تفسير سورة إبراهيم

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة إبراهيم١
١ سورة إبراهيم هي السورة الرابعة عشر في ترتيب المصحف، عدد آياتها ٥٢ آية، وهي سورة مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنيتين. وقيل: ثلاث نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله، وهي قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار ٢٨ جهنم يصلونها وبئس القرار ٢٩ وجعلوا لله أندادا ليُضلّوا عن سبيله قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ٣٠﴾ [إبراهيم]. [تفسير القرطبي ٥/٣٦٧٥]..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر كتاب أنزلناه إليك لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ١ ﴾
هكذا يستهل الحق سبحانه هذه السورة بالحروف المقطعة ( ألف ) ( لام ) ( راء )، وسبق أن قلنا : إنها حروف توقيفية بلّغها رسول الله لنا كما سمعها من جبريل عليه السلام.
إلا أن الُملاحظ أن هذه الحروف التوقيفية المقطّعة لم تأت وحدها في هذه السورة كآية منفصلة، مثل قوله في أول سورة ق :
﴿ ق ١ ﴾ ( ق ).
وهي آية بمفردها، وكما جاء في غير ذلك من السور بحروف مقطعة وأثبتها كآيات. وهنا تأتي الحروف التوقيفية المقطعة كجزء من الآية.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ الر كتاب أنزلناه إليك.. ١ ﴾ ( إبراهيم ).
كلمة ( كتاب ) إذا أطلقت انصرف معناها إلى القرآن، فهو يُسمّى كتابا، ويسمّى قرآنا، ويُسمّى تنزيلا، وله أسماء كثيرة.
وكلمة ( كتاب ) تدل على أنه مكتوب، وكلمة ( قرآن ) تدل على أنه مقروء، وهذان الاسمان هما العُمدة في أسماء القرآن، لأنه كتاب مكتوب ومقروء.
فكان الصحابي١ الذي يجمع القرآن لا يكتب آية إلا إذا وجدها مكتوبة، ووجدها مقروءة عن اثنين من الصحابة، فالقرآن كتاب يملك الدليل على كتابته من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مقروء كما تدل كلمة ( قرآن ).
وقوله الحق :
﴿ أنزلناه إليك.. ١ ﴾ ( إبراهيم )
يدل على أنه جاء من علوّ.
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر عن القرآن :
﴿ ونزّلنا عليك الكتاب تِبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ٨٩ ﴾ ( النحل ).
ويقول في موقع آخر :
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل.. ١٠٥ ﴾ ( الإسراء ).
ومرة يسند النزول إلى من جاء به، ومرة ينسب النزول إلى الكائن الذي أرسله الحق بالقرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه السلام.
فقوله :﴿ أنزلناه.. ١ ﴾ ( إبراهيم ) للتعدي عن منطقة اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود، وعلِّيّة إنزال القرآن إليك يا محمد هي :
﴿ لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ١ ﴾ ( إبراهيم ).
ونلحظ هنا أن القرآن نزل للناس كافّة، ولم يقل الحق سبحانه ما قاله للرسُل السابقين على رسول الله، حيث كانت رسالة أيٍّ منهم محدّدة بقوم معيّنين، مثل قوله تعالى :
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا.. ٦٥ ﴾ ( الأعراف ).
وقوله الحق :
﴿ وإلى مَدْين أخاهم شُعيبا.. ٨٥ ﴾ ( الأعراف ).
وكذلك قوله سبحانه لموسى :
﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل.. ٤٩ ﴾ ( آل عمران ).
وهكذا كان كل رسول إنما يبعثه الله إلى بقعة خاصة، وإلى أُناس بعينهم، وفي زمن خاص، إلا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد بعثه الله إلى الناس كافّة.
والمثل أمامنا حين حكم صلى الله عليه وسلم بالحق بين مسلم ويهودي، وأنصف اليهودي، لأن الحق كان معه٢، والحق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعزّ عليه ممن ينتسب إلى الإسلام.
وهكذا نرى أن قوله الحق :
﴿ لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ١ ﴾ ( إبراهيم ).
دليل على عمومية الرسالة، ويُعزّزها قوله :
﴿ إني رسول الله إليكم جميعا.. ١٥٨ ﴾ ( الأعراف ).
وبذلك تبطل حجّة من قالوا إنه مُرسل للعرب فقط.
ونجد هنا اصطفاءين لرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم.
الاصطفاء الأول : أن الحق سبحانه قد اختاره رسولا، فمجرد الاختيار لتلك المهمة، فهذه منزلة عالية.
والاصطفاء الثاني : أنه رسول للناس كافّة، وهذه منزلة عالية أخرى، لأنها تستوعب المكان والزمان، والألسنة والأقوام.
ثم يأتي الإعجاز في قوله :
﴿ لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ١ ﴾ ( إبراهيم ).
ولم يقل من الظلمات إلى الأنوار، وشاء أن يأتي بالظلمات كجمع، وأن يأتي بالنور كمفرد، لأن النور واحد لا يتعدد، أما الظلمات فمتعددة بتعدّد الأهواء، ظُلمة هنا وظلمة هناك.
وحين يُخرجنا الحق سبحانه من الظلمات المتعددة حسب أهواء البشر، فهذا فضل منه ونعمة، لأننا نخرج إلى النور الواحد.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يُجلي المعني بالمُحسّات التي يدركها الجميع، فلا شك أن الظلمة تستر الأشياء التي قد يصطدم بها الإنسان فيمتنع عن السير مطمئنا، لأنه إنِ اصطدم بشيء فقد يُحطّم الشيء أو يحطّمه هذا الشيء، وهكذا تمنع الظلمة الإنسان من أن يهتدي إلى ما يريد.
أما النور فهو يوضح الأشياء، ويستطيع الإنسان أن يُميّز بين الطرق ويجتنب الضار ويتجه إلى النافع، ويكون على بصيرة من الهداية، ذلك هو الأمر الحسّي، وكلٌّ من النور والظلمة أمر حسّي.
وهكذا يُجلِّي الله لنا المعاني، والحياة لا تحتاج فقط إلى ما يُجلي المظاهر المادية بالنور، بل تحتاج أيضا إلى نور يُجلي المظاهر المعنوية، من حقد وحسد، وخوف وأمن، واطمئنان، وأمانة، ووفاء، وغير ذلك.
فالحياة كلها فيها الشيء وما يقابله، لذلك لا بد أن تُجلَى المعاني أيضا، والنور الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلى الحسّ والمعنى في آن واحد، لنجتنب الأشياء التي تطمسها الظلمة، ولنسير على بينة من المعاني، فلا نصطدم بالعقبات.
ولذلك يفسّر لنا الحق سبحانه الأمر المعنوي، فيقول :
﴿ إلى صراط العزيز الحميد ١ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا هو الصراط المستقيم الذي يُخرجنا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الظلمات إلى نوره.
ويريد الحق سبحانه أن يُجلى لنا الطريق إلى هذا الصراط، لأنه قد يكون مُتعِبا للبعض، فيريد سبحانه أن يجمع لنا بين أمرين، طريق متضح واضح يصل فيه الإنسان إلى الغاية بيُسر، وطريق آخر غير واضح لا تتجلى فيه الأشياء.
وجاء بالظلمات والنور ليوضح لنا هذا المعنى، حيث يكون الطريق المستقيم هو أقصر وسيلة للغاية المرجوّة من الحياة الدنيا والآخرة، ويكون طريق الظلمات هو الطريق غير الآمن.
وينسب الحق سبحانه الطريق الذي يُخرجنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
﴿ إلى صراط العزيز الحميد ١ ﴾ ( إبراهيم ).
والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب. والحميد هو من ثبتت له صفة الحمد من الغير، وإن لم يصدر حَمدٌ من الغير، فهو حميد في ذاته، ويجب أن يُحمد رغم أنك إن حمدته أو لم تحمده فهو حميد.
ولله المثل الأعلى، وسبحانه منزّه عن كل مثيل أو شبيه، نجد في حياتنا الدنيا من يقال عنه إنه حميد الخصال، وإن لم يوجد من يمدحه، لكنه في كل ما يصدر عنه يراعى أن يكون محمودا.
ولكن البشر يكون المحمود منهم حدثا، أما المحمود من الحق فهو مُطلق، ولا تكون الذات محمودة أو حميدة إلا إذا كان لها من الصفات ما يجعلها أهلا للإنعام الذي يجب على الإنسان أن يحمده.
والفطرة السليمة في الإنسان تستقبل هذا الكون المُعَدّ من قبل أن يوجد لاستقباله، وتحب أن تحمد من صنع هذا الكون، رغم أن حَمد الإنسان أو عدم حمده لا يضيف شيئا لمن أعدّ هذا الكون وخلقه، فهو محمود في ذاته.
وإن حمدته فهذا لمصلحتك، وفي هذا هداية إلى صراط العزيز الذي لا يُغلب، والحميد الذي يستحق الحمد، وإن لم يوجد حامد له، لأن صفاته سبحانه أزلية.
فالله خالق قبل أن يخلق الخلق، وهو الرازق قبل أن يُخلق المرزوق، وهو مُعز قبل أن يوجد من يُعزه، محمود قبل أن يوجد من يحمده، توّاب قبل أن يوجد من يتوب عليه.
فهو سبحانه بالصفة يفعل، أما الإنسان فلا يفعل إلا إذا فعل الصفة، فأنت لا تعرف أن فلانا كريم، إلا لأنك تراه يعطي عن جود وسخاء، أما الله فهو الكريم من قبل أن يوجد من يُكرمه.
١ هو: زيد بن ثابت الأنصاري، صاحبي، كان كاتب الوحي، ولد في المدينة ١١ ق هـ، ونشأ بمكة. كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وعرضه عليه، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر، ثم لعثمان حين جهز المصاحف إلى الأمصار. (الأعلام للزركلي ٣/٥٧)..
٢ أخرج ابن عساكر (٧/٣٥٤ تهذيب تاريخ دمشق) عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستدعى عليه. فقال: يا محمد إن على هذه أربعة دراهم وقد غلبني عليها، قال: أعطه حقه. قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال: أعطه حقه. قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه. قال: أعطه حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثا لم يُراجع، فخرج ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة، فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة. فباعها منه بأربعة دراهم. فمرّت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها. فقالت: هادونك هذا البُرْد – لبرد عليها طرحته عليه. وكذا أخرجه أحمد في مسنده (٣/٤٢٣) وأورده الكاندهلوي في حياة الصحابة (٢/٨١)..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل١ للكافرين من عذاب شديد ٢ ﴾
وأنت إن قرأت هذه الآية موصولة بما قبلها، فستقرؤها :
﴿ صراط العزيز الحميد ١ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وإن كنت ستقرؤها مفصولة عما قبلها، فستقول :
﴿ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وستنطق كلمة ( الله ) غير مُرقّقة عكس إن قرأتها موصولة، حيث يجب أن تنطقها مُرقّقة.
وتقتضي الأصول في الكتاب أن يوجد الاسم العلَم على الذات أولا، ثم تأتي الصفة من بعده، فتقول :( لقيت فلانا الشاعر أو الكاتب أو العالم )، لكن الأمر هنا جاء على غير هذا النّسَق :
﴿ صراط العزيز الحميد ١ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : قدّم ( العزيز الحميد ) ثم جاء بلفظ الجلالة، وهو العلَم على واجب الوجود ( الله ) وقد حدث ذلك لأن العَلَم يدل على مُسمّاة بصرف النظر عن الصفات، ثم توجد الصفات له.
وهنالك من العلماء من قال : إنه مُشتق بمعنى أن ( الله ) تعني المعبود بحقّ، وصفة العزيز الحميد حيثية لأن يُعبد سبحانه بحق.
ومن العلماء من قال : إن كلمة ( الله ) هي علَم، وليست اسما مشتقا، فله الملكية المطلقة.
﴿ الذي له ما في السماوات والأرض.. ٢ ﴾ ( إبراهيم ).
لا يقع في هذا المُلك إلا ما شاء هو، فمن آمن به أنصف نفسه وحياته وآخرته، أما من لم يؤمن به فله المقابل، وهو قوله الحق :
﴿ وويل للكافرين من عذاب شديد ٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا الوَيْل ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضا، لأن الإنسان حين تعترضه الصِّعاب والعقبات والمصائب التي ليس له أسباب يدفعها بها، هنا يستطيع المؤمن أن يذكر أن له ربا فوق الأسباب، ويرتاح إلى معونة الحق سبحانه له، وهكذا يشعر أن له رصيدا في الدنيا يعتمد عليه في مواجهة الأحداث الجِسَام.
أما غير المؤمن فليس أمامه سوى اليأس ؛ ولذلك نجد انتشار الانتحار بين غير المؤمنين ؛ لأن هناك أحداثا فوق أسبابهم، ولا يستطيعون دفعها، وليس لهم إيمان برب يرجعون إليه.
ولذلك حين أقرأ للمفسرين من يشرح كلمة ( الويل ) بأنها عذاب الآخرة، فأجد نفسي قائلا : بل والويل يكون في الدنيا أيضا ؛ لأن الكثير من أحداث الحياة يكون فوق أسباب الإنسان ؛ فلو لم يؤمن الإنسان بالله لفزِع من فرط اليأس.
ولذلك نجد بعضهم حين لا يجدون مفرّا إلا أن يقولوا يا رب، وهم بذلك يعلنون صرخة الفطرة الأولى التي قاوموها بالإلحاد وعدم الإيمان، وهذا الويل له امتداد بلون أشد في الآخرة.
١ الويل: كلمة عذاب ودعاء بالشر وإنذار به. [القاموس القويم: ٢/٣٦٢] والويل: الهلاك يدعى به لمن وقع في عذاب أو هلكة يستحقها. [لسان العرب – مادة: ويل]..
ويصف الحق سبحانه هؤلاء الذين لا يؤمنون، فيقول :
﴿ الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدّون عن سبيل الله ويبغونها عِوَجا١ أولئك في ضلال بعيد ٣ ﴾.
وهنا نجد مادة الحاء والباء ؛ حب، ومن عجائبها أن الفعل يكون رباعيا، فنقول ( أحبَّ فلان ) ونقول لمن يحبه ( محبوب ) وهذا يعني أن هناك تلاقيا بين الاثنين، أما في حالة عدم التلاقي فيقال ( حبَّ يُحب حابٌّ ومُحِبٌّ ).
والفرق بين أحبَّ واستحبَّ، ملحوظ في مجيء السين والتاء، وهما علامة على الطلب. وعلى هذا فاستحبّ تعني أن من يحب لم يكتف بالأمر الطبيعي، بل تكلّف الحب وأوغل فيه.
والمثل على ذلك نجده في الحياة اليومية، فنرى من ينجرف إلى شيء من الانحراف، ولكنه لا يُحب أن يكون مُحباً لهذا الانحراف في نفس الوقت، ويفعل الانحراف وهو كارِه له، وقد يضرب نفسه ويلومها لأنها تنجرف إلى هذا الانحراف.
ونجد آخر ينحرف، لأنه يحب هذا الانحراف وينغمس فيه، وهو محب لهذا الانغماس ويتحدث بهذا الانحراف، ويحب في نفسه أنه أحب تلك المعصية، لأنها تُحقّق له شهوة عاجلة، هذا هو من ( استحبَّ ) لأنه أزاد الحب عن حدّه الطبيعي.
وحين تُدقّق في الآية الكريمة تجد أنها لا تمنعك من حبّ الدنيا، لكنها تتحدث أن تستحبّها على الآخرة، فهذا هو الأمر المذموم ؛ أما إذا أحببت الدنيا لأنها تُعينك على تكاليف دينك وجعلتها مزرعة للآخرة، فهذا أمر مطلوب، لأنك تفعل فيها ما يجعلك تسعد في آخرتك، فهذا طَلَب للدنيا من أجل الآخرة.
ولذلك تجد قوله الحق في سورة ( المؤمنون ) :
﴿ والذين هم للزّكاة فاعلون ٤ ﴾ ( المؤمنون ).
فهو لا يؤدي الزكاة، فقط، بل يعمل ليأتي لنفسه ولعياله بالقوت، ويبذل الجهد ليكون لديه فائض يؤدّى منه الزكاة، ولذلك فهو لا يعمل قدْر حاجته فقط بل على قدر طاقته ليحقق ما يمكن أن يُعطيه لمن لا يقدر على العمل.
ولذلك لم يقل الحق سبحانه :
( والذين هم للزكاة مؤدّون ) بل قال :
﴿ والذين هم للزكاة فاعلون ٤ ﴾ ( المؤمنون ).
وهنا لا نجد هؤلاء الذين يستحبّون الحياة من أجل أن يجعلوها مزرعة للآخرة، بل هم يستحبّون الحياة :
﴿ ويصدّون عن سبيل الله.. ٣ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أنهم لم يكتفوا بحب الدنيا على الآخرة فقط، ولم يكتفوا بالسّير في طريق الشهوات والملذّات وتخريب ذواتهم، بل تمادَوا في الغيّ٢ وصدّوا غيرهم عن سبيل الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر :
﴿ لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عِوَجا.. ٩٩ ﴾ ( آل عمران ).
كانوا ضلّوا في ذواتهم، ولم يكتفوا بذلك، بل يحاولون إضلال غيرهم ويصدونهم عن الهداية.
ثم تأتي مرحلة جديدة :
﴿ ويبغونها عِوجا.. ٣ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : يبغون شريعة الله مُعوجة لتحقق لهم نزواتهم. وهكذا نجد ثلاث مراتب للضلال، استحباب الحياة الدنيا على الآخرة، والصّد عن سبيل الله، وتشويه المنهج كي يكرِّهوا الناس فيه.
ويصف الحق سبحانه هؤلاء :
﴿ أولئك في ضلال بعيد ٣ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أن أصحاب المرتبة الأولى في الضلال هم من استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، والذين توغّلوا في الضلال أكثر فهم الذين يصدون عن سبيل الله، أما الذين توغّلوا أكثر فأكثر فهم الذين يُشوّهون في منهج الله لتنفير الناس منه، أو ليحقق لهم نزواتهم، وهكذا ساروا إلى أبعد منطقة في الضلال.
١ قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٦٧٧): (أي: يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم)..
٢ الغي: الضلال والخيبة والفساد. [لسان العرب - مادة: غوى] وغوى: بمعنى خاب وضل لأنه انهمك في الجهل. [القاموس القويم ٢/٦٤]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّن لهم فيُضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ٤ ﴾.
ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبلّغ عن الله منهجه، ومُؤيّد بمعجزة تثبت صدقه فيما بلغ لمن أُرسل إليهم، وقد حدّث الحق سبحانه من قبل عما حدث للأمم السابقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان كل رسول يتكلم بلغة قومه.
وهناك فرق بين قوم الدعوة وهم أمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوم الاستقبال، وهم الأمم السابقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأمم السابقة لم تكن مطالبة بأن تُبلّغ دعوة الرسل الذين نزلوا فيهم، أما أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فمُطالبة بذلك، لأن الحق سبحانه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغنا في القرآن أن من آياته سبحانه أن جعل الناس على ألسنة مختلفة١.
ولم يكن من المعقول أن يرسل رسولا يتكلم كل اللغات، فنزل صلى الله عليه وسلم في أمة العرب، وحين استقبلوه وأُشربت٢ قلبوهم حبّ الإيمان، صار عليهم أن ينساحوا بالدعوة، لينقلوا معنى القرآن حجة بعد أن استقبلوه معجزة.
والقرآن حُجّة لأنه يسوس حركة الحياة، وحركات الحياة لا تختلف في الناس أجمعين، كما أن كلّ حضارة تأخذ من الأخرى مُنجزاتها العلمية، وتُترجمها إلى لسانها الذي تنطق به.
وترجمة المعاني من لسان إلى آخر مسألة معروفة في كل حضارات العالم، لأن المسألة في جوهرها مسألة معانٍ، والمعاني لا تختلف من أمة إلى أخرى.
والقرآن معانٍ ومنهج يصلح لكل البشر، ونزل بالعربية، لأن موهبة الأمة العربية هي النبوغ في اللغة والكلام، وهكذا صار على تلك الأمة مهمة الاستقبال لمنهج الله كمعجزة بلاغية، وإرساله إلى بقية المجتمعات.
ولذلك تستطيع أن تعقِد مقارنة بين البلاد التي فُتحت بالسيف والقتال، والبلاد التي فُتحت بالسِّلم ورؤية القدوة المسلمة الصالحة، ستجد أن الذين نشروا الإسلام في كثير من أصقاع الأرض قد اعتمدوا على القدوة الصالحة.
ستجد أنهم نقلوا الدين بالخصال الحميدة، وبتطبيق منهج الدين في تعاملهم مع غيرهم، ولذلك أقبل الناس على دين الله.
وهكذا نجد أن منهج الإسلام قد حمل معجزة من المعاني، بجانب كونه معجزة في اللغة التي نزل بها، وهي لغة العرب.
ونحن نجد أقواما لا تستطيع أن تقرأ حرفا عربيا إلا في المصحف، ذلك أنهم تعلّموا القراءة في المصحف، واعتمدوا على فهم المعاني الموجودة فيه عبر الترجمات التي قام بما مسلمون أحبّوا القرآن، ونقلوه إلى اللغات الأخرى.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه :
﴿ ولقد يسّرنا القرآن للذِّكر فهل من مُدّكر ١٧ ﴾ ( القمر ).
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وقد يسّر أُمّ القرآن بلسان العرب أولا، ثم يسّره بأن جعل من تلك الأمة التي نزل عليها القرآن أمة نشر البلاغ عنه سبحانه، ذلك أن الرسالات تريد تبليغا، والتبليغ وسيلته الأولى هي الكلام، ووسيلته الثانية الاستقبالية هي الأذن، فلابد من الكلام أولا، ثم لا بد من أُذن تعرف مدلولات الألفاظ لتسمع هذا الكلام، ولتُطبّقه سلوكا.
كما أننا نعلم أن من يسمع المتكلم لا بد وأن يكون واعيا وعارفا بمعاني الألفاظ، فما تسمعه الأُذن يحكيه اللسان.
وعرفنا أن اللغة بنت السماع، وكل فرد إنما يتكلم باللغة التي سمعها في بيئته، وإذا تتبعت سلسلة تعلُّم كل الكلام ستجد نفسك أمام الجِذر الأصلي الذي تعلّم منه البشر الكلام، وهو آدم عليه السلام.
وقد قال سبحانه :
﴿ وعلّم آدم الأسماء كلها٣.. ٣١ ﴾ ( البقرة ).
ونعلم أن اللغة بدأت توقيفية حين علّمها الله لآدم، ثم تكلّمها آدم فسمعتها بيئته، فصارت وضعية من بعد ذلك، واختلفت اللغة من مجتمع إلى آخر.
وهنا قال الحق سبحانه :
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.. ٤ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا أوضح جلّ وعلا السبب في إرسال كل رسول بلسان قومه، وهناك آية يقول فيها سبحانه :
﴿ ولو نزّلناه على بعض الأعجمين ١٩٨ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ١٩٩ ﴾ ( الشعراء ).
وقال أيضا :
﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فُصّلت آياته أأعجميّ وعربيّ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وَقْر٤ وهو عليهم عمى.. ٤٤ ﴾ ( فصلت ).
فهناك من يستقبل القرآن كدليل هداية ويُنقّي نفسه من الكَدَر، وهناك من يستقبل القرآن فيكون عليه عمى وعلى سمعه غِشاوة وخوف وعدم ارتياح، ذلك أنه كافر.
والسبب -كما نعلم- أن حدوث الحادث من آمر به يحتاج إلى فعل وإلى مقابل للفعل.
وسبق أن ضربت مثلا بمن يشرب الشاي، فينفخ فيه ليُبرده قليلا، ونفس هذا الإنسان حين يخرج في صباح شتوي فهو ينفخ في يديه ليُدفئهما، وهكذا ينفخ مرة ليبرد شيئا، وينفخ أخرى مستدعيا الدفء.
والمسألة ليست في أمر النفخ، ولكن في استقبال الشاي للهواء الخارج من فمك، الشاي أكثر حرارة من حرارة الجسم فيبرد بالنفخ، بينما اليد في الشتاء تكون أكثر برودة من الجسم، فتستقبل النفخ لها برفع درجة حرارتها لتتساوى مع حرارة الجسم.
وهكذا تجد أن القرآن واحد، لكن المؤمن يسمعه فيفرح به، والكافر يسمعه فيتعب ويرهق منه.
وسبحانه يقول :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا.. ١٦ ﴾ ( محمد ).
وهكذا نجد من يستقبل القرآن، ولا ينصاع إلى معانيه، ونجد من يستمع إلى القرآن فيخشع قلبه وينفعل بالاستجابة لما يُوصي به الحق سبحانه.
إذن : عرفنا الآن أن اللغة بدأت توقيفية وانتهت اصطلاحية، فقد أخذنا من الله ما علّمه لآدم من أسماء، وتغيرت الألسن من جماعة إلى أخرى، وهكذا اختلفت ألسنة الرّسُل حسب القوم المرسلين إليهم.
وكل رسول يبيّن للقوم منهج الله، فإذا بيّن هذا المنهج، استقبله البعض بالإيمان بما جاء به والهداية، واستقبله البعض الآخر بالكفر والضّلال.
فالذي هداه الله استشرف قلبه إلى هذا المنهج، وأخرج من قلبه أي عقيدة أخرى، وبحث فيما جاء به الرسول، وملأ قلبه بالمنهج الذي ارتاح له فهما وطمأنينة.
وهو عكس من تسكن قلبه قضية مخالفة، ويُصرّ عليها، لا عن قناعة، ولكن عن عدم قدرة على التمحيص والدراسة والاستشراف. وكان عليه أن يُخرج القضية المُضلة من قلبه، وأن يبحث ويقارن ويستشف ويُحسن التدبر، ثم يُدخل إلى قلبه القضية الأكثر قبولا، ولكنه لا يفعل، عكس من هداه الله.
ولا يقولن أحد ( ما دام قد أضلنا الله فلم يعذبنا ؟ ) ولكن ليعلم كل إنسان أن المشيئة لقابلية الإيمان موجودة، ولكنه لم يستدعها إلى قلبه.
والحق سبحانه يقول :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم.. ١٧ ﴾ ( محمد ).
ويقول :
﴿ وما يُضلّ به إلا الفاسقين ٢٦ ﴾ ( البقرة ).
أي : أن الفسق قد صدر منهم، لأنهم ملأوا أفئدتهم بقضايا باطلة، فجاءت قضايا الحق فلم تجد مدخلا.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :
﴿ فيُضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ٤ ﴾ ( إبراهيم ).
فمن يُقبِل على الضلال يزيده الله ضلالا، فلن يزيد إيمانه مُلك الله شيئا، ومن يؤمن فهو يضمن لنفسه سلامة الحياة وما بعد الموت ؛ وهو في الحياة عنصر خير، وهو من بعد الموت يجد الحياة مع نِعَم المُنعم سبحانه العزيز الذي لا يُغلب، والحكيم الذي قدّر لكل أمر ما يشاء.
١ يقول تعالى: ﴿ومن آياته خَلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. ٢٢﴾ (الروم)..
٢ أشرب قلبه محبة هذا، أي: حلّ محلّ الشراب، ومنه قوله تعالى: ﴿وأُشربوا في قلوبهم العجل.. ٩٣﴾ (البقرة). أي: حب العجل. وقد أشرب في قلبه حبه أي: خالطه. [لسان العرب - مادة: شرب]..
٣ أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ﴿وعلّم آدم الأسماء كلها.. ٣١﴾ (البقرة). هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس. إنسان، ودابة، وأرض، وبحر، وسهل وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. [ذكره السيوطي في الدر المنثور ١/١٢١]..
٤ الوقر: ثقل في السمع أو الصمم. [القاموس القويم: ٢/٣٥]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرِج قومك من الظلمات إلى النور وذكِّرهم بأيّام الله إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور ٥ ﴾.
والآيات التي أرسلها الله مع –موسى عليه السلام- والمعجزات التي حدثت معه وبيّنها وأظهرها لقومه كثيرة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم نزل ومعه معجزة واحدة وهي القرآن، أما بقية المعجزات الحسية التي حدثت مع رسول الله، فهي قد جاءت لتثبيت فؤاد المؤمنين برسالته، ولم يبق لها أثر من بعد ذلك إلا الذكرى النافعة التي يأتنس بها الصالحون من عباد الله.
وكثرة المعجزات التي جاءت مع موسى –عليه السلام- تبين أن القوم الذين أُرسل لهم قوم لَجج١ وجدل، وحين عدّد العلماء المعجزات التي جاءت مع موسى وجدها بعض من العلماء تسع آيات ؛ ووجدها غيرهم ثلاث عشرة معجزة، ووجدها بعض ثالث أربع عشرة.
وفي التحقيق لمعرفة تلك الآيات علينا أن نفرّق بين الآيات التي صدرت بالنسبة لفرعون، والآيات التي جاءت لبني إسرائيل. فالعصا التي انقلبت حيّة تسعى، واليد التي تُضيء هي لفرعون، وعدّد القرآن الآيات التي جاءت مع موسى لفرعون بتسع آيات، يقول الحق سبحانه :
﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه٢.. ١٢ ﴾ ( النمل ).
ولم يكن موسى يطلب من فرعون أن يؤمن، فهو لم يُرسَل لهدايته، ولكنه جاء ليُفحمه وليأخذ بني إسرائيل المُرسَل إليهم، والآيات هي : العصا ووضع اليد في الجيب لتخرج بيضاء، ونقص الأنفس والثمرات، والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، هذه هي الآيات التسع الخاصة بفرعون.
أما بقية الآيات التي جاء بها موسى –عليه السلام- لبني إسرائيل فهي كثيرة مثل :
﴿ وإذا نتقنا٣ الجبل فوقهم كأنه ظُلّة.. ١٧١ ﴾ ( الأعراف ).
وأيضا :
﴿ وظلّلْنا عليكم الغمام.. ٥٧ ﴾ ( البقرة ).
وكذلك قوله الحق :
﴿ وأنزلنا عليكم المنّ٤ والسّلوى٥.. ٥٧ ﴾ ( البقرة ).
ولذلك أجمل الحق سبحانه الآيات التي جاءت مع موسى لقومه :
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أَخرِج قومك من الظلمات إلى النور وذكّرهم بأيّام٦ الله.. ٥ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أعِد إلى بُؤرة شعورهم ما كان في الحاشية، وأن يستدعوا من الذاكرة أيام الله، والمراد ما حدث في تلك الأيام، مثلما نقول نحن ( يوم بدر ) أو ( يوم ذي قار ) أو ( لسادس من أكتوبر ) أو ( العاشر من رمضان ).
وهنا في القول الكريم إما أن يكون التذكير بتلك الأيام الخاصة بالوقائع التي حدثت للأقوام السابقين عليهم كقوم نوح وعاد وثمود، ذلك أن الحق سبحانه قد أعلمهم بقصص الأقوام السابقة عليهم، وما حدث من كل قوم تجاه الرسول المُرسل إليه من الله.
أو أن يكون التذكير بالأيام التي أنعم الله فيها على بني إسرائيل بنعمه، أو ابتلاهم فيها بما يُؤلمهم، ذلك أن الحق سبحانه قال :
﴿ وذكّرهم بأيّام الله إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور ٥ ﴾ ( إبراهيم ).
والصبّار هو من يكثر الصبر على الأحداث، وهي كلمة توحي بأن هناك أحداثا مؤلمة وقعت، وتحتاج إلى الصبر عليها، كما توحي كلمة
( شكور ) بحوادث منعمة تستحق الشكر.
وهكذا نجد أن المؤمن يحتاج إلى أمرين : صبر على ما يُؤلِم، وشكر على ما يُرضى، وحين تجتمع هاتين الصفتان في مؤمن، يكون مُكتمل الإيمان٧.
وقد قال الحق سبحانه : إن تلك الآيات هي أدلة توضّح الطريق أمام المؤمن، وتُعطي له العبرة، لأنه حين يعلم تاريخ الأقوام السابقة، ويجد أن من آمن منهم قد عانى من بعض الأحداث المؤلمة، لكنه رضا الله ونعمه، ومن كفر منهم قد تمتع قليلا، ثم تلقّى نقمة الله وغضبه.
هنا يُقبل المؤمن على تحمّل مشاقّ الإيمان، لأنه يثق في أن الحق سبحانه لا يُضيع أجر مؤمن، ولا بد لموكب الإيمان أن ينتصر، ولذلك فالمؤمن يصبر على المحن، ويشكر على النّعم.
١ اللّجة واللجلجة: اختلاط الأصوات. واللجة: الجلبة: الجلبة. وألجّ القوم إذا صاحوا. [لسان العرب - مادة: لجج]..
٢ المقصود بالقوم هنا هم قوم فرعون..
٣ نتقه: رفعه من مكانه وحرّكه وجذبه. [القاموس القويم: ٢/٢٥٢]..
٤ المن: ندى يشبه العسل كان الله ينزله على الأشجار غذاء طيبا لبني إسرائيل فجحدوا فضل الله عليهم في ذلك. [القاموس القويم: ٢/٢٤٠]..
٥ السلوى: السماني، وهو طائر صغير من رتبة الدجاج وجسمه ممتلئ وهو من الطيور المهاجرة من أوربا في الشتاء إلى البلاد الدافئة كمصر والسودان ويعود ما سلم منه في أوائل الصيف إلى مواطنه في أوروبا. [القاموس القويم: ١/٣٢٦]..
٦ أيام الله: نعم الله. وأيام الله: وقائع الله في الأمم السابقة. وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي: بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين، واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. [تفسير القرطبي ٥/٣٦٧٨]..
٧ عن صهيب الرومي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٩٩٩)..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم١ سوء العذاب ويذبّحون أبناءكم ويستحيُون٢ نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم ٦ ﴾
وهكذا نجد الحق سبحانه وقد جاء بنموذج من أيام معاناتهم من جبروت فرعون، وكيف خلّصهم سبحانه من هذا الجبروت، وكان فرعون يُسلّط عليهم أقسى ألوان العذاب، ف ( سام ) الشيء أي : طلبه، و ( سام سوء العذاب ) أي : طلب العذاب السيئ.
وقد ذبّح فرعون أبناءهم الذكور، ولم يُذبّح الإناث لتصبح النساء بلا عائل ويستبيحهنّ، وفي هذا نِكَاية شديدة.
ووقف بعض المستشرقين عند هذه الآية، وقالوا : لقد تعرض القرآن من قبل لهذه الآية في سورة البقرة ؛ حين قال :
﴿ وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم ٤٩ ﴾ ( البقرة ).
فهل هذه الآية في سورة لإبراهيم هي البليغة، أم الآية التي في سورة البقرة، خصوصا وأن الفرق بينهما هو مجيء ( الواو ) كحرف عطف على ذبح الأبناء باستباحة النساء ؟
وأضاف هذا المستشرق : ولسوف أتنازل عن النظر على ما جاء في سورة الأعراف حين قال القرآن :
﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ١٤١ ﴾ ( الأعراف ).
وبطبيعة الحال، فهذا المستشرق لم يأخذ فهم القرآن عن مَلَكة عربية، ذلك أنه لو كان قد امتلك هذه القدرة على الفهم، لعرف أن الكلام لم يصدر في الآيات عن مصدر واحد، بل صدر عن مصدرين.
ففي آية سورة البقرة كان المصدر المتكلم هو الله سبحانه، ولذلك قال :﴿ نجّيناكم.. ٤٩ ﴾ ( البقرة ).
ولكن المصدر المتكلم في سورة إبراهيم هو موسى عليه السلام، لم يقل أنه هو الذي أنجاهم بل يعدّد النعم التي منّ الله بها عليهم ؛ ويمتنّ بها عليهم، وعلّة ذلك أن العظيم حين يمتن على غيره لا يمتن إلا بالعظائم، أما دون العظيم فقد يمتن بما دون ذلك٣.
وأسوق هذا المثل لمزيد من الإيضاح لا للتشبيه، فسبحانه منزّه عن التشبيه، وأقول : هبْ أن إنسانا غنيا له أخ رقيق الحال، وقد يُمد الغنيّ أخاه الفقير بأشياء كثيرة، وقد يعتني بأولاده ؛ ويقوم برعايته ورعاية أولاده رعاية كاملة، ويأتي ابن الفقير ليقول لابن الغني : لماذا لا تسألون عنا ؟ فيقول ابن الغني : ألم يأت أبي لك بهذا القلم وتلك البذلة، بالإضافة إلى الشقة التي تسكنون فيها ؟
ولكن العمّ الغنيّ يكتفي بأن يقول : أنا أسأل عنكم، بدليل أنّي أحضرت لكم الشقة التي تسكنون فيها. إذن فالكبير حقا هو الذي يذكر الأمور الكبيرة، أما الأقل فهو من يعدّد الأشياء.
وهنا يصف الحق سبحانه سوْم العذاب وذبح الأبناء بالبلاء العظيم في قوله تعالى :﴿ وذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم ٦ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا نرى مظهرية الخير التي منّ الله بها عليهم، وهي الإنجاء من ذبح الأبناء واستباحة النساء، وكان ذلك نوعا من مظهرية الشر. وهذا ابتلاء صعب.
وسبق أن أوضحنا أن البلاء يكون بالخير أو بالشر، فقد قال سبحانه :﴿ ونبلوكم بالشّر والخير فتنة وإلينا تُرجعون ٣٥ ﴾ ( الأنبياء ).
فلا الخير دليل تكريم، ولا الشر دليل إهانة، فهو القائل :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ونعّمه فيقول ربّي أكرمنِ ١٥ وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهاننِ ١٦ ﴾ ( الفجر ).
فالابتلاء في الأصل هو الامتحان، إما أن تنجح فيه أو ترسب، ولذلك فهو غير مذموم إلا بالنتيجة التي يؤول إليها.
١ سامه الأمر يسومه سوما، كلّفه إياه على غير إرادته. قال الزجاج: أكثر ما يستعمل في العذاب والشر والظلم. [لسان العرب - مادة: سوم]..
٢ استحياه: استبقاه حيا ولم يقتله، قال تعالى: ﴿يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.. ٤٩﴾ (البقرة). أي: أنهم يقتلون الذكور فقط، ويتركون البنات والنساء على قيد الحياة. [القاموس القويم: ١/١٨٣]..
