تفسير سورة إبراهيم

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ كِتَابٌ ﴾ خبر لمحذوف قوله: ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ أي لفظاً ومعنى قوله: ﴿ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ ﴾ هذا هو حكمة الإنزال. قوله: (الكفر) عبر عنه بالظلمات جمعاً لتعدد طرقه، بخلاف الإيمان فهو متحد لا تعدد فيه، وحكمة التعبير عن الكفر بالظلمات، أنه يوصل لدار الظلمات وهي النار، وعن الإيمان بالنور، لأنه يوصل إلى دار النور وهي الجنة. قوله: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ فسره بالأمر، إشارة إلى أن المعنى: لنأمرهم بالخروج من الظلمات إلى النور. قوله: (ويبدل من إلى النور) أي بإعادة الجار، وهو بدل كل من كل. قوله: (طريق) ﴿ ٱلْعَزِيزِ ﴾ أي وهو الإسلام، وسمي بذلك، لأنه الموصل لدار السعادة. قوله: (بدل أو عطف بيان) أي من العزيز، وهذا على القاعدة، من أن نعت المعرفة إذا تقدم عليها يعرب بحسب العوامل، وتعرب هي منه بدلاً أو عطف بيان، وحينئذ فالأصل ﴿ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ﴾.
قوله: (والرفع مبتدأ) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ملكاً وخلقاً وعبيداً) أي فلا شريك له في شيء من ذلك. قوله: ﴿ وَوَيْلٌ ﴾ قيل معناه دمار وهلاك للكافرين، وقيل واد في جهنم، لو وضعت في جبال الدنيا لذابت من حره، وهو مبتدأ، وسوغ الابتداء به قصد الدعاء. قوله: (نعت) أي للكافرين، وفيه الفصل بين النعت والمنعوت بأجنبي وهو قوله: ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ فالأوضح أن يكون مبتدأ خبره ﴿ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾.
قوله: ﴿ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي يحبونها ويألفونها زيادة على الآخرة، والمعنى يقدمون الحياة الدنيا على الآخرة. قوله: ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي يمنعون الناس عن الدين الحق. قوله: ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي يطلبون العدول والانحراف عنها، والمعنى أنهم يضلون غيرهم، ويضلون في أنفسهم. قوله: ﴿ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي كفر مبعد لهم عن الرحمة والخير. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ ﴾ أي محمداً أو غيره فظاهر. إن قلت: إن كان المراد بقومه الذين نشأ فيهم، وإن كان المراد الذين أرسل لهم، فرسول الله أرسل لكافة الخلق، مع أنه لم يظهر منه إلا اللسان العربي، وهو لسان بعض قومه أجيب: بأن الله علمه جميع اللغات، فكان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية، لأنه لم يتفق أنه خاطب أحداً من أهلها، ولو خاطبه لكلمه بها. قوله: ﴿ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ ﴾ استئناف مفصل لقوله: ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب على أمره وهو كالعلة لقوله: ﴿ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ ﴾ الخ قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي الذي يضع الشيء في محله. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ ﴾ تفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ ﴾ الآية قوله: (التسع) تقدم منها ثمانية في الأعراف، والتاسعة في يونس قوله: (وقلنا له) لا حاجة لتقديره، بل المناسب أن يفسر أن بأي التفسيرية، لأن ضابطها موجود، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه وهو ﴿ أَرْسَلْنَا ﴾، ويصح جعلها مصدرية أي بإخراج قومك، وهذه الباء للتعدية، وفي ﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ للحال قوله: (بنعمه) أي فالمراد بالأيام النعم، وعبر عنها بالأيام لحصولها فيها قوله: ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ أي كثير الصبر وقوله: ﴿ شَكُورٍ ﴾ أي كثير الشكر، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفون بها.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى اذكر لقومك ما وقع لموسى وقومه لعلهم يعتبرون قوله: ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ أي يذيقونكم قوله: ﴿ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾ أي العذاب السيىء وهو الشديد قوله: ﴿ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ عطفه بالواو هنا، إشارة إلى أنه غير العذاب السيىء المذكور، وأما في البقرة، فهو تفسير لسوء العذاب، فصح التغاير بهذا الاعتبار، وإن كانت الصحة واحدة. قوله: ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾ أي للخدمة، فكانوا يستخدمونهن ويمنعونهن عن أزواجهن قوله: (لقول بعض الكهنة) جمع كاهن وهو المخبر عن المغيبات المستقبلة، وأما العراف فهو المخبر عن الأمور الماضية قوله: ﴿ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ ﴾ أي فالله سبحانه وتعالى، يختبر عباده بالخير والشر، قال تعالى:﴿ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾[الأنبياء: ٣٥] لأن النعمة أو البلية، إذا أصابت الشخص فهو معرض: إما لرضا الله إن شكر وصبر، أو لغضبه إن جزع وكفر. قوله: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ من جملة كلام موسى لقومه، كأنه قيل: ﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾، واذكروا حين تأذن ربكم قوله: (بالتوحيد والطاعة) أي بأن وحدتموني ودمتم على طاعتي قوله: ﴿ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ أي من خيري الدنيا والآخرة، فيحصل لكم النعم والرضا فتظفون بالسعادتين قوله: ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ لم يصرح بالجواب في جانب الوعيد، وصرح به في جانب الوعد، إشارة إلى كرمه سبحانه وتعالى، وأن رحمته سبقت غضبه، ونظير ذلك قوله تعالى:﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ﴾[آل عمران: ٢٦] ولم يقل وبيدك الشر قوله: (لأعذبنكم) هذا هو جواب القسم، وحذف جواب الشرط للقاعدة، أنه عند اجتماعهما يحذف جواب المتأخر. قوله: ﴿ وَقَالَ مُوسَىۤ ﴾ أي بعد أن أيس من إيمانهم. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ ﴾ أي عن شركك وإيمانكم قوله: ﴿ حَمِيدٌ ﴾ أي مستحق للحمد، والمعنى: أن كفركم بالله أنتم وأهل الأرض جميعاً، لا ينقص من ملكه شيئاً، وإيمانكم لا يزيد في ملكه شيئاً، بل على حد سواء، وإنما ذلك راجع إلى أنفسكم، وهو غني عنكم.
