهي أبعد ما تكون من ذلك، ويقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم وزائغ عن الحق واليقين، وإنك لتسمع كثيرًا من الملحدين يقول: إن القوانين الإِسلامية في الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة، وإنها تصلح للأمم العربية في البادية، لا للأمم التي أخذت قسطًا عظيمًا من الحضارة ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾.
فتلك شريعة دانت لها أمة غيرت وجه البسيطة (٢)، وملكت ناصية العالم ردحًا من الزمان، وكانت مضرب الأمثال في العدل وترك الجور، وثلت عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتلكت بلادهم، وأزالت عزهم وسلطانهم إلى أن غير أهلها معالمها، فأركسهم الله بما كسبوا، فبدل عزهم ذلًّا وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها. واجتماع هذه الخصال الثلاثة نهاية الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالقبائح المذكورة ﴿فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ عن طريق الحق؛ أي: ضلوا ووقعوا عنه بمراحل، فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال.
والبعد في الحقيقة من أحوال الضال (٣)؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله مجازًا للمبالغة، وفي جعل الضلال محيطًا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة؛ أي: فهم باختيارهم لأنفسهم حيث العاجلة، وصدهم عن الدين وابتغائهم له الزيغ والعوج في ضلال بعيد عن الحق، لا يرجى لهم فلاح، وأنى لهم ذلك وقد كبوا على وجوههم، وزين لهم الفساد والغي،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٤ - ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم كي لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ﴾؛ أي: وما أرسلنا رسولًا من الرسل قبلك إلى أمة من الأمم من قبل قومك ﴿إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾؛ أي: إلا متلبسًا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ ذلك الرسول ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لقومه ويفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم، وهو يتلى عليهم، فأي عذر لهم في أن لا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام وحلال وحرام وإصلاح لنظم المجتمع ليسعدوا في حياتهم الدنيا والآخرة. ولفظ اللسان يستعمل فيما هو بمعنى العضو وبمعنى اللغة، والمراد هنا: هو الثاني؛ أي: بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم.
فإن قلت: لم يُبعثْ (١) رسول الله - ﷺ - إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعًا بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى، وقوله: ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة، فكيف يمكن الجمع؟
قلتُ: بُعثَ رسول الله - ﷺ - من العرب وبلسانهم، والناس تبع للعرب، فكان مبعوثًا إلى جميع الخلق؛ لأنهم تبع للعرب، ثم إنه - ﷺ - يبعث الرسل إلى الأطراف والنواحي، فيترجمون لهم بألسنتهم، ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم. والنبي (٢) - ﷺ - وإن أرسل إلى الناس جميعًا ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيره، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم حتى يصير مفهومًا لهم كما فهموه، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبينه لكل قوم بلسانهم... لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحًا لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدعي
(٢) المراغي.
وقيل (١): يحتمل أنه أراد بـ ﴿قَوْمِهِ﴾ أهل بلده وفيهم العرب وغير العرب، فيدخل معهم من كان من غير جنسهم في عموم الدعوى. وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه، وكانت دعوته خاصة، وكان كتابه بلسان قومه.. وكان أقرب لفهمهم عنه، وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه، وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب واحدًا بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات.. كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه، وجميع حدوده وأحكامه.
قلتُ: هذا الإشكال لا يأتي من أول الأمر؛ لأن معنى الآية: وما أرسلنا قبلك يا محمد من رسول من الرسل الكرام قبلك إلى أمة من الأمم الذين قبل أمتك إلا بلغة قومه؛ ليبين لهم؛ لأن ذلك الرسول مرسل إلى قومه خاصة كما أشرنا إليه في الحل بخلاف رسالتك، فإنها عامة وأنت سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وأمتك خير الأمم وأفضلهم، فأردنا أن نجمع أمتك على كتاب واحد منزل بلسان هو سيد الألسنة وأشرفها وأفضلها إعطاء للأشرف الأشرف، وذلك هو اللسان العربي الذي هو لسان قومه، ولسان أهل الجنة، فكان سائر الألسنة تابعًا له كما أن الناس تابع للعرب انتهى.
وفي "الفتوحات": والأولى (٢) أن يحمل القوم على من أرسل إليهم الرسول أيًّا كان، وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد - ﷺ - خصوص عشيرة رسولهم، وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من سائر القبائل وأصناف الخلق وهو - ﷺ - كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية؛ لأنه لم يتفق أنه خاطب أحدًا من أهلها، ولو خاطبه لكلمه بها، تأمل. انتهى.
(٢) الفتوحات.
وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر في عدم فهم شرائعه.. ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته، فقال: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إضلاله؛ أي: يخلق فيه الكفر والضلال لمباشرة الأسباب المؤدية إليه ﴿وَيَهْدِي﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته؛ أي: يخلق فيه الإيمان والاهتداء لاستحقاقه له لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق. وجملة قوله: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ﴾ استئناف إخبار، ولا يجوز نصبه عطفًا على ما قبله؛ لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا للإضلال. قال الزجاج: لو قرئ بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز. اهـ. "سمين".
والخلاصة (٢): أي إن الناس فريقان: فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام، فاتبع سبيل الرشاد، وفريق رانت على قلبه الغواية والضلالة بما اجترح من الآثام، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته، لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على كل شيء، فلا يغالب في مشيئته ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه الذي لا يفعل شيئًا من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغة، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة في خلقه والنواميس التي وضعها لصلاح
(٢) المراغي.
٥ - ثم لما بين سبحانه وتعالى أن المقصود من بعثة نبينا محمد - ﷺ - هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور.. أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا ذلك. وخصّ موسى (٢) بالذكر؛ لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة المحمدية، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: وكما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب؛ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعزتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران إلى بني إسرائيل، وأيدناه بآياتنا التسع التي سلف ذكرها في سورة الأعراف في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ﴾ الآية. وأمرناه بـ ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: وأمرناه بأن يدعو قومه إلى الإيمان بالله وتوحيده؛ ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
وقال أبو السعود (٣): الآيات معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل، والمراد: إخراجهم بعد مهلك فرعون من الكفر والجهالات التي أدتهم إلى أن يقولوا: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة إلى الإيمان باللهِ وتوحيده وسائر ما أمروا به انتهى. ولما (٤) كان نبينا محمد - ﷺ - مبعوثًا إلى الناس كافة.. قال تعالى في حقه: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ ولم يقل: لتخرج قومك كما قال في موسى عليه السلام أن أخرج قومك وخصص. وقال هنالك: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ وطواه هنا؛ لأن الإخراج بالفعل قد تحقق في دعوته - ﷺ -، فكانت أمته أمة دعوة واجابة، ولم يتحقق في دعوة موسى، إذ لم يجبه القبط إلى أن هلكوا، وإن أجابه بنو إسرائيل، والعمدة في رسالته كان القبط.
﴿و﴾ أمرناه بأن ﴿وَذَكِّرْهُمْ﴾؛ أي: ذكر قومك وعظهم مرغِّبًا لهم في ثواب
(٢) الشوكاني.
(٣) أبو السعود.
(٤) روح البيان.
والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وأيام الله (١) في جانب موسى عليه السلام، منها ما كان محنة وبلاء، وهي الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم، وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.
وفي "تفسير ابن جرير": ﴿بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأنواع عقوباته الفائضة، ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة، فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه اهـ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ التذكير بأيام الله، أو في نفس أيام الله ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة أو كثيرة؛ أي: لدلائل دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾؛ أي: كثير الصبر على المحن والبلايا ﴿شَكُورٍ﴾؛ أي: كثير الشكر على المنح والعطايا؛ لأنه (٢) إذا سمع بما نزل على من قبله من النبلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. اهـ. "بيضاوي". كأنه (٣) قال: لكل مؤمن كامل؛ إذ الإيمان نصفان: نصفه صبر، ونصفه شكر، وتخصيص الآيات بهم؛ لأنهم المنتفعون بها، لا لأنها خافية عن غيرهم، فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل، وتقديم الصبر لكون الشكر عاقبته. وعبارة "الكرخي": وتقديم الصبار على الشكور؛ لتقدم متعلق الصبر، أعني: البلاء على متعلق الشكر، أعني: النعماء وكون الشكر عاقبة الصبر. اهـ.
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
وفي هذا (١) إيماء إلى أن الإنسان في هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدًا؛ لأنه: إما في مكروه يصبر عليه، وإما في محبوب يشكر عليه، والوقت في هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدي فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا، فقد كفرنا النعمة وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل، وليخف على وقت يضيع، ثم بعده عذاب سريع.
٦ - ولما سمع موسى أمر ربه امتثله، وأخذ يذكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل: يا قوم ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: تذكروا إنعام الله سبحانه وتعالى عليكم ﴿إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: وقت إنجائه إياكم من فرعون وآله؛ أي: قومه حين كانوا ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾؛ أي: يذيقونكم أشد العذاب، ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ تذبيحًا كثيرًا ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾ المولودين صغارًا ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾؛ أي: ويبقون نسائكم وبناتكم في الحياة ذليلات في الخدمة مستضعفات فيها، وهذا رزء من أشد الأرزاء، وأعظم أنواع البلاء. قال شاعرهم:
وَمِنْ أعْظَمِ الرُّزْءِ فِيْمَا أرَى | بقَاَءُ الْبَنَاتِ وَمَوْتُ الْبَنِيْنَا |
قلنا: كانوا يستخدمونهن بالاستعباد والإرقاق، ويفردونهن عن الأزواج،
(٢) الفتوحات.
وقوله: ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ من عطف (١) الخاص على العام؛ كأن التذبيح لشدته وفظاعته وخروجه عن مرتبة العذاب المعتاد جنس آخر، ولو جاء بحذف الواو كما في البقرة والأعراف.. لكان تفسيرًا للعذاب، وبيانًا له، وإنما فعلوا ذلك؛ لأن فرعون رأى في المنام أن نارًا أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت بيوت القبط دون بيوت بني إسرائيل، فخوفه الكهنة، وقالوا له: إنه سيولد منهم ولد يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فشمر عن ساق الاجتهاد، وحسر من ساق العناد، وأراد أن يدفع القضاء وظهوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
فإن قلت (٢): قال في سورة البقرة ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ بغير واو، وقال هنا: ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ بزيادة واو، فما الفرق بين الوضعين؟
قلتُ: إنما حذفت الواو في سورة البقرة؛ لأن قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ تفسير لقوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، كما تقول: جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم، وأما دخول الواو هنا في هذه السورة؛ فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح كالأعمال الشاقة وبالتذبيح أيضًا، فقوله: ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ نوع آخر من العذاب، لا أنه تفسير للعذاب.
﴿وَفِي ذَلِكُمْ﴾ المذكور من أفعالهم الفظيعة ﴿بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾؛ أي: محنة عظيمة لا تطاق واقعة من ربكم. فإن قلت: كيف يكون فعل أن فرعون بلاء من ربهم؟
قلتُ: تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا بهم ما فعلوا بلاء من الله تعالى واختبار منه، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء، والمراد بالبلاء حينئذ: النعمة؛ لأن الابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة، كما قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
(٢) الخازن.
٧ - وقوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ من كلام موسى معطوف على ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه: تذكروا إنعام الله عليكم، واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده إعلامًا بليغًا، فقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لئن شكرتم ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه.. لأزيدنكم من نعمي عليكم نعمةً إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم. قيل: شكر الموجود صيد المفقود. وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب. وأصل الشكر (٢): تصور النعمة وإظهارها، وحقيقته الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وتوطين النفس على هذه الطريقة.
وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل، كلما مرن عليه ازداد قوة (٣)، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت، وإن أهملت ذهبت.
أخرج البخاري في "تاريخه": والضياء في "المختارة": عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من ألهم خمسة لم يحرم خمسة" وفيها، "من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة".
والخلاصة: أن من شكر الله على ما رزقه.. وسع عليه في رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته.. زاد في طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة.. زاده الله صحة إلى نحو أولئك من النعم. ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ نعمي وجحدتموها، فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها،
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
٨ - ثم بين سبحانه وتعالى أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم، أما المعبود المشكور فهو متعالٍ عن أن ينتفع بالشكر، أو يضره الكفر، فلا جرم قال: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا﴾ نعمه تعالى ولم تشكروها ﴿أنْتُمْ﴾ يا بني إسرائيل ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الثقلين ﴿جَمِيعًا﴾ حال من المعطوف والمعطوف عليه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى تعليل للجواب المحذوف؛ أي: إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم، فإن الله تعالى ﴿لَغَنِيٌّ﴾ عن شكركم وشكر غيركم ﴿حَمِيدٌ﴾؛ أي: محمود في ذاته وصفاته وأفعاله لا تفاوت له بإيمان أحد ولا كفره، وإن لم يحمده أحد، بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده.
والمعنى (٢): أي وإن تجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليكم ويفعل مثل فعلكم من في الأرض جميعًا، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم إذ حرمتموها من مزيد الإنعام، وعرضتموها للعذاب الشديد، وإن الله غنيٌ عن شكركم وشكر غيركم، وهو المحمود وإن كفر به من كفر، وهذا كقوله: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾.. الآية، وقوله: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد ومخايل الإصرار على الكفر والفساد، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب، ولا التعريض
(٢) المراغي.
٩ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ للتقرير المضمن للتوبيخ، والخطاب فيه يحتمل أن يكون من موسى لقومه تذكيرًا لم بالقرون الأولى وأخبارهم ومجيء رسل الله إليهم، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد - ﷺ - تحذيرًا لهم عن مخالفته، والنبأ: الخبر العظيم الشأن. وقوله: ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ بدل من الموصول، أو عطف بيان منه ﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ معطوفات على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾؛ أي: ألم يأتكم يا بني إسرائيل، بل أتاكم أخبار الأمم الذين من قبلكم؛ أي: ألم يأتكم قوم نوح أغرقوا بالطوفان حيث كفروا ولم يشكروا نعم الله، وخبر عاد قوم هود أهلكوا بالريح الصرصر، وخبر ثمود قوم صالح أهلكوا بالصيحة، وخبر الذين من بعدهم؛ أي: من بعد هؤلاء المذكورين من قوم إبراهيم وأصحاب مدين، والمؤتفكات وغير ذلك. وجملة قوله: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ معترضة بين المفسر بفتح السين: وهو ﴿نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وتفسيره: وهو ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾، أو حال من ﴿الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، أو من الضمير المستكن في ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ لوقوعه صلة؛ أي: حالة كون تلك الأمم لا يعلم عددهم لكثرتهم، ولا يحيط بذواتهم وصفاتهم وأسمائهم وسائر ما يتعلق بهم إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه انقطعت أخبارهم وعفت آثارهم.
وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبًا أبًا إلى آدم (١)، وكذا في حق النبي عليه السلام؛ لأن أولئك الآباء لا يعلمهم أحد إلا الله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعني: أنهم يدعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد. وجملة قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان النبأ المذكور في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ كأنه (٢) قيل: وما
(٢) روض البيان.
(٣) الفتوحات.
﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال الكفار للرسل: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ من البينات على زعمكم؛ أي: إنا كفرنا بما زعمتم أن الله تعالى أرسلكم به من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ﴾؛ أي: وإننا لكائنون في شك عظيم ﴿مِمَّا تَدْعُونَنَا﴾؛ أي: في حقيَّة ما تدعوننا إليه من الإيمان باللهِ وحده وترك ما سواه، وجملة ما جئتم به من الشرائع. ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موجب للريب والقلق والاضطراب وعدم طمأنينة النفس، فـ ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة توكيدية.
وخلاصة مقالهم: أنهم جاحدون نبوتهم قاطعون بعدم صحتها، لأن ما جاؤوا به من التعاليم والشرائع مما يشك في صدقه، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله.
فإن قلت (٣): إنهم قالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم، فكيف يقولون ثانيًا: وإنا لفي شك، والشك دون الكفر، أو داخل فيه؟
قلتُ: إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل، فكأنهم حصل لهم شبهة توجب
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
أو يقال في الجواب (١): إنهم كانوا فرقتين: إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت، أو يقال: المراد بقولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به؛ أي: المعجزات والبينات، وقولهم: مما تدعوننا إليه: الإيمان والتوحيد.
وحاصله: أن كفرهم بالمعجزات وشكهم في التوحيد، فلا تخالف. اهـ. شيخنا.
وقرأ طلحة (٢): ﴿مِمَّا تَدْعُونَنَا﴾ بإدغام نون الرفع في الضمير، كما تدغم في نون الوقاية في مثل ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾.
١٠ - فردت الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿قَالَتْ﴾ لهم ﴿رُسُلُهُمْ أَفِي﴾ وجود ﴿اللهِ﴾ سبحانه وتعالى ووحدانيته ﴿شَكٌّ﴾ وريب، وكيف يتصور ذلك لا شك في وجوده ووحدانيته؛ لأن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فالاعتراف به ضروري لدى كل ذي رأي حصيف كما جاء في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام فيه للإنكار المضمن للتوبيخ والتقريع؛ أي: أفي وحدانيته سبحانه شك، وهي في غاية الوضوح والجلاء، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الأدلة الموصلة إلى ذلك، ومن ثم ذكرت الرسل بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه وتعالى ووحدانيته، فقالوا: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم؛ أي: هو سبحانه الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه
(٢) البحر المحيط.
والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم (٢)، يرى أن كل موضعٍ ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ ﴿من﴾، كقوله: ﴿وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾، وقوله: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾؛ لأنه يخاطبهم في أمر الإيمان وحده.
وفي المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجيء بدون ذكر ﴿مِنْ﴾، كقوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾؛ لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها. ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾؛ أي: يؤخر موتكم ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معين عند الله تعالى؛ أي: إلى وقت سماه الله وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد، وإخلاص العبادة للواحد القهار.
ثم حكى الله سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل، وهو يتضمن ثلاثة أشياء:
١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الأمم مجيبين للرسل ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾؛ أي: ما أنتم
(٢) المراغي.
٢ - ﴿تُرِيدُونَ﴾ أيها المدعون بالرسالة ﴿أَنْ تَصُدُّونَا﴾؛ أي: أن تصرفونا بتخصيص العبادة باللهِ ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: عن عباد ما استمر آباؤنا على عبادته؛ وهو الأصنام من غير شيء يوجبه لا حجة لكم على ما تدعون، وليس من حصافة العقل أن تترك أمرًا قبل أن يقوم الدليل على خطئه. وقرأ طلحة شاذًا (١): ﴿أَنْ تَصُدُّونَا﴾ بتشديد النون جعل أن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلا بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، ولكنه هنا لم يعملها، بل ألغاها كما ألغاها من قرأ شذوذًا أيضًا: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ برفع ﴿يتم﴾ حملًا على ﴿ما﴾ المصدرية أختها.
﴿فَأْتُونَا﴾ أي: إن لم يكن (٢) الأمر كما قلنا، بل كنتم رسلًا من جهة الله كما تدعونه فأتونا ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: ببرهان ظاهر وحجة واضحة تدل على صدقكم وفضلكم، واستحقاقكم لتلك الرتبة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبًا عن جد، كأنهم لم يعتبروا ما جاءت به رسلهم من الحجج والبينات، واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتًا ولجاجًا.
فكأنهم قالوا: أما ذكر السماوات والأرض وعجائبهما (٣)، فلسنا نحفل بهما، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتي
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١١ - وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة.. حكى عن الأنبياء جوابهم عنها، فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة؛ لأن هذا منصب يمنُّ الله به على من يشاء من عباده، كما لا يمنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وأن يحرم الجمع العظيم منه، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ زاد (١) لفظ ﴿لَهُمْ﴾ هنا لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك في الله، فإن ذلك عام، وإن اختص بهم ما يعقبه؛ أي: قالوا لهم معترفين بالبشرية ومشيرين إلى منة الله عليهم ﴿إِنْ نَحْنُ﴾؛ أي: ما نحن ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: إلا آدميون مثلكم كما تقولون لا ننكره ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه تعالى ﴿يَمُنُّ﴾؛ أي: يتفضل بالنبوة والوحي ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ ويصطفي من يشاء منهم لهذا المنصب العظيم الشريف. وفيه (٢) دلالة على أن النبوة عطائية كالسلطنة، لا كسبية كالولاية والوزارة.
وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا، وما اقترحتموه من الآيات، فأمره إلى الله إن شاء أظهره، وهو زائد على قدر الكفاية، وذلك ما أومؤوا إليه بقولهم: ﴿وَمَا كَانَ﴾؛ أي: وما صح وما استقام ﴿لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ﴾؛ أي: بحجة من الحجج فضلًا عن السلطان البين، ولا بشيء من الأشياء، ولا سبب من الأسباب ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته، فإنه أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى إن شاء كان، وإلا فلا، تلخيصه إنما نحن عبيد مربوبون، وليس ذلك في قدرتنا.
