تفسير سورة إبراهيم

الطبري
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

تفسير سورة إبراهيم (تَفْسِير السُّورَة التي يُذْكَر فيها إِبْرَاهِيمُ) بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ذكره ﴿الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) ﴾
قال أبو جعفر الطَبَريّ: قد تقدم منا البيان عن معنى قوله: " الر "، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وأما قوله: (كتاب أنزلناه إليك) فإن معناه: هذا كتاب أنزلناه إليك، يا محمد، يعني القرآن= (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) يقول: لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفرِ، إلى نور الإيمان وضيائه، وتُبصِّر به أهلَ الجهل والعمَى سُبُل الرَّشاد والهُدَى. (٢)
وقوله: (بإذن ربهم) يعني: بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم (٣) = (إلى صراط العزيز الحميد) يعني: إلى طريق الله المستقيم، وهو دينه الذي ارتضاه، وشَرَعُه لخلقه. (٤)
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٠٥ - ٢٢٤.
(٢) انظر مراجع ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف قريبًا: ٤٧٦، تعليق: ٣ والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " الصراط " فيما سلف ١٢: ٥٥٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
= وقد أغفل تفسير " العزيز "، فانظر ما سلف ١٥: ٣٧٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك
و (الحميد)، "فعيل"، صُرِف من "مفعول" إلى " فَعيل"، ومعناه: المحمود بآلائه. (١)
* * *
وأضاف تعالى ذكره إخراجَ الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربِّهم لهم بذلك، إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الهادي خَلْقَه، والموفقُ من أحبَّ منهم للإيمان، إذ كان منه دعاؤهم إليه، وتعريفهُم ما لهم فيه وعليهم. فبيّنٌ بذلك صِحة قولِ أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كَسبًا، وإلى الله جل ثناؤه إنشاءً وتدبيرًا، وفسادُ قول أهل القَدر الذين أنكرُوا أن يكون لله في ذلك صُنْعٌ. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٥٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)، أي من الضلالة إلى الهدى.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قَرأة المدينة والشأم: " اللهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السماوات" برفع اسم
(١) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف ٥: ٥٧٠/ ٩: ٢٩٦/ ١٥: ٤٠٠.
(٢) " أهل الإثبات "، هم أهل السنة مثبتو الصفات. و " أهل القدر " هم المعتزلة، ومن أنكر القدر.
512
"الله" على الابتداء، وتصيير قوله: (الذي له ما في السماوات)، خبرَه.
* * *
وقرأته عامة قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة: (اللهِ الَّذِي) بخفض اسم الله على إتباع ذلك (العزيزِ الحميدِ)، وهما خفضٌ.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في تأويله إذ قرئ كذلك.
فذكر عن أبي عمرو بن العَلاء أنه كان يقرؤه بالخفض. ويقول: معناه: بإذن ربهم إلى صرَاط [الله] العزيز الحميدِ الذي له ما في السماوات. (١) ويقول: هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم، ويمثله بقول القائل: " مررتُ بالظَّريف عبد الله"، والكلام الذي يوضع مكانَ الاسم النَّعْتُ، ثم يُجْعَلُ الاسمُ مكان النعت، فيتبع إعرابُه إعرابَ النعت الذي وُضع موضع الاسم، كما قال بعض الشعراء:
لَوْ كُنْتُ ذَا نَبْلٍ وَذَا شَزِيبِ مَا خِفْتُ شَدَّاتِ الخَبِيثِ الذِّيبِ (٢)
* * *
وأما الكسائي فإنه كان يقول فيما ذكر عنه: مَنْ خفضَ أراد أن يجعلَه كلامًا واحدًا، وأتبع الخفضَ الخفضَ، وبالخفض كان يَقْرأ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القُرّاء، معناهما واحدٌ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
(١) زدت ما بين القوسين لأنه حق الكلام، وإلا لم يكن المعنى على " المؤخر الذي معناه التقديم " كما سيأتي، بل كان يكون على التطويل والزيادة، وهو باطل. وهو إغفال من عجلة الناسخ وسبق قلمه.
(٢) غاب عني مكان الرجز. و " الشزيب " و " الشزبة "، (بفتح فسكون)، من أسماء القوس، وهي التي ليست بجديد ولا خلق، كأنها شزب قضيبها، أي ذبل. و " الشدة "، (بفتح الشين) الحملة، يقال: " شد على العدو "، أي حمل.
513
وقد يجوز أن يكون الذي قرأه بالرفع أراد مَعْنَى مَنْ خفضَ في إتباع الكلام بعضِه بعضًا، ولكنه رفع لانفصاله من الآية التي قبله، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) إلى آخر الآية ثم قال: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [سورة التوبة: ١١١، ١١٢]. (١)
* * *
ومعنى قوله: (اللهِ الذي له ما في السماوات وما في الأرض) اللهِ الذي يملك جميع ما في السماوات ومَا في الأرض.
يقول لنييه محمد صلى الله عليه وسلم: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتدعُوَ عِبادي إلى عِبَادة مَنْ هذه صفته، وَيَدعُوا عبادَةَ من لا يملك لهم ولا لنفسه ضَرًّا ولا نفعًا من الآلهة والأوثان. ثم توعّد جل ثناؤه من كفر به، ولم يستجب لدعاء رسوله إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له فقال: (وويْلٌ للكافرين من عذاب شديد) يقول: الوادِي الذي يسيلُ من صديد أهل جهنم، لمن جحد وحدانيته، وعبد معه غيره، مِن عَذَاب الله الشَّدِيد. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة)، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعها ومعاصي الله فيها، على طاعة الله
(١) انظر ما قاله أبو جعفر في الآية، فيما سلف ١٤: ٥٠٠، التعليق رقم: ٢.
(٢) انظر تفسير " الويل " فيما سلف ٢: ٢٦٧ - ٢٦٩، ٢٣٧.
514
وما يقرِّبهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الآخرة (١) = (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، يقول: ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتّباعَ رسوله على ما جاء به من عند الله، من الإيمان به واتباعه (٢) = (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) يقول: ويلتمسون سَبِيل الله = وهي دينه الذي ابتعث به رسوله = (عوجًا) : تحريفًا وتبديلا بالكذب والزّور. (٣)
* * *
"والعِوَج" بكسر العين وفتح الواو، في الدين والأرض وكل ما لم يكن قائمًا، فأما في كلِّ ما كان قائمًا، كالحائط والرمح والسنّ، فإنه يقال بفتح العين والواو جميعًا "عَوَج". (٤)
* * *
يقول الله عز ذكره: (أولئك في ضلال بعيد) يعني هؤلاء الكافرين الذين يستحبُّون الحياة الدنيا على الآخرة. يقول: هم في ذهابٍ عن الحق بعيد، وأخذ على غير هُدًى، وجَوْر عن قَصْد السبيل. (٥)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول "على" في قوله: (على الآخرة)، فكان بعض نحويى البَصْرة يقول: أوصل الفعل بـ"على" كما قيل: " ضربوه في السيف"، يريد بالسيف، (٦) وذلك أن هذه الحروف يُوصل بها كلها وتحذَف،
(١) انظر تفسير " الاستحباب " فيما سلف ١٤: ١٧٥.
(٢) انظر تفسير " الصد " فيما سلف: ٤٦٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف ١٥: ٢٨٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " العوج " فيما سلف ١٥: ٢٨٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر بيانًا آخر عن " العوج " فيما سلف ١٢: ٤٤٨، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٥، وفيه خطأ بين هناك.
(٥) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة.
(٦) انظر ما سيأتي: ٥٣٤، تعليق: ١.
515
نحو قول العرب: "نزلتُ زيدًا"، و"مررت زيدًا"، يريدون: مررت به، ونزلت عليه.
* * *
وقال بعضهم: إنما أدخل ذلك، لأن الفعل يؤدِّي عن معناه من الأفعال، (١) ففي قوله: (يستحبون الحياة الدنيا) معناه يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ولذلك أدخلت "على".
وقد بيَّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب، بما أغنى عن الإعادة. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم، يا محمد، من قبلك ومن قبلِ قومك، رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم = (ليبين لهم) يقول: ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونَهيه، ليُثْبت حجة الله عليهم، ثم التوفيقُ والخذلانُ بيد الله، فيخذُل عن قبول ما أتاه به رسُوله من عنده من شاء منهم، ويوفّق لقبوله من شاء = ولذلك رفع "فيُضلُّ"، لأنه أريد به الابتداء لا العطف على ما قبله، كما قيل: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ) [سورة الحج: ٥] = (وهو العزيز) (٣) الذي لا يمتنع مما أراده من ضلال أو
(١) قوله: " يؤدي عن معناه من الأفعال "، أي يتضمن معنى فعل غيره.
(٢) انظر " مباحث النحو والعربية وغيرها "، فيما سلف من أجزاء هذا الكتاب.
(٣) انظر تفسير " العزيز "، فيما سلف قريبًا: ٥١١، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
هداية من أرادَ ذلك به = (الحكيم)، في توفيقه للإيمان من وفَّقه له، وهدايته له من هداه إليه، وفي إضلاله من أضلّ عنه، وفي غير ذلك من تدبيره. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٦٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، أي بلغة قومه ما كانت. قال الله عز وجلّ: (ليبين لهم) الذي أرسل إليهم، ليتخذ بذلك الحجة. قال الله عز وجلّ: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحُجَجنا من قبلك، ،، يا محمد، ، كما أرسلناك إلى قومك بمثلها من الأدلة والحجج، (٢) كما:
٢٠٥٦١- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح =ح (٣) وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن الأشيب، قال، حدثنا ورقاء، عن أبي نجيح، عن مجاهد =ح (٤) وحدثنا الحسن بن محمد قال،
(١) انظر تفسير " الحكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(٣) هذه أول مرة يستعمل رمز (ح) في هذه المخطوطة. وهو اصطلاح للمحدثين وغيرهم، يراد به: تحويل الإسناد، أي رواية الأثر بإسناد آخر قبل تمام الكلام.
(٤) هذه أول مرة يستعمل رمز (ح) في هذه المخطوطة. وهو اصطلاح للمحدثين وغيرهم، يراد به: تحويل الإسناد، أي رواية الأثر بإسناد آخر قبل تمام الكلام.
517
حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجَاهد، في قول الله: (ولقد أرسلنا موسى بأياتنا) قال: بالبينات.
٢٠٥٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد أرسلنا موسى بأياتنا) قال: التسعُ الآيات، الطُّوفانُ وما معه.
٢٠٥٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (أرسلنا موسى بأياتنا) قال: التسعُ البَيِّناتُ.
٢٠٥٦٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور)، كما أنزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. ويعني بقوله: (٠٠٠٠ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور)، أن ادعهم، (١) من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، كما:-
٢٠٥٦٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولقد أرسلنا موسى بأياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) يقول: من الضلالة إلى الهدى.
٢٠٥٦٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، مثله.
* * *
(١) في المطبوعة: " أي ادعهم "، أساء التصرف، وأراد: أن ادعهم، ليخرجوا من الضلالة إلى الهدى، فحذف واختصر.
518
وقوله: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) يقول عز وجلّ: وعِظْهُم بما سلف من نُعْمَى عليهم في الأيام التي خلت= فاجتُزِئ بذكر "الأيام" من ذكر النعم التي عناها، لأنها أيام كانت معلومة عندهم، أنعم الله عليهم فيها نعمًا جليلةً، أنقذهم فيها من آل فرعون بعدَ ما كانوا فيما كانوا [فيه] من العذاب المُهِين، وغرَّق عدوَّهم فرعونَ وقومَه، وأوْرَثهم أرضهم وديارَهم وأموالَهم.
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول: معناه: خوَّفهم بما نزل بعادٍ وثمودَ وأشباههم من العذاب، وبالعفو عن الآخرين: قال: وهو في المعنى كقولك: "خُذْهم بالشدة واللين".
* * *
وقال آخرون منهم: قد وجدنا لتسمية النّعم بالأيام شاهدًا في كلامهم. ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم:
وَأَيَّامِ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا (١)
وقال: فقد يكون إنما جَعَلها غُرًّا طِوالا لإنعامهم على الناس فيها. وقال: فهذا شاهدٌ لمن قال: (وذكرهم بأيام الله) بنعم الله. ثم قال: وقد يكون تَسْميتُها غُرًّا، لعلوّهم على المَلِكِ وامتناعهم منه، فأيامهم غرّ لهم، وطِوالٌ على أعدائهم. (٢)
* * *
(١) من قصيدته البارعة المشهورة، انظر شرح القصائد السبع لابن الأنباري: ٣٨٨.
(٢) هذا قول أبي عبيدة بلا شك عندي، نقله عنه بنصه ابن الأنباري في شرح السبع الطوال: ٣٨٩، من أول الصفحة، إلى السطر السابع، مع اختلاف في ترتيب الأقوال. وهو بلا شك أيضًا من كتابه " مجاز القرآن "، بيد أني لم أجده في المطبوعة ١: ٣٣٥، في تفسير هذه السورة، ولا في مكان غير هذا المكان. وأكاد أقطع أن نسخة مجاز القرآن، قد سقط منها شيء في أول تفسير " سورة إبراهيم " كما تدل عليه تعليقات ناشره الأخ الفاضل الأستاذ محمد فؤاد سزكين. فالذي نقله الطبري غير منسوب، والذي نقله ابن الأنباري منسوبًا إلى أبي عبيدة، ينبغي تنزيله في هذا الموضع من الكتاب. والحمد لله رب العالمين. وانظر ما سيأتي: ٥٣٥، تعليق: ٤.
519
قال أبو جعفر: وليس للذي قال هذا القول، من أنّ في هذا البيت دليلا على أن "الأيام" معناها النعم، وجهٌ. لأنَّ عمرو بن كلثوم إنما وصفَ ما وصف من الأيام بأنها "غُرّ"، لعزّ عشيرته فيها، وامتناعهم على المَلِك من الإذعان له بالطاعة، وذلك كقول الناس:" ما كان لفلان قطُّ يومٌ أبيض"، يعنون بذلك: أنه لم يكن له يومٌ مذكورٌ بخير. وأمّا وصفه إياها بالطولِ، فإنها لا توصف بالطول إلا في حال شدَّة، كما قال النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيء الكَوَاكِبِ (١)
فإنما وصفها عَمْرٌو بالطول، لشدة مكروهها على أعداء قومه. ولا وجه لذلك غيرُ ما قلت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٦٧- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ قال، حدثنا فُضَيْل بن عِيَاض، عن ليث، عن مجاهد: (وذكرهم بأيام الله)، قال: بأنْعُم الله.
٢٠٥٦٨- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عُبَيْدٍ المُكْتِب، عن مجاهد: (وذكرهم بأيام الله)، قال: بنعم الله. (٢)
٢٠٥٦٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
(١) ديوانه: ٤٢، مطلع قصيدته النابغة، في تمجيد عمرو بن الحارث الأعرج، حين هرب إلى الشأم من النعمان بن المنذر، وسيأتي البيت في التفسير بعد ١٤: ١٥ / ٢٣: ١٠٦ (بولاق).
(٢) الأثر: ٢٠٥٦٨ - " إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد "، شيخ الطبري، سلفت ترجمته رقم: ٢٤١٨، مثل هذا الإسناد. وانظر رقم: ١٩٦٢، ١٣٨٩٩.
و" عبيد المكتب "، هو " عبيد بن مهران الكوفي "، ثقة، أخرج له مسلم، سلف برقم: ٢٤١٧، وفيه ضبط " المكتب ".
520
سفيان، عن عبيدٍ المُكْتِب، عن مجاهد، مثله.
٢٠٥٧٠- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبثر، عن حصين، عن مجاهد، مثله. (١)
٢٠٥٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = ح وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ورقاء= جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بأيام الله) قال: بنعم الله.
٢٠٥٧٢- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٥٧٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٢٠٥٧٤- حدثني المثنى قال، أخبرنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وذكرهم بأيام الله) قال: بالنعم التي أنعم بها عليهم، أنجاهم من آل فرعون، وفَلَق لهم البحر، وظلَّل عليهم الغمَام، وأنزل عليهم المنَّ والسَّلوَى.
٢٠٥٧٥-حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حبيب بن حسان، عن سعيد بن جبير: (وذكرهم بأيام الله) قال: بنعم الله. (٢)
٢٠٥٧٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وذكرهم بأيام الله) يقول: ذكرهم بنعم الله عليهم.
٢٠٥٧٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
(١) الأثر: ٢٠٥٧٠ - " عبثر "، هو " عبثر بن القاسم الزبيدي "، " أبو زبيد الكوفي "، روى له الجماعة، سلفت ترجمته برقم: ١٢٣٣٦، ١٣٢٥٥، وانظر: ١٢٤٠٢، ١٧١٠٦، ١٩٩٩٥.
(٢) الأثر: ٢٠٥٧٥ - " حبيب بن حسان "، هو و " حبيب بن أبي الأشرس ". و " حبيب بن أبي هلال "، منكر الحديث، متروك، سلف برقم: ١٦٥٢٨.
521
معمر، عن قتادة: (وذكرهم بأيام الله) قال: بنعم الله.
٢٠٥٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (وذكرهم بأيام الله) قال: أيامُه التي انتقم فيها من أهل مَعاصيه من الأمم خَوَّفهم بها، وحذَّرهم إياها، وذكَّرهم أن يصيبهم ما أصابَ الذين من قبلهم.
٢٠٥٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا الحِمَّاني قال، حدثنا محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس. عن أبيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وذكرهم بأيام الله)، قال: نعم الله. (١)
(١) الأثر: ٢٠٥٧٩ - " الحماني " (بكسر الحاء وتشديد الميم)، هو " يحيي بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني "، متكلم فيه، ووثقه يحيي بن معين. وانظر ما قاله أخي السيد أحمد رحمه الله في توثيقه فيما سلف رقم: ٦٨٩٢.
و" محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي "، متكلم في حفظه، سلف برقم: ٢٧٢٠، ١١٥١٥، ١١٥١٦.
و" أبو إسحق "، هو السبيعي، مضى مرارًا.
هذا إسناد أبي جعفر. وقد رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على مسند أبيه (المسند ٥: ١٢٢)، وإسناده:
" حدثنا عبد الله، حدثني أَبي، حدثنا يحيى بن عبد الله، مولى بني هاشم، حدثنا محمد بن أبان الجعفيّ، عن أَبي إِسحق، عن سعيد بن جبير... "
= و " يحيى بن عبد الله، مولى بني هاشم "، هو " يحيى بن عبدويه، مولى عبيد الله ابن المهدي "، متكلم فيه، سئل عنه يحيى بن معين فقال: هو في الحياة؟ فقالوا: نعم. فقال: كذاب، رجل سوء. وروى الخطيب في تاريخ بغداد أن أحمد بن حنبل حث ولده عبد الله على السماع من يحيى بن عبدويه، وأثنى عليه. مترجم في ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٧٣، وتاريخ بغداد ١٤: ١٦٥، وتعجيل المنفعة: ٤٤٣، وميزان الاعتدال ٣: ٢٩٦.
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره: ٥: ٥٤٥، عن المسند، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٠، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وقد روى عبد الله بن أحمد في المسند ٥: ١٢٢ قال: "حدثنا أبو عبد الله العنبري، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا محمد بن أبان، عن أبي إسحق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن أبي، نحوه ولم يرفعه ".
قال ابن كثير، وأشار على هذا الخبر: " ورواه عبد الله بن أحمد أيضًا موقوفًا، وهو أشبه ".
قلت: ومدار هذه الأسانيد على " محمد بن أبان الجعفي "، وقد قيل في سوء حفظه وضعفه ما قيل.
522
٢٠٥٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبيد الله أو غيره، عن مجاهد: (وذكرهم بأيام الله) قال: بنعم الله.
* * *
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، يقول: إن في الأيام التي سلفت بنِعَمِي عليهم = يعني على قوم موسى= (لآيات)، يعني: لعِبرًا ومواعظ (١) = (لكل صبار شكور)، : يقول: لكل ذي صبر على طاعة الله، وشكرٍ له على ما أنعم عليه من نِعَمه. (٢)
٢٠٥٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قول الله عز وجلّ: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) قال: نعمَ العبدُ عَبْدٌ إذا ابتلى صَبَر، وإذا أعْطِي شَكَر.
* * *
(١) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(٢) انظر تفسير " الصبر " فيما سلف ١٣: ٣٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
= وتفسير " الشكر " فيما سلف ٣: ٢١٢، ٢١٣.
523
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ قال موسى بن عمْران لقومه من بني إسرائيل: (اذكروا نعمة الله عليكم)، التي أنعم بها عليكم = (إذ أنجاكم من آل فرعون)، يقول: حين أنجاكم من أهل دين فرعون وطاعته (١) = (يسومونكم سوء العذاب)، أي يذيقونكم
(١) انظر تفسير " الإنجاء " فيما سلف ١٥: ٥٣، ١٩٤، ١٩٥.
523
شديدَ العذاب (١) (ويذبحون أبناءكم)، مع إذاقتهم إياكم شديد العذاب [يذبحون] أبناءكم. (٢)
* * *
وأدْخلت الواو في هذا الموضع، لأنه أريد بقوله: (ويذبحون أبناءكم)، الخبرُ عن أن آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح. وأما في موضعٍ آخر من القرآن، فإنه جاء بغير الواو: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) [سورة البقرة: ٤٩]، في موضع، وفي موضع (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ) [سورة الأعراف: ١٤١]، ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها لأنه أريد بقوله: (يذبحون)، وبقوله: (يقتلون)، تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم. وكذلك العملُ في كل جملة أريد تفصيلُها، فبغير الواو تفصيلها، وإذا أريد العطف عليها بغيرها وغير تفصيلها فبالواو. (٣)
* * *
٢٠٥٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، في قوله: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم)، أيادي الله عندكم وأيامه. (٤)
* * *
وقوله: (ويستحيون نساءكم)، يقول: ويُبقون نساءكم فيتركون قتلهن،
(١) انظر تفسير " السوم " فيما سلف ٢: ٤٠ / ١٣، ٨٥، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٥.
= وتفسير " سوء العذاب " فيما سلف ٢: ٤٠ / ١٣: ٨٥.
(٢) من أول قوله: " مع إذاقتهم... " ساقط من المطبوعة. و " يذبحون " التي بين القوسين. ساقطة من المطبوعة.
(٣) في المطبوعة: " فالواو "، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٤) الأثر: ٢٠٥٨٢ - " عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي "، سلف برقم: ٩٩١٤، ١١٦٢٢، وقد أطلت الكلام في نسبه، في جمهرة أنساب قريش للزبير بن بكار ١: ٤٤٩، تعليق: ١، ويزاد عليه: الانتقاء لابن عبد البر: ١٠٤، وأول مسند الحميدي، الذي طبع في الهند حديثًا.
524
وذلك استحياؤهم كَان إياهُنَّ = وقد بينا ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (١) = ومعناه: يتركونهم والحياة، (٢) ومنه الخبر الذي روي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
"اقْتُلُوا شُيوخَ المشركين وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ"، (٣) بمعنى: استبقُوهم فلا تقتلوهم.
* * *
= (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)، يقول تعالى: وفيما يصنعُ بكم آلُ فرعون من أنواع العذاب، بلاءٌ لكم من ربكم عظيمٌ، أي ابتلاء واختبارٌ لكم، من ربكم عظيم. (٤) وقد يكون "البلاء"، في هذا الموضع نَعْماء، ويكون: من البلاء الذي يصيب النَّاس من الشدائد. (٥)
* * *
(١) انظر تفسير " الاستحياء " فيما سلف ٢: ٤١ - ٤٨ / ١٣: ٤١، ٨٥.
(٢) في المطبوعة: " يتركونهم " والحياة هي الترك "، زاد " هي الترك " بسوء ظنه.
(٣) هذا الخبر رواه أحمد في مسنده في موضعين ٥: ١٢، ٢٠ في مسند سمرة بن جندب، من طريق أبي معاوية، عن الحجاج، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة = ثم طريق هشيم، عن حجاج ابن أرطأة، عن قتادة، ومن هذه الثانية قال: " واستبقوا شرخهم ".
ورواه أبو داود في سننه ٣: ٧٣، من طريق سعيد بن منصور، عن هشيم، عن حجاج.
ورواه الترمذي في أبواب السير، " باب ما جاء في النزول على الحكم "، من طريق أبي الوليد الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة. وقال: " هذا حديث حسن غريب، ورواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة نحوه ". وفيه: " واستحيوا ". ثم قال: " والشرخ: الغلمان الذين لم ينبتوا ".
وقال عبد الله بن أحمد (المسند ٥: ١٢) :" سألت أبي عن تفسير هذا الحديث: اقتلوا شيوخ المشركين؟ قال: يقول: الشيخ لا يكاد أن يسلم، والشاب، أي يسلم، كأنه أقرب إلى الإسلام من الشيخ. قال: الشرخ، الشباب ".
(٤) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ١٥، ٢٥٠، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة: " وقد يكون معناه من البلاء الذي قد يصيب الناس في الشدائد وغيرها "، زاد في الجملة ما شاء له هواه وغير، فأساء غفر الله له.
525
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: واذكروا أيضًا حين آذنكم رَبُّكم.
* * *
= و"تأذن"، "تفعَّل" من "آذن". والعرب ربما وضعت "تفعَّل" موضع "أفعل"، كما قالوا: " أوعدتُه " "وتَوعَّدته"، بمعنى واحد. و"آذن"، أعلم، (١) كما قال الحارث بن حِلِّزة:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ (٢)
يعني بقوله: "آذنتنا"، أعلمتنا.
* * *
وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ: (وإذ تأذن ربكم) :"وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ ":-
٢٠٥٨٣- حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش عنه. (٣)
٢٠٥٨٤- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وإذ تأذن ربكم)، وإذ قال ربكم، ذلك "التأذن".
* * *
وقوله: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، يقول: لئن شكرتم ربَّكم، بطاعتكم إياه
(١) انظر تفسير " أذن " فيما سلف ١٣: ٢٠٤، ثم تفسير " الإذن " فيما سلف من فهارس اللغة. ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٤٥.
(٢) مطلع طويلته المشهورة، انظر شرح القصائد السبع لابن الأنباري: ٤٣٣.
(٣) الأثر: ٢٠٥٨٣ - " الحارث "، هو " الحارث بن أبي أسامة " منسوبًا إلى جده، وهو " الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي "، شيخ الطبري، ثقة، سلف مرارًا آخرها رقم: ١٤٣٣٣.
و" عبد العزيز "، هو " عبد العزيز بن أبان الأموي "، كذاب خبيث يضع الأحاديث، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم ١٤٣٣٣.
526
فيما أمركم ونهاكم، لأزيدنكم في أياديه عندكم ونعمهِ عليكم، على ما قد أعطاكم من النجاة من آل فرعون والخلاص مِنْ عذابهم.
* * *
وقيل في ذلك قولٌ غيره، وهو ما:-
٢٠٥٨٥- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا الحسين بن الحسن قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت علي بن صالح، يقول في قول الله عز وجل: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، قال: أي من طاعتي.
٢٠٥٨٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت علي بن صالح، فذكر نحوه.
٢٠٥٨٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، قال: من طاعتي.
٢٠٥٨٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مالك بن مغول، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن، في قوله: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، قال: من طاعتي.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجهَ لهذا القول يُفْهَم، لأنه لم يجرِ للطاعة في هذا الموضع ذكرٌ فيقال: إن شكرتموني عليها زدتكم منها، وإنما جَرَى ذكر الخبر عن إنعام الله على قوم موسى بقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، ثم أخبرهم أن الله أعلمهم إن شكروه على هذه النعمة زادهم. فالواجب في المفهوم أن يكون معنى الكلام: زادهم من نعمه، لا مما لم يجرِ له ذكر من "الطاعة"، إلا أن يكون أريد به: لئن شكرتم فأطعتموني بالشكر، لأزيدنكم من أسباب الشكر ما يعينكم عليه، فيكون ذلك وجهًا.
527
* * *
وقوله: (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)، يقول: ولئن كفرتم، أيها القوم، نعمةَ الله، فجحدتموها بتركِ شكره عليها وخلافِه في أمره ونهيه، وركوبكم معاصيه = (إن عَذَابي لشديد)، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي.
* * *
وكان بعض البصريين يقول في معنى قوله: (وإذ تأذن ربكم)، وتأذّن ربكم: ويقول: "إذ" من حروف الزوائد، (١) وقد دللنا على فساد ذلك فيما مضى قبل. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى لقومه: إن تكفروا، أيها القوم، فتجحدوا نعمةَ الله التي أنعمها عليكم، أنتم = ويفعل في ذلك مثل فعلكم مَنْ في الأرض جميعًا = (فإن الله لغني) عنكم وعنهم من جميع خلقه، لا حاجة به إلى شكركم إياه على نعمه عند جميعكم (٣) (حميد)، ذُو حمد إلى خلقه بما أنعم به عليهم، (٤) كما: -
٢٠٥٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي: (فإن الله لغني)، قال: غني عن خلقه = (حميد)، قال: مُسْتَحْمِدٌ إليهم. (٥)
(١) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٣٤٥.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٣٩ - ٤٤٤ ويزاد في المراجع ص: ٤٣٩، تعليق: ١ أن قول أبي عبيدة هذا في مجاز القرآن ١: ٣٦، ٣٧.
(٣) انظر تفسير " الغني " فيما سلف ١٥: ١٤٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " الحميد "، فيما سلف قريبًا: ٥١٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٥) في أساس البلاغة: " استحمد الله إلى خلقه، بإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم "، وقد سلف " استحمد " في خبر آخر رقم: ٨٣٤٩ في الجزء ٧: ٤٧٠، وهو مما ينبغي أن يقيد على كتب اللغة الكبرى، كاللسان والتاج وأشباههما.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل موسى لقومه: يا قوم (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم)، يقول: خبر الذين من قبلكم من الأمم التي مضت قبلكم (١) = (قومِ نوح وعاد وثمودَ)، وقوم نوح مُبيَّنٌ بهم عن "الذين"، (٢) و"عاد" معطوف بها على "قوم نوح"،= (والذين من بعدهم)، يعني من بعد قوم نوح وعاد وثمود = (لا يعلمهم إلا الله)، يقول: لا يحصي عَدَدهم ولا يعلَمُ مبلغهم إلا الله، كما: -
٢٠٥٩٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون: (وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله)، قال: كذَب النسَّابون. (٣)
(١) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ١٥: ١٤٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " وقوم عاد فبين بهم عن الذين "، وهذا كلام لا معنى له، وإنما سها الناسخ، ومراده أن " قوم نوح "، بدل من " الذين "، و " التبيين "، هو البدل، ذكر ذلك الأخفش (همع الهوامع ٢: ١٢٥). ويقال له أيضًا " التفسير "، كما أسلفت في الجزء ١٢: ٧، تعليق: ١، ويقال له أيضًا: " التكرير "، (همع الهوامع ٢: ١٢٥).