قوله: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ﴾ من كلام موسى أيضاً، أو من كلام الله قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ إما مبتدأ خبره. قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ أو معطوف على قوله: ﴿ قَوْمِ نُوحٍ ﴾، وقوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ اعتراض قوله: ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ﴾ مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما قصتهم وما شأنهم. قوله: ﴿ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ ﴾ أي لكراهتهم ذلك، فإن شأن الإنسان، إذا كره شيئاً واغتاظ منه، ولم يقدر على دفعه، يعض على يديه. قوله: (ليعضوا عليها) بفتح العين وضمها. قوله: (على زعمكم) أي وإلا فلم يعترفوا برسالة رسلهم. وقوله: ﴿ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ ﴾ الخ أي والشك كفر، فلا ينافي قولهم ﴿ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾.
قوله: (في الريبة) أي وهي عدم اطمئنان النفس إلى الشيء قوله: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ ﴾ أي جواباً لقول الأمم ﴿ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾.
قوله: ﴿ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ ﴾ الهمزة للاستفهام، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أثبت، و ﴿ شَكٌّ ﴾ فاعل بالجار والمجرور لاعتماده على الاستفهام، والجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ شَكٌّ ﴾ مبتدأ مؤخر، والأولى لسلامته من الفصل بين الصفة وهو ﴿ فَاطِرِ ﴾، والموصوف وهو لفظ الجلالة بأجنبي وهو المبتدأ. قوله: (للدلائل الظاهرة) أي العقلية والنقلية. قوله: ﴿ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ هذا من جملة أدلة توحيده. قوله: ﴿ يَدْعُوكُمْ ﴾ الجملة حالية قوله: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ﴾ أي لا ليتكمل بطاعتكم، بل ثمرة امتثالكم وطاعتكم عائدة عليكم قوله: (من زائدة) هذا مبني على مذهب الأخفش، من أنها تزاد في الإثبات، وهي طريقة ضعيفة، فلا يناسب تخريج القرآن عليها، وقوله: (أو تبعيضية) فيه أنه ظاهر في المسلم الأصلي، وأما الكافر إذا أسلم فلا يظهر، لأن الإسلام يجب ما قبله، ولو حقوق العباد، وحينئذ فالجواب الأتم، أن تجعل ﴿ مِّن ﴾ بمعنى بدل، أي يغفر لكم بدل عقوبة ذنوبكم، أو ضمن يغفر معنى يخلص، ومن على بابها للتعدية، والتقدير: ليخلصكم من ذنوبكم، ولعل هذا الجواب هو الأقرب. قوله: ﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ ﴾ معطوف على يغفر، والمعنى يدعوكم إلى طاعته لأمرين: غفران ذنوبكم، وتأخير العذاب إلى أجل مسمى، بأن تعيشوا في الدنيا سالمين من الخزي، كالخسف والمسخ، فإذا متم على الإيمان دخلتم الجنة ففزتم بالسعادتين. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي الأمم، جواباً لمقالة الرسل. قوله: ﴿ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ أي فلا مزية لكم علينا، فلم اختصصتم بالنبوة دوننا. قوله: ﴿ أَن تَصُدُّونَا ﴾ ﴿ أَن ﴾ مصدرية، وتصدوا منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، ونا مفعوله. قوله: (من الأصنام) بيان لما قوله: (حجة ظاهرة) أي غير ما جئتم به. قوله: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ ﴾ أي جواباً لمقالتهم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ أي فإننا وإن كنا بشراً مثلكم، إلا أن الله فضلنا عليكم بالنبوة، وأعطانا المعجزات على مراده، فإن آمنتم فهو خير لكم، وإن كفرتم فهو شر لكم، فلا قدرة لنا على إتيان ما تطلبونه، لأننا عبيد مقهورون. قوله: (بأمره) المناسب أن يقول بإرادته. قوله: ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي يفوضوا أمورهم إليه، ويصبروا على ما أصابهم.
قوله: ﴿ وَمَا لَنَآ ﴾ أي أي شيء ثبت لنا. قوله: (أي لا مانع لنا من ذلك) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ﴾ أي أرشدنا إلى طرقنا الموصلة للسعادة العظمى. قوله: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا ﴾ أي فلا نبالي بكم ولا بإذايتكم. قوله: (على أذاكم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية. قوله: ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ أي يدوموا على التوكل. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي المتعنتون المتمردون. قوله: ﴿ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ ﴾ أي فلا تخالطونا، بل أريحونا من هذا التعب. قوله: (لتصيرن) دفع بذلك ما يقال: إن العود يقتضي أنه سبق لهم التلبس بملتهم، مع أن الرسل معصومون من ذلك؛ فأجاب المفسر: بأن المراد بالعود الصيرورة، أي لتصيرن داخلين في ملتنا. قوله: ﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ ﴾ أي إلى الرسل بعد هذه المقالات لليأس من إيمانهم قوله: ﴿ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي نستأصلهم بالهلاك، فلا يبقى منهم أحد. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿ لِمَنْ خَافَ ﴾ الخ. قوله: (أي مقامه بين يدي) أي موقفه عندي يوم القيامة. قوله: ﴿ وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ (بالعذاب) في هذه الآية إشارة إلى أن الخوف من الله غير الخوف من وعيده، لأن العطف يقتضي المغايرة. قوله: ﴿ وَٱسْتَفْتَحُواْ ﴾ أي طلب الرسل الفتح من الله، لما أيسوا من إيمان قومهم. قوله: (استنصر الرسل) أي طلبوا من الله النصر. قوله: ﴿ وَخَابَ ﴾ معطوف على مقدر، والتقدير فنصروا وخاب الخ. قوله: (خسر) أي في الدنيا والآخرة. قوله: (متكبر عن طاعة الله) أي متعظم في نفسه، محتقر لما سواه، قوله: (أي أمامه) أي فالوراء يستعمل في الأمام والخلف، فهو من الأضداد، وقيل هو اسم لما توارى عنك، سواء كان من خلفك أو من أمامك. قوله: ﴿ صَدِيدٍ ﴾ بدل أو عطف بيان قوله: (هو ما يسيل) الخ، وقيل هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر.