(٢) روح البيان.
١٢ - ولهذا قالوا: ﴿وَمَا لَنَا﴾؛ أي: وأي عذر ثبت لنا في ﴿أَلَّا نَتَوَكَّلَ﴾ ونعتمد ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى في دفع شروركم عنا ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾؛ أي: والحال أنه تعالى أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين، وهو موجب للتوكل عليه ومستدع له. وقرأ الجمهور: ﴿سُبُلَنَا﴾ بضم السين والباء وقرأ أبو عمرو بسكون الباء.
والمعنى: أي: وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة، وأوجب علينا سلوك طريقها، وأرشدنا إلى طريق النجاة، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها.
ولمَّا كانت أذية الكفار مما يوجب الاضطراب القادح في التوكل.. قالوا على سبيل التوكيد القسمين مظهرين لكمال العزيمة ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ﴾؛ أي: ونقسم لكم بالله تعالى لنصبرن ﴿عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾ في أبداننا وأعراضنا، أو بالتكذيب، ورد الدعوة والإعراض عن الله والعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه،
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
فإن قلت (٢): كيف كرر الأمر بالتوكل، وهل من فرق بين التوكلين؟
قلت: نعم، التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل، والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته، فحصل الفرق بين التوكلين.
والمعنى (٣): فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل المسبب عن الإيمان، فالأول لإحداث التوكل، والثاني للثبات عليه، فلا تكرار. وقيل معنى الأول: إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، ومعنى الثاني: إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. اهـ. "شوكاني".
والتوكل تفويض الأمر إلى من يملك الأمور كلها، وقالوا: المتوكل من إن
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
فائدة: ومن لطائف هذه الآية الكريمة (١): ما روى المستغفري عن أبي ذر رفعه "إذا آذاك البرغوث فخذ قدحًا من ماء، واقرأ عليه سبع مرات: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ...﴾ الآية، ثم قل: إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا سبع مرات على الماء، ثم رشه حول فراشك، فإنك تبيت آمنًا من شرهم". وقال بعضهم: إن مما أخذ الله على الكلب إذا قرئ عليه: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ لم يؤذ، ومما أخذ الله على العقرب أنه إذا قرئ عليها: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ لم تؤذ، وكذلك الحية.
الإعراب
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)﴾.
﴿الر﴾: على القول بأنه اسم للسورة: إما مبتدأ خبره محذوف تقديره: الر هذا محله، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الر، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: إقرأ الر، أو مفعول لاسم فعل محذوف تقديره: هاك الر؛ لأنه من قبيل أسماء التراجم، وإن قلنا: إنه من قبيل الأعداد المسرودة فلا محل له من الإعراب. ﴿كِتَابٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا القرآن الذي أنزل عليك يا محمد كتاب أنزلناه إليك، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿لِتُخْرِجَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره:
﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢)﴾.
﴿اللَّهِ﴾: بالجر: بدل من ﴿الْعَزِيزِ﴾ بدل كل من كل على القاعدة (١): إن نعت المعرفة إذا تقدم على المنعوت يعرب بحسب العوامل، ويعرب المنعوت بدلًا، أو عطف بيان، والأصل: إلى صراط الله العزيز الحميد.. الخ، فالصفات ثلاثة تقدم منها ثنتان، وبقيت الثالثة مؤخرة. اهـ. شيخنا. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَوَيْلٌ﴾: مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الدعاء. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: خبره. ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾: في موضع رفع صفة لـ ﴿وَيْلٌ﴾ بعد الخبر، وهو جائز، ولا يجوز (٢) أن يتعلق بـ ﴿وَيْلٌ﴾ من أجل الفصل بينهما بالخبر. وقال أبو السعود: ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ تعلق بـ ﴿وَيْلٌ﴾ على معنى يولون ويضجون منه قائلين: يا ويلاه كقوله: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾. اهـ. كما مر، والجملة الاسمية جملة دعائية لا محل لها من الإعراب.
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣)﴾.
(٢) العكبري.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ﴿رَسُولٍ﴾؛ أي: إلا حالة كونه متكلمًا بلغة قومه. ﴿لِيُبَيِّنَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يُبَيِّنَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَسُولٍ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: لتبيينه لهم.
﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
(٢) الفتوحات.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿مُوسَى﴾: أي حالة كونه متلبسًا بآياتنا، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة. ﴿أَنْ﴾ مصدرية. ﴿أَخْرِجْ﴾: فعل أمر في محل نصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿قَوْمَكَ﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾: جاران ومجروران متعلقان بـ ﴿أَخْرِجْ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا بإخراج قومك من الظلمات، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، وهذه المقدرة للتعدية، والباء في بآياتنا للحال، فلا اتحاد في المعنى، ويجوز أن تكون ﴿أَنْ﴾ مفسرة؛ لأن الضابط موجود، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، و ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فيه معنى قلنا. ﴿وَذَكِّرْهُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿أَخْرِجْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ذكر﴾. ﴿إِنَّ﴾:
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾: (الواو) استئنافية. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل. ﴿لِقَوْمِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾؛ لأنه بمعنى إنعام الله عليكم، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ بالمعنى المذكور، أو بدل اشتمال منها كذلك اهـ. "بيضاوي". ﴿أَنْجَاكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَنْجَاكُمْ﴾.
﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾.
﴿يَسُومُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾، أو حال من ضمير المخاطبين. ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب معطوف على ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾: وكذا ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف أيضًا على ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾. ﴿وَفِي ذَلِكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿بَلَاءٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: صفة أولى لـ ﴿بَلَاءٌ﴾. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ثانية، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَإِذْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، والتقدير: واذكر إذ قال موسى لقومه: اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا إذ تأذن ربكم، أو معطوف على ﴿إِذْ أَنْجَاكُمْ﴾، تقديره: اذكروا نعمة الله عليكم حين أنجاكم وحين تأذن ربكم. ﴿تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه ﴿إذ﴾. ﴿لَئِنْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿شَكَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾: (اللام): موطئة للقسم مؤكدة للأولى. ﴿أَزِيدَنَّكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وإذ تأذن ربكم، وقال: لئن شكرتم.. الخ، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن شكرتم أزدكم، وجملة الشرط معترضة لاعتراضها بين القسم وجوابه لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَئِنْ﴾: (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كَفَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده تقديره: لأعذبنكم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأول على كونها مقولًا لقول محذوف، وجواب الشرط محذوف أيضًا تقديره: إن كفرتم أعذبكم، وجملة الشرط معترضة أيضًا. ﴿إِنَّ عَذَابِي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَشَدِيدٌ﴾: خبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لعليل الجواب المحذوف.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)﴾.
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ تَكْفُرُوا﴾ إلى الآخر: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا﴾: جازم وفعل وفاعل. ﴿أَنْتُمْ﴾: تأكيد لضمير الفاعل؛ ليعطف عليه ما بعده. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول في محل
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعل ومضاف إليه مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة الموصول. ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾: بدل من الموصول بدل تفصيل من مجمل. ﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾: معطوفان على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف أيضًا على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور صلته. ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الَّذِينَ﴾، أو من الضمير المستكن في ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ لوقوعه صلة. ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: حال من ﴿رُسُلُهُمْ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: وما خبرهم؛ أي: ما قصتهم وما شأنهم؟ فقيل: جاءتهم رسلهم.. إلخ، وهذه الجملة في المعنى تفسير لـ ﴿نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾. ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿جَاءَتْهُمْ﴾. ﴿فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿رَدُّوا﴾. ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿رَدُّوا﴾. ﴿إِنَّا كَفَرْنَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كَفَرْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول قال. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَفَرْنَا﴾. ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل.
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلهم؟ فأجيب بأنهم: قالوا.. الخ. ﴿أَفِي اللَّهِ﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري. ﴿فِي اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿شَكٌّ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول قال. وفي "السمين": يجوز في ﴿شَكٌّ﴾ وجهان:
أظهرهما: أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.
والثاني: أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور قبله، والأول أولى؛ لأنه يلزم على الثاني الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو المبتدأ بخلاف الأول، فإن الفاصل ليس أجنبيًّا؛ إذ هو فاعل، والفاعل كالجزء من رافعه. ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ﴾: صفة للجلالة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾.
﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾.
﴿يَدْعُوكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من الجلالة. ﴿لِيَغْفِرَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يغفر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿ذُنُوبِكُمْ﴾: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لغفرانه لكم ذنوبكم. ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَغْفِرَ لَكُمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤَخِّرَكُمْ﴾. ﴿مُسَمًّى﴾: صفة لـ ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت:
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماضٍ. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿رُسُلُهُمْ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ إلى قوله ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَتْ﴾: وإن شئت قلت: ﴿إن﴾: نافية. ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بَشَرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِثْلُكُمْ﴾: صفة لـ ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿لَكِنَّ﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يَمُنُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿عَلَى مَنْ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿يَمُنُّ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾ وجملة ﴿لَكِنَّ﴾: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير على يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: على من يشاءه. ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف.
﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿أَنْ نَأْتِيَكُمْ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرسل. ﴿بِسُلْطَانٍ﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ تقديره: وما كان الإتيان إياكم بلسطان كائنًا لنا، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِإِذْنِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿نَأْتِيَكُمْ﴾ تقديره: وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا حالة كوننا ملتبسين بإذن الله. ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ (الفاء): زائدة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلنا لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فنقول لكم ﴿ليَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، (اللام): لام الأمر. ﴿يتوكل المؤمنون﴾: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾.
﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)﴾.
﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور خبره، والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها على كونها مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نَتَوَكَّلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على الرسل. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: في عدم توكلنا على الله، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿وَقَدْ﴾: (الواو): حالية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿هَدَانَا سُبُلَنَا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة في محل النصب حال من الجلالة؛ أي: حالة كونه هاديًا إيانا سبلنا، ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ﴾: (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. ﴿نَصْبِرَنَّ﴾: فعل مضارع مبني على
التصريف ومفردات اللغة
﴿الظُّلُمَاتِ﴾ الضلالات، والنور: الهدى، فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات: وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور: وهو لفظ مفرد، وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة، وأما طرق العلم والإيمان فليس إلا واحدًا. اهـ. "خازن".
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: بتيسيره وتوفيقه.
﴿الْعَزِيزِ﴾ الغالب الذي لا يغالب. ﴿الْحَمِيدِ﴾ المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلًا، وبحمد عباده له أبدًا.
﴿وَوَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك ودمار، والويل: نقيض الوأل؛ وهو؛ أي: الوأل: النجاة اهـ. "أبو السعود". وقوله: وهو نقيض الوأل بالهمز، وفي "المختار: الموئل الملجأ، وقد وأل إليه إذا لجأ، وبابه وعد، ووؤلًا بوزن وجود. اهـ. ثم قال: والويل واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال.. لا نماعت من حره. اهـ. وقيل: الويل هنا بمعنى التأوه.
﴿يَسْتَحِبُّونَ﴾: من الاستحباب: وهو استفعال من المحبة، والمعنى: يختارون الحياة الدنيا.
﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾: دينه الذي ارتضاه لعباده. ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾؛ أي: يطلبون لها عوجًا؛ أي: زيغًا واعوجاجًا، والعوج.. بكسر العين في المعاني، وبفتحها في الأعيان.
﴿يَسُومُونَكُمْ﴾؛ أي: يذيقونكم ويكلفونكم. وفي "بحر العلوم": ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ من سام السلعة إذا طلبها، والمعنى: يذيقونكم أو يبغونكم شدة العذاب، ويريدونكم عليه، والسوء مصدر ساء يسوء: وهو اسم جامع للآفات كما في "التبيان"، والمراد: جنس العذاب السيء، أو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، والاستهانة بهم وغير ذلك مما لا يحصر.
﴿بَلَاءٌ﴾؛ أي: ابتلاء واختبار.
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: آذن وأعلم، وتأذن بمعنى آذن، كوعد بمعنى أوعد، غير أنه أبلغ؛ لما في التفعل من التكلف والمبالغة. اهـ. "بيضاوي".
﴿إِنَّا كَفَرْنَا﴾ إن مخففة من الثقيلة، وأدغمت نونها في نون نا الذي هو اسمها، ويصح أن تكون المشددة، فلما اتصلت، بنون الضمير اجتمع ثلاثة أمثال، فحذفت واحدة منهن لتوالي الأمثال، والمحذوف إما الثانية من نوني إن المشددة، وإما نون الضمير، وكذا يقال في قوله: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ﴾.
﴿مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل، فهو مسند لواو الجماعة، ونا مفعول به، وهذا بخلاف ما في سورة هود من قوله: ﴿مِمَّا تَدْعُونَنَا﴾ فإن ذلك مسند لمفرد: وهو ضمير صالح عليه السلام، فهو مرفوع بضمة مقدرة على الواو، منع من ظهورها الثقل، والفاعل ضمير يعود على صالح تقديره: أنت، ونا: مفعول به اهـ. شيخنا.
﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موقع في الريبة، وهي اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر، يقال: أربته إذا فعلت أمرًا أوجب ريبةً وشكًّا.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ حيث استعار الظلمات للكفر والضلال بجامع عدم الاهتداء إلى المقصود، واستعار النور للهدى والإيمان بجامع الاهتداء إلى المقصود. وفي قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ حيث استعار السبيل الذي هو محل المرور لدين الله بجامع الاهتداء إلى المقصود.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ حيث وصف الضلال بالبعد للمبالغة؛ لأن البعد من صفات الضال، فهو نظير قولهم جد جده، وداهية دهياء، ويجوز أن يكون المعنى: في ضلال ذي بعد، أو فيه بعد، فإن الضال قد يضل عن الطريق مكانًا قريبًا، وقد يضل بعيدًا، وفي جعل الضلال محيطًا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ﴾، وفي قوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿يضل﴾ و ﴿يهدي﴾، وبين ﴿شَكَرْتُمْ﴾ و ﴿كَفَرْتُمْ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ﴾؛ لأن فيه التفاتًا عن التكلم إلى الغيبة، فكان حق العبارة: فنضل من نشاء.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾؛ لأن المراد بأيام الله نعمه، ووجهه أن العرب تتجوز بنسبة الحدث إلى الزمان مجازًا، فتضيفه إليه كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم، ومكر الليل.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾؛ لأن إضافة الصراط إلى العزيز؛ وهو الله على سبيل التعظيم له، والمراد به دين الإِسلام، فإنه طريق موصل إلى الجنة والقوية والوصلة.
﴿وَمِنْهَا﴾: التخصيص بعد التعميم في قوله: ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾؛ لأنه داخل في سوء العذاب.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأنه شبه ترك قتلهن بالإحياء بجامع الإبقاء في كل.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾؛ لأنها كناية عن تعذيبهم.
ومنها: استعمال اللفظ العام في المعنى الخاص في قوله: ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾؛ لأن لفظ اللسان يستعمل بمعنى العضو، وبمعنى اللغة، والمراد هنا هو المعنى الثاني؛ أي: بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم.
ومنها: الاستفهام الحريري في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ﴾؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: قالوا لهم.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ﴾ عن الغيبة إلى التكلم كما في "الفتوحات".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) ما دار من الحوار والجدل بين
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ما سيلاقيه الكافرون في هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها.. بين هنا أن ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح في يوم عاصفٍ، فذهبت به في كل ناحية، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئًا، ثم بين أن ذلك اليوم آتٍ لا ريب فيه، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتي بخلق سواهم، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه.
قوله تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يلقاه الأشقياء في ذلك اليوم من العذاب، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت في الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئًا.. ذكر هنا محاورةً بين الأتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين، وما يحدث في ذلك الوقت من الخجل لهم، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ في بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ...﴾ الآية، مناسبة (٢) هذه الآية
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما (١) بين الله سبحانه وتعالى حال الأشقياء ومآل أمرهم، وما يلاقونه من الشدائد والأهوال في نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصًا، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من الفوز عند ربهم.. ضرب لذلك مثلًا يبين حال الفريقين، ويوضح الفرق بين الفئتين، وبه ألبس المعنويات لباس الحسيات؛ ليكون أوقع في النفس وأتم لدى العقل، والأمثال عند العرب هي المهيع المسلوك والطريق المتبع لإيضاح المعاني إذا أريد تثبيتها لدى السامعين، والقرآن الكريم مليء بها، والسنة النبوية جرت على منهاجه، فكثيرًا ما تتبع المسائل الهامة بضرب الأمثال لها؛ لتستقر في النفوس وتنقش في الصدور.
التفسير وأوجه القراءة
١٣ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: الغالون في الكفر ﴿لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا﴾؛ أي: من مدينتنا وديارنا ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ عاد هنا بمعنى (٢): صار، والظرف خبره؛ أي: لتصيرن داخلين في ملتنا، فإن الرسل لم يكونوا في ملتهم قط إلا أنهم لما لم يظهروا المخالفة لهم قبل الاصطفاء.. اعتقدوا أنهم على ملتهم، فقالوا ما قالوا على سبيل التوهم، أو بمعنى رجع، والظرف صلة، والخطاب لكل رسول ومن آمن به، فغلَّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد؛ أي: لتدخُلن في ديننا وترجعن إلى ملتنا.
وفي "الخازن": فإن قلت: هذا (٣) يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها؟
قلت: معاذ الله، ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
وهذا كله تسلية للنبي - ﷺ -؛ ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام. والمعنى: أي (١): وقال الذين كفروا باللهِ لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان: لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من الآية، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا﴾.. الآية، وكما قال قوم لوط: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾.. الآية. وقال إخبارًا عن مشركي قريش: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
وخلاصة هذا: ليكونن أحد الأمرين لا محالة: إما إخراجكم، وإما صيرورتكم في ملتنا ملة الآباء والأجداد، وهي عبادة الآلهة والأوثان، وقد مكن لهم في ذلك أنهم كانوا كثرة، وكان أهل الحق قلة كما جرت بذلك العادة في كل زمان ومكان، فإن الظلمة يكونون متعاونين متعاضدين، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق، كما هو شأن المعتز بقوته الذي لا يخشى اعتراضًا ولا خلافًا.
والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا في ملتهم، ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم، لكنهم لما نشؤوا بين ظهرانيم، وكانوا من أهل تلك البلاد، ولم يظهروا في أول أمرهم مخالفة لهم.. ظنوا أنم كانوا على دينهم، أو يكنون (٢) المعنى في عودهم إلى ملتهم: سكوتهم عنهم وكونهم أغفالًا عنهم لا يطالبونهم بالإيمان باللهِ وما جاءت به الرسل.
(٢) البحر المحيط.
١٤ - وجاء في قوله: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ﴾ بضمير الخطاب تشريفًا لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل، والعودة في ملتهم.. أقسم تعالى على إهلاكهم، وأيُّ إخراج أعظم من الإهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدًا، وأقسم أيضًا على إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل.
والمعنى (٣): أي فأوحى الله تعالى إلى رسله قائلًا لهم: لنهلكن من تناهى في الظلم من المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبةً لهم على قولهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا﴾. وفي ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه، كما صبر من كان قبله من الرسل، وبيان بأن عاقبة من كفر به الهلاك، وعاقبته النصر عليهم، كما قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾، وقال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ الإسكان ﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾؛ أي (٤): خاف مقامي بين يدي يوم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) الخازن.
والمعنى: أي (٢) هكذا أفعل بمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخاف وعيدي، فاتقاني بطاعتي وتجنب سخطي، أنصره على من أراد سوءًا وبقي به مكروهًا من أعدائي، وأورثه أرضه ودياره، وأثبت الياء (٣) هنا وفي "ق" في موضعين: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾، ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ وصلًا، وحذفها وقفًا ورش عن نافع، وحذفها الباقون وصلًا ووقفًا اهـ. "سمين".
١٥ - ثم بين أن كلًّا من الفريقين - الأمم والرسل - طلبوا المعونة والتأييد من ربهم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾؛ أي: واستفتحت الرسل على أممها؛ أي: استنصرت الله عليها واستفتحت الأمم على أنفسها، كما قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فهو معطوف (٤) على ﴿فَأَوْحَى﴾. والضمير: إما للرسل؛ أي: استنصروا الله وسألوه الفتح والنصرة على أعدائهم، أو للكفار وذلك أنهم (٥) لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا عليهم بالعذاب اهـ. "خازن". والعامة على أن يكون ﴿اسْتَفْتَحُوا﴾ فعلًا ماضيًا، وفي ضميره أقوال:
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
(٤) روح البيان.
(٥) الفتوحات.
