تفسير سورة الأنعام

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

عند سماعه إياها.. ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزء والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسول، فإن كثيرًا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت، بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة، وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا في الأرض ليروا كيف كان عاقبة المكذبين لأنبيائه.
أسباب النزول
وأما الأسباب: فلم يكن لهذه الآيات سبب لنزولها؛ لأنها إنما نزلت لتعليم العباد كيف يحمدونه فكأنه قال: قولوا يا عبادي عند حمدي وثنائي: الحمد لله. وقال أهل المعاني: لفظه خبر، ومعناه أمر، والمعنى: احمدوا الله سبحانه وتعالى لذاته، وعلى نعمه.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: جنس الحمد بأنواعه، وكل الشكر على نعمه مستحق لله ﴿الَّذِي﴾ خلقكم أيها الناس من نفس واحدة و ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: أوجد وأبدع السموات السبع والأرضين السبعة على غير مثال، فهو سبحانه وتعالى هو المستحق عليكم الحمد والشكر على نعمه، لا ما تعبدون من دونه وتجعلونه شريكًا له من خلقه. والمراد بالسموات والأرض: العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا، وهذا العالم السفلي الذي نعيش فيه.
وإنما قدم (١) السموات على الأرض لشرفها؛ لأنها متعبد الملائكة، ولم تقع فيها معصية، والأرض وإن كان فيها الأنبياء، لكنها احتوت على الأشرار والمفسدين، ولتقدم وجودها على وجود الأرض كما قاله القاضي. ومراده أن السموات على هذه الهيئة مقدمة على الأرض الكائنة على هذه الهيئة الموجودة؛ لأنه تعالى قال في سورة النازعات: ﴿أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾، فإنه صريح في أن بسط الأرض
(١) الفتوحات.
192
مؤخر عن تسوية السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه في تلك السورة. اهـ "كرخي". ولا منافاة بين آية فُصِّلَت وبين آية النازعات فإن الأرض خلقت أولًا كرة ثم خلقت السموات من دخان كما دلت عليه آية فُصلت، ثم بنى السماء ورفعها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها. وإنما جمع السموات وأفرد الأرض؛ لاختلاف أجناسها، فإن الأولى على ما قيل من موج مكفوف، والثانية من مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، والأرض وإن كانت سبعًا أيضًا إلا أنها من جنس واحد، واختلف هل الأرض واحدة؟ وهو الصحيح، فالتعدد باعتبار أقطارها، وقيل: طباق كالسماء، وأما السماء: فهي طباق باتفاق ذكره "الصاوي"، ولكن هذا كله إسرائيليات لا مستند له.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بالحمد لنفسه تعليمًا لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال، وإعلامًا بأنه المستحق لجميع المحامد، فلا ندّ له ولا شريك ولا نظير ولا مثيل. ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المفضل عليكم بصنوف الإنعام والإكرام، الذي أوجد وأنشأ وأبدع خلق السموات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة بما يدهش العقول والأفكار تذكرة وذكرى لأولي الأبصار. والحمد (١): هو الثناء الحسن والذكر الجميل، والفرق بينه وبين المدح: أن المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يكون للعاقل ولغير العاقل، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، والياقوت على نهاية صفائه وصقالته. والحمد لا يكون إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان، والحمد أعم من الشكر؛ لأن الحمد تعظيم المنعم لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلًا إليك أو إلى غيرك، والشكر: تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك، والمقصود من الآية: ذكر الدلالة على وجود الصانع.
(١) المراح.
193
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾؛ أي: والذي أوجد وأنشأ الظلمات والنور الحسيين والمعنويين، كظلمة الليل ونور النهار وظلمة الكفر ونور الإيمان. واختلف (١) العلماء في المراد منهما: فمن قائل: إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار، وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وفي ذلك ردٌّ على المجوس - الثنوية - الذين زعموا أن للعالم ربين، أحدهما: النور، وهو الخالق للخير، والثاني: الظلمة، وهو الخالق للشر. ومن قائل: إن المراد منهما الكفر والإيمان، وروي هذا عن ابن عباس.
والفرق (٢) بين الخلق والجعل: أن كلًّا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام له، كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضًا كما في قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ الآية. وإنما جمع الظلمات دون النور؛ لكثرة محالها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحاسة البصر وإن حمل النور على الإِسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق.. فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير. وفي "البيضاوي" (٣): وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، وفي "شيخ الإِسلام " قوله: لكثرة أسبابها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور، فإنه من جنس واحد وهو النار، ولا ترد الأجرام النيرة كالكواكب؛ لأن مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إن الكواكب أجرام نورية نارية، وإن الشهب تنفصل من نار الكواكب، فصح أن النور من جنس النار. اهـ.
وإنما قدم الظلمات على النور؛ لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها. ﴿ثُمَّ﴾ بعد قيام هذه الأدلة {الَّذِينَ
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الفتوحات.
194
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} وجحدوا به ﴿يَعْدِلُونَ﴾؛ أي: يميلون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام والأحجار، فهو من العدول (١) بمعنى الميل، ولا مفعول له حينئذ. والجار والمجرور في قوله: ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ويجوز أن يتعلق بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾، وقدم عليه للفاصلة، وفي ﴿الباء﴾ حينئذ احتمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى: ﴿عن﴾ وبعدلون من العدول أيضًا؛ أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني: أنها للتعدية، ويعدلون من العدل بمعنى التسوية بين الشيئين، والمعنى: ثم الذين كفروا يسوون بربهم غيره من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفًا. اهـ "سمين".
وعبارة "المراح" هنا: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾؛ أي (٢): يشركون به غيره، وهذه الجملة إما معطوفة على قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، والباء متعلقة بـ ﴿كَفَرُوا﴾، فيكون ﴿يَعْدِلُونَ﴾ من العدول بمعنى الميل، ولا مفعول له، والمعنى: إن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه؛ لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته، أو متعلقة بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾، وهو من العدل، ويوضع الرب موضع الضمير العائد إليه تعالى، والمعنى: إنه مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته، وباعتبار شؤونه العظيمة الخاصة، ثم هؤلاء الكفرة يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد، وإما معطوفة على قوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾، والباء متعلقة بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾ وقدمت لأجل الفاصلة، وهي إما بمعنى: عن، ويعدلون من العدول، والمعنى: إن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم الذين كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره، أو للتعدية و ﴿يَعْدِلُونَ﴾ من العدل، وهو التسوية، والمعنى: أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إنهم يعدلون به جمادًا لا يقدر على شيء أصلًا، فيكون المفعول
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
195
محذوفًا، وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد الشرك بعد وضوح آيات قدرته تعالى.
والمعنى: ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم، فيساوون به أصنامًا نحتوها بأيديهم، وأوهامًا ولدوها بخيالهم، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم. قال (١) ابن عطية: والآية دالة على قبح فعل الكافرين؛ لأن المعنى أن خلقه السموات والأرض والظلمات والنور وغيرها قد تقرر، وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم؟ فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك، ثم تشتمني؟ أي: بعد وضوح هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو.. لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ ﴿ثُمَّ﴾ انتهى.
وعبارة "الفتوحات" هنا: و ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد: استبعاد أن يعدلوا به غيره مع ما أوضح من الدلالات.
وقال الزمخشري: فإن قلتَ: فما معنى: ﴿ثُمَّ﴾ هنا؟
قلت: استبعاد أن يعدلوا به مع وضوح آيات قدرته، وكذلك: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ استبعاد أن يمتروا بعد ما ثبت أنه يحييهم ويميتهم ويبعثهم اهـ "سمين" انتهت.
٢ - وبعد أن وصف الخالق سبحانه وتعالى نفسه بما دل على توحيده واستحقاقه.. انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، مذكرًا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال و ﴿هُوَ﴾؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة أيها المشركون، الإله ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾؛ أي: خلق آباكم آدم من طين؛ أي: من تراب مخلوط بالماء؛ أي: من جميع أنواعه الأحمر والأبيض والأسود فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، وعجن طينته بالماء العذب والملح والمر، فلذلك اختلفت أخلاقهم؛ أي: أخذ قبضة من جميع أنواع التراب وعجنها
(١) البحر المحيط.
196
بجميع أنواع المياه، فاختلاف الألوان لاختلاف ألوان تلك القبضة، واختلاف الأخلاق لاختلاف أنواع تلك المياه، وعلى هذا فالكلام على حذف مضاف كما قدرنا. وقيل: لا حذف، بل (١) كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فإنَّ بنيته مكونة من الغذاء، ومن ذلك البويضات التي في الأنثى، والحيوان المنوي الذي في الذكر، فكلها مكونة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى النبات، والنبات إلى الطين، فثبت (٢) أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من طين. وقال المهدوي: إن الإنسان مخلوق ابتداءً من طين؛ لخبر: "ما من مولود يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته". وأيًّا ما كان الإنسان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى، فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط، كما على إحياء ما قارنها مدةً أظهرُ قدرة.
﴿ثُمَّ﴾ بعد خلقكم من طين ﴿قَضَى﴾؛ أي: كتب وقدر وحدد لكم ﴿أَجَلًا﴾؛ أي: مدة معينة من وقت الولادة إلى وقت الموت لجلوسكم في الدنيا، وتسمى تلك المدة العمر؛ أي: خصص الله موت كل أحد بوقت معين، وذلك التخصيص تعلق مشيئته تعالى بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾؛ أي: حد معين ووقت معلوم من موتكم إلى بعثكم، وتسمى تلك المدة مدة البرزخ مكتوبة ﴿عِنْدَهُ﴾ سبحانه وتعالى (٣). ويروى عن ابن عباس أنه قال: لكل أحد أجلان: أجل من وقت الولادة إلى وقت الموت، وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان الإنسان تقيًّا وَصُولًا للرحم.. زيد له من أَجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجرًا قاطعًا للرحم.. نقص من أجل العمر، وزِيد في أجل البعث، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾.
والآية (٤) ترشد إلى أنه تعالى قضى لعباده أجلين: أجلًا لحياة كل فرد منهم
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
197
ينتهي بموته، وأجلًا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء مدة الدنيا. ومعنى كونه مسمى عنده: أنه لا يعلمه غيره؛ لأنه لم يُطلع أحدًا على يوم القيامة لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، والمراد بقوله: ﴿عِنْدَهُ﴾: في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره ﴿ثُمَّ﴾ بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة ﴿أَنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿تَمْتَرُونَ﴾؛ أي: تشكون في البعث، وتكذبون به بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم من طين، ومن قدر على الابتداء.. فهو أقدر على الإعادة، وهذا (١) استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم، ومحييهم إلى آجالهم، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء.. كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا، فالآية الأولى دليل التوحيد، والثانية دليل البعث، ويؤخذ منه صحة الحشر والنشر.
٣ - والضمير في قوله: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ مبتدأ، ولفظ الجلالة خبره، والجار والمجرور متعلق بلفظ الجلالة؛ لأنه بمعنى المعبود، والضمير عائد الإله الموصوف بالصفات السابقة، وهي: خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق الناس من طين إلى آخرها، فكان في الإخبار بذلك فائدة، وهذا ما عليه الجمهور.
والمعنى: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور إلخ ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود المستحق للعبادة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾، والمتصرف فيهما لا غير، وقوله: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ في القلوب من الدواعي والصوارف ﴿وَجَهْرَكُمْ﴾ في الجوارح من الأعمال، خبر بعد خبر جيء به تقريرًا وتوكيدًا لما قبله؛ لأن الذي يستوي في علمه السر والجهر هو الله وحده، والمراد بالسر: ما يخفيه الإنسان في ضميره، فهو من أعمال القلوب وبالجهر ما يظهره الإنسان فهو من أعمال الجوارح. والمعنى: إن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾؛ أي: مكتسبكم؛ أي: ما تستحقون على فعلكم من الثواب والعقاب.
بقي في الآية سؤال (٢)، وهو أن الكسب، إما أن يكون من أعمال القلوب،
(١) البيضاوي.
(٢) الخازن.
وهو المسمى بالسر، أو من أعمال الجوارح، وهو المسمى بالجهر، فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني: السر والجهر، فقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ يقتضي عطف الشيء على نفسه، وذلك غير جائز، فما معنى ذلك؟ وأجيب عنه: بأنه يجب حمل قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب.
والحاصل فيه: أنه محمول على المكتسب كما فسرناه آنفًا، كذلك فهو نظير قولهم: هذا المال كسب فلان؛ أي: مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه، ذكره الإِمام فخر الدين الرازي.
٤ - قوله: ﴿وَمَا تَأتِيهِمْ﴾ يعني: أهل مكة، كلام مستأنف وارد لبيان كفرهم بآيات الله تعالى، وإعراضهم عنها بالكلية بعد ما بين في الآية الأولى إشراكهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد، وفي الآية الثانية امتراءهم في البعث، وإعراضهم عن بعض آياته، و ﴿ما﴾: نافية، وصيغة المضارع لحكاية الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجددي. و ﴿من﴾ في قوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ زائدة في الفاعل؛ لاستغراق الجنس، ومعنى زيادتها: أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل لقوله: ﴿تَأتِيهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ تبعيضية صفة لـ ﴿آيَةٍ﴾؛ أي: وما يظهر لأهل مكة دليل من الأدلة التي يجب النظر فيها، والاستدلال والاعتبار بها من الآيات التكوينية كالسموات والأرض والظلمات والنور، أو ما يظهر لهم معجزة من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول الله - ﷺ - كانشقاق القمر، أو ما تنزل عليهم آية من آيات القرآن ﴿إِلَّا كَانُوا﴾؛ أي: كان أهل مكة ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن النظر فيها أو عن تصديقها أو عن سماعها وقبولها ﴿مُعْرِضِينَ﴾؛ أي: تاركين للنظر فيها ومكذبين بها، لا يلتفتون إليها ولا يرفعون بها رأسًا لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب. قيل: الآية هنا: العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية. وقيل: الرسالة. وقيل: المعجز الخارق. وقيل: القرآن، ومعنى: ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن قبولها أو سماعها والإعراض ضد الإقبال كما أشرنا إلى هذه الأقوال في الحل.
وتضمنت (١) هذه الآية مذمة هؤلاء الذين كفروا بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم،
٥ - ولما تقدم الكلام أولًا في التوحيد، وثانيًا في المعاد، وثالثًا في تقرير هذين المطلوبين.. ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة، وبيَّن فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل، ويدل ذلك على أن التقليد باطل، وأن التأمل في الدلائل واجب، ولذلك ذموا بإعراضهم عن "الدلائل" فقال: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾؛ أي: فقد كذب أهل مكة ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي هو تلك الآية السابقة بتفصيلها ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: حين جاءهم وأتاهم ذلك الحق؛ أي: فقد كذب أهل مكة بالمعجزات كانشقاق القمر بمكة وانفلاقه فلقتين، فذهبت فلقة وبقيت فلقة، أو بالقرآن، أو بمحمد - ﷺ -. وظاهر (٢) قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ أن الفاء للتعقيب، وأن إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب ﴿فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ﴾؛ أي: يأتي أهل مكة ﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: أخبار (٣) عاقبة الشيء الذي كانوا به يستسخرون، وهو القرآن، أو محمد - ﷺ - على أن ﴿مَا﴾ عبارة عن ذلك الشيء، أبهمه تهويلًا للأمر وتعظيمًا له؛ أي: سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزؤوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، أو المعنى: سوف يأتيهم أخبار عاقبة كونهم مستهزئين بذلك الحق يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب على أن ﴿مَا﴾ مصدرية. والأنباء (٤): جمع نبأ، وهو الخبر العظيم المزعج، وجمعه إشارة إلى تكرر الجزاء لهم في الدنيا ويوم القيامة.
والخلاصة: فسوف يأتيهم جزاء استهزاء الذي كانوا يستهزئون به في العاجل بالقتل والأسر، والآجل بالعذاب الدائم في النار، وهذه الجملة معطوفة على محذوف تقديره: فقد كذبوا بالحق لما جاءهم واستهزئوا به، فسوف يأتيهم إلخ.
ولما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم.. أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية،
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني بتصرف.
(٤) الصاوي.
٦ - فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ ويروا هنا بمعنى: يعلموا؛ لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة، والهمزة فيه للاستفهام التقريري، لا للإنكار كما قاله الشوكاني؛ لأن الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، فلا يدخل على حرف النفي، ونظير ما هنا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وكم خبرية بمعنى: عدد كثير؛ أي: ألم يعلم هؤلاء الكفار المعرضون عن آياتنا المكذبون لرسولنا محمد - ﷺ - يعني: أهل مكة؛ أي: لم يعلموا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء، كم من قرن أهلكنا من قبلهم؛ أي: أهلكنا من قبل زمان أهل مكة كثيرًا من الأمم السالفة قرنًا بعد قرن؛ بسبب تكذيبهم الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم.
والقرن (١): يطلق على أهل كل عصر سموا بذلك؛ لاقترانهم، وقيل: القرن مدة من الزمان، وهي: ستون عامًا أو سبعون أو ثمانون أو مئة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف؛ أي: من أهل قرن. وقوله: ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾؛ أي: القرن، وجمع الضمير باعتبار كون القرن جمعًا في المعنى، وجملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾، والجملتان بعدها نعوت لـ ﴿قَرْنٍ﴾؛ أي: قرنًا موصوفًا بالصفات الثلاث، وقيل: مستأنفة؛ أي: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون الموصوفين بكونهم ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ يا أهل مكة؛ أي: أعطينا أولئك القرون والجماعة من البسطة في الأجساد والامتداد في الأعمار والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا ما لم نعطكم يا أهل مكة، ومع ذلك فقد أهلكناهم بذنوبهم، ولم ينفعهم ولم يدفع عنهم التمكين وما بعده من الصفات عذاب الله حين جاءهم، فيخاف على أهل مكة أن ينزل بهم الهلاك مثل ما نزل بمن قبلهم مع أن من قبلهم كانوا أعظم شأنًا منهم، لكن لما كذبوا الرسل.. استحقوا الهلاك، فكذلك أهل مكة، إن استمروا على تكذيب محمد - ﷺ - يخشى عليهم الهلاك مثلهم. وفي قوله: ﴿لَكُمْ﴾ التفات إلى الخطاب عن الغيبة التي في
(١) الشوكاني.
201
قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ والمعنى: ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرًا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم.
ثم ذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم، وخصب تربتها، فقال: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ﴾؛ أي: أنزلنا المطر ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أولئك القرون حالة كونه ﴿مِدْرَارًا﴾؛ أي: كثيرًا متتابعًا كلما احتاجوا إليه، وهذه الجملة والتي بعدها معطوفتان على جملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾ كما مرَّ؛ أي: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون الموصوفين بكونهم مكناهم في الأرض، وبكونهم أرسلنا السماء عليهم مدرارًا ﴿و﴾ بكونهم ﴿جَعَلْنَا الْأَنْهَارَ﴾ والمياه ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾؛ أي: تسيل من تحت بساتينهم وزروعهم فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: فأهلكنا أولئك القرون ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بتكذيبهم الأنبياء، وبكونهم باعوا الدين بالدنيا؛ أي: أهلكنا (١) كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب، فما أغنت عنهم تلك العدد والأسياب، فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب.
والخلاصة: أن من مضى من قبلكم من الأمم أعطيناهم القوة الشديدة في الجسم، والسعة في الأموال والأولاد، ومع ذلك فلم ينفعهم من ذلك شيء، فلا تأمنوا سطوتي بالأولى منهم، قال الشاعر:
لاَ يَأمَنُ الدَّهْرَ ذُو بَغْيٍ وَلَوْ مَلِكَا جُنُوْدُهُ ضَاقَ عَنْهُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ
وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار.
وأما قوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن ﴿قَرْنًا آخَرِينَ﴾؛ أي: قومًا آخرين بدلًا من الهالكين يعمرون البلاد، ويكونون أجدر
(١) الفتوحات.
202
بشكران النعمة، فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه، وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة، فلم ينقص من ملكه شيئًا، بل كلما أهلك أمة.. أنشأ بدلها أخرى، فإنه تعالى يهلك من يشاء، ويوجد من يشاء. وإنما قال هنا: قرنًا بالإفراد، وفي موضع آخر قرونًا بالجمع، للتفنن؛ لأن المعنى واحد؛ لأنه أفرد هنا نظرًا للجنس، وجمع في موضع آخر نظرًا للمعنى. اهـ "أبو السعود".
وفي هذه (١) الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية، فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة الرزق وكثرة الأتباع.. أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا، فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددًا وعددًا؟ وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فكأنه قال: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه، ذكره الحافظ ابن كثير.
والذنوب (٢) التي تدعو إلى الهلاك ضربان:
١ - معاندة الرسل والاستكبار، والعتو والتكذيب.
٢ - كفران النعم بالبطر وغمط الحق، وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، كما جاء في قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩)﴾. وفي هذه الآية ردٌّ على كفار مكة، وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي - ﷺ - وفقرهم، كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم في صفاتهم، وإن كانوا من أبناء جنسهم، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير كبير في النفوس تخفف من غلواء الناس، وتقلل من
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
203
بطشهم وعتوهم، وفي المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك.
ولما كان الرسول - ﷺ - يَعْجب مِن كُفْر قومه به، وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وإظهار إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك، ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال في سورة هود ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾.. بيَّن الله سبحانه وتعالى أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم؛ ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة.. فإنها لا تجدي إلا عند من كان مستعدًا لها، وزالت عنه موانع الكبر والعناد،
فقال:
٧ - ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿كِتَابًا﴾ من السماء دفعة واحدة مجموعًا ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾؛ أي: في أوراق مجمعة ﴿فَـ﴾ ـرأوه نازلًا فيها بأعينهم و ﴿لَمَسُوهُ﴾؛ أي: لمسوا ذلك الكتاب والقرطاس عند وصوله إلى الأرض ﴿بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منهم ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن في نفسه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابًا ولمسناه بأيدينا، وما ثَمَّ كتاب نزل، ولا قرطاس رُئي، ولا لُمس، وتلك مقالة أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. والمعنى (١): لم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله - ﷺ - بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه، وإنما قال: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾؛ لأن اللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها من الخداع؛ لأن البصر يخدع بالتخيل، وقال في سورة الحجر: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ - حبست ومنعت - أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)﴾.
والحاصل: أن (٢) علة تكذيبهم بالحق هي إعراضهم عن الآيات، وإقفال باب النظر والاستدلال - لإخفاء الآيات في أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها.
٨ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال كفار مكة ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾؛ أي: هلا أنزل على
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
204
محمد ملك نراه يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة والرسالة، ويشهد له بما يقول حتى نؤمن به ونتبعه كقولهم: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ والمعنى: إن منكري النبوات يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولًا.. لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدًا من الملائكة؛ لأن علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا﴾؛ أي: لو أنزلنا ملكًا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: لفرغ من إهلاكهم؛ أي: لأهلكناهم؛ إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له؛ لأن مثل هذه الآية البينة - وهي نزول الملك على تلك الصفة - إذا لم يقع الإيمان بعدها.. فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة ﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له طرفة عين، وكلمة: ﴿ثُمَّ﴾ للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر؛ لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق. وقيل: إن المعنى: أن الله سبحانه لو أنزل ملكًا مشاهدًا.. لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإمَّا أن يراه على صورته الأصلية، أو على صورة البشر، فإن رآه على صورته الأصلية.. لم يبق الآدمي حيًّا، فإن رسول الله - ﷺ - لما رأى جبريل على صورته الأصلية.. غشي عليه، وإنَّ جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط وخصم داود وغير أولئك، وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟ وأيضًا إذا رآه.. يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، فيجب إهلاكهم، وذلك مخل بصحة التكليف، وإن رآه على صورة البشر.. فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكًا، أو بشرًا، وأيضًا إن إنزال الملك يقوي الشبهات؛ لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا: هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم.. لفعلنا مثل ما فعلته.
205
٩ - والوجه الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: ولو جعلنا الرسول ﴿مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: لجعلنا الملك ﴿رَجُلًا﴾؛ أي: على صورة الرجل؛ لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها، ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته. ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾؛ أي (١): ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي؟ فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان؛ لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان.. قالوا: هذا إنسان مثلكم وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج: المعنى: للبسنا عليهم؛ أي: على رؤوسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينكم وبينه فرق، فيلبسون عليهم بهذا، ويشككونهم، فأعلم الله عَزَّ وَجَلَّ أنه لو نزل ملكًا في صورة رجل.. لوجدوا سبيلًا إلى اللبس كما يفعلون. وفي "تنوير المقباس": ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الملائكة ﴿مَا يَلْبِسُونَ﴾؛ أي: مثل ﴿مَا يَلْبِسُونَ﴾؛ من الثياب، ويقال: وللبسنا عليهم؛ أي: خلطنا عليهم صورة الملك ﴿مَا يَلْبِسُونَ﴾؛ أي: كما يخلطون على أنفسهم صفة محمد ونعته انتهى.
والحاصل (٢): أنه كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي - ﷺ - في مواطن مختلفة:
١ - أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرًا يرونه ويسمعون كلامه، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾.
٢ - أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم، والاقتراح الأول مبني على اعتقاد أنَّ أرقى البشر عقلًا وأخلاقًا وآدابًا - وهم الرسل عليهم السلام - ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلًا بين الله وبين عباده؛ لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ
(١) الواحدي.
(٢) المراغي.
206
أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤)}.
وقد ردَّ الله الاقتراحين من وجهين:
١ - ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: ولو أنزلنا ملكًا كما اقترحوا.. لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلًا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم، قال ابن عباس: ولو أتاهم ملك في صورته.. لأهلكناهم، ثم لا يؤخرون.
٢ - ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)﴾؛ أي: ولو جعل الرسول ملكًا.. لجعل متمثلًا في صورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن ربه، ولو جعله ملكًا في صورة بشر.. لاعتقدوا أنه بشر؛ لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرًا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكًا وهم قد كانوا في غنى عن ذلك، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم في المشكلات بسوء صنيعهم، ثم يحارون في المخلص منها.
وذكر البخاري (١) في تفسير قضاء الأمر عدة وجوه:
١ - أن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية، ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم الله عذاب الاستئصال، والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾.
٢ - أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية.. لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
٣ - أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة، يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف.
(١) المراغي.
207
٤ - أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعًا.. دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعي الإهلاك وعدم النظرة.
وقرأ ابن محيصن (١): ﴿وَلَلَبَسْنَا﴾ بلام واحدة، والزهري: ﴿وَلَلَبَسْنَا﴾ بتشديد الباء.
١٠ - ثم قال سبحانه وتعالى مؤنسًا لنبيه - ﷺ - ومسليًا له. ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد استسخر واستحقر برسل أولي شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين في زمان قبل زمانك؛ أي: استهزأ بهم قومهم كما استهزأ بك قومك أهل مكة. ﴿فَحَاقَ﴾؛ أي: أحاط ونزل وحل ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ﴾؛ أي: بالكفار الذين سخروا من أولئك الرسل ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: العذاب الذي كانوا يستهزئون به وينكرونه حينما أخبرتهم به الرسل؛ لأن الكفار كانوا يستهزئون بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أخبر (٢) رسوله - ﷺ - بأن الكفار قد استهزؤا برسل كرام قبلك، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١)﴾ فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم، بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك، وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم.
وفي الآية وجوه من العبر:
١ - تعليم النبي - ﷺ - سنن الله في الأمم مع رسلهم.
٢ - تسلية له عن إيذاء قومه له.
٣ - بشارة له بحسن العاقبة، وما سيكون له من الغلبة والسلطان، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال، وقد أهلكهم الله تعالى، وامتن على نبيه بذلك في سورة الحجر: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾ والمشهور أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا كلهم يوم أحد.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
208
وخلاصة المعنى. هوّن عليك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فيَّ وفي طاعتي، وامضِ لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم.. نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم، ونعجل النقمة لهم وتحل بهم المثلات.
وقال أبو حيان (١): هذه الآية تسلية لرسول الله - ﷺ - على ما كان يلقى من قومه، وإشارة له بالتأسي بمن سبق من الرسل، وهو نظير: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ لأن ما كان مشتركًا من الشدائد أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد، وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى. وقالت الخنساء:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِيْنَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِيْ
وَمَا يُبْكُوْنَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ أَسُلِّيْ النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّيْ
قال بعض المولدين:
وَلاَ بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلى ذِيْ مُرُءَةٍ يُوَاسِيْكَ أَوْ يُسْلِيْكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ
ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب، ولا يتسلون بذلك.. نفى تعالى ذلك عنهم فقال: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ انتهى بتصرف.
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال (٢) ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾ على أصل التقاء الساكنين، وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعًا ومراعاة لضم التاء؛ إذ الحاجز بينهما ساكن، وهو حاجز غير حصين.
ولما (٣) كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة الله المطردة فيهم قد يكون موضعًا للريبة والشك لدى المخاطبين بذلك؛ إذ هم أمة أميّة لم تدرس الكتب والتواريخ، ولم تجالس العلماء فتعرف الأخبار بهلاك من
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
209
أهلك بذنوبهم.. أمر الله تعالى نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم، وهو السير في الأرض، والنظر فيما حلَّ بالمكذبين ليعتبروا بذلك، فللرؤية من الاعتبار ما لا يكون في السماع كما قال بعض العصريين:
لَطَائِفُ مَعْنَىً في الْعِيَانِ وَلَمْ تَكُنْ لِتُدْرَكَ إلا بِالتَّزَاوُرِ وَاللِّقَا
١١ - فقال ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستهزئين من قومك ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها، ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها، بل سيروا في نواحي الأرض لتعرفوا صحة ما أخبرتكم به من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة قيل: المراد بالسير: سير الأفكار، وقيل: سير الأقدام ﴿ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ فالنظر على القول الأول: نظر فكرة وعبرة، وهو بالبصيرة لا بالبصر، وعلى القول الثاني نظر العين والبصر، والمعنى على الأول: ثم تفكروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال، وعلى الثاني: ثم انظروا بأعينكم إلى آثار الأمم الخالية والقرون الماضية السالفة، فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار، فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار، والمعنى (١): قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعد ما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة.. فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون.
وفي "الفتوحات" (٢) قوله: ﴿ثُمَّ انْظُرُوا﴾؛ أي: تفكروا وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتم إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم، فالتراخي المفاد بـ ﴿ثُمَّ﴾ من حيث أن انتهاء السير بعيد عن ابتدائه، وإما لإظهار ما بين وجوب السير ووجوب النظر من التفاوت، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة
(١) الشوكاني.
(٢) الجمل.
210
إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله: (﴿فَانْظُرُوا﴾ في آية آخرى بخلاف وجوب النظر فإنه ذاتي مقصود في نفسه. انتهى.
وقال النسفي: والفرق بين (١) ﴿فَاَنظُرُوا﴾ وبين ﴿ثُمَّ انْظُرُوا﴾ أن النظر جعل مسببًا عن السير في ﴿فَانْظُرُوا﴾، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. ومعنى ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا﴾ إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ ﴿ثُمَّ﴾ لتباعد ما بين الواجب والمباح انتهى.
قال أبو حيان (٢): والظاهر أن السير المأمور به هو الانتقال من مكان إلى مكان، وإن النظر المأمور به هو نظر العين، وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم، كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود وقال قوم الأرض هنا عام؛ لأن في كل قطر منها آثار الهالكين وعبرًا للناظرين.
والخلاصة (٣): قل يا محمد لأولئك المكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به: سيروا في الأرض كما هو دأبكم وعادتكم، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم، ثم انظروا في أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج الله عليكم، واحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
الإعراب
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾.
﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ. ﴿لِلَّهِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماضٍ. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه، والفاعل ضمير يعود على الموصول،
(١) النسفي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
211
والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وهي صلة حقيقية لرفعها ضمير الموصول ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَالنُّورَ﴾: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على الموصول أيضًا، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾ على كونها صلة الموصول.
﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ولكن المراد منها استبعاد أن يعدلوا به غيره مع ما أوضح من الدلالات؛ أي: استبعاد لما صنعوه من العدل مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر واتخاذ شريك له. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾، وتقديمه على عامله للاهتمام به ولرعاية الفواصل. ﴿يَعْدِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل ومفعول ﴿مِنْ طِينٍ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، وأتى بكلمة ﴿ثُمَّ﴾ لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت ﴿قَضَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿أَجَلًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿وَأَجَلٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده ﴿مُسَمًّى﴾: صفة له ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ولكن المراد منها استبعاد صدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَمْتَرُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة
212
قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ على كونها مستأنفة.
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)﴾.
﴿وَهُوَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿اللَّهُ﴾: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بلفظ الجلالة بتأويله؛ لأنه بمعنى المعبود. ﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على الجار والمجرور ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿سِرَّكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَجَهْرَكُمْ﴾: معطوف على ﴿سِرَّكُمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿هُوَ﴾، أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في المعبود الذي هو بمعنى الجلالة. ﴿وَيَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل الرفع، أو في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمُ﴾ الأول. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَعْلَمُ﴾؛ لأنه بمعنى: عرف. ﴿تَكْسِبُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تكسبونه.
﴿وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَأتِيهِمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿مِنْ آيَةٍ﴾: ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿آيَةٍ﴾: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿آيَةٍ﴾، والتقدير: وما تأتيهم آية كائنة من آيات ربهم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ؛ ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَنْهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُعْرِضِينَ﴾ قدم عليه لرعاية الفاصلة. ﴿مُعْرِضِينَ﴾: خبر ﴿كَانُوا﴾، وجملة كان في محل النصب حال من ضمير ﴿تَأتِيهِمْ﴾، والتقدير: وما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا حالة كونهم معرضين عنها.
فائدة: واعلم (١) أن الفعل الماضي لا يقع بعد ﴿إِلَّا﴾ إلا بأحد شرطين: إما وقوعه بعد فعل كهذه الآية الكريمة، أو اقترانه بـ ﴿قد﴾ نحو: ما زيد إلا قد قام.
(١) الجمل.
213
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥)﴾.
﴿فَقَدْ﴾ الفاء: حرف عطف وتعقيب. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى: حين في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الحق، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾، والتقدير: فقد كذبوا بالحق حين مجيئه
إياهم. ﴿فَسَوْفَ﴾: الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فقد كذبوا بالحق لما جاءهم واستهزؤوا به، وذلك المحذوف معطوف على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس واستقبال. ﴿يَأتِيهِمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿أَنْبَاءُ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف، ﴿أَنْبَاءُ﴾ مضاف. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾، ويصح أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، والضمير حينئذ يعود على الحق لا على ﴿مَا﴾؛ لأنها حينئذ حرف، فالضمير لا يعود إليها، قاله ابن عطية بخلاف الأخفش.
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري مبنية على الفتح.
فائدة: والاستفهام التقريري: هو (١) حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، وهو هنا: لم، والهمزة خرجت عن الاستفهام إليه، ولا يجاب إلا
(١) الحامدي على الآجرومية.
214
ببلى نظير قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ اهـ "قليوبي على الآجرومية".
