تفسير سورة إبراهيم

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
مكية : اثنتان وخمسون آيه

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
﴿آلر كِتَابٌ﴾ هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب يعني السورة والجملة التي هي ﴿أنزلناه إِلَيْكَ﴾ في موضع الرفع صفة للنكرة ﴿لِتُخْرِجَ الناس﴾ بدعائك إياهم ﴿مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ من الضلالة إلى الهدى ﴿بِإِذْنِ رَبّهِمْ﴾ بتيسيره وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب
إبراهيم (١ _ ٥)
وذلك ما يمنحهم من التوفيق ﴿إلى صراط﴾ بدل من النور بتكرير العامل ﴿العزيز﴾ الغالب بالانتقام ﴿الحميد﴾ المحمود على الإنعام
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢)
﴿الله﴾ بالرفع مدني وشامي على هو الله وبالجر وغيرهما على أنه عطف بيان للعزيز الحميد ﴿الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ خلقاً وملكاً ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل وهو نقيض الوأل وهو النجاة وهو اسم معنى كالهلاك فقال ﴿وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ وهو مبتدأ وخبر وصفة
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣)
﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ﴾ يختارون ويؤثرون ﴿الحياة الدنيا عَلَى الأخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ عن دينه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ يطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجاً والأصل ويبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل الذين مبتدأ خبره ﴿أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ﴾ عن الحق ووصف الضلال بالبعد من
161
الإسناد المجازى والبعد في الحقيقة للضال لأنه هو الذي يتباعد عن طريق الحق فوصف به فعله كما تقول جد جده أو مجرور صفة للكافرين أو منصوب على الذم أو مرفوع على أعنى الذين أو هم الذين
162
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ إلا متكلماً بلغتهم ﴿لِيُبَيّنَ لَهُمْ﴾ ما هو مبعوث به وله فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولون له لم نفهم ما خوطبنا به فإن قلت إن رسولنا ﷺ بعث إلى الناس جميعاً بقوله قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت لا يخلو إما إن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فتعين أن ينزل بلسان واحد وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء﴾ من آثر سبب الضلالة ﴿وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ﴾ من آثر سبب الاهتداء ﴿وَهُوَ العزيز﴾ فلا يغالب على مشيئته ﴿الحكيم﴾ فلا يخذل إلا أهل الخذلان
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا﴾ التسع ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ بأن أخرج أو أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول كأنه قيل أرسلناه وقلنا له أخرج قومك ﴿مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها أو بأيام الإنعام حيث ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى
إبراهيم (٥ _ ٩)
وفلق لهم البحر ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ﴾ على البلايا ﴿شَكُورٍ﴾ على العطايا كأنه قال لكل مؤمن إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
﴿وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب﴾ إذ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام اي انعامه عليكم إذ ذلك الوقت أو بدل اشتمال من نعمة الله أي اذكروا وقت إنجائكم ﴿وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ﴾ ذكر في البقرة يذبحون وفي الأعراف يقتلون بلا واو وهنا مع الواو والحاصل أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له وحيث أثبت الواو جعل التذبيح من حيث إنه زاد على جنس العذاب كأنه جنس آخر ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الإشارة إلى العذاب والبلاء المحنة أو إلى الإنجاء والبلاء النعمة ونبلوكم بالشر والخير فتنة
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ أي آذن ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك والشبه وهو من جملة ما قال موسى لقومه وانتصابه للعطف على نعمة الله عليكم كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ﴾ يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها ﴿لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ نعمة إلى نعمة فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقيل إذا سمعت النعمة نعمه الشكر تأهبت للمزيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما لئن شكرتم بالجد في الطاعة لأزيدنكم بالجد في المثوبة ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ﴾ ما أنعمت به عليكم ﴿إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ﴾ لمن كفر نعمتي أما في الدنيا فسلب النعمة وأما في العقبى فتوالى النقم
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ﴾ يا بني إسرائيل ﴿وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً﴾ والناس كلهم ﴿فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ﴾ عن شكركم ﴿حَمِيدٌ﴾ وإن لم يحمده الحامدون وأنم ضررتم أنفسكم حيث حرمتموها الخير الذي لا بد لكم منه
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ من كلام موسى لقومه أو ابتداء خطاب لأهل عصر محمد عليه السلام ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح ولا
إبراهيم (٩ _ ١١)
يعلمهم إلا الله اعتراض والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ورُوى أنه عليه السلام قال عند نزول هذه الآية كذب النسابون ﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ بالمعجزات ﴿فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ﴾ الضميران يعودان إلى الكفرة أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجباً أو عضوا عليها تغيظاً أو الثاني يعود إلى الأنبياء أي رد القوم أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا بما أرسلوا به ﴿وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ﴾ من الإيمان بالله والتوحيد ﴿مُرِيبٍ﴾ موقع في الريبة