الثاني: أن يعود على الكفار؛ أي: استفتح أمم الرسل عليهم، كقوله ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾. وقيل: عائد على الفريقين؛ لأن كلًّا طلب النصر على صاحبه. وقيل: يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف، وأما على غيره من الأقوال، فهو عطف على قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن؛ واستفتحوا بكسر التاء الثانية على لفظ الأمر أمرًا للرسل بطلب النصرة، وهي مقوية لعوده في المشهور على الرسل، والتقدير: قال لهم لنهلكن، وقال لهم استفتحوا. اهـ. "سمين".
ثم ذكر مآل المشركين وبين أن النصر للمتقين، فقال: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾؛ أي: وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه، فهو معطوف (١) على محذوف تقديره: واستفتحوا فنصروا عند استفتاحهم، وظفروا بما سألوا، وأفلحوا وخاب وخسر وهلك عند نزول العذاب قومهم الجبارون المعاندون، والجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا، والعنيد: المعاند للحق والمجانب له.
وإنما قيل: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ ذمًّا لهم وتسجيلًا عليهم بالتجبر والعناد، لا أن بعضهم ليسوا كذلك، وأنه لم تصبهم الخيبة.
١٦ - وقوله: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ جملة في محل جر صفة لـ ﴿جَبَّارٍ﴾، ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و ﴿جَهَنَّمُ﴾ فاعل به؛ أي: من وراء (٢) ذلك الجبار العنيد؛ أي: قدامه وأمامه جهنم؛ أي: هي له بالمرصاد تنتظره ليسكنها مخلدًا فيها أبدًا، ويعرض عليها في الدنيا غدوًا وعشيًّا إلى يوم التناد، وهذا (٣) وصف حال كل جبار عنيد،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
١٧ - ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب، فقال: ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه؛ أي: يتحساه ويشربه مرة بعد مرة لا بمرة واحدة، بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾؛ أي: لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلًا عن الإساغة، بل يغص به ولا يقدر على ابتلاعه من شدة كراهته ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، كما قال: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾، وقالا: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾.
وعن أبي أمامة (٢) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - في قوله تعالى: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ﴾ قال: "يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شعر به قطع أمعاءه حتى تخرج عن دبره،
(٢) الخازن.
﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾؛ أي: وتأتيه (١) أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع من مواضع بدنه حتى من أصول شعره، وإبهام رجله. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتًا لشدتها. ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾؛ أي: والحال أنه ليس بميت حقيقة فيستريح. وقيل: تعلق نفسه في حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله تعالى: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾.
والمعنى: أي وتحيط (٢) به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات، من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت لكنه لا يموت كما قال تعالى: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾.
ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ﴾؛ أي: ومن وراء ذلك الصديد؛ أي: من أمامه أو من بعده ﴿عذَابٌ غَلِيظٌ﴾؛ أي: عذاب شديد؛ أي: وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ؛ أي: مؤلم أغلظ من الذي قبله، وأمر لا يعرف كنهه؛ أي: يستقبل كل وقت عذابًا أشد وأشق مما كان قبله، كما قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤)﴾ ففي قوله: ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ رفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد، كما في عذاب الدنيا. وقيل: الضمير يعود إلى ﴿كُلُّ جَبَّارٍ﴾.
والمعنى (٣): أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب شديد أشد مما هو عليه لا
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
١٨ - ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: صفتهم وحالهم العجيبة الشأن التي هي كالمثل في الغرابة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ كقولك صفة زيد ماله منهوب، أو خبره محذوف؛ أي: فيما يتلى عليكم مثلهم. وقوله: ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ جملة مستأنفة مبنية على سؤال من يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد؛ أي: صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم وإعتاق رقاب وفداء أسير وقرى ضيف وبر والد وإغاثة ملهوف ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ﴾؛ أي: ذرت ﴿بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ ريحه؛ أي: شديد الريح، فحذف الريح ووصف اليوم بالعصوف مجازًا، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكنة، وإنما السكون لريحها. وقرأ نافع وأبو جعفر: ﴿الرياح﴾ بالجمع، والجمهور بالإفراد. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن شذوذًا: ﴿في يومِ عاصفٍ﴾ على إضافة يوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف ذكره في "البحر".
والمعنى (١): أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها في الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به في يوم عاصف، فنسفته ولم تبق له أثرًا، فهم يوم القيامة لا يجدون شيئًا ينفعهم عند الله تعالى فينجيهم من عذابه؛ إذ لم يكونوا يعملونها لله خالصة، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان.
ثم أكد نفي فائدتها لهم إذ ذاك، فقال: ﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ يوم القيامة ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ وعملوا في الدنيا من أعمال الخير ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ ما؛ أي (٢): لا يجدون يوم القيامة أثرًا مما عملوا في الدنيا من ثواب، أو تخفيف عذاب، كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح، وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان. ونحو الآية: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، وقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي
(٢) المراح.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور الذي (١) دلّ عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم؛ أي: كفرهم وأعمالهم المبنية عليه، وعلى التفاخر والرياء مع حسبانهم محسنين، وهو جهل مركب وداء عضال، حيث زين لهم سوء أعمالهم، فلا يستغفرون منها ولا يتوبون بخلاف عصاة المؤمنين، ولذا قال: ﴿هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ صاحبه عن طريق الحق والصواب بمراحل، أو نيل الثواب، فأسند البعد الذي هو من أحوال الضال إلى الضلال الذي هو فعله مجازًا مبالغة؛ أي: ذلك (٢) السعي والعمل على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب.
والمعنى: ذلك المذكور من عملهم هو الضياع البعيد عن نيل الثواب والخسران الكبير.
شبه الله سبحانه وتعالى صنائع الكفار (٣) - من الصدقة وصلة الرحم وعتق الرقاب وفك الأسير، وإغاثة الملهوفين وإطعام الجائع وعقر الإبل للأضياف ونحو ذلك مما هو من باب المكارم - في حبوطها وذهابها هباءً منثورًا، لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان وكونها لوجهه، برماد طيرته الريح العاصف، فكما لا ينتفع بذلك الرماد المطير، كذلك لا ينتفع بالأعمال المقرونة بالكفر والشرك، ففيه رد أعمال الكفار وأعمال أهل الأهواء والبدع؛ لاعتقادهم السوء، فدل على أنَّ الأعمال مبنية على الإيمان، وهو على الإخلاص، وورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه؛ لأنه لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٢٠ - ﴿وَمَا ذَلِكَ﴾؛ أي: إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم ﴿عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: بمتعذر أو متعسر، بل هو هين عليه يسير، فإنه قادر لذاته على جميع الممكنات، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ومن هذا شأنه حقيق أن يؤمن به ويعبد ويرجى ثوابه ويخشى عقابه، والآية تدل على كمال قدرته تعالى وصبوريته، حيث لا يؤاخذ العصاة على العجلة.
وفي "الصحيحين": "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله! إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم". ثم إن (٢) تأخير العقوبة يتضمن حكمًا، منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر، فعلى العاقل أن يخشى الله تعالى على كل حال، فإنه ذو القهر والكبرياء والجلال.
والمعنى: ألم (٣) تعلم أيها الرسول الكريم أن الله سبحانه وتعالى أنشأ السماوات والأرض بالحكمة البالغة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ولم يخلقهما عبثًا ولا باطلًا، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير.. فهو قادر على أن يفنيكم ويأتي بخلق جديد سواكم، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه. ومثل الآية قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٢١ - ﴿وَبَرَزُوا﴾؛ أي: برزت الخلائق كلها برها وفاجرها ﴿لِلَّهِ﴾ الواحد القهار حالة كونهم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين في براز من الأرض وصعيد واحد، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدًا؛ أي: خرج الموتى من قبورهم يوم القيامة واجتمعوا في أرض المحشر للقاء الله ومحاسبته على أعمالهم عند النفخة الثانية حين تنتهي مدة لبثهم في بطن الأرض. وقرأ زيد بن علي في الشاذ (٢): ﴿وبُرِّزوا﴾ - مبنيًّا للمفعول وبتشديد الراء - من برز المضعف.
﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ في الرأي وهم السفلة ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن عبادة الله وهم أكابرهم ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿لَكُمْ تَبَعًا﴾ في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم؛ أي: فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى وحده وعن اتباع الرسل، وصدوا عنهما: إنا كنا تابعين لكم في الدنيا تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فننتهي ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا﴾؛ أي: دافعون عنا في هذا اليوم ﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: بعض شيء من عذاب الله، فـ ﴿مِنْ﴾ (٣) الأولى للبيان واقعة موقع الحال قدمت على صاحبها؛ لكونه نكرة، والثانية
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
ويجوز أن تكونا للتبعيض؛ أي: بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى، والإعراب ما سبق. ويحتمل أن تكون الأولى مفعولًا والثانية مصدر؛ أي: فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء، والفاء للدلالة على سببية الإتباع للإغناء. والاستفهام فيه (١) للتوبيخ لهم والعتاب على استغوائهم؛ لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم؛ أي: فهل تدفعون عنا اليوم شيئًا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا في الدنيا. وقد حكى الله تعالى رد أولئك السادة عليهم بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: المستكبرون جوابًا عن معاتبة الأتباع، واعتذارًا عما فعلوا بهم: يا قوم ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ إلى الإيمان ووفقنا له ﴿لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ إلى طريق الرشاد، ولكن ضللنا فأضللناكم؛ أي: اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا؛ أي (٢): لو أرشدنا الله تعالى وأضاء لنا أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته لأرشدناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم.
والخلاصة: أي لو خلصنا الله من العقاب، وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة، ودفعنا عنكم بعض العذاب، ولكن سد الله عنا طريق الخلاص. ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا﴾ العذاب ﴿أَجَزِعْنَا﴾؛ أي: أصحنا وتضرعنا مما لقينا ﴿أَمْ صَبَرْنَا﴾ على ذلك؛ أي: الصياح، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء؛ أي: سواء (٣) علينا أجزعنا في طلب النجاة من ورطة الهلاك والعذاب، والجزع عدم الصبر على البلاء، أم صبرنا على ما لقينا انتظارًا للرحمة؛ أي: مستو علينا الجزع والصبر في عدم الإنجاء، ففيه إقناط الضعفاء، والهمزة وأم لتأكيد التسوية ونحوه: ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وخلاصة ذلك (١): سيان الجزع والصبر، فلا نجاة لنا من عذاب الله، ومثل هذه الآية قوله: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨)﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)﴾.
٢٢ - ولما ذكر سبحانه وتعالى المناظرة التي ستكون بين الأتباع والرؤساء.. أردفها بالمناظرة التي ستكون بين الشيطان وأتباعه؛ فقال: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ﴾ الذي أضل الضعفاء والمستكبرين؛ أي: يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبًا في محفل الأشقياء من الثقلين ﴿لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: حين أحكم وفرغ من أمر الخلائق بالحساب والمجازاة بأن استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وقد قالوا له: اشفع لنا، فإنك أضللتنا؛ أي: قال: إبليس مخاطبًا أتباعه من الإنس بعد أن حكم الله بين عباده، فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَعَدَكُمْ﴾ على ألسنة رسله ﴿وَعْدَ الْحَقِّ﴾ والصدق بالبعث وجزاء كل عامل على عمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ووعده حق وخبره صدق، فصدق في وعده إياكم، فوفى لكم بما وعدكم به ﴿وَوَعَدْتُكُمْ﴾ وعد الباطل بأن لا بعث ولا جزاء ولا جنة ولا نار، ولئن كانا فالأصنام شفعاؤكم، ولم يصرح ببطلانه لما دل عليه قوله: ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ موعدي، فحذف المفعول الثاني؛ أي: نقضته، والإخلاف (٢) حقيقة هو عدم إنجاز من يقدر على إنجاز وعده، وليس الشيطان كذلك، فقوله: ﴿أَخْلَفْتُكُمْ﴾ يكون مجازًا جعل
(٢) روح البيان.
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: تسلط وقهر فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، وأجبركم عليهما؛ أي: وما كان لي قوة وتسلط تجعلني ألجئكم إلى متابعتي على الكفر والمعاصي ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾؛ أي: إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي ﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾؛ أي: أجبتموني؛ أي (١): ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني أسرعتم إلى إجابتي واتبعتم شهوات النفوس وأطعتم الهوى، وخضتم في مسالك الردى. قال في (٢) "بحر العلوم": لقائل أن يقول: قول الشيطان هذا مخالف؛ أي: معارض لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾، فما حكم قول الشيطان أحق هو أم باطل على أنه لا طائل تحته في النطق بالباطل في ذلك المقام انتهى. يقول الفقير: جوابه بأنه يجمع بينهما بأن نفي السلطان بمعنى القهر والغلبة لا ينافي إثباته بمعنى الدعوة والتزيين، فالشيطان ليس له سلطان بالمعنى الأول على المؤمنين والكافرين جميعًا، وله سلطان بالمعنى الثاني على الكفار فقط كما دل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ وأما المؤمنون وهم أولياء الله، فيتولون الله بالطاعة، فهم خارجون عن دائرة الإتباع بوسوسته.
والخلاصة: أن السلطان المنفي هنا هو بمعنى القهر والغلبة، والمثبت هو السلطان بمعنى الوسوسة والتزيين. ﴿فَلَا تَلُومُونِي﴾؛ أي: ولا تعاتبوني فيما وعدتكم بالباطل حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والقهر؛ لأني خلقت لهذا، ولأني عدو مبين لكم، وقد حذركم الله عداوتي حيث قال: ﴿لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾
(٢) روح البيان.
﴿إِنِّي كَفَرْتُ﴾ اليوم ﴿بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ﴾؛ أي: بإشراككم إياي مع الله في الطاعة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذا اليوم؛ أي: في الدنيا بمعنى: تبرأت منه واستنكرته؛ أي: إني جحدت اليوم أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم؛ أي: في الدنيا، وهذا كقوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾. قال في الإرشاد (٣): يعني إن إشراككم لي باللهِ هو الذي يطمعكم في نصرتي لكم بأن كان لكم علي حق حيث جعلتموني معبودًا، وكنت أود ذلك وأرغب فيه، فاليوم كفرت بذلك ولم أحمده ولم أقبله منكم، بل تبرأت منه ومنكم، فلم يبق بيني وبينكم علاقة. وقوله: ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من تمام (٤) كلام إبليس
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح والمراغي.
ولما جمع سبحانه فريقي السعداء والأشقياء في قوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ وبالغ في وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة.. ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم في ذلك اليوم، فقال: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا الله ورسوله، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: عملوا بطاعته، فانتهوا إلى أمره ونهيه، والمدخلون هم الملائكة؛ أي: وأدخلت الملائكة الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾؛ أي بساتين تسيل من تحت أشجارها وقصورها الأنهار الأربعة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين فيها أبدًا لا يتحولون عنها ولا يزولون منها ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أُدْخِلَ﴾؛ أي: ادخلوها بإذن ربهم؛ أي: أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم وإذنه وتوفيقه ولطفه وهدايته، هذا على قراءة الجمهور؛ لأنهم قرؤوا:
٢٣ - ﴿وَأُدْخِلَ﴾ على البناء للمفعول. وقرأ الحسن شاذًا: ﴿وأُدخِلُ﴾ على صيغة المتكلم والبناء للفاعل؛ أي: وأنا أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعلى هذه القراءة فقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾؛ أي: تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم تعظيمًا لشأنهم وعناية بأمرهم.
﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ التحية (١): دعاء بالتعمير، وإضافتها إلى الضمير من إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: تحييهم الملائكة في الجنات بالسلام من
٢٤ - ولما شرح الله سبحانه وتعالى أحوال الأشقياء وأحوال السعداء (١).. ضرب مثلًا فيه حكم هذين القسمين، فقال جلّ وعلا: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد وتنظر بعين قلبك، فتعلم (٢) علم يقين بإعلامي إياك، فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب فيه للنبي - ﷺ -، ويدخل معه غيره، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، فيكون المعنى: ألم تر أيها الإنسان ﴿كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾؛ أي: كيف جعل الله تعالى كلمة طيبة - وهي لا إله إلا الله - مثلًا.
وقيل (٣): هي كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة إلى الله قاله الزمخشري. وضرب هنا بمعنى جعل وصير، فهو متعد إلى اثنين ﴿كَلِمَةً﴾ المفعول الأول، وأخرت عن المفعول الثاني، وهو ﴿مَثَلًا﴾ لئلا تبعد عن صفتها، و ﴿مَثَلًا﴾ المفعول الثاني بمعنى جعلها مثلًا، وعلى هذا ﴿كَشَجَرَةٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي كشجرة طيبة كما قاله ابن عطية، وأجازه الزمخشري، و ﴿كَيْفَ﴾ منصوب على الحال من المفعول الثاني الذي هو ﴿مَثَلًا﴾، والتقدير: ألم تر ضرب الله مثلًا حالة كونه كيف؛ أي: حال كونه مسؤولًا عن حاله من غرابته. والاستفهام في ﴿كَيْفَ﴾ للتعجب، وفي ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للتقرير. والمثل عبارة عن قولٍ في شيء يشبه قولًا في شيء آخر بينما مشابهة
(٢) الخازن.
(٣) الفتوحات.
والمعنى: ألم تعلم يا محمد كيف جعل الله سبحانه وتعالى وصير كلمة طيبة مثلًا؛ أي: شبها لشيء آخر، وهي؛ أي: الكلمة الطيبة ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ في الإثمار وهي النخلة. وقرىء شاذًا: ﴿كلمةٌ طيبةٌ﴾ بالرفع قال أبو البقاء على الابتداء و ﴿كَشَجَرَةٍ﴾ خبره. انتهى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو؛ أي: المثل كلمة طيبة، وكشجرةٍ نعت لكلمة ذكره في "البحر". وجملة قوله: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ مع ما عطف عليها صفة لـ ﴿شَجَرَةٍ﴾؛ أي: أسفلها ذاهب بعروقه في الأرض متمكن فيها. ﴿وَفَرْعُهَا﴾؛ أي: أعلاها ورأسها طالع ثابت ﴿فِي السَّمَاءِ﴾؛ أي: في الهواء
٢٥ - ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾؛ أي: تعطي هذه الشجرة ثمرها ﴿كُلَّ حِينٍ﴾؛ أي: كل وقت (١) وقته الله تعالى لإثمارها، وهي السنة الكاملة؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة، ومدة إطلاعها إلى وقت صرامها ستة أشهر.
وقيل المعنى (٢): تؤتي أكلها كل وقت وكل ساعة ليلًا أو نهارًا شتاء أو صيفًا، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم كل وقت ﴿بِإذنِ رَبِّهَا﴾؛ أي: بإرادة خالقها وتيسيره وتكوينه، فكذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان، وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل وقت وحين يعمل خيرًا بأمر ربه.
وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون ثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك التوحيد يكون ثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى شبه (٣) الكلمة الطيبة: وهي الإيمان
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها في الأرض وعلت أغصانها إلى السماء، وهي ذات ثمر في كل حين ذاك أن الهداية إذا حلت قلبًا فاضت منه على غيره وملأت قلوبًا كثيرة، فكأنها شجرة أثمرت كل حين؛ لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وكل قلب يتلقى عما يشاكله ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار في الهشيم، أو سريان الكهرباء في المعادن، أو الضوء في الأثير. وقد روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: لا إله إلا الله، وأن الشجرة الطيبة هي: النخلة. وعن ابن عمر قال: (كنا عند رسول الله - ﷺ -، فقال: "أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحات ورقها لا صيفًا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئًا قال رسول الله - ﷺ -: "النخلة"، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تتكلم، قلت: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم، أو أقول شيئًا، قال: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا). رواه البخاري. ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه، فقال: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْأَمْثَالَ﴾ والأشباه ويبينها ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: يتفكرون في أحوال المبدأ والمعاد، وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، ويتعظون؛ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير، فإنه تصوير للمعاني بصور المحسوسات وتقريب لها من الحسن؛ لأن أنس النفوس بها أكثر، فهي تخرج المعنى من خفي إلى جلي ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، وبها يطبق المعقول على المحسوس، فيحصل العلم التام
٢٦ - ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾؛ أي: صفة كلمة قبيحة وهي كلمة الكفر بأنواعه، ويدخل (١) فيها كل كلمة قبيحة من الدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ونحوهما ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾؛ أي: كمثل شجرة رديئة؛ أي: صفتها كصفتها، ويدخل فيها كل ما لا يطيب أكلها ولا ينتفع بها. قيل: هي شجرة الحنظلة، وقيل: الكمأة، وقيل: الطحلبة، وقيل: هي الكشوث - بالضم - وآخره مثلثة، وهي شجرة (٢) لا ورق لها ولا عروق في الأرض، أو هي نبت (٣) يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض. وقرىء (٤): ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾.