(٣) الآثار: ٢٠٥٩٠ - ٢٠٥٩٣ - خرجها السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧١، وزاد نسبته إلى عبيد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وإسناد هذا الخبر صحيح.
529
٢٠٥٩١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، بمثل ذلك.
٢٠٥٩٢- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال، حدثنا ابن مسعود، أنه كان يقرؤها: "وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ"، ثم يقول: كذب النسابون.
٢٠٥٩٣- حدثني ابن المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عيسى بن جعفر، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، مثله. (١)
* * *
وقوله: (جاءتهم رسلهم بالبينات)، يقول: جاءت هؤلاء الأمم رسلُهم الذين أرسلهم الله إليهم بدعائهم إلى إخلاص العبادة له = "بالبينات"، يعني بحججٍ ودلالاتٍ على حقيقة ما دعوهم إليه من مُعْجِزاتٍ. (٢)
* * *
وقوله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: فعضُّوا على أصابعهم، تغيُّظًا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دَعَوهم إليه.
(١) الأثر: ٢٠٥٩٣ - " ابن المثنى "، هو " محمد بن المثنى العنزي "، الحافظ، المعروف بالزمن، شيخ الطبري، روي عنه ما لا يحصى كثرة، مضى مرارًا، انظر: ٢٧٣٤، ٢٧٤٠، ٥٤٤٠، ١٠٣١٤.
و" عيسى بن جعفر "، هذا خطأ لا شك فيه، وإنما الصواب " محمد بن جعفر الهذلي "، وهو " غندر "، روي عند " ابن المثنى " في مواضع من التفسير لا تعد كثرة، انظر ما سلف من الأسانيد مثلا: ٣٥، ١٠١، ١٩٤، ٢٠٨، ٤١٩، في الجزء الأول من التفسير، وفي الجزء الثامن: ٨٧٦١، ٨٨١٠، ٨٨٦٣، ٨٩٧٣، وفيه " المثنى "، وصوابه " ابن المثنى ". وغير هذه كثير.
(٢) انظر تفسير " البينات " فيما سلف ١٣: ١٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= هذا، وكان في المطبوعة: " يعني بالحجج الواضحات، والدلالات البينات الظاهرات على حقيقة ما دعوهم إليه معجزات "، زاد في الكلام غثاء كثيرًا، كأنه غمض عليه نص أبي جعفر، فأراد أن يوضحه بما ساء وناء.
530
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٩٤- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: عضوا عليها تغيُّظًا.
٢٠٥٩٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، في قوله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: غيظًا، هكذا، وعضَّ يده.
٢٠٥٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: عضُّوها. (١)
٢٠٥٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصريّ قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قول الله عز وجل: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: عضوا على أصابعهم. (٢)
(١) الآثار: ٢٠٥٩٤ - ٢٠٥٩٦ - خبر " سفيان الثوري، عن أبي إسحق "، أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٥١، من طريق عبد الرزاق، وهو هنا رقم: ٢٠٥٩٥، ولفظه في المستدرك:
" قال عبد الله كذا، وردَّ يده في فيه، وعضَّ يده، وقال: عضُّوا على أصابعهم غيظًا ".
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح بالزيادة على شرطهما "، ووافقه الذهبي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٢، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، والفريابي، وأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٤٣، وقال: رواه الطبراني عن شيخه، عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف ". ولم يذكر هو ولا السيوطي الحديث بزيادة الحاكم.
وسيأتي الخبر عن " سفيان الثوري " و " إسرائيل " برقم: ٢٠٦٠٣.
(٢) الأثر: ٢٠٥٩٧ - " إسرائيل "، هو " إسرائيل بن يونس بن أبي إسحق السبيعي "، روى عن جده، ومضى مرارًا كثيرة لا تعد.
و" عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني البصري "، ثقة، كان حسن الحديث عن " إسرائيل " سلفت ترجمته برقم: ٢٨١٤، ٢٩٣٩، ١٦٩٧٣.
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك، من طريق: " عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل "،
وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي، وسيأتي من طريق أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل، وسفيان جميعًا برقم: ٢٠٦٠٣. وانظر تخريج الآثار السالفة.
531
٢٠٥٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: عضوا على أطراف أصابعهم. (١)
٢٠٥٩٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: أن يجعل إصْبعه في فيه.
٢٠٦٠٠- حدثنا الحسن بن محمد، قالا حدثنا أبو قطن قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن عبد الله في قول الله عز وجلّ: (فردوا أيديهم في أفواههم)، ووضع شُعبة أطرافَ أنامله اليُسرى على فيه.
٢٠٦٠١- حدثنا الحسن قال، حدثنا يحيى بن عباد قال، حدثنا شعبة قال، أخبرنا أبو إسحاق، عن هبيرة قال، قال عبد الله (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: هكذا، (٢) وأدخل أصابعه في فيه.
٢٠٦٠٢- حدثنا الحسن قال، حدثنا عفان قال، حدثنا شعبة، قال أبو إسحاق: أنبأنا عن هبيرة، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال أبو علي: وأرَانا عفان، وأدخل أطراف أصابع كفّه مبسوطةً في فيه، وذكر أن شعبة أراه كذلك. (٣)
(١) الأثر: ٢٠٥٩٨ - هذه طريق ثالثة لخبر أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود: " شريك، عن أبي إسحق: عن أبي الأحوص، عن عبد الله "،. وانظر الآثار السالفة.
(٢) " قال هكذا "، أي أشار. وقد سلف مرارًا تفسير " قال " بهذا المعنى.
(٣) الآثار: ٢٠٥٩٩ - ٢٠٦٠٢ - هذه الثلاثة، طريق أخرى لخبر عبد الله بن مسعود، من حديث هبيرة عنه.
و" أبو قطن "، هو " عمرو بن الهثيم بن قطن الزبيري "، " أبو قطن البصري "، ثقة، في الطبقة الرابعة من أصحاب شعبة. مضى برقم: ١٨٦٧٤، ٢٠٠٩١، ٢٠٤٢٠.
و" يحيى بن عباد الضبعي "، " أبو عباد "، من شيوخ أحمد، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، ثقة، ولكنه ضعيف. مضى برقم: ٢٠٠١٠، ٢٠٠٩١
و" هبيرة بن مريم الشبامي "، تابعي ثقة، لم يرو عنه غير أبي إسحق السبيعي، مضى برقم: ٣٠٠١، ٥٤٦٨.
532
٢٠٦٠٣- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: عضُّوا على أناملهم. وقال سفيان: عضُّوا غيظًا. (١)
٢٠٦٠٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، فقرأ: " عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغيْظِ " [سورة آل عمران: ١١٩]، قال: هذا، (ردُّوا أيديهم في أفواههم). (٢) قال: أدخلوا أصابعهم في أفواههم. وقال: إذا اغتاظ الإنسان عضَّ يده.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم لما سمعوا كتابَ الله عجبوا منه، ووضعوا أيديهم على أفواههم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٠٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: لما سمعوا كتابَ الله عجِبُوا ورَجَعوا بأيديهم إلى أفواههم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم كذبوهم بأفواههم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٠٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(١) الأثر: ٢٠٦٠٣ - انظر التعليق على الآثار السالفة.
(٢) في المطبوعة: " وقال: معنى: ردوا أيديهم في أفواههم "، عبث باللفظ وأساء غاية الإساءة.
533
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = ح وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: ردوا عليهم قولهم وكذَّبوهم.
٢٠٦٠٧- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٠٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٠٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم)، يقول: قومُهم كذّبوا رسلهم وردُّوا عليهم ما جاءوا به من البينات، وردُّوا عليهم بأفواههم، وقالوا: إنا لفي شك مما تَدعوننا إليه مُرِيب.
٢٠٦١٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فردوا أيديهم في أفواههم)، قال: ردوا على الرسل ما جاءت به.
* * *
قال أبو جعفر: وكأنّ مجاهدًا وجَّه قوله: (فردُّوا أيديهم في أفواههم)، إلى معنى: ردُّوا أيادى الله التي لو قبلوها كانت أياديَ ونعمًا عندهم، فلم يقبلوها= ووجَّه قوله: (في أفواههم)، إلى معنى: بأفواههم، يعني: بألسنتهم التي في أفواههم (١).
* * *
وقد ذكر عن بعض العرب سَماعًا:" أدخلك الله بالجنَّة"، يعنون: في الجنة، وينشد هذا البيت (٢)
(١) انظر ما سلف: ٥١٥، تعليق: ٦.
(٢) لم أعرف قائله. ومنشده هو الفراء، كما في اللسان (فيا).
534
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ... وَلَكِنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ (١)
يريد: وأرغب بها، يعنى بابنة له، (٢) عن لقيط، ولا أرغبُ بها عن قبيلتي.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم كانوا يَضَعُون أيديهم على أفواه الرّسل ردًّا عليهم قولَهم، وتكذيبًا لهم.
* * *
وقال آخرون: هذا مَثَلٌ، وإنما أُرِيد أنهم كفُّوا عَمَّا أُمروا بقَوْله من الحق، (٣) ولم يؤمنوا به ولم يسلموا. وقال: يقال لِلرَّجل إذا أمسَك عن الجواب فلم يجبْ: " ردّ يده في فمه ". وذكر بعضهم أن العرب تقول: " كلمت فلانًا في حاجة فرَدّ يدَه في فيه"، إذا سكت عنه فلم يجب. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا قول لا وَجْه له، لأن الله عزَّ ذكره، قد أخبر عنهم أنهم قالوا: " إنا كفرنا بما أرسلتم به"، فقد أجابوا بالتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر:-
وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية، القولُ الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود: أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم،
(١) اللسان (فيا)، وسيأتي في التفسير ١٧: ١٠٥ (بولاق) وأنشده في اللسان عن الفراء: وأَرغبُ فيها عن عُبَيْدٍ ورَهْطِهِ... ولكنْ بِهَا عن سِنْبسٍ لستُ أَرغَبُ
(٢) كان في المطبوعة: " يريد: وأرغب فيها، يعني أرغب بها عن لقيط "، لم يحسن قراءة المخطوطة لأن فيها " وأرغب فيها " مكان " وأرغب بها "، ولأنه كتبت " بابنت " بتاء مفتوحة، وغير منقوطة فضل، فتصرف، فأضل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(٣) في مجاز القرآن لأبي عبيدة " بقوله "، مكان " بقبوله " فأثبته، ولم أثبت ما في المخطوطة والمطبوعة، وما وافقهما في فتح الباري (٨: ٢٨٥)، لأن قول أبي جعفر بعد: " لأن الله عز وجل قد أخبر عنهم أنهم قالوا... "، دليل على صوابه.
(٤) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٣٣٦، ولكنه في المطبوع من مجاز القرآن مختصر جدًا، وكأن هذا الموضع من " مجاز القرآن " مضطرب وفيه خروم، كما أسلفت بيان ذلك في ص: ٥١٩ تعليق رقم: ٢.
535
فعضُّوا عليها، غيظاً على الرسل، كما وصف الله جل وعز به إخوانهم من المنافقين، فقال: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [سورة آل عمران: ١١٩]. فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم من "ردِّ اليدِ إلى الفم".
* * *
وقوله: (وقالوا إنّا كفرنا بمَا أرسلتم به)، يقول عز وجل: وقالوا لرسلهم: إنا كفرنا بما أرسلكم به مَنْ أرسلكم، من الدعاء إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام = (وإنا لفي شك) من حقيقة ما تدعوننا إليه من توحيد الله = (مُريب)، يقول: يريبنا ذلك الشك، أي يوجب لنا الريبَة والتُّهمَةَ فيه.
* * *
= يقال منه:" أرابَ الرجل"، إذا أتى بريبة، "يُريبُ إرابةً". (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت رُسل الأمم التي أتتها رسُلها: (أفي الله)، (٢) أنه المستحق عليكم، أيها الناس، الألوهة والعبادةَ دون جميع
(١) انظر تفسير " الريب " فيما سلف من فهارس اللغة (ريب)، وتفسير " الإرابة فيما سلف ١٥: ٣٧٠، ٤٩٣.
(٢) في المخطوطة: " أفي الناس "، وهو سهو منه.
536
خلقه = (شك) = وقوله: (فاطر السماوات والأرض)، يقول: خالق السماوات والأرض (١) (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم)، يقول: يدعوكم إلى توحيده وطاعته = (ليغفر لكم من ذنوبكم)، يقول: فيستر عليكم بعضَ ذنوبكم بالعفو عنها، فلا يعاقبكم عليها، (٢) (ويؤخركم)، يقول: وينسئ في آجالكم، (٣) فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتبَ في أمّ الكتاب أنه يقبضكم فيهِ، وهو الأجل الذي سمَّى لكم. (٤) فقالت الأمم لهم: (إن أنتم)، أيها القوم (إلا بشرٌ مثلنا)، في الصورة والهيئة، ولستم ملائكة، (٥) وإنما تريدون بقولكم هذا الذي تقولون لنا = (أن تصدُّونا عما كان يعبدُ آباؤنا)، يقول: إنما تريدون أن تصرِفونا بقولكم عن عبادة ما كان يعبدُه من الأوثان آباؤنا (٦) = (فأتونا بسلطان مبين)، يقول: فأتونا بحجة على ما تقولون تُبين لنا حقيقتَه وصحتَه، فنعلم أنكم فيما تقولون محقُّون. (٧)
* * *
(١) انظر تفسير " فطر " فيما سلف: ٢٨٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر)، ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٦، في بيان زيادة " من " في الآية.
(٣) انظر تفسير " التأخير " فيما سلف من فهارس اللغة (أخر).
(٤) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف: ٤٧٦، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
= وتفسير " مسمى " فيما سلف: ٣٢٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير " بشر " فيما سلف ١٥: ٢٩٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٦) انظر تفسير " الصد " فيما سلف: ٥١٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٧) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف: ١٠٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
537
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الأمم التي أتتهم الرّسلُ رُسُلهم: (١) (إن نحن إلا بشر مثلكم)، صدقتم في قولكم، إن أنتم إلا بشر مثلنا، فما نحنُ إلا بَشَر من بني آدم، إنسٌ مثلكم (٢) = (ولكنّ الله يمنُّ على من يشاء من عباده)، يقُول: ولكن الله يتفضل على من يشاء من خلقه، (٣) فيهديه ويوفقه للحقّ، ويفضّله على كثير من خلقه = (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان)، يقول: وما كان لنا أن نأتيكم بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه (٤) = (إلا بإذن الله)، يقول: إلا بأمر الله لنا بذلك (٥) = (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، يقول: وبالله فليثق به من آمن به وأطاعه، فإنا به نثق، وعليه نتوكل. (٦)
٢٠٦١٠م - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (فأتونا بسلطان مبين)، قال: "السلطان المبين"، البرهان والبينة. وقوله: (مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا) [سورة آل عمران: ١٥١ / سورة الأعراف: ٧ / سورة الحج: ٧١]، قال: بينَةً وبرهانًا.
* * *
(١) في المطبوعة: " قال الأمم التي أتتهم الرسل لرسلهم "، وهو لا يفهم، وفي المخطوطة: " قالت الأمم التي أتتهم الرسل رسلهم "، وصوابها " للأمم "، و " رسلهم " فاعل " قالت ".
(٢) انظر تفسير " البشر " فيما سلف قريبًا: ٥٣٧، تعليق: ٥
(٣) انظر تفسير " المن " فيما سلف ٧: ٣٦٩/٩: ٧١/١١: ٣٨٩.
(٤) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف قريبًا.
(٥) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف: ٥٢٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٦) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ١٦٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبًرا عن قِيل الرسل لأممها: (وما لنا أن لا نتوكل على الله)، فنثق به وبكفايته ودفاعه إياكم عنَّا = (وقد هدانا سُبُلنا)، يقول: وقد بَصَّرنا طريقَ النجاة من عذابه، فبين لنا (١) = (ولنصبرنَّ على ما آذيتمونا)، في الله وعلى ما نلقى منكم من المكروه فيه بسبب دُعائنا لكم إلى ما ندعوكم إليه، (٢) من البراءة من الأوثان والأصنام، وإخلاص العبادة له = (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)، يقول: وعلى الله فليتوكل من كان به واثقًا من خلقه، فأما من كان به كافرًا فإنّ وليَّه الشيطان.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عزّ ذكره: وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وفراق عبادة الآلهة والأوثان=
(١) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
= وتفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٢) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف ١٤: ٣٢٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
539
(لنخرجنَّكم من أرضنا)، يعنون: من بلادنا فنطردكم عنها = (أو لتعودن في مِلّتنا)، يعنون: إلا أن تَعُودوا في دِيننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام. (١)
* * *
وأدخلت في قوله: (لتعودُنَّ) "لام"، وهو في معنى شرطٍ، كأنه جواب لليَمين، وإنما معنى الكلام: لنخرجَنكم من أرضنا، أو تعودون في ملتنا. (٢)
* * *
ومعنى "أو" ههنا معنى "إلا" أو معنى "حتى" كما يقال في الكلام:" لأضربنك أوْ تُقِرَّ لي"، فمن العرب من يجعل ما بعد "أو" في مثل هذا الموضع عطفًا على ما قبله، إن كان ما قبله جزمًا جزموه، وإن كان نصبًا نصبوه، وإن كان فيه "لام" جعلوا فيه "لاما"، (٣) إذ كانت "أو" حرف نَسق. ومنهم من ينصب "ما" بعد "أو"بكل حالٍ، ليُعْلَم بنصبه أنه عن الأول منقطع عما قبله، كما قال امرؤ القيس:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ... وَأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بِقَيْصَرَا... فَقُلْتُ لَهُ:
لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا (٤)
فنصب "نموت فنعذرا" وقد رفع "نحاول"، لأنه أراد معنى: إلا أن نموتَ، أو حتى نموتَ، ومنه قول الآخر: (٥)
لا أَسْتَطِيعُ نزوعًا عَنْ مَوَدَّتِهَا أَوْ يَصْنَعَ الْحُبُّ بِي غَيْرَ الَّذِي صَنَعَا (٦)
(١) انظر تفسير " الملة " فيما سلف: ١٠١، تعليق: ١، والمراجع هناك، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٦.
(٢) في المطبوعة: " أو تعودن "، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " إن كان فيه لامًا "، ، خطأ، صوابه في المخطوطة.
(٤) ديوانه: ٦٥ من قصيدته الغالية التي قالها في مسيرة إلى قيصر مستنصرًا به بعد قتل أبيه. وصاحبه الذي ذكره، هو عمرو بن قميئة اليشكري الذي استصحبه إلى قيصر، و " الدرب ". ما بين طرسوس وبلاد الروم.
(٥) هو الأحوص بن محمد الأنصاري، وينسب أحيانًا للمجنون.
(٦) الأغاني ٤: ٢٩٩، وديوان المجنون: ٢٠٠، وخرج أبيات الأحوص، ولدنا الأستاذ عادل سليمان، فيما جمعه من شعر لأحوص، ولم يطبع بعد.
540
وقوله: (فأوحَى إليهم ربُّهم لنُهلكنَّ الظالمين)، الذين ظلموا أنفسهم، (١) فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم. وقد يجوز أن يكون قيل لهم: "الظالمون" لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة، (٢) فيكون بوضعهم العبادةَ في غير موضعها، إذ كان ظلمًا، سُمُّوا بذلك. (٣)
* * *
وقوله: (ولنسكننكم الأرض من بعدهم)، هذا وعدٌ من الله مَنْ وَعد من أنبيائه النصرَ على الكَفَرة به من قومه. يقول: لما تمادتْ أمم الرسل في الكفر، وتوعَّدوا رسُلهم بالوقوع بهم، أوحى الله إليهم بإهلاك من كَفَر بهم من أممهم ووعدهم النصر. وكلُّ ذلك كان من الله وعيدًا وتهدُّدا لمشركي قوم نبيِّنا محمد ﷺ على كفرهم به، (٤) وجُرْأتهم على نبيه، وتثبيتًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمرًا له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من رسله = ومُعرِّفَة أن عاقبة أمرِ من كفر به الهلاكُ، وعاقبتَه النصرُ عليهم، سُنَّةُ الله في الذين خَلَوْا من قبل.
* * *
٢٠٦١١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولنسكننكم الأرضَ من بعدهم)، قال: وعدهم النصرَ في الدنيا، والجنَّةَ في الآخرة.
* * *
وقوله: (ذلك لمن خَافَ مَقامي وخاف وَعِيدِ)، يقول جل ثناؤه:
(١) انظر تفسير: " أوحى " فيما سلف ٦: ٤٠٥/٩: ٣٩٩ / ١١: ٢١٧، ٢٩٠، ٣٧١، ٥٣٣.
(٢) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف ١: ٥٢٣، ٥٢٤ / ٢: ٣٦٩، ٥١٩ / ٤: ٥٨٤ / ٥: ٣٨٤، وغيرها في فهارس اللغة.
(٣) في المطبوعة كتب: " سموا بذلك ظالمين "، زاد ما لا محصل له، إذ لم يألف عبارة أبي جعفر، فأظلمت عليه.
(٤) في المطبوعة: " وعيدًا وتهديدًا "، أساء إذ غير لفظ أبي جعفر.
541
هكذا فِعْلي لمن خاف مَقامَه بين يديّ، وخاف وعيدي فاتَّقاني بطاعته، وتجنَّب سُخطي، أنصُرْه على ما أراد به سُوءًا وبَغَاه مكروهًا من أعدائي، أهلك عدوّه وأخْزيه، وأورثه أرضَه وديارَه.
* * *
وقال: (لمن خاف مَقَامي)، ومعناه ما قلت من أنه لمن خاف مَقَامه بين يديَّ بحيث أقيمه هُنالك للحساب، (١) كما قال: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [سورة الواقعة: ٨٢]، معناه: وتجعلون رِزقي إياكم أنّكُم تكذبون. وذلك أن العرب تُضيف أفعالها إلى أنفسها، وإلى ما أوقعت عليه، فتقول: "قد سُرِرتُ برؤيتك، وبرؤيتي إياك"، فكذلك ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واستفتحت الرُّسل على قومها: أي استنصرت الله عليها (٢) = (وخاب كل جبار عنيد)، يقول: هلك كل متكبر جائر حائدٍ عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبادة له.
* * *
و"العنيد" و"العاند" و"العَنُود"، بمعنى واحد. (٣)
* * *
(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٧.
(٢) انظر تفسير " الاستفتاح " فيما سلف ٢: ٢٥٤ / ١٠: ٤٠٥، ٤٠٦، ومجاز القرآن ١: ٣٣٧.
(٣) انظر تفسير " عنيد " فيما سلف ١٥: ٣٦٦، ٣٦٧، ومجاز القرآن ١: ٣٣٧.
542
ومن "الجبار"، تقول: هو جَبَّار بَيِّنُ الجَبَريَّة، والجَبْرِيَّة، والجَبْرُوَّة، والجَبَرُوت. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦١٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء = جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستفتحوا)، قال: الرسل كلها. يقول: استنصروا = (عنيد)، قال معاند للحق مجانبه. (٢)
٢٠٦١٣ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، = ح وحدثني الحارث قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (واستفتحوا)، قال: الرسل كُلها استنصروا = (وخاب كل جبَّار عَنيد)، قال: معاند للحق مجانبه.
(١) انظر تفسير " جبار " فيما سلف ١٠، ١٧٢/١١: ٤٧٠ / ١٥: ٣٦٦.
هذا، وفي المطبوعة: " هو جبار بين الجبرية، والجبروتية، والجبروة، والجبروت " زاد في اللغة ما لا نص عليه، وهو " الجبروتية "، ونقص واحدة من الخمس " الجبروة ". وكان في المخطوطة مكان " الجبرية " الثانية: " الجبر ننبه "، غير منقوطة، وأساء كتابتها.
(٢) الأثر: ٢٠٦١٢ - هذا الذي أثبته هو الذي جاء في المخطوطة، وطابق ما خرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٣، عن مجاهد، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وكان في المطبوعة هنا.
" يقول: استنصروا على أَعدائهم ومعانديهم، أَي على من عاند عن اتباع الحق وتجنَّبه ".
543
٢٠٦١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله = وقال ابن جريج: استفتحوا على قومهم.
٢٠٦١٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى... (١)
٢٠٦١٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد)، قال: كانت الرسلُ والمؤمنون يستضعفهم قومُهم، ويقهَرُونهم ويكذبونهم، ويدعونهم إلى أن يعودوا في مِلّتهم، فأبَى الله عز وجل لرسله وللمؤمنين أن يعودُوا في مِلّة الكفر، وأمرَهُم أن يتوكلوا على الله، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة، ووعدهم أن يُسْكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز الله لهم ما وعدهم، واستفتحوا كما أمرهم أن يستفتحوا، (وخابَ كل جبار عنيد).
٢٠٦١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وخاب كل جبار عنيد)، قال: هو النَّاكب عن الحق. (٢)
٢٠٦١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا مطرف، عن بشر، عن هشيم، عن مغيرة، عن سماك، عن إبراهيم: (وخاب كل جبار عنيد)، قال: الناكب عن الحق. (٣)
(١) الأثر: ٢٠٦١٦ - هذا إسناد مقحم فيما أرجح، وإنما هو صدر الإسناد رقم: ٢٠٦١٢ اجتلبته يد الناسخ سهوًا إلى هذا المكان. والله أعلم.
(٢) الأثر: ٢٠٦١٨ - في هذا الخبر أيضًا زيادة لا أدري كيف جاءت، فاقتصرت على ما في المخطوطة، وهو مطابق لما خرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٣، عن إبراهيم النخعي، ونسبه لابن جرير وحده، والزيادة التي كانت المطبوعة هي:
" أي الحائد عن اتباع طريق الحق"
وانظر الخبر التالي، بلا زيادة أيضًا.
(٣) الأثر: ٢٠٦١٩ - " مطرف بن بشر "، لا أدري ما هو، ولم أجد له ذكرًا في شيء مما بين يدي. وجاء ناشر المطبوعة فجعله " مطرف، عن بشر " بلا دليل.
544
٢٠٦٢٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (واستفتحوا)، يقول: استنصرت الرسل على قومها = قوله: (وخاب كل جبار عنيد)، و"الجبار العنيد": الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
٢٠٦٢١ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واستفتحوا)، قال: استنصرت الرسل على قومها = (وخاب كل جبار عنيد)، يقول: عَنِيد عن الحق، مُعْرِض عنه. (١)
٢٠٦٢٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله - وزاد فيه: مُعْرِض، (٢) أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
٢٠٦٢٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وخاب كل جبار عنيد)، قال: "العنيد عن الحق"، الذي يعنِدُ عن الطريق، قال: والعرب تقول:" شرُّ الأهْل العَنِيد" (٣) الذي يخرج عن الطريق.
٢٠٦٢٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد)، قال: "الجبّار": المتجبّر. (٤)
* * *
وكان ابن زيد يقول في معنى قوله: (واستفتحوا)، خلاف قول هؤلاء، ويقول: إنما استفتحت الأمم، فأجيبت.
٢٠٦٢٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (واستفتحوا)، قال: استفتاحهم بالبلاء، قالوا: اللهم إن كان هذا الذي
(١) في المطبوعة، والدر المنثور ٤: ٧٣: " بعيد عن الحق "، وأرى الصواب ما في المخطوطة، انظر ما سلف في تفسير " عنيد " ص:.. ٥٤٢، ٥٤٣
(٢) في المطبوعة: " معرض عنه "، كأنه زادها من عنده.
(٣) في المطبوعة: " شر الإبل "، ولا أدري أهو صواب، أم غيرها الناشر، ولكني أثبت ما في المخطوطة، فهو عندي أوثق.
(٤) في المطبوعة: " هو المتجبر "، زاد في الكلام.
545
أتى به محمد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء، كما أمطرتها على قوم لوط، أو ائتنا بعذاب أليم. (١) قال: كان استفتاحهم بالبلاء كما استفتح قوم هود: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة الأعراف: ٧٠] قال: فالاستفتاح العذاب، قال: قيل لهم: إنّ لهذا أجلا! حين سألوا الله أن ينزل عليهم، فقال:" بلْ نُؤخِّرُهُمْ ليَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَار". (٢) فقالوا: لا نريد أن نؤخر إلى يوم القيامة: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) عَذَابَنَا (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) [سورة ص: ١٦]. وقرأ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) حتى بلغ: (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة العنكبوت: ٥٣ - ٥٥].
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عزّ ذكره: (من ورائه)، من أمام كل جَبار (جهنم)، يَرِدُونها.
* * *
و"وراء" في هذا الموضع، يعني أمام، كما يقال: "إن الموت مِنْ ورائك"، أي قُدّامك، وكما قال الشاعر: (٣)
(١) هذا من تأويل آية سورة الأنفال: ٣٢.
(٢) هو انتزاع من آية سورة إبراهيم: ٤٢.
(٣) هو جرير.
546
أَتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِيَاحٍ... كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنَّ يَدَاكَ دُونِي... (١)
يعني: "وراء بني رياح"، قدَّام بني رياح وأمَامهم.
* * *
وكان بعض نحويِّي أهل البَصرة يقول: إنما يعني بقوله: (من ورائه)، أي من أمامه، لأنه وراءَ ما هو فيه، كما يقول لك: "وكلّ هذا من ورائك": أي سيأتي عليك، وهو من وراء ما أنت فيه، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وقال: (وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [سورة الكهف: ٧٩]، من هذا المعنى، أي كان وراء ما هم فيه أمامهم.
* * *
وكان بعض نحويي أهل الكوفة يقول: أكثر ما يجوزُ هذا في الأوقات، لأن الوقت يمرُّ عليك، فيصير خلفك إذا جزته، وكذلك (كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، لأنهم يجوزونه فيصير وراءهم.
* * *
وكان بعضهم يقول: هو من حروف الأضداد، يعني وراء يكون قُدَّامًا وخلفًا.