٣ قال أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن) ص٢٧): (فإن قلت: ما الحكمة في ترك العاطف هنا، وذكره في سورة إبراهيم؟ قلت: لأن ما هنا من كلام الله تعالى، فوقع تفسيرا لما قبله، وما هناك من كلام موسى وكان مأمورا بتعداد المحن في قوله: ﴿وذكّرهم بأيّام الله.. ٥﴾ (إبراهيم). فعدّد المحن عليهم، فناسب ذكر العاطف)..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وإذ تأذّنَ ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم١ إن عذابي لشديد ٧ ﴾
ونلحظ أن الآية تبدأ بكلمة ( تأذّن ) وكل المادة الأَلِف والذال والنون مأخوذة من الأذن. والأذن آلة السماع، والأذان إعلام، وآذنهم أي أعلمهم.
وتأذن أي : اعلم بتوكيد. وهكذا يكون معنى الآية : أنى أُعلمكم بتوكيد من ربكم إن شكرتم ليزيدنكم من نعمه وعطائه، لأن الشكر دليل ارتباط بالواهب، وأنكم سلختم أنفسكم من الاعتزاز بما أوتيتم، وعلمتم أنه هو وحده الوهاب.
والحق سبحانه هو من قال :
﴿ كلاّ إنّ الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى ٧ ﴾ ( العلق ).
ولو كان الإنسان مربوطا بالحق سبحانه، لما فصل الحق عن نعمه، ولظل ذاكرا الذي وهبه النِّعم.
ولذلك أقول دائما : إياك أن تشغلك النعمة عن المُنعم، لأن النعمة موهوبة لك، وليست ذاتية فيك.
وتأتي المقابلة من بعد ذلك مباشرة، فيقول :
﴿ ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ ( إبراهيم ).
وهنا يثور سؤال : هل الذي لا يشكر نعم الله يكون كافرا ؟
وهنا علينا أن نعلم أن هناك فارقا بين الكفر والكفران، ولكن لفظ الكفر جاء هنا ليغلظ من معنى عدم الشكر، ولم يأت بكلمة كُفران وجاء بقوله :
﴿ ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ ( إبراهيم ).
والمثل في ذلك هو قول الحق سبحانه :
﴿ ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنيّ على العالمين ٩٧ ﴾ ( آل عمران ).
ومن لم يحج فهو عاص، وكأن الله يريد أن يُصعّب عدم القيام بالحج. أو : أن الآية تريد حكمين : الحكم الأول : الإيمان بفرضية الحج، والثاني : القيام بالحج فعلا.
ذلك أن الحق سبحانه قد قال :
﴿ ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا.. ٩٧ ﴾ ( آل عمران ).
فمن يؤمن بأن هذا حُكم صحيح واجب ويؤمن به ولكنه لا يُنفّذه، قد يدخل في المعصية، لأنه يستطيع أن يحجّ ولم يفعل.
أما من يكفر بالحج نفسه وينكر القضية كلها، فهو كافر والعياذ بالله.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا جاء الكفر مقابل الشكر، ولا بد من عذاب للكفر، وعذاب الله لا بد أن يكون شديدا، لأن العذاب يتناسب بقدرة المعذب، ولا أقدر من الله، ونعوذ به سبحانه من عذابه، فهو أمر لا يُطاق.
١ الكفر هنا بمعنى جحود النعمة، وهو ضد الشكر ورجل كافر: جاحد لأنعم الله. وتقول: كفر نعمة الله وبنعمة الله كفرا وكفرانا وكفورا. [لسان العرب – مادة: كفر]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنيّ حميد ٨ ﴾
وقد قال موسى ذلك كي لا يظن ظانٌّ من قومه أن الله في حاجة إلى شكرهم، وأنه سيعاقبهم بالعذاب إن كفروا بشكره، فأراد أن ينسخ هذا الظن من أذهان من يسمعونه.
وأوضح لهم أن الحق سبحانه لن يزيده إيمانكم شيئا، ولن يضيف هذا الإيمان منهم ومعهم أهل الأرض كلهم لمُلكه شيئا، لأن مُلك الله إنما أبرزه سبحانه بصفات الكمال فيه، وهو ناشئ عن كمال موجود.
ولذلك يأتي قوله الحق :
﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعادٍ... ٩ ﴾
﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعادٍ وثمود والذين من بعدهم لا يعلمُهم إلا الله جاءتهم رُسُلهم بالبينات فرَدّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنّا لفي شك ممّا تدعوننا إليه مريب ٩ ﴾
وهذه الآية الكريمة أعطتنا تفسيرا لقوله سبحانه :
﴿ وإن من أمّة إلا خلا١ فيها نذير ٢٤ ﴾ ( فاطر ).
وكذلك قوله سبحانه :
﴿ ولقد أرسلنا رُسلا من قبلك منهم قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.. ٧٨ ﴾ ( غافر ).
ونعلم أن الحق سبحانه قد أوحى لموسى –عليه السلام- أن يُبلغ قومه بعض من الأنبياء السابقين عليه. وهذا واضح في قوله الحق :
﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود.. ٩ ﴾ ( إبراهيم ).
ويقول سبحانه عن القوم الذين جاءوا من بعد ذلك :
﴿ والذين من بعدهم لا يعلمُهم إلا الله جاءتهم رسُلهم بالبينات.. ٩ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أن الرسل قد حملوا منهج الله، وكذلك المعجزات الدالة على صدقهم لمن جاءوا من بعد ذلك. والبينات إما أن تكون المعجزات الدالة على صدقهم ؛ أو : هي الآيات المشتملة على الأحكام الواضحة التي تُنظّم حركة حياتهم لتُسعدهم.
ولكن هل قبلت تلك الأقوام تلك البينات ؟
لا، لأن الحق سبحانه يقول عنهم :
﴿ فرَدّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به.. ٩ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا نرى أن الكافرين هم من وضعوا أيديهم على أفواههم، وإما أنهم عضّوا على الأيدي بالنواجذ لأنهم لم يُطيقوا تطبيق منهج الله، ولم يستطيعوا التحكّم في أنفسهم.
أو : أنهم رَدّوا أيديهم إلى أفواههم بمعنى أن قالوا للرسل :( هس )، أصمتوا ولا تتكلموا بما جئتم به من بلاغ. أو : أن بعضهم قال للرسل ( لا فائدة من كلامكم في هؤلاء ).
والثراء في القرآن يتحمّل كل هذه المعاني، والآية تتسق فيها كل تلك المعاني، فالعبارة الواحدة في القرآن تكون شاملة لخيرات تناسب كمالات الله، وستظل كمالات القرآن موجودة يظهر بعضها لنا، وقد لا ندرك البعض الآخر إلى أن يُعلمنا بها الله يوم القيامة.
ويأتي قولهم :
﴿ إنا كفرنا بما أُرسلتم به.. ٩ ﴾ ( إبراهيم ).
ليكشف لنا غباءهم، فهم يعترفون بأن هؤلاء رسل من السماء، وفي نفس الوقت يُنكرون المنهج، ويُعلنون هذا الإنكار، يكشف لنا ذلك قوله تعالى :
﴿ وإنّا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ٩ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أنهم أعلنوا رأيهم في المنهج، وقالوا : إنهم مُحيَّّرون ويشكّون في هذا المنهج.
١ خلا: مضى وسبق. والقرون الخالية: هم المواضي. [لسان العرب - مادة: خلا]..
ويأتي القرآن بردّ الرسل في قول الحق سبحانه :
﴿ قالت رُسُلهم أفي الله شكّ فاطر١ السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويُؤخّركم إلى أجل مسمّى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ١٠ ﴾
وقوله :﴿ أفي الله شك.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ) هو لون من الخطاب الذي لا يترك لمن توجه إليه الكلام أن يجيب إلا كما تريد أنت.
وأنت لا تفعل ذلك إلا إذا كنت واثقا من أن من تُوجِّه إليه الكلام سيجيب –إن استحضر الحق في ذهنه- كما تريد أنت.
ولذلك لم يأت الخطاب هنا بقوله ( لا شك في الله ) وبذلك يكون الكلام خبريا، وقد يقول واحد : إن هذا كلام كاذب، ولكن على الرغم من أن المستمعين من الكفار، إلا أنه يأتي بالقضية في شكل تساؤل يستأمنهم على أنهم سوف يُديرون الكلام في رؤوسهم، وسيعثرون على الإجابة التي لا يمكن أن ينكرونها، وهي ( ليس في الله شك ).
وهكذا نجد ن القائل قد سكت عن إعلانهم الكفر أولا، وجاء لهم بالتساؤل الذي سيجيبون عليه ( ليس في الله شك )، ويأتي لهم بالدليل الذي لا يحتمل أي شك، وهو قوله تعالى :
﴿ فاطر السماوات والأرض.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
والفاطر هو الذي خلق خَلْقاً على غير مثال سابق، مثلها مثل قول الحق :
﴿ بديع٢ السماوات والأرض.. ١١٧ ﴾ ( البقرة ).
فلا أحد قادر على أن يخلق مثل السماوات والأرض، وهي مخلوقة على غير مثال سابق. وسبحانه هو من شاء أن يكون الإنسان سيدا لكل الكائنات المخلوقة، وأن تكون تلك الكائنات مُسخّرة لخدمته.
وقد يتخيّل الإنسان أن خلقه أكبر من خلق السماوات والأرض، لذلك ينبّهه الحق سبحانه :
﴿ لَخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.. ٥٧ ﴾
( غافر ).
ولو نظرت إلى الشمس وسألت نفسك : كم من الأجيال قد استمتعوا بدفئها واستفادوا منها ؟ فمن المؤكّد أنك لن تعرف عدد الأجيال، لأن الشمس مخلوقة من قبل خَلق البشر، وكل إنسان يستمتع بالشمس ويستفيد منها عدد سنوات حياته، ثم يذهب إلى الموت.
ونجد المفسر الجليل الفخر الرازي٣ يضرب المثل الذي لا يمكن أن يُنكره أحد، ويدل على الفطرة في الإيمان، ويوضّح أن الحق سبحانه لم يُمهل الإنسان إلى أن ينضج عقله ليشعر بضرورة الإيمان، ويضرب المثل بطفل صغير تسلّل، وضرب شقيقه، هنا لا بد أن يلتفت الشقيق ليكتشف من الذي ضربه، لأن الإنسان من البداية يعلم أن لا شيء يحدث إلا وله فاعل.
وهَبْ أن طفلا جاء ليجد شقيقه جالسا على كرسي، وهو يريد أن يجلس على نفس الكرسي، هنا سيقوم الطفل بشدّ وجذب أخيه من على الكرسي ليجلس هو، وكأنه اكتشف بالفطرة أن اثنين لا يمكن أن يستوعبهما حيِّز واحد.
وهكذا يتوصل الإنسان بالفطرة إلى معرفة أن هناك خالقا أوحد.
وهكذا نجد قوله الحق :
﴿ فاطر السماوات والأرض.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
هو الآية الكونية الواسعة.
ويأتي من بعد ذلك بالقول :
﴿ يدعوكم ليغفر لكم ذنوبكم.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا القول يدل على الرحمة والحكمة والقدرة والحنان ؛ وهو هنا يقول :
﴿ ليغفر لكم من ذنوبكم.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
ولم يقل : يغفر لكم ذنوبكم، ذلك أنه يخاطب الكفار، بينما يقول سبحانه حين يخاطب المؤمنين :
﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم ١٠ تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ١١ يغفر لكم ذنوبكم.. ١٢ ﴾ ( الصف ).
وهكذا لا يساوي الحق سبحانه في خطابه بين المؤمنين والكافرين.
أو : أن المقصود من قوله :
﴿ ليغفر لكم من ذنوبكم.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
هو غفران الكبائر، ذلك أن صغائر الذنوب إنما يغفرها أداء الفرائض والعبادات، فنحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر )٤ :
ويتابع سبحانه :
﴿ ويُؤخّركم إلى أجل مُسمّى.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
وكلنا نعرف أن الأجل هو الزمن المضروب والمُقرر للحدث. وإن شاء الحق سبحانه الإبادة فنجد ما يدل عليه قوله الحق :
﴿ فخسفنا٥ به وبداره الأرض.. ٨١ ﴾ ( القصص ).
كما فعل مع قارون.
أو : أن قوله :﴿ إلى أجل مسمّى.. ١٠ ﴾ ( إبراهيم ) مقصود به يوم القيامة.
ولكن الكفار أهل لَدَد٦ وعناد، لذلك نجد قولهم :
﴿ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ١٠ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا يعلن أن الكفر لرسلهم أنهم يُفضّلون أن يكونوا أهل تقليد للآباء، ولو أنهم فكّروا لعلموا أن التقليد لو شاع في المجتمعات لما ارتقى أحد آبائه وأجداده، فالعالم يتطور من تمرّد جيل على جيل سابق، فلماذا يُصرّ هؤلاء الكافرون على أن يحتفظوا بتقليد الآباء والأجداد ؟
وإذا كان الأبناء يتطورون في كل شيء، فلماذا يحتفظ هؤلاء الكفار بتقليد الآباء في العقائد ؟
ولا يكتفي أهل الكفر بذلك، بل يطلبون أن يأتي لهم الرسل بسلطان مبين، والسلطان يُطلق مرة على القهر على الفعل، ويكون الفاعل المقهور كارها للفعل.
ومرة يطلق على الحجة التي تُقنع بالفعل، ويكون الفاعل مُحبا لما يقدم عليه، والدين لا يمكن أن ينتشر قهرا، بل لا بد أن يُقبل الإنسان على الدين بقلبه، وذلك لا يأتي قهرا.
لذلك نجد القول الحق :
﴿ لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغيّ.. ٢٥٦ ﴾ ( البقرة ).
ومادام الرّشد قد ظهر فالإكراه لا مجال له، لأن الذي يُكره على شيء لا يمكن له أن يعتنق ما يُكره عليه.
وإذا ما دخل الإنسان الدين فعليه أن يلتزم بما يكلّف به الدين ؛ ولذلك فالإنسان لا يمكن أن يدخل إلى الدين مُكرَها، بل لا بد أن يدخله على بصيرة.
١ أصل الفَطْر: الشق. وفطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأت حفرها. [لسان العرب - مادة: فطر]..
٢ بدعه يبدعه: أنشأه على غير مثال سابق. وبديع السماوات والأرض. أي: مبدعهما ومنشئهما على غير مثال سابق. [القاموس القويم ١/٥٧]..
٣ هو: محمد بن عمر بن الحسن أبو عبد الله، الإمام المفسر، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل، وهو قرشي النسب، أصله من طبرستان. يقال له (ابن الخطيب الري) رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان. وتوفي في هراة عام ٦٠٦ هـ (الأعلام للزركلي ٦/٣١٣)..
٤ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٣٣)، وأحمد في مسنده (٢/٤٨٤) وابن ماجة في سننه (١٠٨٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٥ خسف الله الأرض: جعلها تهبط وتغور. [القاموس القويم: ١/١٩٤]..
٦ اللدد: الخصومة الشديدة. الألد: الشديد الخصومة الجدِل. [لسان العرب - مادة: لدد]..
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بما قاله الرسل ردا على قول أهل الكفر :
﴿ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ١ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكّل المؤمنون ١١ ﴾
وهكذا أوضح الرسل لأقوامهم : نحن بشر مثلكم، والسلطان الذي نملكه هو المعجزة التي اختصّ بها الحق سبحانه كل رسول، والحق سبحانه هو الذي يتفضّل على عباده، فيختار منهم الرسول المناسب لكل قوم، ويرسل معه المعجزة الدالة على تلك الرسالة، ويقوم الرسول بتبليغ كل ما يأمر به الله.
وكل رسول إنما يفعل ذلك ويُقبِل عليه بكل ثقة في أن الحق سبحانه لن يخذله وسينصره، فسبحانه هو القائل :
﴿ وإنّ جُندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ ( الصافات ).
ويخبرنا سبحانه بطمأنة الرسول ومن معه لحظة أن نزلزلهم جِسام الأحداث، وتبلغ قلوبهم الحناجر، ويتساءلون :
﴿ متى نصر الله.. ٢١٤ ﴾ ( البقرة ).
فتأتي أخبار نصر الحق سبحانه لرسله السابقين لطمأنة المؤمنين، ونجد الحق سبحانه هنا يقول :
﴿ وعلى الله فليتوكّل المؤمنون ١١ ﴾ ( إبراهيم ).
هكذا أعلن كل رسول لمن آمن به من قومه، فعلى الله وحده يتوكّل المؤمنون، ويُفوّضون كل أمورهم إليه وحده ؛ صبرا على معاندة الكافرين، وثقة في أنه سبحانه ينصر من أبلغوا رسالته ومنهجه، وينصر معهم من آمنوا بالمنهج والرسالة.
١ يمن: ينعم ويحسن. وفي أسماء الله تعالى: الحنان المنان، أي: الذي ينعم غير فاخر بالإنعام. وقال ابن الأثير: هو المنعم المعطي من المنّ في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه. [لسان العرب – مادة: منن]..
وينقل لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الرسل لأقوامهم :
﴿ وما لنا ألاّ نتوكّل على الله وقد هدانا سُبُلنا ولنصبرنّ على ما آذيتُمونا وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون ١٢ ﴾
ونلحظ أن الحق سبحانه قد وصف المتوكّلين في نهاية الآية السابقة بأنهم المؤمنون، وهنا يصفهم في نهاية هذه الآية بأنهم المتوكّلون، لأن صفة الإيمان تدخل في صفة التوكل ضمنا.
ونعلم أن هناك فارقا بين التوكل والتواكل، فالتوكل يعني أن تستنفد أسباب الله الممدودة، لأن التوكل عمل القلوب، بعد أن تؤدّي الجوارح ما عليها من عمل وأخذ بالأسباب، فالجوارح تعمل والقلوب هي التي تتوكل.
ويأتي لنا الحق سبحانه ببقية الحوار بين الذين كفروا من أهل الأقوام السابقة وبين رسلهم، فيقول :
﴿ وقال الذين كفروا لرُسُلهم لنُخرجنّكم من أرضنا ولتعودُنّ في ملّتنا١ فأوحى إليهم ربهم لنُهلِكنّ الظالمين ١٣ ﴾
وهكذا نرى أن فاشية الخير حين فَشَت في الناس، يغضب منها المستفيدون من الفساد والذين يعيشون عليه ؛ ويتجه تفكير المفسدين إلى ضرورة إخراج خمائر الخير من الأرض التي يعيش المفسدون على الاستفادة من أهلها.
وإن عزّت الأرض على خمائر الخير، فعليهم أن يعلنوا عودتهم إلى ديانة الكافرين. ولا يقال : عُدت إلى الشيء إلا إذا كنت في الشيء ثم خرجت عنه وعدت إليه.
وهل كان الرسل الذين يهدّدهم أهل الكفر بالإخراج من البلاد، يقبلون العودة إلى ديانة الكفر ؟
طبعا لا، ولذلك نفهم من قوله تعالى :
﴿ أو لتعودُنّ في ملّتنا.. ١٣ ﴾ ( إبراهيم ).
بمعنى ( أو لتصير في ملّتنا ).
ولم يقبل الرسل تلك المُسَاومة، ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يُنزل جنود التثبيت والطمأنينة والسكينة على قلوب رُسُله والمؤمنين ؛ فلا يتأثر الرسل ومن معهم بمثل هذا الكلام.
وهذا ما يعبّر عنه قول الحق سبحانه في آخر الآية :
﴿ فأوحى إليهم ربهم لنُهلكنّ الظالمين ١٣ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا يأتي القانون السماوي بالعدل وهو إهلاك الظالمين، وتلك قضية إيمانية باقية ودائمة أبدا.
١ الملة: الشريعة والدين. والملة: الدين حقا كان أو باطلا. [القاموس القويم: ٢/٢٣٦]..
ويكمل الحق سبحانه وعده لرسله ومن معهم من المؤمنين :
﴿ ولَنُسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدِ ١٤ ﴾
وهنا يؤكد الحق سبحانه أن من يثبت على الإيمان، ويخاف مقام الحق سبحانه، ويخشى يوم العرض على الحق ويوم الحساب ؛ ولم ينكص١ عن منهج دعوة الحق، سيورثه الحق سبحانه أرض من كفر بالله، فتلك سنة الله، لأنه سبحانه قال :
﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها.. ٢٧ ﴾ ( الأحزاب ).
ونعلم أن من يخاف الله ويخشاه ويؤمن أنه قائم على كل نفس ؛ فسبحانه يجزي من يعيش حياته في ضوء الإيمان بأن يورثه أرض من كفر، وقد قال الحق سبحانه لرسوله :
﴿ وأورَثْنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها.. ١٣٧ ﴾
١ النكوص: الإحجام. ونكص على عقبيه: رجع عما كان عليه من الخير. والنكوص: الرجوع إلى وراء. [لسان العرب - مادة: نكص]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ واستفتحوا١ وخاب كُلّ جبّار٢ عنيد١٥ ﴾
و( استفتح ) تعني طلب الفتح، وهناك فتح، واستفتح. وكلمة ( فتح ) تدل على أن شيئا مُغلقا ينفتح، ومرة يكون المقصود بالكلمة أمرا حسيا، وأحيانا يكون الأمر معنويا، ومرة ثالثة يكون الفتح بمعنى الفَصل والحُكم.
والمثل على الأمر الحسّي قول الحق سبحانه :
﴿ ولمّا فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدّت إليهم.. ٦٥ ﴾ ( يوسف ).
ومرة يكون الفتح معنويا، وبمعنى سابقة الخير والعلم، كقول الحق سبحانه :
﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتُحدّثونهم بما فتح الله عليكم.. ٧٦ ﴾ ( البقرة ).
وكذلك قول الحق سبحانه :
﴿ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا مُمسك لها وما يُمسك فلا مرسل له من بعده.. ٢ ﴾ ( فاطر ).
أما المثل على الفتح بمعنى الفصْل في الأمر، فالمثل هو قول الحق سبحانه :
﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ٨٩ ﴾ ( الأعراف ).
وهكذا نجد للفتح معاني متعددة، وكلها تدور حول المغاليق وهي تُفضّ، ويُطلق الفتح آخر الأمر على النصر، والمثل هو قول الحق سبحانه :
﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ١ ﴾ ( النصر ).
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ واستفتحوا وخاب كل جبّار عنيد ١٥ ﴾ ( إبراهيم ).
وهم طلبوا الفتح بمعنى طلبوا النصر، وكانت تلك خيبة من الكفار، فهم طلبوا الفتح أي النصر، وهم قد فعلوا ذلك مظنة أن عندهم ما ينصرهم.
وكيف ينصرهم الله وهم كافرون ؟
لذلك يُخيّب الله ظنهم ويحكم عليهم بمصير كل من عاش جبّارا في الأرض، متكبرا عن عبادة ربه.
ويقول سبحانه :
﴿ وخاب كل جبّار عنيد ١٥ ﴾ ( إبراهيم ).
والجبار هو من يقهر الناس على ما يريده ؛ والمقصود هنا هم المُتكبّرون عن عبادة الحق سبحانه وتعالى، ويعاندون في مسألة الإيمان به سبحانه.
١ استفتحوا: استنصروا. أي: أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم. [تفسير القرطبي ٥/٣٦٨٦]..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٦٨٧): (الجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبّر)..
وماذا ينتظرهم من بعد ذلك ؟
يقول الحق سبحانه :
﴿ من ورائه جهنم ويُسقى من ماء صديد ١٦ ﴾
أي : من خلف الجبار المُتعنّت بالكفر جهنم، وما فيها من عذاب. وفي العامية نسمع من يتوعد آخر ويقول له ( وراك.. وراك ) ويعني بذلك أنه سيوقع به أذى لم يأت أوانه بعد.
وكلمة ( وراء ) في اللغة لها استخدامات متعددة، فمرة تأتي بمعنى ( بعد ) والمثل في قوله تعالى عن امرأة إبراهيم عليه السلام :
﴿ وامرأتُه قائمة فضحكت١ فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ٧١ ﴾ ( هود ).
أي : جاء يعقوب من بعد إسحاق.
ومرة تُطلق ( وراء ) بمعنى ( غير ) مثل قول الحق سبحانه :
﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ٥ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ٦ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ٧ ﴾ ( المؤمنون ).
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ من ورائه جهنم.. ١٦ ﴾ ( إبراهيم ).
ونعلم أن جهنم ستأتي مستقبلا، أي : أنها أمامه، ولكنها تنتظره ؛ وتلاحقه.
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ ويُسقى من ماء صديد ١٦ ﴾ ( إبراهيم ).
والصديد هو الماء الرقيق الذي يخرج من الجُرح، وهو القيح الذي يسيل من أجساد أهل النار حين تُشوى جلودهم.
ولنا أن نتصور حجم الألم حين يحتاج أحدهم أن يشرب، فيُقدّم له الصديد الناتج من حرق جلده وجلود أمثاله. والصديد أمر يُتأفّف من رؤيته، فما بالنا وهو يشربه، والعياذ بالله.
١ أي: تعجبت من الضيوف الذين جاءوا بالبشرى. وقيل: كانت لا تحيض فحاضت. وفي اللغة: ضحكت المرأة أي حاضت. والراغب في المفردات أنكر هذا التفسير وأرجع أن قوله تعالى: (ضحكت) معناه سُرّت كثيرا. [القاموس القويم: ١/٣٩٠]..
ويقول الحق سبحانه متابعا لما ينتظر الواحد من هؤلاء حين يشرب الصديد :
﴿ يتجرّعه١ ولا يكاد يُسيغه٢ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت ومن ورائه عذاب غليظ ١٧ ﴾
ويتجرّعه أي : يأخذه جرعة جرعة، ومن فرط مرارته لا تكون له سيولة تُستساغ، فيكاد يقف في الحلق، والإنسان لا يأخذ الشيء جرعة جرعة إلا إذا كان لا يقدر على استمرار الجرعة ؛ ولكن هذا المشروب من الصديد لا يكاد يستسيغه من يتجرعه. ويقال : استساغ الشيء. أي : ابتلعه بسهولة.
وقوله سبحانه :
﴿ ولا يكاد يُسيغه.. ١٧ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : لا يكاد يبلعه بسهولة فطعمه وشكله غير مقبولين.
ويتابع سبحانه :
﴿ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت.. ١٧ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : ينظر حوله فيجد الموت يحيط به من كل تجاه، لكنه لا يموت، ويُفاجأ بأن العذاب يحيط به من كل اتجاه مصدّقا لقول الحق سبحانه :
﴿ ومن ورائه عذاب غليظ ١٧ ﴾ ( إبراهيم ).
هكذا يتعذب الجبار المتعنت في أمر الإيمان. وإذا قِسنا العذاب الغليظ بأهون عذاب يلقاه إنسان من النار لوجدنا أنه عذاب فوق الاحتمال، فها هو صلى الله عليه وسلم يقول :( إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يُوضع في أخمص٣ قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه )٤.
فما بالنا بالعذاب الغليظ، وقانا الله وإياكم شره ؟
١ تجرعه: بلعه في تكلف وتكرّه [القاموس القويم: ١/١٢٠]. وقال القرطبي في تفسيره (٥/٣٦٨٩): (أي: يتحساه جُرعا ولا مرة واحدة لمرارته وحرارته)..
٢ ساغ الشراب في الحلق إذا كان سلسا سهلا. [لسان العرب - مادة: سوغ]..
٣ الأخمص: باطن القدم وما رقّ من أسفلها وتجافى عن الأرض. [لسان العرب - مادة: خمص]..
٤ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٥٦١)، وكذا مسلم في صحيحه (٢١٣) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه..
ويقول سبحانه من بعد ذلك قضية كونية :
﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضّلال البعيد ١٨ ﴾
وقد يأتي في أذهان البعض ما يشوّه عقائد الإيمان فيقول : كيف يدخل فلان النار وهو من أهدى البشرية تلك المخترعات الهائلة التي غيّرت مسارات الحضارة، وأسعدت الناس ؟ كيف يعذّب الله هؤلاء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون، أيعذبهم لمجرد أنهم كفار ؟
وأقول : نعم، يعذبهم الله على الرغم من أنه سبحانه لا يضيع عنده أجر من أحسن عملا ؛ وهو قادر على أن يجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة ؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك.
وانطبق عليه قوله :( عملت ليقال وقد قيل )١ وأخذوا أجورهم مما عملوا لهم ؛ ذلك أنهم عملوا ولم يكن في بالهم الله.
وهكذا يصور القرآن مسألة الجزاء، فالواحد من هؤلاء الكفار إذا كان يلقى العذاب الغليظ على الكفر، فالحق لا يغمطه٢ أجر ما فعل من خير ؛ فينال ذلك في الدنيا ويستمتع بإطلاق اسمه على اختراعه أو اكتشافه.
ونعلم جميعا قوله صلى الله عليه وسلم :( من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )٣ أما في الآخرة فالعذاب جزاؤه ؛ لأنه عاش كافرا بالله.
وهذه الأعمال التي صنعوها في الدنيا، وظنوا أنها أعمال إنسانية وأعمال بِرّ تأتي يوم القيامة وهي رماد تهبّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذره بعيدا :
﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف لا يقدِرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ١٨ ﴾ ( إبراهيم ).
ولن تكون لديهم عندئذ فرصة لاستئناف الحياة ليستفيدوا من التجربة ؛ بل أمامهم وحولهم العذاب ؛ لسان حال كل منهم يقول :
﴿ رب ارجعونِ ٩٩ لعلّي أعمل صالحا.. ١٠٠ ﴾ ( المؤمنون ).
لكنه لو رُدّ إلى الحياة لعاد ما نُهي عنه، مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ ولئن رُددتُ إلى ربي لأجدنّ خيرا منها مُنقلباً ٣٦ ﴾ ( الكهف ).
وهذا الكفر هو الضلال البعيد الذي جعل كل أعمالهم التي ظنوا أنها صالحة ؛ مجرد أعمال محبطة، فضلّوا بالكفر عن الطريق المُوصّل إلى خير الآخرة.
١ أخرجه مسلم في صحيحه (١٩٠٥)، وأحمد في مسنده (٢/٣٢٢) والنسائي في سننه (٦/٢٣، ٢٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد شرحه فضيلة الشيخ الشعراوي في كتاب (الأحاديث القدسية) (١/١٣٥-١٥١) بتحقيقي..
٢ غمط الحق: جحده. والغمط: كفران النعمة وسترها. [لسان العرب - مادة: غمط]..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٩٠٧) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد ١٩ ﴾
وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والأرض بميزان الحق، فلا تأتي السماء وتنطبق على الأرض، فسبحانه القائل :
﴿ يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.. ٦٥ ﴾ ( الحج ).
وأنت كلما سِرت وجدت الشمس من فوقك، وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق.
وهكذا أراد الحق سبحانه أن يؤكّد قضية كونية محسّة مشهودة ؛ وبدأ بقوله :
﴿ ألم تر.. ١٩ ﴾ ( إبراهيم ).
رغم أنه لا يوجد مع العين أين ؛ ذلك أن الشمس واضحة أمام كل البشر، وهكذا نجد أن معنى ( ألم تر ) هنا تكون بمعنى ( ألم تعلم ).
وجاء سبحانه ب ﴿ ألم تر ﴾ هنا ليدلّنا على أن ما يُعلمنا الله به من حق أصدق مما تُعلمنا به العين ؛ فإذا قال سبحانه :﴿ ألم تر ﴾ فهي تعني : ألم تعلم عِلما مؤكّدا، لأن عينيك ربما تخونك في الرؤيا، أو تخدعك بالإبصار، ولكن إذا قال لك الله ﴿ ألم تر ﴾ فاعلم أنه علم موثوق به.
وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والأرض ؛ فكان لا بد لنا أن نعلم أنها لم تكن لتوجد إلا بخلق الله لها ؛ وهو الذي أخبرنا أنها من خلقه ؛ ولم يدّعها أحد لنفسه، وبذلك تثبت له قضية خلقها إلى أن يقول آخر أنه خلقها ؛ ولم يقل لنا أحد ذلك أبدا.
وسبق أن قال سبحانه :
﴿ لَخلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.. ٥٧ ﴾ ( غافر ).
والبشر كما نعلم لا يعيش فرد منهم مثلما تعيش السماء ؛ فالفرد يموت ويولد غيره ؛ وكل البشر يأتون ويذهبون، والشمس باقية، وكذلك الأرض.
ومن عجيب الخَلق الرحماني أن الله خلق كل ذلك تسخيرا لأمر الإنسان ؛ فلا يشذ كائن من تلك المسخرات عن أمر الإنسان.
وما طُلب منك أيها الإنسان تكليفا أنت مخيّر فيه إن شئت آمنت، وإن شئت كفرت ؛ وإن شئت أطعت، وإن شئت عصيت.
ولكن المخلوق المسخّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة. وهو سبحانه الحق القائل :
{ إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبَين أن يحملنها وأشفقن١ منها وحمَلها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ) ( الأحزاب ).
وقد أعلمنا هذا القول الكريم بأن الرحمانية سبقت لنا نحن البشر من قبل خلقنا، وأقدمتنا رحمانية الله على وجود مُهيّأ لنا.
ومن العجيب أن الكون المخلوق لنا استبقاء لحياتنا واستبقاء لنوعنا يتركز في أشياء لا دخل لنا فيها، ولا تتغير أبدا ؛ وهي الأشياء العليا كالشمس والقمر والأرض.
وهنالك أشياء أخرى يكون التغيير فيها نوعين : قسم يتغير ويأتي بدلا منه شيء جديد، كالنبات الذي يذهب ويصير حصيدا، وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت.
وهناك خلق يتغير مع إبقاء عناصره، وإن تغيرت مادته، كالجمادات التي نراها –الجبال والأرض وعناصرها- ونكتشف منها كل يوم جديدا.
إذن : فالمخلوقات التي استقبلت الوجود الإنساني نوعان : نوع لا دخل للأغيار فيها ؛ ونوع آخر فيه دخل للأغيار مع بقاء مادتها وهي الجمادات ؛ ونوع تتغير أنواعه وأجناسه.
كل هذه الأشياء تدلّنا على أن الحق سبحانه وتعالى له صفتان :
صفة القدرة والقهر ؛ وهو سبحانه يقهر ما يشاء على ما يشاء ؛ ولا يتغير.
وصفة الاختيار التي أوجدها في الإنسان.
وأثبتت صفة القدرة التي سخّر بها سبحانه الأشياء لخدمة الإنسان مطلق سلطانه سبحانه على كل خلق ؛ فلا شيء يخرج عن مراده أبدا.
وأراد سبحانه بصفة الاختيار التي وهبها للإنسان أن يأتيه عبده الإنسان محبا متبعا لتكاليفه الإيمانية، فالذي يطيع الله وهو قادر على أن يعصيه إنما يدل بذلك على أنه مُحبٌّ لله، ويُثبت له صفة المحبوبية.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق.. ١٩ ﴾ ( إبراهيم ).
ولنا أن نلحظ أن كلمة ( بالحق ) وردت في مواقع كثيرة من القرآن الكريم.
وعلى سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم قوله تعالى :
﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.. ٨٥ ﴾ ( الحجر ).
وقوله تعالى :
﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين٢ ٣٨ ﴾ ( الدخان ).
وهذا يدل على أن السماوات والأرض مخلوقة على هيئة ثابتة، وقد جعل ذلك مدارس الفلسفة تستقبل تلك القضية استقبالين ؛ استقبال من يريد أن يؤمن ؛ واستقبال من يريد أن يكفر. وانقسم من أرادوا الكفر إلى فريقين.
الفريق الأول : أخذ من ثبات قوانين الشمس والقمر والأرض دليلا على أنه لا يوجد خالق لهذا الكون، وقالوا : لو أن هناك خالقا له لغيّر من هيئة السماوات والأرض، ولكن كل من تلك الكواكب تدير نفسها بآلية ذاتية مُحكمة.
والفريق الثاني : ممن أرادوا الكفر قال : إن الشذوذ في الكون ووجود خَلَل وعيوب خلقية في بعض من المخلوقات والأنواع ؛ دليل على أنه لا يوجد إله. فكيف يخلق إله مخلوق أعمى، وآخر أعرج ؛ وثالثا بعين واحدة ؟
وهكذا أخذ هذا الفريق من أهل الكفر وجود الشذوذ في الكون كدليل على عدم وجود إله.
ومن العجيب أن الفريق الذي أراد التغيير في هيئة السماوات والأرض، أراد ذلك كدليل على وجود خالق، والفريق الذي رأى أن هناك شذوذا في بعض المخلوقات أخذ ثبات الخَلق على هيئة واحدة كدليل على وجود إله.
كل ذلك يدلّنا على أن الفريقين قد أخذا من قضيتين متعارضتين دليلا على الكفر، ولم يتفق الفريقان على قضية واحدة، وهذا يوضح التناقض بينهما.
ولو أمعن كل من الفريقين النظر لعلِم كل منهما أن الإيمان ضرورة أساسية لفهم هذا الكون على ثبات ما فيه، وعلى وجود بعض من الشذوذ فيه.
فأنت يا من تنتظر ثباتا في الأكوان خذ ثبات آلية الحركة في السماوات والأرض والشمس والقمر دليلا على الإيمان بوجود خالق إله قادر.
وأنت يا من تأخذ التغيّر في الخلق دليلا على وجود خالق، فها أنت ترى اختلاف بعض المخلوقات ما يجعلك تعثر على عدم التماثل في المخلوقات دليلا على وجود إله خالق له طلاقة القدرة.
وأوضح الحق سبحانه لنا أنه لم يخلق السماوات والأرض لعبة ؛ بل خلقها بالحق، وهنا ك فارق بين اللعبة والحق، فاللعبة قد يتوصل إليها من يبعث بشيء ؛ فتخرج له صُدفة يستخدمها هو أو غيره كلُعبة.
يقول الحق :
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ٣ ﴾ ( النحل ).
أما الخلق بالحق ؛ فهذا يعني أن من يخلقها إنما يفعل ذلك بموازين دقيقة محكمة، ويصنعها على نظام ثابت له قضية تحكمه من الحكمة والحق.
وما دام الكون الأعلى ثابتا، فإن الحق سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض، وما دمت تريد ثباتا في حركتك الاختيارية ؛ فخذ المنهج الذي أنزله الله بالحق، فتثبت قضاياك كما ثبتت القضايا العليا، وأنت حين تخرج عن منهج الحق تجد فسادا.