قوله: ﴿ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ أي يكلف تجرعه ويقهر عليه. قوله: ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ أي لا يقرب من إساغته:" قال عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ﴿ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ قال " يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه، شوى وجهه ووقعت فروة رأسه أي جلدتها بشعرها، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبر " كما قال ﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾، وقال ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ ". قوله: ﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ أي فيستريح، قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة. قوله: (بعد ذلك العذاب) أشار بذلك إلى أن الضمير في ورائه عائد على العذاب، وقيل عائد على كل جبار، والمعنى: ويستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو فيه، كالحيات والعقارب والزمهرير، وغير ذلك، أجارنا الله من ذلك. قوله: (متصل) أي لا ينقطع بل هو دائم مستمر. قوله: (ويبدل منه) أي من الموصول، والأصل مثل أعمال الذين كفروا. قوله: (في عدم الانتفاع بها) أي فهي وإن كانت أعمال بر، إلا أنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره ولأن كفره أحبطها وأبطلها، وإنما جزاؤها إن كانت لا تتوقف على الإسلام، يكون في الدنيا بتوسيع الرزق والعافية في البدن. قوله: ﴿ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ ﴾ أي حملته وذهبت به. قوله: (لعدم شرطه) أي وهو الإيمان. قوله: ﴿ ٱلْبَعِيدُ ﴾ أي الذي لا يرجى زواله. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر، فليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (تنظر) أي تبصر وتتأمل ببصيرتك، فتستدل على أن الخالق متصف بالكمالات. قوله: (استفهام تقرير) أي والمعنى أقر يا مخاطب بذلك واعترف ولا تعاند، فإن القادر على خلق السموات لا يعجزه شيء، فهو حقيق بالعبادة دون غيره. قوله: ﴿ بِٱلْحقِّ ﴾ الباء إما للسببية أو الملابسة، والمعنى خلق السموات والأرض بسبب الحق أو ملتبساً بالحق، أي الحكمة الباهرة لا عبثاً. قوله: (متعلق بخلق) أي أو بمحذوف حال من فاعل. قوله: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أي يعدمكم، فإن القادر لا يصعب عليه شيء، قال تعالى:﴿ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾[المعارج: ٤٠-٤١].
قوله: ﴿ وَمَا ذٰلِكَ ﴾ أي الإذهاب والإتيان بشديد على الله، قال تعالى:﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[لقمان: ٢٨].
قوله: ﴿ وَبَرَزُواْ ﴾ هذا إخبار من الله تعالى عن محاجة الكفار، مع بعضهم ومع إبليس يوم القيامة، والبروز الظهور، والمعنى يظهرون بين الخلائق، فلا يغيب لهم شيء من أوصافهم أبداً. قوله: (خرجوا) أي من القبور، للحساب والجزاء. قوله: (والتعبير) الخ، جواب عما يقال: إن هذه الأشياء لم تحصل. فأجاب: بأن ذلك لتحقق الوقوع، أي لأن الله سبحانه وتعالى، عالم بما كان وما يكون وما هو كائن فالماضي والمستقبل في علمه على حد سواء. قوله: ﴿ فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ ﴾ أي في الرأي. قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ أي في تكذيب الرسل والدخول في دينكم. قوله: (من الأولى للتبيين) الخ، أي والكلام فيه تقديم وتأخير، والتقدير فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي جواباً لهم، واعتذاراً عما فعلوا بهم. قوله: ﴿ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ ﴾ أي لو وصلنا الله لدار السعادة في الدنيا بالإيمان لهديناكم، لكن حصل لنا الضلال فأضللناكم، فاخترنا لكم ما لأنفسنا. قوله: ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا ﴾ هذا من كلام جميع الكفار الأتباع والرؤساء، ويؤيده ما روي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، فلا ينفعهم ثم يقولون ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ ﴾ الخ، والجزع: القلق وعدم تحمل الشدائد. قوله: (ملجأ) أي محل هروب نلتجىء له.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ الخ، أي حين يوضع له منبر من نار في النار، فيجتمع عليه أهل النار يلومونه، فيقول لهم ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ أي نفذ قضاؤه باستقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. قوله: ﴿ وَعْدَ ٱلْحَقِّ ﴾ أي الوعد الثابت الناجز، وليس المراد الوعد بالخير، بل المراد به الجزاء والبعث. قوله: (فصدقكم) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذفاً بدليل قوله: ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾.
قوله: (أنه غير كائن) قدره إشارة إلى أن مفعول وعد الثاني محذوف. قوله: ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ أي تبين خلافه. قوله: (لكن) أشار بذلك إلى الاستثناء منقطع، لأن دعوته ليست من جنس السلطان. قوله: ﴿ فَلاَ تَلُومُونِي ﴾ أي على وسوستي لكم. قوله: ﴿ وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي وبخوها على اتباعي، فإني لم أكن مكرها لكم على اتباعي، بل جاءتكم البينات والرسل، وسمعتم الدلائل الظاهرة على توحيد الله، فتركتموها واتبعتوني. قوله: (على اجابتي) أي ومخالفة ربكم. قوله: (بمغيثكم) أي من العذاب. قوله: (بفتح الياء وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والأصل بمصرخين لي، حذفت اللام للتخفيف، والنون للإضافة، فاجتمع مثلان، أدغم أحدهما في الآخر، فحركت ياء الإضافة بالفتح طلباً للخفة على إحدى القراءتين، وكسرت على أصل التخلص من التقاء الساكنين على الأخرى. قوله: ﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ ﴾ أي تبرأت وأنكرت إشراككم إياي مع الله، حيث اطعتموني في وسوستي لكم بالشرك، فكأنهم أشركوه مع الله. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أنه ليس من كلام إبليس، وقيل من كلامه. قوله: ﴿ وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما ذكر أحوال الأشقياء، شرع في ذكر أحوال السعداء. قوله: (حال مقدرة) أي مقدرين الخلود فيها وتقدير الخلود عند الدخول من تمام النعيم. قوله: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ متعلق بأدخل. قوله: (من الله) قال تعالى:﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾[يس: ٥٨].
قوله: (ومن الملائكة) قال تعالى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣-٢٤].
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب إما للنبي، أو لكل من يتأتى منه الخطاب. قوله: ﴿ مَثَلاً ﴾ المثل تشبيه مجهول بمعلوم ليقاس عليه. قوله: (أي لا إله إلا الله) خصها بالذكر لأنها مفتاح الجنة، ولم يقبل من أحد الإيمان إلا بها، وقيل كل كلمة حسنة، كالتسبيح والتحميد والاستغفار وغير ذلك. قوله: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ أي عروقها ثابتة في الأرض ماكثة فيها، حتى أنها لا تحتاج لسقي، بل تشرب من عروقها. قوله: ﴿ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي لجهة العلو.