وما في "الشوكاني" هنا من أن الاستفهام للإنكار غير صواب. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَرَوْا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، والواو فاعل، وهي إما بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو أولى، أو علمية فتتعدى إلى مفعولين.. ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب معفول مقدم وجوبًا لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، وهي معلقة ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿قَرْنٍ﴾ تمييز لـ ﴿كم﴾ مجرور بـ ﴿مِن﴾ الزائدة، وجملة ﴿أَهْلَكْنَا﴾ في محل النصب سادة مسد مفعول رأى البصرية، أو مسد مفعولي رأى العلمية، وجملة ﴿يَرَوْا﴾ من الفعل والفاعل جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿قَرْنٍ﴾، ولكنها سببية. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مكنا﴾. ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ﴾ ﴿مَا﴾: نكرة موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾؛ لأن مكنا بمعنى: أعطينا، فيتعدى إلى مفعولين. ﴿لَمْ نُمَكِّنْ﴾: فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿مكنا﴾، ومفعوله الأول محذوف تقديره: ما لم نمكنه لكم، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿ما﴾ الموصوفة، والتقدير: مكناهم وأعطيناهم في الأرض شيئًا لم نمكنه ولم نعطه لكم.
وفي "الفتوحات" قوله: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ في (١) ﴿مَا﴾ هو هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لمصدر محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكن لكم، والعائد محذوف؛ أي: الذي لم نمكنه لكم.
والثاني: أن تكون مفعولًا بها، لكن على المعنى؛ لأن معنى ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾: أعطيناهم ما لم نعطكم، ذكره أبو البقاء، قال الشيخ: هذا تضمين، والتضمين لا يقاس.
(١) الجمل.
215
الثالث: أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها، والعائد محذوف؛ أي: شيئًا لم نمكنه لكم، ذكره أبو البقاء أيضًا. قال الشيخ: وهذا أقرب إلى الصواب اهـ "سمين".
﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾.
﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿مِدْرَارًا﴾: حال من ﴿السَّمَاءَ﴾، والجملة في محل النصب أو الجر معطوفة على جملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾. ﴿وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْأَنْهَارَ﴾. ﴿مِنْ تَحْتِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾ إن جعلنا (١) جعل تصييرية، وإن جعلناها اتخاذية.. كانت حالًا من ﴿الْأَنْهَارَ﴾. ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿أهلكنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾: عطف مسبب على سبب. ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أهلكنا﴾. ﴿وَأَنْشَأنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أنشأنا﴾. ﴿قَرْنًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْشَأنَا﴾. ﴿آخَرِينَ﴾ صفة لـ ﴿قَرْنًا﴾؛ لأنه اسم جمع كقوم ورهط، فلذلك اعتبر معناه في صفته.
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿نَزَّلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿كِتَابًا﴾ مفعول ﴿نَزَّلْنَا﴾. ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾: متعلق بـ ﴿كِتَابًا﴾؛ لأنه مصدر
(١) الفتوحات.
216
بمعنى اسم المفعول أو نعت له. ﴿فَلَمَسُوهُ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿لمسوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَزَّلْنَا﴾. ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿لمسوه﴾. ﴿لَقَالَ﴾ اللام رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿قال﴾: فعل ماض. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ﴾ نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿سِحْرٌ﴾ خبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو: استئنافية. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بفرط تعنتهم وتصلبهم في كفرهم. ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض. ﴿أُنزِلَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿مَلَكٌ﴾: نائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿وَلَو﴾: الواو: عاطفة أو استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَنْزَلْنَا مَلَكًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَقُضِيَ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿قضي الأمر﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿لو﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿قالوا﴾ أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُنْظَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿قُضِيَ﴾.
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو: عاطفة أو استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿جَعَلْنَاهُ مَلَكًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿لَجَعَلْنَاهُ﴾: لـ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿جعلناه رجلًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب ﴿لو﴾، وجملة ﴿لو﴾ معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة. ﴿وَلَلَبَسْنَا﴾:
217
الواو: عاطفة، واللام: رابطة لجواب ﴿لو﴾ مؤكدة للام الأولى، وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاء بما في المعطوف عليه. ﴿لبسنا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الجواب. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول "لبسنا". ﴿يَلْبِسُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يلبسونه. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿مَا يَلْبِسُونَ﴾ في ﴿مَا﴾ هذه قولان:
أحدهما: أنها موصولة بمعنى: الذي؛ أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء، وتكون ﴿مَا﴾ حينئذ مفعولًا بها.
الثاني: أنها مصدرية؛ أي: وللبسنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويشكلونهم.
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠)﴾.
﴿وَلَقَدِ﴾: الواو: استئنافية، اللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿اسْتُهْزِئَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿بِرُسُلٍ﴾: جار ومجرور نائب فاعل ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور صفة ﴿رسل﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والجملة القسمية مع جوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. ﴿فَحَاقَ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿حاق﴾: فعل ماض. ﴿بِالَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿سَخِرُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿سَخِرُوا﴾ صلة الموصول. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل ﴿حاق﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميره ﴿بِهِ﴾.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت:
218
﴿سِيرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿انْظُرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل النصب خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، ولم يؤنث ﴿كَانَ﴾ مع كون اسمها مؤنثًا؛ لأن تأنيثه غير حقيقي، أو لأنه بمعنى: المآل والمنتهى، فهو في معنى المذكر، وجملة ﴿كَانَ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مفعول ﴿انْظُرُوا﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: الحمد لغة: الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ظاهرًا وباطنًا، فخرج بقولهم على جهة التعظيم نحو قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾ فإنه كان على جهة التهكم، لا على جهة التعظيم. واصطلاحًا: فعل ينبىء عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا.
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ والجعل: هو الإنشاء والإبداع كالخلق، وذكره بعد الخلق للتفنن؛ لأنه هنا بمعنى: خلق. و ﴿الظُّلُمَاتِ﴾: جمع ظلمة، والظلمة: هي الحال التي يكون عليها مكان لا نور فيه، والنور ضدها، وهو قسمان: حسي: وهو ما يدرك بالبصر كنور الشمس والقمر، ومعنوي: وهو ما يدرك بالبصيرة كنور الإيمان والعلم.
﴿يَعْدِلُونَ﴾: يقال: عدل به غيره إذا جعله مساويًا له في العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع، فهو من العدل بمعنى التسوية بين الشيئين، ويصح أن يكون من العدول بمعنى: الميل، بمعنى: يميلون عن عبادته إلى عبادة غيره.
﴿مِنْ طِينٍ﴾: والطين: التراب المندى يقال (١) منه: طان الكتان يطينه وطنه يا هذا، فهو من باب باع.
(١) البحر المحيط.
219
﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾: قضى بمعنى: كتب وقدر كما مر، والأجل: هو المدة المضروبة للشيء؛ أي: المقدار المحدود له من الزمان.
﴿تَمْتَرُونَ﴾ من الامتراء بمعنى: الشك، لا من المماراة بمعنى الجدال.
﴿وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: الآيات (١) هنا: آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان، والمثبتة لنبوة محمد - ﷺ -.
﴿مُعْرِضِينَ﴾: اسم فاعل من الإعراض وهو التولي عن الشيء والإدبار عنه.
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾: والحق هو دين الله الذي جاء به خاتم رسله محمد - ﷺ - من عقائد صحيحة ومعاملات شرعية وآداب كريمة.
﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: الأنباء: المراد بها (٢) في القرآن: وعد الله بنصر رسله وإظهار دينه ووعيده لأعدائه بخذلانهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة، وهو جمع: نبأ؛ كأسباب جمع سبب، والنبأ: ما يعظم وقعه من الأخبار.
﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: والقرن من الناس: القوم المقترنون في زمن واحد، وجمعه: قرون، وقد جاء في القرآن مفردًا وجمعًا. وقيل: القرن: القوم المجتمعون في زمن قلت السنون أو كثرت، لقوله عليه السلام: "خير القرون قرني" يعني: أصحابه، وقال قس بن ساعدة:
في الذَّاهِبِيْنِ الأوَّليْنَ مِنَ الْقُرُوْنِ لَنَا بَصَائِرْ
وقال آخر:
إِذَا ذَهَبَ الْقَوْمُ الَّذِيْ كُنْتَ فِيْهِمُ وَخُلِّفْتَ فِي قَوْمٍ فَأَنْتَ غَرِيْبُ
سموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض، فهو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهًا له.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
220
﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ يقال: مكنه في الأرض أو في الشيء جعله متمكنًا من التصرف فيه، ومكن له: أعطاه أسباب التمكن في الأرض، وقال أبو عبيدة: مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان بمعنىً، نحو نصحته ونصحت له كذا قاله أبو علي والجرجاني.
﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾: السماء: المطر، والمدرار: الغزير. وقال أبو حيان: المدرار (١): المتتابع، يقال: مطر مدرار وعطاء مدرار، وهو في المطر أكثر، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة، كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه.
﴿وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: الإنشاء: الخلق والإحداث من غير سبب، وكل من ابتدأ شيئًا فقد أنشأه، والنشء: الأحداث واحدهم ناشئ كخادم وخدم.
﴿قَرْنًا آخَرِينَ﴾: صفة لقرنًا؛ لأنه اسم جمع كقوم ورهط فجمع الصفة اعتبارًا لمعناه. ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾: الكتاب: الصحيفة المكتوبة ومجموعة الصحف في غرض واحد، والقرطاس - مثلث القاف -: اسم (٢) لما يكتب عليه من رق أو ورق أو غير ذلك قال زهير:
لَهَا أَخَادِيْدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِهَا كَمَا تَرَدَّدَ فِيْ قِرْطَاسِهِ الْقَلَمُ
ولا يسمى قرطاسًا إلا إذا كان مكتوبًا، وإن لم يكن مكتوبًا فهو طرس وكاغد وورق، وكسر القاف أكثر استعمالًا وأشهر من ضمها، وهو اسمٌ أعجمي يجمع على قراطيس.
﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ اللمس كالمس: إدراك الشيء بظاهر البشرة، وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، ويقال: لمسه والتمسه وتلمسه، ومنه: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾.
﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: خداع وتمويه يُري ما لا حقيقة له في صورة
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
221
الحقائق. ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: لتم أمر هلاكهم ﴿لَا يُنْظَرُونَ﴾ من الإنظار بمعنى: الإمهال؛ أي: لا يمهلون. ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ﴾: اللبس: الستر والتغطية، يقال: لبس الثوب يلبسه بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المضارع من باب سمع إذا استتر به، ولبسه في عنقه، ولبَس الحق بالباطل يلبِسه بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المضارع من باب ضرب إذا ستره به؛ أي: جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره؛ أي: جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه، ولبست الأمر على القوم ألبسه من باب ضرب إذا شبهته وجعلته مشكلًا عليهم، وأصله: الستر بالثوب.
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾: من الهزؤ - بضمتين أو بضم وسكون، والاستهزاء (١): السخرية، والاستهزاء بالشخص: احتقاره وعدم الاهتمام بأمره.
﴿فَحَاقَ﴾: يقال: حاق به المكروه يحيق من باب باع حيقً وحيوقًا وحيقانًا إذا نزل به وأحاط عليه فلم يكن له منه مخلص.
وفي "الفتوحات": ﴿فَحَاقَ﴾ ألفه منقلبة عن ياء، بدليل قولهم، في المضارع: يحيق كباع يبيع، والمصدر: حيق وحوق وحيقان كالغليان والنزوان. انتهت.
﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا﴾ يقال: سخر منه إذا هَزَأ به، والسخري (٢) والاستهزاء والتهكم معناها متقارب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الحصر في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ لأن لام الجنس (٣) إذا دخلت على المبتدأ تفيد حصره في الخبر كما قال علي الأجهوري:
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات القيومية.
222
مُبَتَدَأٌ بِلاَمِ جِنْسٍ عُرِّفَا مُنْحَصِرٌ فِيْ مُخْبَرٍ بِهِ وَفَا
وَإِنْ عَرَا عَنْهَا وَعُرِّفَ الْخَبَرْ بِاللَّامِ مُطْلَقًا فَبِالْعَكْس اسْتَقَرّ
والمعنى: لا يستحق الحمد والثناء إلا الله تعالى.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وفي قوله: ﴿سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾.
ومنها: رعاية الفاصلة بتقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: ﴿بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَمَا تَأتِيهِمْ﴾؛ لأن الإتيان بصيغة المضارع دون الماضي لحكاية الحال الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجددي.
ومنها: التفخيم في قوله: ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾؛ لأن في إضافة آيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضمير: ﴿هم﴾ تفخيمًا لشأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقها.
ومنها: الالتفات من خطابهم بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿وَمَا تَأتِيهِمْ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾؛ لأنه خطاب لأهل مكة؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: ما لم نمكن لهم.
فائدة: والالتفات (١) له فوائد، منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، وهذه فائدته العامة، ويختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه هنا حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة. اهـ "كرخي".
(١) الجمل.
223
ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾؛ إذ الأصل: فقد كذبوا بها؛ أي: بالآية؛ لأن المراد بالحق نفس الآية، وفي قوله: ﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ لأن فيه إظهارًا في مقام الإضمار شهادة عليهم بالكفر؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: لقالوا.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾؛ أي: أهل قرن، وفي قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾؛ أي: المطر، عبر عنه بالسماء؛ لأنه ينزل من السماء فهو مجاز.
ومنها: تنكير رسل في قوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ﴾ للتفخيم والتكثير.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
فائدة: ومن الأمور الاتفاقية في القرآن خمس سور منه بدئت بالحمد لله، وخمس منها ختمت به، فالخمس التي بدئت بالحمدلة: سورة الفاتحة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾، وسورة الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وسورة الكهف: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾، وسورة سبأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وسورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
والخمس التي ختمت بها سورة الإسراء: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾، وسورة النمل: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾، وسورة الصافات: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢)﴾، وسورة الزمر: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وسورة الجاثية: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
224
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه (١) الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تصرفه فيمن أهلكهم بذنوبهم.. أمر نبيه - ﷺ - بسؤالهم ذلك، فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى، فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير، ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك.
قوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أن الله
(١) البحر المحيط.
225
سبحانه وتعالى لما ذكر أنه موجد العالم، المتصرف فيهم بما يريد، ودل ذلك على نفاذ قدرته.. أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أن له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض.. ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار، وأن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية، وقدم المكان؛ لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان.
قوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما قدم أنه خلق السموات والأرض، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان.. أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم؛ أي: من هذه صفاته هو الذي يتخذ وليًّا وناصرًا ومعينًا، لا الآلهة التي لكم؛ إذ هي لا تنفع ولا تضر؛ لأنها بين جماد أو حيوان مقهور.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء.. ذكر قهره وغلبته، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم، بل يقسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى.
وعبارة "المراغي " هنا: قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر (١) سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث والجزاء، ورسالة محمد - ﷺ -، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة، وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال تسليةً لرسوله - ﷺ - وتثبيتًا لقلبه، وإعانةً له على المضي في تبليغ رسالته.. ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر - أسلوب
(١) المراغي بتصرف.
226
السؤال والجواب - بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة تفننًا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد.. كان لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم، وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول أو عمي عليه أسلوبه.. رأى في الدليل الثاني ما ينير له طريق المطلوب، أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤنة البحث في الدليل الأول، فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت، أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين، والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم، ويكثرون البراهين على المطلوب الواحد، ليكون ذلك أدعى إلى الإقناع، وأقرب إلى الاقتناع انتهت.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما بيَّن في الآية السابقة أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله - ﷺ - كافية في تحققها.. ذكر هنا كذبهم في ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدًا - ﷺ -، فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبنائهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقردم بن كعب، ومجزىء بن عمرو، فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيره؟ فقال: "لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو" فأنزل الله في قولهم: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٢ - ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المكذبين لرسالتك العادلين بربهم المعرضين عن دعوتك، يعني: كفار مكة ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا وعبيدًا
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
227
وتصرفًا؛ أي: من الذي كانت له هذه المخلوقات علويها وسفليها، وقد كانت العرب تؤمن بأن الله خالق السموات والأرض، وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له كما قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله﴾، والمقصود من السؤال: التبكيت والتوبيخ، فإن أجابوك.. فذاك وإلا فـ ﴿قُل﴾ لهم يا محمد إن ذلك كله ﴿لِلَّهِ﴾ فإنه لا جواب غيره؛ أي: فأخبرهم أن ذلك لله الذي قهر كل شيء، وملك كل شيء، واستعبد كل شيء، لا للأصنام التي تعبدونها أنتم، فإنها أموات لا تملك شيئًا ولا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، وإنما أمره بالجواب عقب السؤال.. ليكون أبلغ في التأكيد، وآكد في الحجة.
وعبارة "المراغي" هنا قوله: ﴿قُلِ لِلَّهِ﴾ هذا تقرير للجواب نيابة عنهم، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى، ولا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئًا آخر إليه. وإتيان السائل بالجواب يحسن إذا كان ما يأتي به هو عين ما يعتقده المسؤول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازمًا لما يعرفه ويعتقده انتهت.
ولما بين الله تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته.. أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم، فقال تعالى: ﴿كَتَبَ﴾ الله سبحانه وتعالى وأوجب ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾؛ أي: على ذاته العلية إيجاب الفضل والكرم، وإيجاب إنجاز الوعد ﴿الرَّحْمَةَ﴾ والإحسان إلى خلقه؛ إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن لا يعجل بالعقوبة لمن استحقها، بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب إليه، فالمراد بإيجابها على نفسه أنه وعد ذلك وعدًا مؤكدًا منجزًا لا محالة؛ إذ لا يجب على الله شيء لعباده، والمراد بالرحمة: ما يعم الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، والإمهال على الكفار.

فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "لما خلق الله الخلق.. كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي". متفق عليه.
228
وفي "البخاري": "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش". وفي رواية لهما: "إن الله لما خلق الخلق - وعند مسلم: لما قضى الله الخلق - كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده - زاد البخاري: على العرش، ثم اتفقا -: إن رحمتي تغلب غضبي".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "جعل الله الرحمة مئه جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" متفق عليه. زاد البخاري في رواية له: "ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة.. لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب.. لم يأمن من العذاب"، ولمسلم "إن لله مئه رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مئه رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة.. أكملها بهذه الرحمة" رواه مسلم.
وعن عمر رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله - ﷺ - سبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله - ﷺ -: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا واللهِ، وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال - ﷺ -: "لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها". متفق عليه.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لام قسم، وجملة القسم مستأنفة مسوقة للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، فلا تعلق لها بما قبلها من حيث الإعراب، وإن تعلقت به من حيث المعنى؛ أي: وعزتي وجلالي ليجمعنكم الله سبحانه وتعالى في القبور محشورين إلى يوم القيامة الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه، فيجازيكم على شرككم وسائر
229
معاصيكم، أو المعنى: ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة؛ لأن الجمع إنما يكون إلى المكان لا إلى الزمان.
والحاصل: أن الله (١) الذي تقرون معنى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه؛ إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه للحساب والجزاء على الأعمال، إذ إنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفوس إلا به، فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن خوفًا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.
ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل.. كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنه، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه، وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾.
وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضًا، فما مثله إلا مثل الحكومة العادلة تبيِّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة، وما تكافىء به من يصدق في خدمتها ويرقى إلى سماء العزة والكرامة. وقد سبق حديث الشيخين وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله لما خلق الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" والمراد بالسبق هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا فيه.
والخلاصة: أنه لما قال: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ذلك أنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد في الأرض، واختلت نظم الاجتماع، وأكل القوي
(١) المراغي.
230
الضعيف، ولا وازع ولا زاجر، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة.
وقوله: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ في محل النصب على الذم، أو في محل الرفع على الابتداء، والخبر قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ والفاء (١) فيه للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل وإتباع الحواس والوهم، والانهماك في التقليد، وإغفال النظر.. أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان.
فإن قيل (٢): ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر بالعكس.
أجيب: بأن سبق القضاء بالخسران والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم أصلًا. اهـ "كرخي"؛ أي: فمعنى ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: قضى عليهم بالخسران، فصح السبب في قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
ومعنى خسران الأنفس: إفساد فطرتها، وعدم اهتدائها بما منحها الله تعالى من أسباب الهدايات، فالمقلدون خسروا أنفسهم باتخاذهم الأصنام، وعرضوها لسخط الله تعالى وأليم عذابه؛ لأنهم حرموها استعمال نعمتي العقل والعلم، فكانوا كمن خسر شيئًا من متاع الدنيا، وأصل الخسار: الغبن، يقال: خسر الرجل إذا غبن في بيعه.
والمعنى على النصب؛ أي: أخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ من بين من يجمعون إلى يوم القيامة؛ إذ هم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة، فهم قلما ينظرون ويستدلون، وإن هم فعلوا ذلك.. قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين.
والمعنى على الرفع: الذين سبق عليهم خسران أنفسهم في علم الله تعالى، فهم لا يؤمنون في الدنيا لسبق الخسران عليهم في علمه.
(١) البيضاوي.
(٢) الفتوحات.
231
والخلاصة (١): أن الفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين.. فقد خسر نفسه، فردًا كان أو أمة، فما بال من خسرهما معًا؟
١٣ - ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَا سَكَنَ﴾؛ أي: حل واستقر ووجد ﴿في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إن قلنا: إنه من السكنى بمعنى: الحلول والاستقرار في المكان، أو: له سبحانه وتعالى ما سكن وتحرك في جميع الأزمان، إن قلنا: إنه من السكون ضد الحركة، وقال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار وينتشر بالليل، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار.
فإن قيل (٢): لِمَ خصَّ السكون بالذِّكر دون الحركة؟
فعن ابن العربي ثلاثة أوجه:
أحدها: أن السكون أعم وجودًا من الحركة؛ لأن الساكن من المخلوقات أكثر عددًا من المتحرك.
والثاني: أن كل متحرك قد يسكن وليس كل ساكن يتحرك.
والثالث: أن في الآية إضمارًا، والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد، فيكون من باب الاكتفاء.
والمعنى: لله ما في السموات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، وخص هذا بالذكر وإن كان داخلًا في عموم ما في السموات والأرض تنبيهًا إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا، ولا سيما إذا حسن الليل وهدأ الخلق.
وقال ابن جرير (٣): كل ما طلعت عليه الشمس وغربت، فهو من ساكن الليل والنهار، فيكون المراد منه: جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر، وهذا يفيد الحصر، والمعنى: إن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره.
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير بزيادة.
(٣) الخازن.
وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه في الخلق دقيقه وجليله كما هو شأن الربوبية الكاملة.. ذكر أنه هو السميع العلم، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه تعالى ﴿السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم وأصواتهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بسرائرهم وأحوالهم؛ أي: وهو سبحانه وتعالي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع، فمهما يكن خفيًّا عن غيره.. فهو يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، والمحيط علمه بكل شيء ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)﴾.
والخلاصة: أنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داعٍ، ولا يعزب عن علمه حاجة محتاجٍ حتى يخبره بها الأولياء، أو يقنعه بها الشفعاء؟!
١٤ - وبعد هذا القول الذي أمر فيه رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شيء والمدبر لكل شيء إذ هو سميع لكل شيء، ولا يعزب عن علمه شيء أمره هنا بقول آخر لازم لما سبق، وهو وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿أَغَيْرَ اللهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَتَّخِذُ﴾ وأجعل ﴿وَلِيًّا﴾ ومعبودًا لنفسي ومتوليًا لأموري؛ أي: لا أتخذ غير الله تعالى وليًّا لنفسي كما اتخذتموهم أولياء لأنفسكم. والاستفهام فيه إنكاري بمعنى النفي، قال لهم ذلك لما دعوه إلى عباده الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليًّا لا لاتخاذ الولي مطلقًا.. دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل، والمراد بالولي هنا: المعبود؛ أي: كيف اتخذ غير الله معبودًا؟ ذكره "الشوكاني".
والمعنى (١): قل لهم: لا أطلب من غيره تعالى نفعًا ولا ضرًّا، لا فعلًا ولا منعًا، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، أما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم بعضًا فيما هو من كسبهم العادي: فلا يدخل في عموم الإنكار الذي يفهم من الآية، فقد أثنى الله على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض. وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون
(١) المراغي.
233
معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله يتوجهون إليهم بالدعاء، ويستغيثون بهم، ويستشفعون بهم عند الله في قضاء حاجاتهم من نصر على عدو، وشفاء من مرض وسعة في رزق إلى نحو ذلك. وهذا بلا شك عبادة لغير الله وشرك بالله؟ لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله، ويلزم هذا أن إرادة الله ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعًا لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليًّا وشفيعًا.
وقوله: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بدل من (١) الله أو صفة له، وقد تعرف بالإضافة؛ لأنه بمعنى الماضي بدليل قراءة ﴿فطر﴾ بصيغة الفعل الماضي فاتفقت الصفة والموصوف في التعريف؛ أي: موجد السموات والأرض ومنشئهما على غير مثال سبق.
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: ابتدعتها. وقد كانت المادة التي خلقت منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها، وفصل منها أجرام السموات والأرض، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ وفي ذلك تعريض بأن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغي أن لا يتوجه إلى غيره بالدعاء، ولا يستعان بسواه في كل ما وراء الأسباب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَاطِرِ﴾ بالجر على أنه بدل من الجلالة، أو صفة له كما مر. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضمار: هو. وقرىء شاذًا بالنصب، والأحسن أن يكون نصبه على المدح. وقرأ الزهري: ﴿فطر﴾ على صيغة الفعل الماضي. وقد أكد ما تقدم وزاده تثبيتًا بقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُطْعِمُ﴾ ويرزق ﴿وَلَا يُطْعَمُ﴾ ولا يُرزق كقوله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)﴾
(١) الجمل.
(٢) البحر المحيط بتصرف.
234
والمعنى (١): إن المنافع كلها من عند الله تعالى، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات؛ لأن الحاجة إليه أمس، كما خص الربا بالأكل، وإن كان المقصود الانتفاع بالربا.
والحاصل: أنه (٢) يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه؛ لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه أيًّا كان نوعها. وفي هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام، ولا حياة لهم بدونه، وأن الله هو الذي خلق لهم الطعام، فهم عاجزون عن خلقه وعاجزون عن البقاء بدونه، فأحرى بهم؛ أي: لا يتخذوا أولياء مع الغني الرزاق الفعال لما يريد. وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان؛ لأنها أضعف من البشر؛ إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد، والإنسان على جميع أنواع الحيوان.
وقرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأول، وضمها وفتح العين في الثاني؛ أي: يرزق ولا يرزق كما فسرناه كذلك أولًا. وقرأ (٣) مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو في رواية عنه: ﴿ولا يطعم﴾ بفتح الياء والعين في الثاني، والمعنى: أنه تعالى منزه عن الأكل، ولا يشبه المخلوقين. وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة: ﴿ولا يطعم﴾ بضم الياء وكسر العين مثل الأول، فالضمير في ﴿وهو يطعم﴾ عائد على الله، وفي ﴿ولا يطعم﴾ عائد على ﴿الولي﴾. وروى ابن المأمون عن يعقوب: ﴿وهو يطعم ولا يطعم﴾ علي بناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، فالضمير لغير الله. وقرأ الأشهب، ﴿وهو يطعم ولا يطعم﴾ علي بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم غيره ولا يستطعم لنفسه، وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى: استطعمت. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى على هذه القراءة: ﴿وهو يطعم﴾ تارة ﴿ولا يطعم﴾ أخرى على حسب المصالح. وقرىء (٤) بفتح الياء والعين في الأول
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
235
وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الولي المذكور.
وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل، وهو أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته: تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث البلاغة، ذكره أبو حيان في "البحر".
﴿قُلْ﴾ يا محمد لكفار قومك ﴿إِنِّي أُمِرْتُ﴾ من جناب الله تعالى ﴿أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ من هذه الأمة؛ أي: استسلم لأمر الله وانقاد إلى طاعته ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: وقيل لي: ولا تكونن يا محمد من المشركين بالله تعالى في أمر من الأمور، والمعنى: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك؛ أي: قل (١) لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده، وعدم اتخاذ غيره وليًّا: إني أمرت من ربي الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه، وانقاد لديه من هذه الأمة التي بعثت فيها، فلا أدعو إلى شيء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه. ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: وقيل لي بعد إسلام الوجه له: لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى.
١٥ - وبعد أن أمره بهذا القول المبين لأساس الدِّين، وبين أنه مأمورًا به كغيره.. أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهي السالفين، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى عبادة غيري: إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم، ونهاني عن عبادة شيء سواه، و ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ﴾ وخالفت ﴿رَبِّي﴾ فيما أمرني به ونهاني عنه فعبدت شيئًا سواه ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: عذابًا عظيمًا شديدًا في يوم عظيم شديد هوله وهو يوم القيامة؛ أي: إني (٢) أخاف عذاب يوم عظيم - وهو يوم القيامة - إن عصيت ربي، فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به، محذوف الجواب كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
(١) المراغي.
(٢) النسفي.
والخلاصة: قل لهم يا محمد: إنْ فُرض وقوع العصيان مني.. فإنني أخاف أن يصيبني عذاب ذلك اليوم العظيم - وهو يوم القيامة - الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون. وفي الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيمًا، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، بل الأمر يومئذ لله، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه ظنًّا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه، وإذا كان خوف النبي - ﷺ - من العذاب على المعصية منتفيًا لوجود العصمة.. فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له في جميع الأحوال.
١٦ - ﴿مَنْ يُصْرَفْ﴾ العذاب ويدفع ﴿عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم العذاب العظيم، وهو يوم القيامة؛ أي: من يصرف الله سبحانه وتعالى عنه العذاب يومئذ ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾؛ أي: قد أنجاه الله مما يخاف، وأكرمه بما يحب، وأدخله الجنة دار كرامته. والإشارة في قوله: ﴿ذلك﴾ إلى الصرف، أو إلى الرحمة؛ أي: ذلك الصرف أو الرحمة ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: الفلاح العظيم والنجاة الظاهرة، يعني: أن صرف العذاب وحصول الرحمة هو النجاة والفلاح المبين، وإنما ذكر الرحمة بعد صرف العذاب، لئلا يتوهم أن الحاصل له صرف العذاب فقط، بل حصلت له الرحمة مع صرف العذاب عنه.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم (١): ﴿من يصرف﴾ مبنيًّا للفاعل فـ ﴿من﴾ مفعول مقدم، والضمير في ﴿يصرف﴾ عائد على الله، ويؤيده قراءة أُبي: ﴿من يصرف الله﴾. وقرأ باقي السبعة: ﴿مَنْ يُصْرَفْ﴾ مبنيًّا للمفعول، ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز. والمعنى: أنه من يدفع الله عنه العذاب في ذلك اليوم.. فقد رحمه؛ إذ أنجاه من الهول الأكبر، ومن نجا منه.. فقد دخل الجنة، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم في دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه.
واعلم: أن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين:
(١) البحر المحيط والبيضاوي.
أحدهما: سلبي، وهو النجاة من العذاب،
والثاني: إيجابي، وهو الظفر بالنعيم المقيم في الجنة.
١٧ - وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم المقيم من رحمته في الآخرة.. بيَّن أن الأمر كذلك في الدنيا، وأن التصرف فيها له تعالى وحده، فقال: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ﴾؛ أي: وإن يصبك الله تعالى ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك، والضر: اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه: ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: فلا رافع له عنك إلا هو وحده؛ أي: وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة الله.. فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو سبحانه وتعالى دون الأولياء الذين يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك بكشفه، وهو سبحانه وتعالى؛ إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله، وإما أن يكشفه بغير عمل منك، بل بلطفه وكرمه، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حد لها.
فائدة: فالضر (١) إما في النفس كقلة العلم والفضل والعفة، وإما في البدن كعدم جارحة ونقص ومرض، وإما في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه. اهـ "كرخي".
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾؛ أي: وإن يصبك الله سبحانه وتعالى أيها الإنسان بخير ويعطكه؛ كصحة وغنى وقوة وجاه، والخير: اسم جامع لما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك: ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائك إياه، وهو القدير على كل شيء، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسِّك بخير ولا ضر. وعبارة "الخازن" هنا: وهذه الآية خطاب للنبي - ﷺ -، والمعنى: لا تتخذ وليًّا سوى الله؛ لأنه هو القادر على أن يمسك بضر، وهو القادر على دفعه عنك، وهو القادر على إيصال الخير إليك، وأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فاتخذه وليًّا وناصرًا
(١) الفتوحات.
ومعينًا، وهذا الخطاب وإن كان للنبي - ﷺ -، فهو عام لكل أحد، والمعنى: وإن يمسسك الله بضر أيها الإنسان.. فلا كاشف لذلك الضر إلا هو، وإن يمسسك بخير أيها الإنسان.. فهو على كل شيء قدير من دفع الضر وإيصال الخير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله - ﷺ - يومًا، فقال لي: "يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنْ اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" أخرجه الترمذي، زاد فيه رزين "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"، وفيه: "وإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين". قال ابن الأثير: وقد جاء نحو هذا أو مثله بطوله في "مسند" أحمد بن حنبل انتهت.
فعلى (١) المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يطلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر، وصرف عذاب، أو إيجاد خير، ومنح ثواب إلا من الله تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا. وهذا الطلب من الله؛ إما بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته في الخلق، ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل؛ وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب إلى ذلك كتابه الكريم، وسنة نبيه - ﷺ - قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
١٨ - وبعد أن أثبت سبحانه وتعالى لنفسه كمال القدرة.. أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده، والاستعلاء عليهم مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور؛ ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء.. فقد ضل ضلالًا بعيدًا فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾؛ أي (٢): الغالب
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
لعباده، العالي فوقهم، القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر والقهار معناه: الذي يدبر خلقه بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه، فلا يستطيع أحد من خلقه ردَّ تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره، وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى؛ لأنه القادر، والقاهر: الذي لا يعجزه شيء أراده. ومعنى فوق عباده هنا: أن قهره قد استعلى على خلقه، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه، ولا ينفك عنه، فكل من قهر شيئًا فهو مستعلٍ عليه بالقهر والغلبة. وقال "الشوكاني": ومعنى: ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته؛ أي: بالمنزلة والرفعة، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو: منع غيره عن بلوغ المراد. انتهى.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أمره وتدبيره عباده ﴿الْخَبِيرُ﴾؛ أي: العالم بأعمالهم وما يصلحهم.
وخلاصة المعنى: أنه تعالى هو الغالب لعباده العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه، وهو الحكيم في تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها؛ ولا تخفى عليه خوافي الأمور ولا يقع في تدبيره خلل ولا في حكمته دخل.
١٩ - وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله، وشهادة رسوله له، فقال: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾.