﴿اجْتُثَّتْ﴾؛ أي: اقتلعت واستؤصلت ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ﴾ لكون عروقها في وجه الأرض؛ أي: ليس (٥) لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض، فتسميتها شجرة للمشاكلة، فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة ﴿مَا لَهَا﴾؛ أي: لهذه الشجرة ﴿مِنْ قَرَارٍ﴾؛ أي: من (٦) ثبات على الأرض؛ لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر ليس فيه خير، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح، ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة؛ أي: ومثل (٧) كلمة الكفر وما شاكلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحو مما ليس له أصل ثابت في الأرض، بل عروقها لا تتجاوز سطحها، وقد اقتلعت من فوق الأرض؛ لأن عروقها قريبة منه ولا عروق لها في الأرض، فكما أن هذه لا ثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت، بل هو زائل ذاهب وثمره مر كريه كالحنظل، وفي الحقيقة تسميتها شجرة مجاز، لأن الشجرة ما له ساق، والنجم ما لا ساق له، وهي من النجم، فتسميتها شجرة
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراح.
(٦) الخازن.
(٧) المراغي.
والخلاصة: أن أرباب النفوس العالية، وكبار الفكرين هم أصحاب الكلمة الطيبة، وعلومهم تعطي أممهم نعمًا ورزقًا في الدنيا، وهي مستقرة في نفوسهم، وفروعها ممتدة إلى العوالم العلوية والسفلية، وتثمر كل حين لأبناء أمتهم ولغيرهم، فيهتدي بها المؤمنون، وما أشبههم بالنخلة التي لها أصل مستقر وفروع عالية وثمر دائم، ويأكل الناس منها صيفًا وشتاء، وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلدون في العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل.
٢٧ - وبعد أن وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بما سلف.. أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ وصدقوا بوحدانيته وبما جاءت به رسله على دينهم، وهذا راجع للمثل الأول، وقوله: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ﴾. إلخ. راجع للمثل الثاني: ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ الذي ثبت عندهم بالحجة، وتمكن في قلوبهم، وهو قول: لا إله إلا الله. ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: قبل (١) موتهم، فإذا ابتلوا وافتتنوا في الحياة الدنيا.. ثبتوا عليه، ولم يرجعوا عنه، ولو عذبوا أنواع العذاب كمن تقدمنا من الأنبياء والصالحين مثل زكريا ويحيى، والذين قتلهم أصحاب الأخدود، والذين مشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله - ﷺ - ﴿و﴾ يثبتهم على دينهم الحق ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾؛ أي: في القبر عند سؤال منكر ونكير، وفي سائر المواطن وقت المسألة يوم القيامة، والقبر من الآخرة، فإنه أول منزل من منازل الآخرة. وقيل: ﴿في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني (٢): في القبر عند السؤال ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ يعني: يوم القيامة عند البعث والحساب، وهذا القول واضح.
(٢) الخازن.
أخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيّك؟ قال: نبيي محمد - ﷺ -.
وعن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل" أخرجه أبو داود. وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره وفي جوابه لهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضعها نسأل الله التثبيت في القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه إنه على ما يشاء قدير.
وعلى هذا (١): فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة قبل الموت، وبالآخرة ما بعد الموت من القبر ويوم القيامة والعرض للحساب. وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: يضلهم (٢) عن حجتهم التي هي القول الثابت، فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا. والمراد بالظالمين هنا الكفرة؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت. وقيل: كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة، فإنه لا يثبت في مواقف الفتن، ولا يهتدي إلى الحق. وقيل معنى: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: يخلق (٣) الله في الكفرة
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها في عباده بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالًا وإضلال من كان منكم مهتديًا، فإن بيده تعالى تصريف خلقه وتدبيرهم وتقليب قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء من إرشاد وإضلال، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فسبحانه من حكيم عليم.
الإعراب
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)﴾.
﴿وَقَالَ اَلَذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لِرُسُلِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بقالوا. ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَوْحَى﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿نُخْرِجَنَّكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿مِنْ أَرْضِنَا﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الكفار، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)﴾.
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ﴾ (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. ﴿نُسْكِنَنَّكُمُ﴾: فعل مضارع، ومفعول به مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْأَرْضَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق به. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنُهْلِكَنَّ﴾ على كونها مقولًا لقول محذوف. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف. ﴿خَافَ مَقَامِي﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿وَخَافَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَافَ﴾ الأول. ﴿وَعِيدِ﴾: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف.
﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿جَبَّارٍ﴾، والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره: واستفتحوا فنصروا وسعدوا وربحوا، وخاب كل جبار عنيد. ﴿مِنْ وَرَائِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿جَبَّارٍ﴾، ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و ﴿جَهَنَّمُ﴾: فاعل به. ﴿وَيُسْقَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿جَبَّارٍ﴾. ﴿مِنْ مَاءٍ﴾: متعلق به. ﴿صَدِيدٍ﴾: عطف بيان، أو بدل من ﴿مَاءٍ﴾، والجملة في محل الجر معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها صفة لـ ﴿جَبَّارٍ﴾، عطف جملة فعلية على جملة فعلية.
﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (٧)﴾.
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿جَبَّارٍ﴾، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿مَاءٍ﴾، أو مستأنفة. ﴿وَلَا يَكَادُ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿الجبار﴾. ﴿يُسِيغُهُ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الجبار﴾، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كاد، وجملة كاد في محل النصب حال من فاعل ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾، أو من مفعوله، أو منهما جميعًا، وقيل: كاد هنا صلة لا عمل لها. ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيأتي، والجملة معطوفة على جملة ﴿يتجرعه﴾. ﴿وَمَا﴾ (الواو): حالية. ﴿ما﴾: حجازية، أو تميمية. ﴿هُوَ﴾: في محل الرفع اسمها، أو مبتدأ، ﴿بِمَيِّتٍ﴾؛ خبرها، أو خبره، والباء زائدة، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿يَأْتِيهِ﴾. ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿غَلِيظٌ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾، أو مستأنفة.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق به، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كائن فيما يتلى، والجملة الاسمية مستأنف. ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿كَرَمَادٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره: وما ذلك المثل، فقال: مثل أعمالهم كرماد.
وفي "السمين" قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ...﴾ إلخ فيه أوجه:
أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة في قوله: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؛ فقيل: كيت وكيت.
والثاني: أن يكون ﴿مَثَلُ﴾: مبتدأ أول، و ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾: مبتدأ ثان، و ﴿كَرَمَادٍ﴾: خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
والثالث: أن يكون ﴿مَثَلُ﴾ مبتدأ، و ﴿أعْمَالُهُمْ﴾: بدل منه بدل اشتمال، و ﴿كَرَمَادٍ﴾ الخبر اهـ. ﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿رَمَادٍ﴾. ﴿في يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿اشْتَدَّتْ﴾. ﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة كما ذكره أبو البقاء. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما كسبوه. ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَقْدِرُونَ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الضَّلَالُ﴾: خبر. ﴿الْبَعِيدُ﴾: صفة لـ ﴿الضَّلَالُ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)﴾.
﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)﴾.
﴿وَبَرَزُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿بَرَزُوا﴾. ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾: فعل وفاعل، و (الفاء): حرف عطف وترتيب، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَرَزُوا﴾. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ إلى قوله: ﴿قَالوا﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿تَبَعًا﴾: خبر كان، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿فَهَلْ﴾: (الفاء): حرف عطف وتفريع.
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَمَّا﴾: حينية في محل النصب على الظرفية. ﴿قُضِيَ الْأَمْر﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه.
﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾.
﴿مَا﴾: نافية، أو حجازية. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ، أو اسم ﴿مَا﴾. ﴿بِمُصْرِخِكُمْ﴾: خبر المبتدأ، أو خبر ﴿مَا﴾، والباء: زائدة، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية، أو تميمية. ﴿أَنْتُمْ﴾: اسم ﴿ما﴾، أو مبتدأ. ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾: (الياء): زائدة. ﴿مُصْرِخِيَّ﴾: خبر ﴿مَا﴾
﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿كَفَرْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بِمَا﴾: (الباء): حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿أَشْرَكْتُمُونِ﴾: فعل ماض مبني على السكون؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك، التاء ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع فاعل، الميم: حرف دال على الجمع، الواو: حرف زائد لإشباع حركة الميم، والنون: نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَشْرَكْتُمُونِ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كَفَرْتُ﴾، والتقدير: إني كفرت بإشراككم إياي بالله من قبل. ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة له وجملة الابتداء في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ إن قلنا: إنه من تمام كلام إبليس اللعين، أو مستأنفة إن قلنا: إنه من كلام الله.
﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣)﴾.
﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الوصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿جَنَّاتٍ﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿أُدْخِلَ﴾. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: متعلق به. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾، ولكنها سببية. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من اسم
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤)﴾.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لمْ تَرَ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام تعجبي في محل النصب على الحال من المفعول الثاني الذي هو ﴿مَثَلًا﴾. ﴿ضَرَبَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل بمعنى: صير يتعدى إلى مفعولين. ﴿مَثَلًا﴾: مفعول ثان. ﴿كَلِمَةً﴾: مفعول أول، وأخرت عن المفعول الثاني، وهو ﴿مَثَلًا﴾، لئلا تبعد عن صفتها. ﴿طَيِّبَةً﴾: صفة لـ ﴿كَلِمَةً﴾، والتقدير: ألم تر كيف صير كلمة طيبة مثلًا حالة كون ذلك المثل كيف؛ أي: حالة كونه مسؤولًا عن حاله من غرابته وإحكامه وتوضيحه، وجملة ﴿ضَرَبَ﴾: في محل النصب سادة مسد مفعولي رأى. ﴿كَشَجَرَةٍ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أي: الكلمة الطيبة كائنة كشجرة طيبة، والجملة الاسمية جملة مفسرة للمثل، لا محل لها من الإعراب. ﴿طَيِّبَةٍ﴾ مضاف إليه ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿شجرة﴾. ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها صفة لـ ﴿شجرة﴾.
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)﴾.
﴿تُؤْتِي﴾: فعل مضارع بمعنى تعطي، وفاعله ضمير يعود على ﴿شَجَرَةٍ﴾. ﴿أُكُلَهَا﴾: مفعول ثان لأتى، والأول محذوف تقديره تؤتي أصحابها أكلها. ﴿كُلَّ حِينٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تُؤْتِي﴾، وجملة ﴿تُؤْتِي﴾: في محل الجر صفة لـ ﴿شجرة﴾. ﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُؤْتِي﴾. ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦)﴾.
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿خَبِيثَةٍ﴾: صفة لـ ﴿كلمةٍ﴾. ﴿كَشَجَرَةٍ﴾: جار ومجرور خبر مبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿خَبِيثَةٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿شجرة﴾. ﴿اجْتُثَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿شجرة﴾. ﴿مِن فَوْقِ اَلأَرضِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿شجرة﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ قَرَارٍ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة الاسمية في محل الجر صفة لـ ﴿شجرة﴾، أو في محل النصب حال من الضمير في ﴿اجْتُثَّتْ﴾، وهذه الجملة بمنزلة التعليل.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧)﴾.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِالْقَوْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُثَبِّتُ﴾. ﴿الثَّابِتِ﴾: صفة لـ ﴿القول﴾. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُثَبِّتُ﴾ أيضًا. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾. ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يُثَبِّتُ﴾. ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يُثَبِّتُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاء، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ من عاد بمعنى صار؛ أي: لتصيرن داخلين في ملتنا، أصله لتعودونن، حذفت نون علامة الرفع لتوالي الأمثال وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، فصار لتعودن، والملة: الدين والشريعة.
أحدها: أنه مقحم، وهو بعيد، إذ الأسماء لا تقحم.
الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل، قال الفراء: مقامي مصدر مضاف لفاعله؛ أي: قيامي عليه بالحفظ.
الثالث: أنه اسم مكان، قال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب، كقوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، والمقام - بفتح الميم -: مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة.
﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾؛ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار على أن يكون الوعيد بمعنى الموعود. والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والوعيد: الاسم من الوعد.
﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾؛ أي: استنصروا الله تعالى ودعوا عليهم بالعذاب، من الاستفتاح استفعال من الفتح. وفي "القاموس": والفتح كالفِتاحة - بضم الفاء وكسرها -: الحكم بين الخصمين. اهـ. أي: طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء.
﴿وَخَابَ﴾؛ أي: هلك، وقيل: خسر. ﴿كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾، والجبار: العاتي المتكبر عن طاعة الله، والعنيد: المعاند للحق المخالف له، وقيل: الجبار في صفة الإنسان، يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها، وهو صفة ذم في حق الإنسان. وقيل: الجبار الذي لا يرى فوقه أحدًا. وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه. وقيل: العنيد هو المعوض عن الحق. وقيل: هو المعجب بما عنده، وهو فعيل بمعنى مفاعل؛ أي: بمعنى معاند، كالخليط بمعنى المخالط. اهـ. "كرخي". وقال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي، وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى.
﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾؛ أي (١): من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه، على أن
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيْبَةً | وَلَيْس وَرَاءَ الله لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ |
وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ | لاَ حَاضِرٌ مُعْجِزٌ عَنْهُ وَلاَ بَادِيْ |
﴿صَدِيدٍ﴾: هو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطًا بالقيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر.
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾؛ أي: يكلف (١) على جرعه وبلعه مرة بعد مرة، وتجرع من باب تفعل الخماسي، وفيه احتمالات:
أحدها: أنه مطاوع جرعته بالتشديد، نحو علمته فتعلم.
والثاني: أن يكون للتكلف نحو تحلم؛ أي: يتكلف جرعه، ولم يذكر الزمخشري غيره. ومعنى التكلف أن الفاعل يتعافى ذلك الفعل ليحصل بمعاناته، كتشجع، إذ معناه: استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها لتحصل. ذكره في "روح البيان".
والثالث: أنه دال على المهلة نحو تفهمته؛ أي: يتناوله شيئًا فشيئًا بالجرع، كما يتفهم شيئًا فشيئًا بالتفهيم.
والرابع: أنه بمعنى جرعه المجرد نحو: عدوت الشيء وتعديته. اهـ. "سمين".
﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾؛ أي: ولا يقارب أن يسيغه فضلًا عن الإساغة، بل يغض به، والسواغ انحدار الشراب في الخلق بسهولة وقبول نفس، يقال: ساغ
﴿كَرَمَادٍ﴾ والرماد معروف، وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة رمد، وفي القلة على أرمد. اهـ. "سمين". وقال ابن عيسى (١): الرماد هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع على رمد في الكثرة، وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء، قالوا: أرمداء ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون.
﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ ومعنى اشتدت به الريح، حملته بشدة وسرعة، والعصف: شدة الريح، وصف به زمانها مبالغة، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والحر والبرد فيهما لا منهما.
﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾: جمع (٢): ضعيف، والضعف خلاف القوة، وقد يكون في النفس، وفي البدن، وفي الحال، وفي الرأي، والمناسب للمقام هو الأخير، فإنه لو كان في رأيهم قوة لما اتبعوهم في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم.
﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾: جمع تابع، كخدم جمع خادم، وحرس جمع حارس، ورصد جمع راصد، وهو المستن بآثار من يتبعه؛ أي: تابعين لكم في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم مطيعين لكم فيما أمرتمونا به. ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا﴾؛ أي: دافعون عنا، يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع.
﴿أجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ الجزع (٣): عدم احتمال الشدة، وعدم الصبر على البلاء، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر:
جَزِعْتُ وَلَمْ أجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعَا | وَعَذَّبْتُ قَلْبًا بِالْكَوَاكِبِ مُوْلَعَا |
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿مِنْ مَحِيصٍ﴾؛ أي: من منجأ (١) ولا مهرب من عذاب الله، يقال: حاص فلان عن كذا؛ أي: فر وزاغ يحيص حيصًا وحيوصًا وحيصانًا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وفي "المختار": حاص عنه إذا عدل وحاد، وبابه باع وحيوصًا ومحيصًا ومحاصًا وحيصًا بفتح الياء، يقال: ما عنه محيص؛ أي: محيد ومهرب، والانحياص مثله. اهـ. وهو يحتمل أن يكون مكانًا كالمبيت، ومصدرًا كالمغيب.
﴿وَعْدَ الْحَقِّ﴾؛ أي: وعدًا من حقه أن ينجز، أو وعدًا أنجزه. اهـ. "بيضاوي". وفي "السمين": يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته؛ أي: الوعد الحق، وأن يراد بالحق صفة الباري تعالى؛ أي: وعدكم الله تعالى وعده، وأن يراد بالحق البعث والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة. اهـ.
﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾؛ أي: أجبتموني، فالسين والتاء زائدتان ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ المصرخ (٢): المغيث. قال الشاعر:
فَلاَ تَجْزَعُوْا إِنِّي لَكُمْ غَيْرَ مُصْرِخٍ | وَلَيْسَ لَكُمْ عَنِّي غَنَاءٌ وَلاَ نَصْرُ |
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ | كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيْبِ |
(٢) البحر المحيط.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ المثل (٢): قول في شيء يشبه بقول في شيء آخر لما بينهما من المشابهة، ويوضح الأول بالثاني ليتم انكشاف حاله به.
﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾؛ أي: ضارب بعروقه في الأرض ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾؛ أي: في جهة العلو، والفرع: الغصن من الشجرة، ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع أيضًا: الشعر، يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال امرؤ القيس بن حجر:
وَفَرْعٌ يُغَشِّي المَتْنَ أسوَدُ فَاحِمُ
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾؛ أي: تعطي ثمرها. ﴿كُلَّ حِينٍ﴾؛ أي: كل وقت، والحين في اللغة (٣): الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هنا، فقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا: سنة كاملة؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر يعني: من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضًا. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر يعني: أن مدة حصلها باطنًا وظاهرًا ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران يعني: من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أمس: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ يعني: كل غدوة وعشية؛ لأن ثمرة النخلة تؤكل أبدًا ليلًا ونهارًا صيفًا وشتاءً، فيؤكل منها الجمار
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾؛ أي: بإرادة خالقها.
﴿اجْتُثَّتْ﴾؛ أي: استؤصلت وأخذت جثتها من الجث؛ وهو القطع باستئصال، فهو صفة لشجرة، ومعنى اجتثت، قلعت جثتها؛ أي: شخصها وذاتها من فوق الأرض، والجثة: شخص الإنسان قاعدًا وقائمًا. وقال لقيط الإياري:
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم | فمن رأى مثل ذا آتٍ ومن سمعا |
﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾؛ أي: استقرار عليها يقال: قر الشيء قرارًا نحو ثبت ثباتًا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ تسجيلًا عليهم باسم الظلم، فإن الشرك لظلم عظيم.
ومنها: الذم في قوله: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ تسجيلًا (٢) عليهم باسم التجبر والعناد، لا أنهم بعضهم ليسوا كذلك، وأنه لم تصبهم الخيبة.
(٢) روح البيان.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾؛ أي: لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلًا عن الإساغة، بل يغص به.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾؛ لأنه مجاز عن أسبابه، ففيه إطلاق المسبب وإرادة السبب.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾، ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، شبه (١) الله سبحانه وتعالى صنائع الكفار - جمع صنيعه - من الصدقة وصلة الرحم وعتق الرقاب وفك الأسير وإغاثة الملهوف ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباءً منثورًا لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى وتوحيده، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف، ووجه الشبه أن الريح العاصف تطير الرماد، وتفرق أجزائه بحيث لا يبقى له أثر، فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لا يبقى لها أثر، وقد بين مقصوده ومحصله بقوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾؛ لأن العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم: نهاره صائم وليله قائم.
ومنها: فذلكة التمثيل والتشبيه في قوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ لأن العصف اشتداد الريح وُصف به زمانه للمبالغة كقولهم: نهاره صائم وليله قائم.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ فأسند البعد الذي هو من أحوال الضال إلى الضلال الذي هو فعله مجازًا مبالغة.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
ومنها: إيثار (١) صيغة الماضي في قوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ وإن كان معناه الاستقبال؛ للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن كل (٢) ما أخبر الله عنه فهو حق وصدق كائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، وكذا في قوله: ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ دلالة على أن وقوعه محقق.
ومنها: الطباق بين ﴿الضُّعَفَاءُ﴾ و ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾.
ومنها: الطباق في ﴿جَزِعْنَا﴾ و ﴿صَبَرْنَا﴾.
ومنها: إيثار صيغة الماضي في قوله: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ﴾ وإن كان معناه مستقبلًا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾.