قوله: ﴿ كُلَّ حِينٍ ﴾ اختلف في مقداره، فقيل الحين كل سنة، لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة، وقيل ستة أشهر، لأنه من وقت طلعها إلى طيبها كذلك، وقيل ثمانية أشهر، لأن حملها ظاهراً وباطناً كذلك، وقيل أربعة أشهر، لأنه من حين ظهورها إلى إدراكها كذلك، وقيل شهران، لأنه من وقت أكلها إلى قطع ثمرها كذلك، وقيل كل وقت، لأن ثمر النخل يؤكل دائماً، فيؤكل منها الطلع والبلح والبسر الرطب والتمر، وهو الأولى. قوله: (وعمله يصعد إلى السماء) قال تعالى:﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾[فاطر: ١٠] ووجه الشبه بين الإيمان والشجرة، أن الشجرة لها عرق راسخ وفرع عال وثمر يؤكل، الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان، فإذا أكثر الإسنان من ذكر هذه الكلمة، ظهرت عليه أنوارها، ولمعت في فؤاده أسرارها، فدام نفعه بها في العاجل والآجل، ومن هنا اختص الصوفية بها، بمعنى أنهم تلقوه عن أشياخهم بالسند المتصل وتعلقوا بها، فصارت شعارهم ودثارهم، ولذا قال السنوسي: فعلى العاقل أن يكثر من ذكرها مستحضراً، لما احتوت عليه من المعاني، حتى تمتزج مع معناها بلحمه ودمه، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب، ما لا يدخل تحت حصر. قوله: (هي كلمة الكفر) أي كل ما يدل عليه. قوله: (هي الحنظل) حكمة التشبيه بها، أنها لا تغوص في الأرض، بل عروقها في وجه الأرض، ولا غصون لها تصعد إلى جهة السماء، بل ورقها يمتد على الأرض كشجر البطيخ، وثمرها رديء، وتسميتها شجراً مشاكلة، لأنها من النجم لا من الشجر، لأن الشجر ما له ساق، والنجم ما لا ساق له. قوله: اجتثت أي قلعت جثتها، والمعنى على الشبيه، أي كأنها لعدم ثبات أصلها وامتداد في الأرض، كالشيء المقلوع جثته. قوله: ﴿ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا راجح للمثل الأول. قوله: ﴿ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي فلا يتزلزلون عن الدين إذا ابتلوا بالمصائب، كالقتل، وأخذ المال، وفقد الأحباب، والفتنات عند الممات، وغير ذلك، وهذه بشرى للمؤمنين، بأن إيمانهم ثابت في قلوبهم، لا يتزلزل أبداً بل يثبتهم الله دنيا وأخرى. قوله: (أي في القبر) خصه بالذكر، لأنه بعد سؤاله لا يفتنون في التوحيد، وإنما يكون حسابهم في الموقف على فروع الدين. قوله: (لما يسألهم الملكان) أي حين يحيي الله الميت، حتى يسمع قرع من كان ماشياً في جنازته، فيقعدانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: نم نومة العروس، قد علمنا إن كنت لموقناً، وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلت مثل ما يقولون، فيضربانه بمطراق من نار، فيصيح صيحة يسمعه من في الأرض غير الثقلين، ويقولان له: لا دريت ولا تليت. قوله: ﴿ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي يحكم لا معقب لحكمه، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره: لم هدى هؤلاء، وأضل هؤلاء؟ فأجاب: بأنه يفعل ما يشاء، فلا يسأل عما يفعل. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ استفهام تعجيب، وهو خطاب لرسول الله ولكل عاقل. قوله: (أي شكرها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (هم كفار قريش) أي فنعم الله التي بدلوا شكرها كفراً، كون نسبهم أشرف الأنساب، وبلدهم أشرف البلاد، وكون الخلق تسعى إليهم ولا يسعون، فبدلوا ذلك، حيث كذبوا خير الخلق، وعبدوا الأصنام. قوله: ﴿ قَوْمَهُمْ ﴾ أي أتباعهم. قوله: ﴿ دَارَ ٱلْبَوَارِ ﴾ يقال بار يبور بواراً بالضم هلك، وبار الشيء بواراً كسد، فأطلق اللازم وأريد الملزوم، لأنه يلزم من الكساد والهلاك.
قوله: ﴿ يَصْلَوْنَهَا ﴾ حال من القوم. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ ﴾ عطف على ما بدلوا. قوله: ﴿ أَندَاداً ﴾ جمع ند بمعنى النظير. قوله: ﴿ لِّيُضِلُّواْ ﴾ اللام للعاقبة والصيرورة، لأن اتخاذهم الأنداد، ليس لأجل الضلال، بل لكونهم يقربونهم إلى الله زلفى. قوله: (بفتح الياء وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والمعنى ليضلوا في أنفسهم وهذا على الفتح، أو ليضلوا غيرهم وهذا على الضم. قوله: (بدنياكم) أي أو بعبادتكم الأصنام، لأنها من جملة الشهوات التي يتمتع بها، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذا تهديد لكل ظالم. قوله: ﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾ أي مآلكم إليها. قوله: ﴿ قُل لِّعِبَادِيَ ﴾ بثبوت الياء مفتوحة، وبحذفها لفظاً لا خطاً، قراءتان سبعيتان هنا وفي أربعة مواضع من القرآن، في سورة الأنبياء في قوله:﴿ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ ﴾[الأنبياء: ١٠٥].
وفي العنكبوت في قوله:﴿ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾[العنكبوت: ٥٦].
وقوله في سبأ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾[سبأ: ١٣].
وقوله في سورة الزمر﴿ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾[الزمر: ٥٣].