* * *
وقوله: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)، يقول: ويسقى من ماءٍ، ثم بيَّن ذلك الماء جل ثناؤه وما هو، فقال: هو "صديد"، ولذلك رد "الصَّديد" في إعرابه على "الماء"، لأنه بيَانٌ عنه. (٢)
* * *
(١) البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف: ٣٩٩، تعليق: ٣، ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٧.
(٢) " البيان "، هو " عطف البيان "، ويسميه الكوفيون " الترجمة " كما سلف، انظر فهارس المصطلحات.
547
و "الصديد"، هو القَيْحُ والدم.
* * *
وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٢٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء = ح وحدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (من ماء صديد)، قال قيحٌ ودم.
٢٠٦٢٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٢٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ويسقى من ماء صديد)، و"الصديد"، ما يسيل من لحمه وجلدِه. (١)
٢٠٦٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (ويسقى من ماء صديد)، قال: ما يسيل من بين لحمه وجلده.
٢٠٦٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عمن ذكره، عن الضحاك: (ويسقى من ماء صديد)، قال: يعني بالصديد: ما يخرج من جوف الكافر، قد خالط القَيْح والدم.
* * *
وقوله: (يتجرَّعه)، يتحسَّاه = (ولا يكاد يسيغه)، يقول: ولا يكاد يزدرده من شدة كراهته، وهو مُسيغه من شدّة العطش.
* * *
(١) الأثر: ٢٠٦٢٨ - في المطبوعة: " من دمه ولحمه وجلده "، بزيادة، وأثبت ما في المخطوطة موافقًا لما في الدر المنثور ٤: ٧٤.
548
والعرب تجعل "لا يكاد" فيما قد فُعِل، وفيما لم يُفْعَل. فأما ما قد فعل، فمنه هذا، لأن الله جل ثناؤه جعل لهم ذلك شرابًا. وأمَّا ما لم يفعل وقد دخلت فيه "كاد" فقوله: حتى (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [سورة النور: ٤٠]، فهو لا يراها. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا من أن معنى قوله: (ولا يكاد يسيغه)، وهو يُسيغه، جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. *
ذكر الرواية بذلك:
٢٠٦٣١ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطَّالقَاني قال، حدثنا ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن عبيد الله بن بسر، عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ في قوله: (ويُسقى من ماء صديد يتجرّعه)، "فإذا شَربه قَطَّع أمعاءَه حتى يخرج من دُبُره"، يقول الله عز وجل: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [سورة محمد: ١٥]، ويقول: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ) [سورة الكهف: ٢٩]. (٢)
٢٠٦٣٢ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معمر، عن ابن المبارك قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبيد الله بن بسر، عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ في قوله: (ويسقى من ماءٍ صديد)، فذكر مثله، إلا أنه قال: (سُقُوا مَاءً حَمِيمًا). (٣)
(١) انظر تفسير " كاد " فيما سلف ٢: ٢١٨، ٢١٩ / ١٣: ١٣١.
(٢) الأثران: ٢٠٦٣١، ٢٠٦٣٢ - " إبراهيم، أبو إسحق الطالقاني "، هو " إبراهيم بن إسحق بن عيسى الطالقاني البناني "، وربما قيل: " إبراهيم بن عيسى "، منسوبًا إلى جده، وهو مولى " بنانة "، ثقة، من شيوخ أحمد، سمع ابن المبارك، وبقية. و " الطالقان "، بسكون اللام، ويقال بفتحها، بلدة بخراسان. وهو مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٢٧٣، وابن أبي حاتم في موضعين ١/١/٨٦، ١١٩، وتاريخ بغداد ٦: ٢٤.
و" عبد الله بن المبارك "، أحد الأئمة الكبار، مضى مرارًا كثيرة.
و" صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة ثبت مأمون، مضى مرارًا منها: ٧٠٠٩، ١٢١٩٤، ١٢٨٠٧، ١٣١٠٨.
و" عبيد الله بن بسر "، مصغرًا هكذا هو هنا، وفي رواية أحمد في مسنده، وفي سنن الترمذي. و " عبد الله بن بسر " في المستدرك للحاكم، وحلية الأولياء لأبي نعيم. وفي ابن كثير نقلا عن المسند " عبيد الله بن بشر "، وهو تصحيف.
وهذا الخبر من طريق ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، رواه أحمد في مسنده عن علي بن إسحق، عن عبد الله بن المبارك (المسند ٥: ٢٦٥).
ورواه الترمذي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك (في باب ما جاء في صفة شراب أهل النار)
ورواه أبو نعيم في الحلية ٨: ١٨٢ من طرق: نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، ومعاذ بن أسد، عن ابن المبارك، ويحيي الحماني عنه، ومحمد بن مقاتل عنه، أربع طرق.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١ من طريق عبدان، وهو عبد الله بن عثمان بن جبلة، عن ابن المبارك، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وفي " عبيد الله بن بسر " مقال. قال الترمذي، وساق الخبر: " هذا حديث غريب، هكذا قال محمد بن إسماعيل: " عن عبيد الله بن بسر "، ولا يعرف " عبيد الله بن بسر " إلا في هذا الحديث. وقد روى صفوان بن عمرو عن " عبد الله بن بسر " صاحب النبي ﷺ غير هذا الحديث، وعبد الله بن بسر له أخ قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخته قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة، أخو عبد الله بن بسر"
قلت: لم أجد ما قاله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير.
وأما أبو نعيم في الحلية فقال: " تفرد به صفوان، عن عبد الله بن بسر، وقيل: عبد الله بن بشر، وهو اليحصبي الحمصي، يكنى أبا سعيد، ورواه بقية بن الوليد، عن صفوان مثله. روى صفوان، عن عبد الله بن بسر المازني، وله صحبة، وعن عبد الله بن بشر، ولذلك اشتبه على بعض الناس، وهذا هو: عبد الله بن بسر ".
وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب، وساق ما قاله الترمذي: " وقال ابن أبي حاتم: عبيد الله بن بسر، ويقال: عبد الله، روى عن أبي أمامة، وعنه صفوان بن عمرو. وقال الطبراني عبد الله بن بسر اليحصبي، عن أبي أمامة، وروى له هذا الحديث، وحديثًا آخر من رواية بقية، عن صفوان، والله أعلم. وذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة: عبيد الله بن بسر، أخو عبد الله بسر، قاله السلماني ". والذي نقله الحافظ عن ابن أبي حاتم موجود في الجرح والتعديل ٢/٢/٣٠٨.
ولكن العجب أن الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري، لم يترجم لعبيد الله بن بسر في تاريخه الكبير ولا الصغير، مع ما نقله عنه الترمذي مما يوهم أنه في أحدهما. وإنما الذي فيه: " عبد الله بن بسر السلمي، ثم المازني، من أصحاب رسول الله ﷺ (الكبير ٣/١/١٤) ثم ذكر " عبد الله بن بسر " وليس المازني، الجبراني "، وهذا يروي عن عبد الله بن بسر المازني، الصحابي، وعن أبي أمامة الباهلي. (مترجم في التهذيب أيضًا).
ولكن الإشارة التي تكاد تكون صريحة إلى هذا الخبر في كتاب البخاري، فهي في ترجمة " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي " قال: " عن أبي أمامة رضي الله عنه عن ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، الشامي "، ولا أدري كيف هذا، لأن ابن أبي حاتم ترجم في الجرح والتعديل ٢/٢/٣٠٨ " عبيد الله بن بسر " رقم: ١٤٦٧، ثم يليه رقم: ١٤٦٨ فقال: " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي (روى عن... )، روى عنه يونس بن أبي إسحق، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول ".
وكذلك فعل الذهبي في ميزان الاعتدال ٢: ١٦٤، وقال: " عبيد الله بن بسر. حمصي، عن أبي أمامة، وعنه صفوان بن عمرو وحده، لا يعرف "، فيقال هو " عبد الله الصحابي، ويقال هو: " عبيد الله بن بسر الحبراني التابع، وهو أظهر "، ثم ذكر بعد " عبيد الله بن بشير البجلي "، وقال: " فيه جهالة، حدث عنه يونس بن أبي إسحق ليس إلا ".
فيكاد يكون واضحًا، أن الذي وقع في التاريخ الكبير (٣ / ١ / ٣٧٤، ٣٧٥)، إنما هو خلط بين ترجمتين مختلفتين، وأن ترجمة " عبيد الله بن بسر " قد سقط صدر منها من النسخة المطبوعة من التاريخ الكبير، وتداخل بعضها في ترجمة أخرى، ويرجح ذلك أن ابن أبي حاتم، الذي ذكر الترجمتين جميعًا، لم يتعرض لهذا في كتابه: " بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه "، ولو كان في أصل تاريخ البخاري مثل هذا، لما فات ابن أبي حاتم، فيكون ما نقله الترمذي عن البخاري من التاريخ الكبير، وسقط من المطبوع.
(٣) الأثران: ٢٠٦٣١، ٢٠٦٣٢ - " إبراهيم، أبو إسحق الطالقاني "، هو " إبراهيم بن إسحق بن عيسى الطالقاني البناني "، وربما قيل: " إبراهيم بن عيسى "، منسوبًا إلى جده، وهو مولى " بنانة "، ثقة، من شيوخ أحمد، سمع ابن المبارك، وبقية. و " الطالقان "، بسكون اللام، ويقال بفتحها، بلدة بخراسان. وهو مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٢٧٣، وابن أبي حاتم في موضعين ١/١/٨٦، ١١٩، وتاريخ بغداد ٦: ٢٤.
و" عبد الله بن المبارك "، أحد الأئمة الكبار، مضى مرارًا كثيرة.
و" صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة ثبت مأمون، مضى مرارًا منها: ٧٠٠٩، ١٢١٩٤، ١٢٨٠٧، ١٣١٠٨.
و" عبيد الله بن بسر "، مصغرًا هكذا هو هنا، وفي رواية أحمد في مسنده، وفي سنن الترمذي. و " عبد الله بن بسر " في المستدرك للحاكم، وحلية الأولياء لأبي نعيم. وفي ابن كثير نقلا عن المسند " عبيد الله بن بشر "، وهو تصحيف.
وهذا الخبر من طريق ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، رواه أحمد في مسنده عن علي بن إسحق، عن عبد الله بن المبارك (المسند ٥: ٢٦٥).
ورواه الترمذي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك (في باب ما جاء في صفة شراب أهل النار)
ورواه أبو نعيم في الحلية ٨: ١٨٢ من طرق: نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، ومعاذ بن أسد، عن ابن المبارك، ويحيي الحماني عنه، ومحمد بن مقاتل عنه، أربع طرق.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١ من طريق عبدان، وهو عبد الله بن عثمان بن جبلة، عن ابن المبارك، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وفي " عبيد الله بن بسر " مقال. قال الترمذي، وساق الخبر: " هذا حديث غريب، هكذا قال محمد بن إسماعيل: " عن عبيد الله بن بسر "، ولا يعرف " عبيد الله بن بسر " إلا في هذا الحديث. وقد روى صفوان بن عمرو عن " عبد الله بن بسر " صاحب النبي ﷺ غير هذا الحديث، وعبد الله بن بسر له أخ قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخته قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة، أخو عبد الله بن بسر"
قلت: لم أجد ما قاله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير.
وأما أبو نعيم في الحلية فقال: " تفرد به صفوان، عن عبد الله بن بسر، وقيل: عبد الله بن بشر، وهو اليحصبي الحمصي، يكنى أبا سعيد، ورواه بقية بن الوليد، عن صفوان مثله. روى صفوان، عن عبد الله بن بسر المازني، وله صحبة، وعن عبد الله بن بشر، ولذلك اشتبه على بعض الناس، وهذا هو: عبد الله بن بسر ".
وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب، وساق ما قاله الترمذي: " وقال ابن أبي حاتم: عبيد الله بن بسر، ويقال: عبد الله، روى عن أبي أمامة، وعنه صفوان بن عمرو. وقال الطبراني عبد الله بن بسر اليحصبي، عن أبي أمامة، وروى له هذا الحديث، وحديثًا آخر من رواية بقية، عن صفوان، والله أعلم. وذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة: عبيد الله بن بسر، أخو عبد الله بسر، قاله السلماني ". والذي نقله الحافظ عن ابن أبي حاتم موجود في الجرح والتعديل ٢/٢/٣٠٨.
ولكن العجب أن الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري، لم يترجم لعبيد الله بن بسر في تاريخه الكبير ولا الصغير، مع ما نقله عنه الترمذي مما يوهم أنه في أحدهما. وإنما الذي فيه: " عبد الله بن بسر السلمي، ثم المازني، من أصحاب رسول الله ﷺ (الكبير ٣/١/١٤) ثم ذكر " عبد الله بن بسر " وليس المازني، الجبراني "، وهذا يروي عن عبد الله بن بسر المازني، الصحابي، وعن أبي أمامة الباهلي. (مترجم في التهذيب أيضًا).
ولكن الإشارة التي تكاد تكون صريحة إلى هذا الخبر في كتاب البخاري، فهي في ترجمة " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي " قال: " عن أبي أمامة رضي الله عنه عن ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، الشامي "، ولا أدري كيف هذا، لأن ابن أبي حاتم ترجم في الجرح والتعديل ٢/٢/٣٠٨ " عبيد الله بن بسر " رقم: ١٤٦٧، ثم يليه رقم: ١٤٦٨ فقال: " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي (روى عن... )، روى عنه يونس بن أبي إسحق، سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول ".
وكذلك فعل الذهبي في ميزان الاعتدال ٢: ١٦٤، وقال: " عبيد الله بن بسر. حمصي، عن أبي أمامة، وعنه صفوان بن عمرو وحده، لا يعرف "، فيقال هو " عبد الله الصحابي، ويقال هو: " عبيد الله بن بسر الحبراني التابع، وهو أظهر "، ثم ذكر بعد " عبيد الله بن بشير البجلي "، وقال: " فيه جهالة، حدث عنه يونس بن أبي إسحق ليس إلا ".
فيكاد يكون واضحًا، أن الذي وقع في التاريخ الكبير (٣ / ١ / ٣٧٤، ٣٧٥)، إنما هو خلط بين ترجمتين مختلفتين، وأن ترجمة " عبيد الله بن بسر " قد سقط صدر منها من النسخة المطبوعة من التاريخ الكبير، وتداخل بعضها في ترجمة أخرى، ويرجح ذلك أن ابن أبي حاتم، الذي ذكر الترجمتين جميعًا، لم يتعرض لهذا في كتابه: " بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه "، ولو كان في أصل تاريخ البخاري مثل هذا، لما فات ابن أبي حاتم، فيكون ما نقله الترمذي عن البخاري من التاريخ الكبير، وسقط من المطبوع.
549
٢٠٦٣٣ - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا حيوة بن شريح الحمصيّ قال، حدثنا بقية، عن صفوان بن عمرو قال، حدثني عبيد الله بن بسر، عن أبي أمامه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله سواءً. (١)
* * *
وقوله: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت)، فإنه يقول: ويأتيه الموت من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، ومن كل موضع من أعضاء جسده = (وما هو بميت)، لأنه لا تخرج نفسه فيموت فيستريح، ولا يحيا لتعلُّق نفسه بالحناجر، فلا ترجع إلى مكانها، كما: -
٢٠٦٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: (يتجرعه ولا يكاد يسبغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت)، قال: تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة، فتنفعه الحياة.
٢٠٦٣٥ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا العوّام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي قوله: (ويأتيه الموت من كل مكان)، قال: من تحت كل شَعَرة في جسده.
* * *
(١) الأثر: ٢٠٦٣٣ - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني "، شيخ الطبري، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم: ١٢٥٢٣.
و" حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي " ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٥٣٧٨.
وهذا الخبر قد مرت الإشارة إليه في التعليق السالف، من طريق بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو.
550
وقوله: (ومن وَرائه عَذَابٌ غليظ)، يقول: ومن وراء ما هو فيه من العذاب = يعني أمامه وقدامه (١) = (عذاب غليظ). (٢)
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ العربية في رافعِ "مَثَلُ".
فقال بعض نحويي البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نقصّ عليكم مَثَلُ الذين كفروا، ثم أقبل يفسّر، كما قال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [سورة الرعد: ٣٥]، وهذا كثير. (٣)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما المثل للأعمال، ولكن العرب تقدّم الأسماء، لأنها أعرفُ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه. ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، كما قيل: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [سورة الزمر: ٦٠]، ومعنى الكلام: (٤) ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. قال: ولو خفض "الأعمال" جاز، كما قال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية [سورة البقرة: ٢١٧]، . وقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ)
(١) انظر تفسير " وراء " فيما سلف: ٥٤٦، ٤٧٥، تعليق: ١.
(٢) انظر تفسير " الغليظ " فيما سلف ٧: ٣٤١ / ١٤: ٣٦٠، ٥٧٦ / ١٥: ٣٦٦.
(٣) انظر ما سلف قريبًا: ٤٦٩ - ٤٧٢
(٤) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٨، وسيبويه ١: ٧٧.
552
[سورة الرعد: ٣٥]. قال: فـ"تجري"، هو في موضع الخبر، كأنه قال: أن تجري، وأن يكون كذا وكذا، فلو أدخل "أن" جاز. قال: ومنه قول الشاعر: (١)
ذَرِينِي إِنَّ أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعَا... وَمَا أَلْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا... (٢)
قال: فالحلمُ منصوبٌ ب "ألفيتُ" على التكرير، (٣) قال: ولو رفعه كان صوابًا. قال: وهذا مثلٌ ضربه الله لأعمال الكفّار فقال: مَثَلُ أعمال الذين كفروا يوم القيامة، التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمُون أنهم يريدون الله بها، مَثَلُ رمادٍ عصفت الريح عليه في يومِ ريح عاصفٍ، فنسفته وذهبت به، فكذلك
(١) هو عدي بن زيد بن العبادي، ونسبه سيبويه لرجل من بجيله أو خثعم.
(٢) سيبويه ١: ٧٧، ٧٨ / والخزانة ٢: ٣٦٨، ٣٦٩ / والعيني بهامش الخزانة ٤: ١٩٢ / وسيأتي في التفسير ٢٤: ١٥ (بولاق)، من أبيات عزيزة هذا أولها، يقول بعده:
ألاَ تِلْكَ الثَّعَالِبُ قَدْ تَعَاوَتْ عَلَيَّ وَحَالَفَتْ عُرْجًا ضِبَاعَا
لِتَاكُلَنِي، فَمَرَّ لَهُنَّ لَحْمِي وأَذْرَقَ مِنْ حِذَارِي أَوْ أَتَاعَا
فَإِنْ لَمْ تَنْدَمُوا فَثَكِلْتُ عَمْرًا وَهَاجَرْتُ المُرَوَّقَ والسَّماعَا
وَلاَ وَضَعَتْ إِلَيَّ عَلَى فِرَاشٍ حَصَانٌ يَوْمَ خَلْوَتِهَا قِنَاعَا
وَلاَ مَلَكَتْ يَدَايَ عِنَانَ طِرْفٍ ولا أَبْصَرْتُ من شَمْسٍ شُعَاعَا
وخُطَّةِ مَاجِدٍ كَلَّفْتُ نَفْسِي إِذَا ضَاقُوا رَحُبْتُ بِهَا ذِرَاعَا
والبيتان الأول والثاني من هذه الأبيات، في المعاني الكبير ٨٦٧، واللسان (مرد) (ذرق) (فرق). ولم أجد لهذه الأبيات خبرًا بعد، وأتوهمها في أقوام تحالفوا على أذاه، جعل بعضهم ثعالب لمكرها وخداعها، وبعضها ضباعًا، لدناءتها وموقها، والضباع موصوفة بالحمق (الحيوان ٧: ٣٨) وقول صاحب الخزانة: " أراد بالثعالب، الذين لاموه على جوده حسدًا ولؤمًا " قول مرغوب عنه. و " الضباع " عرج، فيها خمع. و " تعاوت " تجمعت، كما تتعاوى الذئاب فتجتمع. " ومر اللحم "، و " أمر، كان مرًا لا يستساغ. و " أذرق، أي جعلها تذرق، يقال: " ذرق الطائر، إذا خذق بسلحه، أي قذف، وهو هنا مستعار. إشارة إلى أن ذا بطونهم قد أساله الخوف حتى صار كسلح الطير مائعًا. و " أتاع " حملهم على القيء يعني من الخوف أيضًا " تاع القيء يتيع " خرج. ويرى " فأفرق " وهو مثل " أذرق " في المعنى هنا. و " عمرو " المذكور في شعر عدي، لا أكاد أشك أنه أخوه " عمرو بن زيد "، (الأغاني ٢: ١٠٥) قال: " كان لعدَي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار، ولقبه أبي، والآخر اسمه عمرو، ولقبه سمي ". و " المروق "، الخمر، لأنها تصفى بالراووق. و " السماع "، الغناء، يدعو على نفسه أن ينخلع من لذات الدنيا إذا لم يندموا على مغبة كيدهم له.
(٣) " التكرير "، هو البدل عند البصريين، ويسميه الكوفيون أيضًا " التبيين "، انظر ما سلف ٥٢٩ تعليق: ٢.
553
أعمال أهل الكفر به يوم القيامة، لا يجدون منها شيئًا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصًا، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام.
يقول الله عز وجل: (ذلك هو الضلال البعيد)، يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، التي يشركون فيها مع الله شركاء، هي أعمالٌ عُملت على غير هُدًى واستقامة، بل على جَوْر عن الهُدَى بعيد، وأخذٍ على غير استقامة شديد.
* * *
وقيل: (في يوم عاصف)، فوصف بالعُصوف اليومَ، (١) وهو من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه، كما يقال: "يوم بارد، ويوم حارّ"، لأن البردَ والحرارة يكونان فيه، (٢) وكما قال الشاعر: (٣)
* يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْمًا شَمْسًا * (٤)
فوصف اليومين بالغيمين، وإنما يكون الغيم فيهما. وقد يجوز أن يكون أريد به: في يوم عاصف الريح، فحذفت "الريح"، لأنها قد ذكرت قبل ذلك، فيكون ذلك نظير قول الشاعر: (٥)
* إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ * (٦)
يريد: كاسفُ الشمس. وقيل: هو من نعت "الريح" خاصة، غير أنه
(١) في المطبوعة حذف " اليوم "، اجتراء وتحكمًا.
(٢) انظر تفسير " عاصف " فيما سلف ١٥: ٥١.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) سيأتي في التفسير ٢٤: ٦٧ (بولاق)، وبعده هناك: * نَجْمَيْنِ بِالسَّعْدِ ونَجْمًا نَحْسَا *
(٥) هو مسكين الدارمي.
(٦) من أبيات خرجتها فيما سلف ٧: ٥٢٠، تعليق: ٣. وانظر الخزانة ٢: ٣٢٣ وصدر البيت: * وتَضْحَكُ عِرْفَانَ الدُّرُوعِ جُلُودُنَا *
554
لما جاء بعد "اليوم" أُتبع إعرابَهُ، وذلك أن العرب تتبع الخفضَ الخفضَ في النعوت، كما قال الشاعر: (١)
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلا نَدَبُ (٢)
فخفض "غير" إتباعًا لإعراب "الوجه"، وإنما هي من نعت "السنَّة"، والمعنى: سُنَّةَ وَجْه غَيْرَ مُقْرفة، وكما قالوا: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٣٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: (كرماد اشتدت به الريح)، قال: حملته الريح في يوم عاصف.
٢٠٦٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف)، يقول: الذين كفروا بربهم وعبدوا غيرَه، فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم، كما لا يُقْدَر على الرماد إذا أُرْسِل في يوم عاصف. (٣)
* * *
(١) هو ذو الرمة.
(٢) ديوانه: ٤، من عقيلته المحجبة بالحسن. وهذا البيت من أبيات في صفة صاحبته مي.
= و " السنة "، ما أقبل عليك من الوجه وصفحة الحد مصقولا يلوح. و " غير مقرنة "، لا يشوب معارفها ولا لونها شيء يهجنها، وذلك من عتقها. و " الندب "، أثر الجرح إذا لم يرتفع.
(٣) في المطبوعة: " إذا أرسل عليه الريح في يوم عاصف "، زاد ما لا معنى له.
555
وقوله: (ذلك هو الضَّلال البعيد)، أي الخطأ البينُ، البعيدُ عن طريق الحق. (١)
* * *
(١) من أول: " وقوله: ذلك هو... "، ليس في المخطوطة، ولست أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة، فتركته على حالة، حتى أقطع بأنه ليس من كلام أبي جعفر.
= وانظر تفسير " الضلال "، و " البعيد "، فيما سلف من فهارس اللغة.
556
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر، يا محمد، بعين قلبك، (١) فتعلم أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق منفردًا بإنشائها بغير ظهير ولا مُعين = (إن يشأ يذهبكم ويَأت بخلق جديد)، يقول: إن الذي تفرد بخلق ذلك وإنشائه من غير معين ولا شريك، إن هو شاء أن يُذْهبكم فيفنيكم، أذهبكم وأفناكم، (٢) ويأتِ بخلق آخر سواكم مكانكم، فيجدِّد خلقهم = (وما ذلك على الله بعزيز)، يقول: وما إذهابكم وإفناؤكم وإنشاء خلقٍ آخر سواكم مكانَكُم، على الله بممتنع ولا متعذّر، لأنه القادر على ما يشاء. (٣)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (ألم تر أن الله خلق).
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (خَلَقَ) على "فعَل".
* * *
(١) انظر تفسير " الرؤية " فيما سلف ٥: ٤٨٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الإذهاب " فيما سلف ١٤: ١٦١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف: ٥١١، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
وقرأته عامة قرأة أهل الكوفة: "خَالِقُ"، على "فاعل".
* * *
وهما قراءتان مستفيضتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وبرزوا لله جميعًا)، وظهر هؤلاء الذين كفروا به يوم القيامة من قبورهم، فصاروا بالبَراز من الأرض (١) = (جميعًا)، يعني كلهم (٢) = (فقال الضعفاء للذين استكبروا)، يقول: فقال التُّبَّاع منهم للمتبوعين، وهم الذين كانوا يستكبرون في الدنيا عن إخلاص العبادة لله واتباع الرسل الذين أرسلوا إليهم (٣) = (إنَّا كنا لكم تَبَعًا)، في الدنيا.
* * *
و"التبع" جمع "تابع"، كما الغَيَب جمع "غائب".
* * *
وإنما عنوا بقولهم: (إنا كنا لكم تبعًا)، أنهم كانوا أتباعهم في الدنيا يأتمرون
(١) انظر تفسير " برز " فيما سلف ٥: ٣٥٤ / ٧: ٣٢٤ / ٨: ٥٦٢.
(٢) انظر تفسير " الجميع " فيما سلف ١٥: ٢١٢.
(٣) انظر تفسير " الضعفاء " فيما سلف ١٤: ٤١٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " الاستكبار " فيما سلف ١٥: ١٥٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
557
لما يأمرونهم به من عبادة الأوثان والكفر بالله، وينتهون عما نهوهم عنه من اتّباع رسل الله = (فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء)، يعنون: فهل أنتم دافعون عنَّا اليوم من عذاب الله من شيء. (١)
* * *
وكان ابن جريج يقول نحو ذلك:
٢٠٦٣٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (وقال الضعفاء)، قال: الأتباع = (للذين استكبروا)، قال: للقادة.
* * *
قوله: (لو هدانا الله لهديناكم)، يقول عز ذكره: قالت القادةُ على الكفر بالله لتُبَّاعها: (لو هدانا الله)، يعنون: لو بَيَّن الله لنا شيئًا ندفع به عَذَابَه عنا اليوم = (لهديناكم)، لبيَّنا ذلك لكم حتى تدفعوا العذابَ عن أنفسكم، ولكنا قد جزعنا مِن العذاب، فلم ينفعنا جزعُنا منه وصَبْرُنا عليه (٢) = (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)، يعنون: ما لهم من مَراغٍ يرُوغون عنه. (٣)
* * *
يقال منه: "حاص عن كذا"، إذا راغ عنه، "يَحِيصُ حَيْصًا، وحُيُوصًا وحَيَصَانًا. (٤)
* * *
٢٠٦٣٩ - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
(١) انظر تفسير " الإغناء " فيما سلف ١٦٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدي).
(٣) في المطبوعة: " مزاغ "، و " يزوغون "، و " زاغ "، كل ذلك بالزاي، والذي في المخطوطة صواب محض.
(٤) انظر تفسير " الحيص " فيما سلف ٩: ٢٢٦.
558
الحكم، عن عُمَر بن أبي ليلى، أحد بني عامر، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني، أو ذُكِر لي أن أهل النار قال بعضهم لبعضٍ: يا هؤلاء، إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون، فهلمَّ فلنصبر، فلعل الصَّبر ينفعنا، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا. قال: فيُجْمعون رأيهم على الصَّبر. قال، فصبروا، فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا: (سواءٌ علينا أجزِعْنَا أم صبرنَا ما لنا من محيص)، أي من منجًي. (١)
٢٠٦٤٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)، قال: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا، فإنما أدركَ أهل الجنة الجنَّةَ ببكائهم وتضرُّعهم إلى الله، فتعالوا نبكي ونتضرع إلى الله! قال: فبكوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا:
(١) الأثر: ٢٠٦٣٩ - " الحكم "، هو " الحكم المكي "، شيخ لعبد الله بن المبارك توقف الإمام البخاري في أمره. وقال ابن أبي حاتم: هو مجهول. قال البخاري: " الحكم المكي، عن عمر بن أبي ليلى، سمع منه ابن المبارك ومحمد بن مقاتل. وروى مروان، يعني ابن معاوية، عن الحكم بن أبي خالد، مولى بني فزارة، عن عمر بن أبي ليلى. قال الحسن بن علي، وعن الحكم بن أبي خالد، عن الحسن، عن جابر، في الجنة، فلا أدري هذا من ذاك ". وكأن هذا إشارة إلى هذا الخبر نفسه.
وذكر في ترجمة " الحكم بن ظهير الفزاري ":
" حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال حدثنا مروان، عن الحكم بن أبي خالد، مولى بني فزارة، عن عمر بن أبي ليلى النميري "، وقال مثل ما قال في ترجمة " الحكم المكي ". ثم ترجم " الحكم بن أبي خالد "، ولم يذكر فيه شيئًا من هذا.
وأما ابن أبي حاتم فاقتصر على ترجمة " الحكم المكي "، ولم يذكر فيه " الحكم بن أبي خالد ".