ومنها: التجوز في قوله: ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾؛ لأن الإخلاف (٣) حقيقة هو عدم إنجاز من يقدر على إنجاز وعده، وليس الشيطان كذلك، فقوله: ﴿أخلفتكم﴾، يكون مجازًا جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه، كأنه كان قادرًا على إنجازه، وأنى له ذلك.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ﴾ شبه طاعته باتباعه فيما زينه
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
ومنها: الاستفام التعجبي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وقوله: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿أَصْلُهَا﴾، ﴿وَفَرْعُهَا﴾، وفي ﴿طَيِّبَةٍ﴾، ﴿خَبِيثَةٍ﴾.
ومنها تغيير (١) الأسلوب في قوله: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾.. الخ. حيث لم يقل: وضرب الله مثلًا كلمة خبيثة.. الخ للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان. اهـ. "أبو السعود".
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ حيث شبه النجم؛ وهو ما لا ساق له بالشجر، وهو ما له ساق بجامع أن كلًّا منهما نبات، فاستعار له اسم الشجر، وقيل: تسميتها شجرة للمشاكلة.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾.
ومنها: الإظهار (٢) في مقام الإضمار في قوله: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ وفي قوله: ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ﴾ لتربية المهابة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) الشوكاني.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم.. ذو السبب في إضلالهم.
وعبارة "المراغي" هنا: مناسبتها لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) الأمثال بيانًا لحالي الفريقين، وذكر ما يليه من التوفيق في الدارين
(٢) المراغي.
ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرًا، والشكر جحدًا، وإنكارًا، وليت البلية كانت واحدة، بل أضافوا إليها أخرى، فاتخذوا لله الأنداد والشركاء، ثم تلبثوا بضلال غيرهم، فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة:
فَلَوْ كَانَ هَمٌّ وَاحِدٌ لاحْتَمَلْتُهُ | وَلَكِنَّهُ هَمٌّ وَثَانٍ وَثَالِثُ |
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم له أندادًا، وهددهم.. أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإِسلام: الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة.
وعبارة المراغي هنا (٣): بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا.. أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة في التمتع بها، والجد في مجاهدة النفس والهوى ببذل النفس والمال في كل ما يرفع شأنهم ويقربهم من ربهم، وينيلهم الفوز لديه في يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر (١) سبحانه وتعالى الأدلة على أن لا معبود سواه، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه إذ بدلوا نعمة الله كفرًا وعبدوا الأوثان والأصنام.. ذكر هنا أن الأنبياء جميعًا حثوا على ترك عبادة الأصنام، فإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه؛ وهو أبوهم نعى على قومه عبادتها، وطلب إلى الله أن يجنبه وبنيه ذلك، فإنها كانت سببًا في ضلال كثير من الناس، وشكر الله على أن وهب له على كبره ولديه إسماعيل وإسحاق، ثم ختم مقاله بأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين ذنوبهم عند العرض والحساب.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ...﴾ الآيات، قال أبو حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وجعلوا لله أندادًا؛ وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين
(٢) البحر المحيط.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عطاء بن يسار قال (١): نزلت هذه الآية في الذين قتلوا يوم بدر قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ...﴾ الآية.
وقد ذهب (٢) جمهور المفسرين إلى أن الآية نزلت في كفار مكة، وقيل: نزلت في الذين قاتلوا رسول الله - ﷺ - يوم بدر، وقيل: نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم وبني أمية، وقيل: إنها عامة في جميع المشركين، وقيل غير ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
٢٨ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ استفهام تعجيب لرسول الله - ﷺ -، أو لكل مخاطب، والخطاب فيه لرسول الله - ﷺ -، أو لكل من يصلح له؛ أي: هل رأيت يا محمد عجبًا مثل عجب هؤلاء المذكورين؛ أي: ألم تنظر يا محمد ﴿إِلَى﴾ حال الكفار ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾؛ أي: جعلوا بدل شكر نعمة الله التي هي إرسال محمد - ﷺ - إليهم ﴿كُفْرًا﴾؛ أي: جحدًا وتكذيبًا له، وشكرها الإيمان به - ﷺ - في جميع ما جاء به، وهم أهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن، ووسع عليهم أبواب رزقه، وشرفهم بمحمد - ﷺ -، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين، فقتلوا وأسروا يوم بدر؛ لأن (٣) شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرًا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر، وبدلوه تبديلًا ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾ الذين تابعوهم على الكفر
(٢) الشوكاني.
(٣) النسفي.
والمعنى: أي ألم (٣) تعلم وتعجب من قوم بدلوا شكر النعمة غمطًا لها، وجحودًا بها كأهل مكة الذين أسكنهم الله حرمًا آمنًا يجبي إليه ثمرات كل شيء، وجعلهم قوام بيته، وشرفهم بإرسال رسوله محمد - ﷺ - من بينهم، فكفروا بتلك النعمة، فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دأبًا، وأسروا يوم بدر وصفدوا في السلاسل والأغلال، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنون بهم ويحتفظون بمواضيعهم ليوم كريهة وسداد ثغر.
﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾؛ أي: وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لا هلاك بعده.
٢٩ - ثم بين هذه الدار، فقال: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩)﴾؛ أي: هذه الدار هي جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها وبئس المستقر هي لمن أراد الله به النكال والوبال،
٣٠ - وقوله: ﴿وَجَعَلُوا﴾ عطف على ﴿أحل﴾ داخل معه في حكم التعجب؛ أي: جعلوا في اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد ﴿لِلَّهِ﴾ الفرد الأحد الذي لا شريك له في الأرض ولا في السماء ﴿أَنْدَادًا﴾؛ أي: أشباهًا في التسمية حيث سموا الأصنام آلهة، أو في العبادة، أو في الربوبية ﴿لِيُضِلُّوا﴾ قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ القويم الذي هو التوحيد، ويوقعوهم في ورطة الكفر والضلال، وليس الإضلال (٤) غرضًا
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والمعنى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾؛ أي (٢): واتخذوا لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس له كفوًا أحد أندادًا وشركاء من الأصنام والأوثان أشركوهم به في العبادة، كما قالوا في الحجّ: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾؛ أي: لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم الصد والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف، والوقوع في حمأة الكفر والضلال.
ولما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم هذه الهنات الثلاث تبديل النعمة واتخاذ الأنداد والأمثال وإضلال قومهم،
٣١ - أمر نبيه - ﷺ - أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد: سيروا على ما أنتم عليه، فإنه لا فائدة في نصحكم وإرشادكم وعاقبتكم النار بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد تهديدًا لهؤلاء الضالين المضلين ﴿تَمَتَّعُوا﴾؛ أي (٣): انتفعوا والتذوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها كفران النعم العظام، وعبادة الأوثان والأصنام، والسعي في إضلال الناس والصد عن سبيله. ثم بين جزاءهم المحتوم، فقال: ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ﴾ يوم القيامة؛ أي: إن مرجعكم وموثلكم فيه ﴿إِلَى النَّارِ﴾ المؤبدة ليس إلا، فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك، أو يقتضيه من أحوالكم، كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وسمى الله تعالى ذلك تمتعًا (١)؛ لأنهم تلذذوا به، وأحسوا بغبطة وسرور، كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم، وهذا الأسلوب التهكمي يستعمل في التخاطب كثيرًا، فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه، ثم لا يرى منه إلا تماديًا في الإعراض عن أوامره واتباعًا لشهواته، فيقول له: كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول، وكما يقال لمن سعى في مخالفة السلطان، إصنع ما شئت، فإن مصيرك إلى السيف.
ودلت الآيتان على أمور:
الأول: أنَّ الكفران سبب لزوال النعمة بالكلية، كما أن الشكر سبب لزيادتها.
والثاني: أنَّ القرين السوء يجر المرء إلى النار، ويحله دار البوار، فينبغي للمؤمن المخلص السني أن يجتنب عن صحبة أهل الكفر والنفاق والبدعة حتى لا يسرق طبعه اعتقادهم السوء وعملهم السيء. ولهم كثرة في هذا الزمان.
والثالث: أن جهنم دار القرار للأشرار، وشدة حرها مما لا يوصف.
وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم في اللذات أمر نبيه - ﷺ - أن يأمر خُلَّصَ عباده بإقامة العبادات البدنية، وأداء الفرائض المالية، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أقيموا (٢) الصلاة الواجبة على وجهها وأدوها كما طلب ربكم، وداوموا عليها، فهي عماد الدين وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي المصباح للمؤمن يستضيء به للقرب من ربه. و ﴿عبادي﴾ يقرأ بثبوت الياء مفتوحة وبحذفها لفظًا لا خطأ، والقراءتان
(٢) المراغي.
﴿وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ أي: وتصدقوا بعض ما أعطيناكم من الرزق والعطاء، وأدوا الزكاة الواجبة شكرًا له على نعمه الجزيلة، ورأفةً بعباده الفقراء، وسدًّا لخلتهم، وإيجادًا للتضامن والتعاون بين الأخوة في الدين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. ﴿سِرًّا﴾؛ أي: خفية ﴿وَعَلَانِيَةً﴾؛ أي: جهرًا؛ أي: أنفقوها إنفاق سر وخفية في صدقة التطوع، وإنفاق جهر وعلانية في صدقة الواجب. قيل: أراد (١) بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة، وقيل: أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر، وحمله على العموم أولى؛ ليدخل فيه إخراج الزكاة والإنفاق في جميع وجوه البر، والمراد: حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا، كما هو صنيع الكفرة، وإنما خصهم (٢) بالإضافة تنويهًا لهم وتنبيهًا على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. وهذان الفعلان (٣): إما مجزومان في جواب أمر محذوف؛ أي: قل لهم أقيموا الصلاة، فإن قلت لهم ذلك.. يقيموا الصلاة، أو مجزومان بلام أمرٍ مقدر؛ أي: ليقيموا الصلاة؛ أي: الواجبة.
قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ قال في "الإرشاد": الظاهر أن ﴿مِنْ﴾ متعلقة بـ ﴿يُنْفِقُوا﴾ ﴿يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ فيبتاع المقصر ما يتلافى تقصيره به، وتخصيص (٤) البيع بالذكر؛ لاستلزام نفيه نفي الشراء ﴿وَلَا خِلَالٌ﴾ فيه؛ أي: ولا مخالة وصداقة فيه، فيشفع له خليل، والمراد بالمخالة المنفية: المخالة بسبب
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
والمعنى (١): أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدى المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة أعني (٢): ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، ويمكن أن يكون فيها أيضًا تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيرًا ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء.
والخلاصة (٣): وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدي فيه صداقة، فلا يشفع خليل لخليل، ولا يصفح عن عقابه لمخالته لصديقه، بل هناك العدل والقسط، كما قال جل جلاله: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وقال أيضًا: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾.
٣٢ - ولما (٤) أطال سبحانه وتعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، كان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل بذلك.. ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى: الله الذي يستحق منكم العبادة هو الإله الذي أبدع واخترع وأوجد السماوات السبع على غير مثال سبق، وأوجد ما فيها من الأجرام العلوية، وخلق الأرض وما فيها من المخلوقات، وقدم السماوات على الأرض؛ لأنها بمنزلة الذكر من الأنثى، وبدأ بذكر خلق السماوات والأرض؛ لأنهما أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع المختار القادر الحكيم. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب، فإن كل ما علاك سماء، أو من الفلك، فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب، ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص، وهذا القول أرجح عند بعضهم؛ لأن الله تعالى زاد بيان نعمه على عباده، فبين أولًا خلق السماوات والأرض، ثم أشار إلى ما فيها من كليات المنافع، لكنه قدم وأخر كتأخير تسخير الشمس والقمر؛ ليدل على أن كلا من هذه النعم نعمة على حدة، ولو أريد السحاب لم يوجد التقابل التام وأيًّا ما كان، فـ ﴿مِنَ﴾ ابتدائية ﴿مَاءً﴾؛ أي: نوعًا من أنواع الماء، وهو المطر، فتنكير الماء هنا للنوعية ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾؛ أي: فأنبت بذلك الماء الذي أودع فيه القوة الفاعلية، كما أنه أودع في الأرض القوة القابلية ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ المتنوعة ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾ يا بني آدم تعيشون به، وهو بمعنى المرزوق شامل للمطعوم والملبوس، وهو مفعول به لـ ﴿أخرج﴾ و ﴿من﴾ للتبيين حال منه، كقولك: أنفقت من الدراهم ألفًا؛ أي: رزقًا هو الثمرات، و ﴿لَكُمْ﴾ صفة له. وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به، كأنه قيل: أنزل من
ولما ذكر (٢) الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر وإخراج الثمر، لأجل الرزق والانتفاع به من ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء؛ لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات وغيرها من بلد إلى بلد آخر فهي من تمام نعمة الله على عباده، فقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ﴾؛ أي: وذلل لكم السفن - جمع ذلك بمعنى سفينة - بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك ﴿لِتَجْرِيَ﴾؛ أي: تلك الفلك والسفن ﴿بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بإرادته إلى حيث توجهتم وانطوى (٣) في تسخير الفلك تسخير البحار وتسخير الرياح. وفي "أنوار المشارق": يجوز ركوب البحر للرجال والنساء عند غلبة السلامة، كذا قال الجمهور، وكره ركوبه للنساء؛ لأن الستر فيه لا يمكنهن غالبًا ولا غض البصر عن المتصرفين فيه، ولا يؤمن من انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال.
والمعنى: أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها وجعلها طافية على وجه الماء تجري عليه بأمره تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم؛ لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾؛ أي: المياه العظيمة الجارية في الأنهار العظام تشق الأرض شقًّا من قطر إلى قطر، وتسخيرها: جعلها معدة لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون منها جداول تسقون بها زروعكم وحدائقكم وما أشبه ذلك. ولما (٤) كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزرع والثمرات ولا في الشراب أيضًا.. ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون؛ لأجل
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
(٤) الخازن.
٣٣ - ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ حالة كونهما ﴿دَائِبَيْنِ﴾؛ أي: دائمين في الحركة متصلين في سيرهما لا ينقطعان ولا يفتران؛ أي: لا يضعفان بسبب سيرهما في فلكهما ومقرهما: وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر إلى انقضاء عمر الدنيا وقيام الساعة، كما قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)﴾ وقال: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
والمعنى: وسخر لكم الشمس والقمر حالة كونهما دائبين؛ أي (١): مجدين في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما يصلحان الأرض والأبدان والنبات، لا يفتران أصلًا، ويفضل الشمس على القمر؛ لأن الشمس معدن الأنوار الفلكية من البدور والنجوم، وأصلها في النورانية، وأن أنوارهم مقتبسة من نور الشمس على قدر تقابلهم وصفوة أجرامهم.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يتعاقبان بالزيادة والنقصان؛ والإضاءة والإظلام، والحركة والسكون فيما، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه في أمور دنياكم، ولإنضاج الثمار، والليل لتسكنوا فيه ولعقد الثمار، كما جاء في الآية الأخرى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾. فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من
واختلفوا في الليل والنهار أيهما أفضل (١). قال بعضهم: قدم الليل على النهار؛ لأن الليل لخدمة المولى، والنهار لخدمة الخلق، ومعارج الأنبياء عليهم السلام كانت بالليل، ولذا قال الإِمام النيسابوري: الليل أفضل من النهار.
٣٤ - ولما ذكر (٢) الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم.. بين بعد ذلك أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر: حيث قال: ﴿وَآتَاكُمْ﴾؛ أي: وأعطاكم مصلحة لكم ﴿مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾؛ أي: بعض جميع ما سألتموه، فإن الموجود من كل صنف بعض ما قدره الله تعالى، فـ ﴿من﴾ للتبعيض.
وقال الأخفش (٣): أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئًا، فحذف شيئًا، وقيل: المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى. قاله ابن الأنباري، وقيل: ﴿من﴾ زائدة؛ أي: آتاكم كل ما سألتموه. وقيل: للتبعيض؛ أي: آتاكم بعض كل ما سألتموه.
وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية (٤): ﴿من كلٍ﴾ - بالتنوين - وهي شاذة؛ أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات، و ﴿ما﴾ موصولة مفعول ثان؛ أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به؛ أي: آتاكم من كل شيء الذي سألتموه. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ نافية؛ أي: آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له.
والمعنى: أي هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم من كل
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى: لا توجد له غاية فتوضع له حصاة. والنعم على قسمين: نعمة المنافع؛ لصحة البدن والأمن والعافية، والتلذذ بالمطاعم والمشارب والملابس والمناكح والأموال والأولاد، ونعمة دفع المضار من الأمراض والشدائد، والفقر والبلاء، وأجل النعم استواء الخلقة، وإلهام المعرفة.
والمعنى: أي (٢) لا تطيقوا عد أنواعها فضلًا عن القيام بشكرها وفي "صحيح البخاري" أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "اللهم لك الحمد غير مكفي، ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا". وأثر عن الشافعي أنه قال: الحمد لله الذي لا يؤدِّي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها. وقال شاعرهم:
لَوْ كَانَ جَارِحَةٌ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ | تُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنٍ |
لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِيْ إِذْ شَكَرْتُ بِهِ | إِلَيْكَ أبْلَغَ في الإِحْسَانِ وَالْمِنَنِ |
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾؛ أي: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرًا لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك واضع للشكر في غير موضعه ذاك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق إخلاص العبادة له، فعبد هو غيره، وجعل له أندادًا ليضل عن سبيله، وذلك هو ظلمه وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.
فإن قلت (١): لم ختم الآية هنا بقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ وختمها في سورة النحل بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فما الفرق بين الختمين؟
قلتُ: إن الله سبحانه وتعالى لما قدم هنا قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ وذكر بعده: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ فكان ذلك نصًّا على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك بجعل الأنداد له تعالى.. ناسب أن يختم الآية هنا بذم من وقع ذلك منه، فقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾. وأما في النحل، فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها، وقال بعد ذلك: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾؛ أي: أفمن أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لا يقدر على الخلق، وعلى كل شيء منه.. ناسب أن يذكر هنا وهناك من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضًا على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به، وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق في أنه يغفر زلَلَه السابق، ويرحمه. ذكره أبو حيان.
٣٥ - ﴿و﴾ اذكر يا محمد لقومك مذكرًا لهم بأيام الله قصة ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ الخليل عليه السلام في مناجاته لربه حين فرغ من بناء البيت ﴿رَبِّ﴾ المحسن إلي بإجابة دعائي ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ مكة المشرفة بلدًا ﴿آمِنًا﴾؛ أي: ذا أمن
والغرض من سياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع (١): بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة، وقيل: إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة وقيل: لقصد الدعاء إلى التوحيد وإنكار عبادة الأصنام.
وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده؛ لأنه إذا انتفى الأمن لم يفزغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا. فإن قلت (٢): لم قال في سورة البقرة: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ بالتنكير وقال هنا: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ بالتعريف، فأي فرق بين الموضعين؟
قلتُ: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن فيها أهلها ولا يخافون، وذلك قبل بناء البيت حين وضع هاجر وإسماعيل في مكان البيت، وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: وهو بلد مخوف، فاجعله آمنًا، وذلك بعد بناء البيت.
والحاصل: أن هذا الدعاء وقع مرتين (٣) مرة قبل بنائها ومرة بعده، ولذلك كتب الكرخي في سورة البقرة ما نصه: ونكر البلد هنا وعرّفه في إبراهيم؛ لأن الدعوة هنا كانت قبل جعل المكان بلدًا، فطلب من الله أن يُجعل ويُصيَّرَ بلدًا آمنًا، وهناك كانت الدعوة بعد جعله بلدًا.
والخلاصة: أن الفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن. وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرمًا لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه،
(٢) الخازن.
(٣) الفتوحات.
﴿وَاجْنُبْنِي﴾ يا رب؛ أي: باعدني ﴿و﴾ باعد ﴿بَنِيَّ﴾ وذريتي عن ﴿أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ والأوثان؛ أي: ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن الأصنام، وقد استجيب دعاؤه في بعض بنيه دون بعض ولا ضير في ذلك.
قيل: أراد (١) بنيه من صلبه، وكانوا ثمانية، وقيل: أراد من كان موجودًا حال دعوته من بنيه وبني بنيه، وقيل: أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد القول الأول ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنمًا، والصنم: هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه؛ أي: واجعلنا في جانب بعيد من عبادتها؛ أي: ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن عبادة الأصنام، وإلا فهو معصوم عن عبادتها، وكذا بعض بنيه معصومون كإسماعيل وإسحاق.
قال بعضهم (٢): رأى إبراهيم قومًا يعبدون الأصنام، فخاف على بنيه فدعا. والجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها، وأمر الناس بعبادتها، وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأوثان، وكان إبراهيم يعرفه، فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده، فعصم أولاده الصلبية من ذلك، وهي المرادة من قوله: ﴿وَبَنِيَّ﴾ فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هو ولا أحفاده. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي شذوذًا (٣): ﴿وأجنبني﴾ بقطع الهمزة على أنه من أجنب الرباعي.