وإذا أردت ألاّ يوجد فساد في المجتمع من أيّ لون فابحث عن حكم الله الذي ضيّعه الإنسان في مخالفة منهجه تجد أن ضياعه هو السبب في وجود الفساد، واقرأ قوله الحق في سورة الرحمن :
﴿ الرحمن ١ علّم القرآن ٢ خلق الإنسان ٣ علّمه البيان٣ ٤ الشمس والقمر بحسبان ٥ والنجم والشجر يسجدان ٦ والسماء رفعها ووضع الميزان ٧ ألا تطغوا في الميزان ٨ وأقيموا الوزن بالقسط٤ ولا تُخسروا الميزان ٩ ﴾
( الرحمن ).
وهكذا أنت ترى الشمس –على سبيل المثال- منضبطة في شروقها وغروبها وكُسوفها، وكذلك القمر في سطوعه أو مَحاقه٥ أو خسوفه.
وكما رفع الحق سبحانه السماء ووضع الميزان، فعليكم أن تزِنوا كل أمر بالميزان الصحيح لتنصلح أموركم، فإن اعتدال الموازين المادية والمعنوية والقيمية هي استقرار لحركة الحياة.
أما إن ظللتم على العِوج فاعلموا أنه سبحانه قادر على أن يُذهبكم وأن يأتي بخلق جديد :
﴿ إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد ١٩ ﴾ ( إبراهيم ).
إن منطوق الآن ومفهومها ليس مراده سبحانه، لأن الله خلق الخلْق، ووهبهم الاختيار ليُقبل الخلق على الله، رغم أنه سبحانه قد ملّكهم ألا يُقبلوا عليه.
وفي موقع آخر يقول سبحانه :
﴿ هاأنتم هؤلاء تُدعَون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنيّ وأنتم الفقراء وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ٣٨ ﴾ ( محمد ).
ويقول في قضية إنكار اليهود لطريقة ميلاد المسيح عيسى بن مريم.
﴿ ولما ضُرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون ٥٧ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خَصِمون ٥٨ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ٥٩ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ٦٠ ﴾ ( الزخرف ).
إذن : فطلاقة قدرة الله التي خلقته بلا أب، يمكن أن تفعل تلك القدرة المطلقة ما تشاء، فلا شيء يتأبّى على مرادات الحق ولا على قدراته.
ويقول في موقع آخر :
﴿ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ٤٠ على أن نبدّل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ٤١ ﴾ ( المعارج ).
فلا أحد يسبق إرادة الله أو مشيئته.
١ أشفقن منها: ضقن من حمل الأمانة، ومن نتائج عدم الوفاء بحقوقها. [القاموس القويم ١/٣٥١]..
٢ لعب: عمل عملا لا يُجدى عليه نفعا. لاعبون: عابثون غير جادين. [القاموس القويم: ٢/١٩٤]..
٣ البيان: النطق المعبّر عما في النفس من معان وأفكار. [القاموس القويم: ١/٩٢]..
٤ القسط: العدل. وأقسط: عدل وأزال الظلم والجور. والقسطاس: الميزان والعدل. [القاموس القويم ٢/١١٦]..
٥ المحاق: آخر الشهر إذا امّحق الهلال فلم يُرَ. وقال ابن الأعرابي: سُمّي المحاق محاقا لأنه طلع مع الشمس فمحقه فلم يره أحد. [لسان العرب - مادة: محق]..
ويقول الحق سبحانه مؤكدا أن قدرته على المجيء بخلق جديد ليست مسألة مستحيلة :
﴿ وما ذلك على الله بعزيز ٢٠ ﴾
والشيء العزيز هو الشيء المُمتنِع. والله سبحانه لا يُغلب. وقد بيّن لنا في جزئيات الحياة أنه يذهب بنبات ويأتي بنبات آخر، ويذهب بحيوان ويأتي بحيوان آخر ؛ وكذلك يذهب بالجماعة من البشر ويأتي بغيرهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وبرَزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تَبَعاً فهل أنتم مُغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجَزِعنا١ أم صبرنا ما لنا من محيص٢ ٢١ ﴾
والبروز أن يظهر شيء كان خفيا. ويُقال ( رجل بارز ) أي : مرموق وقَيْد الأبصار، ولا تُفتح الدنيا إلا عليه، ويقال ( امرأة بارزة ) أي : امرأة تختلط بالرجال وغير مُستترة.
ويقول سبحانه :
﴿ وترى الأرض بارزة.. ٤٧ ﴾ ( الكهف ).
أي : سيرى كلٌّ منا كلّ الأرض في اليوم الآخر وهي مكتملة ؛ لا جزء منها فقط كما يحدث في حياتنا الدنيوية، ذلك أن الحق سبحانه قد قال لنا :
{ فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ٢٢ ) ( ق ).
ويُقال أيضا ( فرس بارز ) وهو ما يطلق على الحصان الذي يفوز عند التسابق مع غيره ؛ ولا يستطيع فرس آخر أن يسبقه، لذلك فهو فرس تراه العين أثناء السباق بوضوح.
ونعلم أن الخيل في لحظات السباق تثير أثناء تسابقها غبارا –أي : ترابا يضبّب المرئيات- فلا يرى أحد تفاصيل الموقع الذي تجري فيه الخيول، أما إذا ظهر فرس يسبق الجميع فلا خيول أخرى قريبة منه تثير غبارا يمنع رؤيته بارزا واضحا.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وبرَزوا لله جميعا.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
ولقائل أن يسأل : وهل كانت هناك أشياء خافية عنه سبحانه ثم برزت ؟
ونقول : إنه سبحانه منزّه أن تخفى عنه خافية في الأرض أو السماء أو الكون كله، ولكن المقصود هنا أنهم يبرزون عند أنفسهم، ويرون وجودهم واضحا أمام الحق سبحانه.
وهم من قبل كانوا :
﴿ يستخْفُون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يُبيِّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ١٠٨ ﴾ ( النساء ).
وكانوا قد ظنوا أنهم قادرون على أن يخفوا عن ربهم ما كانوا يفعلون، ويُبيّتون ويمكرون، ونجدهم يوم القيامة مفضوحين أمام خالقهم، حكمهم في ذلك حُكم كل الخلق.
أو : برز كل واحد منهم أمام نفسه، ورأى نفسه أمام الله.
ونعلم أنه سبحانه قد خلق الخلق على لونين ؛ لون مقهور فيه الإنسان، ولا إرادة له، ولون مخيّر فيه الإنسان، ونسبة ما منح فيه الإنسان، ولا إرادة له، ولون مخيّر فيه الإنسان، ونسبة ما منح فيه الإنسان الاختيار قليل، إذا ما قيس بما ليس له فيه اختيار.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك، لأنه علم أزلا أن الإنسان الذي تعوّد على أن يتمرّد على الله، فهو يوضّح له : أنت قد ألِفت التمرد وقول ( لا )، وقد تُجاهر بالكفر، وتحارب من أجله، وتريد أن تخرج عن مرادات الحق، فإن كنت صادقا في أن هذا الخروج ذاتي فيك، فتمرّد على القهريات التي تنتابك.
ويعلم الإنسان بالتجربة أنه غير قادر على ذلك، فلا الفقير يستطيع أن يثرَى دون مشيئة الله ؛ والمريض لا يستطيع أن يشفى دون مشيئة الله، والضعيف لا يستطيع أن يقوى ضد إرادة الله.
وكل هذا يدل على أن ملكية الله لك لا تزال بالقهر فيك، وسيأتي يوم يسلب منك الاختيار.
﴿ لِمن المُلك اليوم لله الواحد القهّار ١٦ ﴾ ( غافر ).
وأنت تبرز بكل تكوينك لحظتها أمام نفسك، وتجد الحق سبحانه أمامك، وأنت إما أن تكون بارزا بكل تكويناتك أمام نفسك لحظة وقوفك أمام خالقك، أو يكون المقصود بقوله الحق وقوف كل الخلق أمامه بارزين، سواء أكانوا تابعين أو متبوعين.
ولحظتها سنجد قوله الحق مُطبقا :
﴿ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تَبَعا.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا نرى أن هناك حوارا بين اثنين من البشر ؛ نوع مستكبر، وهم القادة السادة الذين يُلقون أوامرهم، لينفّذها الضِّعاف، ثم يُفاجأ الضعاف التابعون أن رؤوسهم تساوت في اليوم الآخر مع هؤلاء الأقوياء الجبابرة، ويرون ما ينتظرهم جميعا من عذاب، فيسأل الضعاف أهل الجبروت :
﴿ فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
وهؤلاء المستكبرون سبق لهم أن استكبروا على هؤلاء الضّعاف بما لهم من قوة وسيادة، أو استكبروا على الرسل إيمانا كما أوضح الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن :
{ لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ( الزخرف ).
وفي هذا القول استكبار على الإيمان، وكأنهم يُعدّلون على الله –والعياذ بالله- مشيئته وواسع علمه الذي يختار به الرسل.
أو : أنهم قد استكبروا على أنفسهم فلم يؤمنوا، أو : أنهم قد استكبروا على الأتباع بما لهم من جاه ونفوذ فلم يقدر الأتباع على مخالفتهم ؛ لذلك يقول لهم الأتباع لحظة تساوي الرؤوس :
﴿ فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء ٢١ ﴾ ( لإبراهيم ).
وهذا تقريع وخِزي وفضيحة للتابع.
ونعلم أن الحق سبحانه قال في موقع آخر من القرآن على لسان التابعين :
﴿ ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكُبراءنا فأضلّونا السبيلا ٦٧ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ٦٨ ﴾ ( الأحزاب ).
وقد عرض الحق سبحانه هذه المسألة علينا لنتعلم من البداية كيف يكون ميزان التبعية ؟ وإياك أن تتبع في أمر إلا ّ إذا اقتنعت أنه يأتي لك بخير، وأنه يدفع عند الشر، ولينتبه كل منا جيدا ولا يعطي زمام قيادة حركة الحياة إلا عن بينة.
وليتذكر كل منا قوله الحق :
﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ١٦ ﴾ ( الحشر ).
فحين يأتيك أمر مخالف لمنهج الله، عليك أن تُعلي منهج الله فوق كل أمر. وقد أوضح لنا الحق سبحانه ذلك كي ننتبه جيدا فلا نُلقي زمام أمورنا لمن نتبع إلا برويّة وبحكمة ؛ أيدلّنا على خير أم يدلنا على شر، وهل يستطيع أن يدرأ عنا الشر، وأن يُنجينا من الإصابة بمكروه ؟
فليكن كل منا على بينة من أمره، وقد قال الحق سبحانه في سورة الرحمن :
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ١٦ ﴾ ( الرحمن ).
والآلاء هي النعم ؛ ومن أرقى النعم هي تلك القيم التي أوضحها لنا الحق سبحانه لنسير على هُداها في الحياة الدنيا كي لا نُقبل على الحياة بجهالة، بل بتوضيح وتبيان لكل شيء.
وهكذا يجب أن يتصرف التابع مع المتبوع كي لا يقف في موقف الخزي المشترك بين الاثنين في يوم الحساب، حيث يقول التابعون للمتبوعين :
﴿ إنا كنا لكم تَبَعا فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا القول القرآني يتكلم به رب العالمين ؛ وكل حرف فيه لهدف ومعنى.
وقوله :
﴿ من عذاب الله من شيء.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
يعني أنهم لن يقدروا أن يخفّفوا ولو جزء بسيطا من عذاب الله، وكأنهم يُسهّلونها عليهم، فيطلبون منهم أن يتحمّلوا، أو أن يخفّفوا عنهم ولو جزء بسيطا من العذاب.
والمثل على ذلك حين يطلب إنسان من آخر جنيها، فيقول له : ليس معي غيره، فيرده الطالب : إذن اعطني بعضا منه، وكان يطلب ولو رُبعه أو عشرة قروش منه.
هكذا قال الذين اتبعوا لمن اتبعوهم، فماذا يكون الرد من هؤلاء الذين تأبّوا على الله إيمانا به ؟ ها هم يردّون على من سألوهم أن يُخفّفوا ولو جزء قليلا من العذاب :
﴿ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
وهكذا يتكشّف كذبهم، فهم يدّعون أن معنى الهداية هو أن يهبهُم الله الإيمان ؛ متناسين أن معنى الهداية هو الدلالة الموصّلة إلى الغاية.
ولنا في قول الحق سبحانه ما يوضّح المعنى :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى.. ١٧ ﴾ ( محمد ).
فمن يُقبِل على الإيمان بصدر منشرح يجد كل سُبل الخير أمامه ؛ أما من كفر فكيف يهديه الله، وهو قد استحب العمى على الهدى ؟ لن يجد بطبيعة الحال أية هداية.
ويقول الكافرون ذلك لمن اتبعوهم في يوم الحشر، ذلك أنهم يرون رأي العين أن الجنة حقّ، والنار حق، والحساب حق، لذلك يعترفون أمام من اتبعوهم في الدنيا بأن الحق سبحانه لو أخذ بيدهم في الحياة الدنيا إلى الإيمان لقُدناكم إلى هذا الإيمان، وهم في ذلك أصحاب رأي مغلوط.
وذلك قولهم :
﴿ لو هدانا الله لهديناكم.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
ونعلم أن الإنسان إذا ما وقع في مأزق أقوى من قدراته ؛ ولا فجوة فيه للنجاة، فهو يستقبل هذا المأزق بأحد استقبالين، الاستقبال الأول : أن يجزع ويتضرع، والاستقبال الثاني : أن يصمد ويصبر.
وهنا نجد الكافرين يقولون :
﴿ سواء علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أنهم سواء جزِعوا وتضرّعوا، أو صبروا وصمدوا فلن يُنجيهم الله مما هم فيه، فلا مهرب ولا مَنجى.
و( حاص ) في المكان أي : ذهب إلى هنا أو هناك، ولا يجد راحة، ونجد في تعبيرنا العامي ما يصوّر ذلك وهو قولنا ( فلان حايص ) أي : لا يجد مكانا يرتاح فيه.
ولذلك يقال ( نَبَت بهم الأرض )، أي : أن كل مكان في الأرض يرفضهم، ويشرح الحق سبحانه هذه القضية فيقول :
﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبَت وضاقت عليهم أنفسهم.. ١١٨ ﴾ ( التوبة ).
وهكذا نرى من نبت بهم الأرض، إنما لا تسعهم أنفسهم أيضا بل تضيق عليهم، ونسمع ممّن يُنكّل بهم الحق في الحياة الدنيا من يقول :( أنا لا أطيق نفسي ).
وهذا ما يحدث بالفعل لبعض من الناس في لحظات الضيق ؛ فتضيق ذات أيّ منهم عن حمل ذاته، وكأن الواحد منهم له ذاتان، وكأن الواحد منهم له صورتان، الصورة التي تُزيّن الشهوة، وحين تزيد عن الحدّ يعود إلى صورة كاره الشهوة، وهو لا يسعد في الحالتين، عشق الشهوة وكراهيتها.
١ الجزع: نقيض الصبر، وهو ضعف النفس عن احتمال المكروه. [القاموس القويم ١/١٢٢]..
٢ المحيص: المهرب والمفرّ. والمحايصة، مفاعلة، من الحيص العدول والهرب من الشيء [لسان العرب - مادة: حيص]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتُكم فأخلفتُكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمُصرِخكم١ وما أنتم بمُصرِخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾
وهنا نجد تصعيدا للحوار ؛ فبعد أن كان من المتبوعين والتابعين، نجد هذا الارتقاء في الحوار ليكون بين الشيطان وبين البشر. ونلحظ أن الحق سبحانه هنا بالحال الذي يدور فيه الحوار وهو انقضاء الأمر٢، حيث تقرّر الوضع النهائي لكل شيء ؛ ولا نقاش في أيّ أمر، ولا فرصة للتراجع عما حدث.
وقضاء الأمر يعني أن يذهب كل إنسان إلى مصيره، فمن كان من أهل الجنة دخلها، ومن كان من أهل النار دخلها، فقد وصلت الأمور إلى حدّها النهائي الذي لا تتغير من بعده.
ويفضح الشيطان نفسه فيقول :
﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتُكم فأخلفتًُكم.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
ووعد الله حق، لأنه وعد ممن يملك، أما وعد الشيطان فقد اختلف، لأنه وعد بما لا يملك، لذلك هو وعد كاذب، لأن الحق سبحانه هو الأمر الثابت الذي لا يتغير.
وحين تعِد أنت –الإنسان- إنسانا آخر بخير قادم، فهل تضمن أن تواتيك ظروفك على أن تحقّق له هذا الأمر.
ولذلك يوصينا الحق سبحانه أن نقول :( إن شاء الله )٣ وبذلك نردّ الوعد لله، فهو وحده الذي يمكنه أن يَعِد وينفّذ ما يعِد به.
وعلى الواحد منا أن يحمي نفسه من الكذب، وأن يقول ( إن شاء الله ) فإن لم تستطع أن تحقق ما وعدت به تكون قد حميت نفسك من أن تُلقي اتهاما بالكذب.
ونجد الشيطان وهو يقول في الآخرة :
﴿ ووعدتُكم فأخلفتكم.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
ذلك أن وعده باطل، والباطل لَجْلج٤، وحين تحكم به الآن تُثبت لك الوقائع عكسه، وتجعلك لا تصدق ما حكمت به.
ولذلك نجد الحق سبحانه يوضح لنا المسافة بين الحق والباطل.
فيقول :
﴿ فأما الزّبد فيذهب جُفاءً٥ وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ١٧ ﴾ ( الرعد ).
وهكذا يحاول الشيطان أن يبرّئ نفسه رغم علمه أنه قد وعد، وهو لا يملك إنفاذ ما وعد به، ولذلك يحاول أن يلصق التهمة بمن اتبعوه مثله مثل أولئك الذين قالوا :
﴿ لو هدانا الله لهديناكم.. ٢١ ﴾ ( إبراهيم ).
فيقول الشيطان من بعد ذلك :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتُم لي ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
والسلطان –كما نعلم- إما سلطان قهر أو سلطان إقناع. وسلطان القهر يعني أن يملك أحد من القوة ما يقهر به غيره على أن يفعل ما يكره، بينما يكون كارها للفعل.
أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقا يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل، وهكذا يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر الأعظم، ويقول : أريد أن أناقشكم ؛ هل كان لي سلطان قهريّ أقهركم به ؟ هل كان لي سلطان إقناع أقنعكم به على إتباع طريقي ؟
لم يكن لي في دنياكم هذه ولا تلك، فلا تتهموني ولا تجعلوني ( شماعة ) تعلّقون علي أخطاءكم، فقد غويت من قبلكم وخالفت أمر ربي، ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتكم فاستحببتم لي.
وكل ما كان لي عندكم أني حرّكت فيكم نوازع أنفسكم، وتحرّكَت نوازع أنفسكم من بعد ذلك لتُقبِلوا على المعصية.
إذن : فالشيطان إما أن يُحرّك نوازع النفس، أو يترك النفس تتحرك بنوازعها إلى المعصية، وهي كافية لذلك.
وسبق أن أوضحت كيف تُعرف المعصية، إن كانت من الشيطان تسويلا استقلاليا أو تسويلا تبعيا ؛ فإن وقفت النفس عند معصية بعينها، وكلما أبعدها الإنسان تُلح عليه، فهذا هو ما تريده النفس من الإنسان حيث تطلب معصية بعينها.
أما نزْغ٦ الشيطان فهو أن ينتقل الشيطان من معصية إلى أخرى محاولا غواية الإنسان، إن وجده رافضا لمعصية ما، انتقل بالغواية إلى غيرها، لأن الشيطان يريد الإنسان عاصيا على أيّ لون، فالمهم أن يعصي فقط، لذلك يحاول أن يدخل إلى الإنسان من نقطة ضعفه، فإن وجده قويا في ناحية اتجه إلى أخرى.
ويعلن الشيطان أنه ليس المَلُوم على ذلك :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فالملوم هنا هو من أقبل على المعصية، لا من أغوى بها.
ويستمر الحق سبحانه في فضح ما يقوله الشيطان لمن أغواهم في اليوم الآخر :
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
هذا هو قول الشيطان الذي سبق وأن تعالى على آدم لحظة أن طلب منه الحق سبحانه أن يسجد له مع الملائكة، ولكن الموقف هنا هو التساوي بين الذين أغواهم وبينه، فهو يعلن أنه لن ينفعهم وهم لن ينفعونه.
والمُصرِخ من مادة الصراخ من صرخ، وهو رفع الصوت بغرض أن يسمعه غيره، ولا يطلب من يصرخ شيئا آخر غير المعونة فلو أن أحدا عثر على كنز تحت قدميه فلن يصرخ، بل يتلفّت حوله ليرى : هل هناك من رآه أم لا ؟
أما إن هاجمه أسد فلا بد أن يصرخ طالبا النجاة، وهكذا يكون الصراخ له مأرب طلب المعونة، وهذا لا يتأتّى إلا ممن يخاف من مُفزع.
و ( مُصرخ ) يدل على الفعل ( أصرخ ) وهو فعل دخلت عليه ما يسمّى في اللغة ( همزة الإزالة ). والمثل هو كلمة ( معجم ) أي : الذي يدلك على المعنى للفظ ليُزيل إبهامه، فيقال ( أعجم الكتاب ) أي : أزال إبهامه، وهذه الهمزة التي دخلت توضّح إزالة العُجمة عن الكلمة.
والمثل أيضا على هذه الهمزة، هو كلمة ( عتب ) أي : لامه، وحين تدخل عليه الهمزة تصبح ( أعتب ) أي : أزال ما به عَتَب.
ونجد غي دعائه صلى الله عليه وسلم قوله الشريف :( لك العُتبى حتى ترضى )٧.
أي : إذا كنت يا رب تعتب عليّ في أي شيء، فأنا أدعوك أن تزيل هذا العتب.
وهكذا نجد أن الإزالة تأتي مرة بإضافة الهمزة، ومرة تأتي بالتضعيف، مثل قولنا ( مرض الطبيب مريضه ) أي : أزال عنه -بإذن من الله- مرضه.
إذن :( مُصرخ ) هو من يُزيل صراخ آخر، فكأن هناك من استغاث، فجاءه من يُغيثه. وهكذا يعلن الشيطان في اليوم الآخر أنه ومن أغواهم في مأزق، وأنه غير قادر على إزالة سبب هذا المأزق، ولا هم بقادرين على إزالة سبب مأزقه، ولن يُغيث أحدهما الآخر.
ويضيف :
﴿ إني كفرت بما أشركتموني من قبل.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فأنتم أشركتموني مع الله في الطاعة، حين استسلمتم لغوايتي، ولم تكونوا من عباد الله المخلصين الذين أقسمت أنا بعزة الله ألا أُغويهم٨، وكل منكم نفذ ما أغويته به، فناديتكم واستجبتم، وناداكم الله فعصيتم أو كفرتم. وصِرتم مثلي، فقد سبق لي أن أمرني الله وعصيت.
ويقول الحق سبحانه ما يجيء على لسان الشيطان لمن كفر وعصى :
﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذه قضية عامة، قضية الكفر في القمة، فكما أطعتم الشيطان وجعلتموه شريكا لله، فها هو الشيطان يُخبركم بتقدير هذا الموقف، بأنه شرك بالله، وهو يعلن الكفر بهذا، لأن يوم الحشر قد جاء، وتحقق فيه قول الله له :
﴿ فإنك من المنظرين٩ ٣٧ إلى يوم الوقت المعلوم ٣٨ ﴾ ( الحجر ).
وكان الشيطان من قبل اليوم المعلوم –وهو اليوم الآخر- يدسّ ويوسوس وينزغ ؛ أما في ذلك اليوم فقد برز كل شيء من إنس وجن وكل الكائنات أمام الواحد القهار، ولم يعد هناك ما يخفى عن العين.
وهذا ما خدعوا به أنفسهم، وظنوا أنهم قادرون على أن يُخفوا ما فعلوه عن أعيُن الله، ولذلك نجد الحديث القدسي قول :
( يا بني آدم، إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ).
وأنت في حياتك اليومية لا تجد من يسرق من آخر وجها لوجه، ولا أحد يحرق بيت أحد أمام عينيه، فإن كنتم يا معشر البشر لا تفعلون ذلك مع بعضكم البعض، فكيف تفعلون ذلك مع خالقكم، فتعصونه.
وإن شككتم أنه لا يراكم في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أنه يراكم فلا تجعلوه أهون الناظرين إليكم، لأنه لو نظر إليك إنسان فأنت لا تجرؤ على أن تصنع له ما يكرهه.
ولذلك يقول الشيطان معترفا ومُقرا بأن الظالمين لهم عذاب أليم، والظلم في القمة هو الشرك بالله :
﴿ إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ﴾ ( لقمان ).
وحين نقرأ لك إما أن نأخذه على أنه إقرار من الشيطان، أو نفهمه على أن الشيطان قد قال :
﴿ إني كفرت بما أشركتموني من قبل.. ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
ويقول الحق سبحانه بعدها تلك القضية العامة :
﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فبعد أن تكلم سبحانه عن بروز الخلق والكائنات، ثم الحوار بين الضعفاء والسادة، ثم الحوار بين الشيطان وبين أهل الكفر والمعصية، يأتي بالقضية النهائية في الحكم :
﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾ ( إبراهيم ).
١ المصرخ: المغيث المنقذ من يستصرخه. والمصرخ: الذي يزيل سبب الصّريخ وسبب الصُّراخ. [القاموس القويم ١/٣٧٣]..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٦٩٣): (معنى ﴿لما قُضي الأمر.. ٢٢﴾ (إبراهيم) أي: حُصّل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار)..
٣ وذلك في قوله تعالى: ﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ٢٣ إلا أن يشاء الل ه.. ٢٣﴾ (الكهف)..
٤ اللجلجة: أن يتكلم الرجل بلسان غير بيّن. واللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام. واللجلج: المختلط الذي ليس بمستقيم. والحق أبلج، أي: مضيء مستقيم. [لسان العرب - مادة: لجج]..
٥ جفأ الوادي غثاءه: رمى بالزّبد والقذى. واسم الزبد: الجفاء. والجفاء: الباطل. [لسان العرب - مادة: جفأ]..
٦ نزغه الشيطان: وسوس له بالشر. ونزغ ما بين الرجلين: أفسد ما بينهما. [القاموس القويم ٢/٢٦٠]..
٧ دعاء دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيذاء أهل الطائف له، فقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي.. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله) أورده البيهقي في دلائل النبوة (٢/٤١٥)، وابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤١٩، ٤٢٠)..
٨ وذلك قوله تعالى: (قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين ٨٢ إلا عبادك منهم المخلصين ٨٣} (ص)..
٩ أنظره: أخّره وأمهله وتأنّي عليه. وقوله تعالى: ﴿قال أنظِرني إلى يوم يُبعثون ١٤﴾ (الأعراف) أي: أمهلني وأخّر حسابي وعقابي إلى يوم القيامة [القاموس القويم ٢/٢٧٣]..
والمناسبات توحي بمقابلاتها، لتكون النفس مُتشوّقة ومتقبّلة لهذا المقابل، مثل قول الحق سبحانه :
﴿ إن الأبرار لفي نعيم ١٣ ﴾ ( الانفطار ).
ويأتي بعدها بالمقابل لها :
﴿ وإن الفجّار لفي جحيم ١٤ ﴾ ( الانفطار ).
فكما جاء بمقابل الأشقياء، لا بد أن يفتح القلوب لتنعم بسعادة مصير وجزاء الذين سُعدوا بالإيمان.
لذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيّتُهم فيها سلام ٢٣ ﴾
وهنا جاء الفعل، ويمكن نسبته إلى ثلاث جهات. ولكل جهة مَلحظ، فمرة يُسند الفعل لله سبحانه، ومرة يُنسب الفعل للملائكة الذين يتلقون الأمر من الله بإدخال المؤمنين الجنة، ومرة للمؤمنين الذين يدخلون الجنة بإذن الله.
فالله أدخلهم إذنا، والملائكة الموكّلون فتحوا أبواب الجنة لهم، والمؤمنون دخلوا بالفعل.
وهكذا يكون لكل مَلحظ.
وهناك قراءة أخرى للآية توضح ذلك :
( وأُدخل١ الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة ) والمتكلم هنا هو الله. ونلحظ أن الله قال هنا :
﴿ وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات.. ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
لكي تضم كلمة ( أدخل ) أنه سبحانه أذن بدخولهم، لأنه قال في نفس الآية :
﴿ بإذن ربهم ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
وأن الملائكة المكلّفين بذلك فتحوا لهم أبوابها. والمؤمنون دخلوها كل ذلك بإذن الله.
ونلحظ أن كل الكلام هنا عن الجنات، فما هي الجنات ؟ ونقول : إن الجنة في أصل اللغة هي السّتر، ومنها الجنون أي : ستر العقل، والمادة هي : الجيم والنون، والجنة تستر من فيها بما فيها من أشجار كثيرة بحيث من يمشي فيها لا يظهر، لأن أشجارها تستره.
أو : أن من يدخلها يجلس فيها ولا يراه أحد، لأن كل خير فيها لا يُلجئه أن يخرج منها.
وتُطلق الجنات على ما في الدنيا أيضا، والحق سبحانه هو القائل :
﴿ أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب.. ٢٦٦ ﴾ ( البقرة ).
ولنا أن نعرف أن الجنة غير المساكن التي في الجنة، لأن الحق سبحانه يقول :
﴿ ومساكن طيبة في جنات عدن.. ٧٢ ﴾ ( التوبة ).
والجنة –ولله المثل الأعلى- هي الحديقة الواسعة، وهذا الاتساع مُوزّع على كل مرأى عين. والإنسان –بعجائب تكوينه- يُحب أن يتخصص في مكان مرة، ويحب أن ينتشر في مكان مرة أخرى، فيستأجر شقة أو يبني لنفسه بيتا مستقلا ( فيللا ). وفي البيت أو الفيللا يحب الإنسان أن تكون له حجرة خاصة لا يدخلها غيره.
والإنسان يُقيّم الأشياء على هذا الأساس، فينظر من يرغب في شراء قطعة أرض ليبنى عليها بيتا : أهي تُطل على حارة أم على شارع ؟ وهل سيستطيع أن يعلوَ بالبناء إلى عدة أدوار أم لا ؟ وهل سيخصص قطعة من الأرض كحديقة أم لا ؟
فإن كانت الأرض تُطل على الفضاء، فحساب المتر ليس بالثمن المدفوع فيه ؛ ولكن بقيمة ما يتجه من اتساع أُفق وفضاء من مزارع أو على البحر مثلا، حيث لن يتطفل عليك أحد في هذا المكان.
والجنات بهذا الشكل التقريبي، هي أماكن متسعة، وكل من يدخلها له فيها مساكن طيبة، تلك الجنات تجري من تحتها الأنهار.
ومن يدخلونها :
﴿ خالدين فيها بإذن ربهم.. ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
ذلك أن الإنسان يحب التنعّم، ولكن كل تنعّم في الدنيا هناك ما يُنغّصه، وهل يدوم أم لا يدوم ؟ وكل منا رأى أناسا عاشت في نعيم، ثم نُزع منها بحكم الأغيار، أو تركوه بحكم الموت.
أما جنة الله ونعيمها فالأمر مختلف، ذلك أن النعيم هناك لا يفوتك، ولا تفوته، لأنه على قدر إمكانات ربّك.
ونلحظ أن أقول الحق سبحانه :
﴿ خالدين فيها.. ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
يوضّح أن الخلود في الجنة دائم بإذن من الله.
ويتابع سبحانه :
﴿ تحيّتُهم فيها سلام٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
والتحية هو ما يواجه به الإنسان أخاه إثباتا لسروره بلقائه ؛ ولذلك تأتي التحية على مقدار السرور، فمرة تكون التحية بمجرد رفع اليد دون مصافحة، وقد لا تكتفي بذلك في حالة ازدياد المعزّة التي لصاحبك عندك، فتصافحه، وقد تأخذه في أحضانك، وهكذا ترتقي في التحية، وهي إعلان السرور باللقاء.
وتحية الجنة هي السلام، لأن السلام أمن كل إنسان، سلام مع نفسك، فلا تكدّرها بحديث النفس الذي يندم على ما فات، أو الحُلم بعض قادم، فالسلام في الجنة لن تجد فيه منغّصات من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وتنسجم مع كل ما حولك في الكون ؛ الجماد ؛ النبات ؛ البشر ؛ الملائكة.
ولذلك قال الحق سبحانه تذييلا لهذه الآية :
﴿ تحيّتُهم فيها سلام ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذه أفضل نعمة، وهي الحياة في سلام وأمن، وبعد ذلك تدخل الملائكة عليهم مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ والملائكة يدخلون عليهم٢ من كل باب٣ ٢٣ سلام عليكم بما صبرتم فنِعم عُقبى الدار ٢٤ ﴾ ( الرعد ).
ثم يُلقّون السلام الأعلى من الله، وهو القائل :
﴿ سلام قولاً من رب رحيم ٥٨ ﴾ ( يس ).
١ هذه قراءة الحسن (وأُدخِل) على الاستقبال والاستئناف. قاله القرطبي في تفسيره (٥/٣٩٩٦)..
٢ قال سعيد بن جبير: يدخلون عليهم على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات، معهم التحف من الله ما ليس لهم في جنات عدن. [الدر المنثور ٤/٦٣٩]..
٣ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٢٤)..
وبعد أن شرح الحق سبحانه أحوال أهل القُرب والسعادة، وأهل البُعد والشقاء، أراد عز وجل أن يضرب لنا مثلا يوضح فيه الفارق بين منهج السعداء الذين عاشوا بمنهج الله، ومنهج الأشقياء الذين اتبعوا مناهج شتى غير منهج الله، فقال سبحانه :
﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيبة أصلها١ ثابت وفرعُها في السماء ٢٤ تُؤتي أُكُلَها٢ كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثالَ للناس لعلهم يتذكّرون ٢٥ ﴾
والمثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي. وأنت تقول لصديق لك : هل رأيت فلانا ؟ فيقول لك : لا لم أرَه، فتقول له : إنه يُشبه صديقنا فلان. وهكذا توضح أنت من خفِي عن مخيلة صديقك بمن هو واضح الصورة في مُخيلته.
والحق –سبحانه وتعالى- يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسّة، كي ينقل المعاني إلى أذهاننا، لأن الإنسان له إلف بالمُحسّ، وإدراكات حواسه تعطيه أمورا حسية أولا، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾ ( البقرة ).
وقد قال الكافرون : أيضرب الحق مثلا ببعوضة ؟ ذلك أنهم لم يعرفوا أن البعوضة لها حياة، وفيها حركة كأيّ كائن، وتركيبها التشريحي يتشابه مع التركيب التشريحي لكل الأحياء في التفاصيل، ويؤدي كل الوظائف الحيوية المطلوبة منه.
ولا أحد غير الدارسين لعلم الحشرات يمكن أن يعرف كيف تتنفس، أو كيف تهضم طعامها، ولا كيفية وجود جهاز دموي فيها، أو مكان الغُدد الخاصة بها، وهي حشرة دقيقة الصنع.
وهو سبحانه ضرب الأمثال الكثيرة ليوضّح الأمر الخفيّ بأمر جليّ. ومن بعد ذلك ينتشر المثَل بين الناس، ونقول : إن كلمة ( ضرب ) مثلها مثل ( ضرب العملة )، وكان الناس قديما يأتون بقطع من الفضة أو الذهب ويشكّلونها بقدر وشكل محدّد لتدل على قيمة ما، وتصير بذلك عُملة متداولة، ويُقال –أيضا- ( ضُرب في مصر ) أي : اعتمد وصار أمرا واقعا. وكذلك المثل حين ينتشر ويصبح أمرا واقعا.
والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة ؛ ولها أربع خصائص :
﴿ كشجرة طيبة.. ٢٤ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : تعطيك طيبا تستريح له نفسك، إما منظرا أو رائحة أو ثمارا، أو كل ذلك مجتمعا ؛ فقوله :
﴿ كشجرة طيبة.. ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
يوحى بأن كل الحواس تجد فيها ما يُريحها، وكلمة ( طيبة ) مأخوذة من الطيب في جميع وسائل الإحساس.
فالخاصية الأولى، أنها شجرة طيبة، أما الخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت، كإيمان المؤمن المحب، والثالثة أن فروعها في السماء، وهذا دليل أيضا على ثبات الأصل وطيب منبتها.
أما الخاصية الرابعة فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي : فيها عطاء المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد. وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين.
وبما أن شجرة طيبة، فهي كائن نباتي لا بد لها من أن تتغذّى لتحفظ مُقوّمات حياتها. ومقوّمات حيات النبات توجد في الأرض، فإن كانت الشجرة مُخَلخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ غذاءها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن تلك الشجرة :
﴿ أصلها ثابت وفرعها في السماء.. ٢٤ ﴾ ( إبراهيم ).
وكلنا نظن أن الشجرة تأخذ غذاءها من الجذور فقط ؛ ولكن الحقيقة العلمية تؤكد أن الشجرة تأخذ خمسة بالمائة من غذائها عبر الجذور، والباقي تأخذه من الهواء، وكلما كان الهواء نظيفا فالشجرة تنمو بأقصى ما فيها من طاقة حتى تكاد تبلغ فروعها السماء.
أما إن كانت البيئة غير نظيفة ومُلوثة، فالهواء يكون غير نظيف بما لا يسمح للشجرة أن تنمو النمو المناسب، فتمر الأغيار غير المناسبة على الشجرة، فلا تستخلص منها الغذاء المناسب، ولا تنمو النمو المناسب.
اللهم إلا إذا نزل عليها المطر فيغسل أوراقها.
إذن : فقول الحق سبحانه :
﴿ أصلها ثابت.. ٢٣ ﴾ ( إبراهيم ).
يعني : أنها تأخذ من الأرض.
وقوله :
﴿ وفرعها في السماء.. ٢٤ ﴾ ( إبراهيم ).
يُبين أنها تأخذ من أعلى.
١ أصل الشيء: أساسه وقاعدته التي يقوم عليها ويكون في أسفله. [القاموس القويم ١/٢١]..
٢ الأكل: ثمر النخل والشجر، وكل ما يؤكل فهو أُكل. [لسان العرب - مادة: أكل]..
ويتابع سبحانه :
﴿ تُؤتي أُكُلها كل حين.. ٢٥ ﴾ ( إبراهيم ).