وقال ابن حجر في التهذيب: " قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: كان مروان بن معاوية يغير الأسماء، يعمي على الناس، يقول: حدثنا الحكم بن أبي خالد، وإنما هو الحكم بن ظهير ".
وانظر هذا الذي ذكرت في الكبير للبخاري ١/٢/٣٣٦، ٣٣٩، ٣٤٢، وابن أبي حاتم ١/٢/١٣١، وميزان الاعتدال ١: ٢٧٣، ولسان الميزان ٢: ٣٤١، وتهذيب التهذيب.
و" عمر بن أبي ليلي "، قال البخاري في الكبير ٣/٢/١٩٠: " روى عنه الحكم المكي، وقال بعضهم: " عمر بن أبي ليلى، أخو بني عامر، سمع محمد بن كعب، قوله ". وزاد البخارى في ترجمة " الحكم بن ظهير " في نسبته " النميري "، كما سلف قريبًا. وقال مثل ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣/١/١٣١، وزاد عن أبيه فقال: " سمعته يقول: هو مجهول "، وفي ميزان الاعتدال ٢: ٢٦٨ قال: " قلت حدث عنه ابن أبي فديك والواقدي "، وزاد ابن حجر في لسان الميزان ٤: ٢٢٤ قال: " وذكره ابن حبان في الثقات ".
وكان في المطبوعة: " عمرو بن أبي ليلى "، غير ما هو ثابت في المخطوطة على الصواب.
و" محمد بن كعب القرظي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة لا تعد.
وهذا الخبر تالف، لما علمت من أمر " الحكم المكي " وجهالته، فإن كان هو " الحكم بن ظهير الفزاري "، فهو متروك كما سلف مرارًا كثيرة.
559
تعالوا، فإنَّما أدرك أهل الجنة الجنّةَ بالصبر، (١) تعالوا نصبر! فصبروا صبرًا لم يُرَ مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال إبليس، (٢) (لما قُضِي الأمر)، يعني لما أدخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ، واستقرّ بكل فريق منهم قرارهم، (٣) أن الله وعدكم، أيها الأتباعُ، النارَ، ووعدتكم النُّصْرة، فأخلفتكم وعدي، ووفى الله لكم بوعده = (وما كان لي عليكم من سلطان)، يقول: وما كان لي عليكم، فيما وعدتكم من النصرة، من حجة تثبت لي عليكم بصدق قولي (٤) = (إلا أنْ دعوتكم). وهذا من الاستثناء المنقطع عن الأول، كما تقول: "ما ضربْتُه إلا أنه أحمق"، ومعناه: ولكن (دعوتكم فاستجبتم لي). يقول: إلا أن دعوتكم
(١) تلعب الناشر بالكلام فجعله: " فما أدرك أهل الجنة الجنة إلا بالصبر "، فجعل " فإنما " " فما " ثم زاد " إلا "! فاعجب لما فعل.
(٢) انظر تفسير " الشيطان " فيما سلف ١: ١١١، ١١٢، ٢٩٦/ ١٢: ٥١.
(٣) انظر تفسير " القضا " فيما سلف: ١٠٧، ، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف: ٥٣٧، تعليق: ٧، والمراجع هناك.
560
إلى طاعتي ومعصية الله، فاستجبتم لدعائي (١) = (فلا تلوموني)، على إجابتكم إياي (ولوموا أنفسكم)، عليها = (ما أنا بمُصْرِخِكم)، يقول: ما أنا بمُغِيثكم = (وما أنتم بمصرخِيَّ)، ولا أنتم بمُغيثيَّ من عذاب الله فمُنْجِيَّ منه = (إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، يقول: إني جَحدْت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم = (من قبل) في الدنيا = (إن الظالمين لهم عذاب أليم)، يقول: إن الكافرين بالله لهم عذاب = "أليم"، من الله موجِع. (٢)
* * *
يقال: " أصْرَختُ الرجلَ"، إذا أغثته "إصراخًا"، و "قد صَرَخ الصَّارخ، يصرُخ، ويَصْرَخ، قليلة، وهو الصَّرِيخ والصُّراخ". (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٤١ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: (ما أنا بمُصْرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، قال: خطيبان يقومان يومَ القيامة، إبليسُ وعيسى ابن مريم. فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول. وأما عيسى عليه السلام فيقول: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، [سورة المائدة: ١١٧].
(١) انظر تفسير الاستجابة " فيما سلف: ٤١٦. تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الإشراك " و " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (شرك) (ألم).
(٣) " يَصْرَخُ " بفتح الراء، وكذلك هي مضبوطة في المخطوطة، ومضارع " صرخ " بفتح الراء لم أجد من نص عليه في المعاجم، فهذا موضع زيادة.
561
٢٠٦٤٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: يقوم خطيبان يوم القيامة، أحدهما عيسى، والآخر إبليس. فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول: (إن الله وعدكم وعد الحق)، فتلا داود حتى بلغ: (بما أشركتمون من قبل)، فلا أدري أتمَّ الآية أم لا؟ وأما عيسى عليه السلام فيقال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فتلا حتى بلغ: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة المائدة: ١١٦ - ١١٨].
٢٠٦٤٣ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر قال، يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس، يقول الله عز وجل: (يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إلى قوله (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، [سورة المائدة: ١١٦ - ١١٩]. قال: ويقوم إبليس فيقول: (وما كان لِيَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ)، ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمُغيثيَّ.
٢٠٦٤٤ - حدثنا الحسين قال، حدثنا سعيد بن منصور قال، حدثني خالد، عن داود، عن الشعبي، في قوله: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي)، قال: خطيبان يقومان يوم القيامة، فأما إبليس فيقول هذا، وأما عيسى فيقول: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ).
٢٠٦٤٥ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن رشدين بن سعد قال، أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الحديث، قال: يقول عيسى: ذلكم النبيُّ الأميّ. فيأتونني، فيأذن الله لي أن أقوم، فيثور من مجلسي من أطيب ريح شَمَّها أحدٌ، حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل
562
لي نُورًا إلى نور، من شَعَر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكافرون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنكَ أنت أضللتنا. فيقوم، فيثورُ من مجلسه أنتنُ ريح شَمَّها أحدٌ، ثم يعظم لجهنّم، (١) ويقول عند ذلك: (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدكم فأخلفتكم)، الآية. (٢)
٢٠٦٤٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، في قوله: (وما كان لي عليكم من سلطانٍ)، قال: إذا كان يوم القيامة، قام إبليس خطيبًا على منبر من نار، فقال: (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)، إلى قوله: (وما أنتم بمصرخيّ)، قال: بناصريَّ = (إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، قال: بطاعتكم إياي في الدنيا.
٢٠٦٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك عمن ذكره قال، سمعت محمد بن كعب القرظي، قال في قوله: (وقال الشيطان لما قُضِى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق)، قال: قام إبليس يخطبهُم فقال: (إن الله وعدكم وعد الحق)، إلى قوله: (ما أنا بمصرخكم)، يقول: بمغنٍ عنكم شيئًا
(١) في المطبوعة " يعظم نحيبهم "، غير ما اتفقت عليه المخطوطة، والدر المنثور، وابن كثير. وهو ما أثبت، وأنا في شك من الكلمة، وظني أنها " يُقَطِّمُ لجهنَّم "، من قولهم " قَطَّم الشارب " إذا ذاق الشراب فكرهه، وزوى وجهه، وقطب.
(٢) الأثر: ٢٠٦٤٥ - " رشدين بن سعد المصري "، رجل صالح، أدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، فليس يبالي عمن روى، وهو ضعيف متروك، عنده معاضيل ومناكير، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٧٧٢٩.
و" عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني الإفريقي "، رجل صالح، ولكنه منكر الحديث، وإن وثقه بعضهم، قال أبو الحسن بن القطان. كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس، ومن الناس من يوثقه، ويربأ به عن حضيض رد الرواية، والحق فيه أنه ضعيف، لكثرة روايته المنكرات، وهو أمر يعتري الصالحين "، مضى أيضًا مرارًا آخرها رقم: ١٤٣٣٧.
و" دخين الحجري "، هو " دخين بن عامر الحجري "، " أبو ليلي المصري "، روى عن عقبة بن عامر، وعنه عبد الرحمن بن زياد، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢٣٤، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٤٢.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لا يقوم. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٤، وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر وقال: أخرجوه بسند ضعيف، ونقله عن ابن أبي حاتم، ابن كثير في تفسيره ٤: ٥٥٧.
563
= (وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، قال: فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم، قالا فنودوا: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، الآية [سورة غافر: ١٠].
٢٠٦٤٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سَعيد، عن قتادة، قوله: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي)، ما أنا بمغيثكم، وما أنتم بمغيثي= قوله: (إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، يقول: عصيت الله قبلكم.
٢٠٦٤٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل)، قال: هذا قولُ إبليس يوم القيامة، يقول: ما أنتم بنافعيّ وما أنا بنافعكم = (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) قال: شركته، عبادته.
٢٠٦٥٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى =وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال: حدثنا ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (بمصرخيّ)، قال: بمغيثيّ.
٢٠٦٥١ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٥٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيَّ.
564
٢٠٦٥٥ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال: خطيبُ السَّوْء الصادق إبليس، (١) أفرأيتم صادقًا لم ينفعه صِدقهُ: (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان)، أقهركم به = (إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)، قال: أطعتموني = (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)، حين أطعتموني = (ما أنا بمصرخكم)، ما أنا بناصركم ولا مغيثكم = (وما أنتم بمصرخيّ)، وما أنتم بناصريّ ولا مغيثيّ لما بي = (إني كفرت بما أشركتمون من قبل إنّ الظالمين لهم عذاب أليم).
٢٠٦٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن الحكم، عن عُمَر بن أبي ليلى أحدِ بني عامر قال: سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول: (وقال الشيطان لما قضي الأمر)، قال: قام أبليس عند ذلك، يعني حين قال أهل جهنم: (سواءٌ علينا أجزِعنا أم صبرنا مالنا من مَحِيص)، فخطبهم، فقال: (إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم)، إلى قوله: (ما أنا بمصرخكم)، يقول: بمُغْنٍ عنكم شيئًا = (وما أنتم بمصرخيَّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل). قال: فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم، قال: فنودوا: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ)، الآية [سورة غافر: ١٠]. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: " إبليس الصادق "، أخر وقدم بلا داع مفهوم.
(٢) الأثر: ٢٠٦٥٦ - " الحكم المكي "، و " عمر بن أبي ليلى "، انظر ما سلف تعليقًا على الرقم: ٢٠٦٣٩، وهو تتمة ذاك الخبر. وكان في المطبوعة هنا أيضًا " عمرو بن أبي ليلي ".
565
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) ﴾
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله، فأقرُّوا بوحدانية الله وبرسالة رُسله. وأنّ ما جاءت به من عند الله حق = (وعملوا الصالحات)، يقول: وعملوا بطاعة الله. فانتهوا إلى أمر الله ونهيه = (جنَّات تجري من تحتها الأنهار)، بساتين تجري من تحتها الأنهار = (خالدين فيها)، يقول ماكثين فيها أبدًا (١) = (بإذن ربهم)، يقول: أُدخلوها بأمر الله لهم بالدخول= (تحيتهم فيها سلامٌ)، (٢) وذلك إن شاء الله كما:-
٢٠٦٥٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قوله: (تحيتهم فيها سلامٌ)، قال: الملائكة يسلِّمون عليهم في الجنة.
* * *
وقوله: (ألم تر كيف ضربَ الله مَثلا كلمة طيبه كشجرة طيبة)، يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر، يا محمد، بعين قلبك، (٣)
(١) قوله: " يقول: ماكثين فيها أبدًا "، ساقط من المطبوعة.
(٢) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة (أمن)، (صلح)، (جنن)، (نهر)، (خلد)، (أذن).
= وانظر تفسير " التحية " فيما سلف ٨: ٥٨٦.
(٣) انظر تفسير " الرؤية " فيما سلف: ٥٥٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
566
فتعلم كيف مثَّل الله مثَلا وشبَّه شبَهًا (١) = (كلمة طيبة)، ويعني بالطيبة: الإيمانَ به جل ثناؤه، (٢) كشجرة طَيّبة الثمرة، وترك ذكر "الثمرة" استغناء بمعرفة السَّامعين عن ذكرها بذكر "الشَّجرة". وقوله: (أصلها ثابت وفرعها في السماء)، يقول عز ذكره: أصلُ هذه الشجرة ثابتٌ في الأرض = "وفرعها"، وهو أعلاها في "السماء"، يقول: مرتفع علُوًّا نحوَ السماء. وقوله: (تؤتي أكُلَهَا كل حين بإذن ربّها)، يقول: تطعم ما يؤكل منها من ثمرها كلّ حين بأمرِ ربها (٣) = (ويضرب الله الأمثال للناس)، يقول: ويمثِّل الله الأمثال للناس، ويشبّه لهم الأشباهَ (٤) = (لعلهم يتذكرون)، يقول: ليتذكروا حُجَّة الله عليهم، فيعتبروا بها ويتعظوا، فينزجروا عما هم عليه من الكفر به إلى الإيمان. (٥)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بالكلمة الطيبة.
فقال بعضهم: عُني بها إيمانُ المؤمن.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (كلمة طيبة)، شهادةُ أن لا إله إلا الله = (كشجرة طيبة)، وهو المؤمن = (أصلها ثابتٌ)، يقول: لا إله إلا الله، ثابتٌ في قلب المؤمن = (وفرعها في السماء)، يقول: يُرْفَع بها عملُ المؤمن إلى السماء.
(١) انظر تفسير " ضرب مثلا " فيما سلف ١: ٤٠٣.
(٢) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف ١٣: ١٦٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الأكل " فيما سلف: ٤٧٢، تعليق ٣، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإذن " فيما سلف من فهارس اللغة (أذن).
(٤) انظر تفسير "ضرب مثلا" فيما سلف ١: ٤٠٣.
(٥) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر).
= وانظر القول في " لعل " في مباحث العربية.
567
٢٠٦٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (كلمة طيبة)، قال: هذا مَثَلُ الإيمان، فالإيمان الشَّجرة الطيبة، وأصله الثابت الذي لا يزول الإخلاصُ لله، وفرعُه في السماء، فَرْعُه خشْية الله.
٢٠٦٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمةً طيبة كشجرة طيبة)، قال: كنخلة = قال ابن جريج، وقال آخرون: "الكلمة الطيبة"، أصلها ثابت، هي ذات أصل في القلب (١) = (وفرعها في السماء)، تَعْرُجُ فلا تُحْجَب حتى تنتهي إلى الله.
* * *
وقال آخرون: بل عُنِي بها المؤمن نفسُه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٧١ - حدثني محمد بن سعد قال، ثني أبي قال، ثني عمي قال، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، ، يعني بالشجرة الطيبة المؤمنَ، ويعني بالأصل الثابت في الأرض، وبالفرع في السماء، يكون المؤمن يعمَلُ في الأرض، ويتكلَّم، فيبلغ عمله وقولُه السَّماءَ وهو في الأرض.
٢٠٦٧٢ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة)، قال: ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرُج منه كلام طيبٌ وعمل صالح يَصْعَد إليه.
٢٠٦٧٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن
(١) في المطبوعة: " في ذات أصل "، وهو خطأ بلا ريب.
568
أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: "أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي الأرْضِ"، وكذلك كان يقرؤها. قال: ذلك المؤمنُ ضُرِبَ مثله. قال: الإخلاصُ لله وحده وعبادته لا شريك له، قال: (أصلها ثابت)، قال: أصل عمله ثابتٌ في الأرض = (وفرعها في السماء)، قال: ذكرُه في السماء.
* * *
واختلفوا في هذه "الشجرة" التي جعلت للكلمة الطيبة مثلا.
فقال بعضهم: هي النخلة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٧٤ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة قال: سمعت أنس بن مالك في هذا الحرف: (كشجرة طيبة)، قال: هي النخلة.
٢٠٦٧٥ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا أبو قطن قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس، مثله.
٢٠٦٧٦ - حدثنا الحسن قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة قال، سمعت أنس بن مالك يقول: (كلمة طيبة كشجرة طيبة)، قال: النخل. (١)
٢٠٦٧٧ - حدثني يعقوب والحسن بن محمد قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعيب قال، قال خرجت مع أبي العاليةِ نريد أنس بن مالك، قال: فأتيناه، فدعا لنا بقِنْوٍ عليه رُطَبٌ، (٢) فقال: كلوا من هذه الشجرةِ التي قال الله عز وجل: (ضربَ الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابث
(١) الآثار: ٢٠٦٧٤ - ٢٠٦٧٦ - هذا خبر صحيح الإسناد، من طرقه الثلاث، موقوفًا على أنس. وانظر التعليق على الآثار التالية.
(٢) " القنو "، بكسر فسكون، وجمعه " أقناء " و " قنوان " بكسر فسكون، وهو العذق عذق النخلة، بما فيه من الرطب، وهو " الكباسة "، بكسر الكاف.
569
وفرعها في السماء)، وقال الحسن في حديثه: " بقِنَاع". (١)
٢٠٦٧٨ - حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا شعيب بن الحبحاب، عن أنس: أن رسول الله ﷺ أُتِي بقِناع بُسْر، (٢) فقال: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال: هي النخلة.
٢٠٦٧٩ - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا أبي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس: أنَّ رسول الله ﷺ أتِى بقِناع فيه بُسْر، فقال: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال: "هي النخلة. قال شعيب، فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كانُوا يقولون.
٢٠٦٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن شُعيب بن الحَبْحاب قال: كنا عند أنس، فأُتينا بطَبَق، أو قِنْع، عليه رُطب، فقال: كل يا أبا العالية، فإن هذا من الشَّجرة التي ذكر الله جلّ وعزّ في كتابه: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلُها ثابت).
٢٠٦٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا مهدي بن ميمون، عن شعيب بن الحبحاب قال، كان أبو العالية يأتيني، فأتاني يومًا في منزلي بعد ما صلَّيت الفجر، فانطلقتُ معه إلى أنس بن مالك، فدخلنا معه إلى أنس بن مالك، فجيءَ بطبق عليه رُطَب فقال أنس لأبي العالية: كل، يا أبا العالية، فإن هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٍ أَصْلُهَا)، قال: هكذا قرأها يومئذ أنس. (٣)
(١) " القناع "، بكسر القاف، و " القنع "، بكسر فسكون، هو الطبق الذي يؤكل عليه الطعام، أو الذي تؤكل فيه الفاكهة، ويقال هو للرطب خاصة. و " البسر ". بضم فسكون، التمر قبل أن يرطب، وهو ما لم يلون ولم ينضج، فإذا نضج فقد أرطب، فهو رطب.
(٢) " القناع "، بكسر القاف، و " القنع "، بكسر فسكون، هو الطبق الذي يؤكل عليه الطعام، أو الذي تؤكل فيه الفاكهة، ويقال هو للرطب خاصة. و " البسر ". بضم فسكون، التمر قبل أن يرطب، وهو ما لم يلون ولم ينضج، فإذا نضج فقد أرطب، فهو رطب.
(٣) الآثار: ٢٠٦٧٧ - ٢٠٦٨١ - حديث شعيب بن الحبحاب، عن أنس، مروي هنا من خمس طرق: من طريقين مرفوعًا، من رواية حماد بن سلمة، عن شعيب، (٢٠٦٧٨، ٢٠٦٧٩)، ثم من رواية حماد عن شعيب أيضًا موقوفًا، (٢٠٦٨٠)، ثم من طريقين موقوفًا، من رواية ابن علية، عن شعيب، ومهدي بن ميمون عن شعيب. (٢٠٦٧٧، ٢٠٦٨١).
فالمرفوع، أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٥٢، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، وأخرجه الترمذي في تفسير هذه السورة. مطولا، عن طريق أبي الوليد، عن حماد بن سلمة، عن شعيب، ثم قال: " حدثنا قتيبة، حدثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب، عن أبيه، عن أنس بن مالك نحوه بمعناه، ولم يرفعه، ولم يذكر قول أبي العالية (٢٠٦٧٩). وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة.. وروى غير واحد مثل هذا موقوفًا. ولا نعلم أحدًا رفعه غير حماد بن سلمة. ورواه معمر، وحماد بن زيد، وغير واحد، ولم يرفعوه. حدثنا أحمد بن عبدة الضبي. حدثنا حماد بن زيد، وعن شعيب بن الحبحاب. عن أنس بن مالك. نحو حديث عبد الله بن أبي بكر بن شعيب بن الحبحاب، ولم يرفعه ".
وخرج المرفوع السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٦، ، وزاد نسبته إلى النسائي، والبزار، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وذكره. ابن كثير في تفسيره ٤: ٥٦١.
570
٢٠٦٨٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله، مثله. (١)
٢٠٦٨٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار بن القاسم، عن جامع بن أبي راشد، عن مُرَّة بن شراحيل الهمداني، عن مسروق: (كشجرة طيبة)، قال: النخلة.
٢٠٦٨٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = ح وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن [قال، حدثنا ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كشجرة طيبة)، قال: كنخلة.
٢٠٦٨٥ - حدثنا الحسن] (٢) قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء = ح وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
(١) الأثر: ٢٠٦٨٢ - " طلق "، هو " طلق بن غنام بن طلق النخعي "، سلف برقم: ٢٠٠٠٠، روى عنه أبو كريب.
و" شريك "، هو " شريك بن عبد الله النخعي " القاضي، روى عنه طلق، مضى مرارًا كثيرة.
وأمام هذا الخبر علامة في المخطوطة هكذا ".. " للدلالة على الشك، وصدق فإنه لم يمض ذكر خبر عبد الله بن مسعود قبل ذلك، فيقول: " مثله.. وقد نقله ابن كثير في تفسيره ٤: ٥٥٩، فقال: هكذا رواه السدي، عن مرة، عن ابن مسعود قال: " هي النخلة "، وكذلك السيوطي في الدر المنثور ٤: ٧٦، فأخشى أن يكون سقط قبل هذا الخبر خبر فيه نص كلام ابن مسعود
(٢) ما بين القوسين، من منتصف الخبر السالف، إلى هذا الموضع، ساقط من المطبوعة.
571
٢٠٦٨٦ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
٢٠٦٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا مُعَلَّى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا حصين، عن عكرمة في قوله: (كشجرة طيبة) قال: هي النخلة، لا تزالُ فيها منفعةٌ.
٢٠٦٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (كشجرة طيبة)، قال: ضرب الله مثل المؤمن كمثل النخلة = (تؤتي أكلها كل حين).
٢٠٦٨٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)، كنا نُحَدَّث أنها النخلة.
٢٠٦٩٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كشجرة طيبة)، قال: يزعمون أنها النخلة.
٢٠٦٩١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (تؤتى أكلها كل حين)، قال: هي النخلة.
٢٠٦٩٢ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا محمد بن عبيد قال، حدثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وفرعها في السماء)، قال: النخل. (١)
٢٠٦٩٣ - حدثنا الحسن (٢) قال، حدثنا سعيد بن منصور قال، حدثنا خالد، عن الشيباني، عن عكرمة: (تؤتي أكلها كل حين)، قال: هي النخلة.
٢٠٦٩٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال شعيب بن الحبحاب، عن أنس بن مالك: "الشجرة الطيبة"، النخلة.
(١) في المطبوعة: " النخلة ".
(٢) في المطبوعة: " قال حدثنا الحسن "، زاد ما لا مكان له.
572
وقال آخرون: بل هي شجرة في الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٩٥ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا عفان قال، حدثنا أبو كدينة قال، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، في قول الله جلّ وعَزّ: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: هي شجرة في الجنة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك قولُ من قال: هي "النخلة"، لصحَّة الخبر عن رسول الله ﷺ بما:-
٢٠٦٩٦ - حدثنا به الحسن بن محمد قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، صحبتُ ابنَ عمر إلى المدينة، فلم أسمعه يُحدِّث عن رسول الله ﷺ إلا حديثًا واحدًا قال، كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بجُمَّار فقال: من الشَّجر شجرةٌ مَثَلُها مثلُ الرَّجُل المسلم. فأردت أن أقول " هي النخلة"، فإذا أنا أصغرُ القوم، فسكتُّ، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة]. (٢)
(١) الأثر: ٢٠٦٩٥ - " أبو كدينة "، " يحيى بن المهلب البجلي "، ثقة، ربما أخطأ، يعتبر به، سلفت ترجمته: ٤١٩٣، ٥٩٩٤، ٩٧٤٥.
و" قابوس بن أبي ظبيان الجنبي "، ضعيف، كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المراسيل، وأسند الموقوف، مضى برقم: ٩٧٤٥، ١٠٦٨٢، ١٦٦٧٩.
وأبوه " أبو ظبيان "، اسمه " حصين بن جندب الجنبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٩٧٤٥، ١٠٦٨٣، ١٦٦٧٩.
(٢) الأثر: ٢٠٦٩٦ - إسناده صحيح، رواه من هذه الطريق أحمد في مسنده رقم: ٤٥٩٩، ورواه أحمد أيضًا من طريق شريك، عن سلمة بن كهيل. عن مجاهد، مطولا ومختصرًا (٥٦٤٧، ٥٩٥٥) ورواه البخاري في صحيحة (الفتح ١: ١٥١)، ومسلم في صحيحة (١٧: ١٥٢) من ثلاث طر ق: من طريق أيوب، عن أبي الخليل الضبعي، عن مجاهد، ومن طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ومن طريق ابن نمير، عن أبيه، عن سيف، عن مجاهد.
وكان أمام الخبر في المخطوطة حرف (ط)، إشارة إلى ما فيه من النقص الذي أثبته عن مسند أحمد، ووضعته بين قوسين.
573
٢٠٦٩٧ - حدثنا الحسن قال، حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سليمان، عن يوسف بن سَرْج، عن رجل، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: هل تدرُون ما الشجرة الطيبة؟ قال ابن عمر: فأردت أنْ أقول "هي النخلة"، فمنعني مكان عُمَر، فقالُوا: الله ورسوله أعلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النَّخْلة. (١)
٢٠٦٩٨ - حدثنا الحسن، فال: حدثنا يحيى بن حماد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ يومًا لأصحابه: إن شجرةً من الشجر لا تَطرحُ ورقَها مثل المؤمن؟ قال: فوقع الناس في شجر البَدْو، ووقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. (٢)
٢٠٦٩٩ - حدثنا الحسن قال، حدثنا عاصم بن علي قال، حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي قال، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: إنّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورَقها، وهي مثل
(١) الأثر: ٢٠٦٩٧ - " سليمان "، هو " سليمان بن طرخان التيمي "، مضى مرارًا كثيرة. و " يوسف بن سرج "، بالجيم، نص على ذلك عبد الغني، في المؤتلف والمختلف: ٦٩، والذهبي في المشتبه: ٣٥٦، روى حديثًا مرسلا، روى عنه سليمان التيمي، مترجم في الكبير للبخاري ٤/٢/٣٧٣ وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢٣: وكأنهما أشارا إلى هذا الخبر.
وكان في المطبوعة هنا: " سرح " بالحاء، وكذلك في المخطوطة، وإن كانت تغفل أحيانًا بعض النقط.
(٢) الأثر: ٢٠٦٩٨ - " عبد العزيز "، هو " عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون "، أحد الأعلام، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير ٣/٢/١٢، وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٨٦.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده: ٦٠٥٢، من طريق عبد العزيز الماجشون، عن عبد الله ابن دينار، مطولا، ورواه من طريق مالك " عن عبد الله بن دينار، مطولا: ٥٢٧٤. ورواه البخاري في صحيحة من هذه الطريق (الفتح ١: ٢٠٣)، ورواه من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار (الفتح ١: ١٣٣، ١٣٤)، ومن طريق سليمان بن بلال عن عبد الله (الفتح ١: ١٣٦). ورواه مسلم في صحيحه (١٧: ١٥٣) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله.
وانظر التعليق على الخبر التالي.
574
المؤمن؛ فتحدثوني ما هي؟ فذكر نحوه. (١)
٢٠٧٠٠ - حدثنا الحسن قال، حدثنا علي قال، حدثنا يحيى بن سعد قال، حدثنا عبيد الله قال، حدثني نافع، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروني بشجرة كمثل الرجل المسلم، تُؤتي أكلها كل حين، لا يتحاتُّ ورقها؟ قال: فوقع في نفسي أنها النَّخلة، فكرهت أن أتكلم وثّمَّ أبو بكر وعمر، فلما لم يتكلموا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. (٢)
٢٠٧٠١ - حدثنا الحسن قال، حدثنا محمد بن الصباح قال، حدثنا إسماعيل، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٣)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الحين" الذي ذكر الله عز وجل في هذا الموضع فقال: (تؤتي أكلَها كلَّ حِين بإذن ربِّها).
فقال بعضهم: معناه: تؤتي أكلَها كلّ غَداةٍ وعَشِيَّة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٠٢ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا
(١) الأثر: ٢٠٦٩٩ - " عبد العزيز بن مسلم القسملي "، صالح الحديث ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ٣/٢/٢٨، وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٩٤، وهذه طريق أخرى للخبر السالف.
(٢) الأثر: ٢٠٧٠٠ - " يحيى بن سعيد بن فروخ "، القطان، الحافظ، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
و" عبيد الله "، هو " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب "، مضى مرارًا. وهذا حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه (الفتح ١: ٢٨٦) مطولا، من طريق عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، ورواه مسلم في صحيحة (١٧: ١٥٥) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة.
وسيأتي من طريق أخرى.
(٣) الأثر: ٢٠٧٠١ - " محمد بن الصباح الدولابي "، البزاز، روى له الجماعة، مضى برقم: ٢٠٥١٤.
و" إسماعيل "، هو " إسماعيل بن زكريا الخلقاني الأسدي "، لقبه " شقوصا "، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٣٥٥، وابن أبي حاتم ١/١/١٧٠.
575
الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "الحين" قد يكون غُدْوَة وَعشيّة.
٢٠٧٠٣ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا محمد بن عبيد قال، حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: غُدْوةً وعشيّةً.
٢٠٧٠٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، مثله.
٢٠٧٠٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، بمثله.
٢٠٧٠٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق، عن زائدة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، مثله.
٢٠٧٠٧ - حدثنا الحسن قال، حدثنا علي بن الجعد قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: بُكْرَة وعشيًا.
٢٠٧٠٨ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: بكرة وعشية.