٣٦ - وقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ تعليل لقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
فصل
واعلم: أنه قد توجه على هذه الآية إشكالات، وهي من وجوه (٢):
الأول: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمنة، ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم قد أغاروا عليها، وأخافوا أهلها.
الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون من عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك، فما الفائدة في قوله: اجنبني عن عبادتها؟
(٢) الخازن.
وقد يجاب عنها بوجوه كثيرة، فالجواب عن الوجه الأول من وجهين:
أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام لما فرع من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى، ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". أخرجاه في "الصحيحين". وأجيب عنه بأن قوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾، يعني: إلى قرب القيامة وخراب الدنيا. وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين.
الوجه الثاني: أن يكون المراد: اجعل أهل هذا البلد آمنين، وعلى هذا الوجه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة.. أمن على نفسه وماله من ذلك، وحتى أن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت، فإذا دخلت الحرم.. أمنت واستأنست لعلمها أنه لا يهيجها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها.
وأما الجواب عن الوجه الثاني فمن وجوه أيضًا:
الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة، والتثبيت، فهو كقوله: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾.
والوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء هضمًا للنفس، وإظهارًا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدًا لا يقدر على نفع نفسه
وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات، فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد منهم أحد صنمًا قط.
الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم.
الوجه الثالث: قال الواحدي دعا لمن أذن الله أن يدعو له، فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من بنيه من عبد الصنم، فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال في آخر هذه الآية: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه، فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه اهـ من "الخازن".
٣٧ - ثم قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ كرر النداء (١) رغبة في الإجابة وإظهارًا للتذلل والالتجاء إلى الله تعالى، وأتى بضمير جماعة المتكلمين؛ لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه في قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ و ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ قال الفراء (٢): ﴿مِنَ﴾ للتبعيض؛ أي: بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن سيولد له، فإن إسكانه متضمن إسكانهم. وقال ابن الأنباري: أنها زائدة؛ أي: أسكنت ذريتي. والأول أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل، وهو بعض ولده. ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾؛ أي: بواد ليس فيه زرع وهو وادي مكة؛ لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد، فإنها حجرية لا يوجد فيها زرع ولا ماء. وفي "بحر العلوم": وأما في زماننا فقد رزق الله أهله ماء جاريًا، وإنما لم يقل غير ذي ماء؛ لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وعلم بالوحي أنه سيكون فيها ماء كثير، والله أعلم. وقوله: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ ظرف لـ ﴿أَسْكَنْتُ﴾
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أي يا رب إني أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع، وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلت ما حوله حرمًا لمكانه. ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ كرر النداء (٢) لإظهار كمال العناية بما بعده، واللام فيه لام كي متعلقة بـ ﴿أَسْكَنْتُ﴾؛ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم متوجهين إليه متبركين به بدلالة قوله: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ على أنه لا غرض له دنيوي في إسكانهم عند البيت المحرم، وتخصيص الصلاة بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها، ولأن بيت الله لا يسعه إلا الصلاة وما في معناها وهي الأصل في إصلاح النفس، وكان قريش يمتنعون عن ذلك لزيادة كبرهم.
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: قلوب بعض الناس ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: تسرع إلى ذريتي بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، وتحن إليهم لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وتطير نحوهم محبة، و ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ للتبعيض. وقيل: زائدة، ولا (٣) يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وقرأ هشام في المتواتر بخلف عنه (١): ﴿أفئيدة﴾ بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر.. حمل بعض العلماء هذه القراءة على أن هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا عن الهمزة، وقرىء: ﴿آفدة﴾ على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل من أفد؛ أي: دنا وقرب، وأن يكون جمع فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا. وقرىء: ﴿أفدَةَ﴾ على وزن فعلة، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد. وقراءة أم الهشيم: ﴿أفودة﴾ بالواو المكسورة بدل الهمزة. وقرأ زيد بن علي: ﴿إفادة﴾ على وزن إشارة، وما عدا قراءة الجمهور وهشام شاذ.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ - بكسر الواو من باب ضرب -؛ أي: تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقًا. وقرأ مسلمة بن عبد الله شاذ: ﴿تهوي﴾ بضم التاء مبنيًّا للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازم. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومجاهد شذوذًا أيضًا: ﴿تهوي﴾ - بفتح الواو مضارع هوى من باب فرح - بمعنى أحب وإلى زائدة، فيكون بمعنى، تحبهم.
﴿وَارْزُقْهُمْ﴾؛ أي: ذريتي الذين أسكنتهم هناك، أو هم ومن يساكنهم من الناس، وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين كما في قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي وارزق ذريتي الذين أسكنتهم في مكة من أنواع الثمار بأن تجبي إليهم ذلك من شاسع الأقطار، وقد استجاب الله ذلك كما قال: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾.
﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ نعمك التي أنعمت بها عليهم؛ أي: رجاء أن يشكروا تلك النعم بإقامة الصلاة، وأداء واجبات العبودية. وفي هذا (٢) إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، وفي دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة، وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة، ومن ثم من الله عليه بالقبول وإعطاء المسؤول، وقد أجاب دعائه، فألهم الناس الحج في آلاف السنين، وإلى ما شاء الله تعالى، لا في مدى حياته فحسب، ولا بدع في ذلك، فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعًا.
٣٨ - والنداء المكرر في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾؛ أي: أنت تعلم ما تخفي وتسر قلوبنا حين سؤالك ما نسأل، وما نعلن ونظر من دعائنا فنجهر به (٣)، دليل التضرع واللجوء إلى الله تعالى، وقدم ما نخفي على ما نعلن؛ للدلالة على أنهما مستويان في علمه سبحانه. والمراد: ربنا إنك تعلم السر كما تعلم العلن، علمًا لا تفاوت فيه.
(٢) المراغي.
(٣) النسفي.
﴿وَمَا يَخْفَى﴾ دائمًا (٢)؛ إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ علام الغيوب سبحانه وتعالى ﴿مِنْ﴾ للاستغراق ﴿شَيْءٍ﴾ ما ﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾؛ لأنه العالم بعلم ذاتي تستوي نسبته إلى كل معلوم لا عارض ولا كسبي، ليختص بمعلوم دون معلوم كعلم البشر والملك، تلخيصه لا يخفي عليك شيء ما في أي مكان، فافعل بنا ما هو مصلحتنا، فالظرف متعلق بـ ﴿يَخْفَى﴾، أو شيء ما كائن فيهما على أنه صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾، وهذا على القول بأنه من كلام إبراهيم عليه السلام، قاله تحقيقًا لقوله الأول وتعميمًا بعد التخصيص، وقيل: هو من كلام الله تعالى قاله تصديقًا لإبراهيم عليه السلام، وهو اعتراض بين كلامي إبراهيم، فالوقف على ﴿نُعْلِنُ﴾ حسن كالوقف على ﴿فِي السَّمَاءِ﴾، والمعنى عليه: وما يخفى على الله شيء من الأشياء الموجودة كائنًا ما كان، وإنما ذكر السماوات والأرض؛ لأنها المشاهدة للعباد، إلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية.
٣٩ - ثم حمد الله تعالى على بعض نعمه الواصلة إليه، فقال: ﴿الْحَمْدُ﴾ والشكر ﴿لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ﴾؛ أي: مع كبر سني. فـ ﴿عَلَى﴾ هنا (٣) بمعنى مع، وهو في موقع الحال؛ أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظامًا للنعمة وإظهارًا لشكرها؛ لأن زمان الكبر زمان العقم ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك. وفيه بأنه دعاه ربه وسأل منه الولد، ما قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾ فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه، ليكون من أجل النعم وأجلاها، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ...﴾ إلخ. والظاهر (١): أن هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام لم تقع منه في زمان واحد، وإنما حكى الله عنه ما وقع منه في أزمان مختلفة، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجودًا حالة دعائه؛ إذ ترك هاجر والطفل بمكة، فالظاهر أن حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق.
فإن قلت: كيف (٢) جمع بين إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في وقت واحد، وإنما بشر بإسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟
قلت: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عندما بشر بإسحاق، وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه؛ لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ إذا ثبت هذا، فيكون قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ في وقت آخر. والله أعلم بحقيقة الحال.
(٢) الخازن.
والمعنى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾؛ أي (٢): رب اجعلني مؤديًّا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها علي، واجعل أيضًا بعض ذريتي مقيمي الصلاة، وقد خصّ الصلاة من بين فرائض الدين؛ لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى في تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم، ويدخل في ذلك دعاءه في هذا المقام دخولًا أوليًّا حيث قال: ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا، فاسمع ندائي ﴿وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾؛ أي (٣): واستجب دعائي هذا المتعلق باجعلني، واجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنام، ولذلك جيء بضمير الجماعة في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾. وقرأ (٤) ورش وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر: ﴿وتقبل دعائي﴾ بياء في الوصل. والبزي ويعقوب وصلًا ووقفًا، ويقف عليها بالهمزة الباقون. ﴿دُعَاءِ﴾ بغير ياء في الحالين. قال أبو علي: الوقف والوصل بياء هو القياس، والإشمام جائز لدلالة الكسرة على الياء.
٤١ - ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه مما يستحق أن يغفره الله، وإن لم يكن كبيرًا؛ لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر، فقال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي﴾؛ أي: ما فرط مني من ترك الأولى في باب الدين وغير ذلك مما لا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) زاد المسير.
ثم استغفر للمؤمنين حيث قال: ﴿و﴾ اغفر ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ والمؤمنات كلهم، وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذريته أو لم يكن منهم. وقيل: أراد المؤمنين من ذريته فقط، واكتفى بذكر (٢) مغفرة المؤمنين دون مغفرة المؤمنات؛ لأنهن تبع لهم في الأحكام، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة، جيء بضمير الجماعة في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ وفي الحديث: "من عمم بدعائه المؤمنين والمؤمنات استجيب له". فمن السنة أن لا يخص نفسه بالدعاء قال في "الأسرار المحمدية": اعلم أنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء بأن يذكر على صيغة الإفراد، لا على صيغة الجمع. قال رسول الله - ﷺ -: "لا يؤم عبد قومًا، فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم"، رواه ثوبان. بل الأولى أيضًا إن كان منفردًا أن يأتي بصيغة الجمع، فينوي نفسه وآباءه وأمهاته وأولاده وإخوانه وأصدقاءه المؤمنين الصالحين، فيعممهم بالدعاء، وينالهم بركة دعائه.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾؛ أي: يوم (٣) يبدو ويظهر فيه محاسبة أعمال المكلفين. وقيل: يوم يقوم الناس فيه للمحاسبة والمجازاة على أعمالهم، فاكتفى بذلك؛ أي: بذكر الحساب عن ذكر الناس، لكونه مفهومًا عند السامع، والأول أولى وهذا دعاء المؤمنين بالمغفرة، والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة.
والمعنى (٤): أي ربنا اغفر لي ما فرط مني من الذنوب ولأبوي. وقد روي عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة، واستغفاره لأبيه عن موعدة وعدها إياه، فلما
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التعجبي. ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وهو من رؤية البصر، عداه بـ ﴿إِلَى﴾ تضمينًا له بمعنى النظر، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول؛ أي: هل رأيت عجبًا مثل هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرًا. ﴿بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَدَّلُوا﴾. ﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَحَلُّوا﴾. ﴿جَهَنَّمَ﴾: عطف بيان من ﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾. ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾.
﴿وَجَعَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَدَّلُوا﴾ فهو من جملة الصلة المتعجب منها. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْدَادًا﴾. ﴿أَنْدَادًا﴾: مفعول ثان لجعل، والأول محذوف تقديره: وجعلوا الأصنام أندادًا لله. ﴿لِيُضِلُّوا﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يضلوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يضلوا﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلُوا﴾، والتقدير: وجعلوا لله أندادًا لإضلالهم الناس عن سبيله. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿تَمَتَّعُوا...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَمَتَّعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿فَإِنَّ﴾: (الفاء): تعليلية؛ لتعليلها القلة المفهومة من ﴿تَمَتَّعُوا﴾، ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿مَصِيرَكُمْ﴾: اسمها. ﴿إِلَى النَّارِ﴾: خبرها، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لِعِبَادِيَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قُلْ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة ﴿لِعِبَادِيَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم في جواب الطلب لفعل محذوف واقع مفعولًا لـ ﴿قُلْ﴾ تقديره: قل لعبادي أقيموا الصلاة.. يقيموا؛ أي: إن قلت لهم: أقيموا الصلاة.. يقيموا. ﴿وَيُنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُقِيمُوا﴾، وفي "الفتوحات" قوله: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ...﴾ إلخ. مفعول ﴿قُلْ﴾
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول ومعطوف، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿مَاءً﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿فَأَخْرَجَ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿أخرج﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. والجملة معطوفة على ﴿أنزل﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أخرج﴾. ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿رِزْقًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿رِزْقًا﴾: مفعولُ ﴿أَخْرَج﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رِزْقًا﴾.
﴿وَسَخَّرَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿سَخَّرَ﴾. ﴿الْفُلْكَ﴾: مفعول ﴿سَخَّرَ﴾. ﴿لِتَجْرِيَ﴾: (اللام): لام كي، ﴿تجري﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْفُلْكَ﴾. ﴿فِي الْبَحْرِ﴾: متعلق بـ ﴿تجري﴾. ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿تجري﴾؛ أي: حالة كونها متلبسة بأمره، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لجريانها في البحر بأمره، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سخر﴾. ﴿وَسَخَّرَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿الْأَنْهَارَ﴾: مفعول به.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣)﴾.
﴿وَسَخَّرَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾: مفعولان لـ ﴿سخر﴾. ﴿دَائِبَيْنِ﴾: حال من ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾. ﴿وَسَخَّرَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به. ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾: مفعولان لـ ﴿سخر﴾.
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)﴾.
﴿وَآتَاكُمْ﴾: فعل ومفعول أول معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿مِنَ﴾: حرف جر وتبعيض، أو زائد في المفعول الثاني. ﴿كُلِّ﴾: مجرور بـ ﴿مِنْ﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿آتَاكُمْ﴾، والمفعول الثاني محذوف تقديره: وآتاكم شيئًا من كل ما سألتموه. ﴿كُلِّ﴾: مضاف. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾: مصدرية ﴿سَأَلْتُمُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والضمير فيه عائد إلى الله تعالى، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره ما
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد إذ قال؛ أي: قصة إذ قال إبراهيم. ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾: والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ إلى قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اجعَل هَذَا﴾: فعل دعاء، ومفعول أول. ﴿الْبَلَدَ﴾: بدل من إسم الإشارة، أو عطف بيان منه، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿آمِنًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب للنداء. ﴿وَاجْنُبْنِي﴾: فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿وَبَنِيَّ﴾: معطوف على ياء المتكلم، والجملة معطوفة على جملة ﴿اجْعَلْ﴾. ﴿أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم وذريته، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: من عبادتنا الأصنام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اجْنُبْنِي﴾.
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُنَّ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَضْلَلْنَ كَثِيرًا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. (﴿فمَنَ﴾: (الفاء): تفصيلية.
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أَسْكَنْتُ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾: جار ومجرور متعلق به، و ﴿مِنْ﴾ تبعيضية، والمفعول محذوف، والتقدير: ذرية بعض ذريتي، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿بِوَادٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَسْكَنْتُ﴾. ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾: صفة ومضاف إليه. ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَسْكَنْتُ﴾. ﴿الْمُحَرَّمِ﴾: صفة للبيت. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف مؤكد للنداء الأول. ﴿لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإقامتهم الصلاة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَسْكَنْتُ﴾. ﴿فَاجْعَلْ﴾: (الفاء): عاطفة تفريعية. ﴿اجعل﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿أَفْئِدَةً﴾: مفعول أول لجعل. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: صفة
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿مَا﴾: في محل النصب مفعول ﴿تَعْلَمُ﴾؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿نُخْفِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبراهيم﴾ وسائر العباد، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما نخفيه. ﴿وَمَا نُعْلِنُ﴾: معطوف على ﴿مَا نُخْفِي﴾، ﴿وَمَا﴾: (الواو): اعتراضية، أو عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَخْفَى﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: فاعل ﴿يَخْفَى﴾، و ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾، أو متعلق بـ ﴿يَخْفَى﴾. ﴿وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾: معطوف على ﴿فِي الْأَرْضِ﴾، والجملة الفعلية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب إن قلنا: إنها من كلام الله؛ لاعتراضها بين كلامي إبراهيم، أو في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ إن قلنا: إنها من كلام إبراهيم.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠)﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: ﴿اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾: فعل ومفعولان ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾: جار ومجرور صفة لمحذوف معطوف على المفعول الأول لجعل، والتقدير: رب اجعلني وبعضًا من ذريتي مقيم الصلاة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَتَقَبَّلْ﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿دُعَاءِ﴾: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر تقديره: ربنا فاسمع ندائي وتقبل دعائي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اغْفِرْ﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿لِيَ﴾: متعلق بـ ﴿اغْفِرْ﴾. ﴿وَلِوَالِدَيَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ﴿لِيَ﴾. ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿يَومَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿اغْفِرْ﴾. ﴿يَقُومُ الْحِسَابُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾.
﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾؛ أي: الهلاك، يقال: رجل بسائر وقوم بور، كما قال: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ ومنه قول الشاعر:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ | غَدَاةَ الْحَرْبِ إِذْ خِيْفَ الْبَوَارُ |
﴿يَصْلَوْنَهَا﴾؛ أي: يقاسون حرها، يقال: صلى النار صليًّا قاسى حرها كتصلاها، والمرادَ بيصلونها: الدخول مع المقاساة لشدة حرها، وإلا فمطلق الدخول قد استفيد من قوله: ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾. وفي "المصباح": صلى الله بالنار، وصليها، صلى - من باب تعب -: وجد حرها، والصِّلاء - وزان كتاب -: حر النار، وصليت اللحم أصليه - من باب رمى - إذا شويته. اهـ.
﴿أَنْدَادًا﴾ والأنداد: الشركاء جمع ند، وهو المثل الشبيه.
﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ﴾؛ أي: مرجعكم ومردكم، والمصير: مصدر (١) صار التامة بمعنى: رجع. ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ اسما مصدر لأسر وأعلن الرباعيين.
﴿يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾؛ أي: فدية. ﴿وَلَا خِلَالٌ﴾ الخلال: المخالة والصداقة، وفي "القرطبي" الخلال (٢): جمع خلة كقلة وقلال. قال الشاعر:
فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الْخِلاَلِ وَلاَ قَالِي
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ السماء: السحاب، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء، مشتق من السمو؛ وهو الارتفاع، وسمي السحاب سماء لارتفاعه.
﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾: جمع ثمر، والثمر: اسم يقع على ما يحصل من الشجر، وقد يقع على الزرع أيضًا بدليل قوله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾.
(٢) القرطبي.
﴿دَائِبَيْنِ﴾: الدأب: العادة المستمرة دائمًا على حالة واحدة، ودأب في السير إذا داوم عليه، ودأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة، كما قال: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾. وفي "المختار": دأب في عمله جد وتعب، وبابه قطع وخضع فهو دائب بالألف لا غير، والدائبان: الليل والنهار، والدأب - بسكون الهمزة - العادة والشأن وقد يحرك. اهـ. وفي "القاموس": دأب في عمله - كمنع - دأبًا، ويحرك ودؤوبًا بالضم جد وتعب. اهـ.
﴿وَآتَاكُمْ﴾: أعطاكم. ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾: لا تطيقوا إحصاءها وحصرها من أحصى الرباعي، والإحصاء: العد بالحصى، وكان العرب يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع.
﴿ظَلُومٌ﴾؛ أي: كثير الظلم لنفسه بإغفال شكر النعمة. ﴿كَفَّارٌ﴾؛ أي: شديد الكفران والجحود لها.
﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ يقال: جنبته كنصرته وأجنبته وجنبته؛ أي: أبعدته، والمعنى: بعدني وإياهم. وفي "الفتوحات" يقال (١): جنبه شرًّا وأجنبه إياه ثلاثيًّا ورباعيًّا: وهي لغة نجد، وجنَّبه إياه مشددًا: وهي لغة الحجاز وهو المنع، وأصله من الجانب، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل في البعد مطلقًا. وقال الراغب: وقوله تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ من جنبته عن كذا؛ أي: أبعدته منه. وقيل: من جنبت الفرس كأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بإلطاف منه وأسباب خفية، وأن نعبد على حذف حرف الجر؛ أي: عن أن نعبد. اهـ. "سمين". وفي "القاموس": والجنب: محركة أن يجنب فرسًا إلى فرسه في السباق، فإذا فاز المركوب تحول إلى المجنوب. اهـ.