والأُكُل هو ما يُؤكل ويُتمتّع به، ولكنا لا نأخذ المعنى هنا على ما يُؤكل بالفم فقط، ذلك أن هناك أشجارا ونباتات طيبة، لأن مزاج الكون العام يتطلبها، فالظل مثلا يُستفاد منه، وكذلك هناك أشجار يتفاعل وجودها مع الأثير، ويأخذ منها رائحة طيبة.
والمثل في ذلك : الطفل البدويّ الذي شاهد نخيل جيرانه مثمرا بالبلح، ولكن النخلة التي يملكونها غير مثمرة، وتساءل : لماذا ؟ وذهب ليقطعها، فلحقه والده ومنعه من ذلك، وقال له : إن نخلتنا هي الذكر الذي يُنتج اللقاح اللازم لبقية النخيل كي تثمر.
ولذلك فأنا لا أوافق المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير قوله الحق :
﴿ كشجرة طيبة.. ٢٤ ﴾ ( إبراهيم ).
بأنها مثل شجرة التفاح وغيرها من الأشجار المثمرة، ذلك أن كل شجرة حتى ولو كانت شجرة حنظل فهي طيبة بفائدتها التي أودعها الحق إياها، فشجرة الحنظل نأخذ منها دواء –قد يكون مرير الطّعم- لكنه يشفي بعضا من الأمراض بإذن الله.
ذلك أن كل ما هو موصوف بشجرة له مهمة طيّبة في هذا الكون. وقول الحق سبحانه :
﴿ تُؤتي أُكلها كل حين.. ٢٥ ﴾ ( إبراهيم ).
يدلّنا على أن هناك قدرا مشتركا بين الشجر كله، مثمرا بما نراه من فاكهة أو غير ذلك.
وقد نبّهنا العلم الحديث إلى أن كل خُضرة إنما تُنقّي الجو بما تأخذ منه من ثاني أوكسيد الكربون، وبما تضيف لنا من أوكسجين، وتستمر الخضرة في ذلك نهارا، وتقلب مهمتها بإرسال ثاني أوكسيد الكربون ليلا وامتصاص الأوكسجين، وكأنها مُبرمجة على فهم أن النهار يقتضي الحركة.
ويحتاج الكائن الحي فيه إلى المزيد من وقود الحركة وهو الأوكسجين، والإنسان أثناء الحركة يستهلك كمية كبيرة من الأوكسجين ؛ ونجد من يصعد سُلّما ينهج لأن رئتيه تحاولان امتصاص أكبر قدر من الأكسجين ليؤكسد الدم، وينتج الطاقة اللازمة للصعود. وهكذا نجد كل خُضرة إنما تقوم بوظائف محددة لها سلفا من قِبل الخالق الأعلى.
ولذلك اختلف العلماء عند التفسير :
﴿ تؤتي أُكلها كل حين.. ٢٥ ﴾ ( إبراهيم ).
فمنهم من قال : إن ( الحين ) يطلق على اللحظة ؛ مثل قول الحق سبحانه :
﴿ فلولا إذا بلغت الحُلقوم١ ٨٣ وأنتم حينئذ تنظرون ٨٤ ﴾ ( الواقعة ).
وقال مُفسّر٢ آخر : إن ( الحين ) يُقصد به الصباح والمساء، والحق سبحانه هو القائل :
﴿ فسبحان الله حين تُمسون وحين تصبحون.. ١٧ ﴾ ( الروم ).
وأقول : فلننتبه إلى أن ( الحين ) هو الوقت الذي يحين فيه المقدور، فإذا كان الحين هو لحظة بلوغ الرّوح إلى الحلقوم، فهذه اللحظة هي المراد ب ( الحين ) هنا، وإذا كان المقصود بها زمنا أطول من ذلك، صباحا ومساء ؛ فهذا الزمن ينسحب عليه معنى الحين.
والحق سبحانه هو القائل :
﴿ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس.. ١٧٧ ﴾ ( البقرة ).
والبأساء يعني الحرب، ومدة الحرب قد تطول. وكذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ ولكم في الأرض مُستقر ومتاع إلى حين ٣٤ ﴾ ( الأعراف ).
وهكذا يكون معنى ( الحين ) هنا هو الأجل غير المسمّى الذي يمتد إلى أن تتبدّل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء. إذن : فلا يوجد توقيت محدد المدة يمكن أن نُحدد به معنى ( حين ).
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :
﴿ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ٢٥ ﴾
( إبراهيم ).
وضرب المثل معناه إيقاع شيء صغير ليدل على شيء كبير ؛ أو بشيء جليّ ليدل على شيء خفيّ، ليقرّب المعنويات إلى وسائل الإدراكات الأولى، وهي مُدركات الحس من سمع وبصر وبقية وسائل الإدراك.
وحين تأتي المعاني التي تناسب الطموح العقلي، فالإنسان يتجاوز مرحلة الحس إلى المعلومات المعنوية ؛ فيقربها الحق سبحانه بأن يضرب لنا الأمثال التي توصل لنا المعنى المطلوب إيصاله.
والحق سبحانه لا يستحيي –كما قال- أن سيضرب مثلا بالبعوضة وما فوقها٣. والبعض من المستشرقين يقول : ولماذا لم يقل ( وما تحتها ) ؟
ونقول لمن يقول ذلك : أنت لم تفهم اللغة العربية ؛ لذلك لم تستقبل القرآن بالمَلَكة العربية، ذلك أن المَثل يُضرب بالشيء الدقيق، وما فوق الدقيق هو الأدقّ.
والحق سبحانه يضرب لنا المَثل للحياة الدنيا، وهي الحياة التي من لدُن خلق الله للإنسان، ذلك أنه كانت هناك أجناس أخرى قبل الإنسان، وهو سبحانه هنا يوضّح لنا بالمثل ما يخص الحياة من لحظة خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وهو يطويها –تلك الحياة الطويلة العريضة التي تستغرق أعمار أجيال- ويعطيها لنا في صورة مثلٍ موجز. فيقول لنا :
﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما٤ تَذْرُوه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدِراً ٤٥ ﴾ ( الكهف ).
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة كلها في هذا المثل من ماء ينزل ونبات ينمو لينضج ثم تذروه٥ الرياح.
وأيضا يقول الحق سبحانه :
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث٦ أعجب الكفار نباتُه ثم يهيج٧ فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما.. ٢٠ ﴾
( الحديد ).
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة الدنيا بطولها وعرضها في هذا المثل البسيط لنرى ما يوضّح لنا المعاني الخفية في صورة مُحسّة بحيث يستطيع العقل الفطري أن يُدرك ما يريده الله منها.
ونعلم أن المُحسّات تدرك أولا بعض الأشياء، ثم ترتقي إلى مرتبة التخيُّل، ثم يأتي التوهُّم، فمراحل الإدراك للأشياء الخفية هي الحِس أولا ؛ ثم التخيل ثانيا ؛ ثم التوهم ثالثا.
والتخيّل هو أن تجمع كلية ليست لها وجود في الخارج، وإن كانت مكوّنة من مادة وأشياء موجودة في هذا الخارج. والمَثل على ذلك هو قول الشاعر الذي أراد أن يصف الوشم على يد حبيبته، فقال :
خوض كأن بَنانَها في نقشه الوشم المُزرد٨
سمكٌ من البِلَّور في شبك تكوّ{ ن من زَبرجَد٩
وحين تبحث في الصورة الكلية لتلك الأبيات من الشعر، لن تجدها موجودة في الواقع، ولكن الشاعر أوجدها من مكوّنات ومفردات موجودة في الواقع ؛ فالسمك موجود ومعروف، والبِلّور موجود ومعروف، وكذلك الشّبك والزبرجد، وقام الشاعر بنسج تلك الصورة غير الموجودة من أشياء موجودة بالفعل، وهذا هو الخيال الذي يقرّب المعنى.
والتوهّم يختلف عن الخيال، فإذا كان التخيّل هو تكوين صورة غير موجودة في الواقع من مفردات موجودة في هذا الواقع، فالتوهّم هو صورة غير موجودة في الواقع، ومكوّن من مفردات غير موجودة في هذا الواقع.
والحق سبحانه يقول لنا عن الجنة :
﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.. ٧١ ﴾
( الزخرف ).
ويشرح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بمذكرة تفسيرية، فيقول :( فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )١٠.
والعين وسيلة إدراك وحِس ؛ وكذلك الأذن، أما ما لا يخطر على القلب فهو ليشرحه الخيال أو الوهم.
وهكذا نعلم لماذا يضرب الله لنا الأمثال، ليوجز لنا ما يشرح ويوضّح بأشياء قريبة من الفهم البشري.
وأنت حين تريد أن تكتب لصديق، فقد تُمسك الورقة والقلم وتدبّج رسالة طويلة، ولكن إن كنت تملك وقتك فستحاول أن تركّز كل المعاني في كلمات قليلة.
وكلنا يذكر ما كتبه سعد زغلول١١ زعيم ثورة ١٩١٩ المصرية لواحد من أصدقائه بعد أن سطّر له رسالة في خمس صفحات ؛ وأنهاها :( إني أعتذر عن الإطالة في الخطاب، فلم يكن عندي وقت للإيجاز ) وذلك لأن من يوجز إنما يضع معاني كثيرة في كلمات قليلة.
وحين طلب أحد القادة المسلمين النُّصرة من خالد بن الوليد ؛ وكان القائد الذي يطلب المساعدة مُحاصَرا، وأرسل لخالد بن الوليد كلمتين اثنتين ( إياك أريد )، وهكذا اختصر القائد المحاصر ما يرغب إيصاله إلى من ينجده، بإيجار شديد.
والشاعر يقول :
إذا أراد الله نشر فضيلة
طُويت أتاح لها لسان حَسود
لولا اشتِعال النار فيما جاورت
ما كان يُعرف طِيب عَرف١٢ العود
أي : انه إذا كانت هناك فضيلة مكتومة نسيها الناس، فالحق سبحانه يتيح لها لسان حاسد حاقد ليثُرثر وينبش ويُنقّب، لتظهر وتنجلي، مثلما يُوضع خشب العود -وهو من أرقى ألوان البخور- في النار، فينتشر عطره بين الناس.
وهكذا ضرب الشاعر المثل ليوضّح أمرا ما للقارئ أو السامع.
ويقول الشاعر ضاربا المثل أيضا :
وإذا امرؤٌ مدح امرءاً لنواله١٣
وأطال فيه فقد أطال هِجاءَهُ
لو لم يُقدّر فيه بُعد المستقى
عند الورود لَمَا أطال رِشاءَهُ١٤
والمقاييس العادية تقول : إن المرء حين يمدح أحدا لفترة طويلة، فهذا يعني الرِّفعة والمجد للممدوح. ولكن حين يقرأ أحد قول هذا الشاعر قد يتعجّب ويندهش، ولكنه يتوقف عند قول الشاعر أن الماء لو كان قريبا في البئر، لأخرجه العطشان بدلو مربوط بحبل قصير، ولكن إن كان الماء على بُعد مسافة في البئر فهذا يقتضي حبلا طويلا لينزل الدلو إلى الماء.
وهذا يعني أن طول المدح إنما يعبّر عن فظاظة الممدوح الذي لا يستجيب إلا بالثناء الطويل، ولو كان الممدوح كريما حقا لاكتفى بكلمة أو كلمتين في مدحه.
وهكذا يكون ضرب المثل توضيحا وتقريبا للذهن.
وهنا قال الحق سبحانه :
﴿ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ٢٥ ﴾ ( إبراهيم ).
والتذكر معناه أن شيئا كان معلوما بالفطرة، ولكن الغفلة طرأت، فيأتي المثل ليُذكّر بالأمر الفطريّ.
١ الحلقوم: الحلق. وهو علميا الآن: هو تجويف خلف تجويف الفم وفيه ست فتحات: فتحة الفم، وفتحتا المنخرين، وفتحتا الأذنين، وفتحة الحنجرة ويمر الطعام والشراب من الحلقوم إلى المرئ، أما النَفَس فهو يمر من الحلقوم إلى الحنجرة. [القاموس القويم ١/١٦٧]..
٢ ذكر القرطبي في تفسيره (٥/٣٦٩٨) أقوالا: (قال الربيع: (كل حين) غدوة وعشية. وقاله ابن عباس. وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات). ثم قال: (وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره)..
٣ يقول تعالى: ﴿إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٦٢﴾ (البقرة) قال ابن كثير في تفسيره (١/٦٤): (معنى الآية أنه تعالى لا يستنكف أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا أو كبيرا، وما ههنا للتقليل. وقال الربيع بن أنس: هذا مثل ضربه الله للدنيا، أن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك)..
٤ الهشيم: النبت اليابس المتكسر. وهو ما يبس من الورق وتكسر وتحطم، فبلغ الغاية في اليبس حتى بلغ أن يُجمع. [لسان العرب - مادة: هشم]..
٥ ذرا الهواء الشيء يذروه ذرواً: أطاره وبدده. [القاموس القويم ١/٢٤٣]..
٦ الغيث: المطر. قال تعالى:﴿كمثل غيث أعجب الكفار نباته.. ٢٠﴾ (الحديد) يحتمل أنه كمثل مطر أعجب الكفار ما خرج بسببه من نبات، ويحتمل أنه كزرع أعجب الكفار نموه ونباته. [القاموس القويم ٢/٦٥]..
٧ أهاجت الريح النبت: أي جعلته جافا قد ذهبت رطوبته. [لسان العرب – مادة: هيج]..
٨ الخوضة: اللؤلؤة. والبنان: أطراف الأصابع. والزّرْد: هو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض كالشبكة..
٩ الزبرجد: الزمرد. (لسان العرب - مادة: زبرجد)..
١٠ أخرج مسلم في صحيحه (٢٨٢٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: وأعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله: ﴿فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قُرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون١٧﴾ [السجدة])..
١١ هو: سعد إبراهيم زغلول، ولد في (إبيانة) من قرى (الغربية) عام ١٨٥٧م تعلم في كتّاب القرية، ودخل الأزهر، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، تولى وزارة المعارف ووزارة الحقانية (العدل)، أصبح رمزا للثورة بعد نفيه إلى مالطة. توفي بالقاهرة عام (١٩٢٧م). [الأعلام للزركلي ٣/٨٣] عن ٧٠ عاما..
١٢ العرف: الريح: طيبة كانت أو خبيثة. وقال ابن سيده: العرف، الرائحة الطيبة والمنتنة. [لسان العرب - المادة: عرف]..
١٣ النوال: العطاء. وأناله معروفة ونوّله: أعطاه معروفه. (لسان العرب - مادة: نول)..
١٤ الورود: الحضور والوصول للماء لتشرب. والرشاء: الحبل. يُوصل به إلى الماء في البئر كما يوصل بالرشوة إلى ما يطلب من الأشياء. (لسان العرب - مادة: رشو)..
وبعد أن ضرب الحق سبحانه المثل بالكلمة الطيبة بيانا لحال أهل القُرب من الله والود معه واتباع منهجه، واتباع منهجه، أراد أن يذكُر لنا المقابل، وهو حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الله، وعن منهجه، فيقول سبحانه وتعالى :
﴿ ومثَل كلمةٍ خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثّت١ من فوق الأرض ما لها من قرار ٢٦ ﴾
وحين نقارن الكلمة الخبيثة بالكلمة الطيبة سنكتشف الفرق الشاسع، فالكلمة الخبيثة مُجتثّة من فوق الأرض، والجُثّة كما نعلم هي الجسد الذي خرجت منه الروح، ومن بعد أن يصبح جُثة يصير رِمّة، ثم يتحلّل إلى عناصره الأولى.
إذن : فالاجتثاث هو استئصال الشيء من أصله وقلعه من جذوره، أما المقابل في الشجرة الطيبة فأصلها ثابت لا تُخلخله ظروف أو أحداث، والكلمة الخبيثة بلا جذور لأنها مُجتثّة، وليس لها قرار تستقر فيه.
وحين تكلم المفسّرون عن الشجرة الطيبة منهم من قال إنها النخلة لأن كل ما فيها خير، فورقها لا يسقط، ويبقى دائما كظل وكل ما فيها يُنتفع به.
فنحن –على سبيل المثال- نأخذ جذع النخلة ونصنع منه أعمدة في بيوت الرّيف، وجريد النخل نصنع منه الكراسي، والليف الموجود بين الأفرع نأخذه لنصنع منه الحبال، والخوص نصنع منه القُفف.
والذين حاولوا أن يفسّروا ( الشجرة الخبيثة ) بأنها شجرة الحنظل، أو شجرة التين، أو شجرة الكُرّات، لكل هؤلاء أقول : لقد خلقها الحق سبحانه لتكون شجرة طيبة في ظروف احتياجنا لها، لأنك حين تنظر إلى الكون ستجد أن مزاجه مُتنوّع، ومُقوّمات الحياة ليست هي الأكل والشرب فقط، بل هناك توازن بيئيّ قد صمّمه الحق تعالى، وهو الأعلم منا جميعا بما خلق، ولم يخلق إلا طيّباً.
وكل شيء في الكون له عطاء مستمر يُشِع في الجو، والمَثل هو تساقط أوراق الشجر التي تعيد الخِصب مرة أخرى إلى الأرض.
وكلها أمور يُبديها الحق سبحانه ولا يبتديها، أي : يُظهرها بعد أن كانت موجودة أَزلا ومخفية عنّا.
وهو جلّ وعلا يرفع قوما ويخفِض قوما، وهو القائل عن ذاته :
﴿ كلَّ يوم هو في شأن ٢٩ ﴾ ( الرحمن ).
وكلنا نعلم أن اليوم عند منطقة ما يبدأ في توقيت معيّن، وينتهي في توقيت معين، وتختلف المناطق الجغرافية وتختلف معها بدايات أيّ يوم من منطقة إلى أخرى، فبعد لحظة من بداية يومك يبدأ يوم آخر في منطقة أخرى، وهكذا تتعدد الأيام وبدايات النهار والليل عند مختلف البشر والمجتمعات.
ولذلك فحين نسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )٢.
فمعنى ذلك أن يد الله المبسوطة دائما، ذلك أن الليل يبدأ في كل لحظة عند قوم، ويبدأ النهار عند قوم في نفس اللحظة، ويتتابع ميلاد الليل والنهار حسب دوران الشمس حول الأرض.
وهكذا لا يجب أن نظلم شجرة الثوم، أو الشجرة الحَنظل، أو أي شجرة من مخلوقات الله ونصِفها بأنها شجرة خبيثة. فلا شيء خبيث من مخلوقات الله.
ونحن حين نجد شابا يقوم بثَنْي قطعة من الحديد قد يحسبه الجاهل أنه يُسيء استخدام الحديد، ولكن العاقل بعلم أنه يقوم بثَنيها ليصنع منها ما يفيده، كخُطّاف يشدّ به شيئا يلزمه.
وعمدة الكلمة الطيبة هي شهادة ( لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ) ومن هذه الشهادة يتفرّع كل الخير. ومن هنا نعلم أن عُمدة الكلمة الخبيثة هي الكفر بتلك الشهادة، وما يتبع الكفر من عناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّ عن سبيل الله، ومن تكذيب لمعجزات الرسل، وإنكار لمنهج الله.
ولقائل أن يقول : ما دام الحق سبحانه قد قال إن هناك شجرة خبيثة، فلا بد أن توجد تلك الشجرة، وأقول : إن كل ما يضر الإنسان في وقت ما هو خبيث، فالسكر مثلا يكون خبيثا بالنسبة لمريض بالسكر، وكل كائن فيه حسنات مفيدة، وله جانب ضار في حالات معينة، وعلى الإنسان المختار أن يميّز ما يضرّه وما ينفعه.
ونلحظ هنا في وصف الكلمة الخبيثة بأنها كالشجرة الخبيثة، أن الحق سبحانه لم يقل إن تلك الشجرة الخبيثة لها فرع في السماء، ذلك أنها مُجتثة من الأرض، مُخلخلة الجذور، فلا سَند لها من الأرض، ولا مددَ لها من السماء.
ولذلك يصفها الحق سبحانه :
﴿ ما لها من قرار ٢٦ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : ما لها من ثبات أو قيام، وكذلك الكفر بالله، ومن يكفر لا يصعد له من عمل طيّب، فلا أساس يصعد به العمل أو القول الطيب.
ولهذا وصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث، أولها : أنها شجرة خبيثة وثانيها : أنها عديمة الأصل بغير ثبات، وثالثها : ما لها من قرار لعدم ثبات الأصل.
ثم يبين الله جل علاه متحدثا عن حصاد الحالتين، فالأولى : أمن وأمان في الدنيا والآخرة. والحالة الثانية : ظلم بضلال، وقلق بضنك، وفي الآخرة لهم عذاب أليم.
١ جثّ الشيء: قطعه أو قلعه من جذوره. واجتثه: استأصله أو اقتلعه. [القاموس القويم ١/١١٧]..
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٥٩) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ يُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت١ في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ٢٧ ﴾
وتأتي هنا كلمة ( التثبيت ) طبيعية بعد قوله :
﴿ اجتُثّث من فوق الأرض ما لها من قرار ٢٦ ﴾ ( إبراهيم ).
لأن الذي يُجتثّ لا ثبوت له ولا استقرار، فجاء بالمقابل بقوله :
﴿ يُثبّت الله الذين آمنوا.. ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
وتوحي كلمة التثبيت أيضا بأن الإنسان ابن للأغيار، وتطرأ عليه الأحداث التي هي نتيجة لاختيار المُكلّفين في نفاذ حكم أو إبطاله، فالمكلّف حين يأمره الله بحكم، قد يُنفّذه، وقد لا ينفذه.
وكذلك قد يتعرض المكلّف لمخالف لمنهج الله، فلا يُنفّذ هذا المخالف تعاليم المنهج، ويؤذي من يتبع التعاليم، وهنا يثق المؤمن أن له إلها لن يخذله في مواجهة تلك الظروف، وسينصره إن قريب أو بعيد على ذلك.
وهكذا لا تنال الأحداث من المؤمن، ويصدق قوله الحق :
﴿ يُثبّت الله الذين آمنوا.. ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
فهم قد آمنوا بوجوده وبقدرته، وبأن له طلاقة مشيئة يُثبّتهم بها مهما كانت جسامة الأحداث، ذلك أن المؤمن يعلم عن يقين أن الحق سبحانه قد قال وصدق :
﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾ ( الرعد ).
وما دام المؤمن قد ثبت قلبه بالإيمان وبالقول الثابت، فهو لا يتعرض لزيغ٢ القلب، ولا يتزعزع عن الحق.
والتثبيت يختلف في أعراف الناس باختلاف المُثبّت، فحين يُخلخل عمود في جدار البيت، فصاحب البيت يأتي بالمهندس الذي يقوم بعمل دعائم لتثبيت هذا العمود، ويتبادل الناس الإعجاب بقدرات هذا المهندس، ويتحاكى الناس بقدرات هذا المهندس على التثبيت للأعمدة التي كادت أن تنهار، وهذا ما يتحدث في عُرف البشر، فما بالُنا بما يمكن أن يفعله خالق البشر ؟
وقوله الحق :
﴿ يثبّت الله الذين آمنوا.. ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
يردك إلى المثبّت الذي لن يطرأ على تثبيته أدنى خَلل. وكلمة ( التثبيت ) دلّتنا على أن الإنسان ابن أغيار، وقد تحدث له أشياء غير مطابقة لما يريده في الحياة، لذلك فالمؤمن يجب ألا يخور، لأن له ربا لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
وسبحانه يُثبّت الذين آمنوا :
﴿ بالقول الثابت في الحياة الدنيا.. ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
والقول ثابت، لأنه من الحق الذي لا يتغيّر، وهذا القول مُوجّه للمؤمنين الذين يواجههم قوم أشرار اختاروا أن يكونوا على غير منهج الله.
وهذا القول يوضح للمؤمنين ضرورة أن يهدأوا، وأن يجعلوا أنفسهم في معيّة الله دائما، وأن يعلموا أن الظالم لو عَلِم ما أعدّه الله للمظلوم من ثواب وحسن جزاء لضنّ الظلم بظلمه على المظلوم ولقال : ولماذا أجعل الله في جانبه ؟
والذين اضطهدوا في دينهم، وقام الكفار بتعذيبهم، لم يُفتَنوا في الدين، فكما قسا عليهم الكفار ضربا وتعذيبا كلما تذكروا حنان الحق فتحمّلوا ما يذيقهم الكافرون من عذاب.
وحُسن الجزاء قد يكون في الدنيا التي يثبّت فيها المؤمن بمشيئة الله، وهي بنت الأغيار وبنت الأسباب، فأنت في الدنيا تحوز على أيّ شيء بأن تتعب من أجل أن تحصل عليه، وتكدّ لتتعلم، وتعثر على وظيفة أو مهنة، ثم تتزوج لتُكوّن أسرة وتخدُم غيرك، ويخدمك غيرك، وتزاول كل أسبابك بغيرك، فأنت تأكل مما تطبخ زوجتك، أو أمك أو من تستخدمه ليؤدي لك هذا العمل.
باختصار كلما ارتقيت، فأنت ترتقي بأثر مجهود ما. وكل متعة تحصل عليها إنما هي نتيجة لمجهود جادّ منك، وأنت تحاول دائما أن تُقلّل المجهود والأسباب لتزيد من متعتك.
فما بالك بالآخرة التي لا تكليف ولا أسباب فيها، وكل ما فيها قد جهّزه الحق تعالى مقدّما للإنسان، ثوابا إن آمن، وعذابا إن كفر وعصى، وإن كانت مؤمنا فالحق سبحانه يُجازيك بجنة عرضها السماوات والأرض، فيها كل ما تشتهي الأنفس.
وإذا كان الحق سبحانه يُثبّت الذين آمنوا في الدنيا بالقول الثابت الحق فتثبيتُه لهم في الآخرة هو حياة بدون أسباب.
ونجده سبحانه لم يقل هنا : الحياة الآخرة، بل قال :
﴿ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
ذلك أن الارتقاءات الطّموحية في الحياة تكون مناسبة للمجهود المبذول فيها، ولكن الأمر في الآخرة يختلف تماما، لأن الحق سبحانه هو الذي يجازي على قدر طلاقة مشيئته، وهو يُثبّتهم بداية من سؤال القبر ونهاية إلى يلقوا الثواب على حُسن ما فعلوا من خير في سبيل الله.
وما دام الحق سبحانه قد ذكر هنا التثبيت في الحياة الدنيا والآخرة ؛ فلا بد أن يأتي بالمقابل، ويقول :
﴿ ويُضلّ٣ الله الظالمين ويفعل ما يشاء ٢٧ ﴾ ( إبراهيم ).
وسبحانه يُضل الظالم لأنه اختار أن يظلم، وهو سبحانه قد جعل للإنسان حقّ الاختيار، فمن اختار أن يظلم، لا بد له من عقاب. وإذا كان سبحانه قد خلق الخَلْق وجعل الكون مُسخّرا لهم، وأعطى المؤمن والكافر من عطاء الربوبية، فإن اختار الكافر كفره، فهو لن ينفّذ تكاليف الألوهية التي أنزلها الله منهجا لهداية الناس.
والكافر إنما يظلم نفسه، ذلك أنه ما دام قد أنِس إلى الكفر فالحق سبحانه يختم على قلبه، فلا يخرج من القلب الكفر، ولا يدخل إليه الإيمان، وهو رب العالمين يفعل ما يشاء.
وإذا كان الحق سبحانه يعطي كل إنسان ما يريد، وما دام الكافر يطلب أن يكون كافرا، فسبحانه يمدّ له في أسباب الكفر ليأخذه من بعد ذلك بها، كما يمدّ الله المؤمنين كل أسباب الإيمان مصداقا لقوله الحق :
﴿ كُلاًّ نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا٤ ٢٠ ﴾ ( الإسراء ).
وهكذا تكون طلاقة قدرة الحق سبحانه وهو يفعل ما يشاء، ذلك أنه لا يوجد إله غيره.
والحق سبحانه قد أكرمنا بالعبودية له وحده، ذلك أننا رأينا جميعا وشاهدنا أثر عبودية الإنسان للإنسان، حين يأخذ السيد خير العبد، وقد ذاقت البشرية الكثير من ويْلاتها، ولكن العبودية لله تختلف تماما حيث يأخذ العبد خير السيد ويُغدق السيد إحسانه على عباده.
١ قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء بن عازب أنه قال: نزلت في عذاب القبر [تفسير القرطبي ٥/٣٧٠١]..
٢ الزيغ: الميل. زيغ القلب: الميل عن الهدى والقصد. [لسان العرب - مادة: زيغ]..
٣ أي: يضلهم عن حجتهم في قبورهم. كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري. فيقول: لا دريت ولا تليت. وعند ذلك يُضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار. [تفسير القرطبي ٥/٣٧٠٢]..
٤ الحظر: المنع. والمحظور: الممنوع. ومعنى قوله تعالى: ﴿وما كان عطاء ربك محظورا ٢٠﴾ (الإسراء) أي: لا يمنع عطاء الله أحد. [القاموس القويم ١/١٦١]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كُفرا وأحلّوا قومهم دار البوار١ ٢٨ ﴾
وحين يقول الحق سبحانه :
﴿ ألم تر.. ٢٨ ﴾ ( إبراهيم ).
فهذا يعني أن المُخبر وهو الحق إذا ما أخبرنا بشيء فهو أصدق من أن تراه أعيننا.
وتشير الآية إلى عملية مُبادلة بين اعتراف بالنعمة، ثم إنكارها.
كان هناك شيئا قد استبعدناه، وأتينا ببديل له. والحق سبحانه هو القائل :
﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. ٦١ ﴾ ( البقرة ).
والحق سبحانه وتعالى قد أعطاك النعمة ولم يطلب منك أن تقوم بأي تكليف لإيمانيّ قبل البلوغ. وهكذا نجد أن النعمة هي الأصل، والتكليف إنما يأتي من بعد ذلك، وكان من الواجب ألا يعصي العبد من أنعم عليه بكل النعم، وأن يتجه إلى التكليف بمحبة، كي لا يقلب نعمة الله كفرا.
أو : أن المقصود هم قوم قريش الذين أفاء٢ الله عليهم الخير، وجعل لهم الحرم آمنا :
﴿ أو لم نُمكّن لهم حَرَماً آمنا يُجبى٣ إليه ثمرات كلّ شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ٥٧ ﴾ ( القصص ).
وكذلك أنعم عليهم بأن يكون نبي الإسلام –الدين الخاتم- منهم، وهو النبي الذي ستدين له الدنيا والعالم في كل زمان ومكان، فلماذا يُبدّلون تلك النعمة كفرا ؟
أمَا كانت تلك النعمة وحدها كافية لمقابلتها بعميق الشكر وحُسن العبادة ؟ فهذا النبي الذي قال الحق سبحانه عن رسالته :
﴿ وإنه لذِكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون ٤٤ ﴾ ( الزخرف ).
وهو سبحانه القائل عن نعمه عليهم :
﴿ لإيلاف قريش ١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ فليعبدوا رب هذا البيت ٣ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ ( قريش ).
فكيف يبدّلون نعمة الله كفرا ؟ وكيف يُسيئون معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وصَحبه حتى قال صلى الله عليه وسلم :( اللهم اجعل سنينهم كسنين يوسف )٤.
وخرج لقتالهم في بدر، وهم الذين صنعوا بأنفسهم ذلك نتيجة تبديلهم لنعمة الله كفرت، ولماذا قبِلوا عطاء الحق من خير ونعم ورفضوا منهجه ؟
ولو كانوا قوم صِدق مع النفس، وصدق مع ما يعتقدونه لطلبوا من الأصنام أن تعطيهم، أو لرفضوا أن يأخذوا خير المنعم ما داموا قد رفضوا منهجه، وهو سبحانه قد أنعم عليهم بمقوّمات المادة، وأضاف لذلك منهجه مُقوم الروح.
وحين نقرأ قول الحق سبحانه :
﴿ وأحلّوا قومهم دار البوار ٢٨ ﴾ ( إبراهيم ).
نفهم أن الإحلال هو إيجاد حالٍّ في محلّ. ونعلم أن الظّرف ينقسم إلى قسمين : ظرف مكان، وظرف زمان، فإذا أحللْت حدثا محلّ حدث، فهذا يخص ظرف الزمان، وحين تحل شيئا مكان شيء آخر، فهذا أمر يخص ظرف المكان.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وأحلّوا قومهم دار البَوار ٢٨ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا يعني ظرف مكان. ولقائل أن يقول : وكيف يأخذون أهلهم وقومهم ليحلوهم إلى دار بَوار ؟
ونقول : لقد حدث ذلك نتيجة أنهم غَشّوهم وخدعوهم، ولم يستعمل هؤلاء الأهل عقولهم، ولم يلتفتوا إلى أن قادتهم وأولي الأمر منهم يسلكون السلوك السيئ وعليهم ألاّ يقلدوهم، فجرّوا عليهم الفتن واحدة تلو أخرى، وترين٥ الفتن على القلوب.
ولهذا أراد الحق سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون بها مناعات من الفتن، فتحثّ النفس اللوامة المؤمن ؛ فيكثر الحسنات ليبطل السيئات، وإذا ما تحولت النفس اللوّامة إلى نفس أمّارة بالسوء وجدت في المجتمع المسلم من يزجرها.
وبهذا تصبح أمة محمد صلى الله عليه وسلم محصّنة ضد الفتن التي تُذهب الإيمان.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.. ١١٠ ﴾ ( آل عمران ).
ويُذكّرنا الحق سبحانه بأن الرسول سيكون شهيدا علينا، ونحن سنكون شهداء على الناس، وهكذا ضمن الحق سبحانه أن يعلم كل واحد من أمة محمد جزئية من العلم ليكون امتدادا لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثلما شهد الرسول أنه قد بلّغ الرسالة، سيكون على كل حدة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يشهد بأنه قد بلّغ ما علم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكل منا يعلم كيف حدثت الغفلة الأولى ؛ حيت حدثت الغفلة الأُسوة، فزاحمتهم الشهوات وارتكبوا السيئات، فحين غفلت النفس ارتكبت المعصية، حين رأى الناس من يرتكب المعصية قلّدوه.
وهكذا حمل من وقع في الغفلة وِزره ووِزر من اتبعه بالأُسوة السيئة، فصار ضالا في ذاته، ثم تحمّل وِزر من أضله أيضا.
وهكذا صار من فعل ذلك هو من أحل قومه دار البوار.
والبوار يعني الهلاك، ذلك أن الكبار من هؤلاء القوم حين تصرّفوا وسلكوا بما يخالف المنهج أورثوا من اتبعوهم الهلاك.
ونحن في الريف نصف الأرض التي لا تصلح للزراعة بأنها الأرض البُور٦، وكذلك يقال ( قمنا بتبوير الأرض ) أي : أهلكنا ما فيها من زرع.
وحين نقرأ قول الحق :
﴿ وأحلّوا قومهم دار البَوار ٢٨ ﴾ ( إبراهيم ).
نجد في كلمة ( قومهم ) ما يوحي بالخِسّة لمن يرتكبون هذا الفعل الشائن، فمن يُهلك قومه لا بد أن يكون خسيسا، ولا بد أن يكون محترف غشّ وخديعة، فالقوم هم من يقومون معهم، وكان من اللائق أن تضرب على يد من يصيبهم بشر أو يغشّهم أو يخدعهم.
١ البوار: الهلاك. ودار البوار: دار الهلاك [لسان العرب - مادة: بور]. والمقصود بها جهنم. قاله ابن زيد. [ذكره القرطبي في تفسيره: ٥/٣٧٠٣]. ويدل عليه قوله تعالى بعده: ﴿جهنم يصلونها وبئس القرار ٢٩﴾ (إبراهيم)..
٢ أفاء الله عليه فيئا: منحه غنيمة في الحرب بالنصر أو بغير الحرب. [القاموس القويم ٢/٩٢]..
٣ جبي الخراج والماء: جمعه. وقوله تعالى: ﴿يُجبى إليه ثمرات كل شيء.. ٥٧﴾ (القصص) تجمع إلى الحرم المكي وتُساق إليه ثمرات وخيرات كثيرة. [القاموس القويم ١/١١٧]..
٤ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسنى يوسف..) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (١٠٠٦) وأحمد في مسنده (٢/٤٧٠، ٥٠٢، ٥٢١)..
٥ الرين: الصدأ يعلو السيف فيذهب ببريقه ويستعار للغشاوة تغطى على القلب بسبب الذنوب، وران الصدأ عليه: غلب عليه وغطاه كله. [القاموس القويم ١/٢٨٢]..
٦ بور الأرض: ما بار منها ولم يُعمر بالزرع. وقال الزجاج: البائر في اللغة الفاسد الذي لا خير فيه. قال: وكذلك أرض بائرة متروكة من أن يزرع فيها. [لسان العرب - مادة: بور]..
ويشرح الحق سبحانه دار البوار هذه، فيقول :
﴿ جهنم يصلونها١ وبئس القرار ٢٩ ﴾
وإذا قِسنا جهنم بالمقرات، فلن نجد من يرغب في أن تكون جهنم هي مقرّه، لأن الإنسان يحب أن يستقر في المكان الذي يجد فيه راحة، ولو لم يجد في هذا المكان راحة ؛ فهو يتركه.
وجهنم التي يصلونها لن تكون المقر الذي يجدون فيه أدنى راحة، لأن العذاب مقيم بها، ولذلك يصفها الحق سبحانه بأنها :
﴿ بئس القرار ٢٩ ﴾ ( إبراهيم ).
فكأنهم ممسوكون بكلاليب٢ فلا يستطيعون منها فكاكا. وهي تقول :
﴿ هل من مزيد ٣٠ ﴾ ( ق ).
وكأنهم قد عشِقوا النار فعشقتهم النار، ولو كانت لديهم قدرة على أن يفرّوا منها لفعلوا، لكنهم مربوطون بها وهي مربوطة بهم ؛ وهي بئس القرار، لأنه أحدا لن يخرج منها إلا أن يشاء الله.
١ أصلاه النار: أدخله إياها وأثواه فيها. وصليت النار أي: قاسيت حرّها. وصَلَى اللحم: شواه. والصِّلاء: الشواء. لأنه يُصْلى بالنار. [لسان العرب - مادة: صلى]..