٢٠٧٠٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: يذكر الله كلّ ساعة من الليل والنهار.
٢٠٧١٠ - حدثنا الحسن قال، حدثنا عفان قال، حدثنا أبو كدينة قال، حدثنا قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (تؤتي أكها كل حين بإذن رَبها)، قال: غدوة وعشية.
576
٢٠٧١١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: المؤمن يطيع الله بالليل والنهار وفي كل حينٍ.
٢٠٧١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، يصعَدُ عمله أولَ النهار وآخره.
٢٠٧١٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: يصعد عمله غُدوة وعشيَّة.
٢٠٧١٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: تخرج ثمرتها كُلَّ حين. وهذا مثلُ المؤمن يعمل كل حين، كل ساعة مِن النهار، وكل ساعة من الليل، وبالشتاء والصيف، بطاعة الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تؤتي أكلها كل ستة أشهر، من بين صِرَامها إلى حَمْلها. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧١٥ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "الحين"، ستة أشهر.
٢٠٧١٦ - حدثني يعقوب، قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب قال، قال عكرمة: سُئلت عن رجل حَلَف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين؟ فقلت:
(١) " صرام النخل "، بكسر الصاد، هو قطع الثمرة واجتناؤها من النخلة.
577
إن من الحين حينًا يُدْرَك، ومن الحين حينًا لا يُدْرَك، فالحين الذي لا يدرك قوله: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [سورة ص: ٨٨]، والحين الذي يدرك، (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى حين تُطْلِعُ، (١) وذلك ستَّة أشهر.
٢٠٧١٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرمة قال: الحين: ستة أشهر. (٢)
٢٠٧١٨ - حدثنا الحسن قال، حدثنا سعيد بن منصور قال، حدثنا خالد، عن الشيباني، عن عكرمة، في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: هي النخلة، و "الحين"، ستة أشهر.
٢٠٧١٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر قال، حدثنا عكرمة: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: هو ما بين حَمْل النخلة إلى أن تُجِدَّ. (٣)
٢٠٧٢٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان قال، قال عكرمة: الحين ستة أشهر.
٢٠٧٢١ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل حَلَف أن لا يكلم أخاه حينًا؟ قال: الحينُ ستة أشهر. ثم ذكر النخلة، ما بينَ حملها إلى صِرَامها سِتَّة أشهر.
(١) " أطلع النخل يطلع إطلاعًا "، أخرج طلعه.
(٢) الأثر: ٢٠٧١٧ - " سفيان "، هو " الثوري مضى مرارًا.
و" ابن الأصبهاني "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني "، روى له الجماعة. روى عن أنس وأبي حازم وعكرمة وغيرهم. مترجم في التهذيب، وانظر رقم ٢٠٧٢٥.
(٣) الأثر: ٢٠٧١٩ - " كثير بن هشام الكلابي "، ثقة صدوق، مضى برقم: ١٢٦٤٨. و " جعفر "، هو " جعفر بن برقان الكلابي "، ثقة، مضى برقم: ٤٥٧٧.
وكان في المطبوعة: " إلى أن تحرز "، وفي المخطوطة مثلها غير منقوط، ورجحت أن الصواب " تجد "، من " جد النخل يجده جدًا، وجدادًا "، صرمه. و " أجد النخل "، حان له أن يجد.
578
٢٠٧٢٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن طارق، عن سعيد بن جبير: (تؤتي أكلها كل حين)، قال: ستة أشهر.
٢٠٧٢٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، والحين: ما بين السبعة والستة، وهي تُؤْكِلُ شتاءً وصيفًا.
٢٠٧٢٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال الحسن: ما بين الستة الأشهر والسبعة، يعني الحين.
٢٠٧٢٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عكرمة قال: الحينُ ستة أشهر.
* * *
وقال آخرون: بل "الحين" ههنا سنة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٢٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي مكين، عن عكرمة: أنه نذر أن يقطعَ يَدَ غُلامه أو يحبسه حينًا. (١) قال: فسألني عمر بن عبد العزيز، قال فقلت: لا تُقْطع يدُه، ويحبسه سنة، والحين سَنَة. ثم قرأ: (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)، [سورة يوسف: ٣٥]، وقرأ: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) = حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، وزاد أبو بكر الهذلي، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: " الحين"، حينان، حين يعرف وحين لا يعرف، فأما الحين الذي لا يُعرف: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [سورة ص: ٨٨]، وأما الحين الذي يعرف فقوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).
(١) في المطبوعة: " إن نذر " خطأ.
579
٢٠٧٢٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت حمادًا والحكم عن رجل حلف ألا يكلم رجلا إلى حين؟ قالا الحينُ: سنة.
٢٠٧٢٨ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = ح وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا ورقاء = ح وحدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثني ورقاء = ح وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كل حين)، قال: كل سنة. (١)
٢٠٧٢٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (تؤتي أكلها كل حين)، قال: كل سنة.
٢٠٧٣٠ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلام، عن عطاء بن السائب، عن رجل منهم (٢) أنه سأل ابن عباس، فقال: حلفت
(١) في المخطوطة هنا ختام، كأنه كان آخر تجزئة سابقة نقلت عنها مخطوطتنا، وهذا نص ما فيها:
" يتلوهُ إن شاءَ الله تعالى حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:
(تؤْتي أُكُلها كُلَّ حِين) قال: كُلَّ سنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".
وبعده في أول الجزء:
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسِّر
قال أَبو جعفر، حدثني يونس... "
(٢) في المطبوعة: " عن رجل مبهم "، لم يعرف معنى المخطوطة، وقوله: " رجل منهم "، أي من ثقيف، رهط عطاء بن السائب.
580
ألا أكلم رجلا حِينًا؟ فقرأ ابن عباس: (تؤتي أكلها كل حين)، فالحين سنة.
٢٠٧٣١ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن غَسِيل، عن عكرمة قال، أرسل إلىّ عمر بن عبد العزيز فقال: يا مولى ابن عباس، إني حلفت أن لا أفعل كذا وكذا، حينًا، فما الحين الذي تعرف به؟ قلت: إنّ من الحين حينًا لا يدرك، ومن الحين حينٌ يُدرك، فأما الحين الذي لا يُدرك فقول الله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [سورة الإنسان: ١]، والله ما يدري كم أتَى له إلى أن خُلِق، وأما الذي يُدرك فقوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، فهو ما بين العام إلى العام المُقْبِل. فقال: أصبت يا مولى ابن عباس، ما أحسن ما قلت. (١)
٢٠٧٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطَاء قال: أتى رجل ابن عباس فقال: إني نذرت أن لا أكلم رجلا حينًا؟ فقال ابن عباس: (تؤتي أكلها كل حين)، فالحين سَنَة.
* * *
وقال آخرون: بل "الحين" في هذا الموضع: شهرَان.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٣٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب، فقال: إني حلفت أن لا أكلم فلانًا حينًا؟ [فقال: قال الله تعالى: (تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها) ]. (٢) قال: هي النخلة، لا يكون منها أُكُلُها إلا شَهْرين، فالحين شهران.
(١) الأثر: ٢٠٧٣١ - " ابن غسيل "، والأجود أن يقال " ابن الغسيل "، وهو " عبد الرحمن ابن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري "، يعرف بابن الغسيل، وهو جده حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة. مضى برقم: ٥١٢٣، ٧٧٧٧. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " ابن عسيل "، بالعين المهملة.
(٢) ما بين القوسين في المطبوعة، وساقط من المخطوطة، فلم أحذفها لحسن موقعها.
581
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قولُ من قال: عنى بالحين، في هذا الموضع، غدوةً وعشيةً، وكلَّ ساعة، (١) لأن الله تعالى ذكره ضَرَب ما تؤتي هذه الشجرة كلَّ حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامِه مثلا ولا شك أن المؤمن يُرفع لهُ إلى الله في كلّ يوم صالحٌ من العمل والقول، لا في كل سنة، أو في كل ستة أشهر، أو في كل شهرين. فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن المَثَل لا يكون خِلافًا للمُمَثَّل به في المعنى. وإذا كان ذلك كذلك، كان بَيّنًا صحةُ ما قلنا.
فإن قال قائل: فأيُّ نخلة تؤتي في كل وقت أكلا صيفًا وشتاء؟ قيل: أما في الشتاء، فإن الطَّلْع من أكُلها، وأما في الصيف فالبَلَح والبُسْرُ والرُّطَب والتَّمرُ، وذلك كله من أكلها.
* * *
وقوله: (تؤتي أكلها)، فإنّه كما:-
٢٠٧٣٤ - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال: يؤكل ثمرها في الشتاء والصيف.
٢٠٧٣٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (تؤتي أكلها كل حين)، قال: هي تؤكل شتاءً وصيفًا.
٢٠٧٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، يصعد عملُه، يعني عَمل المؤمن مِن أوّل النهار وآخره.
(١) انظر تفسير " الحين " فيما سلف ١: ٥٤٠/١٢: ٣٥٩/١٦: ٩٢: ٩٤.
582
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومثل الشِّركَ بالله، وهي "الكلمة الخبيثة"، (١) = كشجرة خبيثة.
* * *
اختلف أهل التأويل فيها أيّ شجرة هي؟
فقال أكثرهم: هي الحنظل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٣٧ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة قال: سمعت أنس بن مالك، قال في هذا الحرف: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، قال: الشَّرْيان؟ فقلت: ما الشَّرْيان؟ قال رجل عنده: الحنظلُ، فأقرَّ به معاوية. (٢)
٢٠٧٣٨ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، أخبرنا شعبة، عن معاوية بن قرة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، قال: الحنظل. (٣)
٢٠٧٣٩ - حدثنا الحسن قال، حدثنا عمرو بن الهيثم قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: الشَّرْيَان، يعني الحنظل.
٢٠٧٤٠ - حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن الأعمش، عن حبان بن شعبة،
(١) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف ١٣: ١٦٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) الأثر: ٢٠٧٣٧ - انظر الأثر السالف: ٢٠٦٧٤، فهو من تمامه.
(٣) الأثر: ٢٠٧٣٨ - انظر الأثر السالف: ٢٠٦٧٦ فهو من تمامه.
583
عن أنس بن مالك في قوله: (كشجرة خبيثة)، قال: الشَّرْيان. قلت لأنس: ما الشَّريان؟ قال: الحنظل. (١)
٢٠٧٤١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعيب قال: خرجت مع أبي العالية نريد أنس بن مالك، فأتيناه، فقال: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، تلكم الحنظل. (٢)
٢٠٧٤٢ - حدثنا الحسن قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس، مثله.
٢٠٧٤٣ - حدثنا المثنى قال: حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس، عن أنس بن مالك قال: "الشجرة الخبيثة"، الشَّرْيَان. فقلت: ومَا الشَّرْيَان؟ قال: الحنظل.
٢٠٧٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن شعيب، عن أنس قال، تلكم الحنظل. (٣)
٢٠٧٤٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا مهدي بن ميمون، عن شعيب قال، قال أنس: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، الآية قال، تلكم الحنظل، ألم تِرْوا إلى الرّياح كيف تُصَفّقُها يمينًا وشمالا؟ (٤)
٢٠٧٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) الأثر: ٢٠٧٤٠ - " حبان بن شعبة " بالباء الموحدة، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهي غير منقوطة. وفي الدر المنثور ٤: ٧٧ " حيان " بالياء المثناة، ولم أجد هذا الاسم في مكان، بعد طول البحث، وأقرب ما وجدت أن يكون هو " حيان، أبو سعيد التيمي "، روى عنه الأعمش. ولكني لم أجده ذكر أنه روى عن أنس بن مالك. مترجم في الكبير ٢/١/٥٥، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٤٧. وأزيد أني في شك من رواية " ابن جريج "، عن " الأعمش ".
(٢) الأثر: ٢٠٧٤١ - هو من تتمة الأثر السالف: ٢٠٦٧٧.
(٣) الأثر: ٢٠٧٤٤ - هو من تتمة الأثر السالف: ٢٠٦٨٠.
(٤) الأثر: ٢٠٧٤٥ - هو من تتمة الأثر السالف: ٢٠٦٨١.
ويقال: " صفقت الريح الشيء "، إذا قلبته يمينًا وشمالا، فاضطرب وتردد.
584
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كشجرة خبيثة)، الحنظلة.
* * *
وقال آخرون: هذه الشجرة لم تُخْلَق على الأرض.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٤٧ - حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال، حدثنا عفان قال، حدثنا أبو كدينة قال، حدثنا قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، قال: هذا مثل ضربه الله، ولم تخلق هذه الشجرةُ على وجه الأرض. (١)
* * *
وقد روي عن رسول الله ﷺ بتصحيح قول من قال: هي الحنظلة، خبَرٌ. فإن صحَّ، فلا قولَ يجوز أن يقال غيرُه، وإلا فإنها شجرة بالصِّفة التي وصفها الله بها.
* * *
* ذكر الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
٢٠٧٤٨ - حدثنا سَوَّار بن عبد الله قال، حدثنا أبي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ قال: (ومثل كَلِمة خبيثةٍ كشجرة خبيثة اجْتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قَرار)، قال: هي الحنظلة = قال شعيب: وأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كانوا يقولون. (٢)
* * *
(١) الأثر: ٢٠٧٤٧ - هو من تمام الأثر السالف: ٢٠٦٩٥.
(٢) الأثر: ٢٠٧٤٨ - سلف قول الترمذي أن هذا الخبر لم يرفعه غير حماد بن سلمة، وأن الموقوف أصح. انظر ما سلف في التعليق على الآثار: ٢٠٦٧٧ - ٢٠٦٨١. وهذا الأثر من تمام الأثر السالف: ٢٠٦٧٩.
585
وقوله: (اجْتُثَّت من فوق الأرض)، يقول: استُؤْصِلت. يقال منه: اجتثَثْتُ الشيء، أجْتَثُّه اجتثاثًا: إذا استأصلتَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٤٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (اجتثت من فوق الأرض)، قال: استؤصلت من فوق الأرض.
* * *
= (ما لها من قرار)، يقول: ما لهذه الشجرة من قَرار ولا أصل في الأرض تثْبُت عليه وتقوم. وإنما ضُرِبت هذه الشجرة التي وصَفها الله بهذه الصفة لكُفر الكافر وشركِه به مثلا. يقول: ليس لكُفر الكافر وعَمَله الذي هو معصيةُ الله في الأرض ثباتٌ، ولا له في السماء مَصْعَد، لأنه لا يَصْعَد إلى الله منه شيء.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٥٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر. يقول: إن الشجرة الخبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرَار. يقول: الكافر لا يُقْبَل عمله ولا يصعَدُ إلى الله، فليس له أصل ثابتٌ في الأرض، ولا فرعٌ في السماء. يقول: ليس له عمل صَالحٌ في الدنيا ولا في الآخرة.
586
٢٠٧٥١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار)، قال قتادة: إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال: ما تقول في" الكلمة الخبيثة"، فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا، ولا في السماء مَصْعَدًا، إلا أن تَلْزَم عُنُقَ صاحبها، حتى يوافي بها القِيامة. (١)
٢٠٧٥٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية: أن رجلا خالجت الريحُ رداءَه فلعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَلْعنها، فإنها مأمورة، وإنه من لَعن شيئًا ليس له بأهلٍ رَجعت اللَّعنةُ على صاحبها. (٢)
٢٠٧٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، قال: هذا الكافر ليس له عمل في الأرض، ولا ذكرٌ في السماء= (اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، قال: لا يصعد عمله إلى السماء، ولا يقوم على الأرض. فقيل: فأين تكون أعمالهم؟ قال: يَحْمِلون أوزارهم على ظُهورهم.
(١) في المطبوعة، زاد فقال: " يوم القيامة ".
(٢) الأثر: ٢٠٧٥٢ - أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة: رواه عن زيد بن أخزم الطائي البصري، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أن رجلا لعن الريح عند النبي ﷺ ". وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير بشر بن عمر ".
و" بشر بن عمر بن الحكم الزهراني "، ثقة، روى له الجماعة، سلف برقم: ٣٣٧٥، ١٥٠٥٤، ورواه أبو داود في سننه ٤: ٣٨٢، من طريقين: من طريق مسلم بن إبراهيم، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، ومن طريق: زيد بن أخزم الطائي، عن بشر بن عمر، عن أبان بن يزيد عن قتادة، وهذا هو طريق الترمذي. ويتبين من الطريق الأولى أن الذي أسنده هو " أبان بن يزيد العطار "، وهو ثقة، وقال الحافظ ابن حجر: " لم يذكره أحد ممن صنف في رجال البخاري من القدماء، ولم أر له عنده إلا أحاديث معلقة في الصحيح "، فمن قبل أبان جاءت غرابته.
وقوله: " خالجت الريح رداءه " بمعنى نازعته رداءه. و " مأمورة "، أي مسخرة بأمر الله غير مريدة لما تفعل. وقوله: " ليس له بأهل "، أي ليس للعن بمستحق، يقال: " هو أهل ذاك، وأهل لذاك ".
587
٢٠٧٥٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض)، قال: مثل الكافر، لا يصعَد له قولٌ طيب ولا عملٌ صالح.
٢٠٧٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: (ومثل كلمة خبيثة)، وهي الشرك = (كشجرة خبيثة)، يعني الكافر. قال: (اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، يقول: الشرك ليس له أصلٌ، يأخذ به الكافرُ ولا برهانٌ، ولا يقبل اللهُ مع الشرك عملا.
٢٠٧٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، قال: مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصلٌ ولا فرع، ولا قوله ولا عمله يستقرُّ على الأرض ولا يصعد إلى السماء.
٢٠٧٥٧ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: ضربَ الله مثلَ الكافر: (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)، يقول: ليس لها أصلٌ ولا فرع، وليست لها ثمرة، وليس فيها منفعة، كذلك الكافر ليس يعمل خيرًا ولا يقوله، ولم يجعل الله فيه بركةً ولا منفعة.
* * *
588
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (يثبت الله الذين آمنوا)، يحقق الله أعمالَهم وإيمانهم (١) = (بالقول الثابت)، يقول: بالقول الحق، وهو فيما قيل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله.
* * *
وأما قوله: (في الحياة الدنيا)، فإن أهل التأويل اختلفُوا فيه، فقال بعضهم: عنى بذلك أن اللهَ يثَبتهم في قبورهم قبلَ قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٥٨ - حدثني أبو السائب سَلْم بنُ جُنَادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سَعْد بن عُبَيْدَة، عن البَراء بن عازب، في قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)، قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا أتاه المَلكان في القبر فقالا له: مَن ربك؟ فقال: ربّي الله. فقالا له: ما دينك؟ قال: دينيَ الإسلام. فقالا له: مَن نبيك؟ قال: نبيِّي محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فذلك التثبيت في الحياة الدنيا. (٢)
(١) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف ١٥: ٥٣٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) الأثر: ٢٠٧٥٨- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، رواه أبو جعفر بأربعة عشر إسنادًا في هذا الموضع، فأحببت أن أجمعها، وأفصلها، لتسهل مراجعتها، ولا يتبعثر القول فيها، ويسهل تخريجها ويستبين. فالحديث عن البراء مروي من ثلاث طرق:
١ - طريق سعد بن عبيدة، عن البراء.
٢ - طريق زاذان، عن البراء.
٣ - طريق خيثمة، عن البراء.
فعند بدء كل طريق، أذكر طرق إسناده مفصلة إن شاء الله، وهذه أوان بيان الطريق الأولى: (١)
طريق سعد بن عبيدة عن البراء.
رواه أبو جعفر من طريقين:
١ - من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة.
٢ - من طريق علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة. (١) طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة.
١ - من طريق أبي معاوية، عن الأعمش برقم: ٢٠٧٥٨.
٢ - من طريق جابر نوح، عن الأعمش برقم: ٢٠٧٥٩.
(١) وطريق أبي معاوية، هو هذا الإسناد الأول، وهذا بيانه:
" أبو السائب "، " سلم بن جنادة بن خالد السوائي "، شيخ أبو جعفر، روى عنه البخاري خارج الصحيح، شيخ صدوق، قال البرقاني: " ثقة حجة لا شك فيه، يصلح للصحيح "، مضى مرارًا آخرها رقم: ٨٣٩٥.
و" أبو معاوية "، هو " محمد بن خازم التميمي السعدي "، روى له الجماعة، ثقة في حديث الأعمش، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧٧٢٢.
و" سعد بن عبيدة "، كان في المخطوطة في جميع مواضعه " سعيد "، وهو خطأ.
فهذا حديث صحيح الإسناد، لم أجده عند غير أبي جعفر، من هذه الطريق.
589
٢٠٧٥٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن سعد بن عُبَيْدة، عن البراء بن عازب، بنحو منه في المعنى. (١)
٢٠٧٦٠ - حدثني عبد الله بن إسحاق الناقد الواسطي قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سعد بن عبيدة، عن البراء قال، ذكر النبيّ ﷺ المؤمنَ والكافرَ، فقال: إن المؤمن إذا سئل في قبره قال: رَبّي الله، فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). (٢)
(١) الأثر: ٢٠٧٥٩ - الإسناد التالي انظر التعليق السالف.
(٢) طريق جابر بن نوح، عن الأعمش
و" جابر بن نوح الحماني "، ضعيف الحديث، قال ابن معين ليس حديثه بشيء.
فالخبر من هذه الطريق ضعيف الإسناد، ولم أجده عند غير أبي جعفر، والصحيح هو الإسناد السالف.
(٢) الأثر: ٢٠٧٦٠ - هذه هي الطريق الثانية، عن سعد بن عبيدة، عن البراء.
(٢) طريق علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة.
١ - طريق شعبة، عن علقمة بن مرثد.
رواه أبو جعفر، من ثلاث طرق، هذا أولها،
(١) عن وهب بن جرير، عن شعبة، ٢٠٧٦٠، (٢) وعن هشام بن عبد الملك، عن شعبة: ٢٠٧٦١. (٣) وعن عفان، عن شعبة: ٢٠٧٧٣.
وهاك بيان الطريق الأولى في هذا الخبر.
" عبد الله بن إسحاق الناقد الواسطي "، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة، وقد روى عنه في تاريخ الصحابة (انظر ذيل المذيل تاريخ الطبري ١٣: ٦١).
و" وهب بن جرير بن حازم الأزدي "، الحافظ، روى له الجماعة، مضى برقم: ٢٨٥٨، ٤٣٤٦، ٥٤١٨، ١٤١٥٧. ولم أجد الخبر فيما بين يدي من طريق وهب بن جرير، عن شعبة. ولكن حديث شعبة، عن علقمة، رواه الأئمة:
فرواه أحمد في مسنده ٤: ٢٨٢ عن طريق عفان، عن شعبة، وهو الذي رواه أبو جعفر برقم: ٢٠٧٧٣. ثم رواه في مسنده ٤: ٩١، من طريق محمد بن جعفر غندر، عن شعبة. وسيأتي في رواية أصحاب الكتب.
رواه البخاري في صحيحة (الفتح ٣: ١٨٤) من طريق حفص بن عمر، عن شعبة، من طريق محمد بن جعفر، غندر، عن شعبة. ثم رواه (الفتح ٨:/ ٢٨٦)، من طريق أبي الوليد الطيالسي، هشام بن عبد الملك الباهلي، وهو الذي رواه أبو جعفر برقم: ٢٠٧٦١، كما سيأتي.
ورواه مسلم في صحيحة (١٧: ٢٠٤) من طريق محمد بن جعفر، غندر، عن شعبة.
ورواه أبو داود في سننه ٤: ٣٢٩. من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة.
ورواه النسائي في سننه ٤: ١٠١، من طريق محمد بن جعفر غندر، عن شعبة.
ورواه الترمذي في سننه في التفسير، من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة.
ورواه ابن ماجه في سننه: ١٤٢٧ من طريق محمد بن جعفر غندر، عن شعبة.
وهو حديث صحيح.
590
٢٠٧٦١ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عُبيدة، عن البراء بن عازب: أن رسول الله ﷺ قال: إن المسلم إذا سئل في القبر فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. قال: فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة". (١)
٢٠٧٦٢ - حدثني الحسين بن سَلَمة بن أبي كَبْشة، ومحمد بن معمر البَحْراني = واللفظ لحديث ابن أبي كبشة = قالا حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو قال، حدثنا عبَّاد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله ﷺ في جنازة فقال:
(١) الأثر: ٢٠٧٦١ - هو مكرر الأثر السالف.
" هشام بن عبد الملك الباهلي "، " أبو الوليد الطيالسي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
ومن طريق أبو الوليد، عن شعبة رواه البخاري، وأبو داود، كما سلف في تخريج الذي قبله.
وكان في المطبوعة: " إذا سئل في القبر يشهد "، كما في رواية البخاري، ورواية أبي داود: " فشهد "، وأثبت ما في المخطوطة، وكل صواب.
وكان في المخطوطة هنا " سعيد "، مكان " شعبة "، وهو تصحيف فاحش.
591
يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قُبورها، فإذا الإنسان دُفِن وتفرَّق عنه أصحابه، جاءه ملك بيده مِطْراقٌ فأقعده فقال: ما تقولُ في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدُه ورسوله. فيقول له: صدقْتَ. فيفتح له بابٌ إلى النار فيقال: هذا منزلك لو كفرتَ بربّك، فأما إذْ آمنت به، فإن الله أبدَلك به هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، فيريد أن ينْهَضَ له، فيقال له: اسكُنْ. ثم يُفْسَح له في قبره. وأما الكافِر أو المنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما أدري! فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَدَرّيتَ ولا اهتديتَ! ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك، فأما إذْ كفرت، فإن الله أبدَلك هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى النار، ثم يَقْمَعُه المَلَكُ بالمطراق قَمْعَةً يسمعه خَلْقُ الله كُلهم إلا الثقلين. قال، بعضُ أصحابه، يا رسولَ الله، ما مِنَّا أحدٌ يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْراق إلا هِيلَ عند ذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعلُ الله ما يشاء). (١)
٢٠٧٦٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء: أنّ رسول الله ﷺ قال: وذكر قَبْضَ روح المؤمن: فتُعاد روحُه في جسده، ويأتيه مَلَكان فيجلسانه، يعني في قبره، فيقولان: مَنْ ربُّك؟ فيقول: ربيَ الله. فيقولان: ما دينُك؟ فيقول ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسولُ الله. فيقولان: ما يدرِيك؟ فيقول: قرأت كتابَ الله فآمنت به وصدَّقْتُ. فينادِي مُنادٍ من السماء أنْ صَدَق عبدي.
(١) الأثر: ٢٠٧٦٢ - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي، الطحان " شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: ١٧٦٠٨. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الحسن بن سلمة "، وهو خطأ.
و" محمد بن معمر البحراني "، شيخ الطبري، ثقة، روى له الجماعة. مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم: ١٦٨٨٥.
و" عبد الملك بن عمرو القيسي "، و " أبو عامر العقدي "، ثقة من شيوخ أحمد، مضى مرارًا، آخرها: ١٧٦٠٨.
و" عباد بن راشد التميمي "، ثقة، وليس بالقوي، روى له البخاري مقرونًا بغيره، مضى مرارًا، آخرها: ١٧٦٠٨
و" داود بن أبي هند "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو نضرة "، " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي "، تابعي، ثقة، كثير الحديث، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٥٧٩٧ - ١٥٨٠١.
فهذا حديث صحيح الإسناد، رواه أحمد في مسنده ٣: ٣، عن أبي عامر العقدي، بإسناده. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٤٧، وقال: " رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح "، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٨٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن أبي عاصم في السنة، وابن مردويه، والبيهقي في عذاب القبر، وقال: " بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري ". وفي لفظ الخبر بعض الخلاف.
" المطراق "، مما لم تذكره كتب اللغة، وهو ثابت، في جميع روايات الخبر، في المواضع التي ذكرتها، وهو صحيح في العربية، ومثله " المطرق " بكسر فسكون، ومضى في الخبر رقم: ٢٣٨٩، و " المطرقة "، ، وهي مضربة الحداد التي يطرق بها الحديد.
وقوله: " لا دريت، ولا تدريت "، هكذا هو في المخطوطة، فأثبته على ذلك، وكان في المطبوعة: " لا دريت ولا تليت "، كما جاء في جميع المراجع الآنفة. والذي في المخطوطة مكتوب بوضوح، لا أجده سائغا أن يكون الناسخ صحف " تليت " إلى " تدريت ". مع شهرة الخبر. فإن صحت هذه رواية في الخبر رواها أبو جعفر، فإنه تكون " تَفَعَّلَ " من " دَرَى " أي طلبت الدراية، كما تقول " علم "، وهما سواء في المعنى. وهي جيدة المعنى جدًا.
وأما " لا دريت ولا تليت "، فقد اختلف في معناها. قالوا: هي من " تلوت " أي لا قرأت ولا درست من " تلا يتلو " فقالها بالياء ليعاقب بها " الياء " في " دريت ". وكان يونس يقول: " إنما هو: " ولا أَتليت " في كلام العرب، معناه: أن لا تتلى إبله، أي لا يكون لها أولاد " تتلوها ". وقال غيره: " إنما هو: لا دريت ولا اتَّليت، على افتعلت، من " ألوت " أي أطقت واستطعت، فكأنه قال: لا دريت ولا استطعت ". وقال ابن الأثير: " المحدثون يرون هذا الحديث: ولا تليت، وصوابه: " ولا ائتَليْت ".
وقال الزمخشري في الفائق (تلا)، وذكر الخبر: " أي، ولا اتبعت الناس بأن تقول شيئا يقولونه. ويجوز أن يكون من قولهم: " تلا فلان تِلْوَ غير عاقِل "، إذا عمل عمل الجهال، أي لا علمت ولا جهلت يعني: هلكت فخرجت من القبيلتين.
وأحسب أن الذي في التفسير، إن صحت روايته، أبين دلالة على المعنى مما ذهبوا إليه. هذا، وفي رواية الخبر عند جمعهم زيادة في هذا الموضع: " فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا ". وهذه رواية أحمد.
592
قال: فذلك قول الله عز وجل (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). (١)
٢٠٧٦٤ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٢)
٢٠٧٦٥ - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٣)
(١) الأثر: ٢٠٧٦٣ - هذه هي الطريق الثانية، كما ذكرت في التعليق على رقم: ٢٠٧٥٨.
(٢) طريق زاذان، عن البراء.
رواه أبو جعفر من طريقين مختصرًا.