وفي "المصباح": وجنبت الرجل الشر جنوبًا - من باب قعد - أبعدته عنه،
﴿بِوَادٍ﴾؛ أي: في وادٍ، والوادي: المنخفض بين الجبلين. ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾؛ أي: لا يصلح للإنبات؛ لأنه أرض حجرية لا تنبت شيئًا.
﴿أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ﴾ الأفئدة (١): جمع فؤاد، وهو القلب عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه، وقيل: هو جمع وفد، والأصل: أوفدة فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: واجعل وفودًا من الناس تهوي إليهم.
﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: تسرع شوقًا وحبًّا إليهم. قال الأصمعي: يقال (٢): هوى يهوي - من باب رمى - هويًا إذا سقط من عُلوٍ إلى سُفلٍ. وقال الفراء: تهوي إليهم تريدهم، كما تقول: رأيت فلانًا يهوي نحوك، معناه يريدك. وقال أيضًا: تهوي: تسرع إليهم. وقال ابن الأنباري: معناه: تنحط إليهم وتنحدر وتنزل، هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف. وأما أقوال المفسرين فيه، فقد تقدمت في مبحث التفسير.
﴿لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾؛ أي: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك، وإضافة (٣) السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله: لسميعٌ الدعاء، وقد ذكر سيبويه فعيلًا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا رحيم أباه. وفي "البيضاوي": وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله، أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز، وهذا الأخير بعيدٌ جدًّا. قال أبو حيان: والظاهر (٤) إضافة سميع إلى المفعول، وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون
(٢) الخازن.
(٣) النسفي.
(٤) البحر المحيط.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا﴾ فإنه تعجيب (١) لرسول الله - ﷺ - ولكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل التي لا تكاد تصدر عمن له أدنى إدراك.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾؛ أي: شكر نعمة الله.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب؛ لأنه أسند (٢) الإحلال وهو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾؛ لأنه ليس الإضلال غرضًا حقيقيًّا لهم من اتخاذ الأنداد، ولكن لما كان نتيجة له كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمني نتيجة المجيء، شبه بالغرض وأدخل اللام عليه بطريق الاستعارة التبعية، ونسب الإضلال الذي هو فعل الله تعالى إليهم؛ لأنهم سبب الضلالة حيث يأمرون بها ويدعون إليها.
ومنها: التهديد والوعيد لأولئك الضالين المضلين في قوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾.
(٢) روح البيان.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ﴾ في أربعة مواضع.
ومنها: الاستغراق المفاد من قوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾؛ لأن المفرد المضاف يفيد الاستغراق.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾؛ لأن فعول وفعال من صيغ المبالغة.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾؛ أي: آمنًا أهله؛ لأن إسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه، وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد.
ومنها: جمع الأصنام في قوله: ﴿أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ ليشتمل على كل صنم عبد من دون الله؛ لأن الجمع المعرف باللام يشمل كل واحد من الأفراد كالمفرد باتفاق جمهور أئمة التفسير والأصول والنحو.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا﴾ لأن (١) نسبة الإضلال إليها مجاز من باب نسبة الشيء إلى سببه. اهـ. "كرخي"؛ أي: فهذا مجاز؛ لأن الأصنام جمادات وحجارة لا تعقل شيئًا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الضلال بعبادتها أضيف إليها، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم، وإنما فتنوا وغروا بسببها. اهـ. "خازن".
ومنها: الطباق في قوله: ﴿تَبِعَنِي﴾ و ﴿عَصَانِي﴾. وفي ﴿نُخْفِي﴾ و ﴿نُعْلِنُ﴾. وفي ﴿الْأَرْضِ﴾ و ﴿السَّمَاءِ﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾. قال (١) الشريف الرضي: وهذه من محاسن الاستعارة، وحقيقة الهوي: النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط، والراد: تسرع إليهم شوقًا، وتطير إليهم حبًّا، ولو قال: تحنّ إليهم. لم يكن فيه من الفائدة ما في التعبير بـ ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾؛ لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾؛ أي: يوم (٢) يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ ﴿يَقُومُ﴾ الذي هو حقيقة في قيام الرجل، للدلالة على أنه في غاية الاستقامة، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ إن قلنا: إنه من كلام الله معترض بين كلامي إبراهيم؛ لأن حق العبارة حينئذٍ أن يقال: وما يخفى علي من شيء.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) الشوكاني.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن جزاء من بدلوا نعمة الله كفرًا، وجعلوا له الأنداد جهنم يصلونها وبئس المهاد، وطلب إلى عباده المؤمنين مجاهدة النفس والهوى وإقامة فرائض الدين.. ذكر هنا تسلية لرسوله وتهديدًا للظالمين من أهل مكة أن تأخيرهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية ليس بإهمال للعقوبة، ولا لغفلة عن حالهم، وإنما كان لحكمة اقتضت ذلك، وهم مرصدون ليوم شديد الهول له من الأوصاف ما بين بعد، وعليك أيها الرسول أن تنذر الناس بقرب حلوله، وأنهم في ذلك اليوم سيطلبون المرد إلى الدنيا ليجيبوا دعوة الداعي، وهيهات هيهات.
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ | ردَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى في الْحِلاَبِ |
التفسير وأوجه القراءة
٤٢ - ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: ولا تظنن الله سبحانه وتعالى يا محمد أو أيها المخاطب ﴿غَافِلًا﴾؛ أي: ساهيًا ﴿عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ من ظلمهم، فلا ينتقم منهم، والظالمون أهل مكة وغيرهم من كل أهل شرك وظلم، وهو خطاب لرسول الله - ﷺ -، والمعنى: دم على ما كنت عليه من عدم حسبانه تعالى غافلًا عن أعمالهم، ولا تحزن بتأخير ما يستحقونه من العذاب الأليم. ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ قرئ بفتح السين وكسرها قراءتان سبعيتان، وكذا يقال: في قوله الآتي: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾. اهـ. شيخنا. والغفلة (١): معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور. وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله محال، فلا بدّ من تأويل الآية، فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه، بل ينتقم ولا يتركه مغفلًا. قال سفيان بن عيينة: فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم.
فإن قلت: تعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله - ﷺ - غافلًا وهو أعلم الناس به أنه لم يكن غافلًا حتى قيل له: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾؟
قلتُ: إذا كان المخاطب به رسول الله - ﷺ -، ففيه وجهان:
أحدهما: التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلًا، فهو
الوجه الثاني: أن المراد بالنهي عن حسبانه غافلًا: الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه شيء، وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم.
والمعنى: ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم، ولكن يعاملهم معالمة الرقيب الحفيظ عليهم، والمحاسب لهم على الصغير والكبير، والنقير والقطمير. وفي الآية وعند كظيم للظالمين وتسلية للمظلومين، وإن كان المخاطب غير النبي - ﷺ - فلا إشكال فيه ولا سؤال؛ لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله، فمن جوز أن يحسبه غافلًا فلجهله بصفاته.
والخلاصة على الوجه الأول: ولا تحسبن الله يا محمد غافلًا عما يعمل الظالمون؛ أي (١): تاركًا عقوبة المشركين بما عملوا، والمراد تثبته - ﷺ - على ما كان عليه من أنه - ﷺ - لا يحسب الله غافلًا، والمقصود: تنبيهه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم.. للزم عليه تعالى أحد الأمور الثلاثة: إما أن يكون غافلًا عن ذلك الظالم، أو عاجزًا عن الانتقام، أو راضيًا بذلك الظلم، وكل ذلك محال عليه تعالى، فامتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم.
ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم، وفيه من الهول ما يحير اللب واللبيب، ويدهش العقل والعقيل، فقال: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾؛ أي: إنما يمهلهم بلا عذاب الاستئصال، ويمتعهم بكثير من لذات الحياة، ولا يعجل عقوبتهم ﴿لِيَوْمٍ﴾؛ أي: إلى يوم شديد الهول ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾؛ أي: ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف ولا تتحرك أجفانهم من الفزع والاضطراب والدهشة؛ أي: أعينهم مفتوحة لا تتحرك (٢) أجفانهم من هول ما يرونه، يعني أن تأخيره للتشديد والتغليظ، لا للغفلة عن أعمالهم. ولا لإهمالهم،
(٢) روح البيان.
٤٣ - وقوله: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ حال مقدرة من مفعول ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾؛ أي: يؤخرهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار حالة كونهم مهطعين في ذلك اليوم؛ أي: مسرعين إلى الداعي وإجابته ومقبلين عليه بالخوف والذل والخضوع، كإسراع الأسير والخائف والداعي للخلائق هو إسرافيل حيث يدعو إلى الحشر. وعبارة المحلي في سورة ق: ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ يا مخاطب ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ وهو إسرافيل ﴿مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ من السماء، وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة: إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. اهـ. وحالة كونهم ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾؛ أي: رافعيها إلى السماء مع إدامة النظر إليها من غير التفات إلى شيء ولا ينظر أحد إلى أحد ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾؛ أي: لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا في كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف؛ أي: لا تضم من شد الفزع والخوف. وقال في "الكواشي": أصل الطرف تحريك الجفون في النظر، ثم سميت العين طرفًا مجازًا.
والمعنى: أنهم لا يلتفتون ولا ينظرون مواقع أقدامهم لما بهم من الدهشة انتهى. ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾؛ أي: قلوبهم ﴿هَوَاءٌ﴾؛ أي: صفر خالية من العقل والفهم؛ لفرط الحيرة والدهشة، كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل، والهواء (٢): الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به، فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانًا
(٢) النسفي.
ومعنى الآية (١): إن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئًا ولا تعقل من شدة الخوف. وفي "الكواشي": تلخيصه: الأبصار شاخصة، والرؤوس مقنعة، والقلوب فارغة زائلة لهول ذلك اليوم، ثبتنا الله وإياكم فيه، والآية تسلية لرسول الله - ﷺ -، وتعزية للمظلوم، وتهديد للظالم، وحصول هذه الصفات الخمسة عند المحاسبة.
٤٤ - ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب، فقال: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾؛ أي: خوف الناس جميعًا يا محمد ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: خوفهم من عذاب يوم يأتيهم العذاب؛ أي: خوفهم هذا اليوم، وهو يوم القيامة؛ لأنه يوم إتيان العذاب، وإنما (٢) اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب؛ لأن المقام مقام تهديد. وقيل: المراد به يوم موتهم، فإنه أول أوقات إتيان العذاب حيث يعذبون بالسكرات. وقيل: المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، والأول أولى، وهذا الإنذار للكفرة أصالة، وللمؤمنين تبعية، وإن لم يكونوا معذبين، وانتصاب ﴿يَوْمَ﴾ على أنه مفعول ثان لـ ﴿وَأَنْذِرِ﴾. ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ منهم بالشرك والتكذيب. قيل: المراد بـ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هنا هم الناس المذكورون؛ أي: فيقولون، والعدول من الإضمار إلى الإظهار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم، هذا إذا كان المراد بالناس هم الكفار، وعلى تقدير كون المراد بهم من يعم المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم؛ وهم الكفار. ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ردنا إلى الدنيا و ﴿أَخِّرْنَا﴾؛ أي: أمهلنا ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾؛ أي: إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد. قال بعضهم: لعل في التركيب تضمينًا كما أشرنا إليه، والتقدير: ردنا إلى ذي أجل قريب؛ أي: قليل وهو الدنيا مؤخّرًا عذابنا، أو المعنى: أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك. وقوله: ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ جواب الأمر؛ أي: إن أخرتنا نجب دعوتك لعبادك على ألسنة رسلك إلى توحيدك وطاعتك. ﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ المرسلين منك إلينا، فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال، وإنما جمع الرسل؛
(٢) الشوكاني.
ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عندما قالوا هذه المقالة، فقال: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، فالهمزة فيه للاستفهام التقريري التوبيخي التبكيتي داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، ويكون ذلك المحذوف على ما عطف عليه مقولًا لقول محذوف، والتقدير: فيقال (١) لهم توبيخًا وتبكيتًا: ألم تؤخروا في الدنيا، ولم تكونوا أقسمتم من قبل؛ أي: من قبل هذا اليوم؛ أي: حلفتم إذ ذاك بألسنتكم تكبرًا وغرورًا ﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾؛ أي: ما لكم انتقال من دار الدنيا وارتحال منها إلى دار أخرى للمجازاة إنكارًا للبعث والنشور، أو بألسنة حالكم حيث استغرقتم في الشهوات وأخلدتم إلى الحياة الدنيا، وأملتم بعيدًا ولم تحدثوا بأنفسكم بالانتقال عن هذه الحال، فكأنكم لا تموتون. وجواب القسم جملة قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ وإنما (٢) جاء بلفظ الخطاب في قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ لمراعاة ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾، ولولا ذلك لقال: ما لنا من زوال. وقيل: قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾.
٤٥ - وجملة قوله: ﴿وَسَكَنْتُمْ...﴾ إلخ. معطوف على ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾؛ أي: أولم تكونوا أقسمتم وسكنتم؛ أي: استقررتم ونزلتم ﴿فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ﴾؛ أي: منازل الذين ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالشرك والمعاصي، كعاد وثمود وغيرهما غير محدثين لأنفسكم بما لقوا من العذاب بسبب ما اكتسبوا من السيئات ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ﴾؛ أي: وظهر لكم بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار ﴿كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد. وفاعل ﴿تَبَيَّنَ﴾ ما دلت عليه الجملة
(٢) الشوكاني.
والمعنى (٢): وأقمتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم واطمأننتم فيها، وسرتم سيرة من قبلكم في الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم، ولم تعتبروا بأيام الله فيهم، وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم.
الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل، فهيهات هيهات قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل في سم الخياط. وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَتَبَيَّنَ﴾ فعلًا ماضيًا، وفاعله ضمير يعود على ما يفهم من الجملة الاستفهامية المذكورة بعده؛ أي: وتبين لكم فعلنا العجيب. وقرأ السلمي شذوذًا: ﴿ونُبَيِّنُ﴾ بضم النون ورفع النون الأخيرة مضارع بين، ويكون على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ كذلك إلا أنه جزم النون عطفًا على ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا﴾؛ أي: ولم نبين فهو مشارك له في التقرير.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
أولاها: علم يدله على الآخرة.
والثانية: رفيق يعينه على طاعة الله، ويمنعه عن عصية الله.
والثالثة: معرفة عدوه والحذر منه.
والرابعة: عبرة يعتبر بها.
والخامسة: إنصاف الخلق؛ لكيلا تكون له يوم القيامة خصماء.
والسادسة: الاستعداد للموت قبل نزوله؛ لكيلا يكون مفتضحًا يوم القيامة.
٤٦ - ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذة بالقذة، فقال: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ الجملة في محل النصب على الحال؛ أي: فعلنا بالذين ظلموا ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حدّ محدود بحيث لا يقدر عليهم غيرهم، والمكر: الخديعة. ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾؛ أي: وعند (٢) الله جزاء مكرهم الذي فعلوه، أو: وعند الله مكتوب مكرهم، فهو مجازيهم، أو عند الله مكرهم الذين يمكرهم به على أن يكون المكر مضافًا إلى المفعول. قيل: المراد بهم قوم محمد - ﷺ - مكروا بالنبي - ﷺ - حين هموا بقتله أو نفيه. وقيل: والمراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء، فاتخذ لنفسه تابوتًا، وربط قوائمه بأربعة نسور.
والخلاصة (٣): عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه فرأيهم آفن؛ إذ هم سلكوا طريقًا كان ينبغي البعد عنها بعد أن استبان فسادها.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
والخلاصة: تحقير شأن مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات الثابتة ثبوت الجبال، فليس بمزيل شيئًا منها مهما قوي، وكان غاية في المتانة والعظم. وقيل: ﴿إنّ﴾. ﴿إن﴾ زائدة، واللام: لام الابتداء مفتوحة، والفعل بعدها مرفوع.
والمعنى (٢): وكان مكرهم في العظم والشدة لتزول وتتحرك منه الجبال الظاهرة؛ أي: مسوى لإزالة الجبال عن مقارها معدًّا لذلك. قال في "الإرشاد"؛ أي: وإن كان مكرهم في غاية المتانة والشدة، وعبر عن ذلك بكونه مسوى ومعدًا لذلك؛ لكونه مثلًا في ذلك. وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ بالنون. وقرأ عمر وعلي وعبد الله وأبيّ وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي شذوذًا: ﴿وإن كاد﴾ بالدال بدل النون ﴿لِتَزُولَ﴾ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية. وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي كذلك إلا أنهم قرؤوا ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ بالنون فعلى هاتين القرائتين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، و (اللام): هي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فـ ﴿إن﴾ نافية، واللام بمعنى إلا، فمن قرأ: ﴿كاد﴾ - بالدال - فالمعنى أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم ولا يقع الزوال. وعلى قراءة ﴿كَانَ﴾ - بالنون - يكون زوال الجبال قد وقع، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته، وهو بحيث يزول منه الجبال وتتقطع عن أماكنها، ويحتمل أن يكون معنى ﴿لِتَزُولَ﴾: ليقرب زوالها، فيصير المعنى، كمعنى قراءة كاد، ويؤيد هذا التأويل
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٤٧ - ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ﴾ يا محمد ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ بتعذيب الظالمين ونصر المؤمنين؛ أي: ما وعدهم سبحانه بقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾. وأصله (٣): مخلف رسله وعده، وقدم المفعول الثاني إعلامًا بأن لا يخلف وعده أحدًا، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه، والوعد: عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها، والمعنى: دم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا. وهذه الجملة تفريع (٤) على قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعدما وعدنا رسلهم بإهلاكهم، فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا: فـ ﴿مُخْلِفَ﴾: إما متعد لاثنين
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح.
وقرىء شاذًا (١): ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ بجر رسله ونصب وعده. قال الزمخشري: وهذه القراءة في الضعف كقراءة من قرأ: ﴿قتل أولادهم شركائهم﴾ لما فيها من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وتقدم الكلام عليها مشبعًا في سورة الأنعام. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب لا يماكر ولا يغالبه أحد ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ ينتقم لأوليائه في أعدائه، وفي "القاموس": انتقم منه إذا عاقبه، والجملة تعليل للنهي.
والمعنى (٢): أن الله سبحانه وتعالى عزيز؛ أي: غالب على أمره لا يمتنع منه من أراد عقوبته قادر على كل من طلبه لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله وكذبهم وجحد بنبوتهم وأشرك به، واتخذ معه إلهًا غيره،
٤٨ - ثم ذكر زمان الانتقام، فقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾؛ أي: إنه تعالى ذو انتقام من أعدائه، يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر، ثم ترجع أرضًا أخرى بعد ذلك، وتبدل السماوات غير السماوات بانتشار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ معطوف على ﴿الْأَرْضُ﴾، وإنما قدم تبديل الأرض لقربها هنا، ولكون تبديلها أعظم أثرًا بالنسبة إلينا اهـ "كرخي". وقرىء شاذًا: ﴿نبدل﴾ بالنون، ﴿الأرض﴾ بالنصب؛ ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ معطوف على الأرض. وعلى هذا التفسير فالظرف متعلق بـ ﴿انْتِقَامٍ﴾، ويحتمل أن يكون متعلقًا باذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد - ﷺ - لأمتك قصة يوم تبدل هذه الأرض المعروفة أرضًا أخرى غير معروفة، وتبدل السماوات غير السماوات، ويكون الحشر وقت التبديل عند الظلمة دون الجسر؛ أو يكون الناس على صراط.
(٢) المراغي.
وروي عن ابن مسعود وأنس - رضي الله عنهما - من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطيء عليها أحد خطيئة، ولا بدع في أن تكون أرضًا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقًا جديدًا.
وفي "الخازن": ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين (١):
أحدها: أنه تبدل صفة الأرض والسماء، لا ذواتهما. فأما تبديل الأرض فيتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها: وهو أن تدكدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب وتمد مد الأديم. وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها وقمرها، ويكوران، وكونها تارة كالدهان وتارة كالمهل، وبهذا القول قال جماعة من العلماء، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد". أخرجاه في "الصحيحين". العفراء - بالعين المهملة - البيضاء إلى حمرة. ولهذا شبهها بقرصة النقي وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة، كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة. وقوله: ليس بها علم لأحد يعني: ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدل به.
والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء، وهذا قول جماعة من العلماء، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل. فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية، لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
فإن قلت: إذا فسرت التبديل بما ذكرت، فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤)﴾ وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها؟
قلتُ: وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولًا صفتها مع بقاء ذاتها، كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها، ثم بعد ذلك تبدل تبديلًا ثانيًا، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها، كما تقدم أيضًا، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت: سألت رسول الله - ﷺ - عن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط". أخرجه مسلم. وروى ثوبان أن حبرًا من اليهود سأل رسول الله - ﷺ -: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: "هم في الظلمة دون الجسر" ذكره البغوي بغير سند. ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه انتهى.