والإضافة في عبادي للتشريف، ولذا قال العارف: ومما زادني شرفاً وتيهاً   وكدت بأخمصي أطأ الثريادخولي تحت قولك يا عبادي   وأن صيرت أحمد لي نبياًقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالإيمان، وفي ذلك إشارة إلى أن الصلاة والزكاة وغيرهما من وجوه البر، لا تكون إلى لمن اتصف بالإيمان، فلا تنفع الكافر في حال كفره، فلا ينافي أنه مخاطب بفروع الشريعة، لكن لا تصح منه إلا الإسلام، وفائدة خطابه بها، أنه يعذب عليها زيادة على عذاب الكفر، بدليل قوله تعالى:﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴾[المدثر: ٤٢-٤٤] الآية. قوله: ﴿ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي النفقة الواجبة كالزكاة، والمندوبة كالتطوعات، وقوله: ﴿ سِرّاً وَعَلانِيَةً ﴾ أي فالإنسان مخير في الاتفاق، إما سراً، أو جهراً، لكن الأفضل في الوادبة الجهر، لئلا يتهم بقلة الدين، وفي التطوعات السر، لكونه أقرب إلى الاخلاص. قوله: (فداء) مشى المفسر على أن المراد بالبيع الفداء، مشى غيره على إبقاء البيع على ظاهره، أي لا شيء يباع فيه للفداء. قوله: (مخالة) أشار المفسر إلى أن قوله: ﴿ خِلاَلٌ ﴾ مصدر بمعنى المخالة، وقال غيره إن خلال جمع خلة، كقلال جمع قلة. قوله: (أي صداقة تنفع) هذا محمول على الكفر بدليل آية الزخرف﴿ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾[الزخرف: ٦٧]، فالمتقون لهم الأخلاء يوم القيامة، وفي القبور، وفي كل موطن مخوف، والكفار قد تقطعت بهم الأسباب، فليس لهم أخلاء نافعون أصلاً.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ﴾ شروع في ذكر دلائل وحدانيته تعالى، واتصافه بالكمالات، وهذه الآية مشتملة على عشرة أدلة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ أي فماء المطر من السماء، كما ذكره أهل السنة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ المراد بها ما يشمل المطعوم والملبوس. قوله: ﴿ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ حال من الثمرات. قوله: (السفن) أي الكبار والصغار، وقوله: (بالركوب) أي على ظهرها، وقوله: (والحمل) أي حمل الأثقال من محل إلى آخر. قوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ ﴾ جمع نهر، أي ذللها لكم في جميع الأرض على ما تشتهي أنفسكم. قوله: ﴿ دَآئِبَينَ ﴾ الدأب العادة المستمرة دائماً على حال واحدة، والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر يجريان من يوم خلقهما الله، ولا يفتران عن سيرهما إلى آخر الدهر، فالشمس نعمة النهار، والقمر نعمة الليل، وهما منافع للعالم، بهما يهتدون، ويعرفون السنين والحساب، وتطيب ثمارهم وزروعاتهم، فهما سبب عادي لنفع العالم، يوجد النفع عندهما لا بهما. قوله: (لا يفتران) أي لا يضعفان ولا ينكسران. قوله: (في فلكهما) أي محلهما ومقرهما، وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر. قوله: (لتسكنوا فيه) أي تطمئنوا فيه من تعب النهار. قوله: (لتبتغوا من فضله) أي تسعوا في معايشكم ومعادكم، قال تعالى:﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾[القصص: ٧٣].
قوله: ﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ عطف عام على خاص، و ﴿ مِّن ﴾ قيل صلة على مذهب الأخفش، من زيادتها في الأثبات، أي آتاكم كل ما سألتموه، وقيل تبعيضية، أي آتاكم بعض كل ما سألتموه، أي احتجتم إليه، ولو لم يحصل سؤال بالفعل، فالمراد شأنكم تسألون عنه لاحتياجكم إليه، فإن الله أعطانا النعم من غير سؤال منا، والمعنى أعطى الله كل فرد، فرد، بعض، كل ما يحتاج إليه العالم، فأصول النعم اشترك فيها جميع العالم، عقلاء وغيرهم، مسلمين وكفاراً، وما يحتمل أنها موصلة وهو الأتم، والتقدير بعض كل ما سألتموه، أو مصدرية، والتقدير بعض كل مسؤولكم. قوله: (على حسب مصالحكم) جواب عما يقال: إن الإنسان لم يعط بعض كل ما سأل، فإنه قد يسأل السلطنة مثلاً ولا يعطاها، فأجاب: بأن هذه العطية ليست على حسب ما يصلح للعبد، بل على حسب مراد الله تعالى، فعطاياه سبحانه وتعالى، على حسب مراده في خلقه، فمنهم من جعل رزقه واسعاً، ومنهم من جعل رزقه ضيقاً، وهكذا. قوله: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ﴾ أي أفرادها فإنها متناهية. قوله: (بمعنى إنعامه) أشار بذلك إلى أن المراد بالنعمة الأنعام، وهو صفة فعل، ودفع بذلك ما يقال، كيف يقول الله ﴿ لاَ تُحْصُوهَا ﴾، مع أن كل نعمة دخلت الوجود متناهية ويمكن عدها؟ فأجاب: بأن المراد بالنعمة الإنعام، بمعنى تجددها شيئاً فشيئاً، قوله: (الكافر) المراد به أبو جهل، لأنها نزلت فيه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله (اذكر) وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي اذكر لهم قصة إبراهيم، ودعواته لساكني البيت الحرام ولبنيه، لعلهم يعتبرون، فينزجروا عما هم عليه، فإن لم يعتبروا، فقد تعرضوا لما يحل بهم. قوله: ﴿ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ﴾ قال الأشياخ: حكمة تعريف البلد هنا، وتنكيرها في البقرة، أن إبراهيم تكرر منه الدعاء، فما في البقرة كان قبل بنائها، فطلب من الله أن تجعل بلداً، وأن تكون آمناً، وما هنا بعد بنائها، فطلب من الله أن تكون آمنا. قوله: (لا يسفك فيه دم إنسان) أي لا يتمكن منه جبار، بقصد إهانة البيت وأهله، وما وقع من الحجاج، في مقاتلته لابن الزبير، وهدمه للبيت، إنما كان بقصد التعظيم للبيت، بسبب دعواه أن ابن الزبير كان مخطئاً في بنائه البيت على قواعد إبراهيم، وقوله: (لا يسفك فيه دم إنسان) أي ولو قصاصاً، وهو مذهب أبي حنيفة، وإنما يضيق عليه ليخرج، فإذا خرج اقتص منه. قوله: (ولا يظلم فيه أحد) أي ومن تجرأ وظلم فيه، فقد تعرض لعذاب الله، قال تعالى:﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الحج: ٢٥].