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠)
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ﴾ أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وهو جواب قولهم وإنا لفي شك {فاطر السماوات والأرض
164
يَدْعُوكُمْ} إِلَى الإيمان ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ﴾ إِذا آمنتم ولم تجيء مع من إلا في خطاب الكافرين كقوله واتقوه وَأَطِيعُونِ يغفر لكم من ذنوبكم يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم وقال في خطاب المؤمنين هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وغير ذلك مما يعرف بالاستقرار وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد ﴿وَيُؤَخّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى وقت قد سماه وبين مقداره ﴿قَالُواْ﴾ أي القوم ﴿إِنْ أَنتُمْ﴾ ما أنتم ﴿إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا﴾ لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آباؤنا﴾ والأصنام ﴿فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ﴾ بحجة بينة وقد جاءتهم رسلهم بالبينات وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا
165
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مثلكم﴾ تسليم لقولهم إنهم بشر مثلهم ﴿ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾ بالإيمان والنبوة كما منّ علينا ﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ جواب لقولهم فأتونا بسلطان مبين والمعنى أن الإتيان بالآية التي قد قد اقترحتموها لبس إلينا ولا في استطاعتنا وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أمر منهم للمؤمنين كافة
إبراهيم (١٢ _ ١٧)
بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً كأنهم قالوا ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ألا ترى إلى قوله
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله﴾ معناه وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾
165
وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين قال أبو تراب التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والشكر عندالعطاء والصبر عند البلاء ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا﴾ جواب قسم مضمر أي حلفوا على الصبر على أذاهم وأن لا يمسكوا عن دعائهم ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ أي فليثبت المتوكلون على توكلهم حتى لا يكون تكرار
166
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ﴾ سبْلنا لرسْلهم أبو عمرو ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا﴾ من ديارنا ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ أي ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم وحلفوا على ذلك والعود بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن معه فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين﴾ القول مضمر أو أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي أرض الظالمين وديارهم في الحديث من آذى جاره ورثه الله داره ﴿ذلك﴾ الإهلاك والإسكان أي ذلك الأمر حق ﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ موقفي وهو موقف الحساب أو المقام مقحم أو خاف قيامي عليه بالعلم كقوله أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كل نفس بما كسبت والمعنى أن ذلك حق للمتقين ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ عذابي وبالياء يعقوب
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)
﴿واستفتحوا﴾ واستنصروا الله على أعدائهم وهو معطوف على أوحى إليهم ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ﴾ وخسر كل متكبر بطر ﴿عَنِيدٍ﴾ مجانب للحق معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم وقيل الضمير لكفار ومعناه واستفتح الكفار على الرسل ظناً منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦)
﴿مِّن وَرَآئِهِ﴾ من بين يديه ﴿جَهَنَّمُ﴾ وهذا وصف حاله وهو في الدنيا لأنه مرصد لجهنم فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث ويوقف ﴿ويسقى﴾ معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى ﴿مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ﴾ ما يسيل من جلود اهل النار وصديد عطف بيان الماء لأنه مبهم فبين بقوله صديد
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧)
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ يشربه جرعة جرعة ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾
ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة كقوله لم يكد يراها أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي أسباب الموت من كل جهة أو من كل مكان من جسده وهذا لفظيع لما يصيبه من الآلام أي لو كان ثمة موت لكان كل واحد منها مهلكاً ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ لأنه لو مات لاستراح ﴿وَمِن وَرَائِهِ﴾ ومن بين يديه ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ وعن الفضيل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨)
﴿مَثَلُ الذين﴾ مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليكم مثل الذين ﴿كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ جملة
167
مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد ﴿اشتدت بِهِ الريح﴾ الرياح مدني ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح كقولك يوم ماطر وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس وهو الإيمان بالله تعالى برماد طيرته الريح العاصف ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ﴾ يوم القيامة ﴿مِمَّا كَسَبُواْ﴾ من أعمالهم ﴿على شَيْءٍ﴾ أي لا يرون له أثراً من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب
168
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩)