روى ابن عباس: أن رؤساء أهل مكة قالوا: يا محمد، ما وجد الله غيرك رسولًا، وما ترى أحدًا يصدقك، وقد سألنا اليهود والنصارى عنك، فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة، فأرنا من يشهد لك بالنبوة؟ فأنزل الله قوله هذا: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾؛ أي: قل لهؤلاء المشركين من قومك الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك أيُّ شهيد أكبر شهادة وأعظمها وأجدر أن تكون شهادته أصحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الشهداء
240
وأصدقهم وأعظمهم شهادة هو: الله سبحانه وتعالى، فقال ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد إن لم يجيبوا لك ﴿الله﴾ سبحانه وتعالى أكبر شهادة؛ لأنه لا جواب غيره؛ أي: أحب لهم بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى ﴿شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ يشهد لي بالحق، وعليكم بالباطل الذي تقولونه. والمراد (١) بشهادة الله: إظهار المعجزة على يد النبي - ﷺ -، فإن حقيقة الشهادة ما بُيِّن به المدعى، وهو كما يكون بالقول يكون بالفعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال، فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال، وإن المعجزة نازلة منزلة قوله تعالى صدق عبدي في كل ما يبلغ عني انتهى "كرخي".
والحاصل (٢): أنهم طلبوا شاهدًا مقبول القول يشهد له بالنبوة، فبين الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، ثم بيَّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾ فهو بمنزلة التعليل لما قبله؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يشهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن، وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته، فكان معجزًا، وإذا كان معجزًا.. كان نزوله عليَّ شهادة من الله تعالى بأني رسوله، وهو المراد بقوله: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾ يعني: أوحي إليَّ هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل ولأبشركم، فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه، أو اقتصر على الإنذار؛ لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهًا. وقوله: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ في محل النصب معطوف على الكاف في ﴿لِأُنْذِرَكُمْ﴾؛ أي: ولأنذر به من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم من الإنس والجن، فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي - ﷺ - نذير له. قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - ﷺ - وكلمه. وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية.. كتب رسول الله - ﷺ - إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل. وعن
(١) الجمل.
(٢) الخازن.
241
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - ﷺ - قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا.. فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فربَّ مبلغ أوعى له من سامع" أخرجه الترمذي، وله عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم أخرجه أبو داود موقوفًا، وقالت فرقة: الفاعل ببلغ عائد على ﴿من﴾ لا على القرآن، والمفعول محذوف والتقدير: ومن بلغ الحلم.
وشهادة (١) الله بين الرسول وقومه ضربان: شهادته برسالة الرسول، وشهادته بصدق ما جاء به.
والأول أنواع ثلاثة:
١ - إخباره بها في كتابه بنحو قوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾.
٢ - تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم.
٣ - وشهادة كتبه السابقة له، وبشارة الرسل السابقين به، ولا تزال هذه الشهادة في كتب اليهود والنصارى.
والثاني ثلاثة أنواع أيضًا:
١ - شهادة كتبه بذلك كقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو
(١) المراغي.
242
الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}.
٢ - ما أقامه من الآيات في الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال.
٣ - ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس.
والخلاصة: أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان اللذين أودعهما في نفس الإنسان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَأُوحِيَ﴾ مبنيًّا للمفعول، ﴿الْقُرْآنُ﴾ هو مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري: ﴿وأوحي﴾ مبنيًّا للفاعل، و ﴿القرآن﴾ منصوب به. والمعنى (٢): أوحى الله سبحانه وتعالى إليَّ هذا القرآنَ الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه؛ أي: كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامة.
والاستفهام في قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ﴾ للتوبيخ والتقريع لهم والإنكار عليهم على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل، أو بقلب الثانية؛ أي: لا تنبغي ولا تصح منكم هذه الشهادة؛ لأن المعبود واحد لا تعدد فيه. وأما من قرأ على الخبر.. فقد حقق عليهم شركهم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري: هل إنكم أيها المشركون لتشهدون وتثبتون وتعتقدون وتقرون ﴿أَنَّ مَعَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿آلِهَةً أُخْرَى﴾ يعني: الأصنام، إن كان الخطاب لأهل مكة، فإنهم أصحاب أوثان، وإن كان لجميع المشركين، فالآلهة كل ما عبد من دون الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي، وإنما قال: ﴿أُخْرَى﴾ بتأنيث الصفة وإفرادها؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة، كما قال بعضهم:
وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ الأَفْصَحُ الإِفْرَادُ فِيْهِ يَا فُلُ
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
243
نظير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ ولم يقل: الأول، ولا الأولين.
﴿قُل﴾ لهم يا محمد ﴿لَا أَشْهَدُ﴾ بما تشهدون به من أن مع الله آلهة أخرى، بل أجحد ذلك وأنكر ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿إِنَّمَا هُوَ﴾؛ أي: ما المستحق العبادة مني ومنكم إلا ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ومعبود منفرد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له، وبذلك أشهد لا بما شهدتم، بل أتبرأ من ذلك، وكرر: ﴿قُلْ﴾ تأكيدًا للكلام. ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ به؛ أي: وأنا بريء من كل شيء تعبدونه سوى الله تعالى، وهذه الجملة كالتوكيد لما قبلها. وفي هذه (١) الآية دليل على إثبات التوحيد لله عز وجل وإبطال كل معبود سواه؛ لأن كلمة: ﴿إِنَّمَا﴾ تفيد الحصر، ولفظة الواحد صريح في التوحيد، ونفي الشريك، فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك، والتبرؤ من كل معبود سوى الله تعالى. قال العلماء: يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾. ونص (٢) الشافعي على استحباب ضمِّ التبرؤ إلى الشهادة؛ لأن الله تعالى لما صرح بالتوحيد.. قال: ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
٢٠ - ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾؛ أي: الذين أعطيناهم الكتب السالفة، وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النبي - ﷺ - ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾؛ أي: يعرفون محمدًا - ﷺ - من جهة الكتابين بصفته المذكورة فيهما ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ بصفاتهم، فإنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدًا في كتابنا. وذلك أن كفار مكة لما قالوا للنبي - ﷺ -: إنا سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، وأنكروا معرفته.. بين الله عز وجل أن شهادته كافية على صحة نبوته، وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه، وأنهم كذبوا في قولهم: إنهم لا يعرفونه. وروي أن النبي - ﷺ - لما قدم المدينة، وأسلم عبد الله بن سلام.. قال له عمر بن الخطاب: إن الله عز وجل أنزل على نبيه محمد - ﷺ - بمكة ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا
(١) الخازن.
(٢) المراح.
عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد - ﷺ - مني بابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ قال: أشهد أنه رسول الله حقًّا ولا أدري ما يصنع النساء.
﴿الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ وغبنوا ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ وأوبقوها وأهلكوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد - ﷺ - من جميع المشركين وكفار أهل الكتاب، والموصول مبتدأ خبره قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، ودخلت الفاء عليه لشبه المبتدأ بالشرط في العموم؛ أي: فهم يؤثرون مالهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم، علمًا منهم بأنهم إذا آمنوا.. سلبوا الرياسة، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين في سائر الأحكام والمعاملات. وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون تابعًا ومرؤوسًا، ويكون مثله مثل بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وغيرهما من فقراء المسلمين. فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم، لا لفقدان العلم والمعرفة؛ لأن الله أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة. ومعنى (١) هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين: أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلًا في الجنة، ومنزلًا في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله سبحانه وتعالى للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار.
٢١ - وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد - ﷺ - خسران للنفس.. ذكر أن الافتراء على الله ظلم لها ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾، والاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ للإنكار بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا وأكثر عنادًا وأخطأ فعلًا وأعظم كفرًا ﴿مِمَّنِ افْتَرَى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَذِبًا﴾ كمن زعم أن له ولدًا أو شريكًا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتخذ وليًّا له يقربه إليه زلفى ويشفع للناس عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه ﴿أَوْ﴾ ممن ﴿كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ سبحانه وتعالى المنزلة كالقرآن، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا﴾ هم مشركو العرب،
(١) المراح.
وقوله: ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ هم أهل الكتابين الذين أنكروا معرفته، وكذبوا قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾. وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح، وصاحبه يعد مفتريًا ظالمًا.. فما حال من جمع بينهما فكذب على الله، وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة. ثم بيَّن سبحانه وتعالى عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾ أي إن الشأن والحال ﴿لَا يُفْلِحُ﴾ ولا يظفر ﴿الظَّالِمُونَ﴾ عامة؛ أي: إن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله تعالى، ولا بالفوز بنعيم الجنة بمعنى: أنهم لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمطلوب، فكيف تكون عاقبة من افترى على الله الكذب وكذب بآياته، فكان أظلم الظالمين.
والخلاصة: أنه لا ينجح القائلون على الله الكذب، والمفترون على الله الباطل، كقول كفار مكة: هذه الأصنام شركاء لله، والله أمرنا بعبادتها، وقولهم: إن الملائكة بنات الله، وقولهم: أمرنا الله بتحريم البحائر والسوائب، وكقول اليهود والنصارى: حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ، ولا يجيء بعدهما نبي، وكقول المشركين: القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة.
٢٢ - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن المفترين على الله الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا، فقال: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾؛ أي: واذكر لهم يا محمد قصة يوم نحشر ونجمع العابدين والمعبودين جميعًا وسائر الناس على اختلاف درجاتهم في ظلم أنفسهم وظلم غيرها، وهو يوم القيامة. ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ خاصة على رؤوس الأشهاد للتوبيخ وهم أشدهم ظلمًا ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَزْعُمُونَ﴾ وتظنون أنها أولياؤكم من دون الله تعالى، تستعينون بهم كما يستعان به، ويدعون كما يدعى، وأنهم يقربونكم إليه زلفى، ويشفعون لكم عنده، فأين ضلوا عنكم، فلا يرون معكم كما جاء في آية أخرى: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾. ولعله (١) يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة
(١) البيضاوي.
التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل أنهم يشاهدونهم، ولكن لما لم ينفعوهم.. فكأنهم غيب عنهم. وقال ابن (١) عباس: وكل زعم في كتاب الله، فهو كذب.
وعطف (٢) بـ ﴿ثم﴾ الدالة على التراخي نظرًا للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخٍ على حسب طول ذلك اليوم.
وقرأ الجمهور: ﴿نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ﴾ بالنون فيهما. وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء. وقرأ أبو هريرة: ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ بكسر الشين.
٢٣ - ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك، فقال: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾، والفتنة هنا: الشرك، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم وشركهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ أي: إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة بقولهم ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى لأهل التوحيد، فيقول بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد، فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر. وظاهر (٣) الآيات يدل على أنهم كانوا ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهمًا منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء في هذه الآية، ويعترفون به في بعض آخر كما جاء في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ﴾، وفي قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾؛ لأن معناهما متعارضان، فقال: أما قوله: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: تعالوا لنجحد إشراكنا فـ ﴿قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾.
قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة العربية، لا يعرفه إلا من
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بيَّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم وشركهم الذي لزموه طول أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به، وقالوا: إنه دين آبائنا، لم تكن إلا جحوده، والتبرؤ منه، والحلف على عدم التدين به، ونظير هذا في اللغة أنك ترى إنسانًا يحب شخصًا غاويًا مذموم الطريقة، فإذا وقع في هلكة بسببه.. تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك - عاقبة محبتك - لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته انتهى. وعلى هذا فالفتنة: هي شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس، ويكون في الكلام تقدير مضاف هو كلمة: عاقبة كما قدمنا ذلك. وقيل (١): المراد بالفتنة هنا: جوابهم؛ أي: لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبرؤ، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذبًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي بالياء: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾. وقرأ أبي وابن مسعود والأعمش: ﴿وما كان فتنتهم﴾. وقرأ طلحة وابن مطرف: ﴿ثم ما كان﴾. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص: ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾ بالرفع. وقرأت فرقة: ﴿ثم لم يكن﴾ بالياء، و ﴿فتنتهم﴾ بالرفع، وإعراب هذه القراءات واضح، والبخاري منها على الأشهر قراءة: ﴿ثم لم يكن فتنتهم﴾ بالياء بالنصب؛ لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر، وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف.. فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم، وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ وفي قوله: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا﴾ برفع الاسمين، قال ابن عطية: وهذا على التقديم والتأخير؛ أي: قالوا: ما كنا مشركين، والله ربنا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: ﴿ربَّنا﴾ بنصبه على النداء، أو المدح، والباقون بالكسر.
٢٤ - ﴿انْظُرْ﴾ يا محمد؛ أي: فكر وتأمل بعين البصيرة إلى حال هؤلاء المشركين
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
248
﴿كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الكذب الصريح بإنكار صدور الإشراك منهم في الدنيا؛ حيث قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: وانظر أيضًا كيف ضل وغاب عنهم ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: يختلقون ويكذبون بألوهيته وشفاعته لهم من شركائهم وأصنامهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم، وهذا على جعل ﴿مَا﴾ موصولًا اسميًّا واقعة على الآلهة. ويحتمل أن تكون مصدرية، والمعنى عليه: انظر يا محمد كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر منهم في الدنيا من الإشراك، وكيف ضل وذهب عنهم افتراؤهم، وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله حتى نفوا صدوره منهم بتاتًا، وتبرؤوا منه غاية البراءة؟
وهذا تعجيب لرسول الله - ﷺ - من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة.
وقال (١) مجاهد: إذا جمع الله الخلائق، ورأى المشركون سعة رحمة الله تعالى، وشفاعة رسوله - ﷺ - للمؤمنين قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد، فهذا قال الله لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ قالوا: واللهِ ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم.
فإن قلت (٢): كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟
قلتُ: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشًا، ألا تراهم يقولون: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا.. فإنا ظالمون، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، وقد علموا أنه لا يقضى عليهم.
الإعراب
{قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى
(١) النسفي.
(٢) البحر المحيط. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقله في البحر عن "الزمخشري" في الكشاف، ثم إنه قد وقع خلل طباعي في عزو الحواشي في هذه القطعة، وأصلحناه قدر الطاقة]
249
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)}.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لِمَنْ﴾: ﴿اللام﴾ حرف جر. ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف وجوبًا خبر مقدم لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿في السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر لمحذوف تقديره: هو الله، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿كَتَبَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَتَبَ﴾. ﴿الرَّحْمَةَ﴾: مفعول به لـ ﴿كَتَبَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب حال من الجلالة. ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿يجمعن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والكاف: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول به. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيجمع، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. وقيل (١): موضعه نصب بدلًا من ﴿الرَّحْمَةَ﴾. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب حال من ﴿يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول. ﴿خَسِرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَهُمْ﴾: الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط، ﴿هم﴾: مبتدأ ثانٍ، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ الثاني،
(١) العكبري.
250
والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)﴾.
﴿وَلَهُ﴾ الواو: استئنافية. ﴿له﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة وفي (١) "السمين ": قوله: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ﴾ جملة اسمية فيها قولان: أظهرهما: أنها مستأنفة إخبارًا بذلك، والثاني: أنها في محل النصب معطوفة على قوله: ﴿لله﴾؛ أي: على الجملة المحكية بـ ﴿قل﴾؛ أي: قل: هو لله، وقيل: له ما سكن. ﴿سَكَنَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿في اللَّيْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَكَنَ﴾. ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على الليل، ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿السَّمِيعُ﴾ خبر أول. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثانٍ، أو صفة لـ ﴿السَّمِيعُ﴾، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة.
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَغَيْرَ اللهِ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري حقها أن تدخل على اتخذ، ولكن (٢) لما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليًّا، لا لاتخاذ الولي مطلقًا.. دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل، والمراد بالولي هنا: المعبود؛ أي: كيف اتخذ غير الله معبودًا. ﴿غير الله﴾: مفعول أول ومضاف إليه. ﴿أَتَّخِذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول ثانٍ له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ويجوز (٣) أن يكون اتخذ متعديًا إلى واحد، وهو: وليًّا، و ﴿غير الله﴾ صفة له قدمت عليه فصارت حالًا، ولا يجوز
(١) الفتوحات.
(٢) الشوكاني.
(٣) العكبري.
251
أن تكون غير هنا استثناء. ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ﴾: بدل من الجلالة ومضاف إليه، أو صفة له، وقد تعرف بالإضافة؛ لأنه بمعنى الماضي. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿يُطْعِمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في مجل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَلَا يُطْعَمُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُطْعِمُ﴾.
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي أُمِرْتُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿إِنِّي﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿أُمِرْتُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ تقديره: إني مأمور بأن أكون، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿أنْ أَكُونَ﴾: ناصب وفعل مضارع، واسمه ضمير يعود على محمد. ﴿أَوَّلَ مَنْ﴾: خبر ﴿أَكُونَ﴾، ومضاف إليه، وجملة ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة تقديره: قل إني أمرت بكوني أول من أسلم. ﴿أَسْلَمَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿تَكُونَنَّ﴾، وجملة ﴿تَكُونَنَّ﴾ في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنْ أَكُونَ﴾، والتقدير: إني مأمور بكوني أول من أسلم، وبعدم كوني من المشركين. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾ معطوف على ﴿أُمِرْتُ﴾ بتقدير عامل؛ أي: وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، والمعني: إني أمرت بما ذكر، ونهيت عن الإشراك. اهـ شيخنا.
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي
252
أَخَافُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿إنّ﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنْ﴾ وجملة ﴿إِنْ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿عَصَيْتُ رَبِّي﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن عصيت ربي.. أخاف عذاب يوم عظيم، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل الذي هو أخاف ومفعوله الذي هو عذاب يوم عظيم. ﴿عَذَابَ﴾ مفعول ﴿أَخَافُ﴾، وهو مضاف. و ﴿يَوْمٍ﴾: مضاف إليه. ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾.
﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما ﴿يُصْرَفْ﴾: فعل مضارع مجهول أو معلوم، مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على العذاب، أو فاعله ضمير يعود على الله؛ أي: أيُّ شخص يصرف العذاب عنه، أو: أيَّ شخص يصرف الله العذاب عنه ﴿عَنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُصْرَفْ﴾. وكذا الظرف في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ متعلق به. ﴿فَقَدْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكونه مقرونًا بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿رَحِمَهُ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْفَوْزُ﴾: خبره. ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿من﴾ الشرطية على كونها مستأنفة.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يَمْسَسْكَ الله﴾: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿بِضُرٍّ﴾:
253
جار ومجرور متعلق به. ﴿فَلَا﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. ﴿لا﴾: نافية للجنس تعمل عمل إن. ﴿كَاشِفَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾ تقديره: فلا كاشف له موجود. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لا﴾ تقديره: فلا كاشف له موجود هو إلا هو سبحانه وتعالى. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿إِلَّا هُوَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من محل ﴿لا كاشف﴾، فإن محله الرفع على الابتداء.
والثاني: أنه بدل من الضمير المستكن في الخبر اهـ "كرخي". وجملة ﴿لا﴾ النافية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ﴾: الواو: عاطفة ﴿يَمْسَسْكَ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِخَيْرٍ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿فَهُوَ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾. ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ جوابه محذوف تقديره: فلا راد له غيره كما في آية يونس: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾، وقوله: ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تعليل لكل من الجوابين المذكور في الشرطية الأولى، والمحذوف في الثانية. اهـ.
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف إما متعلق بـ ﴿الْقَاهِرُ﴾، أو متعلق بمحذوف خبر ثانٍ لـ ﴿وَهُوَ﴾، أو حال من الضمير في ﴿الْقَاهِرُ﴾، والتقدير: وهو القاهر حالة كونه مستعليًا أو غالبًا فوق عباده ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾: مبتدأ وخبر أول ﴿الْخَبِيرُ﴾ خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
254
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَيُّ﴾: اسم استفهام مبتدأ مرفوع. و ﴿شَيْءٍ﴾: مضاف إليه لـ ﴿أَيُّ﴾ ﴿أَكْبَرُ﴾: خبر المبتدأ. ﴿شَهَادَةً﴾: تمييز محول عن المبتدأ، والأصل: شهادة أي شيء أكبر، أو: أي شيء شهادته أكبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ إلى قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: الله أكبر شهادة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلِ﴾. ﴿شَهِيدٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو شهيد، والجملة في محل النصب مقول لي ﴿قُلِ﴾. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾. ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنِي﴾. ﴿وَأُوحِيَ﴾: الواو: عاطفة ﴿أوحي﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿هَذَا الْقُرْآنُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿أوحي﴾ وبدل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لِأُنْذِرَكُمْ﴾: اللام: لام كي. ﴿أنذركم﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنذر﴾. ﴿وَمَنْ﴾: الواو: عاطفة. ﴿من﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على الكاف في ﴿أنذركم﴾. ﴿بَلَغَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على القرآن، والعائد محذوف تقديره: ومن بلغه القرآن، وجملة ﴿بَلَغَ﴾ صلة ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿أنذر﴾ من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإنذاري إياكم به، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أوحى﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه في محل نصب عطفًا على المنصوب في ﴿لِأُنْذِرَكُمْ﴾ وتكون ﴿من﴾ موصولة، والعائد عليها من صلتها محذوف؛ أي: ولأنذر الذي بلغه القرآن.
255
والثاني: أن في ﴿بَلَغَ﴾ ضميرًا مرفوعًا يعود على ﴿من﴾، ويكون المفعول محذوفًا وهو منصوب المحل أيضًا عطفًا على مفعول ﴿لِأُنْذِرَكُمْ﴾، والتقدير: ولأنذر الذي بلغ الحلم، والعائد هنا مستقر في الفعل.
والثالث: أن ﴿من﴾ مرفوعة المحل عطفًا على الضمير المرفوع في ﴿لِأُنْذِرَكُمْ﴾، وجاز ذلك؛ لأن الفصل بالمفعول، والجار والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن. اهـ "سمين".
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)﴾.
﴿أَئِنَّكُمْ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري كما سبق في بحث التفسير. ﴿إنكم﴾: ناصب ومنصوب. ﴿لَتَشْهَدُونَ﴾: اللام: لام الابتداء المؤكدة زحلقت إلى خبر ﴿إن﴾ ﴿تشهدون﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ التقدير: أئنكم لشاهدون، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿مَعَ اللهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم لـ ﴿أن﴾. ﴿آلِهَةً﴾: اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر عن الخبر. ﴿أُخْرَى﴾: صفة لـ ﴿آلِهَةً﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿لَتَشْهَدُونَ﴾؛ أي: لتشهدون كون آلهة أخرى مع الله. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لا أَشْهَدُ﴾: مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَشْهَدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿قُل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَهٌ﴾: خبره. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة لـ ﴿إله﴾، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَإِنَّنِي﴾: الواو: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف نصب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. ﴿بَرِيءٌ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾. ﴿تُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية أو الموصولة، والعائد حينئذ
256
محذوف تقديره: مما تشركونه، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قل﴾.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿كَمَا﴾: الكاف: حرف جر وتنبيه. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿يَعْرِفُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿أَبْنَاءَهُمُ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كمعرفتهم أبناءهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: معرفة كائنة كمعرفتهم أبناءهم. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿فَهُمْ﴾: الفاء: رابطة الخبر لشبه المبتدأ بالشرط. ﴿هم﴾: مبتدأ ثان. وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى اللهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول ﴿افْتَرَى﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿كَذَّب﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿افْتَرَى﴾. ﴿بِآيَاتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب ومنصوب. ﴿لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
257
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف جوازًا تقديره: واذكر لهم يا محمد قصة يوم نحشرهم. ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾، أو توكيد له عند من يقول التأكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾؛ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿نَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة نحشرهم. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَقُولُ﴾، ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: مقول محكي لـ ﴿نقول﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَيْنَ﴾: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. ﴿شُرَكَاؤُكُمُ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿نَقُولُ﴾. ﴿لِلَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿شُرَكَاؤُكُمُ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿تَزْعُمُونَ﴾: فعل، وفاعله ومفعولاه محذوفان تقديرهما: تزعمونهم شركائكم، وجملة ﴿تَزْعُمُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف من ﴿تَزْعُمُونَ﴾.
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَكُنْ﴾: فعل ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْ قَالُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه اسمًا لـ ﴿تَكُنْ﴾ تقديره: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم وشركهم إلا قولهم: واللهِ ربنا، وجملة ﴿لَمْ تَكُنْ﴾ معطوفة على جملة قوله ﴿ثم نقول﴾، ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿وَاللهِ﴾: الواو: حرف جر وقسم. ﴿اللهِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نقسم والله، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿رَبِّنَا﴾: بدل من الجلالة أو عطف بيان منه. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مُشْرِكِينَ﴾: خبر كان،
258
وجملة كان في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب القسم.
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾.
﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل ﴿كَذَبُوا﴾ والعامل فيه ﴿كَذَبُوا﴾ وصاحب الحال الواو في ﴿كَذَبُوا﴾ أي: جاحدين كذبوا على أنفسهم ﴿كَذَبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَبُوا﴾، وجملة ﴿كَذَبُوا﴾ في محل النصب على أنها مفعول لـ ﴿انْظُرْ﴾، وكيف علقته عن العمل في لفظه. ﴿وَضَلَّ﴾: فعل ماضٍ. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو مصدرية في محل الرفع فاعل لـ ﴿ضل﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يفترونه، أو صلة لما المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر على الفاعلية تقديره: وضل عنهم افتراؤهم، وجملة ﴿ضل﴾ معطوفة على جملة ﴿كَذَبُوا﴾. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿وَضَلَّ﴾ يجوز أن يكون نسقًا على كذبوا، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئناف إخبار، فلا يدخل في حيز المنظور إليه، وقوله: ﴿مَا كَانُوا﴾ يجوز في ﴿مَا﴾ أن تكون مصدرية؛ أي: وضل عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية، ويجوز أن تكون موصولة اسمية؛ أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه اهـ "سمين".
التصريف ومفردات اللغة
﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾: يقال: كتب على نفسه يكتب من باب نصر؛ أي: أوجب إيجاب فضل وكرم، لا إيجاب لزوم، وقيل: كتب هنا بمعنى: وعد فضلًا وكرمًا، وقيل: بمعنى: سطر وخط؛ أي: أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: الرحمة: إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم، وقيل: الرحمة لمن آمن وصدق الرسل.
﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ قال السدي: سكن هنا من السكنى يقال: سكن في المكان يسكن من باب دخل سكنى إذا حل واستقر فيه، ولم يذكر الزمخشري
259
غيره، قال: وتعديه بفي كما في قوله: ﴿وَسَكَنْتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم﴾ وقيل: هو من السكون المقابل للحركة، وعلى هذا ففي المقام حذف؛ أي: وله ما سكن وتحرك، وحذف مقابله للاكتفاء كما في قوله: ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد، واقتصر على ذكر السكون؛ لأن كل متحرك قد يسكن، ولأنه أكثر وجودًا. ﴿أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾: الولي: الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه.
﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وفي "المصباح" (١): فطر الله الخلق فطرًا من باب قتل: خلقهم، والاسم: الفطرة اهـ. وفي "السمين": والفطر: الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال، ومنه: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: موجدهما على غير مثال يحتذى. وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنشأتها وابتدأتها، ويقال: فطرت كذا وفطر هو فطورًا، وانفطر انفطارًا، وفطرت الشاة: حلبتها بإصبعين، وفطرت العجين: خبزته من وقته. وفي "الكرخي": والفطير ضد الخمر، وهو العجين الذي لم يختمر، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير، ويقال: إياك والرأي الفطير، ويقال: عندي خبز خمير وخبز فطير. اهـ. وأصل الفطر: الشق، ومنه: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾، ويقال: فطر ناب البعير، ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾، وقوله: ﴿يتفطرن منه﴾.
﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾؛ أي: هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. ﴿يُصْرَفْ عَنْهُ﴾: يبعد عنه، ويقال: صرف الله عنه الأذى من باب ضرب إذا أبعده ونجاه عنه.
﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾؛ أي: بإنجائه من الهول الأكبر. ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ﴾: المس أعم من اللمس، وحقيقة المس تلاقي جسمين يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب إذا أصابه ونزل به، والضر: الألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها.
﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ﴾ يقال: كشف التفسير إذا أزاله، وكشفَتْ عن ساقيها:
(١) الفتوحات.
260
أزالت ما يسترهما.
والخير (١): ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة، والنفع: اللذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما، والشر: ما لا منفعة فيه ألبتة، أو ما كان ضره أكبر من نفعه، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾.
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ من القهر، والقهر: الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار؛ أي: فالقهر؛ إما أن يراد به الغلبة، أو التذليل، وما هنا من الأول، وكذا قوله: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ ومن الثاني قوله: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩)﴾.
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ وشهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان.
﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾: مأخوذ من الإنذار، والإنذار: التخويف، واكتفى به عن ذكر البشارة لمناسبته للمقام؛ أي: لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن، ووصل إليه من الأسود والأحمر، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة مما تشركون به؛ أي: من الأصنام.
﴿آلِهَةً أُخْرَى﴾ ﴿أُخْرَى﴾ صفة لآلهة، وصفه بالصفة المفردة. ولم يقل: آلهة أُخر بالجمع ليطابق الوصف موصوفه في الجمعية؛ لأن الآلهة مما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة كما سبق، ولما كانت الآلهة حجارةً وخشبًا.. أجريت هذا المجرى.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ من آتى الرباعي فهو بمعنى: أعطى، فيتعدى إلى مفعولين.
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ قرأ الجمهور بضم الشين من ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع من بابي: ضرب وقتل.
(١) المراغي.
261
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾، وفي قوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ إذا قلنا كتب بمعنى: أوجب؛ لأنه استعار الكتابة بمعنى: الخط والتسطير للكتابة بمعنى: الإلزام والإيجاب بجامع الإثبات في كل.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ﴾ إذا قلنا من السكون ضد التحرك، والاكتفاء: ذكر أحد متقابلين وحذف الآخر لعلمه من المذكور، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ لأنه بمعنى: أهلكوا، فالخسران حقيقة في البيوع.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾؛ أي: لا ينبغي لي ولا يمكن مني أن أعبد غيره.
ومنها: تجنيس (١) التشكيل في قوله: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾، وضابطه: أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته: تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لاعتراض الجملة الشرطية بين الفعل ومفعوله اللذين هما: ﴿أَخَافُ﴾ و ﴿عَذَابَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ﴾، وقوله: {وَإِنْ
(١) البحر المحيط.
262
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿بِضُرٍّ﴾. وفي قوله: ﴿بِخَيْرٍ﴾.
ومنها: التعليق بأمر مستحيل في قوله: ﴿إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾؛ لأن العصيان ممتنع في حقه - ﷺ - لعصمته. وقال (١) أبو عبد الله الرازي: نظير هذه الآية قولك: إن كانت الخمسة زوجًا كانت منقسمة إلى متساويتين.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾، وفيه الحذف أيضًا تقديره: فلا كاشف له عنك إلا هو.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾.
ومنها: الجناس المغاير والمماثل في قوله: ﴿أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾، وفي قوله: ﴿قُلِ الله شَهِيدٌ﴾، وفي قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ﴾، وفي قوله: ﴿قُلْ لَا أَشْهَدُ﴾، وفيه أيضًا الجمع بين الأسئلة والأجوبة، والجناس المغاير في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ﴾، وفي قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾.
ومنها: القسم في قوله: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
263
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بين أحوال الكفار في الآخرة، وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله، وأخرى يعترفون بها، وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.. ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدي معهم شيئًا؛ إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها في حكم المستحيل.
(١) المراغي.
264
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بيَّن في الآيات السابقة حال طائفة من المشركين تلقي السمع مصغية للقرآن، لكن لا يدخل القلب شيء مما تسمع؛ لما عليه من أكنة التقليد والاستنكار لكل شيء جديد، فهم يستمعون ولا يسمعون.. بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة، وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل، ويكونوا من المؤمنين حقًّا، ثم كذبهم فيما يقولون، وأنهم لو ردوا.. لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغًا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية الأهوال.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) ذكر في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء.. بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق، وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلًا بينها وبين الآخرة، وموازنًا بين حاليهما لدى المتقين والعاصين.
قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ: وقالوا، نحو: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ إلى نحو ذلك، وتلقين الرسول - ﷺ - الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ: قل، نحو: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بعد هذا الحجاج كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي - ﷺ -، وحزنه مما يقولون في نبوته، وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرًا منهم كذبوا
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
265
فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...﴾ الآية، سبب (١) نزولها: ما رواه أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حضر عند النبي - ﷺ - أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، والحارث بن عامر، وأبو جهل في جمع كثير من قريش، واستمعوا إلى النبي - ﷺ - وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة، ما يقول محمد، فقال: والذي جعلها - الكعبة - بيته ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك شفتيه، ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، يحدث قريشًا بما يستملحونه، قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقًّا، فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وقال: الموت أهون من هذا، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ الآيات.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ...﴾ الآية، سبب (٢) نزولها: ما رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - ﷺ -، ويتباعد عما جاء به، وكان يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون أن يفعلوا السوء برسول الله - ﷺ - فقال أبو طالب شعرًا:
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوْا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِيْ التُّرَابِ دَفِيْنَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وَابْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُوْنَا
وَدَعَوْتَنِيْ وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِيْ وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْنَا
وَعَرَضْتَ دِيْنًا لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا
(١) المراغي والبحر المحيط.
(٢) لباب النقول مع زيادة من البحر المحيط.
266
لَوْلا الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِيْ سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيْنَا
وأخرج (١) ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال قال: نزلت في عمومة النبي - ﷺ -، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر.
قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...﴾ الآية، روى الترمذي والحاكم عن علي أن أبا جهل قال للنبي - ﷺ -: وإنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾.
وروى ابن جرير عن السدي أن الأخنس بن شريق، وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل: واللهِ إن محمدًا لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ...﴾ الآية، سبب (٢) نزولها: ما رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الحارث بن عامر أتى النبي - ﷺ - في نفر من قريش، فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ...﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٥ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن أولئك الكافرين من أهل مكة ﴿مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾؛ أي: فريق يستمع إليك يا محمد إذا أنت تلوت القرآن داعيًا إلى توحيد الله مبشرًا ومنذرًا ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾؛ أي: والحال أنا قد جعلنا على قلوب هؤلاء المستمعين أغطية تمنعهم عن أن يفقهوه ويفهموه؛ أي: تحولهم دون فقهه وفهمه.
﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾؛ أي: وقد جعلنا أيضًا في آذانهم وأسماعهم وقرًا؛ أي:
(١) لباب النقول.
(٢) زاد المسير.
267
ثقلًا وصممًا يمنعهم عن سماعه، ويحولهم دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد، وذلك كما مرَّ في أسباب النزول: أنه اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبي ابنا خلف، والحارث بن عامر يستمعون القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة، ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك ويقول أساطير الأولين. وفي هذا (١) الكلام تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره، كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء، فلا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهمٍ وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصمم، فسمعها وعدمه سواء.
بيان هذا: أن الله سبحانه وتعالى جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعًا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم ليميز الحق من الباطل، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره، ولا يراه جديرًا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدةٍ أو رأي ليختار أقربهما إلى الصحة، وأجدرهما بالصدق، وأكثرهما هداية ورشادًا، وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وقال (٢) ابن عطية: وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير، كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.
وقرأ الجمهور: ﴿وَقْرًا﴾ بفتح الواو وسكون القاف. وقرأ طلحة بن مصرف: ﴿وقرًا﴾ بكسر الواو وسكون القاف، كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقِّرت بالصمم، كما تُوقَّر الدابة من الحمل.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾؛ أي: وإن يرى هؤلاء المشركون كل آية من الآيات، وعلامة من العلامات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك، كانشقاق القمر،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
268
ونبع الماء من بين أصابعك، وحنين الجذع، وتصيير الطعام القليل كثيرًا ﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾؛ أي: لا يصدقوا بتلك الآيات أنها من الله تعالى، بل يقولون: إنها سحر ولا يفعلون بموجبها من الإيمان بك؛ إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها؛ لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ، فحظهم كحظ الصم من سماع أصوات البشر، وكلمة: ﴿حَتَّى﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ﴾ ابتدائية بمعنى الفاء، وإن لم يقع بعدها مبتدأ؛ لأن حتى الابتدائية هي الداخلة على الجمل التي يبتدأ بها، وإن لم يقع بعدها مبتدأ في الظاهر.
وقوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ﴾ حال من الواو في ﴿جَاءُوكَ﴾، وقوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جواب إذا، وهو العامل فيها؛ أي: فإذا جاءك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة حال كونهم مجادلين ومنازعين ومنكرين لك في دعوتك إلى التوحيد.. قالوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: ما هذا الذي يقرؤه محمد ويتلوه إلا أكاذيب الأولين وخرافاتهم، فليست من عند الله تعالى.
والمعنى (١): أنهم بلغوا من الكفر والعناد، أنهم إذا جاؤوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون: إن هذا إلا أساطير الأولين.
وقال أبو (٢) حيان: وحتى إذا وقعت بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء، ويحتمل أن تكون بمعنى: إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاءوك يجادلونك.. يقول الذين كفروا، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ أي: منعناهم من فهم القرآن وتدبره إلى أن يقولوا: إن هذا إلا أساطير الأولين في وقت مجيئهم مجادليك؛ لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين المعنيين يستخرج جميع ما في القرآن من قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا﴾ انتهى.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
269
ذاك (١) أنهم لم يعقلوا مما في القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات، فلا علم فيها، ولا فائدة منها، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جميلة لا يستنبط منها علمًا، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيًا، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة - السينما - مفسرة بلغةٍ هو لا يعرفها، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت. فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها.. لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول - ﷺ -، وعبر ومواعظ ونذر تبيِّن سنن الله تعالى في خلقه مع الأقوام الذين كذبوا وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال،
٢٦ - ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال، بل تعدوه إلى الإضلال، وساروا قدمًا، فقال: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾؛ أي: وأولئك المشركون المعاندون للنبي - ﷺ - الجاحدون لنبوته لا يقنعون بتكذيبهم له، وعده حديث خرافة، بل ينهون الناس عن استماعه؛ لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾؛ أي: ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارًا لاشمئزازهم ونفورهم منه، وتأكيدًا لنهيهم فيكونون ناهين منتهين، يعني: أن كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد - ﷺ -، وعن الاجتماع به وينهونهم عن استماع القرآن، وكانوا هم كذلك، أو المعنى: ينهون عن التعرض لرسول الله - ﷺ - وينأون عنه، فلا يؤمنون به كأبي طالب. ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم، فقال: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ﴾؛ أي: وما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بإقبالها لأشد العذاب ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: وما يعلمون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يفعلون من الكفر والمعصية.
والخلاصة (٢): وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه، وهو عذاب الضلال والإضلال، وما يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول الله - ﷺ -، وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب، فقد هلك جميع الذين أصروا على عداوته - ﷺ - بعضهم في نِقمَ خاصة، وبعضهم في وقعة
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
بدر وغيرها من الغزوات، ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة، واللفظ يشملهما معًا.
وقرأ (١) الحسن: ﴿وينون﴾ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون، وهو تسهيل قياسي.
٢٧ - ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾؛ أي: ولو تبصر يا محمد أو أيها السامع ما يحل بهؤلاء الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك من الفزع والهول والشدة والندم على كفرهم، والحسرة على ما فرط منهم في جنب الله حين وقفوا وعرضوا على النار الأخروي؛ أي: حين تعرضهم ملائكة العذاب من أرض الموقف على النار.. لرأيت أمرًا عجيبًا، وموقفًا فظيعًا، فجواب لو محذوف كما قدرنا، و ﴿تَرَى﴾ بصرية تتعدى إلى مفعول واحد كما قدرنا أيضًا؛ أي: لو رأيت ما يحل بهم في تلك الحالة.. لرأيت ما لا يحيط به الوصف، ولا يقدر على التعبير عنه اللسان، ولا يبلغ تصويره البيان، ولو أؤتِيَ المتكلم بلاغة سحبان.
ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ، فقال: ﴿فَقَالُوا﴾ معطوف على ﴿وُقِفُوا﴾؛ أي: فيقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار ﴿يَا لَيْتَنَا﴾؛ أي: يا قومنا نتمنى أن ﴿نُرَدُّ﴾ ونرجع إلى الدنيا حتى نتوب إلى الله، ونعمل صالحًا، ﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته، وصدق رسله ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من المصدقين به وبرسله، ومن المتبعين لأمره ونهيه.
والخلاصة: أنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم.. تمنوا الردَّ إلى الدنيا ليسعوا في إزالة ذلك التقصير، ويتركوا التكذيب بالآيات، ويعملوا صالح العمل، وتمني هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم أنه محال، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر؛ لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون.
وقرأ (٢) الجمهور: ﴿وُقِفُوا﴾ مبنيًّا للمفعول، ومعناه عند الجمهور: حبسوا
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
على النار، ووقف في هذه القراءة متعد، ومصدره: الوقف، وقد سمع في المتعدي: أوقف، وهي لغة قليلة، وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي ﴿وُقِفُوا﴾ مبنيًّا للفاعل من وقف اللازم، ومصدره: الوقوف، والمعنى (١): على هذه القراءة؛ أي: ولو تراهم حين يكونون في جوف النار، وتكون النار محيطةً بهم ويكونون غائصين فيها مقدار عذابها.. لرأيت منظرًا هائلًا، وحالًا فظيعًا، وإنما صح على هذا التقدير أن يقال: وقفوا على النار؛ لأنها دركات وطبقات بعضها فوق بعض، فيصح هناك معنى الاستعلاء.
وقرأ (٢) الكسائي وابن كثير وأبو عمرو وشعبة وأهل المدينة برفع الأفعال الثلاثة: ﴿نُرَدُّ﴾، ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ و ﴿نكونُ﴾.
والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني؛ أي: تمنوا الرد وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. وقرأ حفص وحمزة بنصب: ﴿نُكَذِّبَ﴾ ﴿وَنَكُونَ﴾ بإضمار: أن بعد الواو على جواب التمني. واختار سيبويه الأقطع في ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ ويكون غير داخل في التمني، والتقدير: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب؛ أي: لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال: وهو مثل دعني ولا أعود؛ أي: لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني، واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾؛ لأن الكذب لا يكون في التمني. وقرأ ابن عامر: ﴿ونكونَ﴾ بالنصب، وأدخل الفعلين الأولين في التمني. وقرأ أبي: ﴿ولا نكذب بآيات ربنا أبدا﴾. وقرأ هو وابن مسعود: ﴿ياليتنا نرد فلا نكذب﴾ بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو.
٢٨ - ثم بيَّن أن (٣) هذا التمني لم يكن لتغيير حالهم، بل لأنه بدا لهم ما كان خفيًّا عنهم، فقال: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات، ونزل بهم عقابه، فتبرموا وتضجروا وتمنوا
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
272
الخلاص منه بالرد إلى الدنيا، وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال؛ لأنه ينقذه من الآلام، لا لأنه محبوب في نفسه، ولا مرجو لذاته؛ بيان هذا: أنه إذا جاء ذلك اليوم الذي تبتلى فيه السرائر، وتنكشف فيه جميع الحقائق، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية في كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كما تتمثل الوقائع مصورة في آلة الصور المتحركة - فلم السينما - فكل أحد يظهر له في الآخرة ما كان خافيًا عليه من خير في نفسه وشر: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)﴾؛ أي: فهي لا تخفى على أنفسكم فضلًا عن خفائها على ربكم.
والخلاصة: أنه تعالى بين لنا أن تمني أولئك الكفار لما تمنوا به، لا يدل على تبدل حقيقتهم، بل بدا لهم ما كان خافيًا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)﴾ فتمنوا الخروج مما حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغير، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال.
وعبارة "الشوكاني" هنا: قوله: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ هذا (١) إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق؛ أي: لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد، بل هو لسبب آخر: وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون؛ أي: يجحدون من الشرك، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة، وقيل: بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة، كما قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾، وقال المبرد: ﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾ هو جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه، وهو مثل القول الأول، وقيل: المعنى: أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث
(١) فتح القدير.
273
والقيامة. ثم بيَّن أنهم كاذبون في هذا الندم، فقال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا﴾ إلى الدنيا حسبما تمنوا ﴿لَعَادُوا﴾؛ أي: لرجعوا ﴿لـ﴾ فعل ﴿ما نهوا عنه﴾ من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي، فإن ذلك من أنفسهم ثابت فيها؛ لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا، ولا سوء ما رأوا، كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله تعالى ثم عاند ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي: متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، ولو شاهدوا ما شاهدوا؛ أي: لأن دينهم الكذب؛ لأن قضاء الله جرى عليهم في الأزل بالشرك، وقيل: المعنى: وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان؛ أي: لكاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله، فلو ردوا إلى الدنيا لرُد المعاند المستكبر منهم مشتملًا بكبره وعناده، والمنافق مرتدًا بمكره ونفاقه، والشهواني ملوثًا بشهواته القابضة على زمامه. وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم في الدنيا من الآيات والعبر، فهم يكابرون فيها أنفسهم، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم، ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء، فيظهران الندم على ما فرط منهما، ويتوبان ويعزمان على أن لا يعود إلى مثل ما عملا، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعًا لما اعتادا وألفا، وترجيحًا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة؟
وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش: ﴿ولو ردوا﴾ بكسر على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء؛ لأن الأصل: رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء.
وجملة قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ معترضة (١) بين المعطوف وهو: ﴿وَقَالُوا﴾ وبين المعطوف عليه، وهو ﴿لَعَادُوا﴾؛ أي: لعادوا إلى ما نهوا عنه.
٢٩ - ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾؛ أي: ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد الموت، وهذا من شدة تمردهم وعنادهم؛ حيث يقولون هذه المقالة
(١) فتح القدير.
على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث، ويجوز أن تكون جملة ﴿وَقَالُوا﴾ مستأنفة؛ أي: وقال كفار مكة ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾؛ أي: ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد أن فارقنا هذه الحياة، وليس لنا بعد هذه الحياة ثواب ولا عقاب.
٣٠ - ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ وتبصر يا محمَّد ﴿إِذْ وُقِفُوا﴾ وحبسوا ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: عند ربهم لأجل السؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب.. لرأيت أمرًا فظيعًا، أو المعنى: وقفوا على جزاء ربهم؛ أي: على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين، وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخرة، والمعنى: ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة في الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، ويمسكونهم إلى أن يحكم الله فيهم بما يشاء.. لأفظعك أمرهم، واستبشعت منظرهم، ورأيت ما لا يحيط به وصف، وجعلهم موقوفين على ربهم؛ لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب إمتثالًا لأمر الله فيهم، كما قال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)﴾ يكون أمرهم مقصورًا عليه تعالى، لا يتصرف فيهم غيره، كما قال: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: يقول لهم ربهم حينئذ: أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب لا باطل كما تزعمون، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. ﴿قَالُوا﴾ جوابًا للرب جل جلاله ﴿بَلَى﴾ هو حق لا يحوم حوله الباطل، أقسمنا لك ﴿وَرَبِّنَا﴾ وهذا إقرار مؤكد باليمين؛ لانجلاء الأمر غاية الانجلاء، وهم يطمعون في نفع ذلك الإقرار، وينكرون الإشراك فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾؛ أي: يقول لهم الرب سبحانه وتعالى: إذا كان الأمر كما اعترفتم.. فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كفركم وجحدكم في الدنيا بالبعث بعد الموت الذي دأبتم عليه، واتخذتموه شعارًا لكم لا تتركونه. وعبَّر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة إلى أنهم يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.
٣١ - ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾؛ أي: قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا
275
بما وعد الله به من البعث والقيامة ولقاء الله كلَّ ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان في الدنيا، كرضا الله وشكره حين النعمة والعزاء وقت المصيبة، ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير والثواب الجسيم، والرضوان الأكبر، والنعيم المقيم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب. وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية، ويفضي إلى الشرور والآثام، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة.. يجعل همَّ الكافرين محصورًا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية، كالجاه والرياسة والعلو في الأرض - ولو بالباطل - ومن كانوا كذلك.. كانوا شرًّا من الشياطين، يكيد بعضهم لبعض، ويفترس بعضهم بعضًا، لا يصدهم عن الشر إلا العجز، ولا تحكم بينهم إلا القوة. وشاهِدنا على ذلك أنَّ أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوضون صروح المدنية بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم، وبكل ما أوتوا من فن واختراع، ويهلكون الحرث والنسل، ويخربون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم عاطفة رحمة ولا رحمة، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر وما فيه من الحساب والجزاء.. لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾؛ أي: كذبوا بلقاء الله إلى أن جاءتهم الساعة والقيامة مباغتةً مفاجئةً لهم من غير شعور منهم لها، وقد ورد في الكتاب والسنة أنَّ الله تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة، فلا يعلم أحد متى يكون مجيئها، وفي أي وقت يكون حصولها. ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾؛ أي: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وأصروا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيتهم - وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة، ومقدمات القيامة - مفاجئةً لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها، ولا يعدون العدة لمجيئها.. قالوا: يا حسرتنا على تفريطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها؛ أي: أصروا على التكذيب حتى قالوا وقت مجيء الساعة لهم بغتةً: يا ندامتنا على تفريطنا وتقصيرنا في تحصيل الزاد للساعة في الدنيا، هذا أوانك فاحضري إلينا لنتعجب منك. ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ﴾؛
276
أي: والحال أنهم يحملون ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾ وذنوبهم وخطاياهم ﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ وعواتقهم؛ أي: يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم، فلا تفارقهم ذنوبهم، وخص الظهر بالذكر؛ لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه غيره من الأعضاء، كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدم في قوله: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِم﴾؛ لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها، وفي ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورًا على الحسرة والندامة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمُّل الأوزار الثقال، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح، يحمله صاحبها يوم القيامة، والصالحة بصورة رجل حسن، يحمل صاحبها يوم القيامة.
والخلاصة: أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم، وقد بيَّن الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون ويتكلمون بذلك المقال، فقال: ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا واعرفوا ما سأذكره لكم وهو قوله: ﴿سَاءَ﴾ وقبح ﴿مَا يَزِرُونَ﴾ ويحملون على ظهورهم يوم القيامة؛ أي: ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها وما أقبحها، والمخصوص بالذم ذنوبهم.
٣٢ - ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار فيها أنه لا حياة غيرها ﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ فهي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة، كعب الأطفال، وعمل له فائدة عاجلة سلبية؛ كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ومن ثمَّ قال بعض الحكماء: إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة للآلام، فلذة الطعام في إزالة ألم الجوع، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته، ولذة شرب الماء هي إزالة العطش، وهكذا، أو المعنى: وما الأشغال التي تشغلك في الحياة الدنيا عن خدمة الله وطاعته ﴿إِلَّا لَعِبٌ﴾؛ أي: عمل لا فائدة ولا عاقبة له؛ كعب الأطفال ﴿وَلَهْوٌ﴾؛ أي: عمل فائدته عاجلة لا آجلة، وليس المراد أن
277
مطلق الحياة لعب ولهو، بل ما قرب منها إلى الله.. فهو مزرعة للآخرة، فليست من أشغال الدنيا، وما أبعد منها عنه.. فهو حسرة وندامة، واللعب: هو كل ما يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو: صرفها عن الجد إلى الهزل، وقيل: المعنى أي: وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عما تنتفع به، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل.
وفي الآية وجه آخر، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل قصير الأجل، لا ينبغي أن يغتر العاقل به، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدم إليه من أصناف اللعب، أو أن زمن الطفولة قصير، كله غفلة، أو كلهو المهموم في قصر مدته على كونه غير مقصود لذاته، والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾.
واللام في قوله: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ لام (١) قسم؛ أي: وعزتي وجلالي للدار التي هي محل الحياة الأخرى، وهي الجنة - جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهله - ﴿خَيْرٌ﴾، وأفضل ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ويجتنبون الكفر والمعاصي لخلو لذاتها من المضار والآلام، وسلامتها من التقضِّي والانصرام من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظَّ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو في كونه دفعًا لألم الهم والكدر.
والخلاصة: أن نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا، كما قال الشاعر:
لِلَّهِ أَيَّامُ نَجْدٍ وَالنَّعِيْمُ بِهَا قَدْ كَانَ دَارًا لَنَا أَكْرِمْ بِهِ دَارَا
فالبدني منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته وفي دوامه وثباته، وفي كونه إيجابيًّا لا سلبيًّا، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، بخلاف نعيم الدنيا؛ لأن لذاتها يشوبها مكدرات، وسرورها يعقبه غم وحزن كما قال الشاعر:
أشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ زَوَالا
(١) الخازن.
278
والروحاني منه كلقاء الله ورضوانه وكمال معرفته، يجل عنه الوصف والتحديد، ولا شبيه له في نعيم الدنيا.
وقرأ (١) ابن عامر وحده: ﴿ولدار الآخرة﴾ بالإضافة، فقيل: من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كمسجد الجامع، وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه؛ أي: ولدار الآخرة. وقراءة ابن عامر موافقة لمصحفه، فإنها رسمت في مصاحف الشاميين بلام واحدة، واختارها بعضهم لموافقتها لما أجمع عليه في يوسف: ﴿وَلَدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾، وفي مصاحف الناس بلامين. وقرأ باقي السبعة: ﴿وللدار الآخرة﴾ بتعريف الدار بأل ورفع الآخرة نعتًا لها.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: قل لهم: أتغفلون أيها المخاطبون المنكرون للبعث عن هذا المذكور، فلا تعقلون وتفهمون أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأنها فانية، والآخرة باقية، وأنتم ترون من يموت، ومن تنوبه النوائب وتفجعه الفواجع؟ ففي ذلك مزدجر عن الركون إليها، واستبعاد النفوس لها، ودليل على أن لها مدبِّرًا يلزم الخلق عبادته وعدم إشراك غيره معه في ذلك التدبير والنظام، وإخلاص العبادة والطاعة له.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص (٢): ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ بالتاء، خطابًا لمن كان في حضرة الرسول - ﷺ - من منكري البعث كما فسرنا. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة؛ أي: أيغفل الذين يتقون، فلا يعقلون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار، فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم، فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك.
٣٣ - وقوله: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله - ﷺ - عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له. والضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ للشأن والحال، والجملة بعده مفسرة له، وما ذكره "الشوكاني" وغيره هنا من أن
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
279
﴿قَدْ﴾ للتكثير غير ظاهر كما ذكره أبو حيان؛ لأن علمه تعالى لا يمكن فيه التكثير والزيادة. والظاهر أن يقال: إنها هنا للتحقيق والتوكيد، نظير قوله تعالى: ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾، وقوله الشاعر:
وَقَدْ تُدْرِكُ الإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأَرْضِ سَبْعِيْنَ وَادِيَا
أي: حقًّا علمنا يا محمد أنه ليحزنك ويهمك القول الذي يقولونه لك في الظاهر في طعنك وتكذيب نبوتك، ورد دعوتك إلى التوحيد، وتنفير العرب عنك من قولهم: إنك ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.
قال ابن كثير (١): يقول تعالى مسليًّا لنبيه - ﷺ - في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه: قد أحطنا علمًا بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم، كما جاء في قوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، وفي قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾. قرأ (٢) نافع: ﴿ليُحزنك﴾ بضم الياء وكسر الزاي من أحزن الرباعي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن الثلاثي.
ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل، فقال: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾؛ أي: فلا تحزن لما يقولون فيك وفي دينك في الظاهر؛ لأنهم لا يكذبونك في السر، فإنهم قد علموا صدقك. ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآنية والإعجازية ﴿يَجْحَدُونَ﴾ ـها ويعاندونها، ويدفعونها بصدودهم عنها وتنفير الناس عنها بعد معرفة حقيقتها. وفي قوله: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر.
وقرأ علي ونافع والكسائي (٣): ﴿يكذبونك﴾ بسكون الكاف من أكذب الرباعي؛ أي: لا يجدونك كاذبًا؛ لأنهم يعرفون صدقك وأمانتك. وقرأ باقي السبعة وابن عباس: ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾ بفتح الكاف وتشديد الذال من كذب المضعف؛
(١) ابن كثير.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
280
أي: لا ينسبونك إلى الكذب بالاعتقاد واللسان. فقيل: هما بمعنى واحد نحو: كثر وأكثر، وقيل: بينهما فرق كما فسرنا. حكى الكسائي أن العرب تقول: كذَّبت الرجل إذا نسبت إليه الكذب، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه.
والمعنى (١): أنهم يقولون في كل معجزة: إنها سحر، وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق، أو المعنى: أن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني؛ لأنك رسولي؛ كقول السيد لعبده وقد أهانه بعض الناس: أيها العبد، إنه ما أهانك، وإنما أهانني، والمقصود تعظيم الشأن لا نفي الإهانة عن العبد، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾. روى سفيان الثوري عن علي قال: قال أبو جهل للنبي - ﷺ -: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
وروي أن الحارث بن عامر من قريش قال: يا محمد، واللهِ ما كذبتنا قط، ولكنا إن اتبعناك.. نتخطف من أرضنا، فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب.
والخلاصة (٢): أنهم لا ينسبون النبي - ﷺ - إلى افتراء الكذب، ولا يجدونه كاذبًا في خبر يخبر به؛ بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع، وإنما يدعون أن ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذبٌ غير مطابق للواقع، ولا يقتضي ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له، وذكر الرازي في نفي التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه:
١ - أنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.
٢ - أنهم لا يقولون له: إنك كذاب؛ لأنهم جربوه الدهر الطويل، فلم يكذب فيه قط، ولكن جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل أنه نبي، وصدق ما تخيله فدعا إليه.
(١) المراح.
(٢) المراغي.
281
٣ - أنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه.. كان تكذيبهم تكذيبًا لآيات الله المؤيدة له، أو تكذيبًا له سبحانه وتعالى، فكأن الله قال له: إن القوم ما كذبوك، ولكن كذبوني، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدِّق له بتأييده على حد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾.
٤ - أن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقًا، ويقولون في كل معجزة إنها سحر، فكأن الخلاصة أنهم لا يكذبونك على التعيين، ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
٣٤ - ثم لفت وصرف نظر رسوله - ﷺ - لأن يقتدي بالرسل قبله في الصبر على التكذيب، فقال: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كذب الرسل الذين من قبلك - كنوح ومن بعده - قومهم، كما كذبك قومك ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾؛ أي: فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ بإهلاك قومهم فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا.. تظفر على أعدائك كما ظفروا، بل أنت أولى بالتزام الصبر؛ لأنك مبعوث إلى جميع العالمين.
وقرأ (١) الجمهور: ﴿وَأُوذُوا﴾ بواو بعد الهمزة من آذى يؤذي رباعيًّا. وقرأ ابن عامر في رواية شاذة: ﴿وأذوا﴾ من غير واو بعد الهمزة، وهو من أذيت الرجل ثلاثيًّا لا من آذيت رباعيًّا. اهـ "سمين". وفي الآية تسلية للرسول - ﷺ - بعد تسلية، وإرشاد إلى سننه تعالى في الرسل والأمم، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، وفي قوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠)﴾. وقد دلت التجارب على أن التأسي يهون المصاب، ويفيد شيئًا من السلوى، ومن هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة؛ لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له - ﷺ - من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره.
(١) الفتوحات.
282
وفي الآية بشارة للرسول - ﷺ - مؤكدة للتسلية بأن الله تعالى سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة، كما أنَّ فيها إيماءً إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر.. كان حقيقًا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر.
والمعنى: أن (١) هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك، فاقتد بهم، ولا تحزن، واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا، حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، فإنا لا نخلف الميعاد، ولكل أجل كتاب ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: لا مغير ولا ناقض لحكمه وقضائه تعالى، وقد حكم الله سبحانه وتعالى بنصر الأنبياء في نحو قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾؛ أي: فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه، بل وعده كائن، وأنت منصور على المكذبين ظاهر عليهم، وقد كان ذلك فللَّه الحمد.
والحاصل: أن كلمات الله لا يمكن أن يبدلها مبدل، فنصر الرسل حتم لا بد منه، والتبديل: جعل شيء بدلًا من شيء آخر، وتبديل الكلمات والأقوال نوعان:
١ - تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول، وكلمة مكان أخرى، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾.
٢ - تبديل مدلولها ومضمونها، كمنع نفاذ الوعد والوعيد، أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق، وهذا الأخير هو المراد هنا.
ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي قد جاءك يا محمد من خبر المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل
(١) الشوكاني.
283
في القرآن ما فيه كفاية وتأس لك بهم، كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم. فقد روي أن سورة الأنعام نزلت بين سورة الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل. وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك، كعاقبة المكذبين للرسل، فيرجعون إليك، ويدخلون في الدين الذي أنت تدعوهم إليه طوعًا أو كرهًا.
وكما وعد الله رسله بالنصر.. وعد المؤمنين به في نحو قوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)﴾، وفي قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فما بالنا نرى كثيرًا ممن يدَّعون الإيمان في هذا الزمان غير منصورين، فلا بد إذًا من أن يكونوا في إيمانهم غير صادقين، ولأهوائهم متبعين، ولسنته في أسباب جاهلين، فالله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرى الحق والعدل في حربه، لا الظالم الباغي من خلقه، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه، كما جاء في قوله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)﴾.
٣٥ - ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ الشأن ﴿كَبُرَ﴾ وشق وعظم ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ وإبائهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه. ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ وقدرت ﴿أَنْ تَبْتَغِيَ﴾ وتطلب ﴿نَفَقًا﴾ ومنفذًا وسربًا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أن تتخذ منفذًا تنفذ به إلى جوف الأرض، والنفق: سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر.
وقرأ نبيح الغنوي: ﴿أن تبتغي نافقاء﴾ والنافقاء ممدودًا: هو أحد مخارج جحر اليربوع.
﴿أَوْ﴾ تبتغي ﴿سُلَّمًا﴾ ومصعدًا ترتقي به ﴿فِي السَّمَاءِ فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ ومعجزة من جنس ما اقترحوه وطلبوه منك من تحت الأرض، أو من فوق السماء.. فأفعل ذلك، ولكنك لا تستطيع ذلك، فدع الحزن: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾.
284
والمعنى: وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم، فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقًا تطلبه في الأرض، فتذهب في أعماقها، أو سلمًا في جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك.. فأت بما يدخل تحت طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض، أو تنزيل كتاب تحمله من السماء، وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾؛ أي: وليس ذلك في قدرة البشر، وإن كان رسولًا فالرسل لا يقدرون على شيء مما يعجز عنه البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.
وخلاصة ذلك: أنك لن تستطيع الإتيان بشيء من تلك الآيات، ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك؛ لعلمه أنه لن يكون سببًا لما تحبه من هدايتهم. والمقصود من هذا الكلام: أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر، وهذا دليل على مبالغة حرصه - ﷺ - على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء.. لفعل رجاءً لإيمانهم.
ثم أكد عدم إيمانهم، فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى ﴿لَجَمَعَهُمْ﴾؛ أي: لجمع هؤلاء المكذبين لك ﴿عَلَى الْهُدَى﴾ جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك، ولله الحكمة البالغة؛ أي: ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه؛ إما بأن يجعل الإيمان ضروريًّا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت، وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾ يا محمَّد ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾؛ أي: إذا عرفت سننه تعالى في خلق
285
الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله.. فلا تكونن من الجاهلين لسننه في ذلك، فتتمنى ما تراه حسنًا نافعًا، وإن كان حصوله ممتنعًا؛ لكونه مخالفًا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية. فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك، هو صنيع أهل الجهل، ولست منهم، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة، فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها.. لكان إيمانهم بها اضطرارًا، أو المعنى: ولا تجزع على إعراضهم عنك، ولا يشتد تحزنك على تكذيبهم بك، فإن فعلت ذلك.. فتقارب حالك من حال الجاهلين الذين لا صبر لهم.
وخلاصة ذلك: لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شؤونه تعالى في خلقه.
الإعراب
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿منهم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿يَسْتَمِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ووحد الضمير في الفعل حملًا على لفظ ﴿مَنْ﴾ وما جاء منه على لفظ الجمع فعلى معنى ﴿مَنْ﴾ نحو: ﴿مَّن يَسْتَمِعُونَ﴾ و ﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿وَجَعَلْنَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿جعلنا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية المذكورة قبلها، أو مستأنفة مسوقة للإخبار بما تضمنته من الختم على قلوبهم وسمعهم، وجعلنا بمعنى: صيرنا يتعدى إلى مفعولين. ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف مفعول ثانٍ لـ ﴿جعلنا﴾. ﴿أَكِنَّةً﴾: مفعول أول لـ ﴿جعلنا﴾، والتقدير: وجعلنا أكنة مستقرة على قلوبهم. ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المنصوب على كونه
286
مفعولًا لأجله تقديره: وجعلنا على قلوبهم أكنة كراهية فقههم إياه. ﴿وَفِي آذَانِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على قوله: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جعلنا﴾. ﴿وَقْرًا﴾: معطوف على ﴿أَكِنَّةً﴾ على كونه مفعولًا أولًا لـ ﴿جعلنا﴾، ولا يعد الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف فصلًا، والتقدير: وجعلنا وقرًا مستقرًا في آذانهم.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. (يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿كُلَّ آيَةٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ورأى بصرية تتعدى لمفعول واحد ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿بِهَا﴾: جار ومجرور متعلقان بالفعل ﴿يُؤْمِنُوا﴾ ﴿حَتَّى﴾: ابتدائية تبتدأ بعدها الجمل، أو غائية لا عمل لها. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿يُجَادِلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿جَاءُوكَ﴾. ﴿يَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿يقول﴾، وإن شئت قلت: ﴿إنْ﴾ نافية لا عمل لها لانتقاض نفيها بـ ﴿إلا﴾. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر واستثناء لا عمل لها. ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾.
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
﴿وَهُمْ﴾ الواو: حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿يَنهَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: ينهون الناس. ﴿عَنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من الفاعل
287
في قوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. ﴿وَيَنْأَوْنَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَنْهَوْنَ﴾. ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ﴾: الواو: عاطفة على محذوف. ﴿إن﴾: نافية لا عمل لها. ﴿يُهْلِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: وهم ينهون عنه وينأون عنه؛ أي: عن الرسول، أو القرآن قاصدين تخلي الناس عن الرسول فيلهلكونه، وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم، ذكره أبو حيان. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾: الواو: حالية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَشْعُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يُهْلِكُونَ﴾.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿لو﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، ومفعول ترى محذوف تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا على النار، وجواب ﴿لو﴾ محذوف أيضًا تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا على النار.. لرأيت أمرًا عجيبًا، وشأنًا فظيعًا، وجملة ﴿لو﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، وعبر بـ ﴿إذ﴾ عما في المستقبل إشعارًا بتحقق وقوعه، والظرف متعلق بـ ﴿ترى﴾. ﴿وُقِفُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿عَلَى النَّارِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿فَقَالُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وُقِفُوا﴾: ﴿يَا لَيْتَنَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا قومنا ليتنا، أو ﴿يا﴾: حرف تنبيه، فلا حذف. ﴿ليتنا﴾: ﴿ليت﴾: حرف تمنٍ ونصب، ونا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. ﴿نُرَدُّ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير المتكلمين، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿ليت﴾، وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نُكَذِّبَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة وجوبًا بعد الواو العاطفة، وفاعله ضمير المتكلمين.
288
﴿بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نكذب﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيَّد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: يا قومنا نتمنى ردنا إلى الدنيا، وعدم تكذيبنا بآيات ربنا. ﴿وَنَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿نُكَذِّبَ﴾ منصوب بأن مضمرة، واسمها ضمير المتكلمين. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿نكون﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿نُكَذِبَ﴾ على كونها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد تقديره: يا قومنا نتمنى ردنا إلى الدنيا، وعدم تكذيبنا بآيات ربنا، وكوننا من المؤمنين. هذا على قراءة النصب في الفعلين، وأما على قراءة رفعهما ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾: الواو: حالية، وجملة ﴿نكذِّبُ﴾ في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا، والجملة الإسمية في محل النصب حال من نائب فاعل ﴿نُرَدُّ﴾، وجملة ﴿نكون﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿نكذِّبُ﴾ على كونها خبر المبتدأ المحذوف، والجملة الإسمية في محل النصب حال من نائب فاعل ﴿نُرَدُّ﴾، والتقدير: يا ليتنا نرد غير مكذبين، وكائنين من المؤمنين، فيكون تمني الرد مقيدًا بهاتين الحالتين، فيكون الفعلان داخلين في المتمنى، ويحتمل كون الرفع في الفعلين بالعطف على الفعل قبلهما، وهو ﴿نُرَدُّ﴾، ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء: الرد إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين.
﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب عما يدل عليه التمني من رغبتهم في الإيمان؛ أي: ليس الأمر كما يدل عليه تمنيهم من خلوص رغبتهم في الإيمان، بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل من الشرك؛ لأنهم قالوا أولًا: والله ربنا ما كنا مشركين. ﴿بَدَا﴾: فعل ماضٍ. ﴿لهَمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل ﴿بَدَا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها سابقًا بقولنا: ليس الأمر كما يدل عليه تمنيهم على كونها مستأنفة. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يُخْفُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿يُخْفُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾،
289
وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يخفونه من قبل. ﴿وَلَوْ رُدُّوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿رُدُّوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَعَادُوا﴾: اللام: رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿عادوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عادوا﴾. ﴿نُهُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿عَنْهُ﴾. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾: الواو: استئنافية أو اعتراضية. ﴿إنّ﴾: حرف نصب، والهاء في محل النصب اسمها. ﴿لَكَاذِبُونَ﴾: اللام: حرف ابتداء زحلقت عن محلها. ﴿كاذبون﴾: خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، أو معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو ﴿وَقَالُوا﴾، والمعطوف عليه الذي هو، قوله: ﴿لَعَادُوا﴾.
﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو: استئنافية أو عاطفة. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿لَعَادُوا﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿لو﴾. ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هِىَ﴾: مبتدأ. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿حَيَاتُنَا﴾: خبر ومضاف إليه. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿حياتنا﴾، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية حجازية تعمل عمل ليس. ﴿نَحْنُ﴾ في محل الرفع اسمها. ﴿بِمَبْعُوثِينَ﴾: الباء: زائدة في خبر ﴿ما﴾. ﴿مبعوثين﴾: خبرها منصوب، وعلامة نصبه الياء المقدرة الممنوع ظهورها بالياء المجلوبة لأجل حرف جر زائد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قالوا﴾.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ
290
بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)}.
﴿وَلَوْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد وهو محذوف تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة ﴿لو﴾ مع جوابها المحذوف مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان بحسب الأصل، ولكنها مضمنة هنا معنى الاستقبال في محل النصب على الظرفية، مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿ترى﴾. ﴿وُقِفُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿وقفوا﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، أو حال من ربهم. وفي "الفتوحات": في (١) هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها استئنافية في جواب سؤال مقدر تقديره: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ قال: قال لهم: أليس هذا بالحق؟
والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحب الحال ربهم، كأنه قيل: وقفوا عليه قائلًا لهم أليس هذا بالحق؟ اهـ "سمين".
﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. ﴿ليس﴾ هو: فعل ماض ناقص. ﴿هَذَا﴾ في محل الرفع اسمها. ﴿بِالْحَقِّ﴾ الباء: زائدة في خبر ﴿ليس﴾. ﴿الحق﴾: خبرها، وجملة ﴿ليس﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالوُا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿بَلَى وَرَبِّنَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات النفي المفهوم من السؤال. ﴿وَرَبِّنَا﴾: الواو: حرف جر وقسم. ﴿ربنا﴾: مقسم به ومضاف إليه مجرور بواو القسم، الجار والمجرور
(١) الفتوحات.
291
متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم وربنا، والجملة القسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَذُوقُوا﴾: الفاء: حرف موضوع للدلالة (١) على ترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا. ﴿ذوقوا﴾: فعل وفاعل. ﴿الْعَذَابَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِمَا﴾ الباء: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكفُرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: فذوقوا العذاب بسبب كفركم في الدنيا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾، ويصح أن تكون ﴿ما﴾ موصولًا اسميًّا عائده محذوف تقديره: فذوقوا العذاب بسبب شرككم الذي كنتم تكفرون به في بعض المواقف بقولكم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَسِرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿بَغْتَةً﴾: منصوب على الحالية من الساعة، ولكن على تأويله بالمشتق تقديره: مباغتة ومفاجئة لهم. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿بَغْتَةً﴾ في نصبها أربعة أوجه:
أحدها: أنها مصدر في موضع الحال من فاعل ﴿جَاءَتْهُمُ﴾؛ أي: مباغتة، أو من مفعوله؛ أي: مبغوتين.
(١) الجمل.
292
الثاني: أنها مصدر معنوي لـ ﴿جَاءَتْهُمُ﴾؛ لأن معنى جاءتهم: بغتتهم بغتة، فهو كقولهم: أتيته ركضًا.
الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف من لفظها؛ أي: تبغتهم بغتة.
الرابع: بفعل من غير لفظها؛ أي: أتتهم بغتة انتهى. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حتى﴾ الغائية تقديره: استمروا على التكذيب إلى قولهم: يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة وقت مجيئها إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كذبوا﴾. ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿حسرتنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿مَا فَرَّطْنَا﴾: ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿فَرَّطْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرَّطْنَا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿على﴾ تقديره: على تفريطنا فيها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿حسرتنا﴾؛ لأنه في الأصل مصدر لفرَّط المضعف، والتفريط: التقصير مع القدرة على تركه.
﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾.
﴿وَهُمْ﴾: الواو: حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالوا يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم. ﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَحْمِلُونَ﴾. ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه. ﴿سَاءَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل، وجملة ﴿يَزِرُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ساء الذي يزرونه، أو ساء شيء يزرونه، ويصح أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، وهي مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية تقديره؛ ألا ساء وزرهم، والمخصوص بالذم حملهم ذلك.
293
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿الْحَيَاةُ﴾: مبتدأ. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لَعِبٌ﴾: خبر المبتدأ ﴿وَلَهْوٌ﴾: معطوف عليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَلدَّارُ﴾: الواو: استئنافية. اللام: موطئة لقسم محذوف. ﴿الدار﴾: مبتدأ. ﴿الْآخِرَةُ﴾: صفة الدار؛ لأنه في الأصل صفة بمعنى المتأخرة. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿يَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، و ﴿خَيْرٌ﴾ أفعل التفضيل، وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبرًا، والتقدير: خير من الحياة الدنيا. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: الهمزة، للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: أتغفلون عن خيرية الدار الآخرة من الدنيا، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، والمحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿نَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ﴿إنّ﴾ حرف نصب وتوكيد، وكسرت همزتها لدخول اللام المعلقة لنعلم عن العمل في خبرها قال ابن مالك:
وَكَسَرُوْا مِنْ بَعْدِ فِعْلٍ عُلِّقَا بِاللَّامِ كَاعْلَمْ إِنَهُ لَذُوْ تُقَى
والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها. ﴿لَيَحْزُنُكَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء زحلقت للخبر؛ لئلا يتوالى حرفا تأكيد. ﴿يحزنك﴾: فعل ومفعول. ﴿الَّذِي﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي ﴿نَعْلَمُ﴾. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يقولونه.
﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
﴿فَإِنَّهُمْ﴾ الفاء: تعليلية. ﴿إنّ﴾: حرف نصب، والهاء: اسمها ﴿لَا﴾:
294
نافية. ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل محذوف معلوم من السياق تقديره: لا تحزن لتكذيبهم إياك في الظاهر؛ لأنهم لا يكذبونك في السر. ﴿وَلَكِنَّ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: اسمها منصوب بالياء. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يجحدون﴾، وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾.
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: الواو: استئنافية. اللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كذبت﴾، ولا يجوز أن يكون صفة لـ ﴿رُسُلٌ﴾؛ لأنه زمان، والجثة لا توصف بالزمان ذكره أبو البقاء، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿فَصَبَرُوا﴾: الفاء: عاطفة. ﴿صبروا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كُذِّبَتْ﴾ على كونها جواب قسم لا محل لها من الإعراب. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿كُذِّبُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿على﴾، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿صبروا﴾، والتقدير: فصبروا على تكذيب الكافرين إياهم. ﴿وَأُوذُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ﴾؛ أي: كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿صبروا﴾؛ أي: فصبروا إلى إتيان نصرنا إياهم. ﴿وَلَا مُبَدِّلَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿مُبَدِّلَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُبَدِّلَ﴾، وخبر ﴿لا﴾ محذوف تقديره: ولا مبدل لكلمات الله موجود، وجملة ﴿لا﴾ مستأنفة. ﴿وَلَقَدْ﴾: الواو: استئنافية،
295
واللام موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكَ﴾: فعل ومفعول. ﴿مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاء﴾، وفاعل ﴿جاء﴾ محذوف تقديره: ولقد جاءك من نبأ المرسلين ما فيه كفاية، كما سبق في مبحث التفسير، ويحتمل كون الفاعل من نبأ المرسلين على جعل ﴿مِن﴾ زائدة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: الواو: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماضٍ، شأنية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها، واسمها ضمير الشأن. ﴿كَبُرَ﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾: فاعل، ومضاف إليه وجملة ﴿كَبُرَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كاَنَ﴾ مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن، ولا حاجة إلى تقدير: قد، وقيل: اسم كان ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾، و ﴿كَبُرَ﴾ جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لـ ﴿كان﴾ مقدم على اسمها؛ لأنها فعل رافع لضمير مستتر كما هو المشهور. اهـ "أبو السعود"، والإتيان بلفظ ﴿كاَنَ﴾ مع استقامة المعنى بدونها ليبقى الشرط على مضيه، ولا تقلبه إن للاستقبال؛ لأن ﴿كَانَ﴾ لقوة دلالتها على المضي لا تقلبها كلمة ﴿إن﴾ إلى الاستقبال بخلاف سائر الأفعال. اهـ "كرخي". ﴿فَإِنِ﴾: الفاء: رابطة الجواب جوازًا. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿اسْتَطَعْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الثانية محذوف تقديره: فافعل ذلك، وجملة ﴿إن﴾ الثانية مع جوابها المحذوف جواب لـ ﴿إن﴾ الأولى وجملة ﴿إن﴾ الأولى مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿أَنْ تَبْتَغِيَ﴾: ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَبْتَغِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿نَفَقًا﴾: مفعول به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَفَقًا﴾، أو متعلق بـ ﴿تَبْتَغِيَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فإن استطعت ابتغاء نفق في الأرض أو سلم في السماء. ﴿أَوْ سُلَّمًا﴾: معطوف على نفقًا. ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: صفة لـ ﴿سُلَّمًا﴾، أو متعلق بـ ﴿تَبْتَغِيَ﴾.
296
﴿فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾: الفاء: عاطفة ﴿تأتي﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿تَبْتَغِيَ﴾ والهاء: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿بِآيَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تأتي﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾: الواو: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، ﴿لَجَمَعَهُمْ﴾: اللام رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿جمعهم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. ﴿عَلَى الْهُدَى﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جمع﴾. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سننه تعالى في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك ﴿لا تكونن﴾ ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير مستتر فيها تقديره: أنت يعود على محمد ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾: جار ومجرور، وخبر ﴿تَكُونَنَّ﴾، وجملة ﴿تَكُونَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ جمع كنان، كأزمة جمع زمام، وأعنة جمع عنان، وفي "المصباح": كننته أكنه من باب ردَّ سترته في كنه بالكسر، وهو: السترة، وأكننته: أخفيته. وقال أبو زيد: الثلاثي والرباعي لغتان في الستر، وفي الإخفاء جميعًا واكتن الشيء واستكن: استتر، والكنان: الغطاء وزنًا، ومعنى، والجمع: أكنة مثل: أغطية انتهى.
وقال بعضهم: الكنُّ بالكسر ما يحفظ فيه الشيء، وبالفتح: المصدر، يقال: كننته كنًّا؛ أي: جعلته في كن، ويجمع على أكنان، قال تعالى: ﴿مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾، والكنان: الغطاء الساتر والوعاء الجامع قال الشاعر:
297
إِذَا مَا انْتَضَوْهَا في الْوَغَى مِنْ أَكِنَّةٍ حَسِبْتَ بُرُوْقَ الْغَيْثِ هَاجَتْ غُيُوْمُهَا
والفعل من هذه المادة يستعمل ثلاثيًّا ورباعيًّا يقال: كننت الشيء كنًّا وأكننته إكنانًا إلا أن الراغب فرَّق بين فعل وأفعل، فقال: وخصَّ كننت بما يستر من بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)﴾ وأكننت بما يستر في النفس قال تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ قلت: ويشهد لما قاله قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)﴾، وقوله تعالى: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾، وكنا يجمع على أكنة في القلة والكثرة لتضعيفه اهـ "سمين".
﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ في "المصباح": الوقر بالكسر: حمل البغل والحمار، ويستعمل في البعير، وأوقر بعيره بالألف، وقرت الأذن توقر من باب تعب ووقرت تقر من باب وعد: ثقل سمعها، ووقرها الله وقرًا من باب وعد، يستعمل لازمًا ومتعديًا، والوقار: الحمل والرزانة، وهو مصدر وقر بالضم مثل: جمل جمالًا، ويقال أيضًا: وقر يقر من باب وعد فهو وقور مثل رسول، والمرأة وقور أيضًا فعول بمعنى فاعل، مثل صبور وشكور، والوقار: العظمة أيضًا والوقر بالفتح الثقل في السمع.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ والآية: العلامة الدالة على صدق الرسول - ﷺ - ﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وفي "المختار": والأساطير: الأباطيل، والواحد: أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر انتهى.
وفي "السمين": وأساطير فيه أقوال:
أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختلف في ذلك المقدر فقيل: أسطورة، وقيل: أسطور، وقيل: أسطار، وقيل: أسطير، وقال بعضهم: بل لُفظ بهذه المفردات.
والثاني: أنه جمع جمع، فأساطير جمع: أسطار، وأسطار جمع: سطر بفتح الطاء، وأما سطر بسكونها فجمعه في القلة على أسطر، وفي الكثرة على سطور، كفلس وأفلس وفلوس، وبقية الأقوال ليس بشيء، فلا نطيل الكلام بذكرها، فراجعها في "الفتوحات".
298
ومعنى الأساطير: الأحاديث الباطلة والخرافات والترهات.
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أصله: ينهيون، استثقلت الضمة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان وهما: الياء والواو، ثم حذفت الياء فصار: ينهون.
﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ وفي "المصباح": نأى نأيًا من باب سعى يتعدى بنفسه وبالحرف، وهو الأكثر، فيقال: نأيته ونأيت عنه، ويتعدى بالهمزة إلى الثاني فيقال: أنأيته عنه انتهى. والنأي عنه يشمل الإعراض عن سماعه، والإعراض عن هدايته، وأصله: ينأيون كينهيون فعل به ما فيه فعل آنفًا.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا﴾ ووقف يتعدى، ولا يتعدى، وفرقت العرب بينهما بالمصدر، فمصدر اللازم على فعول، ومصدر المتعدي على فعل، ولا يقال: أوقفت، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في شيء من كلام العرب: أوقفت فلانًا إلا أني لو رأيت رجلًا واقفًا فقلت له: ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنًا، وإنما كان حسنًا؛ لأن تعدي الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحك وأضحكته أنا، ولكن سمع غيره في وقف المتعدي أوقفته اهـ "سمين". ويقال: وقف الرجل على الأرض وقوفًا إذا قام، ووقف المال على كذا وقفًا إذا حبسه عليه، وجعل منفعته له، كوقف العقار على الفقراء.
﴿إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾: والساعة في اللغة: الزمن القصير المعين، ثم أطلق على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة، ويخرب العالم وما يتبع ذلك من البعث والحساب، سُمي بذلك لسرعة الحساب فيه، كأنه ساعة، والألف واللام في الساعة للغلبة كالنجم والثريا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة. والبغتة: الفجأة، يقال: بغته بغتة إذا هجم عليه من غير شعور، والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ له، وجعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به، ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه: بغتة.
﴿يَا حَسْرَتَنَا﴾ والحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، وشدة التلهف والتألم عليه، كأن المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكب.
299
﴿عَلَى مَا فَرَّطْنَا﴾ التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله، والتقصير ممن قدر على الجد والتشمير من الفرط، وهو السبق، ومنه الفارط والفرط، وهو الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾ جمع وزر بكسر أوله كحمل وأحمال وعدل وأعدال، والوزر في الأصل: الحمل الثقيل، ومنه وزره بزنة وعده: حمله على ظهره ووزرته حملته شيئًا ثقيلًا ووزير الملك من هذا؛ لأنه يتحمل أعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته وحشمه، ومنه: أوزار الحرب لسلاحها وآلها، ثم أطلق في الدين على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل الظهر.
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ واللعب: الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدًا صحيحًا من تحصيل منفعة، أو دفع مضرة، كأفعال الصبيان التي يتلذذون بها، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وقد يسمى كل ما به استمتاع لهوًا، ويقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوًا وتلهيت به إذا تشاغلت وغفلت به عن غيره. ﴿لَيَحْزُنُكَ﴾ الحزن: ألم يحل بالنفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه، ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسي كما قالت الخنساء:
وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِيْنَ حَوْلِيْ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِيْ
وَمَا يَبْكُوْنَ مِثْلَ أَخِيْ وَلَكِنْ أُسَلِّيْ النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّيْ
﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ يقال: كذبه إذا رماه بالكذب والجحود، والجحد: نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه، ويقال: جحده حقه وبحقه.
﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ وكلمات الله هي وعده ووعيده، ومن ذلك وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالغلب والخذلان، كقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
﴿مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ النبأ: الخبر ذو الشأن العظيم يجمع على: أنباء كسبب وأسباب.
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ يقال: كبر على فلان الأمر إذا عظم عنده وشق
300
عليه وقعه، والإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارًا له.
﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ استطاع من باب استغفل السداسي كاستعان واستقام يقال: استطعت الشيء إذا صار في طوعك منقادًا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله. ﴿أَنْ تَبْتَغِيَ﴾ ابتغى من باب افتعل الخماسي، والابتغاء: طلب ما في طلبه كلفة ومشقة من البغي، وهو تجاوز الحد، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله تعالى، وهو غاية الكمال، وفي الشر كابتغاء الفتنة، وهو غاية الضلال.
﴿نَفَقًا﴾ والنفق: السرب في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج، وفي "السمين" النفق: السرب النافذ في الأرض، وأصله في حجرة اليربوع، ومنه: النافقاء والقاصعاء انتهى.
﴿أَوْ سُلَّمًا﴾ والسلم: المصعد والمرقاة، وقيل: الدرج، وقيل: السبب تقول العرب: اتخذني سلمًا لحاجتك؛ أي: سببًا، وهو مشتق من السلامة؛ لأنه هو الذي يسلمك إلى مصعدك وتذكيره أفصح من تأنيثه.
﴿بِآيَةٍ﴾ الآية: المعجزة ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ جمع: جاهل من الجهل، والجهل هنا ضد العلم، وليس كل جهل عيبًا؛ لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علمًا، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه، ثم بجهل ما ينبغي له، ويعدله كمالًا إذا لم يكن معذورًا في جهله.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية أو التمثيلية في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾؛ لأن الظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة؛ بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعها.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لتسجيل الكفر عليهم، وفي قوله: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ لتسجيل الظلم عليهم.
301
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾؛ لأن فيه التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة، فإن قوله: ﴿جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ خطاب للرسول - ﷺ -.
ومنها: جناس التصريف في قوله: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ وهو (١) أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف، ﴿فينهون﴾ انفردت بالهاء، ﴿وينأون﴾ انفردت بالهمزة، ومنه: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ و ﴿يفرحون﴾ و ﴿يمرحون﴾، "والخيل معقود في نواصيها الخير"، وفي كتاب "التحبير" سماه تجنيس التحريف، وهو أن يكون الحرف فرقًا بين الكلمتين، وأنشد عليه قوله:
إِنْ لَمْ أَشِنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً لَهَّابَ مَالٍ أَوَ ذَهَّابَ نُفُوْسِ
وذكر غيره أن تجنيس التحريف هو أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، كقول بعض العرب وقد مات له ولد: اللهم إني مسلم ومسلم.
ومنها: إبراز الآتي بصورة الماضي في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ إشعارًا بتحقق الوقوع.
ومنها: الإتيان بضمير مبهم يفسره خبره في قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾؛ إذ لا يعلم ما يراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها لفظًا ورتبة اهـ "سمين".
ومنها: تأكيد الجواب بالقسم في قوله: ﴿بَلَى وَرَبِّنَا﴾؛ أكدوا اعترافهم باليمين إظهارًا لكمال يقينهم بحقيته، وإيذانًا بصدور ذلك عنهم للرغبة والنشاط..
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾؛ لأنه شبه من استعاض الكفر عن الإيمان بمن خسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله.
ومنها: الإضافة للتفخيم والتعظيم لشأن المضاف في قوله: ﴿بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾؛
(١) البحر المحيط.
302
أي: جزائه تعظيمًا لشأن الجزاء، وهو نظير قوله - ﷺ -: "لقى الله وهو عليه غضبان"؛ أي: لقي جزاءه.
ومنها: تعريف العهد في قوله: ﴿إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ﴾ بدون تقدم ذكر لها لشهرتها واستقرارها في النفوس.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَا حَسْرَتَنَا﴾ تنزيلًا لها منزلة العاقل؛ لأنه لا ينادى حقيقة إلا العاقل.
ومنها: تصدير الجملة الحالية بالضمير في قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾؛ لأنه أبلغ في النسبة؛ إذ صار صاحب الحال مذكورًا مرتين من حيث المعنى.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾؛ لأنه شبه ما يجدونه من المشقة والآلام بسبب ذنوبهم يحمل الوزر الثقيل؛ أي: الحمل الثقيل.
ومنها: الجناس المغاير بين قوله: ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾، وقوله: ﴿يَزِرُونَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، وقوله: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ﴾.
ومنها: القصر في مواضع كقوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾، وقوله: ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾؛ إذ قبله بآيات الله، فلو جاء على طبق ذلك لقيل: حتى أتاهم نصره. وفائدة هذا الالتفات: إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المشعر بالعظمة.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾؛ حيث أكدت الصيغة بإن وباللام وباسمية الجملة، للتنبيه على أن الكذب كان طبيعتهم.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ حيث جعل الدنيا نفس اللعب واللهو مبالغة، كقول الخنساء:
303
فَإِنَّمَا هِي إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
ومنها: التفخيم والتكثير بتنوين رسل في قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾.
ومنها: تصدير الجملة بالقسم لتأكيد التسلية في قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾؛ لأن عموم البلوى مما يهون أمرها بعض تهوين.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
فائدة: قال الإِمام فخر الدين الرازي: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ يقتضي (١) له جوابًا، وقد حذف تفخيمًا للأمر وتعظيمًا للشأن، وأشباهه كثير في القرآن والشعر، وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك لو قلت لغلامك: واللهِ لئن قمت إليك، وسكت عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر، وعظم خوفه؛ لأنه لم يدر أيَّ الأقسام تبغي، ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك، فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئًا غير الضرب، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرًا في حصول الخوف.
وقال (٢) أبو حيان: وجواب ﴿لو﴾ محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره: لرأيت أمرًا شنيعًا وهولًا عظيمًا، وحذف جواب ﴿لو﴾ لدلالة الكلام عليه جائز، فيصح، ومنه: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ الآية، وقول الشاعر:
وَجَدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُوْلُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
أي: لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) التفسير الكبير للرازي.
(٢) البحر المحيط.
304
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ.....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما بين في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إلجاءً بالآيات التي تقسرهم على ذلك، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين في الاستعداد، مختارين في تصرفاتهم وأعمالهم، ومنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى.. ذكر هنا أن
(١) المراغي.
305
الأولين هم الذين ينظرون في الآيات، ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين فيما سلف أنه قادر على أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها، ولا ينزلها للتشهي والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الظالمين المكذبين.. ذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير في الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته، فلو كان في إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين.. لفعلها، ولامتنع أن يبخل بها، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شيء من الحيوان بمنافعها ومصالحها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بيَّن فيما سلف للمشركين أن علمه محيط بحسب في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان مشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميِّز به بين ما ينفعها ويضرها.. أمر نبيه - ﷺ - أن يوجه إليهم هذا السؤال، مذكرًا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عزَّ اسمه، ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد.. ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾، وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان، وما وضعوا رمزًا له من ملك أو إنسان.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ...﴾ الآية، مناسبة (٢) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما هددهم في الآيات السالفة بإتيان
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط بتصرف.
306
العذاب أو الساعة.. هددهم هنا بأخذ سمعهم وأبصارهم، والختم على قلوبهم، ولما كان هذا التهديد أخف من التهديد السابق.. لم يؤكد هنا بحرف الخطاب، واكتفى بخطاب الضمير فقال: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ بلا كاف، ولما كان السابق أعظم من هذا.. أكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقال: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾، وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى، وأنه المتصرف في العالم، الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئًا.
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ لله ولرسوله - ﷺ - دعوته إلى الإيمان والتوحيد ﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: المؤمنون الذين يسمعون كلام الله تعالى، وسنة رسوله - ﷺ - سماع تفهم وتدبر، فيعقلون الآيات، ويذعنون لما عرفوا بها من الحق، لسلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم دون الذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، كالمقلدين الذين لا يفكرون في الأشياء بعقولهم، ودون الذين قالوا: سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين، فهؤلاء من موتى القلوب، وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون، لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة، وفي آذانهم من الوقر. ﴿وَالْمَوْتَى﴾؛ أي: الكفار الذين هم كموتى الأجساد الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاءً، ولا يفقهون قولًا؛ إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله تعالى، ولا يعتبرون بآياته، ولا يتذكرون فينزجرون عن تكذيب رسل الله ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: يترك أمرهم في الدنيا إلى أن يبعثهم الله تعالى من قبورهم مع سائر الناس ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾؛ أي: ثم إلى موقف حسابه يرجعون، ويحشرون إليه للمجازاة، فحينئذ يسمعون فينالون ما يستحقون على كفرهم وسيىء أعمالهم، وأما قبل ذلك.. فلا يسمعون فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد.
وفي "الفتوحات" قوله: ﴿وَالْمَوْتَى﴾ إلخ مقابل لقوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ إلخ كأنه قال: والذين لا يستجيبون ولا يسمعون يبعثهم الله اهـ "خازن".
وقرىء (١): ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يَرجعون﴾ بفتح الياء وكسر الجيم من رجع اللازم.
٣٧ - ثم ذكر شيئًا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم، فقاِل: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم، ويعاندون رسوله إليهم، يعني: من رؤساء مكة، كالحارث بن عامر وأصحابه، وأبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، وأمية، وأبي بن خلف، والنضر بن الحارث. ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾؛ أي: هلا أنزل على محمد آية ومعجزة من ربه دالة على نبوته من الآيات التي اقترحناها عليه، وجعلناها شرطًا لإيماننا به، كجعل الصفا ذهبًا، وتوسيع أرض مكة، وتفجير الأنهار خلالها، أو من المعجزات التي أعطيها الأنبياء من قبله، كفلق البحر وإظلال الجبل، وإحياء الموتى، وإنزال الملائكة، وقلب العصا حية. ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾؛ أي: على تنزيل آية مما اقترحوا؛ أي: على أن يوجد خوارق للعادة كما طلبوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها، فقد مضت سنة الله تعالى بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببًا للهداية في أمة من الأمم، بل كانت سببًا في عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال، وتنزيل الآية لا يكون خيرًا لهم، بل هو شر لهم. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ شيئًا من حكم الله تعالى في أفعاله، ولا من سننه في خلقه؛ أي: لا يدرون (٢) أن في تنزيلها قلعًا لأساس التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار، وأن الله تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة، فلم يؤمنوا عند ظهورها.. لاستحقوا عذاب الاستئصال، ولم يبق لهم عذر ولا علة، كما هو سنة الله، فاقتضت رحمة الله بهم صونهم عن هذا البلاء، فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم، وإن لم يعلموا كيفية هذه الرحمة.
والخلاصة: أن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول، لا أنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه، يرشد إلى
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)﴾.
٣٨ - وقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ كلام (١) مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره؛ ليكون كالدليل على أنه قادر على تنزيل الآية، وإنما لم ينزلها محافظة على الحكم البالغة؛ أي: وما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ﴿وَلَا﴾ من ﴿طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ في أي ناحية من نواحي الأرض ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾؛ أي: إلا جماعات أمثالكم، خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم، داخلة تحت علمه وتدبيره وتقديره وإحاطته بكل شيء. قال (٢) العلماء: ما خلق الله عَزَّ وَجَلَّ في الأرض لا يخرج عن هاتين الحالتين؛ إما أن يدب على الأرض أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير؛ لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء، وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء، وإن كان ما في السماء مخلوقًا له؛ لأن الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد، وإنما ذكر الجناح في قوله: ﴿بِجَنَاحَيْهِ﴾ للتوكيد كقولك: كتبت بيدي، ونظرت بعيني.
﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ قال مجاهد؛ أي: إلا أصناف مصنفه تعرف بأسمائها، يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم، كما يقال: الإنس والناس، ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي - ﷺ - قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم.. لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
فإن قلت: ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا، وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا، فما وجه هذه المماثلة؟.
(١) أبو السعود.
(٢) الخازن.
309
قلتُ: اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة، فقيل: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبحه وتصلي له، كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلون له، وقيل: إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عَزَّ وَجَلَّ، وقيل: إنها يفهم بعضها عن بعض، ويألف بعضها بعضًا، كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضًا ويفهم بعضهم عن بعض، وقيل: أمثالكم في طلب الرزق، وتوقي المهالك، ومعرفة الذكر والأنثى، وقيل: أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب، حتى يقتص للجماء من القرناء، وقال سفيان بن عيينة؛ أي: ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائنًا ما كان. وعبارة "المراغي" هنا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ إلخ؛ أي: لا يوجد (١) نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض، ولا نوع من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس، وقد أثبت الإحصائيون الباحثون في طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها، أن النمل مثلًا يغزو بعضه بعضًا، وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخره في حمل قوته وبناء قراه إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه.
وخص دواب الأرض بالذكر؛ لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا بوجودها في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)﴾ وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها، فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمريخ فيه ماء ونبات، فلا بد أن يكون أنواع من الحيوان، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان، منها ما يرى على سطحه بالمرقب - التلسكوب - من جداول منظمة، وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك.
(١) المراغي.
310
وهذه (١) الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث في طباع الأحياء لنزداد علمًا بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته فيها إيمانًا وحكمة وكمالًا وعلمًا، ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا بما فضلهم الله به على الحيوان، فكانوا أضلَّ من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.
﴿مَا فَرَّطْنَا﴾؛ أي: ما تركنا وما أهملنا ﴿فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: في اللوح المحفوظ من الشيطان، ومن تغيير شيء منه ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيئًا من الكائنات، ما كان منها وما سيكون بحسب السنن الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى أثبت فيه جميع الحوادث، وهو خلق من عالم الغيب، وقيل: المراد بالكتاب هنا: علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتًا لا ينسى. قال الحافظ ابن كثير: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: الجميع علمهم عند الله تعالى لا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه، سواء كان بريًّا أو بحريًّا، كقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)﴾؛ أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها، وحاصر لحركاتها وسكناتها. انتهى.
وقيل: هو القرآن؛ أي: ما تركنا شيئًا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه، فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه، وحكمها، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للإنسان.
﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: ما تركنا في القرآن شيئًا من الأشياء المهمة من أمور الدين؛ إما (٢) تفصيلًا، أو إجمالًا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله - ﷺ -، وكل حكم سنه الرسول لأمته فقد ذكره الله سبحانه وتعالى في
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
311
كتابه العزيز بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، وبقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾؛ أي (١): إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام، فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر، وإن القرآن دلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة. كان ذلك في الحقيقة موجودًا في القرآن.
روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه، فقرأت امرأة جميع القرآن، فأتته فقالت: يا ابن أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾، وإن مما أتانا به رسول الله - ﷺ - أنه قال: "لعن الله الواشمة والمستوشمة".
وذُكر أن الشافعي كان جالسًا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور، فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا من كتاب الله، فقال: قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾، وقال - ﷺ -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقال عمر رضي الله عنه للمحرم الذي قتل الزنبور: لا شيء عليك.
وروي أن أبا العسيف قال للنبي - ﷺ -: اقضِ بيننا بكتاب الله، فقال - ﷺ -: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي - ﷺ - هو عين كتاب الله؛ لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب. ﴿ثُمَّ﴾ بعد انقضاء مدة الدنيا ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾؛ أي: إلى موقف حسابهم يجمعون؛ أي: يبعث الخلائق والأمم المذكورة من الإنس والدواب والطيور، ويساقون إلى موقف حسابهم حالة كونهم محشورين ومجموعين في صعيد واحد للمجازاة، وفيه
(١) المراح.
312
دلالة على أن البهائم تحشر كما يحشر بنو آدم. وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء منهم: أبو ذر، وأبو هريرة، والحسن وغيرهم، وذهب ابن عباس إلى أن حشرها: موتها، وبه قال الضحاك. والأول أرجح لهذه الآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه "يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥)﴾ قال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى بعد توفير القصاص عليها يجعلها ترابًا، وعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة وصححه.
وقرأ (١) ابن أبي عبلة ﴿وَلَا طَائِرٌ﴾ بالرفع عطفًا على موضع ﴿دَابَّةٍ﴾، وقرأ الأعرج وعلقمة: ﴿مَا فَرَّطْنَا﴾ بتخفيف الراء، والمعنى واحد.
٣٩ - ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة الدالة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحودٍ واستكبارٍ، أو تكذيب جحود على تقليد الأباء ﴿صُمٌّ﴾ آذانهم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول ﴿بكم﴾؛ أي: خرس ألسنتهم، لا ينطقون بما عرفوا من الحق تائهون ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾؛ أي: في ظلمات الكفر والجهل والحيرة، لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم، وهم يتخبطون في تلك الظلمات الحالكة: ظلمة الوثنية، وظلمة تقليد الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية. والمعنى: هم كائنون في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات، وضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار؛ لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال.
ثم بين سبحانه وتعالى أن الأمر بيده، ما شاء يفعل، فقال: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: من تعلقت مشيئته تعالى بإضلاله ﴿يُضْلِلْهُ﴾ عن طريق الهدى، كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى، وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه في البشر أن يُعرِض المستكبر عن دعوة من يراه دونه - وإن ظهر له أنه الحق - وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان
(١) البحر المحيط.
بطلانها وإثبات خلافها ما دام مغرورًا بها مكبرًا لمن جرى من الإباء عليها، والمعنى: ومن يشاء الله إضلاله.. يخلق الله الضلال فيه ويمته على الكفر، فيضل يوم القيامة عن طريق الجنة، وعن وجدان الثواب. ﴿وَمَنْ يَشَأْ﴾ هدايته ﴿يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه؛ بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله استعمالًا يعرف به الحق، ويعرف به الخير، ويعمل به بحسب سننه تعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية. والمعنى: ومن يشأ أن يجعله على طريق يرضاه وهو الإِسلام.. يجعله عليه، ويهده إليه، ويمته عليه، فلا يضل من مشى إليه، ولا يزل من ثبت قدمه عليه،
٤٠ - والاستفهام في قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ﴾ استفهام (١) تعجيب، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب. وقال الكرماني (٢): ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ كلمة استفهام وتعجب، وليس لها نظير؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين العادلين بالله الأوثان والأصنام على سبيل التخويف والتوبيخ: أخبروني ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ في الدنيا كالذي نزل بمن قبلكم من الأمم الذين كذبوا بالرسل، فقد هلك بعضهم بريح عاتية، وبعض آخر بالصاعقة، أو بمياه الطوفان المغرقة ﴿أَوْ أَتَتْكُمُ﴾ وجاءتكم ﴿السَّاعَةُ﴾ والقيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، وبعثتم لموقف الحساب ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى في هذه الأحوال ﴿تَدْعُونَ﴾ وتستغيثون لكشف ما نزل بكم من النبلاء، أم إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، فأخبروني: أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين؟.
والخلاصة: قل (٣) يا أكرم الخلق لكفار مكة: يا أهل مكة، أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا؛ كالغرق أو الخسف أو المسخ أو نحو ذلك، أو أتاكم العذاب عند قيام الساعة، أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء، أو ترجعون
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
فيه إلى الله تعالى إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة، فأجيبوا سؤالي؟ أو المعنى: إن كنتم قومًا صادقين.. فأخبروني أإلهًا غير الله تدعون إلخ.
٤١ - ثم أجاب عن ذلك بقوله: ﴿بَلْ إِيَّاهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿تَدْعُونَ﴾ وتستغيثون ﴿فَيَكْشِفُ﴾ ويزيل ﴿مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾؛ أي: إنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فيكشف التفسير الذي من أجله دعوتم بمحض مشيئته ﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾؛ أي: وتتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع. أي: ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والأندادَ إن أتاكم عذاب الله، أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيء غير الله من وثن أو صنم إذا اشتد بكم الهول، بل تدعونه وحده، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون دون كل شيء غيره، فيفرج عنكم ويزيل البلاء عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه إن شاء ذلك؛ لأنه وحده القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء دون ما تدعونه إلهًا من صنم أو وثن؛ لأن الفزع إليه تعالى عند الشدائد مما ركز في فطرة البشر، تنبعث إليه بذاتها، كما تنبعث إلى الماء عند العطش، فلا يذهب به ما يتلقَّى بالتعليم الباطل من مسائل الدين، فهم به يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذونه من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم، كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويحبونهم كحب الله، وما منشأ ذلك التقديس إلا اعتقاد القدرة على النفع والضر من غير طريق الأسباب المعروفة، لكنهم عند الشدائد وتراكم الأهوال والكروب ينسونهم، ويدعون الله وحده، ولهذا الحب والتعظيم ثلاث درجات:
١ - أعرقها في الجهل: أن يعتقد المرء في شيء من المخلوقات أنه إله ينفع ويضر بذاته، فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه.