٢ الكلاليب: جمع كُلاّب، حديدة معوجة الرأس، كالخطاف. [لسان العرب - مادة: كلب]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وجعلوا لله أندادا ليُضلّوا عن سبيله قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ٣٠ ﴾
والنّد هو : المِثل والمُشابه. وهم قد اتخذوا لله شركاء ؛ وأيّ شريك اتخذوه لم يقل لهم عن النعم التي أسبغها عليهم ولم يُنزل لهم منهجا. وهؤلاء الشركاء كانوا أصناما، أو أشجارا، أو الشمس، أو القمر، أو النجوم، ولم يقل كائن من هؤلاء : ماذا أعطى من نعم ليعبدوه ؟
ونعلم أن العبادة تقتضي أمرا نهيا، ولم يُنزل أيّ من هؤلاء الشركاء منهجا كي يتبعه من يعبدونهم، ولا ثواب على العبادة، ولا عقاب على عدم العبادة.
ولذلك نجد أن مثل هؤلاء إنما اتجهوا إلى عبادة هؤلاء الشركاء ؛ لأنهم لم يأتوا بمنهج يلتزمون به.
ولذلك نجد الدجالين الذين يدّعون أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ويتصرفون مع من يصدّقونهم من الأتباع، وكأنهم كائنات أرقى من النبي صلى الله عليه وسلم –والعياذ بالله منهم-.
ومن العجيب أننا نجد بعضا من المثقفين وهم يتبعون هؤلاء الدجالين، وقد يبتعد عنه بسطاء الناس، ذلك أن النفس الفطرية تحب أن تعيش على فطرة الإيمان، أما من يأتي ليُخفّف من أحكام الدين ؛ فيهواه بعض ممن يتلمسون الفِكاك من المنهج.
وبذلك يجعل هؤلاء الأتباع من يخفف عنهم المنهج ندّا لله –والعياذ بالله- ويضلون بذلك عن الإيمان.
والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ وجعلوا لله أندادا ليُضلوا عن سبيله.. ٣٠ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : ليُضلوا غيرهم عن سبيل الله.
وهناك قراءة أخرى١ لنفس الآية ( ليضلوا عن سبيل الله )، وأنت ساعة تسمع حدثا يوجد ليجيء حدث كنتيجة له، فأنت تأتي ب ( لام التعليل ) كقولك ( ذاكر الطالب لينجح ) هنا أنت لم تأت بفعل ونقيضه. وهل كانوا يضلون أنفسهم ؟
لا، بل كانوا يتصوّرون أنهم على هُدى واستقامة، وهذه تُسمّى ( لام العاقبة ) وهي تعني أنه قد يحدث بعد الفعل فعل آخر كان واردا. وهذه تسمّى ( لام تعليلية ).
ولكن قد يأتي فِعل بعد الفعل ولم يكن صاحب الفعل يريده ؛ كما فعل فرعون حيت التقط موسى عليه السلام من الماء ليكون ابنا له، ولكن شاء الحق سبحانه أن يجعله عدوا.
وساعة التقاط فرعون لموسى لم يكن فرعون يريد أن يكبر موسى ليصبح عدوا له، ولكنها مشيئة الله التي أرادت ذلك لتخطئة من ظن نفسه قادرا على التحكم في الأحداث، بداية من ادعاء الألوهية، ومرورا بذبح الأطفال الذكور، ثم يأتي التقاطه لموسى ليكون قُرّة عين له، فينشأ موسى ويكبر ليكون عدوا له ! !
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ٣٠ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا أمر من الله لمحمد أن يقول لهم : تمتعوا. وهذا أمر من الله. والعبادة أمر من الله، فهل إن تمتعوا يكونون قد أطاعوا الله ؟
وهنا نقول : إن هذا أمر تهكميّ، ذلك أن الحق سبحانه قال من بعد ذلك :
﴿ فإن مصيركم إلى النار ٣٠ ﴾ ( إبراهيم ).
وعلى هذا نجد أن الأمر إما أن يُراد به إنفاذ طلب، وإما أن يُراد به الصد عن الطلب بأسلوب تهكميّ.
ونجد في قول الإمام علي –كرّم الله وجهه- قولا يشرح لنا هذا :( لا شر في شر بعده الجنة، ولا خير في خير بعده النار ).
فمن يقول : إن التكاليف صعبة، عليه أن يتذكّر أن بعدها الجنة، ومن يرى المعاصي والكفر أمرا هينا، عليه أن يعرف أن بعد ذلك مصيره إلى النار، فلا تعزل المقدمات عن الأسباب، ولا تعزل السبب عن المُسبّب أو المقدمة عن النتائج.
فالأب الذي يجد ابنه يُلاحق المذاكرة في الليل والنهار ليبني مستقبله قد يشفق عليه، ويسحب الكتاب من يده، ويأمره أن يستريح كي لا يقع في المرض، فيصبح كالمُنبَتّ٢، لا أرضا قطع، ولا ظهرا٣ أبقى، ولكن الولد يرغب في مواصلة الجهد ليصل إلى مكانة مُشرّفة.
وهنا نجد أن كلاًّ من الأب والابن قد نظرا إلى الخير من زوايا مختلفة ؛ ولذلك قد يكون اختلاف النظر إلى الأحداث وسيلة لالتقاءات الخير في الأحداث.
وهم حين يسمعون قول الحق سبحانه :
﴿ قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ٣٠ ﴾ ( إبراهيم ).
قد يستبطئون الأحداث، ويقول الواحد منهم إلى أن يأتي هذا المصير : قد نجد حلا له.
ونقول : فليتذكر كل إنسان أن الأمر المُعلّق على غير ميعاد محدّد، قد يأتي فجأة ؛ فمن يعيش في معصية إلى عمر التسعين، هل يظن أنه سيفرّ من النار ؟
إنه واهم يخدع نفسه، ذلك أن إبهام الله لميعاد الموت هو أعنف بيان عنه. وما دام المصير إلى النار فلا متعة في تلك الحياة.
١ هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٧٠٣) ثم قال: (أما من فتح (أي الياء) فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم. أي: عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، فهذه لام العاقبة)..
٢ الانبتات: الانقطاع. ورجل مُنبت أي مُنقطع به. [لسان العرب – مادة: بتت]..
٣ الظهر: الإبل التي يُحمل عليها ويُركب. (لسان العرب - مادة: ظهر)..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة ويُنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال١ ٣١ ﴾
و ( قل ) من الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل معنى هذا أن العباد الذين سيسمعون هذا الأمر سيقومون إلى الصلاة ؟ لقد سمعه بعضهم ولم يقُم إلى الصلاة.
إذن : من يُطع الأمن هو من حقّق شرط الإيمان، وعلينا أن ننظر إلى مُكتنفات كلمة ( عبادي ) فعباد الله هم الذين آمنوا، وحين يؤمنون فهم سيُعبّرون عن هذا الإيمان بالطاعة. وهكذا نفهم معنى الألفاظ لتستقيم معانيها في أساليبها.
وكل خلْق الله عبيد له، ذلك أن هناك أمورا قد أرادها الله في طريقة خلقهم، لا قدرة لهم على مخالفتها، فهو سبحانه قد قهرهم في أشياء ؛ وخيّرهم في أشياء.
ولذلك أقول دائما للمُتمرّدين على الإيمان بالله، لقد ألِفتم التمرّد على الله، ولم يأب طبع واحد منكم على رفض التمرّد، فإن كنتم صادقين مع أنفسكم عليكم أن تتمردوا على التنفس، فهو أمر لا إرادي أو تمردوا –إن استطعتم- على المرض وميعاد الموت، ولن تستطيعوا ذلك أبدا.
ولكنهم ألِفوا التمرّد على ما يمكنهم الاختيار فيه. ونسوا أن الله يريد منهم أن يلتزموا بمنهجه، فإن اختار المؤمن أن يتبع منهج الله صار من ( عباد الله )، وإن لم يخضع للمنهج فيما له فيه اختيار فهو من العبيد المقهورين على اتباع أوامر الله القهرية فقط.
وأنت حين تستقرئ كلمة ( عباد ) وكلمة ( عبيد ) في القرآن ستجد قول الحق سبحانه :
﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْنا٢ وإذا خاطبهم الجاهلون٣ قالوا سلاما ٦٣ ﴾ ( الفرقان ).
وتتعدد هنا صفات العباد الذين اختاروا اتباع منهج الله، وستجد كلمة العبيد وهي مُلتصقة بمن يتمردون على منهج الله، ولن تجد وصفا لهم بأنهم ( عباد ) إلا في آية واحدة، حين يخاطب الحق جل وعلا الذين أضلوا الناس، فيقول لهم :
﴿ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل ١٧ ﴾
( الفرقان ).
ونلحظ أن زمن هذا الخطاب هو في اليوم الآخر ؛ حيث لا يوجد لأحد مُرتاد مع الله، وحيث يسلب الحق سبحانه كل حق الاختيار من الكائنات المختارة.
وهكذا لا يمكن لأحد أن يطعن في أن كلمة ( عباد ) إنما تستخدم في وصف الذين اختاروا عبادة الله والالتزام بمنهجه في الحياة الدنيا، ذلك أنهم قد سلّموا زِمام اختيارهم لله، وأطاعوه في أوامره ونواهيه.
ونلحظ أن قول الحق سبحانه :
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة ويُنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية.. ٣١ ﴾ ( إبراهيم ).
هو أمر صادر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين في انتظار هذا الأمر ليُنفّذوه فورا، ذلك أن المؤمن يحب أن ينفّذ كل أمر يأتيه من الله.
وما دمت قد أبلغتهم يا محمد هذا الأمر فسيُنفّذونه على الفور ؛ وقد جاء قوله ( يقيموا ) محذوفا منه لام الأمر، تأكيدا على أنهم سيصعدون٤ لتنفيذ الأمر فور سماعه.
وعادة نجد أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في جَمهرة آيات القرآن٥ تأتيان متتابعتين مع بعضهما ؛ لأن إقامة الصلاة تتطلب حركة، تتطلب طاقة وتأخذ وقودا، والوقود يتطلب حركة ويأخذ زمنا، والزكاة تعني أن تُخرج بعضا من ثمرة الزمن، وبعضا من أثر الحركة في الوقت.
ونجد الكسالى عن الصلاة يقولون :( إن العمل يأخذ كل الوقت والواحد منا يحاول أن يجمع الصلوات إلى آخر النهار، ويؤدّيها جميعها قضاء ). وهم لا يلتفتون إلى أن كل فرض حين يُؤدَّى في ميعاده لن يأخذ الوقت الذي يتصورون أنه وقت كبير.
وظاهر الأمر أن الصلاة تُقلّل من ثمرة العمل، لكن الحقيقة أنها تعطي شحنة وطاقة تحفِز النفس على المزيد من إتقان العمل ؛ وكيف يُقبل المصلي على العمل بنفس راضية ؛ ذلك أنه بالصلاة قد وقف في حضرة من خلقه، ومن رزقه، ومن كفله.
ولذلك يخرج منها هادئا مُطمئنا مُنتبها راضيا، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أرحنا بها يا بلال )٦.
والصلاة في كل فرض ؛ لن تأخذ أكثر من ربع الساعة بالوضوء، وإذا نسبت وقت الصلوات كلها إلى وقت العمل ستجد أنها تأخذ نسبة بسيطة وتعطي بأكثر مما أخذت.
وكذلك الزكاة قد تأخذ منك بعضا من ثمرة الوقت لتعطيه إلى غير القادر، ولكنها تمنحك أمانا اجتماعيا فوق ما تتخيّل.
ولذلك تجد الصلاة مرتبطة بالزكاة في آيات القرآن ببعضهما، وإقامة الصلاة هي جِماع القيم كلها ؛ وإيتاء الزكاة جِماع قيام الحركات العضلية كلها.
وتعالج الصلاة شيئا، وتعالج الزكاة شيئا آخر ؛ وكلاهما تُصلح مكونات ماهية الإنسان ؛ الروح ومقوماتها والجسد ومقوماته.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( وجُعلت قُرة عيني في الصلاة )٧.
وحين تنظر إلى الصلاة والزكاة تجد مصالح الحياة مجتمعة وتتفرع منهما ؛ ذلك أن مصالح الحياة قد جمعها صلى الله عليه وسلم في الأركان الخمس للدين، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا٨.
وعرفنا من قبل كيف أخذت الصلاة كل هذه الأركان مجتمعة ؛ ففيها شهادة أن لا إله إلا الله، وفيها تضحية وتزكية ببعض الوقت ؛ وفيها صوم عن كل ما تلتزم به وأنت صائم ؛ وأنت تتوجه خلالها إلى قبلة بيت الله الحرام.
وهكذا نرى كيف ترتبط حركة الحياة والقيم المُصلِحة لها بالصلاة والزكاة.
ويأمرنا الحق سبحانه في هذه الآية الكريمة بأن ننفق سرا وعلانية، وهكذا يشيع الحق الإنفاق في أمرين متقابلين ؛ فالإنفاق سرًّا كي لا يقع الإنسان فريسة المُباهاة ؛ والإنفاق عَلناً كي يعطي غيره من القادرين أُسوة حسنة، ولكي تمنع الآخرين من أن يتحدثوا عنك بلهجة فيها الحسد والغيرة مما أفاء الله عليك من خير.
ولذلك أقول : اجعل الصدقة التطوعية سرا، واجعلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا تعلم شمالك ما أعطت يمينك )٩.
واجعل الزكاة علانية حتى يعلم الناس أنك تُؤدي ما عليك من حقوق الله وتكون بالنسبة لهم أُسوة فعلية، وعظة عملية، واجعلوا من أركان الإسلام عِظة سلوكية، فنحن نرى بعضا من القرى والمدن لا يحج منها أحد، لأن القادرين فيها قد أدّوا فريضة الحج.
ونجد أن القادر الذي يبني مسجدا ؛ يعطي القادر غيره أُسوة ليبني مسجدا آخر، وما أن يأتي رمضان حتى يصوم القادرون عليه ؛ ويعطوا أسوة لصغارهم، وتمنع الاستخذاء أمام الغير، وهكذا نعلن كل تكاليف الإسلام بوضوح أمام المجتمعات كلها.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ويُنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خِلال ٣١ ﴾ ( إبراهيم ).
ومن هنا نعلم أن هناك أعمالا يمكن أن تؤجلها، إلا الغايات التي لا توجد فيها أعواض ؛ فعليك أن تنتهز الفرصة وتنفّذها على الفور ؛ ذلك أن اليوم الآخر لن يكون فيه بيع أو شراء، ولن يستطيع أحد فيه أن يزكّي أو يصلّي ؛ فليست هناك صداقة أو شفاعة تغنيك عما كان يجب أن تقوم به في الحياة الدنيا.
والشفاعة فقط هي ما أذن له الرحمان بها١٠، ولذلك يأتي الأمر هنا بسرعة القيام بالصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق سرا وعلانية من قبل أن يأتي اليوم الذي لا بيع فيه ولا خِلال.
والبيع –كما نعلم- هو معارضة متقابلة، فهناك من يدفع الثمن ؛ وهناك من يأخذ السلعة. والخِلال هو المُخالّة ؛ أي : الصديق الوفيّ الذي تلزمه ويلزمك.
والشعر يُبيّن معنى كلمة ( خليل ) حين يقول :
لمّا التقينا قرّب الشوق جهده
خليلين ذابا لوعة وعِتابا
كأن خليلا في خلال خليله
تسرّب أثناء العِناق وغابا
وهذا يوضح أن المُخالة تعني أن يتخلل كلٌّ منهما الآخر.
وفي الآخرة لن تستطيع أن تشتري جنة أو تفتدي نفسك من النار ؛ ولا مُخالّة هناك بحيث يفيض عليك صديق من حسناته.
والحق سبحانه هو القائل :
﴿ الأخِلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ﴾ بالزخرف ).
وبعض السطحيين يريدون أن يأخذوا على القرآن أنه أثبت الخُلّة ونفاها ؛ فهو القائل :
﴿ لا بيع فيه ولا خِلال ﴾ ( إبراهيم ).
وهو القائل :
﴿ ولا خُلّة.. ٢٥٤ ﴾ ( البقرة ).
ثم أثبت الخُلّة للمتقين ؛ الذين لا يُزيّن أحدهما للآخر معصية.
وهؤلاء السطحيون لا يحسنون تدبّر القرآن ؛ ذلك أن الخُلة المنفية –أو الخِلال المنفية- في الآيات هي الخِلال التي تحضّ على المعاصي ؛ وهذه هي الخِلال السيئة.
ونعلم أن البيع في الحياة الدنيا يكون مقابلة سلعة بثمن ؛ أما المُخالّة ففيها تكرُّم ممن يقدمها ؛ وهو أمر ظاهري ؛ لأن في باطنه مقايضة، فإذا قدّم لك أحد جميلا فهذا يقتضي أن ترد له الجميل ؛ أما التكرُّم المجرد فهو الذي يكون بغير سابق أو لاحق.
١ خلال: إما جمع خُلّة أو مصدر خالّه. والمعنى: إن يوم القيامة لا ينجي من عذابه شيء، فلا يباع فيه شيء بمال يفتدي الكافر نفسه به، ولا صداقة تفيده، فلا صديق يُغنى عن صديق. [القاموس القويم ١/٢٠٨]..
٢ الهوْن: الرفق واللين والتثبت. والهون: السكينة والوقار والسهولة. [لسان العرب - مادة: هون]..
٣ جهل فلان على غيره: تعدّى عليه وتسافه وقسا. والجهل: الطيش والسفه والتعدي بغير حق. والجهل أيضا: ضد العلم وهو الخلو من المعرفة. [القاموس القويم ١/١٣٤]..
٤ صدعت إلى الشيء: مِلْت إليه. [لسان العرب – مادة: صدع].
٥ جاء هذا في أكثر من ٢٧ آية من القرآن. [معجم المفهرس لألفاظ القرآن]..
٦ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/٣٦٤)، وأبو داود في سننه (٤٩٨٥) عن رجل من الصحابة..
٧ أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥)، والنسائي في سننه (٧/٦١) والحاكم في مستدركه (٢/١٦٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وتمامه: (حبِّب إليّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)..
٨ أخرجه مسلم في صحيحه (١٦) كتاب الإيمان، والبخاري في صحيحه (٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما..
٩ أخرجه مسلم في صحيحه (١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ضمن حديث (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)..
١٠ يقول تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا ١٠٩} (طه) ويقول أيضا: ﴿ولا تنفع الشافعة عنده إلا لمن أذن له.. ٢٣﴾ (سبأ). فالشفاعة ثابتة بنص القرآن بشرط إذن الله للشافع أن يشفع، وللمشفوع فيه بعلم الله فيه، أما الكافرون والمشركون والمنافقون فالشفاعة منفية عنهم..
وبعد أن بيّن لنا الحق سبحانه السعداء وبيّن الأشقياء، وضرب المَثل بالكلمة الطيبة، وضرب المثل بالكلمة الخبيثة، يأتي من بعد ذلك بما يهيج في المؤمن فرحة في نفسه ؛ لأنه آمن بالله الذي صنع كل تلك النعم، ويذكر نعما لا يشترك فيها مع الله أحد أبدا، فيقول :
﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخّر لكم الفُلك١ لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار ٣٢ ﴾
والسماء والأرض –كما نعلم- هما ظرفا الحياة لنا كلنا، وقد قال الحق سبحانه :
﴿ لَخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.. ٥٧ ﴾ ( غافر ).
فإذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض ؛ فهذا لفت لنا على الإجمال ؛ لأنه لم يقل لنا ما قاله في مواضع أخرى من القرآن الكريم بأنها من غير عَمَد٢ ؛ وليس فيها فطور، ولم يذكر هنا أنه خلق في الأرض رواسي كي لا تميد٣ بنا الأرض، ولم يذكر كيف قدّر في الأرض أقواتها٤، واكتفى هنا بلمحة عن خلق السماوات والأرض.
وحين يتكلم سبحانه هنا عن خلق السماوات والأرض يأتي بشيء لم يدّعه أحد على كثرة المُدّعين من الملاحدة ؛ وذلك لتكون ألزم في الحجة للخصم، وبذلك كشف لهم حقيقة عدم إيمانهم ؛ وجعلهم يرَون أنهم كفروا نتيجة لَددٍ٥ غير خاضع لمنطق ؛ وهو كفر بلا أسباب.
وحين يحكم الله حُكما لا يوجد له معارض ولا منازع ؛ فهذا يعني أن الحكم قد سلِم له سبحانه. ولم يجترئ أحد من الكافرين على ما قاله الله ؛ وكأن الكافر منهم قد أدار الأمر في رأسه، وعلم أن أحدا لم يدّع لنفسه خلْق السماوات والأرض ؛ ولا يجد مفرا من التسليم بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض.
وقول الحق سبحانه هنا :
﴿ والله الذي خلق السماوات والأرض.. ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
يوضّح لنا أن كلمة ( الله ) هنا ؛ لأنها مناطُ الصعوبة في التكليف ؛ فالتكليف يقف أماما الشهوات، وقد تغضبون من التكليف، ولكنه يحميكم من بعضكم البعض، ويكفل لكم الأمان والحياة الطيبة.
ولم يأت الحق سبحانه بكلمة ( رب ) هنا لأنها مناط العطاء الذي شاءه للبشر، مؤمنهم وكافرهم.
وكلمة ( الله ) تعني المعبود الذي يُنزل الأوامر والنواهي، وتعني أن هناك مشقات، ولذلك ذكر لهم أنه خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء الماء.
ونحن حين نسمع كلمة ( السماء ) نفهم أنها السماء المقابلة للأرض ؛ ولكن التحقيق يؤكد أن السماء هي كل ما علاك فأظلّك.
والمطر كما نعلم إنما ينزل من الغيم والسحاب. والحق سبحانه هو القائل :
﴿ ألم تر أن الله يُزجي٦ سحابا ثم يؤلّف بينه ثم يجعله رُكاماً٧ فترى الودْق٨ يخرج من خلاله.. ٣٤ ﴾ ( النور ).
وقد عرفنا بالعلم التجريبي أن الطائرة –على سبيل المثال- تطير من فوق السحاب، وعلى ذلك فالمطر لا ينزل من السماء ؛ بل ينزل مما يعلونا من غَيم وسحاب.
أو : أنك حين تنسب النزول من السماء ؛ فهذا يوضح لنا أن كل أمورنا تأتي من أعلى ؛ ولذلك نجد الحديد الذي تحتضنه الجبال وينضج في داخلها، يقول فيه الحق سبحانه :
﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس٩ شديد ومنافع للناس.. ٢٥ ﴾ ( الحديد ).
وهكذا نجد أنه إما أن يكون قد نزل كعناصر مع المطر ؛ أو لأن الأمر بتكوينه قد نزل من السماء.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يتحدث الحق سبحانه عن خلق السماوات والأرض ؛ وكيف أنزل الماء من السماء :
﴿ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم.. ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
والثمرات هي نتاج ما تعطيه الأرض من نباتات قد تأكل بعضا منها ؛ وقد لا تأكل البعض الآخر ؛ فنحن نأكل العنب مثلا، ولكنا لا نأكل فروع شجرة العنب، وكذلك نأكل البرتقال ؛ ولكنا لا نأكل أوراق وفروع شجرة البرتقال.
١ الفلك: السفينة، للمذكر والمؤنث والواحد والجمع. [القاموس القويم ٢/٨٩]..
٢ عَمَد: جمع عمود. وقال الفراء: فيه قولان:
أحدهما: أنه خلقها مرفوعة بلا عمد، ولا يحتاجون مع الرؤية إلى خبر.
والقول الثاني: أنه خلقها بعمد لا ترون تلك العمد. [لسان العرب – مادة: عمد]..

٣ ماد يميد: تحرّك واهتزّ. ومادت الأرض: اضطرت وزلزلت. قال تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم.. ١٠﴾ [لقمان]. لئلا تميل وتضطرب، فالجبال العالية توازن البحار العميقة. [القاموس القويم ٢/٢٤٦]..
٤ القوت: الطعام يحفظ على البدن حياته. وجمعه أقوات. قال تعالى: (وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام.. ١٠} [فصلت] أي: أقوات جميع سكان الأرض من إنسان وحيوان وكل شيء حي إلى آخر الدهر. [القاموس القويم ٢/١٢٦]..
٥ اللدد: الخصومة الشديدة. وألده يلده: خصمه. [لسان العرب – مادة: لدد]..
٦ زجه يزجه: دفعه بسرعة. وزجا الشيء يزجوه: ساقه برفق. [القاموس القويم ١/٢٨٤]..
٧ قوله: (ثم يجعله ركاما.. ٤٣} [النور]. أي: متجمعا فيه مطر كثير غزير. [القاموس القويم ١/٢٧٦]..
٨ الودق: المطر كله شديده وهيّنه. [لسان العرب – مادة: ودق]..
٩ قال ابن كثير في تفسيره: ﴿فيه بأس شديد.. ٢٥﴾ [الحديد] يعني: السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها، و: ﴿ومنافع للناس.. ٢٥﴾ [الحديد] أي: في معايشكم كالسكة والفأس والقدوم والمنشار والأزميل والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة.. وما لا قوام للناس بدونه وغير ذلك. [تفسير ابن كثير ٤/٣١٥]..
ويتابع سبحانه :
﴿ وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره.. ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
والتسخير معناه قهر الشيء ليكون في خدمة شيء آخر. وتسخير الفُلك قد يثير في الذهن سؤالا : كيف يُسخّر الله الفلك، والإنسان هو الذي يصنعها ؟
ولكن لماذا لا يسأل صاحب السؤال نفسه : ومن أين نأتي بالأخشاب التي نصنع منها الألواح التي نصنع منها الفلك ؟ ثم من الذي جعل الماء سائلا ؛ لتطفو فوقه السفينة ؟ ومن الذي سيّر الرياح لتدفع السفينة ؟
كل ذلك من بديع صنع الله سبحانه.
وكلمة ( الفلك ) تأتي مرة ويراد بها الشيء الواحد ؛ وتأتي مرة ويراد بها أشياء ؛ فهي تصلح أن تكون مفردا أو جمعا.
والمثل هو قول الحق سبحانه :
﴿ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. ١٦٤ ﴾ ( البقرة ).
وكذلك قال في قصة نوح عليه السلام :
﴿ واصنع الفلك بأعيُننا.. ٣٧ ﴾ ( هود ).
وبعض العلماء يقولون : إذا عاد ضمير التأنيث عليه ؛ تكون جمعا ؛ وإذا عاد بالتذكير تكون مفردا.
ولكني أقول : إن هذا القول غير غالب ؛ فسبحانه قد قال عن سفينة نوح وهي مفرد :
﴿ تجري بأعيننا.. ١٤ ﴾ ( القمر ).
ولم يقل :( يجري بأعيننا )، وهكذا لا يكون التأنيث دليلا على الجمع.
ويتابع سبحانه :
﴿ وسخّر لكم الأنهار.. ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
ونفهم بطبيعة الحال أن النهر عذب الماء ؛ والبحر ماؤه مالح.
وسبحانه قد سخّر لنا كل شيء بأمره، فهو الذي خلق النهر عذب الماء، وجعل له عُمقا يسمح في بعض الأحيان بمسير الفلك ؛ وأحيانا أخرى لا يسمح العمق بذلك.
وجعل البحر عميق القاع لتمرُق فيه السفن، وكل ذلك مُسخّر بأمره، وهو القائل سبحانه :
﴿ إن يشأ يُسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره.. ٣٣ ﴾ ( الشورى ).
أي : أنه سبحانه قد يشاء أن تقف الرياح ساكنة ؛ فتركد السفن في البحار والأنهار.
ومن عجائب إنباءات القرآن أن الحق سبحانه حينما تكلم عن الريح التي تُسيّر الفلك والسفن ؛ قال الشكليون والسطحيون ( لم نعد نُسيّر السفن بالرياح بل نسيّرها بالطاقة ).
ونقول : فلنقرأ قوله الحق :
﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم.. ٤٦ ﴾ ( الأنفال ).
و ( ريحكم ) تعني : قوتكم وطاقتكم ؛ فالمراد بالريح القوة المطلقة ؛ سواء جاءت من هواء، أو من بخار، أو من ماء.
وهذه الآية –التي نحن بصدد خواطرنا عنها –نزلت بعد أن أعلمنا الحق سبحانه بقصة السعداء من المؤمنين ؛ والأشقياء الكافرين ؛ فكانت تلك الآية بمثابة التكريم للمؤمنين الذين قدّروا نعمة الله هذه، فلما علموا بها آمنوا به سبحانه.
وكرمتهم هذه الآية لصفاء فطرتهم التي لم تُضبَّب، وتكريم للعقل الذي فكّر في الكون، ونظر فيه نظرة اعتبار وتدبُّر ليستنتج من ظواهر الكون أن هناك إلها خالقا حكيما.
وفي الآية تقريع للكافر الذي استقبل هذه النعم، ولم يسمع من أحد أنه خلقها له ؛ ولم يخلقها لنفسه ؛ ومع ذلك يكابر ويعاند ويكفر برب هذه النعم.
وأول تلك النعم خلق السماوات والأرض ؛ ثم إذا نظرت لبقية النعم فستجدها قد جاءت بعد خلق السماوات والأرض ؛ وشيء من تلك النعم متصل بالسماء، مثل السحاب، وشيء متصل بالأرض مثل الثمرات التي تخرجها.
إذن : فالاستقامة الأسلوبية موجودة بين النعمة الأولى وبين النعمة الثانية.
ثم قال بعد ذلك :
﴿ وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره.. ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فما هي المناسبة التي جعلت هذا الأمر يأتي بعد هذين الأمرين ؟ لأن الفلك طريقها هو البحار ومسارها في الماء.
وقد قال الحق سبحانه أنه خلق السماوات والأرض. ومدلول الأرض ينصرف على اليابسة كما ينصرف على المائية، ومن العجيب أن المائية على سطح الكرة الأرضية تساوي ثلاثة أمثال اليابسة ؛ ورُقعة الماء بذلك تكون أوسع من رقعة التراب في الأرض.
وما دام الحق سبحانه قد قال إنه أخرج من الأرض ثمرا هي رزق لنا، فلا بد من وجود علاقة ما بين ذلك وتلك، فإذا كانت البحار تأخذ ثلاثة أرباع المساحة من الأرض ؛ فلا بد أن يكون فيها للإنسان شيء.
وقد شرح الحق سبحانه في ذلك آيات أخرى، وأوضح أنه سخّر البحر لنأكل منه لحما طريا١، وتلك مقوّمات حياة، ونستخرج منه حلية نلبسها، وذلك من ترف الحياة.
ونرى الفلك مواخر٢ فيه لنبتغي من فضله سبحانه.
وبذلك تكون هناك خيرات أخرى غير السمك والحلي، ولكنها جاءت بالإجمال لا بالتفصيل، فربما لم يكُن الناس قادرين في عصر نزول القرآن على أن يفهموا ويعرفوا كل ما في البحار من خيرات، ولا تزال الأبحاث العلمية تكشف لنا المزيد من خيرات البحار.
وحين نتأمل الآن خيرات البحار نتعجب من جمال المخلوقات التي فيه.
إذن فقوله :
﴿ لتبتغوا من فضله.. ٦٦ ﴾ ( الإسراء ).
هو قول إجمالي يُلخّص وجود أشياء أخرى غير الأسماك وغير الزينة من اللؤلؤ والمرجان وغيرها، ونحن حين نرى مخلوقات أعماق البحار نتعجّب من ذلك الخلق أكثر مما نتعجّب من الخلق الذي على اليابسة، ومن خلق ما في السماء.
وهكذا يكون قوله الحق :
﴿ لتبتغوا من فضله.. ٦٦ ﴾ ( الإسراء ).
من آيات الإجمال التي تُفصّلها آيات الكون، فبعض من الآيات القرآنية تفسرها الآيات الكونية. ذلك أن الحق سبحانه لو أوضح كل التفاصيل لما صدّق الناس –على عهد نزول القرآن- ذلك.
وعلى سبيل المثال حين تكلّم سبحانه عن وسائل المواصلات ؛ قال :
﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلُق ما لا تعلمون ٨ ﴾ ( النحل ).
وقوله تعالى :
﴿ ويخلق ما لا تعلمون ٨ ﴾ ( النحل ).
أدخل كل ما اخترعنا نحن البشر من وسائل المواصلات ؛ حتى النقل بالأزرار كالفاكس وغير ذلك.
وحينما يتكلم سبحانه عن البحار، إنما يُوضّح لنا ما يُكمل الكلام عن الأرض :
﴿ وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره.. ٣٢ ﴾
( إبراهيم ).
ولو فطِن الناس لقالوا عن السفن ( جمال البحار )، ما داموا قد قالوا عن الجمل إنه ( سفينة الصحراء )، ولكنهم أخذوا بالمجهول لهم بالمعلوم لديهم.
وإياك أن تقول : أنا الذي صنعت الشراع، وأنا الذي صنعت المركب من الألواح، ذلك أنك صنعت كل ذلك بقواك المخلوقة لك من الله، وبالفكر الموهوب لك من الله، ومن المادة الموهوبة لك من الله، فكلها أشياء جاءت بأمر من الله.
وهنا يقول سبحانه :
﴿ وسخّر لكم الأنهار ٣٢ ﴾ ( إبراهيم ).
والنهر ماؤه عادة يكون عذبا ليروي الأشجار التي تُنتج الثمار والأشجار عادة تحتاج ماء عذبا.
وهكذا شاء الله أن يكون ماء البحار والمحيطات مخزنا ضخما للمياه، يحتل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية، وهي مساحة شاسعة تتيح فرصة لعمليات البُخْر، التي تُحوّل الماء بواسطة الحرارة إلى بخار يصعد إلى أعلى ويصير سحابا، فيُسقط السحاب الماء بعد أن تخلص أثناء البَخْر من الأملاح وصار ماء عذبا، تروى منه الأشجار التي تحتاجه، وتنتج لنا الثمار التي نحتاجها، وكأن الأملاح التي توجد في مياه البحار تكون لحفظها وصيانتها من العطب.
ونعلم أن معظم مياه الأنهار تكون من الأمطار، وهكذا تكون دورة الماء في الكون، مياه في البحر تسطع عليها الشمس لتُبخّرها، لتصير سحابا، ومن بعد ذلك تسقط مطرا يُغذي الأنهار، ويصب الزائد مرة أخرى في البحار.
ويتابع سبحانه :
﴿ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين٣ وسخّر لكم الليل والنهار ٣٣ ﴾
والشمس آية نهارية، والقمر آية ليلية، والماء الذي نشربه له علاقة بالشمس والتي تُبخّره من مياه البحر، ونروي به أيضا الأرض التي تنتج لنا الثمار، أما البحار فحساب كل ما يجري فيها يتم حسب التقويم القمري.
وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك وهو النبي الأمي ؟
طبعا لم يكن يعلم، بل أنزل الحق سبحانه عليه القرآن، يضم حقائق الكون كلها.
وقول الحق سبحانه عن الشمس والقمر ( دائبين )، من الدّأب، والدُّؤوب هو مرور الشيء في عمل رتيب، ونقول ( فلان دؤوب على المذاكرة ) أي : أنه يبذل جهدا مُنظّما رتيبا لتحصيل مواده الدراسية، ولا يُبدد وقته.
وكذلك الشمس والقمر اللذان أقام الحق سبحانه لهما نظاما دقيقا.
وعلى سبيل المثال نحن نحسب اليوم بأوله من الليل ثم النهار ؛ ونقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ الشمس والقمر بحُسبان ٥ ﴾ ( الرحمن ).
وقال أيضا :
﴿ والشمس والقمر حسبانا.. ٩٦ ﴾ ( الأنعام ).
أي : أنك أيها الإنسان ستجعل من ظهور واختفاء أيّ منهما حسابا.
وقد جعلهما الحق سبحانه على دقة في الحركة تُيسّر علينا أن نحسب بهما الزمن، فلا اصطدام بينهما، ولكل منهما فلَك٤ خاص وحركة محسوبة بدقة فلا يصطدمان. ولا يشبهان بطبيعة الحال الساعات التي نستخدمها وتحتاج إلى ضبط.
وكلما ارتقينا في صناعة نجد اختراعاتنا فيها تُقرّبنا من عُمق الإيمان بالخالق الأعلى.
وفي نفس الآية يقول الحق سبحانه :
﴿ وسخّر٥ لكم الليل والنهار٣٣ ﴾ ( إبراهيم ).
وبما أن الشمس آية نهارية، والقمر آية ليلية، والنهار يسبق الليل في الوجود بالنسبة لنا. كان مُقتضى الكلام أن يقول : سخر لكم النهار والليل.
ولكن الحق سبحانه أراد أن يُعلمنا أن القمر وهو الآية الليلية، ويسطع في الليل، والليل مخلوق للسكون، لكن هذا السكون ليس سببا لوجود الإنسان على الأرض، بل السبب هو أن يتحرك الإنسان ويستعمر الأرض ويكدّ ويكدح فيها.
لذلك جعل استهلال الشمس أولا والقمر يستمد ضوءه منها، ثم جاء بخبر الليل وخبر النهار، فكأن الله قد اكتنف هذه الآية بنورين.
النور الأول : من الشمس. والنور الثاني : من القمر، كي يعلم الإنسان أن حياته مُغلفة تغليفا يتيح له الحركة على الأرض، فلا تظننّ أيها الإنسان أن الأصل هو النوم ! ذلك أن سبحانه قد خلق النوم لترتاح، ثم تصحو لتكدح.
ونلحظ أن كلمة ( التسخير ) تأتي للأشياء الجوهرية، وتأتي للمُسخّرات أيضا، فالحيوان مسخّر لنا، وكذلك النبات والسماء مسخّرة بما فيها لنا، أما الليل والنهار فهما نتيجتان لجواهر، هما الشمس والقمر، والليل والنهار مُسبَّبان عن شيئين مباشرين هما :
الشمس والقمر.
والتسخير –كما نعلم- هم منع الاختيار. وإذا ما سخّر الحق سبحانه شيئا فلنعام أنه منضبط ولا يتأتّى فيه اختلال، ولكن الكائن غير المُسخّر هو الذي يتأتى فيه الاختلال، ذلك أنه قد يسير على جادّة الصواب، أو قد يُخطئ.
وفي مسألة التسخير والاختيار تعِب الفلاسفة في دراستها، وذهبت المذاهب الفلسفية –وخصوصا في ألمانيا- إلى مذهبين اثنين ظاهرهما التعارض، ولكنهما يسيران إلى غاية واحدة وهي تبرير الإلحاد.