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم الخطاب لكل أحد ﴿أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض﴾ خالق مضافاً حمزة وعلي ﴿بالحق﴾ بالحكمة والأمر العظيم ولم يخلقها عبثاً ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جديد﴾ اي هو قارد على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم إعلاماً بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
﴿وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ بمتعذر
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
﴿وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ ويبرزون يوم القيامة وإنما جيء به بلفظ الماضي لأن ما أخبر به عز وجل لصدقه كأنه قد كان ووجد ونحوه وَنَادَى أصحاب الجنة ونادى أصحاب النار وغير ذلك ومعنى بروزهم لله والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله فإذا كان يوم القيامة انكشفوا الله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه {فَقَالَ
168
الضعفاء} في الرأي وهم السفلة والا تباع وكتب
إبراهيم (٢١ _ ٢٢)
الضعفاء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ﴿لِلَّذِينَ استكبروا﴾ وهم السادة والرؤساء الذين استغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم ﴿إِنَّا كنا لكم تبعا﴾ تابعبن جمع تابع على تبع كخادم وخدم وغائب وغيب أو ذوى تبع والتبع والاتباع يقال تبعه تبعاً ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ﴾ فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه ومن الأولى للتبين والثانية للتبعيض كأنه قيل فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو هما للتبعيض أي فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ولما كان قول الضعفاء توبيخاً لهم وعتاباً على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم ﴿قَالُواْ﴾ لهم مجيبين معتذرين ﴿لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه أي لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾ مستويان علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية روى أنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر ثم يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا واتصاله بما قبله من حيث إن عتابهم لهم كان جزعا مم هم فيه فقالوا لهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في اعقاب الصلالة التي كانوا مجتمعين فيها يقولون ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر ﴿مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا ويجوز أن يكون هذا من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا
169
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾ حكم بالجنة والنار لأهليهما وفرغ
169
من الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ورُوي أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً على منبر من نار فيقول لأهل النار ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ﴿وَوَعَدتُّكُمْ﴾ بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ كذبتكم ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان﴾ من تسلط واقتدار ﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ﴾ لكني إلى الضلالة بوسوستي وتزييني والاستثناء منقطع لأن دعاء لبس من جنس السلطان ﴿فاستجبتم لي﴾ فأسرعتم إجابتي ﴿فَلاَ تَلُومُونِي﴾ لأن من تجرد للعداوة الا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح مع أن الرحمن قد قال لكم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة
إبراهيم (٢٢ _ ٢٤)
﴿وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان وقول المعتزلة هذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين باطل لقوله لو هدانا الله اي إلى الايمان لهدينا كم كما مر ﴿مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه والا صراخ الإغاثة بمصرخيِّ حمزة اتباعاً للخاء غيره بفتح الياء لئلا تجتمع الكسرة واليآن بعد كسرتين وهو جمع مصرخ فالياء الأولى ياء الجمع والثانية ضمير المتكلم ﴿إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أشركتمون﴾ وبالياء بصرى وما مصدرية ﴿من قبل﴾ متعلق بأشركتمونى أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم أي في الدنيا كقوله ويوم القيامة يكفرون بشرككم ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له كقوله أَنَاْ بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ أو من قبل متعلق بكفرت وما موصولة أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي اشركتمونيه وهو الله عز وجل تقول أشركني فلان أي جعلني له شريكاً ومعنى إشراكهم الشيطان يالله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وهذا
170
آخر قول الشيطان وقوله ﴿إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قول الله عز وجل وقيل هو من تمام كلام ابليس وإنما حكى الله عز وجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفاً للسامعين
171
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣)
﴿وأدخل الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا﴾ عطف على برزوا ﴿بِإِذْنِ رَبّهِمْ﴾ متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام﴾ هو تسليم بعضهم على بعض في الجنة أو تسليم الملائكة عليهم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤)
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً﴾ أي وصفه وبينه ﴿كَلِمَةً طَيّبَةً﴾ نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة ﴿كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ﴾ وهو تفسير لقوله ضرب الله مثلا نحو سرف الأمير زيداً كساه حلة وحمله على فرس أو انتصب مثلا وكلمة يضرب أي ضرب كلمة طيبة مثلاً يعني جعلها مثلاً ثم قال كشجرة طيبة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة طيبة ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ أي في الأرض ضارب بعروقه فيها ﴿وَفَرْعُهَا﴾ وأعلاها ورأسها ﴿فِي السماء﴾ والكلمة الطيبة كلمة التوحيد أصلها تصديق بالجنان وفرعها إقرار باللسان وأكلها عمل الأركان وكما أن الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملاً فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملاً ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار فما أقوات النار إلا من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الاثمار والشجرة كل