١ - طريق الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان.
٢ - طريق يونس بن خباب، عن المنهال، عن زاذان.
ثم رواه عن الأعمش من خمس طرق: عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش: ٢٠٧٦٣، وعن أبي معاوية، عن الأعمش: ٢٠٧٦٤، وعن جرير، عن الأعمش: ٢٠٧٦٥، وعن ابن نمير، عن الأعمش: ٢٠٧٦٦، وعن أبي عوانة، عن الأعمش: ٢٠٧٨٠، ٢٠٧٨٧.
و" المنهال بن عمرو الأسدي ". تكلموا فيه، ووثقه جماعة، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله توثيقه في المسند ٧١٤، وفي الطبري: ٣٣٧. وقال أبو الحسن بن القطان: " كان أبو محمد بن حزم يضعف المنهال، ورد من روايته حديث البراء "، يعني هذا الحديث، ولم يخرج له البخاري ولا مسلم في الصحيح شيئًا. وروى ابن أبي خيثمة: أن المغيرة، صاحب إبراهيم، (وهو المغيرة بن مقسم الضبي)، وقف على يزيد بن أبي زياد فقال: ألا تعجب من هذا الأعمش الأحمق، إني نهيته أن يروي عن المنهال بن عمرو، وعن عباية، ففارقني على أن لا يفعل، ثم هو يروي عنهما، نشدتك بالله تعالى، هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين؟ قال: اللهم لا "، فهذا من أشد ما يقال فيه، ولكنه محمول إن شاء الله على مقالة المتعاصرين، يقول بعضهم في بعض.
و" زاذان "، " أبو عبد الله أو أبو عمر الكندي " الضرير البزار، تابعي ثقة، مضى مرارًا.
وقد أفاض أبو عبد الله الحاكم في المستدرك ١: ٣٧ - ٤٠ في جمع طرق هذا الحديث، وجاء بالشواهد من الأخبار على شرط الشيخين، يستدل بها على صحة خبر المنهال، عن زاذان.
وزاد الحاكم رواية سفيان، عن الأعمش ١: ٣٨، وهي في المسند ٤: ٢٩٧، ، ورواية شعبة، عن الأعمش ١: ٣٨، وفي مسند أحمد رواية زائدة عن الأعمش ٤: ٢٨٨.
وزاد أبو جعفر الطبري رواية أبي بكر بن عياش، عن الأعمش في هذا الإسناد، وفيما سلف مختصرًا رقم: ١٤٦١٤. وانظر الكلام على الآثار التالية من هذه الطريق، وما سلف في التعليق على رقم: ١٤٦١٤. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٤٩ - ٥١، وقال: " هو في الصحيح وغيره، باختصار، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح "
(٢) الأثر: ٢٠٧٦٤ - من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، رواه أحمد في المسند ٤: ٢٨٧، والحاكم في المستدرك ١: ٣٧، وأبو داود في سننه ٤: ٣٣٠.
(٣) ٢٠٧٦٥ - من طريق جرير، عن الأعمش، رواه أبو داود مختصرًا في سننه ٣: ٢٨٩.
594
٢٠٧٦٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (١)
٢٠٧٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس، عن يونس بن خبّاب، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٢)
٢٠٧٦٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر = وحدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا سعيد بن منصور قال، حدثنا مهدي بن ميمون = جميعًا، عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قبضَ رُوح المؤمن! قال: فيأتيه آتٍ في قبره فيقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربيَ الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمد صلى الله عليه وسلم. فينتهره فيقول: مَنْ ربُّك؟ وما دينك؟ فهي آخر فتنة تُعْرَض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، ، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله
(١) الأثر: ٢٠٧٦٦ - من طريق عبد الله بن نمير، عن الأعمش، رواه أحمد في المسند ٤: ٢٨٨، وأبو داود في سننه ٤: ٣٣١، والحاكم في المستدرك ١: ٣٧.
(٢) الأثر: ٢٠٧٦٨ - هذه طريق يونس بن خباب، عن المنهال، كما ذكرت في التعليق على رقم: ٢٠٧٦٣، رواها أبو جعفر من طريق عمرو بن قيس، عن يونس: ٢٠٧٦٨. ومن طريق معمر، عن يونس: ٢٠٧٦٩، ومهدي بن ميمون، عن يونس: ٢٠٧٦٩ أيضًا.
و" يونس بن خباب الأسيدي "، ضعيف جدًا، قال يحيى القطان: " ما تعجبنا الرواية عنه "، وقال ابن معين: " رجل سوء، وكان يشتم عثمان ". وقال البخاري: " منكر الحديث "، وقال: ابن حبان: " لا تحل الرواية عنه ". وقال أبو حاتم: " مضطرب الحديث، ليس بالقوي "، مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٠٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٣٨، وميزان الاعتدال ٣: ٣٣٧.
وهذا حسبك في ضعفه من هذه الطريق. وقد زاد أحمد في مسنده ٤: ٢٩٦، روايته من طريق حماد بن زيد، عن يونس. وزاد الحاكم في المستدرك روايته من طريق شعيب بن صفوان عن يونس. وعباد بن عباد، عن يونس ١: ٣٩.
595
عليه وسلم. فيقال له: صدقت- واللفظ لحديث ابن عبد الأعلى. (١)
٢٠٧٦٩ - حدثنا محمد بن خَلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال، تلا رسُول الله صلى الله عليه وسلم: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: ذاك إذا قيل في القبر: مَنْ ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، جاء بالبينات من عِنْد الله فآمنتُ به وصدَّقت. فيقال له: صَدَقْتَ، على هذا عشت، وعليه مِتَّ، وعليه تُبْعَث. (٢)
٢٠٧٧٠ - حدثنا مجاهد بن موسى، والحسن بن محمد قالا حدثنا يزيد قال، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال، إن الميت ليسمعَ خَفْقَ نِعالهم حين يُوَلُّون عنه مدبرين. فإذا كان مؤمنًا، كانت الصلاة عند رأسه، والزكاةُ عن يمينه، وكان الصيام عن يساره، وكان فِعْلُ الخيرات من الصّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتَى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتي عن يساره فيقول الصيام: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصَّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبَلي
(١) الأثر: ٢٠٧٦٨ - مكرر الأثر السالف.
وحديث معمر، عن يونس بن خباب، رواه أحمد في المسند ٤: ٢٩٥، والحاكم في المستدرك ١: ٣٩.
وحديث مهدي بن ميمون، عن يونس، رواه الحاكم في المستدرك ١: ٣٩.
(٢) الأثر: ٢٠٧٦٩ - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني "، شيخ الطبري، ثقة مضى مرارًا. آخرها رقم: ٢٠٦٣٣.
و" آدم "، هو " آدم بن أبي إياس العسقلاني "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٦٩٤٤.
و" حماد بن سلمة "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة.
و" محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، تابعي ثقة، كثير الحديث، مضى مرارًا.
فهذا خبر صحيح الإسناد، ولم أجده عند غير أبي جعفر، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٨١، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وكأنه مختصر الخبر التالي.
596
مدخلٌ. فيقال له: اجلسْ. فيجلسُ، قد تمثّلتْ له الشمس قد دنت للغروب، فيقال له: أخبرنَا عمَّا نسألك. فيقول: دعُوني حتى أصلِّي. فيقال: إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك عنه! فيقول: وعمَّ تسألون؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فِيكم، ماذا تقول فيه، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد؟ فيقال له: نعم. فيقول أشهد أنَّه رسول الله، وأنه جَاء بالبينات من عند الله، فصدّقناه. فيقال له: على ذلك حَييتَ، وعلى ذلك، مِتَّ، وعلى ذلك تُبْعث إن شاء الله. ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعًا ويُنوَّر له فيه، ثم يُفْتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى ما أعدّ الله لك فيها، فيزداد غِبْطَةً وسرورًا، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر ما صَرَف الله عنك لو عصيتَه! فيزداد غبْطةً وسرورًا. ثمّ يجعل نَسَمُه في النَّسَم الطَّيب، وهي طيْرٌ خُضْرٌ تُعَلَّق بشجر الجنة، ويعاد جسده إلى ما بُدئ منه من التراب، وذلك قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). (١)
٢٠٧٧١ - حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا أبو قطن قال، حدثنا المسعودي، عن عبد الله بن مخارق، عن أبيه، عن عبد الله قال، إنّ المؤمن
(١) الأثر: ٢٠٧٧٠ - لعله مطول الخبر السالف.
" مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: ٥١٠، ٣٣٩٦.
و" الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني "، شيخ الطبري، ثقة، مضى مرارًا آخرها: ٢٠٤١١.
و" يزيد " هو " يزيد بن هارون السلمي الواسطي "، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، مضى مرارًا كثيرة آخرها: ١٥٣٤٨.
فهذا خبر صحيح الإسناد، أخرجه الحاكم في المستدرك ١: ٣٧٩ من طريق سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، ثم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو ١: ٣٨٠، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، وتابعه الذهبي.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٥١، ٥٢، مطولا وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن "، ثم قال: " روى البزار طرفًا منه "، ثم انظر حديثًا آخر عنده عن أبي هريرة ٣: ٥٣، ٥٤.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ٨٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبه، وهناد بن السري في الزهد، وابن المنذر، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي.
وكان في المطبوعة: " فيجلس قد مثلت له الشمس "، كما في مجمع الزوائد، والدر المنثور. وفي المستدرك: " فيقعد، وتمثل له الشمس "، وأثبت ما في المخطوطة.
597
إذا مات أُجْلِس في قبره، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبّته الله فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمد. قال: فقرأ عبد الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة). (١)
٢٠٧٧٢ - حدثنا الحسن قال، حدثنا أبو خالد القرشي، عن سفيان، عن أبيه = وحدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن خيثمة، عن البراء، في قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)، قال: عذاب القبر. (٢)
٢٠٧٧٣ - حدثنا الحسن قال، حدثنا عفان قال، حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن البراء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال شعبةُ شيئًا لم أحفظه، قال: في القبر. (٣)
٢٠٧٧٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)، إلى قوله: (ويضل الله الظالمين)، قال: إن المؤمن إذا حضَره الموت شهدته الملائكة، فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا ماتَ مشَوْا في جنازته
(١) الأثر: ٢٠٧٧١ - " أبو قطن " " عمرو بن الهيثم الزبيدي القطعي "، ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: ٢٠٥٩٩.
و" المسعودي "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي "، كان ثقة، واختلط بأخرة، رواية المتقدمين عنه صحيحة، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧٩٨٢.
و" عبد الله بن مخارق "، مشكل أمره جدًا. فقد ترجم له البخاري في الكبير ٣/١/٢٠٨، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٢/٢/١٧٩، وقالا جميعًا واللفظ هنا لابن أبي حاتم: " عبد الله بن مخارق بن سليم السلمي كوفي، روى عن أبيه مخارق، روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وأبو العميس عتبة بن عبد الله، وعبد الملك بن أبي غنية "، ثم ذكر ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه سئل عن " عبد الله بن مخارق بن سليم فقال: مشهور ".
وقال البخاري في ترجمته: " روى سماك، عن قابوس بن مخارق الشيباني، وروى أيضًا سليمان الشيباني، عن مخارق بن سليم الشيباني، فلا أدري ما بينهما ". فشك البخاري في نسبة أبيه أهو " سلمي " أو " شيباني "، كما ترى.
فلما ترجم في فصل " مخارق "، الكبير ٤/١/٤٣٠ ترجم " مخارق " أبو قابوس، عن علي، روى عنه ابنه قابوس، وهو ابن سليم، قاله ابن طهمان ". ثم ترجم بعده " مخارق بن سليم الشيباني " وقال: " يعد في الكوفيين "، وأغفل " مخارق بن سليم السلمي "، الذي ذكر في ترجمة ابنه " عبد الله بن مخارق بن سليم السلمي "، أنه روى عن أبيه، وهو صحابي، كما هو ظاهر. وكذلك فعل ابن أبي حاتم ٤/١/٣٥٢، اقتصر أيضًا على " مخارق بن سليم الشيباني "، وأغفل " السلمي " الذي ذكره في باب " عبد الله ".
وأما الحافظ ابن حجر في التهذيب، وفي الإصابة، فإنه قال: " مخارق بن سليم الشيباني "، أبو قابوس، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب. روى عنه ابناه قابوس، وعبد الله. ذكره ابن حبان في الثقات ".
فهذا لفظ جامع، يدل على أن " عبد الله بن مخارق " هذا إنما هو " الشيباني "، وأن " السلمي "، نسبة لا يكاد يعرف صاحبها، وتزيد أباه في الصحابة جهالة، وهذا مستبعد.
و" عبد الله بن مخارق بن سليم الشيباني "، هو نابغة بني شيبان، الشاعر المشهور، وهو أخو " قابوس بن مخارق بن سليم الشيباني "، المترجم في التهذيب، وفي الكبير ٤/١/١٩٣، غير منسوب إلى " شيبان " أو " سليم " وفي ابن أبي حاتم ٣/٢/١٤٥، فيما أرجح. وقد كنت قرأت قديمًا في كتاب غاب عني مكانه اليوم: أن قابوسًا كان شاعرًا، وأن أخاه عبد الله، نابغة بني شيبان، كان محدثًا، ثم رأى أحدهما رؤيا، أو كلاهما، فترك " قابوس " الشعر وطلب الحديث، وترك " عبد الله " الحديث وأخذ في الشعر، فصار نابغة بني شيبان. وقد كان عبد الله بن مخارق نابغة بني شيبان، ينشد الشعر فيكثر، حتى إذا فرغ قبض على لسانه فقال: والله لأسلطن عليك ما يسوءك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " (جاء هذا في كتاب المنتقى من أخبار الأصمعي: ٦)، فهذا كأنه مؤيد للرواية التي غاب عني مكانها، وأسأل من وجدها أن يدلني على مكانها.
فهذا الخبر مضطرب جدًا، ولكن خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٥٤ وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن "، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ونسبه إلى ابن جرير، والطبراني، والبيهقي في عذاب القبر.
(٢) الأثر: ٢٠٧٧٢ - هذه هي الطريق الثالثة، لحديث البراء مختصرًا.
(٣) طريق خيثمة، عن البراء.
من طريق واحدة، بإسنادين.
١ - سفيان، عن أبيه، عن خيثمة.
أما الأول، فعن " أبي خالد القرشي "، وهو " عمرو بن خالد القرشي "، وهو منكر الحديث. كذاب، غير ثقة ولا مأمون، مترجم في التهذيب، والكبير ٣/٢/٣٢٨، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٣٠ وميزان الاعتدال ٢: ٢٨٦، فهو بإسناد أبي خالد متروك لا يشتغل به.
وأما " أبو أحمد "، فهو الزبيري " محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي "، ثقة روى له الجماعة مضى مرارًا، آخرها: ٢٠٤٧٠.
و" سفيان " هو الثوري الإمام.
وأبوه " سعيد بن مسروق الثوري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٣٧٦٦.
و" خيثمة "، هو " خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة مضى مرارًا آخرها: ١١١٤٥.
ومن طريق سفيان عن أبيه، رواه مسلم في صحيحه (١٧: ٢٠٤)، والنسائي في سننه ٤: ١٠١، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان.
(٣) الأثر: ٢٠٧٧٣ - هو مكرر الأثر السالف: ٢٠٧٦٠، مع زيادة.
و" عفان "، هو " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار "، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها: ٢٠٣٣١.
ومن طريق عفان رواه أحمد في المسند ٤: ٢٨٢، كما سلف في تخريج الخبر رقم ٢٠٧٦٠.
598
ثم صلوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربّيَ الله. ويقال له: منْ رسولك؟ فيقول: محمد. فيقال له: ما شهادَتُك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فيوسَّع له في قبره مَدّ بَصَره (١).
٢٠٧٧٥ - حدثنا الحسن قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، سمعت ابن طاوس يخبر عن أبيه قال، لا أعلمه إلا قال: هي في فِتنَةِ القبر، في قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت).
٢٠٧٧٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير عن العلاء بن المسيب، عن أبيه أنه كان يقول في هذه الآية: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، هي في صاحب القبر.
٢٠٧٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوّام، عن المسيب بن رافع: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: نزلت في صاحب القبر.
٢٠٧٧٨ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه المسيَّب بن رافع، نحوه.
٢٠٧٧٩ - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، في قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: بلغنا أن هذه الأمة تُسْأل في قبورها، فيثبّت الله المؤمن في قبره حين يُسْأل.
٢٠٧٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فَهْدٌ قال، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب
(١) الأثر: ٢٠٧٧٤ - هذا إسناد ضعيف جدًا، وإن كثر دورانه في التفسير، وسلف بيانه وشرحه في أول التفسير رقم: ٣٠٥.
600
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قبضَ روح المؤمن، قال: فترجع روحُه في جسده، ويبعث الله إلَيه مَلكين شديدي الانتهار، فيجلسانه وينتهرانه، يقولان: من رَبك؟ قال: فيقول: الله. وما دينك؟ قال: الإسلام. قال: فيقولان له: ما هذا الرجل، أو النبيّ، الذي بُعث فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله. قال، فيقولان له: وما يُدْريك؟ قال: فيقول: قرأت كتابَ الله فآمنتُ به وصدّقت! فذلك قول الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (١).
٢٠٧٨١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: نزلت في الميت الذي يُسْأل في قبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
٢٠٧٨٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: في قول الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: بلغنا أن هذه الأمة تُسأل في قبورها، فيثبت الله المؤمنَ حيث يُسْأَل.
٢٠٧٨٣ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
(١) الأثر: ٢٠٧٨٠ - حديث البراء بن عازب، من طريق زاذان عن البراء، كما سلف في التعليق علي: ٢٠٧٥٨، ثم من طريق الأعمش، عن المنهال بن عمرو، كما سلف في التعليق على: ٢٠٧٦٣.
" أبو ربيعة "، " فهد "، متكلم فيه، كما سلف بيانه رقم: ٥٦٢٣، وقد مضى مرارًا آخرها: ١٥٩٠٥.
و" أبو عوانة "، هو " الوضاح بن عبد الله اليشكري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها: ١٧٠١٠.
ومن طريق أبي عوانة، عن الأعمش رواه أبو داود الطيالسي في مسنده مطولا: ١٠٢، وقد سلف ما قلناه في هذا الإسناد في شرح الأثر رقم: ٢٠٧٦٣، وانظر ما سيأتي رقم: ٢٠٧٨٧، بهذا الإسناد نفسه.
601
الحياة الدنيا)، قال: هذا في القبر مُخَاطبته، وفي الآخرة مثل ذلك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يثبت الله الذين آمنوا بالإيمان في الحياة الدنيا، وهو "القول الثابت" = "وفي الآخرة"، المسألةُ في القبر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٨٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)، قال: لا إله إلا الله= (وفي الآخرة)، المسألة في القبر.
٢٠٧٨٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)، أما " الحياة الدنيا" فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وقوله (وفي الآخرة)، أي في القبر.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما ثبتَ به الخبر عن رسول الله ﷺ في ذلك، وهو أنّ معناه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد ﷺ = (وفي الآخرة) بمثل الذي ثبَّتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يُسْألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله: (ويضلُّ الله الظالمين)، فإنه يعني، أن الله لا يوفِّق المنافق والكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند المُسَاءَلة في القبر، (١) لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله ورسوله ﷺ (٢).
* * *
(١) في المطبوعة: " المسألة "، وكتب في رسم المخطوطة: " المسايلة "، وهي صحيحة.
(٢) في المطبوعة قدم وأخر: ، " لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله "، وليست بشيء.
602
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٨٦ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما الكافرُ فتنزل الملائكة إذا حضره الموت، فيبسُطون أيديهم = " والبَسْط"، هو الضرب = يضربون وجوههم وأدبارَهم عند الموت. فإذا أدْخِل قبره أقعد فقيل له: من ربك؟ فلم يرجِع إليهم شيئًا، وأنساه الله ذكر ذلك. وإذا قيل له: من الرسول الذي بُعِث إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليه شيئًا، يقول الله: (ويضل الله الظالمين) (١).
٢٠٧٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا فهْد بن عوف، أبو ربيعة قال، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكَر الكافر حين تُقْبض روحه، قال: فتعاد روحُه في جسده. قال، فيأتيه ملكَان شديدَا الانتهار، فيجلسانه فينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: لا أدري؟ قال فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: لا أدري، قال: فيقال له: ما هذا النبيّ الذي بُعِث فيكم؟ قال: فيقول: سمعت الناس يقولون ذلك، لا أدري. قال، فيقولان: لا دريتَ. قال: وذلك قول الله: (ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء). (٢)
* * *
وقوله: (ويفعل الله ما يشاء)، يعني تعالى ذكره بذلك: وبيدِ الله الهداية والإضلال، فلا تنكروا، أيها الناس، قدرتَه، ولا اهتداءَ من كان منكم ضالا ولا ضلالَ من كان منكم مهتديًا، فإنّ بيده تصريفَ خلقه وتقليبَ قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء.
(١) في المطبوعة: " يقول: ويضل الله الظالمين، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ٢٠٧٨٧ - هذا آخر حديث البراء بن عازب. وانظر التعليق السالف على الأثر: ٢٠٧٨٠.
603
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: ألم تنظر يا محمد (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) يقول: غيروا ما أنعم الله به عليهم من نعمه، فجعلوها كُفرا به، وكان تبديلهم نعمة الله كفرا في نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم الله به على قريش، فأخرجه منهم، وابتعثه فيهم رسولا رحمة لهم، ونعمة منه عليهم، فكفروا به، وكذّبوه، فبدّلوا نعمة الله عليهم به كفرا. وقوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) يقول: وأنزلوا قومهم من مُشركي قريش دار البوار، وهي دار الهلاك، يقال منه: بار الشيء يبور بورا: إذا هلك وبطل؛ ومنه قول ابن الزِّبعرى، وقد قيل إنه لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
يا رَسُولَ الملِيكِ إِنَّ لِسانِي رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (١)
ثم ترجم عن دار البوار، وما هي؟ فقيل (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) يقول: وبئس المستقرّ هي جهنم لمن صلاها. وقيل: إن الذين بدّلوا نعمة الله كفرا: بنو أمية، وبنو مخزوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن سعد، عن عمر بن الخطاب، في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ) قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر؛ وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى حين.
(١) البيت (في اللسان: بور) منسوب إلى عبد الله بن الزبعري السهمي قال: رجل بور، وكذلك الاثنان والجمع والمؤنث، وأنشد البيت شاهدا عليه. وفي سيرة ابن هشام أنشد البيت ونسبه إلى ابن الزبعري، قاله من أبيات حين قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هاربا منه في نجران. والراتق الذي يصلح ما بلي أو تمزق من الثوب، وفتقت يعني ما أحدث في الدين من مقاومة النبي وهجائه بشعره، وهو إثم يشبه الفتق في الثوب، والتوبة رتق له، وبور هالك: يقال رجل بور وبائر، وهو محل الشاهد عند المؤلف، وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن، " دار البوار " أي الهلاك والفناء، ويقال منه بار يبور، ومنه قول عبد الله ابن الزبعرى البيت.
5
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: أخبرنا حمزة الزيات، عن عمرو بن مرّة، قال: قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، هذه الآية (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) ؟ قال: هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى اللَّه لهم إلى حين.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق (١) عن عمرو ذي مرّ، عن عليّ (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: الأفجران من قريش.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مرّ، عن عليّ، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان وشريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مرّ، عن عليّ، قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة، فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعوا إلى حين.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عمرا ذا مرّ، قال: سمعت عليا يقول في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: الأفجران من بني أسد وبني مخزوم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزّة، عن أبي الطفيل، عن عليّ، قال: هم كفار قريش. يعني في قوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزّة، عن أبي الطفيل أنه سمع عليّ بن أبي طالب، وسأله ابن الكوّاء عن هذه الآية (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم كفار قريش يوم بدر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، عن شعبة،
(١) لعله هو عمرو بن مرة، كما في ابن كثير في هذا الأثر.
6
عن القاسم بن أبي بزّة، قال: سمعت أبا الطفيل، قال: سمعت عليا، فذكر نحوه.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن مسلم البطين، عن أبي أرطأة، عن عليّ في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: هم كفَّار قريش، هكذا قال أبو السائب مسلم البطين، عن أبي أرطأة.
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، قال: ثنا إسماعيل بن سميع، عن مسلم بن أرطأة، عن عليّ، في قوله تعالى (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: كفار قريش.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزّة، عن أبي الطفيل، عن عليّ، قال في قول الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم كفار قريش.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزّة، قال: سمعت أبا الطفيل يحدّث، قال: سمعت عليا يقول في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: كفار قريش يوم بدر.
حدثنا الحسن، قال: ثنا الفضل بن دكين، قال: ثنا بسام الصَّيرفيّ، قال: ثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة، ذكر أن عليا قام على المنبر فقال: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكوّاء فقال، من (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) ؟ قال: منافقو قريش.
حدثنا الحسن، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا بسام، عن رجل قد سماه الطنافسيّ، قال: جاء رجل إلى عليّ، فقال: يا أمير المؤمنين: من (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) ؟ قال: في قريش.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا بسام الصيرفيّ، عن أبي الطفيل، عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: منافقو قريش.
7
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عمرو بن دينار، أن ابن عباس قال في قوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم المشركون من أهل بدر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الجبار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، قال: سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: هم والله أهل مكة (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا صالح بن عمر، عن مطرف بن طريف، عن أبى إسحاق قال: سمعت عمرا ذا مرّ يقول: سمعت عليا يقول على المنبر، وتلا هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ). قال: هما الأفجران من قريش، فأما أحدهما فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما الآخر فمُتِّعوا إلى حين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى = وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله (بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: كفار قريش.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن مجاهد، قال: كفار قريش.
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) كفار قريش.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: هم والله (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قريش. أو قال: أهل مكة.
حدثنا ابن وكيع وابن بشار، قالا حدثنا غُنْدر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
8
دَارَ الْبَوَارِ) قال: قتلى يوم بدر.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثني عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم كفار قريش.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن حُصَين، عن أبي مالك وسعيد بن جبير، قالا هم قتلى بدر من المشركين.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس في (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم والله أهل مكة. قال: أبو كريب: قال سفيان: يعني كفارهم.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، في قوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم المشركون من أهل بدر.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحاب عليّ، عن عليّ، في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: هم الأفجران من قريش من بني مخزوم وبني أمية، أما بنو مخزوم فإن الله قطع دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعوا إلى حين.
حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: أخبرنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) قال: هم القادة من المشركين يوم بدر.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك وسعيد بن جبير، قالا هم كفار قريش من قُتل ببدر.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هم كفار قريش، من قُتل ببدر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ
9
اللَّهِ كُفْرًا)... الآية، قال: هم مشركو أهل مكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: أخبرني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هذه الآية في الذين قُتلوا من قريش (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)... الآية.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) كنا نحدّث أنهم أهل مكة: أبو جهل وأصحابه الذين قتلهم الله يوم بدر، قال الله: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ).
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هم قادة المشركين يوم بدر، أحلوا قومهم دار البوار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا).
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: هؤلاء المشركون من أهل بدر. وقال آخرون في ذلك، بما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن ابن عباس، قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا) فهو جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: أحلوا من أطاعهم من قومهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
10
عن ابن عباس (دَارَ الْبَوَارِ) قال: الهلاك. قال ابن جريج، قال مجاهد (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قال: أصحاب بدر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (دَارَ الْبَوَارِ) النار. قال: وقد بَيَّن الله ذلك وأخبرك به، فقال (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ).
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا) هي دارهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء الذين بدّلوا نعمة اللَّه كفرا لربهم أندادا، وهي جماع نِدّ، وقد بيَّنت معنى الندّ، فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته، وإنما أراد أنهم جعلوا لله شركاء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) والأنداد: الشركاء. وقوله (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين (لِيُضِلُّوا) بمعنى: كي يضلوا الناس عن سبيل الله بما فعلوا من ذلك. وقرأته عامَّة قرّاء أهل البصرة: "ليَضَلُّوا" بمعنى: كي يضلّ جاعلو الأنداد لله عن سبيل الله. وقوله (قُلْ تَمَتَّعُوا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم: تمتعوا في الحياة الدنيا وعيدا من الله لهم، لا إباحَة لهم التمتع بها، ولا أمرا على وجه العبادة، ولكن توبيخا وتهددا ووعيدا، وقد بَيَّن ذلك بقوله (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) يقول: استمتعوا في الحياة الدنيا، فإنها سريعة الزوال عنكم، وإلى النار تصيرون عن قريب، فتعلمون هنالك غبّ تمتعكم في الدنيا بمعاصي الله وكفركم فيها به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) }
يقول تعالى ذكره لنبيه ﷺ (قُلْ) يا محمد (لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بك، وصدّقوا أن ما جئتهم به من عندي (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول: قل لهم: فليقيموا الصلوات الخمس المفروضة عليهم بحدودها، ولينفقوا مما رزقناهم، فخوّلناهم من فضلنا سرّا وعلانية، فليؤدّوا ما أوجبت عليهم من الحقوق فيها سرّا وإعلانا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) يقول: لا يقبل فيه فدية وعوض من نفس وجب عليها عقاب الله بما كان منها من معصية ربها في الدنيا، فيقبل منها الفدية، وتترك فلا تعاقب. فسمى الله جل ثناؤه الفدية عوضا، إذ كان أخذ عوض من معتاض منه. وقوله (وَلا خِلالٌ) يقول: وليس، هناك مخالة خليل، فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالته، بل هنالك العدل والقسط، فالخلال مصدر من قول القائل: خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا ومنه قول امرئ القيس:
صرفْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَهِ الرَّدَى وَلَسْتُ بِمَقْلِيَ الخِلالِ ولا قالي (١)
وجزم قوله (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) بتأويل الجزاء، ومعناه: الأمر يراد قل لهم ليقيموا الصلاة.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني الصلوات الخمس (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يقول: زكاة أموالهم.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) قال قتادة: إن الله تبارك وتعالى قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالُّون بها في
(١) البيت لامرئ القيس (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص ٤٠) قال: الردى هنا: الفضيحة، أي لم أنصرف عنهن لأني قليّهن، ولا لأنهن قلينني، ولكن خشية الفضيحة والعار. والخلال هنا: مصدر خاله يخاله خلال ومخالة، بمعنى المصادقة، وبه استشهد المؤلف على هذا المعنى وفي (اللسان: خلل) وقوله تعالى: " لا بيع فيه ولا خلال ": قيل: هو مصدر خالك، وقيل: هو جمع خلة (بضم الخاء) كجلة وجلال، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة: مجازة: مبايعة فدية، ولا مخالة خليل، وله موضع آخر أيضا، تجعله جمع خلة بمنزلة جلة، والجمع: جلال؛ وقلة، والجمع: قلال.