وكان من المقبول أن يكون مذهب منهما يُبرر الإلحاد، وأن يبرر الآخر الإيمان، ولكن شاء فلاسفة المذهبين أن يُبرروا الإلحاد.
وقال فلاسفة أحد المذهبين : أنتم تقولون إن الكون تديره قوة قادرة حكيمة، وأن كل ما فيه منضبط بتصرفات محسوبة ودقيقة.
ولكن الواقع يقول : إن هناك بعضا من المخالفات التي نراها في الكائنات، والمثل هو تلك الشذوذات التي في الإنسان –على سبيل المثال- فهناك القصير أكثر من اللازم، وهناك الطويل أكثر من اللازم، وهناك من يولد بعين واحدة، وهناك من يولد بذراع عاجز، ولو أن القوة التي تدير الكون حكيمة لما ظهرت أمثال تلك الشذوذات.
ونرد على صاحب تلك النظرية قائلين : وإذا لم يك
١ وذلك قوله تعالى: ﴿وما يستوي البحران هذا عذاب فُرات سائغ شرابه وهذا ملح أُجاج ومن كلّ تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلية تلبسونها وترى الفلك في مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ١٢﴾ (فاطر)..
٢ مخرت السفينة مَخْرا ومُخورا: شقت الماء بصدرها وسُمع لها صوت. [القاموس القويم ٢/٢١٨]..
٣ دأب على الأمر: اعتاده. ودائبين: أي مستمرين في الحركة دائبين فيها بلا انقطاع تشبيها لهما بالإنسان المجدّ. وقال تعالى: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا.. ٤٧﴾ (يوسف). أي: مداومين مجتهدين ذوي دأب. [القاموس القويم ١/٢١٩]..
٤ الفلك: المدار يسبح فيه الجرم السماوي. قال تعالى: ﴿كل في فلك يسبحون ٣٣﴾ (الأنبياء) أي: في مدار تدور فيه. [القاموس القويم ٢/٨٩]..
٥ سخّره: أخضعه وقهره لينفذ ما يريد منه بدون إرادة ولا اختيار من المسخّر. ومنه قوله تعالى: ﴿والشمس والقمر والنجوم مُسخّرات بأمره.. ٥٤﴾ (الأعراف) أي: مسيرات خاضعات مقهورات بأمر الله وبإرادته هو، لا بإرادتها ولا باختيارها. [القاموس القويم ١/٣٠٦]..
ثم فتح المجال لنِعم أخرى لن يستطيع أحد أن يُحصيها.
لذلك يقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعُدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لَظلوم كفّار ٢٤ ﴾
نعم، أعطانا الحق سبحانه مما نسأل وقبل أن نسأل، وأعدّ الكون لنا من قبل أن نوجد. إذن : فسبحانه قد أعطانا من قبل أن نسأل، وسبقت النعمة وجود آدم عليه السلام، واستقبل الكون آدم، وهو مُعَدّ لاستقباله.
وإذا نظرت للفرد منا ستجد أن نِعم الله عليه قد سبقت من قبل أن نعرف كيف نسأله، والمثل هو الجنين في بطن أمه.
وهنا قال الحق سبحانه :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
يعني : أنه قد أعطاك ما تسأله وما لم تسأله، نطقت به أو لم تنطق، ولو بحديث النفس أو خواطر خافية، وأنك قد تقترح وتطلب شيئا فهو يعطيه لك.
وقد يسأل البعض من باب الرغبة في التحدي –ولله المثل الأعلى- نجد بعض البشر ممّن أفاء الله عليهم بجزيل نعمه ؛ ويقول الواحد منهم : قل لي ماذا تطلب ؟
وقد حدث معنى ذلك ونحن في ضيافة واحد ممن أكرمهم الله بكريم عطائه، وكنا في رحلة صحراوية بالمملكة العربية السعودية، وقال لي : أطلب أي شيء وستجده بإذن الله حاضرا. وفكرت في أن أطلب ما لا يمكن أن يوجد معه، وقلت : أريد خيطا وإبرة، فما كان ردّه إلا ( وهل تريدها فتلة بيضاء أم حمراء ؟ ).
وإذا كان هذا يحدث من البشر ؛ فما بالنا بقدرة الله على العطاء ؟
ومن حكمة الله سبحانه أنه قال :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ذلك أن وراء كل عطاء حكمة، ووراء كل منع حكمة أيضا، فالمنع من الله عين العطاء، فالحق سبحانه مُنزّه عن أن يكون مُوظّفا عندك، كما أن الحق سبحانه قال :
﴿ ويَدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير.. ١١ ﴾ ( الإسراء ).
ولذلك قال :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : بعض مما سألتموه، ذلك أن هناك أسئلة حمقاء لا يجيبكم الله عليها، مثل قول أي امرأة يعاندها ابنها ( يسقيني نارك ) هذه السيدة، لو أذاقها الله نار افتقاد ابنها، ماذا سوف تفعل ؟
إذن : فمِن عظمته سبحانه أن أعطانا ما هو مطابق للحكمة، ومنع عنّا غير المطابق لحكمته سبحانه، فالعطاء نعمة، والمنع نعمة أيضا، ولو نظر كل منا لعطاء السّلب، لوجد فيه نعما كثيرة.
ويقول سبحانه :
﴿ سأُريكم آياتي فلا تستعجلون ٣٧ ﴾ ( الأنبياء ).
لذلك فلا يقولن أحد :( قد دعوت ربي ولم يستجب لي ) وعلى الإنسان أن يتذكر قول الحق سبحانه :
﴿ ويدْع الإنسان بالشر دُعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ١١ ﴾ ( الإسراء ).
فهو سبحانه من يملك حكمة العطاء وحكمة المنع. ولا أحد منا يستطيع أن يعُدّ نعم الله. والعدّ –كما نعلم- هو حصر لمفردات جمع أو جزئيات كلٍّ. ويعلم أهل العلم بالمنطق –ونسميهم المَنَاطِقة- أن هناك ( كُلّي ) يقابله ( جُزئي )، وهناك ( كل ) يقابله ( جزء ).
والمَثل على ( الكُلّي ) الإنسان، حيث إننا جميعا مكوّنين من عناصر متشابهة، ومفرد البشر يختلف باختلاف الأسماء، أما ما يسمّى ( كل ) فالمَثل عليه هو الكرسي، وهو مُكوّن من مواد مختلفة كالخشب والمسامير والغِراء، ولا يمكن أن نطلق على الخشب فقط كلمة كرسي، وكذلك لا نستطيع أن نُسمّي ( المسامير ) بأنها كراسي.
وعلى هذا نكون قد عرفنا أن حقيقة الكُلّي أن مفرداته متطابقة، وإن اختلفت أسماؤها، لكن حقيقة الكل أن مفرداته غير متشابهة، وتختلف في حقيقتها.
وإذا أردت أن تُحصي الكليّ فأنت تنطق أسماء الأفراد كأن تقول : محمد وأحمد وعلي ؛ وهذا ما يُسمّى عدّاً، وهكذا نفهم أن العدّ هو إحصاء جزئيات الكلي، أو إحصاء أجزاء الكلّ.
ونعلم أنهم قد سمَّوا العدّ إحصاء، لأنهم كانوا يعدّون الأشياء قديما بالحصى، وأُطلقت كلمة الإحصاء على مطلق العدّ حسابا للأصل، وعرف عدد أجزاء الكلي أو الكل.
وكان الإنسان في العصور القديمة –على سبيل المثال- إلى رقم ( مائة ) ثم يحسب كل مائة بحصاة واحدة، فإذا تجمّع لديه عشر حصوات عرف أن العدد قد صار ألفا، ومن هنا جاءت كلمة الإحصاء، وفي كثير من أمور عصرنا المتقدم، ما زلنا نُسمّي بعض الأشياء بمُسميات قديمة، فنحسب قوة السيارة بقوة الحصان.
وأنت إذا نظرت إلى قول الحق سبحانه :
﴿ وإن تعُدّوا نعمة الله لا تُحصوها.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ستجد الكثير من المعاني، ولكن من يحاولون التصيُّد للقرآن يقولون : إن هذا أمر غير دقيق، فما دام قد حدث العدّ، فكيف لا يتم الإحصاء ؟ وهؤلاء ينسَون أن المقصود هنا ليس العدّ في ذاته، ولكن المقصود هو إرادة العدّ.
ولو وُجدت الإرادة فليس هناك قدرة على استيعاب نعم الله، ومن هنا لا نرى تعارضا في آيات الله، وإنما هو نسق متكامل، فأنت لا تُقبل على عدّ أمر إلا إذا كان غالب الظن أنك قادر على العدّ، وذلك إذا كان في إمكان البشر، ولمن نعم الله فوق طاقة البشر.
والمثل أيضا على مسألة إرادة الفعل يمكن أن نجده في قوله الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.. ٦ ﴾ ( المائدة ).
ونحن لا نغسل وجوهنا لحظة أن نقوم بالصلاة، ولكننا نغسلها ونستكمل خطوات الوضوء حين يُؤذن المؤذن ونمتلك إرادة الصلاة، فكأن القول هنا يعني : إذا أردتم القيام إلى الصلاة فافعلوا كذا وكذا.
ونعلم أن ذِكر الشيء بسببه كأنه هو، ولذلك يقال : إذا كان الآذان قد أذّن في المسجد، وأنت خارج من منزلك بقصد الصلاة ؛ فلا تجري لتلحق بالإمام وتُدرك الصلاة١، لأنك في صلاة من لحظة أن توضأت وخرجت من بيتك للصلاة، وإياك أن تفعل حركة تتناقض مع الصلاة، وادخل المسجد بسكينة ووقار لتؤدي الصلاة مع الإمام٢.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه :
﴿ وإن تعُدّوا نعمة الله لا تُحصوها.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ستجد أن العادة في اللغة هي استعمال ( إن ) في حالة الأمر المشكوك فيه، أما الأمر المُتيقّن فنحن نستخدم ( إذا ) مثل قوله الحق :
﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ١ ﴾ ( النصر ).
وقد جاء الحق سبحانه هنا بأسلوب الشك حين قال :
﴿ وإن تعُدّوا نعمة الله لا تُحصوها.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ذلك أن العاقل يعلم مقدّما أنه سيعجز عن إحصاء نِعم الله. وكلنا يعلم أن هناك علما اسمه ( الإحصاء ) وله أقسام جامعية متخصصة.
وعلى الرغم من التقدم وصناعة الحاسب الآلي ( الكمبيوتر ) لم يستطع أحد ولم يُقبل أحد على إحصاء نِعم الله في الكون، ذلك أن العدّ والإحصاء يقتضي كليّاً له أفراد، أو كُلاًّ له أجزاء.
وأنت إن نظرت إلى أيّ نعمة من نعم الله، قد تظنها نعمة واحدة، ولكنك إن فصّلت فيها ستجدها نِعما متعدّدة وشتّى، وهكذا لا يوجد تناقض في قوله الحق :
﴿ وإن تعُدّوا نعمة الله لا تُحصوها.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
وأنت إن أخذت نعمة المياه ستجدها نِعما متعددة، فهي مكوّنة من عناصر، كل عنصر فيها نعمة، وإن أخذت نعمة الأرض ستجد فيها نِعماً كثيرة مطمورة، وهكذا تكون كل نعمة من الله مطمور فيها نِعم متعددة، ولا تُحصى.
وحين تنظر في قول الحق سبحانه :
﴿ وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها.. ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
تجد ثلاثة عناصر، هي المُنعم، والنعمة التي حكم الحق سبحانه أنك لن تحصيها، وأن خَلقه لم يضعوا أنوفهم في أن يعدّوا تلك النعمة، فهي لا تحصى لأنها ليست مظنّة الإحصاء، ولا يقبل عاقل أن يحصيها.
والعنصر الثالث هو المُنعَم عليه، وهو الإنسان الذي قد يعجز عن إحصاء نعم رئيسه من البشر عليه –فما بالك بنعم الله التي لا تحصى، وكمالاته التي لا تُحدّ، وعطائه الذي لا ينفد ؟ ولله المثل الأعلى، فهو المنزّه عن المثل.
ثم يأتي قول الحق سبحانه :
﴿ إن الإنسان لظلوم كفار ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
وهنا في سورة إبراهيم نجد قوله الحق مبينا ظلم الإنسان لنفسه وكفره بالنعمة، وفي كفره للنعمة كفر بالمنعم يقول سبحانه وتعالى :
﴿ ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار ٢٨ جهنم يصلونها٣ وبئس القرار ٢٩ ﴾ ( إبراهيم ).
وهؤلاء هم من ارتكبوا مظالم بالنسبة لعقيدة الوحدانية والإيمان بالله، والإنسان هو المُنعَم عليه، وما كان يصح أن يرى كل تلك النعم ثم يكفر بها، وكان من العدل أن يعطي الحق لصاحبه، ولكن بعضا من البشر بدّلوا نعمة الله كفرا، وهكذا صاروا ممن يُطلق على كل منهم أنه ظلوم في الحكم، وأنه كفّار، لجحوده بالنعمة ونكرانه عطاء الخالق للمخلوق.
والظلم كما نعرف هو أن تنقل الحق من صاحبه إلى غير صاحبه ؛ وإن لم تؤمن بالله تكون قد أخذت حق الإله في الوجود، وإن كنت تؤمن بشركاء، فأنت تنقل بذلك حقا من الله إلى غيره، وهذا ظلم القمة.
وانظر إلى قول الحق سبحانه في سورة النحل :
﴿ وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسخّرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ١٢ وما ذرأ٤ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ١٣ وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريًّا وتستخرجوا منه حِلية تلبسونها وترى الفلك مواخر٥ فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ١٤ وألقى في الأرض رواسي أن تميد٦ بكم وأنهارا وسُبُلا لعلكم تهتدون ١٥ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ١٦ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون ١٧ وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها إن الله لغفور رحيم ١٨ ﴾ ( النحل ).
فهل هناك إرادة أو قدرة تستطيع أن تحصي عطاءات الله التي فوق العدّ والحدّ ؟ ففي الآيات السابقة وغيرها إعجاز وعجز، وما دام هناك عجز فالكمال عنده لا يتناهى.
إن بعضا ممن يستدركون على القرآن يقولون : كيف يقول القرآن مرة :
﴿ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ١٨ ﴾ ( إبراهيم ) .
ثم يقول في آية أخرى :
﴿ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ١٨ ﴾ ( النحل ).
ونردّ على هؤلاء : أنتم لم تنظرا إلى السياق الذي جاء في كل آية، وعَمِيت بصيرتكم عن معرفة أن سياق الآية –التي نحن بصدد خواطرنا عنها- قد جاء فيها ذكر النّعم وذكر الجحود والكفران بالنعم، وهذا ناشئ عن ظلم الإنسان لنفسه بالظّلم العظيم.
وفي آية سورة النحل جاء بذِكر النعم، ورغم ظلمنا إلا أن رحمته سبحانه وسعتنا، ولم يمنع ما أسبغه٧ علينا من نِعم، وكأنه سبحانه يوضّح لنا : إياكم أن تستحوا أن تسألوني شيئا، وإن كنتم قد ظلمتم وكفرتم في أشياء، فظلمكم يقابله غفران منّي، وكافريتكم يقابلها مني رحمة، وهكذا لا يوجد تعارض بين الآيتين، بل كل تذييل لكل آية مناسب لها، ففي الآية الأولى يعاملنا الله بعدله، وفي الآية الثانية يعاملنا الله بفضله.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد قال هنا :
﴿ إن الإنسان لظلوم كفّار ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ونعلم أن هناك أناسا قد آمنوا بالله وبنعمه، ويشكرون الله عليها، فكيف يصف الحق سبحانه الإنسان بأنه ظلوم كفّار ؟
ونقول : إن كلمة ( إنسان ) إذا أُطلقت من غير استثناء فهي تتصرف إلى الخسران والحياة بلا منهج، ودون التفات للتفكير في الكون.
والحق سبحانه حين أراد أن يوضّح لنا ذلك قال :
﴿ والعصر ١ إن الإنسان لفي خسر ٢ ﴾ ( العصر ).
ولذلك جاء سبحانه بالاستثناء بعدها، فقال :
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ٣ ﴾ ( العصر ).
١ ويرشد إلى هذا حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع، فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: (أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بكرة: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد) أخرجه أبو داود في سننه (٦٧٩، ٦٨٠)، والبخاري في صحيحه (٢/١١٩، ٢٦٧- فتح الباري) وأحمد في مسنده (٥/٣٩، ٤٢)..
٢ وهذا المعنى مأخوذ من الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (٦٠٣) - المساجد) عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جلبة فقال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. قال (فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة، فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا)..
٣ صلى اللحم وغيره يصليه صَليا. شواه، والصلاء: الشواء والإحراق. وصلى بالنار: قاسى حرّها واحترق؟ [لسان العرب - مادة: صلا]..
٤ ذرأ الله الخلق: خلقهم وبثّهم وكثّرهم. [القاموس القويم ١/٢٤٢]..
٥ مخرت السفينة تمخر: جرت تشق الماء مع صوت، تدفع الماء بصدرها. [لسان العرب - مادة: مخر]..
٦ مادت الأرض: اضطربت وزلزلت. ماد: تحرك واهتز. قال تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم.. ١٠﴾ (لقمان) لئلا تميل وتضطرب فالجبال العالية توازن البحار العميقة. [القاموس القويم ٢/٢٤٦]..
٧ أسبغ الله النعمة: أكملها وأتمها ووسّعها. وسبغت النعمة: اتسعت. والشيء السابغ: الكامل الوافي. [لسان العرب - مادة: سبغ]..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد١ آمنا واجنُبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام ٣٥ ﴾
وحين يقول سبحانه ( إذا ) أي ( اذكر ) ويقول من بعد ذلك على لسان إبراهيم ( ربّ ) ولم يقل ( يا الله ) ذلك أن إبراهيم كان يرفع دعاءه للخالق المربّي، لذلك قال ( ربي ) ولم يقل ( يا الله ) لأن عطاء الله تكليف، وأمام التكليف هناك تخيير في أن تفعل ولا تفعل، مثل قوله سبحانه :
﴿ وأقيموا الصلاة.. ٤٣ ﴾ ( البقرة ).
أما عطاء الربوبية فهو ما يقيم حياة المصلين وغير المصلّين.
ولن تأت مسألة إبراهيم هنا قفزا، ولكنا نعلم أن القرآن قد نزل، وأول من سيسمعه هم السادة من قريش ؛ الذين تمتّعوا بالمهابة والسيادة على الجزيرة العربية، ولا يجرؤ أحد على التعرّض لقوافلها في رحلتي الشتاء والصيف، لليمن والشام، وهم قد أخذوا المهابة من البيت الحرام.
ولذلك تكلّم الحق سبحانه عن النعمة العامة لكل كائن موجود تنتظر أذنه نداء الإسلام، وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه عن النعم التي تخصم، لذلك قال :
﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا.. ٣٥ ﴾ ( إبراهيم ).
وقد وردت هذه الجملة في سورة البقرة بأسلوب آخر، وهو قول الحق سبحانه :
﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا.. ١٢٦ ﴾
( البقرة ).
والفرق بين ( البلد ) و( بلدا ) يحتاج منا أن نشرحه، ف ( بلدا ) تعني أن المكان كان قَفْرا٢، ودعا إبراهيم أن يصبح هذا المكان بلدا آمنا أي : أن يجد من يقيمون فيه، يجدّدون حاجاتهم ومتطلباتهم، وتكون وسائل الرزق فيه مُيسّرة، ودعاؤه أيضا شمل طلب الأمن، أي : ألا يوجد به ما يهدّد طمأنينة الناس على يومهم العاديّ ووسائل رزقهم.
وأجاب الحق سبحانه دعاء إبراهيم فصار المكان بلدا ؛ وجعله سبحانه آمنا أمانا عاما، لأن الإنسان في أيّ بقعة من بقاع الأرض لا يتخذ مكانا يجلس فيه ويقيم ويتوطّن إلا إذا ضمن لنفسه أسباب الأمن من مقوّمات حياة ومن عدم تفزيعه تفزيعا قويا، وهذا الأمن مطلوب لكل إنسان في أيّ أرض.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء وقت أن نزل هذا المكان، وكان واديا غير ذي زرع، ولا مقوّمات للحياة فيه، فكان دعاؤه هذا الذي جاء ذكره في سورة البقرة.
أما هنا فقد صار المكان بلدا، وكان الدعاء بالأمن لثاني مرة، هي دعوة لأمن خاص، ففي غير هذا المكان يمكن أن تُقطع شجرة، أو يصطاد صيد، ولكن في هذا المكان هناك خاص جدا، أمن للنبات ولكل شيء يوجد فيه، فحتى الحيوان لا يُصاد فيه، وحتى فاعل الجريمة لا يُمَس٣.
وهكذا اختلف الدعاء الأول بالأمن عن الدعاء الثاني، فالدعاء الأول : هو دعاء بالأمن العام، والدعاء الثاني : هو دعاء بالأمن الخاص، ذلك أن كل بلد يوجد قد يتحقق فيه الأمن العام، ولكن بلد البيت الحرام يتمتع بأمن يشمل كل الكائنات.
ويقول بعض من السطحيين ؛ ما دام الحق قد جعل البيت حرَما آمنا، فلماذا حدث ما حدث من سنوات من اعتداء على الناس في الحرم ؟
ونقول : وهل كان أمن الحرام أمرا ( كونيا )، أم تكليفا شرعيا ؟ إنه تكليف شرعي عُرضة أن يطاع، وعرضة أن يُعصى.
وقوله سبحانه :
﴿ ومن دخل كان آمنا.. ٩٧ ﴾ ( آل عمران ).
يعني أن عليكم أيها المُتِّبعون لدين الله أن تؤمّنوا من يدخل الحرم أنهم في أمن وأمان، وهناك فارق بين الأمر التكليفي والأمر الكونيّ.
ويقول سبحانه على لسان إبراهيم :
﴿ واجنُبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام ٣٥ ﴾ ( إبراهيم ).
وهو قول يحمل التنبؤ بما حدث في البيت الحرام على يد عمرو ابن لُحيٍّ الذي أدخل عبادة الأصنام إلى الكعبة، وهو قول يحمل تنبؤا من إبراهيم عليه السلام.
ولقائل أن يسأل : وكيف يدعو إبراهيم بذلك، وهو النبي المعصوم ؟ كيف يطلب من الحق أن يُجنّبه عبادة الأصنام ؟
وأقول : وهل العصمة تمنع الإنسان أن يدعو ربه بدوام ما هو عليه ؟ إننا نتلقى على سبيل المثال الأمر التكليفي منه سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله.. ١٣٦ ﴾
( النساء ).
وهو أمر بالمداومة.
والحق سبحانه قد قال على لسان رسوله شعيب –عليه السلام- :
﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا.. ٨٩ ﴾ ( الأعراف ).
وفي هذا القول ضراعة إلى المُنعم علينا بنعمة الإيمان، وفي هذا القول الكريم أيضا لطلاقة قدرة الحق سبحانه.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد قال هنا :
﴿ واجنُبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام ٣٥ ﴾ ( إبراهيم ).
والصنم غير الوثن٤، فالمُشكّل بشكل إنسان هو الصنم، أمتا قطعة الحجر فقط والتي خصّها بعض من أهل الجاهلية بالعبادة فهو الوثن.
وهنا من أراد أن يخرج بنا من هذا المأزق، فقال : إن الكفر نوعان. شرك جلي، وشرك خفيّ، والشرك الجليّ أن يعبد الإنسان أي كائن غير الله، والشرك الخفيّ أن يقدّس الإنسان الوسائط بينه وبين الله، ويعطيها فوق ما تستحق، وينسب لها بعضا من قدرات الله.
ودعاء إبراهيم عليه السلام أن يُجنّبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام يقتضي منا أن نفهم معنى كلمة أبناء ؛ ذلك أن إبراهيم قصد بالدعاء بنيه الذين يصِلون إلى مرتبة الرسالة والنبوة مثله، ذلك أننا نعلم أن بعضا من بنيه قد عبدوا الأصنام والأوثان.
ومعنى كلمة ( أبناء ) أوضحه سبحانه في مواطن أخرى. ونبدأ من قوله :
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات٥ فأتمّهُنّ.. ١٢٤ ﴾
( البقرة ).
أي : بعد أن أخبر الله إبراهيم، وكلّفه بالمهام التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها على وجه التمام، أمّنه الحق على أن يكون إماما، فقال سبحانه :
﴿ إني جاعلك للناس إماما.. ١٢٤ ﴾ ( البقرة ).
أي : أن حيثية الإمامة هي أداء إبراهيم عليه السلام لكل مهمة بتمامها وبدقة وأمانة، وإذا كان هو دستور الله في الخَلق ؛ فلا بد لنا من أن نتخلّق بأخلاق الله. وعلينا ألا نختار أي إنسان لأية مهمة ليكون إمامها، إلا إن كان كُفءً لها ويُحسن القيام بها.
ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم :
" إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة ). قال السائل له عن موعد قيام الساعة : وكيف إضاعتها ؟ قال :( إذا وُسّد٦ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )٧.
ذلك أن إسناد أيّ أمر لغير أهله هو إفساد في الوجود، لأن الأصل في إسناد أيّ أمر لأي إنسان أن يكون بهدف أن يقوم بالأمر كما يجب، فإذا كان الاختيار سيئا ؛ فسيكون هذا الإنسان أُسوة في السوء، وتنتقل منه عدوى عدم الإتقان إلى غيره، ويتفشّى السوء في المجتمع، أما إذا تولى الأمر من هو أهل له فالموقف يختلف تماما، فوضع الإنسان في مكانه اللائق، تعتدل به موازين العدل، وفي اعتدال الميزان استقرار للزمان والمكان والإنسان.
والمَثل على ذلك : أن الأولاد الذين تربّوا في السعودية، ورأوا أن يد السارق تُقطع، لم نجد منهم من يسرق، لأنهم تربّوا على أن السارق تُقطع يده، وفهموا أن الحق سبحانه لحظة أن يضع عقوبة قاسية، فليس هذا إذن بأن تقع الجريمة، بل ألا تقع الجريمة.
وحين يتساءل من يدّعون التحضّر : كيف يقول القرآن :
﴿ لا إكراه في الدين.. ٢٥٦ ﴾ ( البقرة ).
وحين تجدون من يخرج عن الدين تقبضون عليه، وينادي البعض بإعدامه ؟
ولهؤلاء أقول : وهل هذا الأمر يُحسب على الإسلام أم لصالح الإسلام.
إنه لصالح الإسلام، ذلك أن مِثْل هذا الحرص على كرامة الدين يُهيّب الناس أن يدخلوا الدين إلا بعد الإقناع المؤدّى لليقين، واليقين هو الوصول إلى الدين الحق مصحوبا بدليل.
يقول الحق سبحانه :
﴿ سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.. ٥٣ ﴾ ( فصلت ).
بهذا نعلم أن دخول الإسلام سيُكلّفه حياته لو أراد أن يخرج منه، لأنه خرج من اليقين الذي دخله بالدليل.
وحين دعا إبراهيم –عليه السلام- ربه :
﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا واجنُبني وبَنيّ أن نعبد الأصنام ٣٥ ﴾ ( إبراهيم ).
كان قد نجح في اختبار الله له، ونجح في أداء ما أُسند إليه تماما ؛ وشاء له الحق سبحانه أن يكون إماما، واستشرف إبراهيم عليه السلام أن تكون الإمامة في ذريته ؛ فقال :
﴿ ومن ذُريتي.. ١٢٤ ﴾ ( البقرة ).
فجاءه الجواب من الحق سبحانه :
﴿ لا ينال عهدي الظالمين ١٢٤ ﴾ ( البقرة ).
وهكذا أوضح الحق سبحانه أن بُنوّة الأنبياء ليست بنوة لحم ودم ؛ بل بُنوّة إتباع واقتداء، وكلنا نعلم أن الحق سبحانه قد قال لنوح عن ابنه٨ :
﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم.. ٤٦ ﴾ ( هود ).
ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال عن سلمان الذي كان فارسيا :
( سلمان منا آل البيت )٩.
وفي هذا تأكيد على أن بُنوّة الأنبياء هي بُنوة اتباع واقتداء.
١ المقصود بالبلد هنا: مكة. [تفسير القرطبي ٥/٣٧٠٦]..
٢ القفر والقفرة: الخلاء من الأرض. وقد أقفرت الأرض: خلت من الكلأ والناس. [لسان العرب - مادة: قفر]..
٣ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يُختلى خلاها) فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: (إلا الإذخر). أخرجه مسلم في صحيحه (١٣٥٣)..
٤ قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تُعمل وتُنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة. ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين [لسان العرب - مادة: وثن]..
٥ الكلمات: جمع كلمة، وهي هنا أحكام الدين وتكاليفه. [القاموس القويم ٢/١٧٣] وقال ابن كثير في تفسيره (١/١٦٥): (الكلمات: الشرائع والأوامر والنواهي)..
٦ وُسّد: أسند، وأصله من الوسادة. قال ابن منظور في اللسان (مادة: وسد): (يعني إذا سُوّد وشُرّف غير المستحق للسيادة والشرف)..
٧ أخرجه البخاري في صحيحه (٥٩، ٦٤٩٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٨ قال ابن كثير في تفسيره (٢/٤٤٦): (هذا هو الابن الرابع، واسمه يام وكان كافرا) قال تعالى: ﴿ونادى نوح ابنه وكان في معزِل يا بُنيّ اركب معنا ولا تكن من الكافرين ٤٢ قال سآوي إلى جبل يعصمُني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم بينهما الموج فكان من المُغرقين ٤٦﴾ (هود). ثم سأل نوح ربه سؤال استعلام وكشف عن حال ولده الذي غرق فقال: ﴿رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ٤٥ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعِظك أن تكون من الجاهلين ٤٦﴾ (هود)..
٩ عن عمرو بن عوف المزنى قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب من أجم السّمْر طرف بني حارثة حين بلغ المداد، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقالت الأنصار: سلمان منا. وقالت المهاجرون: سلمان منا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣/٤١٨) والحاكم في مستدركه (٣/٥٩٨) وضعّف الذهبي إسناده من أجل كثير بن عبد الله..
ويستكمل الحق سبحانه دعاء إبراهيم عليه السلام ؛ فنجد وعي خليل الرحمن بما تفعله الأصنام :
﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبِعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ٣٦ ﴾
ونعلم أن الأصنام بذاتها لا تُضل أحدا١ ؛ ذلك أنها لا تتكلم ولا تتحدث إلى أحد، ولكن القائمين عليها بدعوى أن لتلك الأصنام ألوهية، ولا تكليف يصدر منها، هم الذين يضلون الناس ويتركونهم كما يقول المثل العامي ( على حلّ شعورهم ).
ويرحب بهذا الضلال كل من يكره أن يتبع تعاليم الخالق الواحد الأحد.
ويتابع سبحانه ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام من بعد الدعاء :
﴿ فمن تبِعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم ٣٦ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذه تعقيبات في مسألة الغُفران والرحمة بعد العصيان ؛ فمرة يعقُبها الحق سبحانه :
﴿ العزيز الحكيم ١١٨ ﴾ ( المائدة ).
ومرة يعقبها :
﴿ الغفور الرحيم ٥٣ ﴾ ( الزمر ).
ذلك أن الجرائم تختلف درجاتها، فهناك جريمة الخيانة العُظمى أو جريمة القمّة، مثل من يدّعي أنه إله ؛ أو من يقول عنه أتباعه أنه إله دون أن يقول لهم هو ذلك.
وقد قال عيسى –عليه السلام- بسؤال الحق له :
﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.. ١١٦ ﴾ ( المائدة ).
فيأتي قول عيسى عليه السلام :
﴿ إن كنت قُلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب ١١٦ ﴾ ( المائدة ).
ويتابع عيسى عليه السلام القول :
﴿ إن تُعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ١١٨ ﴾ ( المائدة ).
وهكذا تأتي العزّة والمغفرة بعد ذكر العذاب ؛ فهناك مواقف تُناسبها العزة والحكمة، ومواقف تناسبها المغفرة والرحمة، ولا أحد بقادر على أن يردّ لله أمر مغفرة أو رحمة، لأنه عزيز وحكيم.
وقوله الحق :
﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس.. ٣٦ ﴾ ( إبراهيم ).
يعكس صفات مناسبة للمقدّمات الصدرية في الآية، وتؤكد لنا أن القرآن من حكيم خبير، وأن الله هو الذي أوحى إلى عبده القرآن :
﴿ سنُقرئك فلا تنسى ٦ ﴾ ( الأعلى ).
فما الذي يجعله يقول في آية :
﴿ الغفور الرحيم ٥٣ ﴾ ( الزمر ).
وفي آية أخرى :
﴿ العزيز الحكيم ١١٨ ﴾ ( المائدة ).
مع أن السياق المعنويّ قد يُوحي من الظاهر بعكس ذلك ؟
وما الذي يجعله سبحانه يقول في آية بعد أن يُذكّرنا أن نِعم الله لا تُعدّ ولا تُحصى.
﴿ إن الإنسان لظلوم كفّار ٣٤ ﴾ ( إبراهيم ).
ويقول في آية أخرى بعد أن يذكّرنا بنعم الله بنفس اللفظ :
﴿ إن الله لغفور رحيم ١٨ ﴾ ( النحل ).
وكذلك قوله :
﴿ كلاّ إنها تذكرة ١١ فمن شاء ذَكره ١٢ ﴾ ( عبس ).
ثم قوله في آية أخرى :
﴿ إن هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربه سبيلا ٢٩ ﴾ ( الإنسان ).
كل ذلك يعطينا حكمة التنزيل، فإن كل آية لها حكمة، وتنزيلها يحمل أسرار المراد.
وكل ذلك يأتي تصديقا لقوله الحق :
﴿ سنُقرئك فلا تنسى ٦ ﴾ ( الأعلى ).
لأن الحق سبحانه وتعالى شاء أن ينزل القرآن على رسوله، ويضمن أنه سيحفظه ؛ ولن ينسى موقع أو مكان آية من الآيات أبدا، ذلك أن الذي قال :
﴿ سنُقرئك فلا تنسى ٦ ﴾ ( الأعلى ).
هو الحق الخالق القادر.
١ قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٧٠٦): (لما كانت –الأصنام- سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا، فإن الأصنام جمادات لا تفعل)..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما قاله إبراهيم عليه السلام :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذُريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المُحرَّم١ ربنا ليُقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون٣٧ ﴾
ونفهم من التعبير في هذه الآية أن المكان لا يصلح للزرع ؛ ذلك أنه أرض صخرية، وليست أرضا يمكن استصلاحها، وقول إبراهيم –عليه السلام- :
﴿ غير ذي زرع.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : لا أمل في زراعتها بمجهود إنساني، وليس أمام تواجد الرزق في هذا المكان إلا العطاء الرباني. ولم يكن اختيار المكان نتيجة بحث من إبراهيم عليه السلام ؛ ولكن بتكليف إلهيّ، فسبحانه هو الذي أمر بإقامة القواعد من البيت الحرام، وهو مكان من اختيار الله، وليس من اختيار إبراهيم عليه السلام.
وحين يقول إبراهيم عليه السلام :
﴿ عند بيتك المُحرّم.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
فهذا يعني حيثية الرّضا بالتكليف، ومادام هذا أمرا تكليفيا يجب أن يُنفّذ بعشق، فهو يأخذ ثوابين اثنين، ثواب حب التكليف، وثواب القيام بالتكليف.
ولنا المثل في حكاية الرجل الذي قابله الأصمعي٢ عند البيت الحرام، وكان يقول :( اللهم، إني قد عصيتك، ولكني أحب من يطيعك، فاجعلها قُربة لي ). فقال الأصمعي ما يعني أن الله لا بد أن يغفر لهذا الرجل لِحُسن مسألته، ذلك أنه رجل قد فرح بحب التكليف ولو لم يقم به هو، بل يقوم به غيره وهذا يُسعده.
فالتكليف عندما يقوم به أيّ إنسان، فذلك أمر في صالح كل البشر، وكلنا نقول حين نُصلي ونقرأ الفاتحة :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ٥ ﴾ ( الفاتحة ).
أي : أن كلا منا يحشر نفسه في زمرة العابدين ؛ لعل الله يتقبّل من واحد فندخل كلنا في صفقة، ولذلك أقول لمن يرتكب معصية : عليك ألا تغضب، لأن هناك من يطيع الله، بل افرح به، لأن فرحك بالمطيع لله، دليل على أنك تحب التكليف، رغم أنك لا تقدر على نفسك، وفي هذا الحُبّ كرامة لك.
وقد قال إبراهيم –عليه السلام- عن الوادي الذي أمره الحق سبحانه أن يقيم فيه القواعد للبيت الحرام أنه واد غير ذي زرع، وقد جاء هو إلى هذا المكان ليُنفّذ تكليف الحق سبحانه له، لدرجة أن زوجته هاجر علمت أن الاستقرار في هذا المكان هو بتكليف من الله قالت :( إذن لن يضيعنا )٣.
ويُقدّم إبراهيم عليه السلام حيثيات الإقامة في هذا المكان، وأسباب إقامته للقواعد كما أراد الله، فيقول :
﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أن مجيء الناس إلى هذا المكان لن يكون شهوة سياحة، ولكن إقامة عباده ؛ فما دام المكان قد أُقيم فيه بيت لله باختيار الله، فلا بد أن يُعبد فيه سبحانه.
وهكذا تتضح تماما حيثيات أخذ الأمر بالوجود في مكان ليس فيه من أسباب الحياة ولا مقوّماتها شيء، ولكن الحق سبحانه قد أمر بذلك، فلابد للمقيم للصلاة من إقامة حياة، والمُقوّم الأول للحياة هو المأكل والمشرب.
ولذلك دعا إبراهيم عليه السلام :
﴿ فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
والأفئدة جمع ( فؤاد ) وتُطلق على الطائفة، وعلاقة الفؤاد بالحجيج علاقة قوية، لأن الهوى في الحجيج هوى قلوب، لا جيوب. وأنت تجد الإنسان يجمع النقود الخاصة بالحج، وقد يحرم نفسه من أشياء كثيرة من أجل أن يحظى بأداء تلك الفريضة٤.