إبراهيم (٢٥ _ ٢٨)
شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين ونحو ذلك والجمهور على أنها النخلة فعن ابن عمر ان رسول الله ﷺ قال ذات يوم إن الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت
171
رسول الله ﷺ أن أقولها وأنا أصغر القوم فقال رسول الله ﷺ ألا أنها النغلة فقال عمر يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من حمر النعم
172
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لا
ثمارها ﴿بِإِذْنِ رَبّهَا﴾ بتيسير خالقها وتكوينه ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦)
﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ هي كلمة الكفر ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ هي كل شجرة لا يطيب ثمرها وفي الحديث أنها شجرة الحنظل ﴿اجتثت مِن فوق الأرض﴾ استؤصلت جثتها وحقيقة الاجتثات أخذ الجثة كلها وهو في مقابلة أصلها ثابت ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ أي استقرار يقال قر الشيء قرارا كقولك ثبت ثباتا شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧)
﴿يثبت الله الذين آمنوا﴾ أي يديمهم عليه ﴿بالقول الثابت﴾ هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ﴿في الحياة الدنيا﴾ حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك ﴿وَفِي الآخرة﴾ الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب فعن البراء أن رسول الله ﷺ ذكر قبض روح المؤمن فقال ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيى محمد ﷺ فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ثم يقول
172
الملكان عشت سعيداً ومت حميداً نم نومة العروس ﴿وَيُضِلُّ الله الظالمين﴾ فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن ونزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل ﴿وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء﴾ فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين
173
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨)
﴿ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله﴾ أي شكر نعمة الله ﴿كُفْراً﴾ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً وهم أهل مكة اكرمهم بمحمد عليه السلام فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر ﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ﴾ الذين تابعوهم على الكفر ﴿دار البوار﴾
إبراهيم (٢٩ _ ٣٤)
دار الهلاك
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩)
﴿جَهَنَّمَ﴾ عطف بيان ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ يدخلونها ﴿وَبِئْسَ القرار﴾ وبئس المقر جهنم
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا﴾ أمثالا في العبادة أو في التسمية ﴿لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ وبفتح الياء مكي وأبو عمرو ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾ في الدنيا والمراد به الخذلان والتخلية قال ذو النون التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾ مرجعكم اليها
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١)
﴿قل لعبادي الذين آمنوا﴾ خصهم بالإضافة إليه تشريفاً وبسكون الياء شامي وحمزة وعلي والأعشى ﴿يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ المقول محذوف لأن قل تقتضي مقولاً وهو أقيموا وتقديره قل لهم أقيموا الصلاة وأتفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا وقيل إنه أمر وهو المقول
173
والتقدير ليقيموا ولينفقوا فحذف اللام لدلالة قل عليه ولو قيل يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز ﴿سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ انتصبا على الحال أي ذوي سر وعلانية يعني مسرين ومعلنين أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية أو على المصدر أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمعنى إخفاء التطوع وإعلان الواجب ﴿مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال﴾ أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة والخلال المخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله بفتحهما مكي وبصري والباقون بالرفع والتنوين
174
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (٣٢)
﴿الله﴾ مبتدأ ﴿الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ خبره ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً﴾ من السحاب مطراً ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات أو من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣)
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِى البحر بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينِ﴾ دائمين وهو حال من الشمس والقمر أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ﴿وسخر لكم الليل والنهار﴾ يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ من للتبعيض أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه أو وآتاكم من كل شيء سألتموه وما لم تسألوه فما موصولة والجملة صفة لها وحذفت الجملة الثانية لأن الباقي يدل على
إبراهيم (٣٤ _ ٣٧)
المحذوف كقوله سرابيل تقيكم الحر من كل عن أبي عمرو وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه أو ما موصولة أي وآتاكم من كل ذلك
174
ما احتجتم إليه فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال وأما التفصيل فلا يعلمه إلا الله ﴿إن الإنسان لظلوم﴾ يظلم النعمة بإغفال شكرها ﴿كَفَّارٌ﴾ شديد الكفران لها أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه
175
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥)
﴿وَإِذْ قَالَ إبراهيم﴾ واذكر إذ قال إبراهيم ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد﴾ أي البلد الحرام ﴿آمِناً﴾ ذا أمن والفرق بين هذه وبين ما في البقرة أنه قد سأل فيها أن يجعل من جملة البلدان التي يأمن أهلها وفي الثاني أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً ﴿واجنبني﴾ وبعدني أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها كما قال واجعلنا مسلمين لك أي ثبتنا على الإسلام ﴿وَبَنِيَّ﴾ أراد بنيه من صلبه ﴿أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ من أن نعبد الأصنام