وقوله: ﴿وَبَرَزُوا﴾ معطوف على ﴿تُبَدَّلُ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة يوم برز الخلائق وخرجوا جميعًا من قبورهم ﴿لِلَّهِ﴾؛ أي: لحكم الله تعالى وقضائه، والوقوف بين يديه للحساب؛ أي: خرجوا من قبورهم للقاء الله. ﴿الْوَاحِدِ﴾ الذي لا ثاني له ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند. ﴿الْقَهَّار﴾؛ أي: الغالب الذي يقهر عباده على ما يريد ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقرأ زيد بن علي شذوذًا: ﴿وَبَرَزُوا﴾ - بضم الباء وكسر الراء مشددة - جعله مبنيًّا للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم لا بالنسبة إلى تكرير الفعل. ذكره في "البحر".
٤٩ - وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارًا بين عجز المجرمين وذلتهم، فقال: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: وتبصر يا محمد - ﷺ -، أو أيها المخاطب الكافرين ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ برزوا لله الواحد القهار حالة كونهم ﴿مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾؛ أي: مشدودين في الأغلال والقيود؛ أي: حالة كون بعضهم يقرن مع بعض الأصفاد بحسب مشاركتهم في العقائد الفاسدة، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم، أو قرنت أيديهم وأرجهلهم إلى رقابهم بالأغلال والأصفاد - جمع صفد - القيود والأغلال، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿مُقَرَّنِينَ﴾، أو حال من ضميره.
٥٠ - ﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾ جمع سربال؛ أي: قمصانهم ﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾ تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل، وخصّ القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته. والقطران (٣): هو عصارة الأبهل والأرز ونحوهما. وقال بعضهم: هو ما يتحلب من الأبهل، فيطبخ فتهناء به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحدته، وقد تصل حرارته إلى الجوف، وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار يطلى به جلود أهل النار، يعود طلاؤه لهم كالسرابيل، ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الموحش، ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾؛ أي: تعلو وجوههم وتضربها النار وتحيط بها، وخصّ الوجوه (٤) بالذكر مع أن ذلك يكون لسائر الجسم لأنها أشرف ما في البدن وفيها الحواس المدركة
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
٥١ - وقوله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ﴾ متعلق بمحذوف تقديره: يفعل ذلك بهم ليجزي سبحانه وتعالى ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾ مجرمة جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقًا لعملها ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فيتمه في أعجل ما يكون من الزمان. قيل: يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك، فلا يشغله حساب عن حساب، فيوفى الجزاء بحسبه، ولا يظلمهم ولا يزيدهم على عقابهم الذي يستحقونه. وقرأ (١) علي وأبو هريرة وابن عباس وعكرمة وابن جبير وابن سيرين والحسن بخلاف عنه وسنان بن سلمة بن المخنق وزيد بن علي وقتادة وأبو صالح والكلبي وعيسى الهمذاني وعمرو بن فائد وعمرو بن عبيد ﴿من قَطِرٍ﴾ بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء ﴿آن﴾ بوزن عان، وهي قراءة شاذة وليست متواترة، وجعلوا كلمتين، والقطر: النحاس، والآني: اسن فاعل من أنى يأنى؛ أي: تناهى في الحرارة كقوله: ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾. وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: ﴿من قَطْران﴾ - بفتح القاف وإسكان الطاء - بزنة سكران وهي قراءة شاذة أيضًا. وقرأ الجمهور: ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ﴾ بالنصب وقرىء بالرفع، فالأول على نحو قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ فهو على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز جعل ورود الوجه على النار غشيانًا. وقرىء: ﴿وتغشى وجوههم﴾ بمعنى تتغشى.
٥٢ - ﴿هَذَا﴾ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد - ﷺ - ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: مبلغ (٢) للناس إلى مراتب السعادة، وموصل لهم إليها، فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل. وميل: المعنى ﴿هَذَا﴾ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد بما فيه من فنون العظات والقوارع ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: كفاية لهم في الموعظة والتذكير. قال في
(٢) الفتوحات.
واعلم: أنه (٢) سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي: الغاية والحكمة في إنزال الكتب، وتكميل الرسل للناس واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى. وقرأ (٣) مجاهد وحميد شذوذًا: ﴿ولتنذروا﴾ بتاء مضمومة وكسر الذال كأن البلاغ لعموم المخاطبين. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي: ﴿ولينذروا﴾ بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به، فاستعد له قالوا: ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال، ولم يعرف له أصل.
وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها (٤)، وكثيرًا ما جاء في سور القرآن حتى إن بعضهم زعم أن قوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِه﴾ معطوف على قوله: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾.
(٢) البيضاوي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
١ - هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسماوات والأرض.
٢ - ذم الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا، ويصدون عن الدين القويم.
٣ - بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم؛ ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي.
٤ - التذكير بأيام الله تعالى ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم؛ ليكون في ذلك تسلية لرسوله وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار.
٥ - وعيد الكافرين على كفرهم، وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك.
٦ - وعد المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك.
٧ - دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرًا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.
٨ - بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتضت ذلك، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف.
الإعراب
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢)﴾.
﴿وَلَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا﴾: فعل ومفعولان في مجل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿غَافِلًا﴾. ﴿يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يعمله. ﴿إِنَّمَا﴾؛ أداة حصر ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)﴾.
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾: حالان من المضاف المحذوف؛ إذ التقدير: أصحاب الأبصار، أو تكون (١) الأبصار دلت على أربابها، فجاءت الحال من المدلول عليه، ويجوز أن يكونا مفعولين لفعل محذوف تقديره: تراهم مهطعين مقنعي رؤوسهم، والإضافة في قوله: ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ غير محضة؛ لأنه مستقبل أو حال. ﴿لَا يَرْتَدُّ﴾: فعل مضارع. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿طَرْفُهُمْ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في ﴿مُقْنِعِي﴾، أو بدل من ﴿مُقْنِعِي﴾، أو مستأنفة. ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿إِلَيْهِمْ﴾، والعامل فيه (٢) إما ﴿يَرْتَدُّ﴾، وإما ما قبله من العوامل، وأفرد ﴿هَوَاءٌ﴾ وإن كان خبرًا عن جمع؛ لأنه في معنى فارغة، ولو لم يقصد ذلك.. لقيل: أهوية؛ ليطابق الخبر مبتدأه. اهـ. "سمين". ومعنى الآية: أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئًا، ولا تعقل من شدة الخوف.
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾.
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ فـ ﴿يَوْمَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿وَأَنْذِرِ﴾، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: أهوال يوم وشدائده، فهو مفعول به لا مفعول فيه؛ إذ لا إنذار في ذلك اليوم وإنما الإنذار يقع في الدنيا اهـ شيخنا. ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على ﴿يَأْتِيهِمُ﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل صلة
(٢) الفتوحات.
﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف، ويكون ذلك المحذوف مع ما عطف عليه مقولًا لقول محذوف، فيقال لهم: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم؟ ﴿لم تكونوا﴾: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تكون﴾، وجملة ﴿تكون﴾ في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا للقول المحذوف، وجملة القول المحذوف مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾ نافية حجازية، أو تميمية. ﴿لَكُمْ﴾: خبرها، أو خبر المبتدأ مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿زَوَالٍ﴾: اسمها مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥)﴾.
﴿وَسَكَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾. ﴿فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سكنتم﴾. ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿وَتَبَيَّنَ﴾: فعل ماض، وفاعله محذوف معلوم مما بعده تقديره: فعلنا بهم، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾، ولا يصح (١)
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)﴾.
﴿وَقَدْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَكْرُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿مَكَرُوا﴾. ﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إن﴾: نافية. ﴿كَانَ مَكْرُهُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لِتَزُولَ﴾ (اللام): حرف جر وجحود. ﴿تزول﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْجِبَالُ﴾: فاعل مرفوع، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وإن كان مكرهم لزوال الجبال منه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره: وإن كان مكرهم صالحًا لزوال الجبال منه، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧)﴾.
﴿فَلَا﴾: (الفاء): تفريعية. ﴿لا تحسبن الله﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ وما بينهما جمل معترضة. ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه. ﴿رُسُلَهُ﴾: مفعول به لـ ﴿وَعْدِهِ﴾؛ لأنه مصدر مضاف لفاعله، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾: صفة لـ ﴿عَزِيزٌ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد لأمتك قصة يوم تبدل الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾: فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول. ﴿غَيْرَ الْأَرْضِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿تُبَدَّلُ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾: معطوف على ﴿الْأَرْضِ﴾. ﴿وَبَرَزُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على ﴿تُبَدَّلُ﴾. ﴿لله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿برزوا﴾. ﴿الْوَاحِدِ﴾: صفة للجلالة. ﴿الْقَهَّارِ﴾: صفة ثانية للجلالة، أو صفة لـ ﴿الْوَاحِدِ﴾.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)﴾.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾: فعل ومفعول به؛ لأن ﴿ترى﴾ بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ترى﴾. ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: حال من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾. ﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾: متعلق به. ﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿مُقَرَّنِينَ﴾، أو من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾، أو من ﴿مُقَرَّنِينَ﴾. ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١)﴾.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿برزوا﴾، وما بينهما اعتراض، أو بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك بهم للجزاء. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يجزي﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسٍ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هَذَا بَلَاغٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿بَلَاغٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَلِيُنْذَرُوا﴾: (الواو): عاطفة على محذوف تقديره: أنزل إليك هذا القرآن ليبلغهم إلى مراتب السعادة. و (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿ينذروا﴾: فعل ونائب فاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: أنزل إليك لتبليغهم إلى مراتب السعادة ولإنذارهم به، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿بِهِ﴾ متعلقان به ﴿وَلِيَعْلَمُوا﴾ (الواو): عاطفة. ﴿ليعلموا﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يعلموا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولعلمهم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿ما﴾: كافة لكلها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿هُوَ إِلَهٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة الاسمية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: وليعلموا كون المعبود إلهًا واحدًا لا شريك له، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَلِيَذَّكَّرَ﴾ (الواو): عاطفة. و (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يذكر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ﴿يذكر﴾. ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه منصوب بأن مضمرة، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولتذكر أولي الألباب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ قال الفراء: يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى يشخص - من باب ذهب - شخوصًا إذا بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة.
﴿مُهْطِعِينَ﴾؛ أي: مسرعين إلى الداعي اسم فاعل (١) من أهطع الرباعي
بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أرَاهُمْ | بِدَجْلَةَ مُهْطِعِيْنَ إِلَى السَّمَاءِ |
﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾؛ أي: رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء وإقناع الرأس رفعه وأقنع صوته إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: إن إقناع الرأس نكسه. وقيل: يقال أقنع إذا رفع رأسه وأقنع إذا طأطأ ذلة وخضوعًا، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة. قال الشاعر:
أنْغَضَ نَحْوِيْ رَأسَهُ وَأقْنَعَا | كَأَنَّمَا أبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا |
﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾؛ أي: لا ترجع إليهم أبصارهم، وأصل الطرف تحريك الأجفان، وسميت العين طرفًا؛ لأنه يكون بها، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وَأَغُضُّ طَرْفِيْ مَا بَدَتْ لِيْ جَارَتِي | حَتَّى يُوَارِي جَارتِيْ مَأوَاهَا |
﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾؛ أي: قلوبهم جمع فؤاد. ﴿هَوَاءٌ﴾؛ أي: خالية (١) من العقل والفهم، لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق: قلبه هواء؛ أي: لا قوة ولا رأي له، كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب:
أَلاَ أَبْلِغْ أبَا سفيانَ عَنِّي | فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءٌ |
ومعنى الآية: أن القلوب يومئذٍ زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.
﴿مِنْ زَوَالٍ﴾؛ أي: من انتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء.
﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: بينا لكم (٢) أنهم مثلكم في الكفر واستحقاق العذاب.
﴿وَبَرَزُوا﴾؛ أي: خرجوا من قبورهم.
﴿مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾؛ أي: مشدودين في القيود والأغلال جمع مقرن والمقرن من جمع في القرن، وهو الحبل الذي يربط به. وروي أن كل كافر يقرن مع شيطانه في سلسلة. والأصفاد جمع صَفَد - بفتحتين -: وهو القيد. والأغلال جمع غُل - بضم الغين -: وهو طوق من حديد، يقال: صفده يصفده صفدًا - من باب ضرب - إذا قيده، والاسم الصفد، وصفّده مشددًا للتكثير. اهـ. "سمين".
﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾: السرابيل: القمص، واحدها: سربال، ومنه قول كعب بن مالك:
تَلْقَاكُمُ عُصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ | مِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ فِيْ الْهَيْجَا سَرَابِيْلُ |
(٢) المراغي.
﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾ والقطران؛ دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت، كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت وهو الهنأ: يقال: هنأت البعير أهنؤه بالهنأ إذا طلبته بالهنأ؛ وهو أسود اللون منتن الريح. وفي "السمين": القطران: ما يستخرج من شجر فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب؛ ليذهب جربها لحدته، وفيه لغات ﴿قطران﴾ - بفتح القاف وكسر الطاء - وهي قراءة العامة المتواترة، ﴿قَطْران﴾ بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. و ﴿قِطْران﴾ - بكسر القاف وسكون الطاء - بزنة سرحان، ولم يقرأ بها فيما علمت. وقرأ جماعة ﴿من قطر﴾ - بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء (آن) بوزن عان، وجعلوها كلمتين كما مر في مبحث القراءة وقد مر أيضًا أن هذه القراءات شاذة عدا قراءة الجمهور ﴿قَطِران﴾.
﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾؛ أي: تعلوها وتحيط بها.
﴿هَذَا بَلَاغٌ﴾ والبلاغ: اسم مصدر لبلغ تبليغًا، فهو بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مبلغ للناس إلى مراتب السعادة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التهديد في قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، والأصل: وأفئدتهم كالهواء، لفراغها من جميع الأشياء، فصار التشبيه بليغًا.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق عليه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، حيث شبه شرائع الإِسلام ومعجزات
ومنها: الإظهار مقام الإضمار في قوله: ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا﴾ لتقدم المرجع في قوله: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾.
ومنها: العدول عن المضارع إلى الماضي في قوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ﴾ بدل: ويبرزون؛ للدلالة على تحقق الوقوع مثل: ﴿أتى أمر الله﴾ فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي.
ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ فقد افتتحت هذه السورة بقوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾... الخ، فهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين آمين (١).
* * *
والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وسرًّا وجهرًا على إتمام تفسير هذا الجزء الثالث عشر، لقد بذلنا جهدنا وطاقتنا على حسب القوى البشرية في تلخيصه وتهذيبه وتنقيحه، فرحم الله امرأ نظر فيه بعين الإنصاف فسامح، ووقوف في التصحيح على خطأ فأصلح، وأعوذ بالله من حاسد إذا حسد وبغى، وأستغفره - جل اسمه - من قلم زلَّ وسهى، أو حرف شيئًا عن موضعه وطغى، وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
تمَّ المجلد الرابع عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان"، ويليه المجلد الخامس عشر، وأوله سورة الحجر.
العَفوُ يُرْجَى مِنْ بَنِيْ آدَمِ... فَكَيفَ لاَ يُرجَى مِنَ الرَّبِّ
فإنَّه أرأفُ بي منهم... حسبي به حسبي به حسبي
آخرُ
سبحانك لا علم لنا... إلا ما أَلْهمتَ لنا
آخرُ
يا مَنْ مَلَكوت كُلِّ شَيءٍ بِيَدِه... طُوْبَى لِمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْزًا لِغَدِهْ
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الخامس عشر»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا... إِلاَ ما أَلْهَمْتَ لَنَا
لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلاَنا... عَلَى مَا أسْعَفتَ لَنَا
شعر آخر
عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ لاَ تَطْلُبْ مُكَاثَرَةً... فَالْقَصْدُ أَفْضَلُ شَيءٍ أَنْتَ طَالِبُهُ
فَالْمَرْءُ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا... وَلاَ يُفَكِّرُ مَا كَانَتْ عَوَاقِبُهُ
حَتَّى إِذَا ذَهَبَتْ عَنْهُ وَفَارَقَهَا... تَبَيَّنَ الْعُيْنَ فَاشْتَدَّتْ مَصَائِبُهُ
ولقَدَ أجَادَ مَنْ قال
لَوْ عِشْتُ عَامٍ... في سَجْدَةٍ لَرَبَى
شُكْرًا لِفَضْلِ يَوْمٍ... لَمْ أَقْضِ بِالتَّمَامِ
وَالْعَامُ أَلْفُ شَهْرٍ... وَالشَّهْرُ أَلْفُ يَوْمِ
وَالْيَوْمُ أَلْفُ حِيْنٍ... وَالْحِيْنُ أَلْفُ عَامِ
آخر
وَلاَ تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمُ مِنْكَ أَرْفَعُ
فَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وَحِرْزٍ وَرِفْعَةٍ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظةً وشفاء لما في الصدور، وجعَلَه مَنْهلًا عذبًا للورود والصدور، أظهره من مقام الجمع والتنزيه والنون، فألزمه حجة لأهل الظواهر والبطون، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد وآله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم ممن تخلق بالقرآن في كل زمان، ما تعاقب الملوان وطلع المرزمان.أما بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء الثالث عشر من القرآن.. أخذت في تفسير الجزء الرابع عشر منه بتوفيق الله سبحانه وتعالى وتيسيره. اللهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، فلك الحمد في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سورة الحجر
وهي كلها مكية بإجماع المفسرين، وهي تسع وتسعون آية، وكلماتها: ست مئة وأربع وخمسون كلمة، وألفان وسبع مئة وستون حرفًا.
فائدة: أطول كلمة في القرآن: ﴿فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ لأنها أحد عشر حرفًا، وأما: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ فعشرةٌ. اهـ "روح البيان".
١ - أنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها، من وصف الكتاب المبين.
٢ - أنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة، وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين، كما كانت السالفة كذلك.
٣ - أن في كل منهما وصف السموات والأرض.
٤ - أن في كل منهما قصصًا مفصلًا عن إبراهيم عليه السلام.
٥ - أن في كل منهما تسلية لرسول الله - ﷺ - بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم، وكانت العاقبة للمتقين.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما (٢) روي عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "من قرأ سورة الحِجر.. كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمدٍ - ﷺ - " والله أعلم.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحجر جملة ما فيها من المنسوخ خمس آيات (٣):
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا﴾ الآية (٣) نسخت بآية السيف.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ الآية (٨٥) نسخت بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ الآية (٨٨) نسخت بآية السيف.
(٢) البيضاوي.
(٣) الناسخ والمنسوخ.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية (٩٤) نصفها محكم ونصفها منسوخ بآية السيف. انتهى.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)﴾.المناسبة
مناسبة أوَّل هذه السورة لآخر التي قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (١) في آخر السورة التي قبلها أشياء من أحوال القيامة، من تبديل السموات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأن ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار.. ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة وودادتهم لو كانوا مسلمين.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا هدَّد (٢) الكافرين وبالغ في ذلك أيما مبالغة.. شرع يذكر بعض مقالاتهم في محمد - ﷺ - المتضمنة للكفر بما جاء به، ثم يذكر ما هم فيه من جحود وعناد، بلغا مدى تنكر معه المشاهدات، ويدعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات، ثم ذكر سبحانه لرسوله - ﷺ - تسليةً له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعًا، فهذا دأب كل محجوج، فكثيرٌ من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها، فلك أسوة بهم في الصبر على سفاهتهم وجهلهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) شديد جحودهم، وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئًا، حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات، ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات.. أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا في غنى عن كل هذا، فإن في السماء وبروجها العالية، وشموسها الساطعة وأقمارها النيِّرة، وسيَّاراتها الدائرة، وثوابتها الباسقة، عبرة لمن اعتبر، وحجة لمن اعتبر، وحجةً لمن ادكر، فهلَّا نظروا إلى الكواكب وحسابها ونظامها ومداراتها، وكيف حدثت بها الفصول والسنون، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة، وأوقات معلومة لا تغيير فيها ولا تبديل، فبأمثال هذا يكون اليقين، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين، ويشتد أزر سيد المرسلين، وهلَّا رأوا الأرض كيف مدت، وثبتت جبالها، وأنبتت نباتها بمقادير معلومة موزونة في عناصرها وأوراقها وأزهارها وثمارها، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان، أفلا يعتبرون بكل هذا؟ ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.