وكلمة ( هوى ) مُكوّنة من مادة ( الهاء ) و ( الواو ) و( الياء ) ولها معان متعددة، فلك أن تقول ( هَوَى ) أو تقول ( هَوِي )، فإن قلت ( هَوَى يهوي ) من السقوط من مكان عال ؛ دون إرادة منه في السقوط، وكأنه مقهور عليه، وإن قلت :( هَوِي يهوي ) فهذا يعني أحبّ، وهو نتيجة لميْل القلوب، لا ميل القوالب.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزُقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
فهم في مكان لا يمكن زراعته. وقد تقبّل الحق سبحانه دعاء إبراهيم عليه السلام ؛ ووجدنا التطبيق العملي في قوله الحق :
﴿ أو لم نُمكّن لهم حَرَما آمنا يُجبى٥ إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدُنّا.. ٥٧ ﴾ ( القصص ).
وذلك قبل أن يوجد بترول أو غير ذلك من الثروات. وكلمة ( يُجبى ) تدل على أن الأمر في هذا الرزق القادم من الله كأنه جِباية، وأمر مفروض، فتكون في الطائف مثلا وفيها من الرمان والعنب وتحاول أن تشتريه، فتجد من يقول لك : إن هذا يخص مكة المكرمة، إن أردت منه فاذهب إلى هناك.
وتجد في كلمة :
﴿ ثمرات كل شيء.. ٥٧ ﴾ ( القصص ).
ما يثير العجب والدهشة، فأنت في مكة تجد بالفعل ثمرات كل شيء من زراعة أو صناعة ؛ ففيها ثمرات الفصول الأربعة قادمة من كل البلاد، نتيجة أن كل البيئات تُصدّر بعضا من إنتاجها إلى مكة.
وفي عصرنا الحالي نجد ثمرات النموّ الحضاري والعقول المُفكّرة وهي معروضة في سوق مكة أو جدة، بل تجد ثمرات التخطيط والإمكانات وقد تمّت ترجمتُها إلى واقع ملموس في كل أوجه الحياة هناك.
وقديما عندما كنا نؤدي فريضة الحج ؛ كنا نأخذ معنا إبرة الخيط، ومِلح الطعام، ومن بعد أن توحّدت غالبية أرض الجزيرة تحت حكم آل سعود واكتشاف البترول ؛ صِرنا نذهب إلى هناك، ونأتي بكماليات الحياة.
ولنلحظ قول الحق سبحانه :
﴿ فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
فكلمة ( من ) تُوضّح أن من تهوي قلوبهم إلى المكان هم قطعة من أفئدة الناس، وقال بعض من العارفين بالله٦ : لو أن النص قد جاء ( فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ) لوجدنا أبناء الديانات الأخرى قد دخلت أيضا في الحجيج، ومن رحمة الله سبحانه أن جاء النص :
﴿ فاجعل أفئدة من لناس تهوي إليهم.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
فاقتصر الحجيج على المسلمين.
١ قال القرطبي في تفسيره (٥/٣٧٠٩): (قوله تعالى: ﴿عند بيتك المحرّم.. ٣٧﴾ (إبراهيم) يدل على أن البيت كان قديما على ما روى قبل الطوفان، وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم أي: يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال، وقيل: محرم على الجبابرة، وأن تُنتهك حرمته، ويستخفّ بحقه)..
٢ هو: عبد الملك بن قريب الباهلي، أبو سعيد، ولد بالبصرة (١٢٢هـ)، رواية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، كان مثير التطواف في البوادي. توفي بالبصرة (٢١٦هـ) عن ٩٤ عاما. [الأعلام للزركلي ٤/١٦٢]..
٣ وذلك أن إبراهيم عليه السلام أتى بهاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى مكة. التي لم يكن فيها أحد وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندها جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم تركهما وذهب، فقالت هاجر: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يُضيّعها. ذكره القرطبي في تفسيره (٥/٣٧٠٧)..
٤ قال ابن عباس ومجاهد: لو قال: (أفئدة الناس) لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: (من الناس) فهم المسلمون. ذكره القرطبي في تفسيره (٥/٣٧١١)، والسيوطي في (الدر المنثور) (٥/٤٨)..
٥ جبا يجبى المال والخراج جباية: جمعه. قال تعالى: ﴿يُجبى إليه ثمرات كل شيء.. ٥٧﴾ (القصص) تجمع إلى الحرام المكي وتُساق إليه ثمرات وخيرات كثيرة. [القاموس القويم ١/١١٧]..
٦ نقل السيوطي في الدر المنثور (٥/٤٨) عن السدي معزوا لابن أبي حاتم أنه قال في تفسير هذه الآية: (خذ بقلوب الناس إليهم، فإنه حيث يهوي القلب يذهب الجسد، فلذلك ليس من مؤمن إلا وقلبه معلّق بحب الكعبة)..
ويقول سبحانه من بعد ذلك مُستكملا ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام :
﴿ ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ٣٨ ﴾
وبعد أن اطمأن إبراهيم –عليه السلام- أن لهذا البلد أمنا عاما وأمنا خاصا، واطمأن على مقوّمات الحياة ؛ وأن كل شيء من عند الله، بعد كل ذلك عاودته المسألة التي كانت تشغله، وهي مسألة تركه لهاجر وإسماعيل في هذا المكان.
وبعض المُفسّرين قالوا : إن الضمير بالجمع في قوله تعالى :
﴿ تعلم ما نُخفي وما نُعلن.. ٣٨ ﴾ ( إبراهيم ).
مقصود به ما يُكنّه من الحُبّ لهاجر وإسماعيل، وما يُعلنه من الجفاء الذي يُظهره لهما أمام سارة، وكأن المعاني النفسية عاودته لحظة أن بدأ في سلام الوداع لهاجر وابنه إسماعيل.
ونقول : لقد كانت هاجر هي الأخرى تعيش موقفا صعبا، ذلك أنها قد وُجدت في مكان ليس فيه زرع ولا ماء، وكأنها كتمت نوازعها البشرية طوال تلك الفترة وصبرت.
ولحظة أن جاء إبراهيم ليُودّعها ؛ قالت له : أين تتركنا ؟ وهل تتركنا من رأيك أم من أمر ربك ؟ فقال لها إبراهيم عليه السلام : بل هو من أمر الله. فقالت : إذن لن يضيعنا.
وتأكدت هاجر من أن ما قالته قد تحقّق، ولم يُضيّعهما الله، وحين يعطش وحيدها تجري بين الصفا والمروة بحثا عن مياه ؛ ولكنها ترى تفجّر الماء تحت قَدَمي ابنها في المكان الذي تركته فيه، ويبدأ بئر زمزم١ في عطاء البشر منذ ذلك التاريخ مياهه التي لا تنضب٢.
وهكذا يتحقق قول إبراهيم –عليه السلام- في أن الله يعلم ما نُسِرّ وما نُعلن، ذلك أن كل مُعلَن لا يكون إلا بعد أن كان مخفيا، وعلى الرغم من أن الله غَيْب إلا أن صِلته لا تقتصر على الغيب ؛ بل تشمل العالم الظاهر والباطن، وكل مظروف في السماء أو الأرض معلوم لله ؛ لأن ما تعتبره أنت غيبا في ذهنك هو معلوم لله من قبل أن يتحرك ذهنك إليه.
ولذلك يقول سبحانه في موقع آخر :
﴿ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ٧ ﴾ ( طه ).
فإذا كان السّر هو ما أسررت به لغيرك، وخرج منك لأنك استأمنت الغير على ألا يقوله، أو كان السر ما أخفيتَه أنت في نفسك، فالله هو العالم به في الحالتين.
ويقول القرآن :
﴿ وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا.. ٣ ﴾ ( التحريم ).
أي : أن السِّر كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى بعض من أزواجه. والأخْفى هو ما قبل أن تبوح بالسر، وكتمته ولم تبُح به.
وسبحانه يعلم هذا السر وما تخفيه. أي : السر الذي لم تقُله لأحد، بل ويعلمه قبل أن يكون سرا.
١ يقال: ماء زمزم: كثير بين الملح والعذب. [لسان العرب - مادة: زمزم]..
٢ نضب الماء: ذهب في الأرض وبعُد. ونضب البئر: نزح ماؤه ونشف. [لسان العرب - مادة: نضب]..
ويقول سبحانه ما قاله إبراهيم –عليه السلام- ضراعة وحمدا له سبحانه :
﴿ الحمد لله الذي وَهَب لي على الكِبر١ إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ٣٩ ﴾
والوهْب هو عطاء من مُعْطٍ بلا مقابل منك. وكل الذرية هِبة، لو لم تكن هبة لكانت رتيبة بين الزوجين، وأينما يوجد زوجان توجد. ولذلك قال الله :
﴿ يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ٤٩ أو يُزوّجهم ذُكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ٥٠ ﴾ ( الشورى ).
والدليل على أن الذرية هِبة هو ما شاءه سبحانه مع زكريا عليه السلام، وقد طلب من الله سبحانه أن يرزقه بغلام يرثه، على الرغم من أنه قد بلغ من الكِبر عِتيًّا٢ وزوجه عاقر، وقد تعجّب زكريا من ذلك، لأنه أنجب بقوة، وغي هذا المعنى يقول الحق سبحانه :
﴿ كذلك قال ربك هو عليّ هيِّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ٩ ﴾ ( مريم ).
وهذا يعني ألا يدخل زكريا في الأسباب والمُسبّبات والقوانين.
وقد سمّى الحق سبحانه الذرية هِبة ؛ لذلك يجب أن نشكر الله على هِبته ؛ فلا تُرد هِبته، إن وهب لك إناثا فعلى العين والرأس ؛ لأن الذي يقبل هبة الله في إنجاب الإناث برضا يرزقه الله بشباب يتزوجون البنات، ويصبحون أطوع له من أبنائه، رغم أنه لم يشْقَ في تربيتهم.
وكل منا يرى ذلك في محيطه، فمن أنجب الأولاد الذكور يظل يرقب : هل يتزوج ابنه بمن تخطفه وتجعله أطوع لغيره منه.
وإن وهب لك الذكور فعلى العين والرأس أيضا، وعليك أن تطلب من الله أن يكون ابنك من الذرية الصالحة، وإن وهبك ذُكرانا وإناثا فلك أن تشكره، وتطلب من الله أن يُعينك على تربيتهم.
وعلى من جعله الحق سبحانه عقيما أن يشكر ربه، لأن العُقْم أيضا هبة منه سبحانه، فقد رأينا الابن الذي يقتل أباه وأمه، ورأينا البنت التي تجحد أباها وأمها.
وإن قبِل العاقر هبة الله في ذلك، وأعلن لنفسه ولمن حوله هذا القبول، فالحق سبحانه وتعالى يجعل نظرة الناس كلهم له نظرة أبناء لأب، ويجعل كل من يراه من شباب يقول له :( أتريد شيئا يا عم فلان ؟ ) ويخدمه الجميع بمحبة صافية.
وإبراهيم –عليه السلام- قد قال للحق سبحانه :
﴿ الحمد لله الذي وَهَب لي على الكِبر.. ٣٩ ﴾ ( إبراهيم ).
والشكر على الهبة –كما عرفنا- يُشكّل عطاء الذرية في الشباب، أو في الشيخوخة.
وأهل التفسير يقولون في :
﴿ على الكِبر.. ٣٩ ﴾ ( إبراهيم ).
أنه يشكر الحق سبحانه على وهبه إسماعيل وإسحق مع أنه كبير. ولماذا يستعمل الحق سبحانه ( على ) وهي من ثلاثة حروف، بدلا من ( مع ) ولم يقل :( الحمد لله الذي وهب لي مع الكِبَر إسماعيل وإسحاق ).
وأقول : إن ( على ) تفيد الاستعلاء، فالكِبَر ضَعْف، ولكن إرادة الله أقوى من الضعف، ولو قال :( مع الكبر ) فالمعية هنا لا تقضي قوة، أما قوله :
﴿ وَهب لي على الكِبر.. ٣٩ ﴾ ( إبراهيم ).
فيجعل قدرة الله في العطاء فوق الشيخوخة.
وحين يقول إبراهيم عليه السلام ذلك، فهو يشكر الله على استجابة لما قاله من قبل :
﴿ إني أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع.. ٣٧ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أنه دعا أن تكون له ذرية.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقول إبراهيم :
﴿ إن ربي لسميع الدعاء ٣٩ ﴾ ( إبراهيم ).
١ قال ابن عباس: كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة عندما ولد له إسماعيل، وجاءه إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. [تفسير القرطبي ٥/٣٧١٣]..
٢ عتا عتوّا وعتيا: أسنّ وكبر وذهبت نضارته وغضارته. قال تعالى عن زكريا: ﴿وقد بلغت من الكِبر عتيّاً ٨﴾ (مريم). [القاموس القويم ٢/٦]..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ رب اجعلني مُقيم الصلاة ومن ذُريتي ربنا وتقبّل دعاء ٤٠ ﴾
وكأن إبراهيم عليه السلام حين دعا بأمر إقامة الصلاة فهذه قضية تخصّ منهج الله، وهو يسأل الله أن يقبل، ذلك أن الطلبات الأخرى قد طلبها ببشريته ؛ وقد يكون ما طلبه شرا أو خيرا، ولكن الطلب بأن يجعله مقيما للصلاة هو وذريته هو طلب الخير.
ويتتابع الدعاء في قول الحق سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام :
﴿ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ٤١ ﴾
ونعلم أن طلب الغُفران من المعصوم إيذان بطلاقة قدرة الله في الكون، ذلك أن اختيار الحق سبحانه للرسول –أيّ رسول- لا يُعفي الرسول المختار من الحذَر وطلب المغفرة، وها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إني أستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة )١.
وطلب المغفرة من الله إن لم يكن لذنب –كما في حال الرُّسل المعصومين- فهو من الأدب مع الله ؛ لأن الخالق –سبحانه وتعالى- يستحق منا فوق ما كلّفنا له، فإذا لم نقدر على المندوبات وعلى التطوّعات، فلندع الحق سبحانه أن يغفر لنا.
ومنّا من لا يقدر على الفرائض ؛ فليدعُ الله أن يغفر له ؛ ولذلك يقال :( حسنات الأبرار سيئات المقرّبين )٢.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم :
﴿ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويُتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ٢ ﴾ ( الفتح ).
ولذلك أقول دائما : إن الحق –جلّ جلال ذاته- يستحق أن يُعبد بفوق ما كلّف به ؛ فإذا اقتصرنا على أداء ما كلّف به سبحانه، فكأننا لم نُؤدّ كامل الشكر، وما بالنا إذا كان مثل هذا الحال هو سلوك الرّسل، خصوصا وأن الحق سبحانه قد زادهم عن خلقه اصطفاء ؛ أفلا يزيدنه شُكرا وطلبا للمغفرة ؟
ونلحظ أن طلب المغفرة هنا قد شمل الوالدين والمؤمنين :
﴿ ربنا اغفر لي ولوالديّ٣ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ٤١ ﴾ ( إبراهيم ).
والإنسان كما نعلم له وجود أصليّ من آدم عليه السلام، وله وجود مباشر من أبويه، وما دام الإنسان قد جاء إلى الدنيا بسبب من والديه، وصار مؤمنا فهو يدعو لهما بالمغفرة، أو : أن الأُسوة كانت منهما ؛ لذلك يدعو لهما بالمغفرة.
والإنسان يدعو للمؤمنين بالمغفرة، لأنهم كانوا صُحبة له وقُدوة، وتواصى معهم وتواصوا معه بالحق والصبر، وكأن إبراهيم –عليه السلام- صاحب الدعاء يدعو للمؤمنين من ذريته، وتلك دعوة وشفاعة منه لمن آمن، ويرجو الحق سبحانه أن يتقبلها.
١ أخرجه الدارمي في سننه (٢/٣٠٢)، والحاكم في مستدركه (٢/٤٥٧) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأحمد في مسنده (٥/٣٩٤) من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان في لساني ذرب على أهلي ولم يكن يعدوهم إلى غيرهم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة)..
٢ الأبرار والمقرّبون كلاهما من أهل الجنة، ولكن الأبرار أقل منزلة من المقربين، وقد تحدث الله عن الصنفين فقال عن المقربين: ﴿والسابقون السابقون ١٠ أولئك المقرّبون ١١ في جنات النعيم ١٢ ثُلّة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ على سُرر موضونة ١٥ متكئين عليها متقابلين ١٦ يطوف عليهم وِلدان مُخلّدون ١٧﴾ (الواقعة) الآيات. أما الأبرار فقد قال عنهم: ﴿وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ٢٧ في سِدر مخضود ٢٨ وطلْحٍ منضود ٢٩ وظل ممدود ٣٠﴾ (الواقعة) الآيات. فلعظم منزلة المقربين قيل: إن الحسنات التي يعملها الأبرار والتي استحقوا بها النعيم في الجنة هي السيئات في جانب ما يعمله المقربون..
٣ ذكر القرطبي في تفسيره (٥/٣٧١٤) قراءتين أخريين لهذه الكلمة:
(لوالِدي) يعني أباه. وهي قراءة سعيد بن جبير. وذلك قبل أن يثبت عنده أنه عدو لله.
(لولديَّ) يعني ابنيه. وهي قراءة إبراهيم النخعي، ويحيى بن يعمر. ولذلك قيل: إنه أراد ولديه: إسماعيل وإسحاق..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولا تحسَبَنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخِّرهم ليوم تشخص١ فيه الأبصار ٤٢ ﴾
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وأوضح النِّعم العامة على الكون، والنعم الخاصة التي أنعم بها سبحانه على من توطّنوا مكة، ومن نسلهم من وقف ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقف العَنَت، بعد ذلك جاء الحق سبحانه بهذه الآية تعزية وتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
﴿ ولا تحسَبَنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون.. ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وأرضية التصوير التي سبقتها تشتمل بداية التكوين لهذا المكان الذي وُجدوا به، وكيفية مجيء النعم إلى من توطنوا هذا المكان، حيث تجيء إليهم الثمرات، ونعمة المهابة لهم حيث يعصف سبحانه بمن يُعاديهم كأبرهة ومن معه.
﴿ فجعلهم كعصف٢ مأكول ٥ ﴾ ( الفيل ).
حيث يقول سبحانه من بعد هذه الآية مباشرة :
﴿ لإيلاف قريش ١ إيلافهم٣ رحلة الشتاء والصيف ٢ فليعبدوا ربّ هذا البيت ٣ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ ( قريش ).
ورغم ذلك وقفوا من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف الإنكار والتعنُّت والتصدّي والجُحود، وحاولوا الاستعانة بكل خُصوم الإسلام، ليحاربوا هذا الدين ؛ ولذلك يوضح الحق سبحانه هنا تسرية عن الرسول الكريم :
﴿ ولا تحسبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون.. ٤٢ ﴾
( إبراهيم ).
لماذا ؟ وتأتي الإجابة في النصف الثاني من الآية :
﴿ إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وقوله الحق :
﴿ ولا تحسَبنّ.. ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : لا تظننّ ؛ فحَسِب هنا ليست من الحساب والعدّ، ولكنها من ( حسب ) ( يحسب ) ؛ وقوله الذي يوضح هذه المسألة :
﴿ أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون٤ ٢ ﴾ ( العنكبوت ).
أي : أظَنّ الناس. فحسِب يحسَب ليست –إذن- من العَدّ، ولكن من الظنّ. والحُسبان نسبة كلامية غير مجزوم بها، ولكنها راجحة.
والغفلة التي ينفيها سبحانه عنه ؛ هي السّهو عن أمر لعدم اليقظة أو الانتباه، وطبعا وبداهة فهذا أمر لا يكون منه سبحانه، فهو القيّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.
وهنا يخاطب الحق سبحانه رسوله والمؤمنين معه تبعا، فحين يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فهو يخاطب في نفس الوقت كل من آمن به.
ولكن، أكان الرسول يظنّ الله غافلا ؟
لا، ولنلحظ أن الله حين يُوجّه بشيء فقد يحمل التوجيه أمرا يُنفّذه الإنسان فعلا، ويطلب الله منه الاستدامة على هذا الفعل.
والمثل : حين تقول لا يشرب الخمر ( لا تشرب الخمر ) وهو لا يشرب الخمر ؛ فأنت تطالبه بقولك هذا أن يستمرّ في عدم شرب الخمر، أي : استمِرّ على ما أنت عليه، فعلا في الأمر، أو امتناعا في النهي.
وهل يمكن أن تأتي الغفلة لله ؟
وأقول حين ترى صفة توجد في البشر، ولا توجد في الحق سبحانه فعليك أن تفسّر الأمر بالكمالات التي لله.
والذي يفعل ظلما سيتلقى عقابا عليه، وحين يتأخر العقاب يتساءل الذين رأوا فِعل الظُّلم فهم يتهامسون : تُرى هل تَمّ نسيان الظلم الذي ارتكبه فلان ؟ هل هناك غفلة في الأمر ؟
وهم في تساؤلاتهم هذه يريدون أن يعلنوا موقفهم من مرتكب الذنب، وضرورة عقابه، وعلى ذلك نفهم كلمة :
﴿ غافلا ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
في هذه الآية بمعنى ( مُؤجِّل العقوبة ).
ولمن يتساءلون عليهم أن يتذكّروا قول الحق سبحانه :
﴿ وأُملي٥ لهم إنّ كيدي كتين ١٨٣ ﴾ ( الأعراف ).
وعلى ذلك فليست هناك غفلة، ولكن هناك تأجيل للعقوبة لهؤلاء الظالمين ؛ ذلك أن الظلم يعني أخذ حقٍّ من صاحبه وإعطاءه للغير ؛ أو أخذه للنفس.
وإذا كان الظلم في أمر عقديّ فهو الشرك، وهو الجريمة العظمى، وإن ظلمت في أمر كبيرة من الكبائر فهذا هو الفِسق، وإن ظلمت في صغيرة فهو الظلم.
ولذلك نجد الحق –سبحانه وتعالى- يُورِد كل حكم يناسب الثلاثة مواقف ؛ فيقول عن الذي تغاضى عن تجريم الشرك :
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ٤٤ ﴾ ( المائدة ).
ويقول عن تجريم كبيرة من الكبائر :
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ٤٧ ﴾ ( المائدة ).
ويقول عمّن يتغاضى عن تجريم صغيرة بما يناسبها من أحكام الدين :
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ٤٥ ﴾
( المائدة ).
وإذا وُجد محكوم عليه، وهو واحد –بأحكام متعددة فالحكم مُتوقّف على ما حكم به.
وحين ننظر في مسألة الظلم هذه نجد أن الظالم يقتضي مظلوما، فإن كان الظّلم –والعياذ بالله- هو ظُلم القمة وهو الشرك بالله، فهذا الظلم ينقسم –عند العلماء- إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : وهو إنكار وجود الله وألوهيته دون أن ينسبها لأحد آخر ؛ وهذا هو الإلحاد، وهو ظُلم في واجب وجوديته سبحانه.
والنوع الثاني : هو الاعتراف بألوهية الله، وإشراك آخرين معه في الألوهية، وهذا الشرك ظلم للحق في ذاتية وواحدية تفرّده.
والنوع الثالث : هو القول بأن الله مُكوّن من أجزاء ؛ وهذا ظلم لله في أحدية ذاته.
ويقول بعض العارفين : إن أول حق في الوجود هو وجوده سبحانه.
ومنهم الشاعر الذي قال :
وأوّل حق في الوجود وُجوده
وكل حقوق الكون منه استمدّت
فلا هو جَمع كما قال مُشرك
ولا هو في الأجزاء يا حُسن مِلّتي٦
والظلم الذي ورد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو ظلم القمة ؛ ظلم في العقيدة الإلهية، ومعه ظلم آخر هو ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم. ويُلخّص الشاعر ظلمهم للرسول صلى الله عليه وسلم فيقول : لقّبتموه أمينا في صِغر وما الأمين على قول بمُتّهم.
وهم قد سَمّوا الرسول من قبل الرسالة بالأمين ؛ وبعد الرسالة نزعوا منه هذا الوصف، وكانوا يصِفونه قبل الرسالة بالصادق، ولم يقولوا عنه مرة قبل الرسالة إنه ساحر، ولم يتهموه من قبل الرسالة بالجنون.
فكيف كانت له أوصاف الصدّق والنطق بالحق ؛ والتحدث عن رجاحة قدرته في الحكم ؟
كيف كانت له تلك الصفات قبل الرسالة ؛ وتنزعونها منه من بعد الرسالة ؟
إن هذا هو ظلم سلْب الكمال، فقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم كمال قبل أن يُرسل، فظلمتموه بعد الرسالة وأنكرتم عليه الكمال، وهو ظلم مُزدوج.
فقد سبق أن اعترفتم له من قبل الرسالة بالأمانة، ولكن من بعد الرسالة أنكرتُم أمانته، وكان صادقا من قبل الرسالة، وقلتم إنه غير صادق بعدها.
ولم تكن له صفة نقص قبل الرسالة، فجئتم أنتم له بصفة نقص، كقولكم : ساحر، كاهن، مجنون، وفي هذا ظُلم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا أيضا ظلم للمجتمع الذي تعيشون فيه، لأن من يريد استمرار الاستبداد بكلمة الكفر، ويريد أن يستمر في السيادة والاستغلال والتحكّم في الغير، فكل ذلك ظُلم للمجتمع، وفوق ذلك ظلم للنفس، لأن من يفعل ذلك قد يأخذ متعة بسيطة، ويحرِم نفسه من متعة كبيرة، هي متعة الحياة في ظل منهج الله، وينطبق عليه قول الحق الرحمن :
﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ١١٨ ﴾
( النحل ).
وفوق ظلم النفس وظلم المجتمع هناك ظلم يمارسه هذا النوع من البشر ضد الكون كلّه فيما دون الإنسان، من جماد وحيوان ونبات، ذلك أن الإنسان حين لا يكون على منهج خالقه، والكون كله مسخّر لمنهج الخالق، فلن يرعى الإنسان ذلك في تعامله مع الكون، وسبحانه القائل :
﴿ وإن من شيء إلا يُسبّح بحمده.. ٤٤ ﴾ ( الإسراء ).
حين يسبّح كل ما في الكون يشذّ عن ذلك إنسان لا يتبع منهج الله، فالكون كله يكرهه، وبذلك يظلم الإنسان نفسه ويظلم الكون أيضا.
وهكذا عرفنا ظلم القمة في إنكار الألوهية، أو الشرك به سبحانه، أو توهّم أنهم من أجزاء، وظلم نزع الكمال عن الرسول، وهو الواسطة التي جاءت بخبر الإيمان، وظلم الكون كله، لأن الكون بكل أجناسه مُسبّح لله.
وقول الحق سبحانه :
﴿ ولا تحسَبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون.. ٤ ﴾
( إبراهيم ).
نجد فيه كلمة ( يعمل ). ونعلم أن هناك فرقا بين ( عمل ) و( فعل )، والفعل هو أحداث كل الجوارح، ما عدا اللسان الذي يقال عن حدثه ( القول ).
فكل الجوارح يأخذ الحادث منها اسما، وحدث اللسان يأخذ اسما بمفرده، ذلك أن الذي يكب٧ الناس على مناخرهم في النار إنما هو حصائد ألسنتهم٨، والفعل والقول يجمعهما كلمة ( عمل ).
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه ( يعمل )، ذلك أن المشركين الذين استقبلوا القرآن كانوا يُرجفون٩ بالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم بالكلام، وكل الأفعال التي قاموا بها نشأت عن طريق تحريض بالكلام.
وتأتي هذه الآية الكريمة التي يؤكّد فيها سبحانه أنه يمكّن لهم الذنوب ليُمكّن العقوبة أيضا، ويأتي قوله :
﴿ إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
ونعلم أنه قد حدثت لهم بعض من الظواهر التي تؤكد قُرب انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقُتل صناديدهم وبعض من سادتهم في بدر، وأُسِر كبائرهم، وهكذا شاء سبحانه أن يأتي بالوعد أو الوعيد، جاء بالأمر الذي يدخل فيه كل السامعين، وهو عذاب الآخرة، إن ظلّوا على الشرك ومقاومة الرسالة.
و :﴿ تشخص فيه الأبصار ٤٢ ﴾ ( إبراهيم ).
يعني : تفتح بصورة لا يتقلّب بها يمْنة أو يسْرة من هول ما يرى ؛ وقد يكون عدم تقلّب البصر من فرط جمال ما يرى، والذي يُفرّق بينهما سِيال خاص بخلق الله فقط، وهو سبحانه الذي يخلقه.
فحين ترى إنسانا مذعورا من فرط الخوف، فسِحْنته تتشكّل بشكل هذا الخوف، أما من نظر إلى شيء جميل وشخصت عيناه له، يصبح لملامحه انسجام ارتواء النظر إلى الجمال، ولذلك يقول الشاعر :
جمال الذي أهواه قيْد ناظري
فليت لِشيء غيرِه يتحوّل
ويمكننا أن نفرق بين الخائف وبين المستمتع بملامح الوجه المنبسطة أو المذعورة.
ونعلم أن البصر ابن للمرائي، فساعة تتعدّد المرائي، فالبصر يتنقّل بينها، ولذلك فالشخص المُبصر مُشتّت المرائي دائما، وينتقل ذهنه من هنا إلى هناك.
أما من أنعم الله عليهم بنعمة حَجْز أبصارهم –المكفوفين- فلا تشغله المرائي، ولذلك نجدهم أحرص الناس على العِلم، فأذهانهم غير مشغولة بأي شيء آخر، وبُؤرة شعور كل منهم تستقبل عن طريق الأذن ما يثبت فيها.
ولذلك يقال عنهم ( صناديق العلم ) إن أرادوا أن يعلموا ؛ فلا أحد من الذين يتعلمون منهم يكون فارغا أبدا، مثله مثل الصندوق الذي لا يفرغ.
ولا أحد يتحكم في العاطفة الناشئة من الغرائز إلا الله، فأنت لا تقول لنفسك ( اغضب ) أو ( اضحك )، لأنه هو سبحانه الذي يملك ذلك، وهو القائل :
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ٤٣ ﴾ ( النجم ).
والضحك والبكاء مسائل قسرية لا دخل لأحد بها.
ونجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن :
﴿ وإذا زاغت١٠ الأبصار.. ١٠ ﴾ ( الأحزاب ).
فمرة تشخص الأبصار، ويستولي الرعب على أصحابها فلا يتحولون عن المشهد المُرعِب، ومرة تزوغ الأبصار لعله يبحث لنفسه عن مَنفذ أو مَهرب فلا يجد.
١ شخص بصره: انفتحت عيناه فلا تطرف من الخوف والفزع والحيرة. [القاموس القويم (١/٣٤٣]..
٢ العصف المأكول: التبن أو ورق الشجر الذي أصابه مرض الأُكال فتآكلت منه أجزاء. [القاموس القويم ٢/٢٣]..
٣ الإيلاف: الاعتياد والأنس بالشيء ومحبته. والإيلاف أيضا: العهد يؤخذ لتأمين خروج التجارة من أرض إلى أرض. قال ابن الأعرابي: أصحاب الإيلاف أربعة إخوة بني عبد مناف: هاشم أخذ عهدا من ملك الروم، ونوفل أخذ عهدا من كسرى، وعبد شمس أخذ عهدا من النجاشي، والمطلب أخذ عهدا من ملوك حمْير باليمن. فكان تجار قريش يترددون على هذه الأمصار بعهود هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم أحد. [لسان العرب - مادة: ألف]..
٤ الفتنة: الاختبار والابتلاء بالشدائد والمصائب ونقص الأموال والأولاد والثمرات ليُعرف مدى صدق المؤمنين. [القاموس القويم ٢/٧١]..
٥ الإملاء: الإمهال والتأخير وإطالة العمر. وأملى الله له: أمهله وطوّل له. [لسان العرب - مادة: ملا]..
٦ أي: يا حُسن ملة الإسلام التي جاءت من عند الله مثبتة وجوده دون شريك له في الملك ودون أن يكون مكونا من أجزاء، فأثبتت له سبحانه وجوبية وجوده، وواحدية تفرده، وأحدية ذاته سبحانه. (ع)..
٧ كب الشيء يكبه: قلبه. وكبّه لوجه فانكب أي: صرعه. [لسان العرب - مادة: كبب]..
٨ عن معاذ بن جبل أنه قال: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). أخرجه أحمد في مسنده (٥/٢٣١، ٢٣٦) والترمذي في سننه (٢٦١٦) وقال: (حسن صحيح)..
٩ أرجف القوم إذا خاضوا في الأخبار السيئة وذكر الفتن. قال تعالى: ﴿والمُرجفون في المدينة.. ٦٠﴾ (الأحزاب) هم الذين يُولّدون الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب في الناس. [لسان العرب - مادة: رجف]..
١٠ زاغ البصر: اضطرب ولم يحقق ما يرى، أو انحراف عن القصد فلم ير شيئا. وزيغ الأبصار: اضطرابها لشدة الفزع. [القاموس القويم ١/٢٩٤]..
ويكمل الحق سبحانه صورة هؤلاء الذين تزوغ أبصارهم، فيقول :
﴿ مُهطعين مُقنعي١ رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفُهم وأفئدتهم هَواء ٤٣ ﴾
والمُهطع هو من يظهر من فرط تسرّعه وكأن رقبته قد طالت، لأن المُهطع هو من فيه طول، وكأن الجزاء بالعذاب يجذب المجزيّ ليقربه، فيُدفع في شدة وجفوة إلى العذاب، يقول الحق سبحانه :
﴿ يُدعُّون٢ إلى نار جهنم دعّاً ١٣ ﴾ ( الطور ).
وكأن هناك من يدفعهم دفعا إلى مصيرهم المؤلم. وهم :
﴿ مُقنِعي رؤوسهم.. ٤٣ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : رافعين رؤوسهم من فرط الدهشة لهول العذاب الذي ينتظرهم.
وفي موقع آخر يصوّرهم الحق سبحانه :
﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان٣ فهم مُقمحون ٨ ﴾ ( يس ).
وهكذا تكون صورتهم مُفزعة من فرط المهانة، فبصر الواحد منهم شاخص إلى العذاب، منجذب إليه بسرعة لا يتحكم فيها، ورأسه مرفوعة من فرط الهَول، ومُقمح٤ بالأغلال.
ولا يستطيع الواحد منهم أن تجفل جفونه، وكأنها مفتوحة رغما عنه، وفؤاده هواء بمعنى : أن لا شيء قادر على أن يدخله.
ونحن نلحظ ذلك حين نضع زجاجة فارغة في قلب الماء، فتخرج فقاقيع الهواء مقابل دخول الماء من فوهتها.
ونعلم أن قلب المؤمن يكون ممتلئا بالإيمان ؛ أما الكافر المُلحد فهو في مثل تلك اللحظة يستعرض تاريخه مع الله ومع الدين، فلا يجد فيها شيئا يُطمئِن، وهكذا يكتشف أن فؤاده خالٍ فارغ ؛ لا يطمئن به إلى ما يُواجه به لحظة الحساب.
ونجد بعضا ممن شاهدوا لحظات احتضار٥ غيرهم يقولون عن احتضار المؤمن ( كان مشرق الوجه متلألئ الملامح ). أما ما يقولونه عن لحظة احتضار الكافر، فهم يحكُون عن بشاعة ملامحه في تلك اللحظة.
والسبب في هذا أن الإنسان في مثل هذه اللحظات يستعرض تاريخه مع الله، ويرى شريط عمله كله، فمن قضى حياته وهو يُرضي الله، لا بد أن يشعر بالراحة، ومن قضى حياته وهو كافر مُلحد فلابد أن يشعر بالمصير المُرعب الذي ينتظره.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناضرة ٢٣ ووجوه يومئذ باسِرة٦ ٢٤ تظن أن يُفعل بها فاقرة٧ ٢٥ ﴾ ( القيامة ).
١ المقنع: الذي يرفع رأسه ينظر في ذل: والإقناع: رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع. [لسان العرب - مادة: قنع]..
٢ دعه يدعه: دفعه في جفوة. والدّعّ: الطرد والدفع في انتهار وزجر. [لسان العرب - مادة: دعع]..
٣ الذقن: مجتمع اللحيين أسفل الوجه، ويُطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا، وقد يُطلق على الوجه كله. [القاموس القويم ١/٢٤٣]..
٤ المقمح: الخاضع الذليل لا يكاد يرفع بصره. قال الأزهري: أراد عز وجل أن أيديهم لما غُلّت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها. [لسان العرب - مادة: قمح]..
٥ حُضر المريض واحتُضِر: إذا نزل به الموت ودنا منه أجله. [لسان العرب - مادة: حضر]..
٦ باسرة: كالحة عابسة كناية عن الهم والغم والخوف الشديد. [القاموس القويم ١/٦٦]..
٧ الفاقرة: الداهية تكسر فقار الظهر. [القاموس القويم ٢/٨٦]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخِّرنا إلى أجلٍ قريب نُجب دعوتك ونتّبع الرسل أوَ لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زَوَال ٤٤ ﴾
وهذا خطاب من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يُنذرهم بضرورة الاستعداد ليوم القيامة، وأنه قادم لا محالة.
وكلمة ( يوم ) هي ظرف زمان، وظرف الزمان لا بد له من حدث يقع فيه، ويوم القيامة ليس محل إنذار أو تبشير، لأن الإنذار أو البشارة لا بد أن يكونا في وقت التكليف في الحياة الدنيا.
وهكذا يكون المُنذر به هو تخويفهم مما يحدث لهم في هذا اليوم، فما سوف يحدث لهم هو العذاب ؛ وكأنه قنبلة موقوتة ما إن يأتي يوم القيامة حتى تنفجر في وجوههم.
وهنا يقول أهل ظلم القمة في العقيدة، وظلم الرسالة بمقاومتها ؛ وظلم الكون المُسبّح لله :
﴿ ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتّبع الرسل.. ٤٤ ﴾ ( إبراهيم ).
وهم يطلبون تأجيل العذاب لمُهلة بسيطة، يُثبتون فيها أنهم سيُجيبون الدعوة ويطيعون الرسول، وهم يطلبون بذلك تأجيل قيامتهم.
فيكون الجواب من الحق سبحانه :
﴿ أوَ لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ٤٤ ﴾ ( إبراهيم ).
فأنتم قد سبق وأن أقسمتم بأن الله لا يبعث من يموت، وقد قال الحق سبحانه ما قلتم :
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت.. ٣٨ ﴾ ( النحل ).