٢ - المرتبة الوسطى: أن يعتقد أن الإله قد حل في بعض المخلوقات واتحد بها، كما تحل الروح في البدن وتدبره، فيكونان شيئًا واحدًا.
٣ - أضعف درجاته: أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء القادر على كل شيء المتصرف في كل شيء، ولكن له وسطاء بينه وبين عباده يقربونهم
إليه زلفى، ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطي ويمنع، ويضر ينفع، وهذه هي الدرجة التي كان عليها مشركو قريش، فقد حكى الله عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾. والتوحيد الخالص هو: الإيمان بأن الله يفعل ما يشاء، ويختار، وأن جميع الخلائق مسخرون لإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئًا إلا في دائرة الأسباب التي شرعها لعباده، وأن الوساطة بينه وبين عباده محصورة في تبليغ الرسول رسالته إليهم دون تصرفه فيهم، وأن شفاعة الآخرة لله وحده، يأذن بها إن شاء لمن شاء ممن ارتضى، يرشد إلى ذلك قوله تعالى لخاتم رسله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقوله: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾. وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن تلك الوساطة الشركية تنسى عند اشتداد الكروب والأهوال فقال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)﴾، وقال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)﴾.
٤٢ - ثم بين سبحانه وتعالى أن من سننه أخذ عباده بالشدائد لعلهم يرعوون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا رسلًا إلى أمم كثيرة كائنة في زمان قبل زمانك، فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا، فلم يستجيبوا لهم وخالفوهم. ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ أخذ ابتلاء واختبار، وعاقبناهم ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾؛ أي: بشدة الفقر والخوف من بعضهم ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾؛ أي: بالأمراض والأوجاع ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾؛ أي: لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتذلل، ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم؛ أي: ليكون ذلك مفيدًا لهم لأن سنتنا قد جرت بأنهم في مثل هذه الحال يتضرعون ويجأرون بالدعاء إلى ربهم، فالشدائد تربي النفوس وتهذب الأخلاق، فترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم، فأخلق بها أن ترجع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر، بل من دونهم من الأصنام والأوثان. ولكن كثيرًا من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيرها بأس، ولا يحولها بؤس، فلا تجدي معهم
العبر والمواعظ، ولا تؤثر فيهم صروف الدهر وغيره، ومنهم أولئك الأمم الذين أرسل إليهم هؤلاء الأنبياء،
٤٣ - ومن ثَمَّ قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ إلى آخر ما سيأتي. وفي هذه الآية تسلية للرسول (١) - ﷺ -، وأن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا.. لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافًا، وأشد شكيمةً، وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله - ﷺ -، إذ خاطبهم تعالى بقوله: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ الآية، وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى.
وكلمة ﴿لولا﴾ في قوله: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وإزعاج؛ أي: فهلا تضرعوا وتذللوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وعذابنا؛ أي: حين جاءتهم مقدمات العذاب وبوادره، وحذروا عواقبه وأواخره لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم. ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم وخذلانهم، فكانت الحجارة أو أشد قسوة، فلم تؤثر فيهم النذر.
وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله: ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ استدراك وقع بين الضدين؛ أي: فلم يتضرعوا إليه تعالى برقة القلب والخضوع، ولكن ظهر منهم نقيضه، حيث قست قلوبهم؛ أي: استمرت على ما هي عليه من القساوة، أو ازدادت قساوة اهـ "أبو السعود". فهذا من أحسن مواقع الاستدراك اهـ شيخنا. انتهت.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي؛ أي: فلم يؤمنوا حين جاءهم بأسنا وعذابنا ووسوس إليهم بأن يثبتوا على ما كان عليه أباؤهم، ولا ينقادوا إلى رجال منهم ضعاف الأحلام، سفهاء العقول، لا ميزة لهم عليهم بعقل راجح ولا فكر ثاقب، وقال لهم: إن حال الدنيا هكذا تكون
(١) البحر المحيط.
شدة ثم نعمة، فلم يخطروا ببالهم أن ما أصابهم من الشدائد، ما أصابهم إلا لأجل عملهم الفاسد.
٤٤ - ثم ذكر ما حل بهم من الوبال والنكال بعد أن ابتلاهم بالحسنات، فقال: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أي: فلما (١) أعرضوا عما أنذرهم به رسلهم، وتركوا الاهتداء به، وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، وأصروا على كفرهم وعنادهم، وجمدوا على تقليد من قبلهم.. بلوناهم بالحسنات، و ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: بسطنا عليهم أنواع الرزق، ورخاء العيش وصحة الأجسام، والأمن على الأنفس والأرواح استدراجًا لهم، فلم تربِّهم تلك النعم، ولا شكروا الله على ما أنعم، بل أفادتهم النعمة بطرًا وكبرًا، كما أفادتهم الشدائد عتوًا وقسوة.
والمعنى (٢): فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس.. استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.
والخلاصة (٣): أنه تعالى سلط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا، فلما لم تجد معهم شيئًا.. نقلهم إلى حال هي ضدها، ففتح عليهم أبواب الخيرات، وسهل لهم سبل الرزق والرخاء، فلم ينتفعوا أيضًا. وما مثل هذا إلا مثل الأب المشفق على ولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى طلبًا لصلاحه واستقامة حاله، وإرجاعًا له عن غيه وطغيانه.
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾؛ أي: حتى إذا اطمأنوا بما فتح لهم من الخيرات، وظنوا أن الذي أوتوا إنما هو باستحقاقهم، ولم يزدهم ذلك إلا بطرًا وغرورًا بأن ظنوا أن الذي نزل بهم من الشدائد ليس على سبيل الانتقام من الله ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾؛ أي: أنزلنا بهم عذابنا فجأة ليكون لهم أشد وقعًا وأكثر تحسرًا؛ أي: أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كونهم مبغوتين، إذ فاجأهم على غرة من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
غير سبق أمارات ولا إمهال للاستعداد أو للهرب ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾؛ أي: آيسون من النجاة، متحزنون غاية الحزن، منقطع رجاؤهم من كل خير. وفي الآية إيماء إلى أن البأساء والضراء وما يقابلها من السراء والنعماء مما يتهذَّب به من وفقهم الله للهداية، وألهمهم الرشاد والاختبار أكبر شاهد على صدق هذه القضية، فالشدائد مصلحة للفساد، مهذِّبة للنفوس، والمؤمن أجدر الناس بالاستفادة من الحوادث.
روى مسلم عن صهيب مرفوعًا: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". وروى أحمد أن النبي - ﷺ - قال "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب.. فإنما هو استدراج" ثم تلا رسول الله - ﷺ -: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ الآية.
٤٥ - ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: استؤصل آخر القوم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكهم بالكلية حتى لم يبق منه أحد؛ أي: فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك، وأعمالهم الخبيثة بالكلية أصلًا وفرعًا بسبب ظلمهم بإقامة المعاصي مقام الطاعات. ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: والثناء الكامل، والشكر التام لله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر، وتحقيق ما وعدهم به من إهلاك المشركين وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة، نعمةٌ جليلة مستحقة للحمد. قال الصاوي: هذا حمد من الله لنفسه على هلاك الكفار ونصر الرسل، وفيه تعليم المؤمنين أنهم يشكرون الله على ذلك إذ هو نعمة عظيمة انتهى.
والخلاصة: أن في الضراء والسراء للمتقين عبرة ونعمة ظاهرة أو باطنة.
وقرأ (١) ابن عامر: ﴿فتَّحنا﴾ بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل. وقرأ عكرمة: ﴿فقَطع دابر﴾ بفتح القاف والطاء والراء؛ أي: فقطع الله، وهو التفات إذ
(١) البحر المحيط.
فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب. وفي هذه الجملة إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وإيماء إلى وجوب ذكره في عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل، كما قال تعالى في وصف عباده المتقين: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
٤٦ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾؛ أي: أخبروني إن أزال الله سمعكم وأبصاركم، فأصمكم وأعماكم، وطبع على قلوبكم، وأزال عقولكم حتى لا تعرفوا شيئًا، يعني: أذهب عنكم هذه الأعضاء أصلًا ﴿مَنْ إِلَهٌ﴾؛ أي: أيُّ فرد من الآلهة الثابتة بزعمكم ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾؛ أي: بما أخذ عنكم من هذه الأعضاء ويردها لكم، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: ليس لكم إله يردها لكم، وإنما أفرد السمع وجمع ما بعده؛ لأن السمع مصدر لا يثنى ولا يجمع، بخلاف ما بعده. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت به من التوحيد والهدى: أخبروني ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم مع الله، وترجون شفاعتهم إن أصمكم الله تعالى، فذهب بسمعكم وأعماكم، فذهب بأبصاركم وختم على قلوبكم، وطبع عليها فأصبحتم لا تسمعون قولًا، ولا تبصرون طريقًا، ولا تعقلون نفعًا ولا ضرًّا، ولا تدركون حقًّا ولا باطلًا؛ ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ بما ذكر مما أخذه الله منكم؛ أي: لا إله غيره يقدر على إتيانكم بما سلب، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك، وإذا كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون، فلماذا تدعونهم؟ وما الدعاء إلا عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله القادر. ﴿انْظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ نُصَرِّفُ﴾ لهم ونكرر عليهم ﴿الْآيَاتِ﴾ الدالة على وحدانيتنا، ونتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ونجعلها على وجوه شتى متغيرة من نوع إلى نوع آخر، فتارة بترتيب المقدمات العقلية، وتارة بطريق الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ليعتبروا ويتذكروا، فينيبوا ويرجعوا إلى ربهم، فكل واحد يقوي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب ﴿ثُمَّ هُمْ﴾؛ أي: كفار مكة بعد تصريف الآيات
وتكريرها عليهم ﴿يَصْدِفُونَ﴾ ويعرضون عن تلك الآيات، ويتجنبون عن التأمل والتفكر فيها، ويلقونها وراء ظهورهم، و ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد إعراضهم عنها بعد ذكرها على الوجوه المختلفة، والغرض من هذه الجملة: تعجيب رسول الله - ﷺ - من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة.
وروى أبو قرة إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع (١): ﴿به انظر﴾ بضم الهاء، وهي قراءة الأعرج. وقرأ الجمهور بكسر هاء ﴿بِهِ﴾ في ﴿بِهِ انْظُرْ﴾. وقرأ بعض القراء: ﴿كيف نصرف﴾ من صرف الثلاثي.
٤٧ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾؛ أي: أخبروني يا أهل مكة عن شأنكم ﴿إِنْ أَتَاكُمْ﴾ وجاءكم ﴿عَذَابُ اللَّهِ﴾ الذي مضت سنة الله في الأولين بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين ﴿بَغْتَةً﴾ وفجأة؛ أي: مباغتًا ومفاجئًا لكم، فأخذكم على غرة لم تتقدمه أمارات تشعركم بقرب نزوله بكم ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾؛ أي: أو أتاكم مجاهرًا ومعاينًا لكم وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه بحيث ترون مبادئه ومقدماته بأبصاركم ﴿هَلْ يُهْلَكُ﴾ حينئذ ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: هل يهلك الله به إلا القوم الظالمين منكم، الذين أصروا على الشرك والعناد والجحود، إذ قد مضت سنته تعالى في مثل هذا العذاب أن ينجي منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين. والاستفهام هنا إنكاري.
والخلاصة: أنه لا يهلك بهذا العذاب غيركم لظلمكم أنفسكم وجنايتكم عليها بما اخترتم لها من الشرك والفجور، وعبادة من لا يستحق العبادة، وترك عبادة من هو بها حقيق وجدير. فإن قلت: إن المصيبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح، فلِمَ خص الكافر هنا بالهلاك؟
قلتُ: الجواب: إن هلاك الكفار سخط وغضب، وهلاك المؤمن إثابة ورفع درجات، فلا يسمى في الحقيقة هلاكًا.
وقرأ ابن محيصن (٢): ﴿هل يهلك﴾ مبنيًّا للفاعل.
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
(٢) البحر المحيط.
٤٨ - ثم بين وظيفة الرسل، فقال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا﴾ حالة كونهم ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ من آمن بهم بالجنة ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ من كفر بالعذاب، ولا قدرة لهم على إظهار المعجزات، بل ذلك مفوض إلى مشيئة الله تعالى؛ أي: وما نرسل المرسلين إلا ببشارة أهل الطاعة بالفوز بالجنة جزاء وفاقًا على طاعتهم، وبإنذار من أصر على الشرك والإفساد في الأرض بالعذاب؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حييَّ عن بينة. ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾ وصدق من أرسلناه إليه من رسلنا ﴿وَأَصْلَحَ﴾؛ أي: أصلح اعتقاده وعمله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من عذاب الدنيا الذي ينزل بالمكذبين الجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده الله تعالى للكافرين ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم من كل فزع وهول، كما قال سبحانه: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)﴾، وكذلك هم لا يحزنون في الدنيا كحزن المشركين في شدته وطول مدته، فإذا عرض لهم الحزن بسبب صحيح؛ لموت ولد أو قريب، أو فقد مال أو قلة نصير، يكون حزنهم مقرونًا بالصبر وحسن الأسوة، فلا يضرهم في أنفسهم ولا في أبدانهم، ولا يغير شيئًا من أخلاقهم وعاداتهم، فالإيمان يعصمهم من عنت البأساء وبطر النعماء، مسترشدين بنحو قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)﴾.
٤٩ - ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ التي أرسلنا بها رسلنا، ويبلغونها إلى الأمم ﴿يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانًا عند الجحود والعناد، وفي الآخرة على سبيل الدوام والاطراد ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾؛ أي: بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعتنا جزاء كفرهم وإفسادهم وخروجهم عن أمر الله وطاعته، وارتكابهم مناهيه ومحارمه، وهذه الجملة مقابل لقوله: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ فكأنه قال: ومن لم يؤمن يمسهم العذاب.
322
وقرأ علقمة (١): ﴿نمسهم العذاب﴾ بالنون المضمومة من أمس الرباعي، وأدغم الأعمش: ﴿العذاب بما﴾ كأبي عمرو. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: ﴿يفسقون﴾ بكسر السين.
الإعراب
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. ﴿يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَسْمَعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالْمَوْتَى﴾: مبتدأ ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُرْجَعُونَ﴾. ﴿يُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ على كونها خبر المبتدأ. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب تركتها خوف الإطالة.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ الواو: استئنافية. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض. ﴿نُزِّلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿آيَةٌ﴾: نائب فاعل. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾، أو متعلق بـ ﴿نُزِّلَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب.
(١) البحر المحيط.
323
﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿قَادِرٌ﴾: خبرها، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿عَلَى﴾ حرف جر. ﴿أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ تقديره: على تنزيله آية، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قَادِرٌ﴾. ﴿وَلَكِنَّ﴾ الواو: استئنافية. ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾: اسمها ومضاف إليه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ مستأنفة.
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية. ما: نافية. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿دَابَّةٍ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة دخول ﴿مِنْ﴾ الاستغراقية عليه، أو وصفه بما بعده. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿دَابَّةٍ﴾. ﴿وَلَا طَائِر﴾: معطوف على ﴿دَابَّةٍ﴾ تابع للفظه، وقرىء بالرفع تبعًا لمحله. ﴿يَطِيرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿طَائِرٍ﴾، والجملة صلة له. ﴿بِجَنَاحَيْهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَطِيرُ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أُمَمٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿أَمْثَالُكُمْ﴾: صفة لـ ﴿أُمَمٌ﴾، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة.
﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿فَرَّطْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرَّطْنَا﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿فَرَّطْنَا﴾ على تضمينه معنى ما أغفلنا، وما تركنا في الكتاب شيئًا يحتاج إليه من دلائل الإلهية؛ لأن فرطنا لا يتعدى إلا بواسطة حرف الجر إذا كان على معناه الأصلي، كما ذكره أبو حيان في "البحر". ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُحْشَرُونَ﴾. ﴿يُحْشَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا﴾.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق
324
بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿صُمٌّ﴾: خبر المبتدأ. ﴿وَبُكْمٌ﴾: معطوف عليه، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ثانٍ للمبتدأ تقديره: ضالون في الظلمات، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم كائنون في الظلمات. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَشَإِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: إضلاله. ﴿يُضْلِلْهُ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿وَمَن﴾ الواو: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَشَأْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: هدايته. ﴿يَجْعَلْهُ﴾: فعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَى صِرَاطٍ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة لـ ﴿صِرَاطٍ﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى.
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ الهمزة للاستفهام التعجبي. ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل، وحد الفعل رأى، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع فاعل مبني على الفتح، والكاف: حرف قال على خطاب الجماعة مبني على الضم، والميم علامة الجمع، والمفعول (١)
(١) الفتوحات.
325
الأول لـ ﴿رأيت﴾، والجملة الاستفهامية التي سدت مسد المفعول الثاني لها محذوفان، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام، هل تنفعكم؟ أو: اتخاذكم غير الله إلهًا هل يكشف ضركم؟ ونحو ذلك، فعبادتكم أو اتخاذكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادة مسد الثاني، والمعنى: أخبروني عن حال عبادتكم الأصنام، هل تنفعكم إن أتاكم عذاب الله أم لا؟ وجملة ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية معطوف على ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾، وجواب الشرط محذوف دل عليه الاستفهام في قوله: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾، والتقدير: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة.. دعوتم الله تعالى لا غيره، والجملة الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري. ﴿غَيْرَ اللَّهِ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿تَدْعُونَ﴾. ولفظ الجلالة مضاف إليه. ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾؛ أي: قل لهم: لا تدعون غير الله حينئذ. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿صَادِقِينَ﴾: خبر كان، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صادقين في أن غير الله ينفع.. فادعوه، والجملة الشرطية في محل النصب مقول القول.
﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف للإضراب الانتقالي عن النفي الذي علم من الاستفهام. ﴿إِيَّاهُ﴾: ضمير نصب في محل النصب مفعول مقدم. ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿فَيَكْشِفُ﴾: الفاء: حرف عطف وسبب. ﴿يكشف﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَدْعُونَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿يكشف﴾. ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿إِلَيْهِ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿شَاءَ﴾: فعل شرط في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، وجواب الشرط
326
محذوف تقديره: إن شاء يكشف، والجملة الشرطية في محل النصب مقول القول ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾: فعل وفاعل ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول. ﴿تُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تشركونه، وجملة ﴿تنسون﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قل﴾.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لقد﴾ اللام موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: وأقسم والله لقد أرسلنا، وجملة القسم المحذوف مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَى أُمَمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾. ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أخذناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ على كونها جواب القسم. ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أخذنا﴾. ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: معطوف على ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: لعل: حرف ترج ونصب، والهاء: اسمها، وجملة ﴿يَتَضَرَّعُونَ﴾ خبر لعل، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف تحضيض. ﴿إذْ﴾ ظرف لما مضى. ﴿جَاءَهُم﴾: فعل ومفعول. ﴿بَأْسُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿تَضَرَّعُوا﴾ فصل به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز. ﴿تَضَرَّعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، والتقدير: فلولا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ﴿وَلَكِنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾. ﴿وَزَيَّنَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به. ﴿الشَّيْطَانُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَسَتْ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول
327
به لـ ﴿زين﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾، أو صف لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه.
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿نَسُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. ﴿ذُكِّرُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾، وجملة ﴿نَسُوا﴾ فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿فَتَحْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿فَتَحْنَا﴾ جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ مستأنفة.
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء لدخولها على الجملة، وحرف غاية؛ لكون ما بعدها غاية لما قبلها. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمَّن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿فَرِحُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿إذا﴾ في محل الخفض بها. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أوتوه. ﴿أَخَذْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بَغْتَةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: أخذ بغتة، أو حال من الفاعل؛ أي: أخذناهم باغتين، أو من المفعول؛ أي: مبغوتين، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ على كونها غاية لما قبلها، والتقدير: فتحنا عليهم أبواب كل شيء إلى أخذنا إياهم وقت فرحهم بما أوتوا. ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿إذا﴾: حرف فجأة. ﴿هُم﴾: مبتدأ. ﴿مُبْلِسُونَ﴾: خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنَاهُمْ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب وقال أبو البقاء: ﴿إذا﴾ هنا
328
للمفاجأة، وهي ظرف مكان، وهي مبتدأ ﴿مُبْلِسُونَ﴾: خبره، وهو العامل في ﴿إذا﴾.
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)﴾.
﴿فَقُطِعَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قطع دابر﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿الْقَوْمِ﴾: مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿أخذنا﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: صفة للجلالة، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والميم علامة جمع المخاطبين، والمفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذهما الله، والجملة الاستفهامية الآتية في موضع المفعول الثاني، والجملة الفعلية، في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾، ولم يؤتَ (١) هنا بكاف الخطاب وأتى به هناك؛ لأن التهديد هناك أعظم، فناسب التأكيد بالإتيان بكاف الخطاب، ولما لم يؤت بالكاف.. وجب ثبوت علامة الجمع في التاء؛ لئلا يلتبس، ولو جيء معها بالكاف لاستغني بها. ﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾: حرف شرط وفعل وفاعل ومفعول. ﴿وَأَبْصَارَكُمْ﴾: معطوف على ﴿سَمْعَكُمْ﴾. ﴿وَخَتَمَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم معطوف على ﴿أَخَذَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾: متعلق به، وجواب الشرط محذوف تقديره: أغير الله يأتيكم به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿إِلَهٌ﴾: خبره. ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ صفة أولى لـ ﴿إِلَهٌ﴾. ﴿يَأْتِيكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِلَهٌ﴾،
(١) الجمل.
329
والجملة صفة ثانية لـ ﴿إِلَهٌ﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يأتي﴾، والجملة الاستفهامية في محل النصب واقعة موضع المفعول الثاني لرأيت، كما مرَّ. ﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الحال، والعامل فيه ﴿نُصَرِّفُ﴾ أو منصوب على التشبيه بالظرف، وهي معلقة لـ ﴿انْظُرْ﴾ فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر. ﴿نُصَرِّفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به، وجملة ﴿نُصَرِّفُ﴾ في محل النصب مفعول ﴿انْظُرْ﴾ معلقة عنها باسم الاستفهام. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَصْدِفُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿نُصَرِّفُ﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾: الهمزة للاستفهام التعجبي. ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل، والكاف: حرف خطاب، والميم: علامة الجمع، والمفعول الأول لها محذوف تقديره: أخبروني حالكم وشأنكم إن أتاكم عذاب الله، والمفعول الثاني جملة الاستفهام الآتية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿أَتَاكُمْ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾. ﴿عَذَابُ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه. ﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾: حالان من ﴿عَذَابُ اللَّهِ﴾؛ أي: مباغتًا أو مجاهرًا، أو منصوبان على المفعولية المطلقة، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذاب الله ما يهلك إلا القوم الظالمون، وجملة الشرط في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري. ﴿يُهْلَكُ﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْقَوْمُ﴾: فاعل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: صفته، وجملة الاستفهام في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾.
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)﴾.
330
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿نُرْسِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مُبَشِّرِينَ﴾: حال من ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾. ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾: معطوف عليه ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ثمرة إرسال المرسلين، وأردت بيان حال من آمن بهم أو كفر.. فأقول لك: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿ءَامَنَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿وَأَصْلَحَ﴾: في محل الجزم معطوف على ﴿آمَنَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَلَا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾: اسمها مرفوع. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾ تقديره: فلا خوف كائنًا عليهم، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْزَنُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿الذين﴾: مبتدأ. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿بِمَا﴾: الباء: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْسُقُونَ﴾ خبر كان، وجملة كان صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها ذهب تأويل مصدر
331
مجرور بالباء تقديره: بسبب فسقهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يمسهم﴾. وعبارة "الجمل" هنا: قوله: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ يجوز في ﴿من﴾ أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، وعلى كلا التقديرين فمحلها رفع بالابتداء، والخبر: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾، فإن كانت شرطية.. فالفاء في جواب الشرط، وإن كانت موصولة.. فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محل الجملتين الجزم، وعلى الثاني لا محل للأولى؛ لأنها صلة الموصول، ومحل الثانية الرفع على الخبرية، وحمل على اللفظ فأفرد في: ﴿ءَامَنَ﴾، وعلى المعنى فجمع في: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويقوي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ اهـ "سمين" انتهت.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يستجيب من استجاب، من باب استفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان ليستا للطلب، فهو بمعنى: يجيب، يقال: أجاب (١) الدعوة إذا أتى ما دعى إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي، واستجاب له واستجاب دعاءه إذا لباه، وقام بما دعاه إليه. والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة في المواضع التي تدل على حصول المسؤول كله بالفعل دفعة واحدة، واستعمل أفعال الاستجابة في المواضع المفيدة لحصول المسؤول بالتهيؤ والاستعداد، كقوله ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ إذ الآية نزلت في وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، فالمراد: أنهم تهيؤوا للقتال، أو الأفعال المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج، كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين، ثم بباقي أعماله بالتدريج. والاستجابة من الله يعبَّر بها في الأمور التي تقع في المستقبل، ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج، كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة، وتكفير السيئات، وإيتاء ما وعد المؤمنين في الآخرة كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ
(١) المراغي.
332
مِنْكُمْ} الآية.
والسمع والسماع يطلق على إدراك الصوت، وعلى فهم ما يسمع من الكلام - وهو ثمرة السمع - وعلى قَبول ما يفهم والعمل به، وهذا ثمرة الثمرة. والموتى: جمع ميت كقتيل جمع قتلى، والمراد بالموتى هنا: الكفار الراسخون في الكفر، المطبوع على قلوبهم، الميؤوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعي.
﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ من بعث يبعث من باب فتح، والبعث لغة: إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثت البعير؛ أي: أثرته من مبركه وسيرته إلى المرعى ونحوه.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ لولا: كلمة تحضيض تفيد الحث على حصول ما بعدها؛ لأن التحضيض معناه الطلب بحث وإزعاج، والآية المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه.
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ والدابة: كل ما يدب على الأرض من الحيوان، مأخوذة من دب يدب بالكسر - من باب ضرب - دبًّا ودبيبًا إذا مشى مشيًا فيه تقارب خطو، والدبيب: المشي الخفيف، وكل ماشٍ على الأرض دابة، وقولهم: أكذب من دب ودرج؛ أي: أكذب الأحياء والأموات. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، وجمعه: طير، كراكبٍ وركب.
والجناح (١): أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله: الميل إلى ناحية من النواحي، وإنما قيد بجناحيه لدفع الإيهام؛ لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير، كقولهم: طر في حاجتي؛ أي: أسرع فيها، وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين. وقيل: ذكر الجناحين. للتأكيد كضرب بيده، وأبصر بعينه، ونحو ذلك. والأمم: جمع أمة، وهي كل
(١) الشوكاني.
333
جماعة يجمعهم أمر واحد، كدين واحد أو زمان واحد، أو مكان واحد، أو صفات وأفعال واحدة أمثالكم جمع مثل، كأحمال وحمل، والمثل بمعنى: المثيل؛ أي: الشبيه.
﴿مَا فَرَّطْنَا﴾ فرط من باب فعَّل المضعف، والتفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت يقال: فرطه وفرط فيه إذا ضيعه وقصر فيه.
﴿فِي الْكِتَابِ﴾ الكتاب هنا: هو اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن. والحشر: هو الجمع والسوق.
﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ جمع: أصم وأبكم، كغر وأغر، وحمر وأحمر.
﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾: هو عبارة عن العمى، كما في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، والمراد (١) به: بيان كمال عراقتهم في الجهل بسوء الحال، فإن الأصم الأبكم إذا كان بصيرًا ربما يفهم شيئًا بإشارة غيره، وإن لم يفهمه بعبارته، وكذا ربما يفهم ما في ضميره بإشارته وإن كان عاجزًا عن العبارة، وأما إذا كان مع ذلك أعمى، أو كان في الظلمات، فينسد عليه باب الفهم والتفهيم بالكلية. اهـ "أبو السعود".
﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ بمعنى: أخبروني، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يذكر بعده غريب عجيب، تقوم به الحجة على المخالف. ﴿فَيَكْشِفُ﴾؛ أي: فيزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء، من كشف الشيء عن الشيء يكشف - من باب ضرب - إذا أزاله عنه ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾؛ أي: عاقبناهم بالبأساء والضراء. وفي "المصباح": يقال: أخذه الله إذا أهلكه وأخذه بذنبه: عاقبه عليه، وآخذه بالمد كذلك انتهى.
﴿بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل، كأحمر وحمراء، كما هو القياس، فإنه لا يقال: أضرر ولا: أبأس صفةً، بل للتفضيل. والبأساء: تطلق على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب، والعذاب الشديد،
(١) الجمل.
334
والقوة والشجاعة، والضراء: من الضر ضد النفع. ﴿تَضَرَّعُوا﴾ من باب تفعل الخماسي يقال: تضرع إليه إذا أظهر الضراعة والخضوع له بتكلف، والتضرع تفعل من الضراعة، وهي الذلة والهيئة المنبئة عن الانقياد إلى الطاعة، يقال: ضرع يضرع ضراعة من باب فتح، فهو ضارع وضرع، قال الشاعر:
لِيُبْكَ يَزِيْدٌ ضَارعٌ لِخُصُوْمَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيْحُ الطَّوَائِحُ
أي: ذليل ضعيف، وللسهولة والتذلل المفهومة من هذه المادة اشتقوا منها للثدي اسمًا، فقالوا له: ضرع.
﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: صلبت وغلظت عن قبول الحق من القسوة؛ لأنه من قسا يقسو من باب دعا يدعو، فهو ناقص واوي أصله: قسوت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف، فصار: قست بوزن فَعَت ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ والأخذ بالبأساء والضراء: إنزالهما بهم فجأة. ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ جمع: مبلس، وهو اليائس المنقطع رجاؤه من الإبلاس، وهو الحزن الحاصل من شدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، لشدة يأسه من رحمة الله.
وفي "المختار": أبلس من رحمة الله؛ أي: يئس، والإبلاس أيضًا الانكسار والحزن، يقال: أبلس فلان إذا سكت غمًّا. اهـ. فمبلسون بمعنى: متحسرون يائسون من النجاة.
﴿دَابِرُ الْقَوْمِ﴾؛ أي: آخرهم الذي يكون في أدبارهم، وقطع دابرهم؛ أي: هلكوا واستئصلوا بالعقاب، ولم يبق منهم أحد. ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ يقال: صرف الشيء إذا كرره على وجوه مختلفة، ومنه تصريف الرياح ﴿يَصْدِفُونَ﴾؛ أي: يعرضون عن ذلك، يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفًا وصدوفًا، وصادفته: لقيته عن إعراض عن جهته. وفي "المختار": صدف عنه: أعرض عنه، وبابه: ضرب وجلس، وأصدفه عن كذا: إذا أماله عنه. اهـ.
335
﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ والمراد (١) بالبغتة: العذاب الذي يأتيهم فجأة من غير سبق علامة، والمراد بالجهر: العذاب الذي يأتيهم مع سبق علامة تدل عليه.
﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: بلحوق العذاب.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾؛ أي: بفوات الثواب.
﴿يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ والمس: اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوء غالبًا، من ضر وشر وكبر ونصب وعذاب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾؛ لأنه شبه الكفار بالموتى بجامع عدم العقل في كلٍ، واستعير اسم المشبه به وهو الموتى للمشبه وهو الكفار، على طريقة الاستعارة التصريحية.
وقال أبو حيان (٢): وتشبيه الكافر بالميت من حيث إن الميت جسده خالٍ من الروح، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله دفنه تحت التراب، والكافر روحه خالية عن العقل، فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفته لأمره، وعدم قبوله لمعجزات الرسل، وإذا كانت روحه خالية من العقل.. كان مجنونًا، فأحسن أحواله أن يقيد؛ أي: يحبس، فالعقل بالنسبة إلى الروح، كالروح بالنسبة إلى الجسد. انتهى.
ومنها: التجريد في قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ﴾؛ لأن الطائر يندرج في الدابة.
فذكر (٣) الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم، وذكر بعض من كل، فصار من باب التجريد.
ومنها: التأكيد بقوله: ﴿بِجَنَاحَيْهِ﴾ لدفع توهم المجاز في طائر مع كون
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
336
جناحيه ترشيحًا له؛ لأن الطائر قد يستعمل مجازًا للعمل، كما في قوله تعالى: ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾؛ أي: كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجهه الشبه.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾؛ لأنه شبه كفرهم وجهلهم وضلالتهم بالظلمات الحسية، بجامع عدم الاهتداء في كل إلى المقصود، وفي قوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ لأنه شبه الأسباب التي هيأها الله لهم، المقتضية لبسط الرزق عليهم بالأبواب، بجامع الوصول إلى المقصود في كل على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه.
ومنها: القصر في قوله: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾؛ أي: لا تدعون غيره لكشف الضر، فهو قصر صفة على موصوف.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾، وفي قوله: ﴿تَضَرَّعُوا﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ﴾؛ لأنه كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
337
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما (١) كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين، وأصول العقائد، وهي توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.. ذكر هنا وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة، وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرًا وتأكيدًا وبيانًا وتفصيلًا.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا...﴾ الآية، مناسبة هذه
(١) المراغي.
338
الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته استمالةً لكبراء المتكبرين من قومه، وطمعًا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته، كما اقترحه بعض المشركين.. أمر بأن يلقى الذين يدخلون في الإِسلام آنًا بعد آنٍ عن بينة وبرهان بالتحية والسلام والتبشير برحمة الله ومغفرته، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين؛ إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإِسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي - ﷺ - يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآية مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أنه يفصِّل الآيات ليظهر الحق، وليستبين سبيل المجرمين.. ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم، وهو عبادة غير الله، وأن هذه العبادة إنما هي بمحض الهوى والتقليد، لا بسبيل الحجة والبرهان، فهي جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم، ويركبونها، ثم يعبدونها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...﴾ سبب نزولها: ما (٢) رواه ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا، وعبد الله بن مسعود، وأربعة، قالوا لرسول الله - ﷺ -: اطردهم، فإنا نستحيي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي - ﷺ - ما شاء الله، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا...﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ سبب نزولها: ما روى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
339
قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله - ﷺ -، وعنده خباب بن الأرت، وصهيب، وبلال، وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك، وهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء.. تبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عنبسة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء العبيد.. كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، فكلم أبو طالب النبي - ﷺ -، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، وكانوا بلالًا، وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصالحًا مولى أسيد، وابن مسعود، والمقداد بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وأشباههم، فأقبل عمر، فاعتذر من مقالته، فنزل: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فوجدا رسول الله - ﷺ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - ﷺ - حقروهم، فأتوه فخلوا به، فقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك.. فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا.. فاقعد معهم إن شئت، قال: "نعم"، فنزلت: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...﴾ الآية، ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية، وكان رسول الله - ﷺ - يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فنزلت: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ الآية. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي - ﷺ -، فقالوا: إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا، فما رد عليهم شيئًا، فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ
340
يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - ﴿قُلْ﴾ يا أيها الرسول الذي بعث، كما بعث غيره من الرسل مبشرًا من أجاب دعوته بحسن الثواب، ومنذرًا من لم يقبلها بسوء العقاب لهؤلاء المكذبين لك بغير علم، يميزون به بين شؤون الألوهية وحقيقة النبوة، فيقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أنه ليس في مقدور البشر، فهم إما أن يقولوه تعجيزًا، وإما أن يظنوا أن الإنسان لا يكون رسولًا إلا إذا خرج من حقيقة البشرية، وصار قادرًا على ما لا يقدر عليه البشر، وعالمًا بكل ما يعجز عنه علم البشر. ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ أيها المشركون من أهل مكة ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾؛ أي: مفاتيح الأمكنة التي يحفظ فيها أرزاق الله، أتصرف في ما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشؤون المخلوقات، فكل هذا لله وحده، يتصرف فيه بما يشاء، فيعطي لعباده من خزائنه بحسب ما أوتي كل منهم من الاستعداد في دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك إلى ما لم يؤته، ولم يصل إليه استعداده، والمعنى: ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون؛ لأنهم كانوا يقولون للنبي - ﷺ -: إن كنت رسولًا من الله تعالى، فاطلب لنا منه أن يوسع عيشنا، ويغني فقرنا، فأخبر أن ذلك بيد الله تعالى لا بيدي.