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس﴾ جعلن مضلات على طريق التسبيب لأن الناس ضلوا بسببهن فكانهن أضللنهم ﴿فَمَن تَبِعَنِي﴾ على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي ﴿فَإِنَّهُ مِنّي﴾ أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي ﴿وَمَنْ عَصَانِى﴾ فيما دون الشرك ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أو ومن عصاني عصيان شرك فإنك غفور رحيم إن تاب وآمن
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
﴿رَّبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي﴾ بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه ﴿بِوَادٍ﴾ هو وادى مكة ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ لا يكون فيه شيء من زرع قط ﴿عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ هو بيت الله سمي به لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه أو لأنه لم يزل ممنعا يهابه كل
175
جبار أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه ﴿رَّبَّنَا لِيِقُيمُواْ الصلاة﴾ اللام متعلقة باسكنت أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك ﴿فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ أفئدة من افئدة الناس ومن للتبعيض لما روي عن مجاهد لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند أو للابتداء كقولك القلب مني سقيم تريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس ونكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة
إبراهيم (٣٧ _ ٤٢)
﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ تسرع إليهم من البلاد الشاسعة وتطير نحوهم شوقاً ﴿وارزقهم مّنَ الثمرات﴾ مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء
176
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨)
﴿رَبَّنَا﴾ النداء المكرر دليل التضرع واللجإ إلى الله ﴿إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ تعلم السر كما تعلم العلن ﴿وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَى الأرض وَلاَ في السماء﴾ من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام أو من كلام إبراهيم ومن للاستغراق كأنه قيل وما يخفى على الله شيء ما
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)
﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر﴾ على بمعنى مع وهو في موضع الحال أي وهب لي وأنا كبير ﴿إسماعيل وإسحاق﴾ روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة ورُوي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين وإسحق لتسعين وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم لأنها حال وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم
176
ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم ﴿إِنَّ رَبّي لَسَمِيعُ الدعاء﴾ مجيب الدعاء من قولك سمع الملك كلام فلان إذا تلقاه بالإجابة والقبول ومنه سمع الله لمن حمده وكان قد دعا ربه وسأله الولد فقال رَبّ هب لي من الصالحين فشكر لله ما أكرمه به من إجابته وإضافة السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها وأصله لسميع الدعاء وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل كقولك هذا رحيم أباه
177
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠)
﴿رَبّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِي﴾ وبعض ذريتي عطفاً على المنصوب في اجعلني وإنما بعض لأنه علم بأعلام الله أنه يكون في ذريته كفار عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ بالياء في الوصل والوقف مكي وافقه أبو عمرو وحمزة في الوصل الباقون بلاياء أي استجب دعائي أو عبادتي ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)
﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ أي آدم وحواء أو قاله قبل النهي واليأس عن إيمان أبويه ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب﴾ أي يثبت أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازيا مثل واسأل القرية
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢)
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون﴾ تسلية للمظوم وتهديد للظالم والخطاب لغير الرسول عليه السلام وإن كان للرسول فالمراد تثبيته عليه السلام على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
إبراهيم (٤٢ _ ٤٥)
المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر وكما جاء في الأمر يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله وقيل المراد به الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه منه شيء وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد
177
كقوله والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾ أي عقوبتهم ﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾ أي أبصارهم لا تقرفي أماكنها من هول ما ترى
178
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)
﴿مهطعين﴾ مسرعين إلى الداعى ﴿مقنعي رؤوسهم﴾ رافعيها ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ صفر من الخير لا تعي شيئاً من الخوف والهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام فوصف به فقيل قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة وقيل جُوف لا عقول لهم
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤)
﴿وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ أي يوم القيامة ويوم مفعول ثان لأنذر لا ظرف إذ الإنذار لا يكون في ذلك اليوم ﴿فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ﴾ أي الكفار ﴿رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾ أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم ﴿أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ﴾ أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث كقوله وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله من يموت وما لكم جواب القسم وإنما جاء بلفظ الخطاب كقوله أقسمتم ولو حكى لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال أو أريد باليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى فإنهم يسألون يؤمنذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥)