وساعة ترى كلمة ( بلى ) بعد ندب، فهذا يعني تكذيب ما جاء قبلها، وهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ظنوا أنهم لن يُبعثوا، وظنّوا أنهم بعد الموت سيصيرون ترابا ؛ وهم الذين قالوا :
﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ٣٧ ﴾ ( المؤمنون ).
وهكذا أكّدوا لأنفسهم أنه لا بعث من بعد الحياة، ومن بعد البعث سنسمع من كل فرد فيهم :
﴿ يا ليتني كنت ترابا ٤٠ ﴾ ( النبأ ).
أو : أنهم ظنّوا أن الذين أنعم الله عليهم في الدنيا، لن يحرمهم في الآخرة، كما أورد الحق سبحانه هذا المَثل، في قوله تعالى :
﴿ واضرب لهم مثلا رجُلين جعلنا لأحدهما جنّتين١ من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ٣٢ كلتا الجنّتين آتت أُكُلها ولم تظلم منه شيئا وفجّرنا خلالهما نهرا ٣٣ وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يُحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ٣٤ ودخل جنّته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ٣٥ وما أظن الساعة قائمة ولئن رُددت إلى ربي لأجدنّ خيرا منها مُنقَلبا ٣٦ ﴾ ( الكهف ).
والذي يقول ذلك فهِم أنه سوف يموت، لكنه توهّم أن جنته تلك ستظل على ما هي عليه، وأنكر قيام الساعة، وقال :( حتى لو قامت الساعة، ورُددت إلى الله فسأجد أفضل من جنتي تلك ).
وهو يدعي ذلك وهو لم يقدّم إيمانا بالله ليجده في الآخرة، فهو إذن ممن أنكروا الزوال أي البعث من جديد، ووقع في دائرة من لم يصدّقوا البعث، وسبق أن قال الحق سبحانه ما أورده على ألسنتهم :
﴿ أئذا ضلَلْنا٢ في الأرض أئنّا لفي خلق جديد ١٠ ﴾
( السجدة ).
والذين أنكروا البعث يورِد الحق سبحانه لنا حوارا بينه وبينهم، فيقول سبحانه وتعالى :
﴿ قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ١١ ﴾ ( غافر ).
فيرد الحق سبحانه عليهم :
﴿ ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم وإن يُشرَك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ١٢ ﴾ ( غافر ).
وفي موقع آخر من القرآن نجد حوارا واستجداء منهم لله، يقولون :
﴿ ربنا أبصَرنا وسمِعنا فارجعنا نعمل صالحا.. ١٢ ﴾ ( السجدة ).
ويأتي رد الحق سبحانه عليهم :
﴿ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم.. ١٤ ﴾
( السجدة ).
وفي موقع ثالث يقول الواحد منهم عند الموت :
﴿ رب ارجعونِ ٩٩ لَعلّي أعمل صالحا فيما تركت.. ١٠٠ ﴾ ( المؤمنون ).
فيأتي ردّ الحق سبحانه :
﴿ كلاّ إنها كلمة هو قائلها.. ١٠٠ ﴾ ( المؤمنون ).
وبعد دخولهم النار يقولون :
﴿ ربنا أخرِجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ١٠٧ ﴾ ( المؤمنون ).
فيقول الحق سبحانه :
﴿ قال اخسئوا٣ فيها ولا تُكلّمونِ ١٠٨ ﴾ ( المؤمنون ).
وفي موضع آخر يقولون عند اصطراخهم٤ في النار :
﴿ ربنا أخرِجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل.. ٣٧ ﴾
( فاطر ).
فيأتي الرد من الحق سبحانه :
﴿ أوَ لم نُعمّركم ما يتذكر فيه من تذكّر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ٣٧ ﴾ ( فاطر ).
ونلحظ أنهم في كل آيات التوسّل لله كي يعودوا إلى الحياة الدنيا يقولون ( ربنا )، وتناسَوا أنهم مأخوذون إلى العذاب بمخالفات الألوهية، ذلك أن الربوبية عطاؤها كان لكم في الدنيا، ولم ينقصكم الحق سبحانه شيئا على الرغم من كفركم.
هكذا يكون حال الذين أقسموا أن الحق سبحانه لن يبعثهم، وأنكروا يوم القيامة، وأنه لا زوال لهم. أي : لا بعث ولا نشور.
١ الجنة: حديقة ذات شجر كثير ملتف يستر الأرض. [القاموس القويم ١/١٣٣]..
٢ ضل في الأرض: مات وصار ترابا فضلّ فلم يتبين شيء من خلقه. [لسان العرب - مادة: ضلل]..
٣ اخسأوا: انزجروا وابعدوا عني في النار ولا تكلموني. [القاموس القويم ١/١٩٢] والخاسئ: الصاغر الذليل. [المعجم الوجيز- مادة: خسأ]..
٤ اصطرخ القوم وتصارخوا: استغاثوا. والاصطراخ: التصارخ. [لسان العرب - مادة: صرخ]..
ويتابع الحق سبحانه القول الكريم :
﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم١ وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ٤٥ ﴾
والسكون هو الاطمئنان إلى الشيء من عدم الإزعاج، ونعلم أن المرأة في الزواج تعتبر سكنا، والبيت سكن، وهنا يتكلم الحق سبحانه عن مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أي : أنكم لم تتعِظوا بالسوابق التي ما كان يجب أن تغيب عنكم، فأنتم تمرون في رحلات الصيف والشتاء على مدائن صالح، وترون آثار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و الشرك، وتمرون على الأحقاف٢، وترون ماذا حاق بقوم عاد.
وكل أولئك نالوا العقاب من الله، سواء بالريح الصرصر٣ العاتية، أو : أنه سبحانه قد أرسل عليهم حاصبا٤ من السماء، أو : أنزل عليهم الصيحة ؛ أو : أغرقهم كآل فرعون، وأخذ كل قوم من هؤلاء بذنبه.
وصدق الله وعده في عذاب الدنيا، فلماذا لم تأخذوا عِبرة من ذلك، وأنه سبحانه وتعالى صادق حين تحدّث عن عذاب الآخرة ؟
وهنا قال الحق سبحانه :
﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.. ٤٥ ﴾ ( إبراهيم ).
وفي آية أخرى يقول سبحانه :
﴿ وإنكم لتمُرّون عليهم مصبحين ١٣٧ وبالليل أفلا تعقلون ١٣٨ ﴾ ( الصافات ).
أي : أنكم تمرّون على تلك الأماكن التي أقامها بعض ممن سبقوكم وظلموا أنفسهم بالكفر ؛ وأنزل الحق سبحانه عليهم العقاب، ولذلك يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ٤٥ ﴾
( إبراهيم ).
نعم ؛ فحين تمشي في أرض قوم عاد، وترى حضارتهم التي قال عنها الحق سبحانه :
﴿ إرم٥ ذات العماد ٧ التي لم يُخلق مثلها في البلاد ٨ ﴾
( الفجر ).
وهي حضارة لم نكتشف آثارها بعد ؛ وما زالت في المطمورات، وكل مطمور في الأرض بفعل من غضب السماء، تضع السماء ميعاد كشف له ليتعظ أهل الأرض ؛ ويحدث هذا الكشف كلما زاد الإلحاد واستشرى.
قد حدث أن اكتشفنا حضارة ثمود، وكذلك حضارة الفراعنة، وهي الحضارة التي سبقت كل الحضارات في العلوم والتكنولوجيا، ورغم ذلك لم يعرف أصحاب تلك الحضارة أن يصونوها من الاندثار الذي شاءه الله.
وما زال الناس يتساءلون : لماذا لم يترك المصريون القدماء خبرتهم الحضارية مكتوبة ومُسجّلة في خطوات يمكن أن تفهمها البشرية من بعد ذلك ؟
﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ٤٥ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أن الحق سبحانه يوضح هنا أن مشيئته في إنزال العقاب قد وَضُحت أمام الذين عاصروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في مساكن الأقوام التي سبقتهم، وكفروا برسالات الرسل، وسبق أن ضرب لهم الحق سبحانه الأمثال بهؤلاء القوم وبما حدث لهم. والمَثل إنما يضربه الله ليُقرّب بالشيء الحسي ما يقرّب إلى الأذهان الشيء المعنوي.
١ قال قتادة: سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود. وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم. [الدر المنثور ٥/٥٢]..
٢ الأحقاف: منازل قوم عاد بظاهر بلاد اليمن. والحقف من الرمل: المتعرج أو المستطيل أو المستدير من الرمل. [القاموس القويم ١/١٦٣] بزيادة..
٣ الريح الصرصر: الشديدة البرد. وقيل: الشديدة الصوت. [لسان العرب - مادة: صرر]..
٤ حصبه: قذفه بالحصى. والحاصب: إعصار شديد يقذفكم بالحصى فيهلككم. [القاموس القويم ١/١٥٦]..
٥ إرم: اسم قبيلة منها عاد -وقيل هي مدينة كبيرة لهم- وزعم الكندي في كتابه فضائل مصر: أنها مدينة الإسكندرية. وقوله: (ذات العماد) يدل على أنها ذات حضارة ومبان عالية. [القاموس القويم ١/١٨]..
ويستمر قول الحق من بعد ذلك :
﴿ وقد مكَروا مكرهم وعند الله مكرُهم وإن كان مكرُهم لِتزول منه الجبال ٤٦ ﴾
والمكر –كما نعلم- هو تبييت الكيد في خفاء مستور، ومأخوذ من الشجرة المكمورة، أي : الشجرة التي تُداري نفسها، . ونحن نرى في البساتين الكبيرة شجرة في حجم الإصبع، وهي مجدولة على شجرة أخرى كبيرة. ولا تستطيع أن تتعرف على ورقة منها، أو أن تنسب تلك الورقة إلى مكان خروجها، ومن أيّ فرع في الشجرة المُلتفة إلا إذا نزعتها من حول الشجرة التي تلتفّ من حولها.
ومن يُبيّت إنما يشهد على نفسه بالجُبن والضعف وعدم القدرة على المواجهة، قد يصلح أن تُبيّت ضد مُساوٍ لك، أما أن تُبيّت على الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فتلك هي الخيبة بعينها.
ولذلك يقول الحق سبحانه في مواجهة ذلك :
﴿ والله خير الماكرين ٥٤ ﴾ ( آل عمران ).
وقال عن مكر هؤلاء :
﴿ ولا يحيق١ المكر السيِّئ إلا بأهله ٤٣ ﴾ ( فاطر ).
ونعلم أننا حين ننسب صفة لله فنحن نأخذها في إطار :
﴿ ليس كمثله شيء.. ١١ ﴾ ( الشورى ).
وعادة ما ننسب كل فعل من الله للخير، كقوله سبحانه :
﴿ وأنت خير الوارثين ٨٩ ﴾ ( الأنبياء ).
﴿ والله خير الماكرين ٥٤ ﴾ ( آل عمران ).
وقوله هنا :
﴿ وقد مكروا مكرهم.. ٤٦ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : أقاموا بالتبييت المناسب لحيلتهم ولتفكيرهم ولقوتهم ؛ فإذا ما قابل الحق سبحانه ذلك، فلسوف يقابله بما يناسب قوته وقدرته المطلقة، وهو سبحانه قد علم أزلاً بما سوف يمكرونه، وتركهم في مكرهم.
فانتصارات الرسالات مرهون بقوة المُرسَل وأتباعه، وهم يقابلون خصوما هم حيثية وجود الرسالة ؛ ذلك أنهم ملأوا الأرض بالفساد، ويريدون الحفاظ على الفساد الذي يحفظ لهم السلطة، والدين الجديد سيدُك سيادتهم ويُزلزلها، لذلك لا بد ألا يدخروا وُسعا في محاولة الكَيد والإيقاع بالرسول للقضاء على الرسالة.
وقد حاولوا ذلك بالمواجهة وقت أن كان الإسلام في بدايته ؛ فأخذوا الضعاف الذين أسلموا، وبدءوا في تعذيبهم، ولم يرجع واحد من هؤلاء عن الدين.
وحاولوا بالحرب ؛ فنصر الله الذين آمنوا، ولم يبق لهم إلا المكر، وسبحانه القائل :
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبِتوك٢ أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ ﴾
( الأنفال ).
وحاولوا أن يفسدوا خليّة الإيمان الأولى، وهي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وظنّوا أنهم إن نجحوا في ذلك ؛ فسوف تنقضّ الرسالة. فحاولوا أن يشتروه بالمال ؛ فلم يفلحوا.
وحالوا أن يشتروه بالسيادة والمُلك فلم ينجحوا، وقال قولته المشهورة :( والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته )٣.
ثم قرروا أن يقتلوه وأن يُوزّعوا دمه بين القبائل، وأخذوا من كل قبيلة شابا ليضربوا محمدا صلى الله عليه وسلم بالسيوف ضربة رجل واحد، ولكنه صلى الله عليه وسلم يهاجر في تلك الليلة، وهكذا لم ينجح تبييتهم :
﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم.. ٤٦ ﴾
( إبراهيم ).
أي : أنه سبحانه يعلم مكرهم.
ويتابع الحق سبحانه قائلا :
﴿ وإن كان مكرُهم لِتزول منه الجبال ٤٦ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : اطمئن يا محمد، فلو كان مكرهم يُزيل الجبال فلن ينالوك، والجبال كانت أشد الكائنات بالنسبة للعرب، فلو كان مكرهم شديدا تزول به الجبال، فلن يُفلحوا معك يا رسول الله، ولن يُزحزِحوك عن هدفك ومهمتك.
والحق سبحانه يقول :
﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا مُتصدّعا٤ من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ٢١ ﴾ ( الحشر ).
وإذا كان مكرهم يبلغ من الشدة ما تزول به الجبال، فاعلم أن الله أشد بأسا.
١ حاق به الشيء: أصابه وأحاط به. وحاق به الأمر: لزمه ووجب عليه. والحيق ما يصيب الإنسان من مكروه فعله. [المعجم الوجيز- مادة: حيق]..
٢ ليثبتوك. أي: يجرحوك جراحة لا تقوم معها. وأثبت فلان، أي: اشتدت به علته، أو أثبتته جراحة فلم يتحرك. [لسان العرب - مادة: ثبت]..
٣ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (١/٢٦٦) معزواً لابن إسحاق..
٤ التصديع: التفريق والتشقّق. والصّدع: الشق في الشيء الصُّلب. والتصدع: تكسُّر الصخور بقوة. [لسان العرب، المعجم الوجيز – مادة: صدع]..
ويقدّم سبحانه من بعد ذلك حَيْثية عدم فاعلية مكرهم، فيقول :
﴿ فلا تحسَبنّ١ الله مُخلف وعده رسله إن الله عزيز٢ ذو انتقام ٤٧ ﴾
ولو كان لمكرهم مفعول أو فائدة لَما قال الحق سبحانه أن وعده لرسله لن يُخلَف، ولكن مكرهم فاسد من أوله وبلا مفعول، وسبحانه هو القائل :
﴿ ولقد سبقت كلِمتنا لعبادنا المرسلين ١٧١ إنهم لهم المنصورون ١٧٢ وإنّ جُندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ ( الصافات ).
إذن : فوعد الله لرسله لا يمكن أن يُخلَف.
والوعود في القرآن كثيرة ؛ فهناك وعد الشيطان لأوليائه، مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ الشيطان يعِدكم الفقر٣ ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا.. ٢٦٨ ﴾ ( البقرة ).
وهناك وعد من الله للمؤمنين :
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيستخلفنّهم في الأرض.. ٥٥ ﴾ ( النور ).
فإذا كان الحق سبحانه لا يُخلف وعده لأتباع الرسول، أيُخلِف وعده للرسول ؟
طبعا لا، لأن الوعد على إطلاقه من الله، مُوفىً فكيف إذا كان للرسل وللمؤمنين ؟ يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إنّا لننصر رسُلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ٥١ ﴾ ( غافر ).
والنصر يقتضي هزيمة المقابل، ويحتاج النصر لصفة تناسبه ؛ والصفات المناسبة هي صدوره من عزيز لا يُغلب، والهزيمة لمن كفروا تحتاج إلى صفة، والصفة المناسبة هي تحقّق الهزيمة بأمر مُنتقم جبّار.
١ حسب الشيء حِسبانا: ظنه. فلا تحسبن: أي: لا تظنن. [المعجم الوجيز – مادة: حسب]..
٢ العزيز: من صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى. قال الزجاج: هو الممتنع فلا يغلبه شيء. وقال غيره: هو القوي الغالب كل شيء. [لسان العرب - مادة: عزز]..
٣ قال ابن كثير في تفسيره (١/٣٢١): (أي: يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقون في مرضاة الله، وهو مع نهيه عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق)..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا١ لله الواحد القهّار٤٨ ﴾
ويخوّفهم الحق سبحانه هنا من يوم القيامة بعد أن صوّر لهم ما سوف يدّعونه، بأن يؤخّر الحق حسابهم، وأن يعيدهم إلى الدنيا لعلهم يعملون عملا صالحا، ويجيبوا دعوة الرسل.
ويوضح سبحانه هنا أن الكون الذي خلقه الله سبحانه، وطرأ عليه آدم وخلفته من بعده ذريته، قد أعدّه سبحانه وسخّره في خدمة آدم وذريته من بعده ؛ وهم يعيشون في الكون بأسباب الله الممدودة في أنفسهم، والمنثورة في هذا الكون لكل مخلوق لله، مؤمنهم وكافرهم، فمن يأخذ بتلك الأسباب هو من يغلب.
وسبحانه القائل :
﴿ من كان يريد حرث٢ الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نُؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ٢٠ ﴾ ( الشورى ).
وهكذا شاء الله أن يهب عباده الارتقاء في الدنيا بالأسباب ؛ أما حياة الآخرة فنحن نحياها بالمُسبِّب، وبمجرد أن تخطر على بال المؤمن رغبة في شيء يجده قد تحقق.
وهذا أمر لا يحتاج إلى أرض قدّر فيها الحق أقواتها، وجعل فيها رواسي ؛ وأنزل عليها من السماء ماء، إذن : فهي أرض غير الأرض، وسماء غير السماء، لأن الأرض التي نعرفها هي أرض أسباب، والسماء التي نعرفها هي سماء أسباب.
وفي جنة الآخرة لا أسباب هناك، لذلك لا بد أن تتبدّل الأرض، وكذلك السماء.
وقوله الحق :
﴿ وبرزوا لله الواحد القهّار ٤٨ ﴾ ( إبراهيم ).
فهو يعني ألا يكون هناك أحد معهم سوى ربهم ؛ لأن البروز هو الخروج والمواجهة.
والمؤمن وجد ربه إيمانا بالغيب في دنياه، وهو مؤمن به وبكل ما جاء عنه ؛ كقيام الساعة، ووجود الجنة والنار.
وكلنا يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أحد الصحابة٣ حين سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت ؟ فقال الصحابي : أصبحت مؤمنا بالله حقا. فقال له الرسول صلى الله وسلم : لكل حق حقيقة ؛ فما حقيقة إيمانك ؟ قال الصحابي : عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها –أي : تساوى الذهب بالتراب - وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذّبون. فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :( عرفت فالزم )٤.
هذا هو حال المؤمن، أما الكافر فحاله مختلف. فهو يبرز ليجد الله الذي أنكره، وهي مواجهة لم يكن ينتظرها، ولذلك قال الحق سبحانه في وصف ذاته هنا :
﴿ الواحد القهّار ٤٧ ﴾
وليس هناك إله آخر سيقول له ( اتركهم من أجل خاطري ).
وفي آية أخرى يقول عن هؤلاء :
﴿ والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ٥ بقيعة يحسَبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده.. ٣٩ ﴾
( النور ).
أي : أنه يُفاجأ بمثل هذا الموقف الذي لم يستعد له.
وقوله :
﴿ الواحد القهّار ٤٨ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : القادر على قهر المخلوق على غير مُراده.
١ برزوا الله: خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله. [تفسير ابن كثير (٢/٥٤٤] والبروز: الظهور والخروج. وقوله تعالى: ﴿وترى الأرض بارزة.. ٤٧﴾ (الكهف) أي: ظاهرة بلا جبل ولا تل ولا رمل. [لسان العرب - مادة: برز]..
٢ الحرث: الثواب والنصيب. وحرث الدنيا: كسْبها. [لسان العرب - مادة: حرث]..
٣ هو الحارث بن مالك الأنصاري. ذكره ابن حجر العسقلاني في (الإصابة في تمييز الصحابة) (١/٣٤٣) وعزا الحديث لابن المبارك في الزهد..
٤ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (١/٥٧) وعزاه للطبراني في الكبير من حديث الحارث ابن مالك الأنصاري..
٥ السراب: ما تراه في نصف النهار في الأرض الفضاء كأنه ماء، وليس بماء. [القاموس القويم ١/٣٠٨) والقيعة جمع قاع، وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب. [تفسير ابن كثير ٣/٢٩٦]..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وترى المجرمين يومئذ مُقرَّنين١ في الأصفاد ٤٩ ﴾
والمجرم هو من ارتكب ذنبا، وهو هنا من ارتكب ذنب القمّة، وهو الكفر بالله، ومن بعده من ارتكب الذنوب التي دون الكفر، وتراهم جميعا مجموعين بعضهم مع بعض في ( قرن ) وهو الحبل، أو القيْد الذي يُقيَّدون به.
والأصفاد جمع صَفَد، وهو القيد الذي يوضع في الرِّجل ؛ وهو مثل الخُلخال، وهناك من يقيّدون في الأصفاد أي : من أرجلهم، وهناك من يقيد بالأغلال. أي : أن توضع أيديهم في سلاسل، وتُعلّق تلك السلاسل في رقابهم أيضا.
وكل أصحاب جريمة معيّنة يجمعهم رباط واحد، ذلك أن أهل كل جريمة تجمعهم أثناء الحياة الدنيا –في الغالب- مودّة وتعاطف، أما هنا فسنجدهم متنافرين، وعلى عداء، ويعلن كل منهم الآخر، وكل منهم يناكف٢ الآخر ويضايقه، ويعلن ضيقة منه، مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ الأخِلاّء٣ يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ٦٧ ﴾
( الزخرف ).
وكأن كلا منهم يُعذّب الآخر من قبل أن يذوقوا جميعا العذاب الكبير.
ولذلك نجدهم يقولون :
﴿ ربنا أرِنا اللذين أضلاّنا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ٢٩ ﴾ ( فصلت ).
ويقولون :
﴿ ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكُبراءنا فأصلونا السبيلا ٦٧ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا ٦٨ ﴾
( الأحزاب ).
١ مقرنين: مشدودين مقيدين بعضهم مع بعض. والأصفاد: القيود. [القاموس القويم ١/٣٧٨]..
٢ قال ابن منظور في لسان العرب – مادة: نكف: (في نوادر الأعراب: تناكف الرجلان الكلام إذا تعاوراه) أي: رد هذا على هذا وتبادلا التقاذف بالكلام..
٣ الأخلاء: جمع خليل، وهو الصديق المخلص. [القاموس القويم ١/٢٠٨]..
ويستكمل الحق سبحانه صورة هؤلاء المُذنبين، فيقول :
﴿ سرابيلهم من قَطِران١ وتغشى وجوههم النار ٥٠ ﴾
و ( السرابيل ) جمع ( سِرْبال ) وهو ما يلي الجسد، وهو ما نسميه في عصرنا ( قميص ). وإذا كان السِّربال من قطران ؛ فهو أسود لاذع نتن الرائحة سريع الاشتعال ؛ وتلك صفات القطران، وهو شيء يسيل من بعض أشجار البادية وتلك صفاته، وهم يستخدمونه لعلاج الجمال من الجرب.
وعادة يضرب الحق سبحانه المثل من الصورة القريبة إلى الذّهن من التي يراها العربي في بيئته.
ويقول عنهم الحق سبحانه أيضا :
﴿ وتغشى وجوههم النار ٥٠ ﴾ ( إبراهيم ).
والإنسان إذا ما تعرّض لأمر يصيبه بالعطب، فأول ما يحاول الحفاظ عليه هو وجهه، ذلك أن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان، فما بالنا حين تغشى وجوه الكفرة النار ؟ إن مجرد تخيّل ذلك أمر مؤلم.
وسبحانه يقول في آية أخرى :
﴿ أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة.. ٢٤ ﴾
( الزمر ).
وكأن الواحد منهم من فرط شدة العذاب يحاول أن يدفع هذا العذاب بوجهه، وهكذا نجد أحاسيس شتّى لهذا العذاب، وهو مُؤلِم أشدّ الألم.
ويقول سبحانه في موقع آخر :
﴿ يوم يُسحبون في النار على وجوههم.. ٤٨ ﴾ ( القمر ).
وهكذا نجد أن الوجه قد جاء في أكثر من صورة ؛ من صور هذا العذاب.
١ القطران: مادة سوداء سائلة لزجة، تستخرج من الخشب والفحم ونحوهما بالتقطير الجاف، وتستعمل لحفظ الخشب من التسوس، والحديد من الصدأ. [المعجم الوجيز- مادة: قطر]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ لِيَجزي الله كل نفس ما كَسَبت إن الله سريع الحساب ٥١ ﴾
والجزاء أمر طبيعي في الوجود، وحتى الذين لا يؤمنون بإله، ويديرون حركة حياتهم بتقنينات من عندهم قد وضعوا لأنفسهم قوانين جزاء تحدد كل جريمة والعقاب المناسب لها.
وبطبيعة الحال لا يكون أمرا غريبا أن يضع خالق الكون نظاما للجزاء ثوابا وعقابا، ولم لم يضع الحق سبحانه نظاما للجزاء بالثواب والعقاب ؛ لَنالَ كل مُفسِد بُغيته من فساده، ولأحسّ أهل القيم أنهم قد خُدِعوا في هذه الحياة.
وما دام الجزاء أمرا طبيعيا، فلا ظُلم فيه إذن ؛ لأنه صادر عمّن قال :
﴿ لا ظُلم اليوم.. ١٧ ﴾ ( غافر ).
ولا يجازي الحق سبحانه الجزاء العنيف إلا على الجريمة العنيفة.
وقوله سبحانه :
﴿ لِيَجزي الله كل نفس ما كسبت.. ٥١ ﴾ ( إبراهيم ).
يعني أن المؤمن أو الكافر سَيلقى جزاء ما فعل، إن ثوابا أو عقابا.
والكسب –كما نعلم- هو أن تأخذ زائدا عن الأصل، فأنت حين تحرم نفسك من شيء في الدنيا، ستأخذ جزاء هو الثواب وما يزيد عن الأصل.
ومن كسب سيئة سيأخذ عقابا عليها، ويقال :( كسب السيئة ) ولا يقال ( اكتسبها ) ذلك أن ارتكابه للسيئة صار دُربة سلوكية، ويفرح بارتكابها، ولابد إذن من الجزاء، والجزاء يحتاج حسابا، والحساب يحتاج ميزانا.
وقد يقول المؤمن : إني أُصدّق ربي، ولن يظلم ربّي أحدا. ونقول : إن المقصود بالميزان هو إقامة الحجة ؛ ولذلك نجده سبحانه يقول :
﴿ فأما من ثقُلت موازينُه ٦ فهو في عيشة راضية ٧ ﴾ ( القارعة ).
ويقول أيضا :
﴿ وأما من خفّت موازينه ٨ فأمه١ هاوية ٩ ﴾ ( القارعة ).
ونجد القسمة العقلية في الميزان واضحة فهي مرة ( ثقُلت ) ومرة ( خفّت ). أما ما تساوت كِفّتا ميزانه ؛ ففَسرت حالته سورة الأعراف التي قال فيها الحق سبحانه :
﴿ وعلى الأعراف٢ رجال يعرفون كُلاًّ بسيماهم٣.. ٤٦ ﴾ ( الأعراف ).
وما دام الحق سبحانه سيحاسب كل نفس بما كسبت، فقد يظن البعض أن ذلك سيستغرق وقتا، ولذلك يتابع سبحانه :
﴿ إن الله سريع الحساب ٥١ ﴾ ( إبراهيم ).
ليبين لنا أنه سبحانه سيُحاسب كل الخَلق من لَدُن آدم إلى أن تقوم الساعة بسرعة تناسب قدرته المطلقة.
وحين سأل الناس الإمام –عليا-كرّم الله وجهه- : كيف سيحاسب الله الخلق كلهم دفعة واحدة ؟ أجاب الإجابة الدالة الشافية، وقال :( كما يرزقهم جميعا ).
١ أي: أنه ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم، وعبر عنه بأمه يعني دماغه. وقال قتادة: يهوى في النار على رأسه. [تفسير ابن كثير ٤/٥٤٣]..
٢ أصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلفت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم. [ذكره ابن كثير في تفسيره ٢/٢١٦]..
٣ السّومة: بالضم العلامة. قال ابن عباس: يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه. Fتفسير ابن كثير ٢/٢١٨)]..
ويقول سبحانه من بعد ذلك :
﴿ هذا بلاغ للناس وليُنذَروا به ليعلموا أنما هو إله واحد وليذّكّروا أولوا الألباب ٥٢ ﴾
وهذه الآية هي مِسك الختام، ذلك أنها ركّزت الدعوة ؛ بلاغا صدر عن الله ليبلغه لرسوله الذي أُيِّد بالمعجزة ؛ ليحمل منهج الحياة للإنسان الخليفة في الأرض.
وإذا ما صدرت قوانين حركة الحياة للإنسان الخليفة في الأرض المخلوق لله، وجب ألا يتزيّد عليها أحد بإكمال ولا بإتمام، لأن الذي خلق هو الذي شرّع، وهذه المسألة يجب أن تكون على ذِكر من بال كل إنسان مُكلّف.
وحين تقرأ القول الحكيم :
﴿ هذا بلاغ للناس.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
تجد أنه يحمل إشارة إلى القرآن كله ؛ ذلك أن حدود البلاغ هو كل شيء نزل من عند الله.
وقول الحق سبحانه :
﴿ هذا بلاغ للناس.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
قد أعطانا ما يعطيه النص القانوني الحديث، ذلك أن النص القانوني الحديث يوضح أنه لا عقوبة إلا بنص يُجرِّم الفعل، ولابد من إعلان النص لكافّة الناس، ولذلك تُنشر القوانين في الجريدة الرسمية للدولة، كي لا يقول أحد : أنا أجهل صدور القانون.
وكلنا يعلم أن الحق سبحانه قد قال :
﴿ وما كنّا مُعذِّبين حتى نبعث رسولا ١٥ ﴾ ( الإسراء ).
فمهمة الرسول –إذن- هي البلاغ عن الله لمنهج الحياة الذي يصون حركة الحياة.
ويقول سبحانه عن مهمة الرسول :
﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ٤٠ ﴾ ( الرعد ).
ويقول سبحانه :
﴿ الذين يُبلِّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله.. ٣٩ ﴾ ( الأحزاب ).
ويقول الحق سبحانه على لسان الرسول١ :
﴿ لقد أبلغتُكُم رسالات ربي.. ٩٣ ﴾ ( الأعراف ).
ويقول أيضا :
﴿ أبلغتُكُم ما أُرسلت به إليكم.. ٥٧ ﴾ ( هود ).
وهكذا لا توجد حجّة لقائل : إني أُخذت بذنب لم أعرف أنه ذنب وقت التكليف. لا حُجة لقائل مثل هذا القول ؛ لأن الحق سبحانه يقول في نفس الآية :
﴿ وليُنذَروا به.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
والإنذار : تخويف بشر سوف يقع من قبل زمنه، ليوضح لك بشاعة المخالفة، وكذلك التبشير هو تنبيه لخير قادم لم يأت أوانه كي تستعد لاستقباله.
وقول الحق سبحانه :
﴿ هذا بلاغ للناس.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
يتضمن البشارة أيضا، ولكنه يركز ويؤكد من بعد ذلك في قوله :
﴿ وليُنذرَوا به.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
لأن الخيبة ستقع على مرتكب الذنوب.
وأقول : إن الإنذار هنا هو نعمة ؛ لأنه يُذكّر الإنسان فلا يُقدم على ارتكاب الذنب أو المعصية، فساعة تُقدم للإنسان مغبة٢ العمل السيئ، فكأنك تُقدم إليه نعمة، وتَُسدي إليه جميلا ومعروفا.
ويتابع سبحانه :
﴿ وليعلموا أنما هو إله واحد.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
وهذه هي القضية العقدية الأولى، والتي تأتي في قمّة كل القضايا، فهو إله واحد نصدر جميعا عن أمره، لأن الأمر الهام في هذه الحياة أن تتضافر حركة الأحياء وتتساند ؛ لا أن تتعاند.
ولا يرتقي بنيان، ما إذا كنت أنت تبني يوما ليأتي غيرك فيهدم ما بنيت.
ومهمة حركة الحياة أن نؤدّي مهمتنا كخلفاء لله في الأرض، بأن تتعاضد مواهبنا، لا أن تتعارض، فيتحرك المجتمع الإنساني كله في اتجاه واحد، لأنه من إله واحد وأمر واحد.
وحين يقول الحق سبحانه :
﴿ وهذا بلاغ للناس.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فهو يحدد لنا قِوام الدين بعد تلقّيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبلّغه من سمعه لمن لم يسمعه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( نضّر٣ الله امْرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأداها إلى من لم يسمعها )٤.
وذلك لتبقى سلسلة البلاغ متصلة، وإن لم يُبلغ قوم فالوِزْر على من يُبلّغ، وبذلك يحرم نفسه من شرف التبعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يعلم حكما من أحكام الدين، فالمطلوب منه هو تبليغه للغير ؛ مثلما طلب الحق سبحانه من رسوله أنم يُبلّغ أحكامه.
والحق سبحانه هو القائل :
﴿ وكذلك جعلناكم أمّة وسطا٥ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. ١٤٣ ﴾ ( البقرة ).
وهكذا شهد رسول الله صلى الله وسلم أنه بلّغكم وبقِي على كل مسلم يعلم حُكما من أحكام الدين أن يُبلّغه لمن لا يعرفه ؛ فقد ينتفع به أكثر منه، وبعد أن سمع الحكم قد يعمل به، بينما من أبلغه الحكم لا يعمل به.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( رُبّ مُبلَّّغٍ أوعى من سامع )٦.
ولذلك أقول دائما : إياك أن تخلط بين المعلومة التي تقال لك ؛ وبين سلوك من قالها لك، ولنسمع الشاعر الذي قال :
خُذ عِلمي ولا تركن إلى عَملِي
واجْنِ الثمار وخَلّ العود للحطَب
وهكذا يتحمل المسلم مسئولية الإبلاغ بما يعرف من أحكام الدين لمن لا عِلم لهم بها ؛ لتظل الرسالة موصولة، وكلنا نعلم أن الحق سبحانه قد قال :
﴿ كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.. ١١٠ ﴾ ( آل عمران ).
أي : أنكم يا أمّة محمد، قد أخذتم مهمة الأنبياء.
ولأن البلاغ قد جاء من الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أمين في تبليغه ؛ لذلك لا يمكن أن يصدر عن الواحد الحكيم أوامر متضاربة، ولكن التضارب إنما ينشأ من اختلاف الآمر ؛ أو من عدم حكمة الآمر، ولْنُدقّق جيدا في قول الحق سبحانه :
﴿ وليعلموا أنما هو إله واحد.. ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
فكلمة ( واحد ) جاءت لتمنع مجرد تصوّر الشراكة ؛ فلا أحد مثله، وهو أحد غير مُركَّب من أجزاء، فليس له أجهزة تشبه أجهزة البشر مثلا، فلو كان له أجهزة لكان في ذاته يحتاج لأبعاضه، وهذا لا يصح ولا يمكن تخيُّله مع الله سبحانه وتعالى.
وتلك هي القضية الأساسية التي يعيها أولو الألباب الذين يستقبلون هذا البلاغ. وأولوا الألباب هي جمع، ومفرد ( ألباب ) هو ( لبّ )، ولبّ الشيء هو حقيقة جوهره ؛ لأن القشرة توجد لتحفظ هذا اللّب، والمحفوظ دائما هو أنفس من الشيء الذي يُغلّفه ليحفظه.
وهكذا يكون أولوا الألباب هم البشر الذين يستقبلون القضية الإيمانية بعقولهم ؛ ويُحرّكون عقولهم ليتذكروها دائما، ذلك أن مشاغل الحياة ومُتعتها وشهواتها قد تصرف الإنسان عن المنهج ؛ ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ وليذّكّر أولوا الألباب ٥٢ ﴾ ( إبراهيم ).
أي : يتذكر أصحاب العقول أن الله واحد أحد، فلا إله إلا هو، ولذلك شهد سبحانه لنفسه قبل أن يشهد له أيُّ كائن آخر، وقال :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. ١٨ ﴾ ( آل عمران ).
وهذه شهادة الذات للذات، ويُضيف سبحانه :
﴿ والملائكة وأولوا العلم.. ١٨ ﴾
وشهادة الملائكة هي شهادة المُواجهة التي عايشوها، وشهادة أولي الألباب هي شهادة الاستدلال.
وشهد الحق سبحانه أيضا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول ؛ وكذلك شهد الرسول لنفسه، فهو يقول مثلنا جميعا :( أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ).
وهكذا فعلى أولي الألباب مهمة. أن يتذكّروا ويُذكِّروا بأنه إله واحد أحد.
١ الرسول هنا هو شعيب عليه السلام، فقد قال تعالى: ﴿الذين كذّبوا شُعيبا كأن لم يغنَوا فيها الذين كذّبوا شُعيبا كانوا هم الخاسرين ٩٢ فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتُكُم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ٩٣﴾ (الأعراف)..
٢ الغِبّ من كل شيء: عاقبته وآخرته. وكذلك المغبة. [المعجم الوجيز- مادة: غبب]..
٣ نضر الله وجهه: نعّمه. والنضرة: النّعمة والحُسن والرونق. وقال الحسن المؤدّب: ليس هذا من الحسن في الوجه، إنما معناه: حسّن الله وجهه في خُلُقه. أي: جاهه وقدره. [لسان العرب - مادة: نضر]..
٤ أخرجه أحمد في مسنده (١/٤٣٧)، والترمذي في سننه (٢٦٥٧، ٢٦٥٨)، وابن ماجه في سننه (٢٣٢) والحميدي في مسنده (١/٤٧) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٥ أمة وسطا: أي: أمة فاضلة خيِّرة، فالوسط خير الطرفين. [القاموس القويم ٢/٣٣٦]..
٦ تمام الحديث: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأداها إلى من لم يسمعها..) الحديث، وقد سبق تخريجه صفحة (٧٦٢٣)..
Icon