قوله: (ولا يصاد صيده) أي يحرم صيد البر في الحرم، على كل شخص محرماً أو غيره. قوله: (ولا يختلي خلاه) أي لا يقطع حشيشه النابت بنفسه، واستثنى العلماء من ذلك الاذخر والسنا والسواك والعصا وقطع الشجر للبناء محله، لأنه ينبغي توسعته. إن قلت: إن قوله: ﴿ ءَامِناً ﴾ يعارضه ما روي: أن ذا السويقتين يخرب البيت، ويخيف أهله في آخر الزمان. أجيب: بأن معنى الأمن الطمأنينة، ظاهراً وباطناً، من سطوات الخالق والمخلوق، للحيوان العاقل، وغيره غالباً، فلا ينافي حدوث النوادر من بعض الجبابرة. وأجيب أيضاً: بأن المراد الأمن من الخراب إلى قرب الساعة، فإن ذا السويقتين، يخرب الكعبة قرب الساعة، بعد موت عيسى عليه السلام. فائدة: قول ابراهيم ﴿ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ﴾ الخ، يقتضي أن دأبه الدعاء، وما ورد من قوله حين ألقي في النار: حسبي من سؤالي علمه بحالي، يقتضي أنه لم يكن دأبه الدعاء، فما السر في ذلك؟ أجيب: بأنه كان في زمن إلقائه في النار، في مقام الفناء والسكر، وهو الغيبة عن شهود الخلق بشهود الحق، فلا يشهد أثراً، وفي زمن دعائه في مقام البقاء وجمع الجمع، وهو البقاء بالله بمعنى شهود الآثار بعد شهود مؤثرها، فمقامه في حال دعائه، أعلى وأجل من مقامه في حال تركه له، ولا يقاس بمقامات الأنبياء مقام، بل بدايتهم أعلى وأجل من نهاية غيرهم، فالأولياء وإن عظموا، لا يصلون لأدنى رتب الأنبياء، وأما قول أبي الحسن الشاذلي: واقرب مني بقدرتك قرباً تمحق به عني كل حجاب محقته عن إبراهيم خليلك الخ، فمعناه قرباً يليق بي، لا كقرب الخليل، فقد طلب من الله أن يذيقه قطرة من بحار تجلياته التي تجلى بها على الخليل حتى أسكره، فلم يشهد شيئاً سواه. قوله: ﴿ وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ ﴾ المراد أولاده وأولاد أولاده، كإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. إن قلت: إن الأنبياء معصومون من الشرك، ففي دعائه تحصيل الحاصل. والجواب الأتم: أن دعاءه تشريع وتعليم وتذلل وتواضع، مع كونه يعلم عصمة نفسه، ويقال مثل هذا في دعوات باقي الأنبياء بالنجاة، مما هم معصومون منه، كعذاب النار، وغضب الجبار، ونحو ذلك. قوله: ﴿ رَّبَّنَآ ﴾ كرر النداء تأكيداً. قوله: (بعبادتهم لها) أشار بذلك إلى أن نسبة الإضلال للأصنام مجاز، لأنها سبب في الضلال بسبب عبادتها. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ أي منسوب لي وملحق بي. قوله: (هذا قبل علمه) الخ. جواب عما يقال: إن الله لا يغفر الشرك، فكيف يقول ﴿ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؟ وأجيب أيضاً: بأن قوله: ﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ أي بغير الكفر، وبأن طلب الغفران لذريته الكفار إن ماتوا على الإسلام. قوله: (وهو إسماعيل مع أمه هاجر) وسبب ذلك الاسكان، أن هاجر كانت جارية لسارة، فوهبتها لإبراهيم، فولدت منه إسماعيل، فغارت سارة منها، لأنها لم تكن قد ولدت قط، فأنشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فأمره الله تعالى بالوحي أن ينقلها إلى أرض مكة، وأتى له بالبراق، فركب عليه هو وهاجر والطفل، فأتى من الشام ووضعهما في مكة عند البيت مكان زمزم، وليس بمكة أحد، ولا بناء ولا ماء، ثم قام إبراهيم منطلقاً، فتبعته هاجر وقالت: أين تذهب وتتركني بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فلم يلتفت، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعني ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ ﴾ الخ. قوله: ﴿ بِوَادٍ ﴾ أي في واد، والوادي هو المنخفض بين الجبلين. قوله: ﴿ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ أي لا يصلح للزرع به، لكونه أرضاً حجرية لا تنبت شيئاً. قوله: (الذي كان قبل الطوفان) أشار بذلك، إلى أن تسميته بيتاً محرماً، فيه مجاز باعتبار ما كان، ويصح أن يكون مجازاً، باعتبار ما يؤول إليه الأمر، لأن الله أوحى إليه وأعلمه، أن هناك بيتاً حراماً، وأنه سيعمره. قوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾ كرر النداء، لأن الدعاء ينبغي فيه الأطناب وكثر الابتهال. قوله: ﴿ لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ اللام لام متعلقة بأسكنت، والمعنى أسكنتهم بهذا الوادي الخالي من كل مرتفق، ليشتغلوا بأشراف العبادات في أشرف الأماكن، والمراد من الدعاء بإقامة الصلاة، توفيقهم لأدائها على الوجه الأكمل. قوله: ﴿ تَهْوِىۤ ﴾ القراء السبعة على كسر الواو، أي تسرع وتطير شوقاً إليهم، وقرىء شذوذاً بفتح الواو، وخرجت على زيادة إلى، أي تهواهم، وخص الأفئدة بالذكر، لأن القلوب سلاطين الأعضاء، فإذا حنت إليهم القلوب، سعت لهم الأجساد قهراً. قوله: (تميل وتحن) أشار بذلك إلى أنه ضمن تهوي معنى تميل، فعداه بإلى، وإلا فهو يتعدى باللام، وفي هذا دعاء للمؤمنين، بأن يرزقهم الله حج البيت، ودعاء لسكان مكة من ذريتهم بميل الناس إليهم، ليرتفقوا وينتفعوا بهم، فقد جمع في هذا الدعاء، بين أمر الدين والدنيا للناس ولذريته. قوله: (لو قال أفئدة الناس) الخ، أي ولكنه لم يقل ذلك، فلم يحصل لسابقة علم الله تعالى، أنه لا يحن إليهم جميع الناس لوجود الكفار منهم، فإبراهيم دعا بما سيحصل في الخارج، المطابق لما علمه الله. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ أي يصرفون النعم في مصارفها. قوله: (وقد فعل بنقل الطائف إليه) أي وهو قطعة من أرض الشام، من مكان يقال له حوران، بدلت بقطعة من الحجاز، فصارت العيون والأشجار بالطائف، والحجارة والحصا والقفر بأرض حوران، يشاهده كل من رآه، وهو إجابة قوله: ﴿ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾، وأما قوله: ﴿ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾ الخ، فقد حصل مبدأ إجابته بجرهم، وذلك أن إبراهيم لما وضع إسماعيل وأمه، تركهما ومعهما جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما نفد الماء، عطشت هي وولدها، فصعدت على الصفا لتنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فهبطت ثم أتت المروة، فقامت عليها فنظرت، هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، ولذلك شرع السعي بينهما سبعاً فعند ذلك جاء جبريل، وضرب زمزم بجناحه فخرج الماء فجعلت تحوط عليه وتقول زمي زمي، وفي الحديث" يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً "فجعلت تشرب منه، فمكثوا كذلك، حتى مرت بهم قبيلة من جرهم، كانوا ذاهبين إلى الشام، فعطشوا فرأوا الماء عندها فقالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، فقالوا لها: أشركينا في مائك، نشركك في ألباننا، ففعلت، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فلما شب إسماعيل، تعلم منهم العربية وكان أنفسهم، فزوجوه بامرأة منهم، وماتت أمه وما تزوج.