الدنيا، فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فإنها ستنقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (٣٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: الله الذي أنشأ السماوات والأرض من غير شيء أيها الناس، وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت رزقا لكم تأكلونه (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) وهي السفن (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) لكم تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ) ماؤُها شراب لكم، يقول تعالى ذكره: الذي يستحقّ عليكم العبادة وإخلاص الطاعة له، من هذه صفته، لا من لا يقدر على ضرّ ولا نفع لنفسه ولا لغيره من أوثانكم أيها المشركون وآلهتكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى = وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، يعني الزعفرانيّ، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ) قال: بكل بلدة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) ﴾
يقول تعالى ذكره (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) وفعل الأفعال التي وصف (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يتعاقبان عليكم أيها الناس بالليل والنهار، لصلاح أنفسكم ومعاشكم (دَائِبَيْنِ) في اختلافهما عليكم. وقيل: معناه: أنهما دائبان في طاعة الله.
13
حدثنا خلف بن واصل، عن رجل، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) قال: دءوبهما في طاعة الله.
وقوله (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) يختلفان عليكم باعتقاب، إذا ذهب هذا جاء هذا بمنافعكم وصلاح أسبابكم، فهذا لكم لتصرّفكم فيه لمعاشكم، وهذا لكم للسكن تسكنون فيه، ورحمة منه بكم.
14
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كل شيء سألتموه، ورغبتم إليه شيئا، وحذف الشيء الثاني اكتفاء بما التي أضيفت إليها كلّ، وإنما جاز حذفه، لأن من تُبعِّض ما بعدها، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول، فلذلك جاز حذفه، ومثله قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يعني به: وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا، وقد قيل: إن ذلك إنما قيل على التكثير، نحو قول القائل: فلان يعلم كل شيء، وأتاه كل الناس، وهو يعني بعضهم، وكذلك قوله (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ). وقيل أيضا: إنه ليس شيء إلا وقد سأله بعض الناس، فقيل (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي قد أتى بعضكم منه شيئا، وأتى آخر شيئا مما قد سأله. وهذا قول بعض نحويّي أهل البصرة.
وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول: معناه: وآتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه، كأنه قيل: وآتاكم من كلّ سؤلكم، وقال: ألا ترى أنك تقول للرجل، لم يسألك شيئا: والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك، وإن لم يسأل.
فأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه.
14
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) ورغبتم إليه فيه.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) قال: من كلّ الذي سألتموه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا خلف، يعني ابن هشام، قال: ثنا محبوب، عن داود بن أبي هند، عن رُكانة بن هاشم (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) وقال: ما سألتموه وما لم تسألوه.
وقرأ ذلك آخرون "وآتاكُمْ مِنْ كُلٍّ ما سألْتُمُوهُ" بتنوين كلّ وترك إضافتها إلى "ما" بمعنى: وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه، وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار. وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حُصَين، عبد الله بن أحمد بن يونُس، قال: ثنا بَزِيع، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الآية: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" قال: ما لم تسألوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك أنه كان يقرأ: "مِنْ كُلَّ ما سألْتُمُوه" ويفسره: أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها، ولكن أعطيتكم برحمتي وسعتي. قال الضحاك: فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه ولا طلبناه.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد
15
بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" يقول: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" قال: لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم.
والصواب من القول في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وذلك إضافة "كلّ " إلى "ما" بمعنى: وآتاكم من سؤلكم شيئا. على ما قد بيَّنا قبل، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها. (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) يقول: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم: يقول: لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه، وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله، وذلك هو ظلمه، وقوله (كَفَّارٌ) يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا مِسْعَر، عن سعد بن إبراهيم، عن طلق بن حبيب، قال: إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيَها العباد، ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) ﴾
16
يقول تعالى ذكره: (و) اذكر يا محمد (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) يعني الحَرَم، بلدا آمنا أهله وسكانه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) يقال منه: جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنَّبته الشر، فأنا أجَنِّبُه تجنيبا، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبه إجنابا، ومن جَنَبْتُ قول الشاعر:
وَتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقا عَلَيْه وَتَجْنِبُهُ قَلائِصَنا الصِّعابَا (١)
ومعنى ذلك: أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام، والأصنام: جمع صنم، والصنم: هو التمثال المصوّر، كما قال رُؤبة بن العجَّاج في صفة امرأة:
وَهْنانَةٌ كالزُّونِ يُجْلَى صَنَمُهْ تَضْحَكُ عن أشْنَبَ عَذْبٍ مَلْثَمُهْ (٢)
وكذلك كان مجاهد يقول: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده، قال: فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته. والصنم: التمثال المصوّر، ما لم يكن صنما فهو وثَن، قال: واستجاب الله له، وجعل هذا البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات، وجعله إماما، وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاة، وتقبَّل دعاءه، فأراه مناسِكَة، وتاب عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم، حين يقول: ربّ (اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ).
وقوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) يقول: يا ربّ إن الأصنام
(١) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٤٢) قال: جنبت الرجل الأمر، وهو يجنب أخاه الشر، وجنبته (بتشديد النون) واحد، وأنشد البيت، وشدده ذو الرمة فقال:
وشعر قد أرقت له بليل أجنبه المساند والمحالا
يريد أن المرأة تشفق على طفلها، فتنفض فراشه خوفا عليه مما يؤذيه، ولا تركب به النوق الفتية، وهي القلائص، لأن نشاطها في السير يؤذيه، وقال الفراء في معاني القرآن، (الورقة ١٦٤) أهل الحجاز يقولون: جنبني، خفيفة، وأهل نجد يقولون: أجنبني شره، وجنبني شره.
(٢) البيت لرؤبة من. أرجوزة له مطلعها: " قلت لزير لم تصله مريمة "، وقوله " وهنانة ": صفة لأروى في البيت قبله وهو: " إذا حب أروى همه وسدمه ". والزون: الصنم. وملثمة: مقبلة. وقد شبه أروى بالصنم المجلو في البهاء والحسن. والوهنانة كما في اللسان: الكسل عن العمل تنعما. قال أبو عبيدة: الوهنانة التي فيها فترة.
17
أضللن: يقول: أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحق حتى عبدوهنّ، وكفروا بك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) يعني الأوثان.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) قال: الأصنام.
وقوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنَّتِي، وعامل بمثل عملي (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين، وكان يقال: إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
حدثني المثنى، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: أخبرني ابن وهب، قال: ثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سؤادة، حَدثه عن عبد الرحمن بن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله ﷺ تلا قول إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه ثم قال: اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي، وبكى، فقال اللَّه تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فاسأله ما يُبكيه؟ فأتاه جبرئيل فسأله، فأخبره رسول الله ﷺ ما قال، قال: فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
18
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) }
وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجَرَ -فيما ذُكِر- مكة.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسن بن محمد قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، قال: نبئت عن سعيد بن جبير، أنه حدث عن ابن عباس، قال: إنّ أوّل من سَعى بين الصَّفا والمروة لأمُّ إسماعيل، وإن أوّل ما أحدث نساء العرب جرّ الذيول لمن أمّ إسماعيل، قال: لما فرّت من سارة، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت، فوضعهما ثم رجع، فاتبعته، فقالت: إلى أيِّ شيء تكلنا؟ إلى طعام تكلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ فجعل لا يردّ عليها شيئا، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. قال: فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَدَاء، أقبل على الوادي فدعا، فقال (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) قال: ومع الإنسانة شَنَّة فيها ماء، فنفِد الماء فعطشت وانقطع لبنها، فعطش الصبيّ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض، فصَعِدت بالصفا، فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا؟ فلم تسمع، فانحدرت، فلما أتت على الوادي سعت وما تريد السعي، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض، فصَعِدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتا، أو ترى أنيسا، فسمعت صوتا، فقالت كالإنسان الذي يكذّب سمعه: صه، حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني، فقد هلكتُ وهلك من معي، فجاء المَلك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه ففارت عينا، فعجلت الإنسانة فجعلت في شَنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْماعيلَ لَوْلا أنَّها
19
عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنا مَعِينا (١) ". وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنما هي عين لشرب ضِيفان الله، وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه، قال: ومرّت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا الطير على الجبل، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة، فأتوها فطلبوا إليها أن ينزلوا معها، فأذنت لهم، قال: وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت، فماتت، وتزوج إسماعيل امرأة منهم، فجاء إبراهيم فسأل عن منزل إسماعيل حتى دُل عليه، فلم يجده، ووجد امرأة له فظة غليظة، فقال لها: إذا جاء زوجك فقولي له: جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا، وإنه يقول لك: إني لا أرضى لك عَتَبة بابك فحوِّلها، وانطلق، فلما جاء إسماعيل أخبرته، فقال: ذلك أبي وأنت عتبة بأبي، فطلقها وتزوّج امرأة أخرى منهم، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأة له سهلة طليقة، فقال لها: أين انطلق زوجك؟ فقالت: انطلق إلى الصيد، قال: فما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: اللهمّ بارك لهم في لحمهم ومائهم، اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم ثلاثا، وقال لها: إذا جاء زوجك فأخبريه، قولي: جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا، وإنه يقول لك: قد رضيت لك عتبة بابك، فأثبتها، فلما جاء إسماعيل أخبرته. قال: ثم جاء الثالثة، فرفعا القواعد من البيت.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء نبيّ الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر، فوضعهما بمكة في موضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم إنما أسألك ثلاث مرات: من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضَرْع ولا زرع، ولا أنيس، ولا زاد ولا ماء؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنه لن يضيِّعنا قال: فلما قفا إبراهيم قال (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) يعني من الحزن (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا
(١) معينا: جارية سائحة على وجه الأرض.
20
فِي السَّمَاءِ). فلما ظمئ إسماعيل جعل يَدْحَض الأرض بعقبه، فذهبت هاجر حتى علت الصفا، والوادي يومئذ لاخ، يعني عميق، فصعدت الصفا، فأشرفت لتنظر هل ترى شيئا؟ فلم تر شيئا، فانحدرت فبلغت الوادي، فسعت فيه حتى خرجت منه، فأتت المروة، فصعدت فاستشرفت هل ترى شيئا، فلم تر شيئا. ففعلت ذلك سبع مرّات، ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل، وهو يَدْحَض الأرض بعقبه، وقد نبعت العين وهي زمزم. فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، فكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها، وأفرغته في سقائها. قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُها اللهُ لَوْ تَرَكَتْها لَكانَتْ عَيْنا سائِحَةً تَجْرِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ". قال: وكانت جُرهُمُ يومئذ بواد قريب من مكة، قال: ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجرَ، فقالوا: إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم. فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل، وماتت هاجر فتزوّج إسماعيل امرأة منهم، قال: فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي، هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس ههنا ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد ثم يرجع، فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة، هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي، وما عندي أحد. فقال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه! وذهب إبراهيم، وجاء إسماعيل، فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: جاءني شيخ كذا وكذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يصيد، وهو يجيء الآن إن شاء الله، فأنزل يرحمك الله قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: هل عندك خبز أو بر أو تمر أو شعير؟ قالت: لا. فجاءت باللبن واللحم، فدعا لهما بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، فقالت له: أنزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حوّلت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شقه الأيسر، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: نعم، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا، فقال لي كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، وغسلتُ رأسه، وهذا موضع قدمه على المقام. قال: وما قال لك؟ قالت: قال لي: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، قال: ذاك إبراهيم، فلبث ما شاء الله أن يلبث، وأمره الله ببناء البيت، فبناه هو وإسماعيل، فلما بنياه قيل: أذن في الناس بالحجّ، فجعل لا يمرّ بقوم إلا قال: أيها الناس إنه قد بني لكم بيت فحجوه، فجعل لا يسمعه أحد، صخرة ولا شجرة ولا شيء، إلا قال: لبيك اللهم لبيك. قال: وكان بين قوله (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وبين قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) كذا وكذا عاما، لم يحفظ عطاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وإنه بيت طهَّره الله من السُّوء، وجعله قبلة، وجعله حَرَمه، اختاره نبيّ الله إبراهيم لولده.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) قال: مكة لم يكن بها زرع يومئذ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن كثير، قال القاسم في حديثه: قال: أخبرني عمرو بن كثير "قال أبو جعفر": فغيرته أنا فجعلته: قال أخبرني ابن كثير، وأسقطت عمرا، لأني لا أعرف إنسانًا يقال له عمرو بن كثير حدّث عنه ابن جريج، وقد حدَّث به معمر عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، وأخشى أن يكون حديث
21
ابن جريج أيضا عن كثير بن كثير، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلا فقال سعيد بن جبير للقوم: سلوني قبل ألا تسألوني، فسأله القوم فأكثروا، وكان فيما سُئل عنه أن قيل له: أحقّ ما سمعنا في المقام، فقال سعيد: ماذا سمعتم؟ قالوا: سمعنا أن إبراهيم رسول الله حين جاء من الشام، كان حلف لامرأته أن لا ينزل مكة حتى يرجع، فقرب له المقام، فنزل عليه، فقال سعيد: ليس كذاك: حدثنا ابن عباس، ولكنه حدثنا حين كان بين أم إسماعيل وسارة ما كان أقبل بإسماعيل، ثم ذكر مثل حديث أيوب غير أنه زاد في حديثه، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: طَلَبُوا النزولَ مَعَهَا وَقَدْ أَحَبَّتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ الأنْسَ، فَنزلُوا وبَعَثَوُا إلى أَهْلِهِمْ فَقَدِمُوا، وَطَعَامُهُمُ الصَّيْدُ، يَخْرُجُونَ مِنَ الحَرَمِ وَيخْرُجُ إِسْمَاعِيلُ مَعَهُمْ يَتَصَيَّدُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَنْكَحُوهُ، وَقَدْ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ قَبْلَ ذَلكَ". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا دَعا لَهُما أنْ يُبَارِكَ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ والماء، قال لَهَا هَلْ منْ حَبٍّ أوْ غيرِهِ منَ الطَّعامِ؟ قالَتْ: لا وَلَوْ وَجَدَ يَوْمَئذٍ لَهَا حَبًّا لَدَعا لَهَا بالبَركَةِ فيهِ". قال ابن عباس: ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، ثم جاء فوجد إسماعيل قاعدا تحت دَوْحة إلى ناحية البئر يبرى نبلا له، فسلم عليه ونزل إليه، فقعد معه وقال: يا إسماعيل، إن الله قد أمرني بأمر، قال إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، قال إبراهيم: أمرني أن أبني له بيتا، قال إسماعيل: ابنِ، قال ابن عباس: فأشار له إبراهيم إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من نواحيها، ولا يركبها. قال: فقاما يحفران عن القواعد يرفعانها ويقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ إبراهيم يبني. فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله، قرب إليه إسماعيل هذا الحجَر، فجعل يقوم عليه ويبني، ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى، يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم وقيامه عليه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) قال: أسكن إسماعيل وأمه مكة.
23
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) قال: حين وضع إسماعيل.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: ربنا إني أسكنت بعض ولدي بواد غير ذي زرع. وفي قوله ﷺ دليل على أنه لم يكن هنالك يومئذ ماء، لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرّمته على جميع خلقك أن يستحلوه.
وكان تحريمه إياه فيما ذكر كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: إن هذا البيت أوّل من وليه أناس من طسْم، فعصوا ربهم واستحلوا حرمته، واستخفوا بحقه، فأهلكهم الله. ثم وليهم أناس من جُرهم فَعصوا ربهم واستحلوا حرمته واستخفوا بحقه، فأهلكهم الله. ثم وليتموه معاشر قريش، فلا تعصوا ربه، ولا تستحلوا حرمته، ولا تستخفوا بحقه، فوالله لصلاة فيه أحبّ إليّ من مئة صلاة بغيره، واعلموا أن المعاصي فيه على نحو من ذلك. وقال (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) ولم يأت بما وقع عليه الفعل، وذلك أن حظّ الكلام أن يقال: إني أسكنت من ذريتي جماعة، أو رجلا أو قوما، وذلك غير (١) جائز مع "من" لدلالتها على المراد من الكلام، والعرب تفعل ذلك معها كثيرا، فتقول: قتلنا من بني فلان، وطعمنا من الكلأ وشربنا من الماء، ومنه قول الله تعالى (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
فإن قال قائل: وكيف قال إبراهيم حين أسكن ابنه مكة (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وقد رويت في الأخبار التي ذكرتها أن إبراهيم بنى البيت بعد ذلك بمدة. قيل: قد قيل في ذلك أقوال قد ذكرتها في سورة البقرة، منها أن معناه: عند بيتك المحرّم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حين رفعته أيام الطوفان، ومنها عند بيتك المحرم من استحلال حرمات الله فيه، والاستخفاف بحقه. وقوله (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول: فعلت ذلك
(١) يريد أن من إذا كان معناها التبعيض. كما في الآية، لم يجز ذكر المفعول بعدها، لأنها حينئذ بمعنى المفعول، أي أسكنت بعض ذريتي بواد غير ذي زرع.
24
يا ربنا كي تؤدّى فرائضك من الصلاة التي أوجبتها عليهم في بيتك المحرّم. وقوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) يخبر بذلك تعالى ذكره عن خليله إبراهيم أنه سأله في دعائه أن يجعل قلوب بعض خلقه تنزع إلى مساكن ذريته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرَّم. وذلك منه دعاء لهم بأن يرزقهم حج بيته الحرام.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ولو قال أفئدة الناس تهوي إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: أفئدة من الناس تهوي إليهم فهم المسلمون.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: لو كانت أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم، ولكنه أفئدة من الناس.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: لو قال: أفئدة الناس تهوي إليهم، لازدحمت عليهم فارس والروم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، يعني ابن الجعد، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سألت عكرمة عن هذه الآية (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) فقال: قلوبهم تهوي إلى البيت.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة،
25
عن الحكم، عن عكرمة وعطاء وطاوس (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا سعيد، عن الحكم، قال: سألت عطاء وطاوسا وعكرمة، عن قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قالوا: الحج.
حدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة وعليّ بن الجعد، قالا أخبرنا سعيد، عن الحكم، عن عطاء وطاوس وعكرمة في قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: هواهم إلى مكة أن يحجوا.
حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سألت طاوسا وعكرمة وعطاء بن أبي رباح، عن قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) فقالوا: اجعل هواهم الحجّ.
حدثنا الحسن، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو كان إبراهيم قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجه اليهود والنصارى والناس كلهم، ولكنه قال (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: تنزع إليهم.
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قالا أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: إنما دعا لهم أن يهووا السكنى بمكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: إن إبراهيم خليل الرحمن سأل الله أن يجعل أناسا من الناس يَهْوون سكنى أو سَكْن مكة.
وقوله (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) يقول تعالى ذكره: وارزقهم من ثمرات النبات والأشجار ما رزقت سكان الأرياف والقرى التي هي ذوات المياه والأنهار، وإن كنت أسكنتهم واديا غير ذي زرع ولا ماء. فرزقهم جلّ ثناؤه ذلك.
كما حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: قرأت على محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) نقل
26
الله الطائف من فلسطين.
وقوله (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يقول: ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (٣٨) ﴾
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه وقيله (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)... الآية، وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له، فقال: ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا، وما نعلن من دعائنا، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد، لأنك مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩) ﴾
يقول: الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) يقول: إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به، وقولي (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن مرّة، قال: سمعت شيخا يحدّث سعيد بن جبير، قال: بُشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومئة سنة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) ﴾
يقول: ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يقول: واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك. (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) يقول: ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك. وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العبادَةُ" ثم قرأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١) ﴾
وهذا دعاء من إبراهيم صلوات الله عليه لوالديه بالمغفرة، واستغفار منه لهما. وقد أخبر الله عز ذكره أنه لم يكن (اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
وقد بيَّنا وقت تبرّئه منه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وقوله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك في أمرك ونهيك. وقوله (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) يعني: يقوم الناس للحساب، فاكتفى بذكر الحساب من ذكر الناس، إذ كان مفهوما معناه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (٤٢) ﴾
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ) يا محمد (غَافِلا) ساهيا (عَمَّا يَعْمَلُ) هؤلاء المشركون من قومك، بل هو عالم بهم وبأعمالهم محصيًا عليهم، ليجزيهم جزاءهم في الحين الذي قد سبق في علمه أن يجزيهم فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عليّ بن ثابت، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران في قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ
28
الظَّالِمُونَ) قال: هي وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذّبونك ويجحَدون نبوّتك، ليوم تشخص فيه الأبصار. يقول: إنما يؤخِّر عقابهم وإنزال العذاب بهم، إلى يوم تشخص فيه أبصار الخلق، وذلك يوم القيامة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) شخصت فيه والله أبصارهم، فلا ترتدّ إليهم.
وأما قوله (مُهْطِعِينَ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: مسرعين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدّب، عن سالم، عن سعيد بن جبير (مُهْطِعِينَ) قال: النَّسَلان، وهو الخبب، أو ما دون الخبب، شكّ أبو سعيد، يخبون وهم ينظرون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُهْطِعِينَ) قال: مسرعين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مُهْطِعِينَ) يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون: معنى ذلك: مديمي النظر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مُهْطِعِينَ) يعني بالإهطاع: النظر من غير أن يطرف.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى (مُهْطِعِينَ) فقيل: الإهطاع: التحميج الدائم الذي لا يَطْرَف.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم بن حَدْلَم، عن أبيه، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال:
29
الإهطاع: التحميج.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك (مُهْطِعِينَ) قال: شدة النظر الذي لا يطرف.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو، قال: أخبرنا هُشَيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال: شدة النظر في غير طَرْف.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مُهْطِعِينَ) الإهطاع: شدة النظر في غير طَرْف.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مُهْطِعِينَ) قال: مُديمي النظر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يرفع رأسه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال: المهطع الذي لا يرفع رأسه. والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه: بمعنى إدامة النظر، ومن الإهطاع بمعنى الإسراع، قول الشاعر:
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ زِمامَهُ في رأسِ جذْعٍ مِنْ أوَال مُشَدَّبِ (١)
(١) البيت أنشده ابن بري في (اللسان: أول. ونسبه لأنيف بن جبلة. وروايته فيه:
أمَّا إذا اسْتَقْبَلْتَهُ فَكأنَّهُ للْعَيْنِ جِذْعٌ مِنْ أوَالَ مُشَدَّبُ
وفي معجم ما استعجم للبكري: أول قرية بالبحرين، وقيل جزيرة، فإن كانت قرية فهي من قرى السيف (بكسر السين) يشهد لذلك قول ابن مقبل، وكأنها سفن بسيف أوال. والمهطع: (كما في اللسان) الذي يديم النظر مع فتح العينين. وقيل: الذي يقبل على الشيء ببصره، فلا يرفعه عنه. والمهطع أيضا: المسرع الخائف، لا يكون إلا مع خوف. وقد فسر بالوجهين جميعا قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع) أهـ. وقال في سرح: خيل سرح، ناقة سرح في سيرها: أي سريعة، وأورده المؤلف وأبو عبيدة في مجاز القرآن (١ - ٣٤٢) شاهدا على أن المهطع: المسرع.
30
وقول الآخر:
بمُسْتَهطعٍ رَسْلٍ كأنَّ جَدِيلَهُ بقَيْدُومِ رَعْنٍ مِنْ صَوَامٍ مُمَنَّعُ (١)
وقوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) يعني رافعي رءوسهم. وإقناع الرأس: رفعه، ومنه قول الشماخ:
يُباكِرْنَ العِضَاةَ بمُقْنَعاتٍ نَوَاجِذُهُنَّ كالحِدَإِ الوَقيعِ (٢)
يعني: أنهنّ يباكرن العضاة برؤسهن مرفوعات إليها لتتناول منها، ومنه أيضا قول الراجز:
أنْغَضَ نحْوِي رأسَهُ وأقْنَعا كأنمَا أبْصَرَ شيْئا أطْمَعا (٣)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال:
(١) أورده صاحب أساس البلاغة (هطع) قال: وهو في صفة ثور، وممتع: بالتاء: أي طويل، من الماتع. وفيه " رضام، في محل: صوام. وفي (اللسان: قدم) قال: وقيدوم الجبل: أنف يتقدم منه، وأنشد البيت وقال: صوام (كسحاب) اسم جبل. وقيدوم كل شيء: مقدمه وصدره. والمتهطع: كالمهطع، وهو المسرع، ورسل: سهل فيه لين. والجديل: حبل مفتول من أدم أو شعر، يكون في عنق البعير أو الناقة، والجمع: جدل. والجديل أيضا: الزمام المجدول من أدم. والرعن: أنف الجبل، وصوام (كسحاب) : جبل قاله البكري وصاحب اللسان والممنع بالنون: المرتفع الذي لا يرتقي. وفي مجاز القرآن: الرسل: الذي لا يكلفك شيئا. بقيدوم: قدام. ورعن الجبل: أنفه، وصؤام (بضم الصاد وهمز الواو) لم أجده كذلك، وإنما هو صوام، بفتح الصاد وبالواو، بوزن سحاب.
(٢) البيت للشماخ بن ضرار (ديوانه ص ٥٦) والرواية فيه: يبادرن في موضع يباكرن، وهما بمعنى. قال شارحه: يبادرن من المبادرة، والعضاه: جمع عضاهة. وهي أعظم الشجر. والمقنعات: جمع مقنع: يريد أفواه الإبل. والنواجذ: أقصى الأضراس. والحدأ: جمع حدأة، وهي فأس ذات رأسين. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن: (١ - ٣٤٣) في تفسير " مقنعي رءوسهم " مجازه: رافعي رءوسهم. وأنشد بيت الشماخ ثم قال: أي برءوس مرفوعة إلى العضاه، ليتناولن منه. والعضاه: كل شجرة ذات شوك. ونواجذهن: أضراسهن والحدأ: الفأس، وأراد الذي ليس له خلف، وجمعها: حدأ. والوقيع المرققة المحددة، يقال: وقع حديدتك. والمطرقة يقال لها ميقعة. وفي (اللسان: حدأ) : الحدأ: شبه فاس تنقر به الحجارة، وهو محدد الطرف. والحدأة: الفأس ذات الرأسين، والجمع حدأ، كقصبة وقصب، وقال: شبه أسنانها بفئوس قد حددت.
(٣) أنغض رأسه: حركة كالمتعب. وأقنعه: رفعه. يقول: هز رأسه نحوي، ورفعه يتأملني كما يتأمل شيئا فيه مطمع له. وهو كالذي قبله شاهد على أن الإقناع: هو الرفع.
31
الإقناع: رفع رءوسهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحسين بن محمد، قال: ثنا ورقاء، وقال الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعيها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن أبي سعد، قال: قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، أنه سمع مجاهدا يقول في قوله (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافع رأسه هكذا، (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر عن الضحاك، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: الإقناع رفع رءوسهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعيها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: المقنع الذي يرفع رأسه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد، عن سالم، عن سعيد (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
وقوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) يقول: لا ترجع إليهم لشدّة النظر أبصارهم.
32
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: شاخصة أبصارهم.
وقوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: متخرقه لا تعي من الخير شيئا.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرّة، في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: متخرقة لا تعي شيئا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مالك بن مغول، عن أبي إسحاق، عن مرّة بمثل ذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرّة (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: متخرقة لا تعي شيئا من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا مالك، يعني ابن مغول، قال: سمعت أبا إسحاق، عن مرّة إلا أنه قال: لا تعي شيئا. ولم يقل من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مالك بن مغول، وإسرائيل عن أبي إسحاق، عن مرّة (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال أحدهما: خربه، وقال الآخر: متخرقة لا تعي شيئا.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة.
33
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ليس من الخير شيء في أفئدتهم، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنما هو هواء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: الأفئدة: القلوب هواء كما قال الله، ليس فيها عقل ولا منفعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي بكرة، عن أبي صالح (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: ليس فيها شيء من الخير.
وقال آخرون: إنها لا تستقرّ في مكان تردّد في أجوافهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقرّ فيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد، عن سالم، عن سعيد بنحوه.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها خرجت من أماكنها فنشبت بالحلوق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق عن أبي الضحى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: قد بلغت حناجرهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: هواء ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أمكنتها.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: أنها خالية ليس فيها شيء من الخير، ولا تعقل شيئا، وذلك أن العرب تسمي
34
كلّ أجوف خاو: هواء، ومنه قول حسَّان بن ثابت:
ألا أبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنّي فأنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ (١)
ومنه قول الآخر:
وَلا تَكُ مِنْ أخْدانِ كُلّ بِراعةٍ هَوَاءٍ كَسَقْبِ البانِ جُوفٍ مَكاسِرُهْ (٢)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ (٤٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأنذر يا محمد الناس الذين أرسلتك إليهم داعيا إلى الإسلام ما هو نازل بهم، يوم يأتيهم عذاب الله في القيامة. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول: فيقول الذين كفروا بربهم، فظلموا بذلك أنفسهم (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أي أخِّر عنا عذابك، وأمهلنا (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ) الحقّ، فنؤمن بك، ولا نشرك بك شيئا، (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) يقولون: ونصدّق رسلك فنتبعهم على ما دعوتنا إليه من طاعتك واتباع أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ)
(١) البيت لحسان، كما في الديوان ص ٧، وأبو سفيان: هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي ﷺ وكان يهجو النبي قبل أن يسلم، والمجوف: الخالي الجوف، يريد به الجبان، وكذلك النخب والهواء، وقال في اللسان: النخب: الجبان، كأنه منتزع الفؤاد، أي لا فؤاد له. وقال في هوى: والهواء والخواء واحد. وأورد البيت كرواية المؤلف.