يقال سكن الدار وسكن فيها ومنه ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بالكفر لأن السكنى من السكون وهو اللبث والأصل تعديته بفي نحو قرفى الدار وأقام فيها ولكنه لما نقل إلى سكون خاص
178
تصرف فيه فقيل سكن الدار كما قيل تبوأها ويجوز أن يكون سكنوا من السكون أي قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ﴾ بالأخبار أو المشاهدة وفاعل تبين مضمر دل عليه الكلام أي تبين لكم حالهم و ﴿كَيْفَ﴾ ليس بفاعل لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإنما نصب
إبراهيم (٤٥ _ ٤٨)
كيف بقوله ﴿فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ أي أهلكناهم وانتقمنا منهم ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال﴾ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم
179
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)
﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ﴾ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وبطلان الإسلام ﴿وَعِندَ الله مَكْرهُمْ﴾ وهو مضاف إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو إلى المفعول أي وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية والتقدير وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي ﷺ فعبر عن النبي عليه السلام بالجبال لعظم شأنه وكان تامة أو إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله وَمَا كان الله ليعذبهم والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على ان الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً دليله قراءة ابن مسعود وما كان مكرهم وبفتح اللام الأولى ورفع الثانية عليُّ أي وان كان مكرهم الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها فان مخففة من إن واللام مؤكدة
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧)
﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ يعني قوله انا لننصر رسلنا كتب الله لاغلبن أنا ورسلى مخلف مفعول
179
ثان لتحسبن وأضاف مخلف إلى وعده وهو المفعول الثاني له والأول رسله والتقدير مخلف رسله وعده وإنما قدم المفعول الثاني على الأول ليعلم انه لا يخاف الوعد أصلاً كقوله إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رسله ليوذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ غالب لا يماكر ﴿ذُو انتقام﴾ لأوليائه من أعدائه
180
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)
وانتصاب ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ على الظرف للانتقام أو على إضمار اذكر والمعنى يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غير هذه المعروفة وتبدل السموات غير السموات وإنما حذف لدلالة ما قبله عليه والتبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير وفي الأوصاف كقولك بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل الى شكل واختلف واحتلف في تبديل الأرض والسموات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتا وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرض وإنما تغير وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا وقيل تخلق بدلها ارض وسموات أخر وعن ابن مسعود رضي الله عنه يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة وعن على رضي الله عنه تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب ﴿وَبَرَزُواْ﴾ وخرجوا من قبورهم ﴿للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ هو كقوله لّمَنِ الملك اليوم لله الواحد القهار لأن حب (لماذا الون كك إلا يغا لغلا المب) فلا مستغاث لأحد إلى غيره كان الأمر في غاية الشدة
إبراهيم (٤٩ _ ٥٢)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩)
﴿وَتَرَى المجرمين﴾ الكافرين ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يوم القيامة ﴿مُقْرَِّنِينَ﴾ قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين
180
﴿فِي الأصفاد﴾ متعلق بمقرنين أي يقرنون في الأصفاد أو غير متعلق به والمعنى مقرنين مصفدين والأصفاد القيود أو الاغلال
181
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)
﴿سَرَابِيلُهُم﴾ قمصهم ﴿مّن قَطِرَانٍ﴾ هو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فيهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته وحره ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم لذع القطر ان وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهد من جلسه ما لا يقادر قدره وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة نعوذ بالله من سخطه وعذابه من قطرآن زيد عن يعقوب نحاس مذاب بلغ حره اناه ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ تعلوها باشتغالها - وخص الوجه لأنه أعز موضع في ظاهر البدن كالقلب في باطنه ولذا قال تطلع على الأفئدة
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١)
﴿لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت أو كل نفس مجرمة أو مطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المؤمنين بطاعتهم ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)
﴿هذا﴾ أي ما وصفه في قوله ولا تحسبن إلى قوله سريع الحساب ﴿بلاغ لّلنَّاسِ﴾ كفاية في التذكير والموعظة ﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ بهذا البلاغ وهو معطوف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا ﴿وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد لأن الخشية أم الخير كله ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ ذوو العقول
181
سورة الحجر تسع وتسعون آية مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحجر (١)
182
Icon