قوله: ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ أي تعلم ما نسره من جميع أمورنا وما نظهره منها، أو المعنى: تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع. وما نعلن، أي من قول هاجر آلله أمرك بهذا؟ وقولي لها نعم. قوله: (يحتمل أن يكون) أي قوله: ﴿ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ الخ، فعلى الأول: هو اعتراض بين كلامي إبراهيم، وعلى الثاني: ففيه وضع الظاهر موضع المضمر. قوله: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ الخ، هذا قاله إبراهيم في وقت آخر بعد الدعاء، فإنه حين الدعاء، لم يكن إسحاق موجوداً، بل كان إسماعيل فقط طفلاً، وحين الحمد كان إسحاق موجوداً، ومعلوم أن بينهما ثلاث عشرة سنة. قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ ﴾ مجيبه.
قوله: مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ } أي مواظباً عليها، بشروطها وأركانها وآدابها. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اجعل) ﴿ مِن ذُرِّيَتِي ﴾ أشار المفسر إلى أن قوله: ﴿ وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ معطوف على الياء في اجعلني، فيكون الفعل مسلطاً عليه. قوله: ﴿ وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ بثبوت الياء وصلاً ووقفاً، وحذفها كذلك قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي ﴾ إن قلت كيف يطلب المغفرة، مع أنه نبي معصوم من جميع الذنوب؟ أجيب: بأن المغفرة لا تستدعي سبق ذنب، بل تكون من الطاعات، كما إذا ارتقى مقاماً أعلى مما كان فيه، فيستغفر الله مما كان فيه، على حد ما قيل في قوله: صلى الله عليه وسلم" إني ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة "قوله: (هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله) جواب عما يقال: كيف ساغ لإبراهيم طلب المغفرة لأبويه وهما كافران. قوله: (وقرىء) أي شذوذاً في هذه والتي بعدها، وقرىء شذوذاً أيضاً وولدي بضم الواو وسكون اللام، فالقراءات الشواذ ثلاث: والدي مفرداً، وولدي بالتثنية، وولدي جمع ولد. قوله: (يثبت) أي يوجد ويظهر وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله لا يرد دعاء خليله إبراهيم، ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ بكسر السين وفتحها قراءتان سبعيتان في هذه، وفي قوله الآتي﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾[إبراهيم: ٤٧] وفي هذه الآية تسلية لكل مظلوم، ووعيد عظيم لكل ظالم، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فإنها وإن كان نزولها في حق كفار قريش، إلا أن المراد عمومها لكل ظالم، لأن كل آية وردت في الكفار. فإنها تجر بذيلها على عصاة المؤمنين. قوله: ﴿ غَافِلاً ﴾ الغفلة في الأصل معنى يعتري الإنسان من قلة التحفظ، وقيل معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور، وهذا المعنى في حق الله مستحيل فظنه كفر، بل المراد لازم الغفلة، وهو عدم المجازاة، لأنه يلزم من الغفلة عن الشيء تركه، فالمعنى لا تحسبن الله يا مخاطب تاركاً مجازاة الظالمين، بل مجازيهم ولا بد، وإمهالهم مدة حلم منه، وسيخرجهم منه في الآخرة لما ورد" الظلمة وأعوانهم كلاب النار "قوله: (من أهل مكة) خصهم بالذكر، وإن المراد العموم، لأن الآية نزلت فيهم. قوله: ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ ﴾ في معنى التعليل لقوله: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً ﴾ الخ، والتقدير: لا تظن أن الله تارك مجازاتهم، ولا تحزن بتأخير العذاب، لأن تأخيره للتشديد والتغليظ. قوله: ﴿ لِيَوْمٍ ﴾ أي لأجل حصول يوم، أو اللام بمعنى إلى التي للغاية. قوله: ﴿ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ ﴾ أي فلا تقر في أماكنها.
قوله: (مسرعين) أي إلى الداعي وهو إسرافيل، وقيل جبريل حيث ينادي على صخرة بيت المقدس، وهي أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء فعند ذلك ينفخ إسرافيل في الصور. قوله: (حال) أي من المضاف المحذوف، والتقدير تشخيص فيه أبصارهم، حال كون أصحاب الأبصار مهطعين الخ. قوله: ﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ أي لا ينطبق لهم جفن لعظم الهول، وهو تأكيد لشخوص البصر. قوله: ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ إما مستأنف أو حال. قوله: (خالية من العقل لفزعهم) أي خالية من الفهم لشدة الحيرة والدهشة، والمعنى أن القلوب حينئذ، تكون فارغة من الإدراك والفهم، والأبصار شاخصة، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته. قوله: ﴿ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ ﴾ مفعول ثان لأنذر على حذف مضاف، أي أنذرهم هوله وشدته. قوله: ﴿ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾ فيه إظهار في مقام الاضمار، لزيادة التشنيع عليهم. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ أي أخر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا مدة من الزمان، نستدرك فيها ما فات. قوله: ﴿ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ ﴾ مجزوم في جواب الأمر. قوله: (فيقال لهم) القائل لهم الملائكة أو الله. قوله: (حلفتم) أي كما حكى الله عنهم ذلك في سورة النحل بقوله:﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾[النحل: ٣٨].
قوله: ﴿ وَسَكَنتُمْ ﴾ معطوف على ﴿ أَقْسَمْتُمْ ﴾.