(٢) البيت في (اللسان: يرع) كرواية المؤلف. ونسبه ابن بري لكعب الأمثال (؟) وقال قبله: البراعة والبراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب أهـ: أي على التشبيه بالقصب الأجوف، والهواء: الجبان المنتزع الفؤاد. والبان: شجر يسمو ويطول في استواء وليس لخشبة صلابة، والسقب: عمود الخباء، وإذا اتخذ من شجر البان فإنه لا يحتمل لقلة صلابته، وجوف جمع أجوف، والمكاسر: مواضع الكسر، أي إذا كسر بان أنه أجوف ضعيف الاحتمال.
35
قال: يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال: مدّة يعملون فيها من الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) يقول: أنذرهم في الدنيا قبل أن يأتيهم العذاب.
وقوله (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) رفع عطفا على قوله (يَأْتِيهِمُ) في قوله (يَأْتِيهِمُ العَذَابُ) وليس بجواب للأمر، ولو كان جوابا لقوله (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) جاز فيه الرفع والنصب. أما النصب فكما قال الشاعر:
يا نَاقَ سِيرِي عَنقَا فَسِيحا إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحا (١)
والرفع على الاستئناف. وذُكر عن العلاء بن سيابة أنه كان ينكر النصب في جواب الأمر بالفاء، قال الفراء: وكان العلاء هو الذي علَّم معاذا وأصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤) ﴾
وهذا تقريع من الله تعالى ذكره للمشركين من قريش، بعد أن دخلوا النار بإنكارهم في الدنيا البعث بعد الموت، يقول لهم: إذ سألوه رفع العذاب عنهم، وتأخيرهم لينيبوا ويتوبوا (أَوَلَمْ تَكُونُوا) في الدنيا (أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) يقول: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وإنكم إنما تموتون، ثم لا تبعثون.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
(١) هذا البيت من شواهد النحويين وهو لأبي النجم العجلي يخاطب ناقته في سيره إلى سليمان بن عبد الملك. وناق: منادي مرخم، أي يا ناقة، وعنقا: منصوب على أنه نائب عن المصدر، أي صفة مصدر محذوف، أي سيراد عنقا، وهو ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مسيطر، قال أبو النجم... وأنشد البيت، والفسيح: الواسع. نعت. والشاهد في " فنستريحا " حيث نصب، لأنه جواب الأمر بالفاء، وهذا بلا خلاف إلا ما نقل عن العلاء بن سيابة، أنه كان لا يجيز ذلك، وهو محجوج به. (انظر فرائد القلائد للعيني: باب إعراب الفعل). وقال الفراء في معاني القرآن: (الورقة ١٦٤)، وقوله " يأتيهم العذاب فيقول ": رفع، تابع ليأتيهم، وليس بجواب الأمر، ولو كان جوابا لجاز نسبه ورفعه، كما قال الشاعر: يا ناق.... البيت. والرفع عن الاستئناف والأتناف بالفاء في جواب الأمر حسن. وكان شيخ لنا يقال له العلاء بن سيابة، وهو الذي علم معاذا الهراء وأصحابه، يقول: لا أنصب بالأمر.
36
أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى). ثم قال (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) قال: الانتقال من الدنيا إلى الآخرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سلمة، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) قال: لا تموتون لقريش.
حدثني القاسم، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الحكم، عن عمرو بن أبي ليلى أحد بني عامر، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني، أو ذُكر لي أن أهل النار ينادون (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فردّ عليهم (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)... إلى قوله (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (٤٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وسكنتم في الدنيا في مساكن الذين كفروا بالله، فظلموا بذلك أنفسهم من الأمم التي كانت قبلكم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) يقول: وعلمتم كيف أهلكناهم حين عتوا على ربهم وتمادوا في طغيانهم وكفرهم (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) يقول: ومثَّلنا لكم فيما كنتم عليه من الشرك بالله مقيمين الأشباه، فلم تنيبوا ولم تتوبوا من كفركم، فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم ما قد نزل بكم من العذاب، إن ذلك غير كائن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يقول: سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود، وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم.
(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) قد والله بعث رسله، وأنزل كتبه، ضرب لكم الأمثال، فلا يصم فيها إلا أصمّ، ولا يخيب فيها إلا الخائب، فاعقلوا عن الله أمره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) قال: سكنوا في قراهم مدين والحجر والقرى التي عذب الله أهلها، وتبين لكم كيف فعل الله بهم، وضرب لهم الأمثال.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قوله (الأمْثَالَ) قال: الأشباه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم، مكرهم. وكان مكرهم الذي مكروا ما:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبان (١) قال: سمعت عليا يقرأ: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: كان ملك فره (٢) أخذ فروخ النسور، فعلفها اللحم حتى شبَّت واستعلجت واستغلظت. فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور، وعلقوا اللحم فوق التابوت، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت، فقال لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى الجبال
(١) سيأتي (ص ٣٤٥) أن اسمه عبد الرحمن بن دانيل، وقد نقل هذا الاسم القرطبي في تفسيره (٩: ٣٨٠) ولم أجده في أسماء الرواة، ولعل لفظتي " أبان، وواصل " هنا تحريف عن " دانيل ".
(٢) الفره: البطر الأشر. المتمادي في غيه.
38
مثل الدخان، قالا ما ترى؟ قال: ما أرى شيئا، قال: ويحك صوّب صوّب، قال: فذلك قوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن واصل (١) عن عليّ بن أبي طالب، مثل حديث يحيى بن سعيد، وزاد فيه: وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن واصل (٢) أن عليا قال في هذه الآية: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما، ثم استغلظا واستعلجا وشبَّا، قال: فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوّعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت، قال: ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم، قال: فطارا، وجعل يقول لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب، فقال: صوّب العصا، فصوّبها فهبطا، قال: فهو قول الله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال أبو إسحاق: وكذلك في قراءة عبد الله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " مكر فارس. وزعم أن بختنصر خرج بنسور، وجعل له تابوتا يدخله، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها. أراه قال: فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها، فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق: ثم سمع الصوت فوقه، فصوّب الرماح، فتصوّبت النسور، ففزعت الجبال من هدّتها، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك، فذلك قوله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ "
(١) تقدمت الإشارة إليه في (ص ٢٤٤).
(٢) تقدمت الإشارة إليه في (ص ٢٤٤).
39
كذا قرأها مجاهد "كَادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ" وقال: إن بعض من مضى جوّع نسورا، ثم جعل عليها تابوتا فدخله، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم، فجعلت ترى اللحم فتذهب، حتى انتهى بصره، فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟ فصوّب الرماح، فتصوّبت النسور، ففزعت الجبال، وظنت أن الساعة قد قامت، فكادت أن تزول، فذلك قوله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يقرأ " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، أنه كان يقرأ على نحو: "لَتَزُولُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن دانيل (١) قال: سمعت عليا يقول: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن دانيل (٢) قال: سمعت عليا يقول: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال: نزلت في جبَّار من الجبابرة قال: لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت، وذكر مثل حديث شعبة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود الحضرمي، عن يعقوب، عن حفص بن حميد أو جعفر، عن سعيد بن جبير: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: نمرود صاحب النسور، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل، فلما صعد قال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: أرى الماء وجزيرة -يعني الدنيا- ثم صعد فقال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: ما نزداد من السماء إلا بعدا، قال: اهبط -وقال غيره: نودي- أيها الطاغية أين تريد؟ قال: فسمعت الجبال حفيف النسور، فكانت ترى أنها أمر من السماء، فكادت
(١) تقدمت الإشارة إليه في (ص ٢٤٤).
(٢) تقدمت الإشارة إليه في (ص ٢٤٤).
40
تزول، فهو قوله: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، أن أنسا كان يقرأ: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
وقال آخرون: كان مكرهم: شركهم بالله، وافتراؤهم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس" وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "يقول: شركهم، كقوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ).
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: هو كقوله (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا).
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) ثم ذكر مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن الحسن كان يقول: كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال، يصفهم بذلك. قال قتادة: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "، وكان قتادة يقول عند ذلك (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) أي لكلامهم ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال ذلك حين دعوا لله ولدا. وقال في آية أخرى (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا).
حُدِثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) في حرف ابن مسعود: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " هو مثل قوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا).
41
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأه الكسائي: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرا ذلك: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم، بمعنى: اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال، أو كادت تزول منه، وكان الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل عن مجاهد، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " برفع تزول.
حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه.
والصواب من القراءة عندنا، قراءة من قرأه (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وإنما قلنا: ذلك هو الصواب، لأن اللام الأولى إذا فُتحت، فمعنى الكلام: وقد كان مكرهم تزول منه الجبال، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره.
فإن ظنّ ظانٌّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ " بالدال، وهي إذا قرئت كذلك، فالصحيح من القراءة مع " وَإِنْ كادَ " فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا، وغير جائز عندنا القراءة كذلك، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك، وإنما خطَّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال، وإذ كانت كذلك، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم.
وبنحو ما قلنا في معنى (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
42
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن يونس وعمرو، عن الحسن (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) قالا وكان الحسن يقول: وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
- قال: قال هارون: وأخبرني يونس، عن الحسن قال: أربع في القرآن (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وقوله (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) ما كنا فاعلين، وقوله (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ما كان للرحمن ولد، وقوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ) ما مكناكم فيه.
قال هارون: وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط، عن الحسن، وزاد فيهنّ واحدة (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) ما كنت في شكّ (مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ).
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيَّنا من الدلالة في قوله (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال، بل ما ضرّوا بذلك إلا أنفسهم، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا وكيع بن الجرّاح، قال: ثنا الأعمش، عن شمر، عن عليّ، قال: الغدر: مكر، والمكر كفر.
43
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ) الذي وعدهم من كذّبهم، وجحد ما أتَوْهم به من عنده، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) يعني بقوله (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) لا يمانع منه شيء أراد عقوبته، قادر على كلّ من طلبه، لا يفوتُه بالهَرَب منه. (ذُو انْتِقَامٍ) ممن كفر برسله وكذّبهم، وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره. وأضيف قوله (مُخْلِفَ) إلى الوعد، وهو مصدر، لأنه وقع موقع الاسم، ونصب قوله (رُسُلَهَ) بالمعنى، وذلك أن المعنى: فلا تحسبنّ الله مخلف رسله وعده، فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة "مخلف" إليه، ففي معنى النصب، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين، كقول القائل: كسوت عبد الله ثوبا، وأدخلته دارا؛ وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين، جاز تقديم أيِّهما قُدّم، وخفضُ ما وَلِيَ الفعل الذي هو في صورة الأسماء، ونصب الثاني، فيقال: أنا مدخلُ عبد الله الدار، وأنا مدخلُ الدَّارِ عبدَ الله، إن قدَّمت الدار إلى المُدْخل وأخرت عبدَ الله خفضت الدار، إذ أضيف مُدْخل إليها، ونُصِب عبد الله؛ وإن قُدّم عبدُ الله إليه، وأخِّرت الدار، خفض عبد الله بإضافة مُدْخلٍ إليه، ونُصِب الدار؛ وإنما فعل ذلك كذلك، لأن الفعل، أعني مدخل، يعمل في كلّ واحد منهما نصبا نحو عمله في الآخر؛ ومنه قول الشاعر:
تَرَى الثَّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رأسَهُ وسائرُهُ بادٍ إلى الشَّمْسِ أجْمَعُ (١)
أضاف مُدْخل إلى الظلّ، ونصب الرأس، وإنما معنى الكلام: مدخلٌ
(١) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ١٦٥) كما استشهد به المؤلف، ولم ينسبه، قال: وقوله " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " أضفت مخلف إلى الوعد، ونصبت الرسل على التأويل، وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل: كسوتك الثوب، وأدخلتك الدار، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل، فتقول: هو كاسي عبد الله ثوبا، ومدخله الدار، ويجوز هو كاسي الثوب عبد الله، ومدخل الدار زيدا.. ومثله قول الشاعر: ترى الثور.. البيت، فأضاف مدخل إلى الظن، وكان الوجه أن يضف مدخل إلى الرأس.
رأسَه الظلَّ. ومنه قول الآخر:
فَرِشْني بِخَيْرٍ لا أكُونَ وَمِدْحَتِي كناحِتِ يَوْمٍ صَخْرَةٌ بعَسِيلِ (١)
والعسيل: الريشة جُمع بها الطيب، وإنما معنى الكلام: كناحت صخرة يوما بعسيل، وكذلك قول الآخر:
رُبَّ ابْنِ عَمٍّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ (٢)
وإنما معنى الكلام: طباخ زاد الكَسل ساعات الكَرَى.
فأما من قرأ ذلك (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلُهُ) فقد بيَّنا وجه بُعْدِه من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام، عند قوله (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن الله ذو انتقام (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) من مشركي قومك يا محمد من قريش، وسائر من كفر بالله وجحد نبوّتك ونبوّة رسله من قبلك. فيوم من صلة الانتقام.
واختلف في معنى قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) فقال بعضهم: معنى ذلك: يوم تبدّل الأرض التي عليها الناس اليوم في دار الدنيا غير هذه الأرض، فتصير أرضا بيضاء كالفضة.
(١) وهذا البيت أيضا من شواهد الفراء (الورقة ١٦٥) عطفه على آخر قبله وعطفهما على الأول، ومحل الشاهد فيه: أن الشاعر أضاف ناحت وهو وصف مشبه الفعل إلى يوم، ونصب الصخرة، والأولى إضافة الوصف إلى الصخرة، ونصب يوما على ما قاله القراء.
(٢) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص ١٦٥) على أن طباخ كان حقه أن يضاف إلى " زاد الكسل "، فأضافه الشاعر إلى الساعات. والمشمعل: الخفيف الماضي في الأمر المسرع. والكرى: النوم.
45
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدّث، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: أرض كالفضة نقية لم يَسِل فيها دم، ولم يُعْمَل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي، وينفُذهُم البصر، حُفاة عُراة قياما، أحسب قال: كما خُلِقوا، حتى يلجمهم العرق قياما وَحْدَه.
قال: شعبة: ثم سمعته يقول: سمعت عمرو بن ميمون، ولم يذكر عبد الله ثم عاودته فيه، قال: حدثنيه هبيرة، عن عبد الله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرنا أبو إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون وربما قال: قال عبد الله: وربما لم يقل، فقلت له: عن عبد الله؟ قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كالفضة بيضاء نقية، لم يسل فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة، فينفُذهُم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاة عُراة كما خُلِقوا، قال: أراه قال: قياما حتى يُلجمهم العرق.
حدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: تبدّل أرضا بيضاء نقية كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام، ولم يُعمَل فيها خطيئة.
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض الجنة بيضاء نقية، لم يعمل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي، وينفذه البصر، حفاة عراة قياما يلجمهم العرق.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يُعمل فيها خطيئة.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا حماد بن زيد،
46
قال: أخبرنا عاصم بن بَهْدلة، عن زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود، أنه تلا هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) قال: يجاء بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُسْفك فيها دم، ولم يُعمل عليها خطيئة، قال: فأوّل ما يحكم بين الناس فيه في الدماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سنان، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جبيرة، عن زيد، قال: أرسل رسول الله ﷺ إلى اليهود، فقال: هَلْ تَدْرُونَ لِمَ أَرْسَلْتُ إلَيْهِمْ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإني أرْسَلْتُ إلَيْهِمْ أسألُهُمْ عَنْ قَوْلِ الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) إنَّها تَكُونُ يَوْمَئذٍ بَيْضَاءَ مثْلُ الفضَّةِ، فلما جاءوا سألهم. فقالوا: تكون بيضاء مثل النقيّ (١).
حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس بن مالك، أنه تلا هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم يُعمل عليها الخطايا، ينزلها الجبَّار تبارك تعالى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كأنها الفضة، زاد الحسن في حديثه عن شبابة: والسموات كذلك أيضا كأنها الفضة.
حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كأنها الفضة، والسموات كذلك أيضا.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثني أبو حازم، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت رسول الله
(١) في اللسان: وفي الحديث: " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، كقرصة النقي " قال أبو عبيد: النقي الخبز الحواري.
47
صلى الله عليه وسلم يقول: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القيامَةِ على أرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصةِ النُّقِيّ". قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لغيره.
وقال آخرون: تبدّل نارا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السَّكن، قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا، حتى يرشح في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب، فقالوا: مم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس ويلقون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: قال عبد الله: الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويلجم الناس العرق، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب.
وقال آخرون: بل تبدّل الأرض أرضا من فضة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت المغيرة بن مالك يحدّث عن المجاشع أو المجاشعي، شكّ أبو موسى، عمن سمع عليا يقول في هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: الأرض من فضة، والجنة من ذهب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن شعبة، عن المغيرة بن مالك، قال: ثني رجل من بني مجاشع، يقال له عبد الكريم، أو ابن عبد الكريم، قال: حدثني هذا الرجل أراه بسمرقند، أنه سمع عليّ بن أبي طالب قرأ هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: الأرض من فضة، والجنة من ذهب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن مغيرة بن مالك، عن رجل من بني مجاشع، يقال له عبد الكريم، أو يكنى أبا عبد الكريم، قال:
48
أقامني على رجل بخراسان، فقال: حدثني هذا أنه سمع عليّ بن أبي طالب، فذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ)... الآية، فزعم أنها تكون فضة.
حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس بن مالك قال: يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة.
وقال آخرون: يبدّلها خبزة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو سعد سعيد بن دلّ من صغانيان، قال: ثنا الجارود بن معاذ الترمِذِيّ، قال: ثنا وكيع بن الجرّاح، عن عمر بن بشر الهمداني، عن سعيد بن جبير، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: تبدّل خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن أبى معشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم.
وقال آخرون: تبدّل الأرض غير الأرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: تصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر النار. قال: وتبدل الأرض غيرها.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَيَبْسُطُهَا وَيُسَطِّحهَا وَيَمُدّهَا مَدّ الأدِيم الْعُكَاظِيّ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُر اللَّه الْخَلْق زَجْرَةً وَاحِدَةً
49
فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الأرْض الْمُبَدَّلَة فِي مِثْل مَوَاضِعِهِمْ مِنْ الأوْلَى مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلى ظَهْرِها، وَذلكَ حينَ يَطْوِي السَّمَاواتِ كَطَيّ السِّجلّ للْكِتابِ، ثُمَّ يَدْحُو بِهِما، ثُمَّ تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرضِ والسَّمَواتُ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: يجمع الناس يوم القيامة في أرض بيضاء، لم يُعمل فيها خطيئة مقدار أربعين سنة يلجمهم العرق.
وقالت عائشة في ذلك، ما:
حدثنا ابن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة وابن بزيع، قالوا: حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن عامر، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، إذا بدّلَت الأرض غير الأرض، وبرزوا لله الواحد القهَّار، أين الناس يومئذ؟ قال: عَلى الصِّرَاطِ".
حدثنا حميد بن مسعدة وابن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة عن النبيّ ﷺ نحوه.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد، عن داود، عن عامر، عن مسروق، قال: قلت لعائشة:" يا أم المؤمنين أرأيت قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) أين الناس يومئذ؟ فقالت: سألت رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: عَلَى الصِّرَاطِ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الحسن بن عنبسة الورَّاق، قال: ثنا عبد الرحيم، يعني ابن سليمان الرازي عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قالت:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قلت: يا رسول الله، إذا بُدّلت الأرض غير الأرض، أين يكون الناس؟ قال: عَلى الصِّراطِ ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عاصم بن عليّ، قال: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن داود، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: "أنا أوّل الناس سأل رسول الله ﷺ عن هذه الآية" ثم ذكر نحوه.
50
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا ربعيّ بن إبراهيم الأسدي أخو إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، قال: قالت عائشة: يا رسول الله، أرأيت إذا بُدّلت الأرض غير الأرض، أين الناس يومئذ؟ قال: عَلى الصراط".
حدثنا الحسن، قال: ثنا عليّ بن الجند، قال: أخبرني القاسم، قال: سمعت الحسن، قال: قالت عائشة: يا رسول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) فأين الناس يومئذ؟ قال: إنَّ هذَا الشَّيْءَ ما سألَنِي عَنْهُ أحَدٌ، قال: عَلى الصِّراطِ يا عائِشَةُ".
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: ثني الوليد، عن سعيد، عن قتادة، عن حسان بن بلال المزنيّ، عن عائشة: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: قالت: يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ قال: لَقَدْ سألْتنِي عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، ذَاكَ إذَا النَّاسُ على جِسْر (١) جَهَنَّمَ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ذُكر لنا أن عائشة قالت:" يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ فقال: لَقَدْ سألْتِ عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي قَبْلَكِ، قال: هُمْ يَوْمَئِذٍ على جِسْرِ جَهَنَّمَ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: عَلى الصِّرَاطِ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أسماء، عن ثوبان، قال:" سأل حبر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال: هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُون الجسْرِ.
حدثني محمد بن عون، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا ابن أبي مريم،
(١) في تاج العروس: الجسر، بالفتح: الذي يعبر عليه كالقنطرة ونحوها، ويكسر لغتان.
51
قال: ثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي، عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: أتى النبيّ ﷺ حبرٌ من اليهود، وقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ قال: أضْيافُ اللَّهِ فَلَنْ يُعْجِزَهُمْ ما لَدَيْهِ".
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: يوم تبدّل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها، وكذلك السماوات اليوم تبدّل غيرها، كما قال جلّ ثناؤه، وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة، وجائز أن تكون نارا وجائز أن تكون خبزا، وجائز أن تكون غير ذلك، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون، فلا قول في ذلك يصحّ إلا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله (وَالسَّمَاوَاتُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرضا كأنها الفضة (وَالسَّمَاوَاتُ) كذلك أيضا.
وقوله (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) يقول: وظهروا لله المنفرد بالربوبية، الذي يقهر كلّ شيء فيغلبه ويصرفه لما يشاء كيف يشاء، فيحيي خلقه إذا شاء، ويميتهم إذا شاء، لا يغلبه شيء، ولا يقهره من قبورهم أحياء لموقف القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وتعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ، يعني: يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات. (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة، واحدها: صَفَد، يقال منه: صفدته في الصَّفَد صَفْدا وصِفادا،
52
والصفاد: القيد، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
فَآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا وأُبْنا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينا (١)
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه: صُفُدا لا أصفادا، وأما من العطاء، فإنه يقال منه: أصفدتُهُ إصفادا، كما قال الأعشى:
تَضَيَّفْتُهُ يَوْما فأكْرَمَ مَجْلِسِي وأصْفَدَنِي عِنْدَ الزَّمانَةِ قائِدَا (٢)
وقد قيل في العطاء أيضا: صَفَدَني صَفْدا، كما قال النابغة الذبياني:
هَذَا الثَّناءُ فإنْ تَسْمَعْ لِقَائِلِهِ فَمَا عَرَضْتُ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ (٣)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) يقول: في وثاق.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الأصفاد: السلاسل
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال: مقرّنين في القيود والأغلال.
(١) البيت لعمرو بن كلثوم في معلقته. وآبوا: رجعوا. والنهاب: جمع نهب. والمصفدون: المغللون بالأصفاد، الواحد: صفد، وهو الغل. يقول: ظفرنا بهم، فلم نلتفت إلى أسلابهم، ولا أموالهم، وعمدنا إلى ملوكهم، فصفدناهم في الحديد. وفي (اللسان: صفه) : الصفاد: حبل يوثق به أو غل. وهو الصفد، والصفد (بتسكين الفاء وتحريكها). والجمع: الأصفاد. قال ابن سيده: لا نعمله كسر على غير ذلك. وفي التنزيل " مقرنين في الأصفاد ". قيل: هي الأغلال. وقيل: القيود. واحدها صفد. وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني، وشرح القصائد العشر للتبريزي.
(٢) البيت للأعشى (اللسان: صفد، وديوان الأعشى طبع القاهرة ص ٦٥) من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي، ويذم الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي. وتضيفته: نزلت عنده ضيفا، وأصفدني: أعطاني، من الصفد بمعنى العطية هنا. يقول: لما زرت هوذة في " جو " أكرم وفادتي عليه، وقربني من مجلسه، وأعطاني قائدا يقودني لما رأى من آثار الضعف والكلال وسوء البصر، ورواية الديوان: " على " في موضع " عند ".
(٣) هذا البيت للنابغة الذيباني (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص ١٥٥). والصفد هنا: بمعنى العطاء كالذي قبله. وفي الشطر الثاني منه: فلم أعرض، في مكان: فما عرضت.
53
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عليّ بن هاشم بن البريد، قال: سمعت الأعمش، يقول: الصفد: القيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال: صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم، والأصفاد: الأغلال.
وقوله (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) يقول: قمصهم التي يلبسونها، واحدها: سربال، كما قال امرؤ القيس:
لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذَا قُمْتُ سرْبالي (١)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) قال: السرابيل: القُمُص. وقوله (مِنْ قَطِرَانٍ) يقول: من القطران الذي يهنأ به الإبل، وفيه لغات ثلاث: يقال: قِطران وقَطْران بفتح القاف وتسكين الطاء منه. وقيل: إن عيسى بن عمر كان يقرأ "مِنْ قِطْرَانٍ" بكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جَوْنٌ كأنَّ العَرَقَ المَنْتُوحا لَبَّسُه القِطْرَانَ والمُسُوحا (٢)
بكسر القاف، وقال أيضا:
كأنَّ قِطْرَانا إذَا تَلاهَا تَرْمي بِهِ الرّيحُ إلى مَجْرَاها (٣)
(١) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر من لاميته المطولة (٥٤ بيتا)، وصدره " ومثلك بيضاء العوارض طفلة " (انظر مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص ٣٧). وهذا البيت ساقط من نسخة الديوان بشرح الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي، وثابت في نسخة الأعلم الشنتمري، وفيما نقله البغدادي في خزانة الأدب الكبرى من أبيات القصيدة (ج ١: ١٩٧) أورده بعد قول امرئ القيس: " وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي ". والواو في البيت: واو رب. والخطاب لبسباسة. والعارض والعارضة صفحة الخد وصفحة العنق، وجانب الوجه، وما يستقبلك من الشيء، ومن الوجه ما يبدو عن الضحك، والطفلة (بالفتح) : الناعمة البدن. واللعوب: الحسنة الدل. والسربال: القميص، يريد: تذهب بفؤادي، حتى أنسى قميصي، والشاهد فيه عند الطبري، أن السربال: هو القميص عند العرب.
(٢) البيت في (لسان العرب: نتح) قال: النتح: خروج العرق من الجلد، والدسم من النحي، والندي من الثرى. نتح ينتح نتحا ونتوحا. وقال الجوهري: النتح: الرشح. ومناتح العرق: مخارجه من الجلد، وأنشد: جون... الخ. والقطران (بالفتح وبالكسر وكظربان) : عصارة الأرز، وهو الصنوبر، يطبخ ثم تهنأ به الإبل، وإنما جعلت سرابيلهم منه، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود (عن تاج العروس). والمسوح: جمع مسح، بكسر الميم، وهو الكساء من الشعر: جمعه أمساح ومسوح.
(٣) هذا الشاهد كالذي قبله، على أن القطران، بكسر القاف.
54
بالكسر.
وبنحو ما قلناه في ذلك يقول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن (مِنْ قَطِرَانٍ) يعني: الخَصْخَاص هِناء الإبل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن (مِنْ قَطِرَانٍ) قال: قطران الإبل.
وقال بعضهم: القطران: النحاس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قَطران: نحاس، قال ابن جريج: قال ابن عباس (مِنْ قَطِرَانٍ) نحاس.
حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة (مِنْ قَطِرَانٍ) قال: هي نحاس، وبهذه القراءة: أعني بفتح القاف وكسر الطاء، وتصيير ذلك كله كلمة واحدة، قرأ ذلك جميع قرّاء الأمصار، وبها نقرأ لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد رُوي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ ذلك: "مِنْ قَطْرٍ آنٍ" بفتح القاف وتسكين الطاء وتنوين الراء وتصيير آن من نعتِه، وتوجيه معنى القَطر إلى أنه النحاس، ومعنى الآن، إلى أنه الذي قد انتهى حرّه في الشدّة.
وممن كان يقرأ ذلك كذلك فيما ذكر لنا عكرمة مولى ابن عباس، حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَين عنه.
ذكر من تأوّل ذلك على هذه القراءة التأويل الذي ذكرت فيه حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: قطر، والآن: الذي قد انتهى حرّه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا داود بن مِهران، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير نحوه.
55
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا المبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن يقول: كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حرّه: قد أنى حرّ هذا، قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأنى حرّها.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: القطر: النحاس، والآن: يقول: قد أنى حرّه، وذلك أنه يقول: حميمٌ آن.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا ثابت بن يزيد، قال: ثنا هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في هذه الآية "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من نحاس، قال: آن أنى لهم أن يعذّبوا به.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حُصَين، عن عكرمة، في قوله " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: الآني: الذي قد انتهى حرّه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: هو النحاس المذاب.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" يعني: الصِّفر المذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن قتادة "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من نحاس.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا أبو حفص، عن هارون، عن قتادة أنه كان يقرأ " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من صفر قد انتهى حرّه.
وكان الحسن يقرؤها "مِنْ قَطْرٍ آنٍ".
وقوله (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) يقول: وتلفَحُ وجوههم النار فتحرقها
56
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) يقول: فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا، كيما يثيب كلّ نفس بما كسبت من خير وشرّ، فيَجْزِي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول: إن الله عالم بعمل كلّ عامل، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كفّ ولا معاناة، وهو سريع حسابه لأعمالهم، قد أحاط بها علما، لا يعزب عنه منها شيء، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (٥٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: هذا القرآن بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم في الحجة عليهم، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) يقول: ولينذروا عقاب الله، ويحذروا به نقماته، أنزله إلى نبيه ﷺ (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يقول: وليعلموا بما احتجّ به عليهم من الحجج فيه أنما هو إله واحد، لا آلهة شتى، كما يقول المشركون بالله، وأن لا إله إلا هو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، الذي سخر لهم الشمس والقمر والليل والنهار وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، وسخر لهم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لهم الأنهار. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) يقول: وليتذكر فيتعظ بما احتجّ الله به عليه من حججه التي في هذا القرآن، فينزجر عن أن يجعل معه إلها غيره، ويُشْرِك في عبادته شيئا سواه أهلُ الحجى والعقول، فإنهم أهل الاعتبار والادّكار دون الذين لا عقول لهم ولا أفهام، فإنهم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) قال: القرآن (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) قال: بالقرآن. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ)
آخر تفسير سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.
Icon