قوله: ﴿ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ ﴾ المراد بمساكنهم دار الدنيا، لا خصوص منازل الذين ظلموا، فإن كفار قريش لم يسكنوا ديار الكفار الذين هلكوا قبلهم. قوله: (السابقة) أي كقوم نوح وعاد وثمود ولوط وغيرهم. قوله: ﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ ﴾ أي حالهم وخبرهم. قوله: (من العقوبة) بيان لقوله: ﴿ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ ﴾ أي أهل مكة. قوله: (حيث أرادوا قتله) الخ، أي حين اجتمعوا بدار الندوة يتشاورون في شأنه، وقد تقدم ذلك في الأنفال في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[الأنفال: ٣٠] الخ. قوله: (ما) ﴿ كَانَ ﴾ فسر إن بما، لأن اللام في لتزول لام الجحود، وهي لا تقع إلا بعد كون منفي بما أو لم. قوله: (لا يعبأ به) أي لا يلتفت إليه. قوله: (والمراد بالجبال هنا) أي ففيها قولان: قيل المراد حقيقتها، وقيل شرائع الإسلام، فهي مستعملة في مجازها. قوله: (في القرار والثبات) هذا هو وجه الشبه بينهما. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (فإن مخففة) أي واللام في لتزول فارقة. قوله: (والمراد تعظيم مكرهم) أي على هذه الثانية فتحصل أن المعنى على القراءة الأولى: ما كان مكرهم مزيلاً للجبال، لضعفه وعدم العبرة به، وعلى الثانية: والحال أن مكرهم، لتزول منه الجبال لعظمه وشدته، والمكر على القراءتين، قيل تشاورهم في شأن النبي، وقيل كفرهم، ولكن القول الثاني، يوافق القراءة الثانية، بدليل آية﴿ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً ﴾[مريم: ٩٠-٩١].
قوله: (وعلى الأولى) أي القراءة الأولى وهي النافية. قوله: (ما قرىء) أي الذي قرىء وهي قراءة شاذة.
قوله: ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ ﴾ هذا مفرع على قوله﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً ﴾[إبراهيم: ٤٢] وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للظالمين. قوله: ﴿ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ القراءة السبعية بإضافة مخلف إلى وعده ورسله بالنصب، وقرىء شذوذاً بإضافته إلى رسله ونصب وعده، فيكون قد فصل بين المتضايفين بالمفعول، وهذا نظير قراءة ابن عامر في الأنعام: قتل أولادهم شركائهم. قوله: (اذكر) قدره إشارة إلى أن قوله:﴿ يَوْمَ ﴾[إبراهيم: ٤٤] ظرف معمول لمحذوف، ويصح أن يكون معمولاً لقوله: ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾، ويصح أن يكون بدلاً من يوم الأول في قوله:﴿ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ ﴾[إبراهيم: ٤٤].
قوله: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ ﴾ اختلف المفسرون في هذا التبديل، فقيل: المراد تبدل صفاتهما فتسوى الجبال، وتقلع الأشجار، وتنشق الأنهار، وتذهب الكواكب من السماوات وتكسف شمسها ويخسف قمرها، وقيل: تبدل ذاتهما، فتبدل الأرض بأرض نقية بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم، وتبدل السماوات بسماء من ذهب، وعلى هذا القول، فالخلائق يكونون قيل: على الصراط وما زاد منهم يكون على متن جهنم، وقيل يكون في ظلمة قبل المحشر، وقيل على أكف ملائكة سماء الدنيا، وجمع بين القولين بأن تبديل الصفات، يكون أولاً قبل نفخة الصعق، وتبديل الذات يكون بعد النفخة الثانية. قوله: (فيحشر الناس على أرض بيضاء نقية) أي ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس والضحاك، أن الخلائق إذا جمعوا في صعيد واحد، الأولين والآخرين، أمر الجليل جل جلاله، بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم، فيأخذ كل واحد منهم إنساناً وشخصاً المبعوثين، إنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وحولوهم إلى الأرض التي تبدل، وهي أرض بيضاء من فضة نورانية، وصارت الملائكة من وراء الخلق حلقة واحدة، فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات، ثم إن الله يأمر بملائكة السماء الثانية، فيحدقون بهم حلقة واحدة، وإذا هم مثلهم عشرين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة، فيحدقون من وراء الكل بهم حلقة واحدة، فإذا هم مثل ثلاثين ضعفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، فيكونون أكثر منهم بأربعين ضعفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة، فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة، فيكونون مثلهم خمسين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السادسة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، وهم مثلهم ستين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السابعة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، وهم مثلهم سبعين مرة، والخلق تتداخل وتندمج، حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام، ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان، وإلى الصدر، وإلى الحقوين، وإلى الركبتين، ومنهم يصيبه الرشح اليسير، كالقاعد في الحمام، ومنهم من يصيبه البلة، كالعاطش إذا شرب الماء، وكيف لا يكون القلق والعرق والأرق، وقد قربت الشمس من رؤوسهم، حتى لو مد أحد يده لنالها، وتضاعف حرها سبعين مرة، وقال بعض السلف: لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة، لاحترقت الأرض وذاب الصخر، ونشفت الأنهار. قوله: ﴿ وَبَرَزُواْ ﴾ عطف على تبدل، فهو بمعنى المضارع، أي يوم تبدل الأرض وتبرز الخلائق. قوله: ﴿ وَتَرَى ﴾ معطوف على تبدل أيضاً. قوله: (مشدودين مع شياطينهم) أي فتجمع أيديهم وأرجلهم في أعناقهم، ويشد كل واحد مع شيطانه الذي كان معه في الدنيا. قوله: ﴿ فِي ٱلأَصْفَادِ ﴾ جمع صفد بفتحتين وهو القيد. قوله: (والأغلال) جمع غل بالضم، وهو طوق من حديد. قوله: ﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ أي جلودهم تطلى بالقطران، حتى يكون الطلاء كالقميص. قوله: ﴿ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ﴾ أي وقلوبهم. قوله: (متعلق ببرزوا) أي وما بينهما اعتراض. قوله: (في نصف نهار) أي وكل واحد يرى أنه يحاسب وحده. قوله: ﴿ هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ ﴾ في هذه الآية من المحسنات البديعية، رد العجز على الصدر، فقد افتتحت هذه السورة بقوله﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[إبراهيم: ١].
قوله: (لتبليغهم) أي توصيلهم إلى ما فيه صلاحهم ورشدهم.
Icon