فالتصرف المطلق إنما هو لله القادر على كل شيء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول المبلغ عنه أمر الدين قادرًا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف في المخلوقات بالأسباب، فضلًا عن التصرف بغير سبب مما طلبه المشركون منه، وجعلوه شرطًا للإيمان به، كتفجير الينابيع والأنهار في أرض مكة، وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفًا، والإتيان بالله والملائكة قبيلًا. ﴿وَلَا﴾ أقول لكم: إني ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل، وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، فأجابهم بقوله: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ فأخبركم بما تريدون.
341

فصل في بحث الغيب


والغيب (١) ما غيب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، وهو قسمان:
١ - غيب حقيقي، وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
٢ - غيب إضافي، وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض، كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره لا يعلمه البشر.
أمّا يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها، فليس بداخل في عموم الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب ضروب:
١ - ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فعلماء الرياضة يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بألوف الأعوام.
٢ - ما هو عملي كالبرق الأثيري [التلغراف اللاسلكي] الذي يعلم به المرء ما يقع في أقاصي البلاد من وراء البحار، وبينه وبينها ألوف الأميال.
٣ - ما هو إدراكات نفسية خفية تصل إلى مرتبة العلم، كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع هواجس تلوح للنفس، ولا يجزم بها الإنسان إلا بعد وقوعها.
فإن قلت (٢): إن الله تعالى أثبت علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام، كقوله في سورة الجن: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، فكيف أمره هنا أن يتنصل من ادعاء علم الغيب؟
قلتُ: إن إظهار شيء خاص من عالم الغيب على يدي الرسل، لا يجعل ذلك داخلًا في علومهم الكسبية، فإن الوحي ضرب من العلم الضروري، يجده النبي في نفسه حينما يظهره الله عليه، فهذا حبس عنه.. لم يكن له قدرة ولا وسيلة
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
342
كسبية للوصول إليه. يؤيد ذلك ما جاء في فترات الوحي في السيرة النبوية، وقد يكون توجّه قلب الرسول إلى الله تعالى في بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحي في الحكم الذي طلب من ربه بيانه. يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾.
والخلاصة: أن الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم المكتسبة، كذلك لم يعطوا التصرف في خزائن ملك الله تعالى، فلم يمكّنهم ما لم يمكِّن من أسبابه حتى يكون من كسبهم وعملهم، ولا هو أعطاهم ذلك على سبيل الخصوصية.
ونفي ادعاء الرسول من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية، أو ادعاء شيء من صفات الإله القادر على كل شيء، العلم بكل شيء، ويتضمن جهل المشركين حقيقةَ الألوهية وحقيقة الرسالة، فقد اقترحوا عليه من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، وطلبوا منه الإخبار بما يكون في الزمان المستقبل ولا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفةً له كسائر الصفات، فقد سألوه عن وقت الساعة، وعن وقت نزول العذاب بهم، وعن وقت نصر الله تعالى له عليهم. وإذا علمت أن الأنبياء لم يؤتوا ذلك.. فأحر بمن دونهم منزلة عند الله تعالى من القديسين والأولياء المقربين أن لا يكون لهم ذلك، فادعاؤه لهم جهل عظيم وإثم كبير، ولا ينبغي التحدث به لا بين العامة ولا بين الخاصة، كما يجب محوه من الأذهان لدى الجاهلين سنن الله في الأكوان. ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر، وأقدر على ترك الأكل والشرب والنكاح، وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج النساء؟ ثم أمره أن يبيِّن وظيفة الرسول، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ﴾؛ أي: ما أَتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه ﴿إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾؛ أي: إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ، وتنزيله الذي ينزله عليَّ، فامضي لوحيه وأعمل بأمره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة على صحة ما أقول، وليس ذلك بالمنكر في عقولكم، ولا بالمستحيل وجوده، فما وجه إنكاركم لذلك؟
ثم وبخهم على ضلالهم وعنادهم، فأمر رسوله أن يبيِّن لهم أن الضال
343
والمهتدي لا يستويان، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾؛ أي: هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم - الذي دعوتكم إليه - فلم يميز بين التوحيد والشرك، ولا بين صفات الله وصفات البشر، وذو البصيرة المهتدي إليه، المستقيم في سيره عليه بالحجة والبرهان، حتى صار ذلك في مرآة قلبه أوضح مما ترى العينان وتسمع الآذان؟.
والخلاصة: أنهما لا يستويان، كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان.
﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ الهمزة فيه داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تسمعون الحق فلا تتفكرون فيما أذكر لكم من الحجج، وتتأملون فيه، فتعلموا صحة ما أقول لكم وأدعوكم إليه، وتميزوا بين ضلال الشرك وهداية الإِسلام، وتعقلوا ما في القرآن من ضروب الهداية والعرفان بذلك الأسلوب الرائع الذي لم تعهدوه من قبل، فهل يكون ذلك في مقدوري، وقد لبثت فيكم عمرًا من قبل عاطلًا من هذه المعرفة، وتلك البلاغة الساحرة، وذلك البيان الخلاب؟
٥١ - وبعد أن أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته أمره بإنذار من يخشون الحساب والجزاء، فقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ﴾؛ أي: وخوف يا محمد بما يوحى إليك من القرآن وغيره المؤمنين بالله تعالى ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ ويخشون ﴿أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ ويرجعوا إليه للمحاسبة والمجازاة، ويخافون أهوال الحشر وشدة الحساب، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على الله في ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾ يوم لا ولي ينصر، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة الله تعالى.
قال (١) ابن عباس: المراد بـ ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾: المؤمنون؛ لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال، وقيل معنى: ﴿يَخَافُونَ﴾: يعلمون، والمراد
(١) الخازن.
344
بهم: كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي، وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم، وإن كان إنذاره - ﷺ - لجميع الخلائق؛ لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر. وقيل: المراد بهم: الكفار؛ لأنهم لا يعتقدون صحته، ولذلك قال: يخافون أن يحشروا إلى ربهم، وجملة قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: من دون الله تعالى ﴿وَلِيٌّ﴾؛ أي: قريب ينفعهم ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ يشفع لهم، في محل النصب حال من ضمير ﴿يُحْشَرُوا﴾؛ أي (١): أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم، ولا ناصر يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم من دون الله تعالى، وفيه ردٌّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون.
ثم إن (٢) فسرنا ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ أن المراد بهم: الكفار، فلا إشكال عليه، لقوله تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾، وإن فسرناهم بالمؤمنين.. ففيه إشكال؛ لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد - ﷺ - للمذنبين من أمته، وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض. والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، لقوله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وإذا كانت الشفاعة بإذن الله.. صح قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ يعني: حتى يأذن الله لهم في الشفاعة، فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع.
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾؛ أي: بإقلاعهم عما هم فيه، وعمل الطاعات متعلق بأنذر؛ أي: خوفهم لكي يتقوا المعاصي، ويكون لهم عونًا في الطاعة، فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتقوا الله اهتداءً بهديك، وخوفًا من إنذارك، ويتحروا ما يؤدِّي إلى مرضاته ولا يصدهم عن ذلك إتكال على الأولياء، ولا اعتماد على الشفعاء علمًا منهم أن الشفاعة لله جميعًا: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
345
لأنفسهم، لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم، أو شفاعة الشافعين لهم، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة في الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح، والأخلاق الكريمة، والأعمال الصالحة، لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها.
والآية بمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾.
٥٢ - ثم نهى رسوله أن يطيع المترفين من كفار قريش في شأن المؤمنين المستضعفين، فقال: ﴿وَلَا تَطْرُدِ﴾؛ أي: ولا تبعد يا محمد عن حضرتك هؤلاء المؤمنين الموحدين، ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ويعبدون ﴿رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾؛ أي: أول النهار وآخره، أو المراد: عامة الأوقات، إذ يقال: هو يفعل كذا صباحًا ومساء إذا كان مداومًا عليه، والدعاء إما العبادة مطلقًا، وقيل: المحافظة على صلاة الجماعة، وقيل: الذكر وقراءة القرآن، وقيل: المراد الدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر. والمعنى: ولا تطرد يا محمد الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس، أو يذكرون ربهم طرفي النهار حالة كونهم ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾؛ أي: يقصدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه؛ أي: مخلصين في ذلك، وقيد الدعاء بالإخلاص تنبيهًا على أنه ملاك الأمر.
وقال أبو حيان: معنى ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾: يخلصون نياتهم له في عبادتهم، ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه انتهى. والمذهب الأسلم الذي عليه السلف: ترك الوجه على ظاهره بلا تأويل؛ لأن الوجه صفة ثابتة لله تعالى نعتقدها ونثبتها لله تعالى بلا تكيف ولا تمثيل ولا تعطيل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السميع البصير﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بالغداوة﴾، وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن
(١) البحر المحيط.
346
دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي: ﴿بالغدوة﴾. وروي عن أبي عبد الرحمن أيضًا: ﴿بالغدو﴾ بغير هاء. وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿بالغدوات والعشيات﴾ بالألف فيهما على الجمع.
وقوله: ﴿مَا عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾؛ أي: من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب منك ذلك ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾، بل حسابهم على أنفسهم، ما عليك منه شيء ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على هؤلاء الذين قصدت طردهم ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾، بل حساب أعمالك على نفسك لا عليهم، فعلام تطردهم؟ كلام معترض بين النهي وجوابه الآتي بقوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وقوله: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي في قوله: ﴿مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وهو من تمام الاعتراض؛ أي (١): إذا كان الأمر كذلك.. فأقبل عليهم، وجالسهم، ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، و ﴿من﴾ في قوله. ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ﴾ للبيان، والثانية للتأكيد، وكذا في قوله: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾.
والمعنى (٢): أي ما عليك يا محمد شيء من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، كما أنه ليس عليهم شيء من أمر حسابك على أعمالك، حتى يكون هذا أو ذاك في طردك إياهم بإساءتهم في عملهم، أو في محاسبتك على عملك، فإن الطرد جزاء، والجزاء إنما يكون على سيىء الأعمال، ولا يثبت ذلك إلا بالحساب، والمؤمنون ليسوا بعبيد للرسل، ولا أعمالهم الدينية لهم، بل هي لله تعالى، يريدون بها وجهه لا وجوه الرسل، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم، والرسل هداة مرشدون لا أرباب مسيطرون: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾.
وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية.. فأجدر بالناس أن لا يكون لهم هذا الحق على أنبيائهم. والظاهر أن
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
347
الضمائر كلها عائدة على ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ كما بينا في الحل، وقيل: الضمائر في ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾، وفي ﴿عَلَيْهِمْ﴾ عائدة على المشركين. قال الزمخشري: والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم حتى يهمَّك إيمانهم، ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، ذكره أبو حيان.
وقوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ جواب للنهي كما مرَّ أعني: قوله: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾؛ أي: لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. فتكون بطردك إياهم في زمرة الظالمين؛ أي: من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه معدودًا من جنسهم؛ لأن الطرد لا يكون حقًّا إلا على الإساءة في الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم وجزائهم عليها، ولست أنت بصاحب هذا الحق حتى تجري فيه على صراط العدل، فإن عملهم هو عبادة الله وحده، فحسابهم وجزاؤهم عليه كما قال نوح عليه السلام: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣)﴾.
والخلاصة (١): أن هذه الآية الكريمة أفادت أربعة أشياء:
١ - أن الرسول لا يملك التصرف في الكون.
٢ - أنه لا يعلم الغيب.
٣ - أنه ليس بملك.
٤ - أنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.
وعبارة "المراح" هنا: قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾: الآية، معناه (٢): ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء، فتملهم وتبعدهم، ولا من حساب رزقك عليهم شيء، وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى، فدعهم يكونوا عندك، ولا تطردهم فتكون من الظالمين لنفسك بهذا الطرد، ولهم لأنهم استحقوا مزيد التقريب، وقيل: إن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء، وقالوا: يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك، وقبلوا
(١) المراغي.
(٢) المراح.
348
دينك؛ لأنهم يجدون عندك بهذا السبب مأكولًا وملبوسًا، وإلا فهم فارغون عن دينك، فقال الله تعالى: إن كان الأمر كما يقولون.. فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله.. فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم.
فائدة: واحتج (١) الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، فقالوا: إن النبي - ﷺ - لما همَّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف.. عاتبه الله تعالى على ذلك ونهاه عن طردهم، وذلك يقدح في العصمة لقوله: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. والجواب عن هذا الاحتجاج أن يقال: إن النبي - ﷺ - ما طردهم ولا هم بطردهم لأجل الاستخفاف بهم، والاستنكاف من فقرهم، وإنما كان هذا الهم لمصلحة، وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإِسلام، فكان ترجيح هذا الجانب أولى عنده، وهو اجتهاد منه، فأعلمه الله تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى من الهمِّ بطردهم، فقربهم وأدناهم منه. وأما قوله: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فإن الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، فيكون المعنى: إن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب، فلاتهم بطردهم عنك، فتضع الشيء في غير موضعه، فهو من باب ترك الأفضل والأولى، لا من باب ترك الواجبات، والله أعلم.
٥٣ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: ومثل ذلك الفتون المتقدم ﴿فَتَنَّا﴾؛ أي: ابتلينا ﴿بَعْضَهُمْ﴾؛ أي: بعض الناس؛ أي: الأغنياء الكفار ﴿بِبَعْضٍ﴾ منهم؛ أي: بالفقراء المسلمين؛ أي: ابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، والوضيع بالشريف، فكل أحد مبتلى بضده، فأولئك الكفار الرؤساء والأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين إلى الإِسلام مسارعين إلى قبوله، فقالوا: لو دخلنا في الإِسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين، وأن نعترف لهم بالتبعية، فامتنعوا من الدخول في الإِسلام لذلك، واعترضوا على الله في جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين، وأما فقراء
(١) الخازن.
349
الصحابة.. فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار؟ وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة محبوبة لذاتها موزعة على الخلق، فلا تجتمع في إنسان واحد ألبتة، فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفات الكمال. ﴿لِيَقُولُوا﴾؛ أي: لتكون عاقبة أمرهم أن يقول المفتونون من الأقوياء والأغنياء والشرفاء في شأن الضعفاء والفقراء من المؤمنين ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾ الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: أنعم الله عليهم بهذه النعمة العظيمة التي هي نعمة الإِسلام ومتابعة الرسول - ﷺ - وخصهم بها ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾؛ أي: دوننا، أو من جملتنا، أو مجموعنا، ونحن الأكابر والرؤساء، وهم المساكين والضعفاء؟ والاستفهام فيه للإنكار بأن يخص الله تعالى هؤلاء الفقراء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، فكأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة.
والخلاصة (١): أن ذلك لن يكون لأنهم هم المفضلون عند الله تعالى بما آتاهم من غنى وثروة وجاه وقوة، فلو كان هذا الدين خيرًا.. لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء كما أعطاهم من قبل الجاه والثروة. وقد حكى الله عنهم مثل هذا بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾. ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم مقالتهم الدالة على العتو والاستكبار بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ لنعمه - فيوفقهم ويهديهم - من الكافرين لها، فيخذلهم ويحرمهم منها حتى تستبعدوا إنعامه عليهم؛ أي: إن المستحق لمن الله وزيادة نعمه إنما هو من يقدِّرها قدرها، ويعرف حق المنعم بها، فيشكره عليها، لا من سبق الإنعام عليه فكفر وبطر وعتا واستكبر. والاستفهام في ﴿أَلَيْسَ﴾ للتقرير؛ أي: إنه تعالى كذلك، وبهذا مضت سنة الله في عباده، ولولا هذا لكانت النعم خالدة لا تنزع ممن أوتيها - وإن كفر بها - وهل فتن أولئك الكبراء إلا بما حصل لهم من الغنى والقوة، فظنوا جهلًا منهم بسنة الله في أمثالهم أنه تعالى ما
(١) المراغي.
350
أعطاهم ذلك إلا تكريمًا لذواتهم، وتفضيلًا لهم على غيرهم.
وفي (١) هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، وفي التوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله. وفي الآية إيماء إلى أن ما اغتروا به من النعم لن يدوم، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد أن تنعكس الحال، فيُسلب الأقوياء ما أعطوا من قوة ومال، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين، فيكونوا هم الأئمة الوارثين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)﴾.
وكذلك (٢) فيها إشارة إلى أن تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودًا ناشئًا عن الكبر والعلو في الأرض، لا عن حجة ولا عن شبهة، وإلى أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم.
٥٤ - ﴿وَإِذَا جَاءَكَ﴾ يا محمد القوم ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: يصدقون بكتابنا وحججنا، ويقرون بذلك قولًا وعملًا سائلين عن ذنوبهم التي فرطت منهم، هل لهم منها توبة ﴿فـ﴾ ـلا تؤيسهم منها و ﴿قل سلام عليكم﴾؛ أي: أمان الله تعالى لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها، وهؤلاء هم القوم الذين نهاه الله عن طردهم، وهم المستضعفون من المؤمنين.
ثم ذكر العلة في هذا، فقال: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾؛ أي: قل لهم تبشيرًا لهم بسعة رحمته تعالى، وبنيل المطالب: أوجب ربكم سبحانه وتعالى على ذاته المقدسة تفضلًا منه وإحسانًا الرحمة لخلقه والإحسان إليهم، فإن فيما سخر للبشر من أسباب المعيشة المادية، وفيما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية، وتربية عباده بها في حياتهم الجسدية والروحية؛ لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ثم بيَّن أصلًا من أصول الدين في هذه الرحمة للمؤمنين، فقال: {أَنَّهُ مَنْ
(١) المراح.
(٢) المراغي.
351
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا}؛ أي: ومن سعة رحمته تعالى أنه - أي: إن الشأن - من عمل وارتكب منكم أيها المؤمنون سوءًا؛ أي: عملًا تسوء عاقبته للضرر الذي حرمه الله لأجله حالة كونه ملتبسًا ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد حمله على السب والضرب، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك العرض ﴿ثُمَّ تَابَ﴾ ورجع عن ذلك السوء ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: بعد أن عمله شاعرًا بقبحه نادمًا عليه خائفًا من عاقبته ﴿وَأَصْلَحَ﴾ عمله بأن أتبع ذلك العمل السيء بعمل يضاده ويذهب أثره من قلبه حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها وتصير أهلًا للقرب من ربها ﴿فَأَنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لمن تاب ﴿رَحِيمٌ﴾ بقبول توبته؛ أي: فشأنه تعالى في معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة، فيغفر له ما تاب عنه، ويتغمده برحمته وإحسانه. وقد بيَّن سبحانه في هذه الآية من أنواع الرحمة المكتوبة لعباده ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحي، وهو حكم من يعمل السوء بجهالة من عباده المؤمنين، وبقية أنواعها يمكن أن يستدل عليها بالنظر في الأنفس والآفاق، وأمَر نبيه بتبليغها لمن يدخلون في الدين؛ ليهتدوا بها، حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته، فيحملهم الغرور على التفريط في جنب الله، والغفلة عن تزكية أنفسهم، وحتى يبادروا إلى تطهيرها من إفساد الذنوب خوف أن تحيط بها خطيئتها: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾.
وقرأ عاصم وابن عامر (١): ﴿أنه﴾ بفتح الهمزتين، فالأولى: بدل من الرحمة، والثانية: خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأمره أنه؛ أي: إن الله غفور رحيم له. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: عليه أنه من عمل.
وقرأ ابن كثير والأخوان - الكسائي وحمزة - وأبو عمرو بكسر الهمزة فيهما، الأولى: على جهة الضر للرحمة، والثانية: في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين، وكسر الثانية على وجهها أيضًا. وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية، حكاها الزهراوي عن الأعرج، وحكى سيبويه عنه
(١) البحر المحيط.
352
مثل قراءة نافع، وقال الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع.
٥٥ - ثم بين سبحانه وتعالى أنه فصل الحقائق للمؤمنين؛ ليبتعدوا عن سلوك سبيل المجرمين، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك. ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل، وقوله: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ معطوف على محذوف تقديره؛ أي: وكذلك نفصل الآيات ليظهر الحق، فيعمل به، ولتستبين وتتضح سبيل المجرمين؛ أي: طريق المشركين فتجتنب، فطريق الهدى واضحة، وطريق الضلال واضحة؛ لما في الحديث "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، ونهارها كليلها، لا يضل عنها إلا هالك".
وقرأ (١) ابن كثير وحفص والعربيان - أبو عمرو وابن عامر -: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ بالتاء ﴿سَبِيلُ﴾ بالرفع. وقرأ أبو بكر والأخوان - الكسائي وحمزة -: وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان في هاتين القراءتين لازم. وقرأ نافع ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ بتاء الخطاب ﴿سَبِيلَ﴾ بالنصب، فاستبان هنا متعدية. فقيل: الخطاب لرسول الله - ﷺ -، وقيل له ظاهرًا، والمراد: أمته؛ لأنه - ﷺ - كان استبانها، والمعنى: ولتبين يا محمد، أو يا مخاطب للناس سبيل المجرمين.
فالحاصل (٢): أن القراءات ثلاث سبعية، فمتى قرئ الفعل بالفوقانية جاز في ﴿سَبِيلُ﴾ النصب والرفع، والتاء مختلفة المعنى؛ لأنها في حالة النصب حرف خطاب، وفي حالة الرفع للتأنيث، ومتى قرئ بالتحتانية.. تعين الرفع في سبيل؛ وذلك لأن السبيل يذكر ويؤنث، فتأنيث الفعل بناء على تأنيثه، وتذكيره بناء على تذكيره.
٥٦ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الداعين لك إلى الإشراك ﴿إِنِّي نُهِيتُ﴾ وزجرت وصرفت بما نصب لي ربي من الأدلة، وأنزل علي من الآيات في أمر
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
353
التوحيد ﴿أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: عن عبادة الأصنام التي تعبدوها أنتم من دون الله، وتستغيثون بها عند الشدائد، التي لا علم لها ولا عقل؛ لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى، وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى.
ثم أمره أن يبين لهم أن هذه العبادة مبنية على الرأي والهوى، وهي ضلال وغي فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾ في عبادة الأصنام وطرد الفقراء؛ أي: ما (١) تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله، ولما كانت أصنامهم مختلفة.. كان لكل عابد صنم هوى يخصه، فلذلك جمع، وأهواؤكم عام، وغالب ما يستعمل في غير الخير، ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق، وهي أعم من الجملة السابقة، وأنص على مخالفتهم وفي قوله: ﴿أَهْوَاءَكُمْ﴾ تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال، وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل، كما قال ابن دريد:
وَآفَةُ الْعَقْلِ الهَوَى فَمَنْ عَلاَ عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَد نَجَا
ذكره أبو حيان؛ أي: لا أجري على طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى في عبادة الأحجار التي تنحتونها بأيديكم، ولا أوافقكم على ما تدعونني إليه لا في هذه العبادة، ولا في غيرها من الأعمال؛ لأنها مؤسسة على الهوى وليست على شيء من الحق والهدى. وكرر الأمر بالقول مع قرب العهد اعتناءً بالمأمور به، أو إيذانًا باختلاف القولين من حيث إن الأولى حكاية لما هو من جهته تعالى، وهي النهي، والثاني: حكاية لما هو من جهته عليه السلام، وهو الانتهاء عما ذكر من عبادة ما يعبدونه ذكره "أبو السعود".
﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾ عن الهدى ﴿إِذًا﴾؛ أي: إن اتبعت أهواءكم ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾؛ أي: وما أنا في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم؛ أي: فإن فعلت ذلك.. فقد تركت محجة الحق، وسرت على غير هدى، فصرت ضالًا
(١) البحر المحيط.
354
مثلكم، وخرجت عن عداد المهتدين، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء.
وقرأ (١) السلمي وابن وثاب وطلحة: ﴿ضلِلت﴾ بكسر فتحة اللام، وهي لغة، وفي "التحرير": قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا، وفي السجدة في ﴿أئذا صللنا﴾ بالصاد غير معجمة، ويقال: صل اللحم أنتن، ويروى: ضللنا؛ أي: دفنا في الضلة، وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب "الشواذ" له، ذكره أبو حيان في "البحر".
٥٧ - ثم أمره أن يقول لهم: إني على هدى من ربي فيما أتبعه، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنِّي﴾ فيما أخالفكم فيه من التوحيد ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾؛ أي: على بيان قد بينه لي ربي، وبرهان قد وضح لي من ربي بالوحي والعقل؛ إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها ﴿و﴾ قد ﴿كذبتم به﴾؛ أي؛ والحال أنكم قد كذبتم به؛ أي: بالقرآن الذي هو بينتي من ربي، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد، والتقليد: براءة من الاستدلال، ورضىً بجهل الآباء والأجداد. وفي هذا حجة دامغة وبينة ناصعة على ما قبله من نفي عبادته - ﷺ - للذين يدعونهم من دون الله تعالى.
وفي "الفتوحات": والضمير (٢) في ﴿بِهِ﴾ يجوز أن يعود على ﴿رَبِّي﴾؛ أي: وكذبتم بربي حيث أشركتم به، وهو الظاهر. وقيل: على القرآن؛ لأنه كالمذكور. وقيل: على ﴿بَيِّنَةٍ﴾؛ لأنها بمعنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة لا للتأنيث، فمعناها على أمر بين من ربي، والمعنى: وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي - وهو القرآن - والمعجزات الباهرات، والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك. وبعد أن بين تكذيبهم به.. أردفه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال، وهي: أن الله سبحانه وتعالى أنذرهم
(١) البحر المحيط.
(٢) الجمل.
عذابًا يحل بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم، وقد استعجلوا النبي - ﷺ - ذلك؛ فكان عدم وقوعه شبهة لهم على عدم صدق القرآن؛ إذ هم يجهلون سنة الله في شؤون الإنسان، فأمر الله نبيه أن يقول لهم:
٥٨ - ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾؛ أي: ليس الأمر الذي تستعجلون بوقوعه من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر، ولم أقل لكم: إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به، وتعدون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه. وقيل (١): سبب نزول هذه الآية: أن النبي - ﷺ - كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، وكان النضر بن الحارث وأصحابه يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ بطريق الاستهزاء، أو بطريق الإلزام على زعمهم، فقال تعالى: قل لهم يا محمد: ليس ما تستعجلون به من العذاب الموعود في القرآن، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه.
ثم أكد ما سبق بقوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾؛ أي: ما الحكم والتصرف في هذا الذي تستعجلونه من العذاب، وفي غيره من شؤون الخلق إلا لله وحده سبحانه وتعالى، وله في ذلك سنن حكيمة تجري عليها أفعاله وأحكامه، فلا يتقدم شيء منها على ميقاته ولا يتأخر عنه: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾. ثم بين سبحانه وتعالى أن كل ما قصه على رسوله أو قضاه فهو حق لا شبهة فيه، فقال: ﴿يَقُصُّ﴾ بالصاد المهملة المشددة؛ أي: يقص الله سبحانه وتعالى على رسوله - ﷺ -، ويخبر له القصص ﴿الْحَقَّ﴾ والخبر الصادق في وعده ووعيده وجميع أخباره.
وقرىء بسكون القاف وكسر الضاد المعجمة - كما سيأتي - بغير ياء؛ لسقوطها في اللفظ؛ أي: يقضي الله سبحانه ويحكم بين عباده القضاء الحق، أو يصنع الحق؛ لأن كل شيء صنعه الله تعالى فهو حق. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾؛ أي: أفضل الفاصلين الذين يفصلون بين الحق والباطل، أو هو أعدل الحاكمين في كل أمر، فهو لا يقع في حكمه وقضائه حيف وميل إلى أحد المتخاصمين، وهو النافذ حكمه في كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء، وفي
(١) المراح.
356
مصحف عبد الله: ﴿وهو أسرع الفاصلين﴾.
وقرأ (١) ابن عباس وابن كثير ونافع وعاصم: ﴿يقص الحق﴾ بالصاد المشددة من القصص، والمعنى: إن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿يقض الحق﴾ من القضاء، والمعنى: يقضي القضاء الحق. ولم (٢) يُرسم ﴿يقض﴾ إلا بضاد؛ كأن الياء حذفت خطًّا كما حذفت لفظًا لالتقاء الساكنين، كما حذفت في قوله: ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾، وكما حذفت الواو من قوله: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)﴾ ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ لما تقدم.
﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: ﴿لَّوْ أَنَّ عِندِى﴾ وبيدي وقدرتي ﴿مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾؛ أي: أمر ما تطلبون عجلته ووقوعه حالًا من نزول العذاب الموعود بكم؛ بأن يكون أمره مفوضًا إليَّ من الله تعالى: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾؛ أي: لانفصل وانقطع النزاع بيني وبينكم، ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب، فأهلكتكم عاجلًا غضبًا لربي، واقتصاصًا من تكذيبكم، ولتخلصت منكم سريعًا لصدكم عن تبليغ دعوة ربي وصدكم الناس عني، وقد وعدني ربي بنصر المؤمنين المصلحين، وخذلان الكافرين المفسدين، ولم أمهلكم ساعة، ولكن الله حليم ذو أناةٍ، لا يعجل بالعقوبة.
فائدة: والفرق بين الاستعجال والإسراع: أن الاستعجال: المطالبة بالشيء قبل وقته، فلذلك كان العجلة مذمومة. والإسراع، تقديم الشيء، في وقته، فلذلك كانت السرعة محمودة.
والخلاصة: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب: لو أن عندي ما تستعجلون به.. لم أمهلكم ساعة، ولكن الله حليم لا يعجل بالعقوبة. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ الذين لا رجاء في رجوعهم
(١) زاد المسير والبحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
357
عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل، ومن ثمَّ لم يجعل أمر عقابهم إليَّ، بل جعله عنده، ووقت له ميقاتًا هو أعلم به ترونه بعيدًا ويراه قريبًا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)﴾. وقيل: أعلم بما يستحقون به من العذاب، والوقت الذي يستحقونه فيه، وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجًا لهم وإعذارًا إليهم.
الإعراب
﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أقول﴾، وجملة ﴿لَا أَقُولُ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾: مقول محكي لـ ﴿أَقُولُ﴾، وإن شئت قلت: ﴿عِنْدِي﴾: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿خَزَائِنُ اللَّهِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿أقول﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿أَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿الْغَيْبَ﴾: مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى: عرف يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقولًا لـ ﴿أَقُولُ﴾.
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَقُولُ﴾: فعل مضارع. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة ﴿لَا أَقُولُ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قل﴾. ﴿إِنِّي مَلَكٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿أَقُولُ﴾ ﴿إن﴾: نافية. ﴿أَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء
358
مفرغ. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿أَتَّبِعُ﴾. ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُوحَى﴾، وجملة ﴿يُوحَى﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها.
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالْبَصِيرُ﴾: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾: الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: ألا تسمعون. الفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾.
﴿وَأَنْذِرْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أنذر﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنذر﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به ﴿يَخَافُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿أَنْ يُحْشَرُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يخافون حشرهم إلى ربهم.
﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿وَلِيٌّ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر. ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾: معطوف عليه، ﴿ولا﴾: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب حال من ضمير ﴿يُحْشَرُوا﴾ تقديره: يخافون حشرهم حال كونهم عادمين وليًّا يواليهم، وشفيعًا
359
يشفع لهم من دون الله تعالى. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: لعل: حرف ترجٍ ونصب بمعنى كي التعليلية، والهاء: اسمها، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ ﴿أنذر﴾؛ أي: وأنذرهم به لكي يتقوا الشرك والمعاصي.
﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة ﴿تَطْرُدِ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه. ﴿بِالْغَدَاةِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿وَالْعَشِيِّ﴾: معطوف على ﴿الغداة﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾ تقديره: يدعونه تعالى مخلصين له فيه.
﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿عَلَيْكَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه في محل النصب حال من ﴿شَيْءٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فانتصب حالًا منها، فصاحب الحال من ﴿شَيْءٍ﴾، والعامل فيها الاستقرار في عليك. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما شيء من حسابهم كائن عليك، والجملة من المبتدأ والخبر معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين النهي في قوله: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ وبين جوابه الآتي في قوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿مِنْ حِسَابِكَ﴾: جار ومجرور بيان مقدم لشيء، فهو صفة له لا حال منه؛ لما يلزم عليه من تقدم الحال على عاملها وصاحبها، وهو ممتنع على الأصح، أو حال منه على القول الضعيف نظير ما تقدم. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها
360
معترضة، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾: الفاء: عاطفة سببية. ﴿تطردهم﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لم يكن شيء من حسابهم عليك، ولا شيء من حسابك عليهم فطردك إياهم. ﴿فَتَكُونَ﴾: الفاء: عاطفة سببية. ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة وجوبًا الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿تكون﴾، وجملة ﴿تكون﴾ من اسمها وخبرها صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن طردك الذين يدعون ربهم، فكونك من الظالمين.
﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كذلك﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿فَتَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بَعْضَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿بِبَعْضٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَتَنَّا﴾، والتقدير: وفتنا بعضهم ببعض فتونًا مثل ذلك الفتون المذكور، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿لِيَقُولُوا﴾: اللام: لام كي وجر. ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾: مقول محكي لـ ﴿يقولوا﴾، وجملة القول من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقولهم أهؤلاء إلخ، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿فَتَنَّا﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾: الهمزة: للاستفهام الإنكاري. ﴿هؤلاء﴾ في محل النصب مفعول لفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده تقديره: أفضل الله هؤلاء من بيننا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ ﴿يقولوا﴾. ﴿مَنَّ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به.
361
﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مِنْ﴾، ويجوز أن يكون حالًا من ضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾، وجملة ﴿من﴾ من الفعل والفاعل جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن يكون ﴿هؤلاء﴾ مبتدأ، وجملة ﴿مَنَّ اللَّهُ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقولوا﴾: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾: الهمزة: للاستفهام التقريري. ﴿لَيْسَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِأَعْلَمَ﴾: خبر ﴿لَيسَ﴾، والباء: زائدة في خبرها. ﴿بِالشَّاكِرِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أعلم﴾، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَكَ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿فَقُلْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه دعاء. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول لـ ﴿قل﴾. ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَتَبَ﴾. ﴿الرَّحْمَةَ﴾: مفعول به لـ ﴿كَتبَ﴾.
﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿أَنَّهُ﴾: حرف نصب، والهاء: ضمير الشأن اسمها ﴿مَنْ﴾: اسم شرط أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما.
362
﴿عَمِلَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿عَمِلَ﴾. ﴿سُوءًا﴾: مفعول به. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾: جار ومجرور حال ثانية من فاعل ﴿عَمِلَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿تَابَ﴾: فعل ماض في محل الجزم معطوف على عمل، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تاب﴾. ﴿وَأَصْلَحَ﴾ في محل الجزم معطوف على ﴿تَابَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿فَأَنَّهُ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. ﴿أن﴾: حرف نصب، والهاء: اسمها ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: فالغفران والرحمة حاصلان له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المفتوحة، وجملة ﴿أن﴾ المفتوحة في محل النصب بدل من ﴿الرَّحْمَةَ﴾ بدل الشيء من الشيء، والتقدير: كتب ربكم على نفسه الرحمة كتب حصول الغفران والرحمة لمن عمل سوءًا بجهالة إلخ. هذا على قراءة الفتح في الهمزتين، وأما على قراءة الكسر في الهمزتين فكسر الأولى على الاستئناف على أن الكلام تم قبلها، وكسر الثانية أيضًا على الاستئناف بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبرًا لـ ﴿من﴾ الموصولة، أو جوابًا لها إن كانت شرطًا. قال أبو علي (١): من كسر ألف ﴿أَنَّهُ﴾ جعله تفسيرًا للرحمة، ومن كسر ألف ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ﴾، فلأن ما بعد الفاء حكمه للابتداء، ومن فتح ألف ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ﴾ جعل أنَّ بدلًا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم أنه من عمل، ومن فتحها بعد الفاء.. أضمر خبرًا تقديره: فله أنه غفور رحيم، والمعنى: فله غفرانه انتهى. وهنا أوجه كثيرة من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها، ومن أرادها.. فليراجع كتب القوم.
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)﴾.
(١) زاد المسير.
363
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كذلك﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونفصل الآيات تفصيلًا مثل التفصيل السابق من أول السورة إلى هنا، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف تقديره: ونفصل الآيات كذلك ليظهر الحق. ﴿تستبين﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإظهار الحق، ولإبانة سبيل المجرمين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نفصل﴾.
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي نُهِيتُ﴾ إلى ﴿قُل﴾ الآتي مقول محكي لـ ﴿قل﴾ منصوب به، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿نُهِيتُ﴾: فعل مغير، ونائب فاعله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: قل لهم: إني نهيت عن عبادة الأصنام الذين تدعونهم من دون الله تعالى: ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تدعونهم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾ تقديره: حال كونكم مجاوزين الله تعالى، أو من الضمير المحذوف من ﴿تَدْعُونَ﴾.
﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾ نافٍ وفعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء، ملغاة لا عمل لها؛ لعدم
364
الفعل بعدها. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة: ﴿ضَلَلْتُ﴾ على كونها مقول القول.
﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إن﴾: حرف نصب، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿مِنْ رَبِّي﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَيِّنَةٍ﴾. ﴿وَكَذَّبْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول، أو في محل النصب حال من ﴿بَيِّنَةٍ﴾، ولكن بتقدير: قد. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿عِنْدِي﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾.
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾.
﴿إِنِ﴾: نافية. ﴿الْحُكْمُ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول القول، وفي قراءة ﴿يقض﴾ بالضاد المعجمة تقول في إعرابه ﴿يقض﴾: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين المحذوفة خطًّا تبعًا للخط لما في اللفظ، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قل﴾.
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
365
بِالظَّالِمِينَ}.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْ أَنَّ عِنْدِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قل﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿عِنْدِى﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم لـ ﴿أن﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر، وجملة ﴿تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون ما تستعجلون به عندي، والجملة من الفعل المقدر وفاعله فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَقُضِيَ﴾: اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿قضى الأمر﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قضي﴾. ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنِي﴾، والجملة من الفعل المغير ونائب فاعله جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿بِالظَّالِمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَعلَمُ﴾، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ والخزائن جمع: خزانة أو خزينة، والخزانة ما يحفظ فيها الشيء الذي يراد حفظه، ومنع التصرف فيه مخافة أن ينال، ومنه (١) حديث: "فإنما يتخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته"، وهي بفتح الخاء. قال الشاعر:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سوَاهُ بِخَزَّانِ
وفي "المختار": يقال: خزن المال إذا جعله في الخزانة واختزنه أيضًا، وخزن السر: إذا كتمه واختزنه أيضًا، وبابهما نصر، والمخزن أيضًا ما يخزن فيه
(١) البحر المحيط.
366
الشيء انتهى.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ والغيب: ما غيب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب علمه كما مرَّ.
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ والأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ﴾: والإنذار: العظة والتخويف. ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ الطرد (١): الإبعاد بإهانة، وبابه: نصر، والطريد المطرود، وبنو مطرود وبنو طرَّاد فخذان من إياد. ﴿بِالْغَدَاةِ﴾ الغداة والغدوة، كالبكرة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أصلها: غدوة، فقلبت الواو ألفًا لتحركها بحسب الأصل، وانفتاح ما قبلها بحسب الآن، وهي نكرة، ويقرأ: ﴿بالغدوة﴾ بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها، وأكثر ما تستعمل معرفة علمًا، وقد عرفها هنا بالألف واللام.
﴿وَالْعَشِيِّ﴾ آخر النهار، أو من (٢) المغرب إلى العشاء، فقيل: هو مفرد، وقيل: هو جمع عشية. ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا﴾ يقال: فتن الذهب يفتن - من باب ضرب - فتنة ومفتونًا: إذا أدخله النار لينظر ما جودته، والفتنة: الاختبار والامتحان، والمعنى هنا: ابتلينا واختبرنا ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ﴿مَنَّ﴾ - مِن باب شد - أي: أنعم الله عليهم بنعم كثيرة.
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ السلام والسلامة: البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام من أسمائه تعالى، يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من عجز ونقص وفناء، واستعمل السلام في التحية بمعنى السلامة من كل ما يسوء، وبمعنى: تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله من المسلم، فهو دليل المودة والصفاء، وهو تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جلَّ وعلا وملائكته الكرام، ويحيي بها بعضهم بعضًا. ﴿كَتَبَ﴾؛ أي: أوجب وفرض وألزم. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ والجهالة: السفه والخفة التي تقابل الحكمة والروية. ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾؛ أي: تتضح وتظهر يقال: استبنت الشيء وتبينته؛ أي: عرفته بينًا واضحًا. ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾ النهي: الزجر
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
367
عن الشيء بالقول نحو: اجتنب قول الزور، والكف عنه بالفعل، كما قال تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾.
﴿تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الدعاء: النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضر، ولا يكون عبادةً إلا إذا كان فيما وراء الأسباب العادية التي سخرها الله للعباد، وينالونها بكسبهم واجتهادهم وتعاونهم عليها. ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا﴾ ضللت بفتح اللام، وهي لغة أهل الحجاز، وهي الفصحى، وهي قراءة الجمهور. وقرىء بكسرها، وهي لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف كما مر، قال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله: ﴿إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي﴾ قال: فهذه - يعني المفتوحة - لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول: ضللت أضل انتهى.
﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ والبينة: كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية أو الآيات الحسية، ومن ذلك تسمية الشهادة بيّنة، ويجوز أن تكون التاء في بينة للمبالغة كما مر، والمعنى: على أمر بيِّن، فلما نفى أن يكون متبعًا للهوى.. نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ والقصص: ذكر الخبر أو تتبع الأثر، من قص الحديث، أو من قص الأثر؛ أي: تتبعه، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾، وعلى هذه القراءة، فالحق مفعول به اهـ "سمين".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾، وفي قوله: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾، وقوله: ﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾، وقوله: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾؛ لأنه استعارة عن الكافر والمؤمن.
368
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأنه إنما ذكر لمجرد تتميم الفائدة وتأكيدها، وإلا فالكلام قد تمَّ بدونه.
ومنها: ما يسميه أهل البديع ردَّ الصدر على العجز في قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ كقولهم عادات السادات، سادات العادات.
وقال الزمخشري (١) بعد كلام قدمه في معنى التفسير: فإن قلت: أما كفى قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ حتى ضم إليه قوله: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، ومؤداهما واحد، وهو المعنى بقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ولا يستقبل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعًا، كأنه قيل: لا يؤاخذ كل واحد لا أنت ولا هم بحساب صاحبه. انتهى.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾؛ لأنها مؤكدة لقوله: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾ واختار في التأكيد بالإسمية لتدل على الدوام والاستمرار.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ إشعارًا بوصفهم بالظلم، وحق الكلام أن يقال: والله أعلم بكم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الفتوحات.
369
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) رسوله - ﷺ - أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه من عذاب الله تعجيزًا أو تهكمًا ليس عنده، وإنما هو عند الله تعالى، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شيء أجلًا وموعدًا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله.. ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده، وأن التصرف في الخلق بيده، وأنه
(١) المراغي.
370
هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله، ولا من سواهم في ذلك.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما قال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، وقال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ بعد قوله: ﴿مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾.. انتقل من خاص إلى عام، وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار...﴾ الآية، مناسبة (٢) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات.. ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيهًا على ما تختص به الإلهية، وذكر شيئًا محسوسًا قاهرًا للأنام، وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار، وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...﴾ الآية، مناسبة (٣) هذه الآية لما قبلها: لما أبان الله سبحانه وتعالى لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم.. ذكرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، ونهاية الرحمة والفضل والإحسان.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٤): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكَّر المشركين ببعض آياته في أنفسهم، وبمننه عليهم بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم؛ إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام.. ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أنَّ عاقبة كفران النعم أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلِّغًا لا خالقًا للإيمان، وأحالهم في ظهور
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
371
صدق أنبائه وأخباره على الزمان.. بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ...﴾ الآيات، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ...﴾ الآية، قال رسول الله - ﷺ -: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف"، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال بعض الناس: "لا يكون هذا أبدًا أن يقتل بعضنا بعضًا، ونحن مسلمون"، فنزلت: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٥٩ - ﴿وَعِنْدَهُ﴾ سبحانه وتعالى خاصة ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾؛ أي: مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن؛ أي: له سبحانه وتعالى علم الأمور المغيبة المخفية عن غيره، من الأرزاق والأمطار والآجال والعذاب والثواب والحساب والجزاء وغيرها.
وقرىء: ﴿مفاتيح﴾ بالياء. ﴿لَا يَعْلَمُهَا﴾؛ أي: لا يعلم تلك الأمور المغيبة ولا يحيط بها ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى، وهذه الجملة الفعلية مؤكدة لمضمون الجملة التي قبلها، ويندرج تحت مضمون هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب اندراجًا أوليًّا، كما يدل عليه السياق، فهو سبحانه وتعالى الذي يحيط بها، وسواه جاهل بذاته، لا يعلم منها شيئًا إلا بإعلامه عَزَّ وَجَلَّ، فعلينا أن نفوِّض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، وأن نجزم بأنه لا يُخلف وعده رسله، وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته.
(١) لباب النقول.
372
روى البخاري (١) عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله - ﷺ - قال: "مفاتيح الغيب خمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)﴾ ".
وما حكاه الله تعالى عن عيسى عليه السلام من قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب، كما قال تعالى في سورة الجن: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، وجاء في معنى الآية: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥)﴾.
وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض".
وفي (٢) هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإِسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق - ﷺ -: "من أتى كاهنًا أو منجمًا.. فقد كفر بما أنزل الله على محمد".
﴿وَيَعْلَمُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا فِي الْبَرِّ﴾ من النبات والدواب ﴿و﴾ ما في ﴿البحر﴾ من الحيوان والجواهر وغيرهما. وإنما (٣) قدم ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال والحيوان والنبات والمعادن. وإنما أخر البحر في الذكر؛ لأن إحاطة العقل بأحواله أقل، لكن الحس يدل على أن عجائب البحر أكثر، وأجناس المخلوقات فيه أعجب، وأن طول البحر وعرضه أعظم.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
373
وقال مجاهد (١): البر: المفاوز والقفار، والبحر: المدن والقرى فيه والأمصار، لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه. وقال جمهور المفسرين: هما البر والبحر المعروفان؛ لأن جميع الأرض إما بر، وإما بحر، وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه. والمعنى: أي: وعنده سبحانه وتعالى علم ما لم يغب عنكم؛ لأن ما فيهما ظاهر للعين، يعلمه العباد، وعلمه تعالى بما فيهما علم مشاهدة مقابل لعلم الغيب.
والخلاصة: أن عنده تعالى علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه، وعنده علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شيء منه، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة. ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ﴾؛ أي: وما تسقط ورقة واحدة من أوراق الشجر أو النجم، ولا تبقى عليه في الصحارى والبراري، أو في الأمصار والقرى ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾؛ أي: إلا والحال أنه سبحانه وتعالى عليم بالساقطة منها والباقية، ويعلم زمان سقوطها، ومكانه، وعدد الساقطة والباقية وأحوالها قبل السقوط وبعده.
﴿وَلَا﴾ من ﴿حَبَّةٍ﴾ ملقاة ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ وبطونها لتنبت، قيل: هي الحبة المعروفة تلقى في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي في الصخرة التي تحت الأرضين السبع. ﴿وَلَا﴾ من ﴿رَطْبٍ﴾، وهو كل ما ينبت، وقيل: الحي ﴿وَلَا﴾ من ﴿يَابِسٍ﴾ وهو كل ما لا ينبت، وقيل: الميت، وقيل: هما عبارة عن كل شيء؛ لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة ﴿إِلَّا﴾ هو ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: إلا كان كل ما ذكر ثابتًا مكتوبًا في كتاب مبين؛ أي: موضح مبين مقدارها ووقتها ومكانها، وهو اللوح المحفوظ.
فإن قلت (٢): إن جميع هذه المذكورات داخلة تحت قوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ فلِمَ أفردها بالذكر؟
قلتُ: ذكرها من قبيل التفصيل بعد الإجمال، وقد ذكر البر والبحر لما فيهما
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
374
من العجائب، ثم الورقة؛ لأنها يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها إلا الله، ثم ذكر ما هو أضعف من الورقة، وهو الحبة، ثم ذكر مثالًا يجمع الكل، وهو الرطب واليابس، فذكر هذه الأشياء، وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى، فصارت الأمثال منبهة على عظمة عظيمة، وقدرة عالية، وعلم واسع، فسبحان العلم الخبير.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: وما (١) تسقط من حبَّة بفعل الإنسان باختياره، كالحب الذي يلقيه الزراع في بطون الأرض يسترونه بالتراب، فيحجب عن ضوء النهار، أو تذهب به النمل في قراها وحجورها، أو بغير فعل الإنسان؛ كالذي يسقط من النبات في الشقوق والأخاديد، وما يسقط من الثمار رطبًا ويابسًا إلا وهو في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه، وكتب عدده، والوقت الذي يوجد فيه، والذي يفنى فيه، وجعل الكتاب مبينًا؛ لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم عليه، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله في الآية الأخرى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾، واختار الرازي أن الكتاب المبين: علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره.
واتفق (٢) علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر في نحو ما تقدم من الآيات والأحاديث باللوح المحفوظ، وهو شيء أخبر الله به، وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود، وأن الله قد حفظ كتابه فيه، وأما دعوى أنه جرم مخصوص في سماء معينة.. فمما لم يثبت عن المعصوم - ﷺ - بالتواتر، فلا ينبغي أن يدخل في باب العقائد لدى المؤمنين.
وروي عن الحسن: أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب. وزاد بعضهم حكمتين أخريين:
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
375
١ - اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية.
٢ - عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة "جف القلم بما أنت لاق".
وقرأ (١) ابن السميقع: ﴿مفاتيح﴾ بالياء، وروي عن بعضهم: ﴿مفتاح الغيب﴾ على الإفراد. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع: ﴿ولا رطبٌ ولا يابسٌ﴾ بالرفع فيهما، والأولى أن يكونا معطوفين على موضع ﴿مِنْ وَرَقَةٍ﴾، ويحتمل الرفع على الابتداء، وخبره ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
٦٠ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ وينيمكم ﴿بِاللَّيْلِ﴾ ويراقبكم فيه، استعير (٢) التوفي من الموت للنوم؛ لما بينهما من المشاركة في إزالة الإحساس والتمييز، فإن أصل التوفي: قبض الشيء بتمامه.
وعبارة "زادة على البيضاوي" نصها: وعلى (٣) ما ذكره المصنف ليس في ابن آدم إلا روح واحدة، يكون لابن آدم بحسبها ثلاثة أحوال: حالة يقظة، وحالة نوم، وحالة موت، فباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان وباطنه تعلقًا كاملًا تثبت له حالة اليقظة، وباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان فقط تثبت له حالة النوم، وباعتبار انقطاع تعلقها عن الظاهر والباطن تثبت له حالة الموت.
فعلى هذا: معنى ﴿يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾؛ أي: يقطع أرواحكم عن التعلق ببواطنكم؛ أي: يقطع تعلقها بالباطن، ومعنى ﴿يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾؛ أي: يرد تعلقها بالباطن. وقيل: معنى ﴿يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾؛ أي: يقبض أرواحكم عند النوم، وهذا مبني على أن في الجسد روحين: روح الحياة: وهي لا تخرج إلا بالموت، وروح التمييز: وهي تخرج بالنوم، فتفارق الجسد، فتطوف بالعالم وترى المنامات، ثم ترجع إلى الجسد عند تيقظه، وسيأتي بسط هذه المسألة وإيضاحها في سورة الزمر إن شاء الله تعالى. واقتصر هنا على الليل، وإن كان ذلك يقع في النهار؛ لأن الغالب أن يكون النوم فيه. ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾؛ أي: ويعلم
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
(٣) زاده.
376
جميع ما كسبتم وعملتم في النهار؛ أي: يعلم جميع ما كسبتم حين اليقظة، ويكون معظم ذلك في النهار سواء أكان خيرًا أم شرًّا.
وفي "الفتوحات": والتقييد (١) بالظرفين جري على الغالب، إذ الغالب أن النوم في الليل والكسب في النهار، وخصَّ النهار بالذكر دون الليل؛ لأن الكسب فيه أكثر؛ لأنه زمن حركة الإنسان، والليل زمن سكونه. اهـ "كرخي".
﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾؛ أي: يوقظكم في النهار، عطف على ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾، وتوسيط (٢) الفعل بينهما لبيان ما في بعثهم من عظم الإحسان إليهم بالتنبيه على ما يكسبونه من السيئات. قال البيضاوي: أطلق البعث ترشيحًا للتوفي؛ أي: لما استعير التوفي من الموت للنوم.. كان البعث الذي هو في الحقيقة الإحياء بعد الموت ترشيحًا؛ لأنه أمر يلائم المستعار منه. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير هو الذي يتوفاكم بالليل، ثم يبعثكم بالنهار، ويعلم ما جرحتم فيه. ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾؛ أي: يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم ومناجاة إلهكم وخالقكم؛ لأجل أن يقضي أجلًا مسمى؛ أي: لأجل أن يستوفي ويستكمل المتيقظ آخر أجله وعمره المعين له في علمه تعالى، فإن لأعماركم آجالًا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها. ومعنى الآية: أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك، ولكن ليقضى أجل مسمى؛ أي: معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق ﴿ثُمَّ﴾ بعد انقضاء آجالكم وموتكم ﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ﴿ثُمَّ﴾ بعد بعثكم وحشركم ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: يخبركم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في حياتكم الدنيا، ويجازيكم بذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. والقادر (٣) على البعث مِن تَوفي النوم قادرٌ على البعث من توفي الموت، وفي ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركوا مكة من وعيد الله لهم، ووعده لرسله
(١) الجمل.
(٢) أبو السعود.
(٣) المراغي.
377
بالنصر عليهم، وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا، فمن لم يدركه العذاب الأول.. لم يفلت من الثاني.
وقال أبو حيان (١): ولما ذكر تعالى النوم واليقظة.. كان ذلك تنبيهًا على الموت والبعث، وأن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد، فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي.
وقرأ طلحة وأبو رجاء: ﴿ليقضي أجلًا مسمى﴾ ببناء الفعل للفاعل، ونصب ﴿أجلًا﴾؛ أي: ليتم الله تعالى آجالهم، كقوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾. وفي قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره تعالى أو ضميرهم.
٦١ - وبعد أن أبان الله سبحانه وتعالى أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء.. ذكر قهره لعباده، وإرسال الحفظة بإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْقَاهِرُ﴾؛ أي: الغالب المتصرف في خلقه بما يشاء في أمورهم إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيبًا إلى غير ذلك، العالي بقدرته وسلطانه ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ فوقية تليق بجلاله لا نكيفها ولا نمثلها، بل نؤمن بها، ولا نعطلها ولا نؤولها، بل نمرها على ظاهرها كما جاءت، كما هو مذهب السلف الأسلم الأعلم في آيات الصفات وأحاديثها؛ أي: وهو سبحانه وتعالى القاهر المستحق منكم العبادة، لا المقهورون من الأوثان والأصنام المغلوبون على أمرهم. ومعنى القاهر: الغالب لغيره المذلل له، والله تعالى هو القاهر لخلقه، وقهر كل شيء بضده، فقهر الحياة بالموت، والإيجاد بالإعدام، والغنى بالفقر، والنور بالظلمة.
﴿وَيُرْسِلُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها العباد ويوكل بكم ﴿حَفَظَةً﴾؛ أي: ملائكة يحفظون أعمالكم ويكتبونها في صحائف تقرأ عليكم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. يعني: أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم لمراقبتهم، وإحصاء أعمالهم وكتابتها، وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهي المرادة
(١) البحر المحيط.
378
بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)﴾، وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)﴾، ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها، ولا نتحكم فيها بآرائنا.
وما (١) مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل مراقبة رجال البوليس السري في حكومات العصر الحديث.
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في الآية: الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم، يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ لم يغنِ الحرس عنهم شيئًا، وفي معنى الآية قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
والحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد.. كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على عمل الصالحات، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء.. ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في المغفرة والرحمة، فلا يكون لديه من الخشية والحياء ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم، كما قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً
(١) المراغي.
379
إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)}.
وقوله: ﴿إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ غاية لمحذوف تقديره: وهو الذي يرسل عليكم حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا جاء أحدكم أسباب الموت ومقدماته، وانتهى عمله ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾؛ أي: قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولون ذلك بأمره، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)﴾.
روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس: أنه سُئل عن ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال: هو الذي يلي أمر الأرواح، وله أعوان على ذلك، وقرأ هذه الآية، ثم قال: غير أن ملك الموت هو الرئيس.
وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة: أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان، ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي: أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه، ويدفعها إلى الأعوان، فإن كان الميت مؤمنًا.. دفعها إلى ملائكة الرحمة، وإن كان كافرًا.. دفعها إلى ملائكة العذاب؛ أي: وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم الله بأمره، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته.
فإن قلت: جاء إسناد التوفي إلى الله تعالى في قوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وإسناده إلى ملك الموت في قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ وإسناده إلى الرسل في قوله هنا: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
قلتُ: وجه الجمع بين هذه الآيات: أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد.. أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم.. تولى قبضها ملك الموت بنفسه، فحصل الجمع بين الآيات. وقيل: المراد من قوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾: ملك الموت وحده، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له.
380
وقرأ حمزة (١): ﴿توفاه﴾ بألف ممالة، وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع، ومن قرأ: ﴿تَوَفَّتْهُ﴾ أنث على معنى الجماعة. ويحتمل أن يكون مضارعًا، وأصله: تتوفاه، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة.
وقرأ الأعمش: ﴿يتوفاه﴾ بزيادة ياء المضارعة على التذكير.
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن هؤلاء الرسل ﴿لَا يُفَرِّطُونَ﴾؛ أي: لا يقصرون فيما أمروا به من قبض روح الميت، ولا يؤخرونه طرفة عين. وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد: ﴿لا يُفْرِطون﴾ بالتخفيف؛ أي: لا يجاوزون الحد فيما أمروا به بزيادة أو نقصان.
٦٢ - وقوله: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ معطوف على ﴿تَوَفَّتْهُ﴾. وقرىء: ﴿رِدوا﴾ بكسر الراء بنقل حركة الدال المدغمة إلى الراء؛ أي: ثم بعد قبض الملائكة أرواحهم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل بالبعث من القبور والحشر إلى موقف الحساب إلى حكم الله وقضائه وجزائه الذي هو ﴿مَوْلَاهُمُ﴾ ومالك أمورهم، الذي هو ﴿الْحَقِّ﴾ الذي لا يقضي إلا بالعدل ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم. وفي الآية (٢) إيماء إلى أن ردهم إليه حتم؛ لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم، ويحكم بينهم بالحق وأما تولي بعض العباد أمورَ بعضٍ بملك الرقبه أو ملك التصرف والسياسة، فمنه ما هو باطل من كل وجه، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوف لا ثبات له ولا بقاء، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا، وبقي المولى الحق وحده.
فإن قلت: ما الحكمة في إفراد الضمير في قوله: ﴿تَوَفَّتْهُ﴾ العائد إلى ﴿أَحَدَكُمُ﴾ الذي هو بمعنى: البشر والخلق، وفي جمعه في قوله: ﴿ثُمَّ رُدُّوا﴾ بواو الجمع؟
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
قلتُ: السر في الإفراد أولًا، والجمع ثانيًا: وقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع، ذكره "أبو السعود".
وكلمة ﴿أَلَا﴾ في قوله: ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ حرف تنبيه واستفتاح؛ أي: انتبهوا أيها العباد واعلموا أن له سبحانه وتعالى وحده القضاء الحق في ذلك اليوم لا لغيره، لا بحسب الظاهر ولا بحسب الحقيقة، بخلاف الدنيا؛ فإنه وإن لم يكن حاكم في الحقيقة غيره تعالى، لكن فيها بحسب الظاهر حكام متعددة. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾؛ أي: أسرع من يحاسب؛ لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد، وسرعة حسابه أنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، ولا يشغله شأن عن شأن.
والخلاصة؛ أنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها. وقرأ الحسن والأعمش: ﴿الحقَ﴾ بالنصب في قوله: ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ على إضمار فعل؛ أي: أعني أو أمدح، أو على أنه صفة مصدر محذوف تقديره: ثم ردوا إلى الله مولاهم الردَّ الحق.
٦٣ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع في الآفاق من آيات التوحيد توبيخًا وتقريرًا لهم بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية: ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ﴾؛ أي: من (١) ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ﴿وَ﴾ من ذا الذي ينجيكم من ظلمات ﴿الْبَحْرِ﴾ إذا ركبتم فيه، فأخطأتم الطريق، وأظلمت عليكم السبل، فلم تهتدوا. وقيل: ظلمات البر والبحر: مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال. وقيل: العمل على الحقيقة أولى، فظلمات البر: هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح، فيحصل من ذلك الخوف الشديد؛ لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمات البحر: ما اجتمع فيه من ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة الرياح العاصفة، والأمواج الهائلة، فيحصل من ذلك أيضًا
(١) الخازن.
382
الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك. والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ، كما مرت الإشارة إليه، فالمقصود: أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد، وهو المراد من قوله: ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾؛ أي: من إله غير الله ينجيكم ويكشف عنكم تلك الكروب حالة كونكم تدعونه سبحانه وتعالى عند نزولها بكم تضرعًا وجهرًا، وتدعونه خفية وسرًّا، وتخلصون له الدعاء في الحالتين، وتنسون ما تشركون، يعني: إذا اشتد بكم الأمر.. تخلصون له الدعاء تضرعًا منكم إليه واستكانة جهرًا وخفية، يعني: جهرًا حالًا، وسرًّا حالًا، حالة كونكم قائلين في الدعاء ومقسمين له فيه، والله ربنا ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ الله من هذه الظلمات، وخلصنا من الهلاك ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ له على هذه النعمة، نعمة الإنجاء؛ أي: لنكونن من المتصفين بالشكر، المخلصين له بالعبادة دون من نشركه معه في عبادته، والشكر: هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها.
وقرأ (١) الكوفيون: ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ﴾ بالتشديد فيهما. وقرأ حميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهما. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - بالتشديد في ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ والتخفيف في ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ﴾ جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف كقوله: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ﴾. وقرأ (٢) أبو بكر عن عاصم: ﴿خفية﴾ بكسر الخاء وسكون الفاء. وقرأ الباقون بضمها وسكون الفاء، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف. وقرأ الأعمش: ﴿وخيفة﴾ بكسر الخاء فبعده الياء الساكنة من الخوف؛ أي: مستكينًا أو دعاء خوف. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ بالغيبة. وقرأ الباقون: ﴿لئن أنجيتنا﴾ بالخطاب. والآية تدل (٣) على أن الإنسان يأتي عند حصول الشدائد بأمور.
أحدها: الدعاء.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
383
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: ﴿وَخُفْيَةً﴾.
ورابعها: الالتزام عند الشدائد بالشكر، وهو المراد من قوله: ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
٦٤ - ثم بين أنهم يحنثون في أيمانهم بعد النجاة، ويشركون بربهم سواه، فقال: ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمَّد ﴿اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى وحده ينجيكم من ظلمات البر والبحر وشدائدهما المرة بعد المرة، ويكشفها عنكم ﴿وَ﴾ ينجيكم ﴿مِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ وغمٍّ سوى ذلك ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ يا أهل مكة بعدما تشاهدون هذه النعم الجليلة ﴿تُشْرِكُونَ﴾ بعبادته تعالى غيره الذي عرفتم أنه لا يضر ولا ينفع ولا تفون بعهدكم.
والخلاصة (١)؛ أنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ في هذه الحالة إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضله، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص في جميع الأحوال والأوقات، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب، ويعود إلى الشرك في العبادة، ولا يوفي بالعهد. وفي الآية تنبيه إلى أن من أشرك في عبادته تعالى غيره، فكأنه لم يعبده رأسًا، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة
٦٥ - ﴿قُلِ﴾ هو يا محمَّد لقومك الذين يشركون مع الله سواه، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم: إن الله سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ﴾ ويرسل ﴿عَلَيْكُمْ عَذَابًا﴾ تجهلون حقيقته، فيصب عليكم ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ كالمطر كما فعل بقوم نوح، والحجارة كما رمي أصحاب اللَّيل وقوم لوط، والصيحة؛ أي: الصرخة التي صرخها جبريل على ثمود قوم صالح، والربح كما في قوم هود. ﴿أَوْ﴾ يثيره ﴿مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ كالرجفة، وغرق فرعون، وخسف قارون ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ﴾ ويخلط أمركم خلط اضطراب واختلاف لا خلط اتفاق، فيجعلكم ﴿شِيَعًا﴾ وفرقًا مختلفين على أهواء
(١) المراغي.
384
شتى، كل فرقة تشايع وتتبع إمامًا في الدين، أو تتعصب لملك أو رئيس، فإذا كنتم مختلفين.. قاتل بعضكم بعضًا ﴿وَيُذِيقَ﴾ الله ﴿بَعْضَكُمْ﴾ بسبب تلك المخالفة ﴿بَأْسَ بَعْضٍ﴾ آخر وضرره، فيقتل بعضكم بيد بعض.
وقرأ أبو عبد الله المدني: ﴿يلبسكم﴾ بضم الياء من اللبس، استعارة من اللباس؛ أي: يلبسكم الفتنة حالة كونكم شيعًا. وقرأ الأعمش: ﴿ونذيق﴾ بالنون، وهي نون عظمة الواحد، وهي التفات فائدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة.

فصل في الأحاديث المناسبة للآية


وعن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾.. قال رسول الله - ﷺ -: "أعوذ بوجهك"، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾.. قال: "أعوذ بوجهك"، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾.. قال: "هذا أهون - أو - هذا أيسر" أخرجه البخاري، وإنما كان هذا أهون؛ لأن المستعاذ مما قبله هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه أقبل مع النبي - ﷺ - ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية.. دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف إلينا فقال: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي: أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت ربي: أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي: أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها" أخرجه مسلم.
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: صلَّى رسول الله - ﷺ - صلاة، فأطالها، فقالوا: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها، قال: "أجل، إنها صلاة رغبة ورغبة، إني سألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته: أن لا يهلك أمتي بسَنَة، فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوًا من
385
غيرهم، فأعطانيها، وسألته: أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها" أخرجه الترمذي.
ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات، فقال: ﴿انْظُرْ﴾ يا محمَّد وتأمل بعين بصيرتك ﴿كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: كيف نبين دلائلنا وحججنا لهؤلاء المكذبين ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عماهم عليه من الكفر والتكذيب؛ أي: انظر كيف نصرف الآيات ونكررها مغيَّرة من حال إلى حال، لكي يقفوا على جلية الأمر، فيرجعوا عما هم عليه من العناد.
والمعني (١): تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول، كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتَّى، منها ما طريقه الحس، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما سبيله علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق، ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضي إلى الاعتبار والعمل بها. وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك: تصريف الآيات، واختلاف الحجج والبينات. وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام.
٦٦ - ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته، فقال: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾؛ أي: وكذب بالقرآن قومك يا محمَّد على ما صرفنا فيه من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان؛ إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: والحال أنه كتاب حق صادق فيما نطق به، ثابت لا شك فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿وكذبت به قومك﴾ بالتاء، كما قال ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾. وقيل (٢): الضمير في: ﴿بِهِ﴾ يرجع إلى العذاب، وهو الحق، يعني: أنه نازل بهم إن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم. وقيل: الضمير يرجع إلى تصريف الآيات، وهو الحق؛ لأنهم كذبوا كونها من عند الله.
ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل له في جبرهم على الإيمان به،
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، أبشركم وأنذركم، ولم أعط القدرة على التصرف في عباده حتى أجبركم على الإيمان جبرًا، وأكرهكم عليه إكراهًا: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾ ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾. وقيل (١): المعنى: قل يا محمَّد لهؤلاء المكذبين: لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق، بل إنما أنا منذر، والله هو المجازي لكم على أعمالكم، وقيل: معناه: إني إنما أدعوكم إلى الله وإلى الإيمان به، ولم أومر بحربكم؛ فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية السيف.
٦٧ - ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ﴾؛ أي: لكل شيء ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾؛ أي: وقت يقع فيه، والنبأ الشيء الذي ينبأ عنه ويخبر به. وقيل: المعنى: لكل عمل جزاء. وقيل (٢): المعنى: لكل خبر يخبره الله مستقر؛ أي: وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير، وكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ صحة هذا الخبر عند وقوعه؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، والمعنى: لكل شيء ينبأ عنه ويخبر به مستقر؛ أي: وقت تستقر وتظهر فيه حقيقته، ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابي من وعد ووعيد، ومن ذلك: ما وعد به الرسول من نصره عليهم، وما أوعد به أعدائه من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾.
٦٨ - ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ هو يا محمَّد أو أيها المخاطب هؤلاء المشركين ﴿الَّذِينَ يَخُوضُونَ﴾ ويشرعون وينهمكون ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ القرآنية بالكفر والتكذيب والاستهزاء {فَأَعْرِضْ
(١) الخازن.
(٢) الواحدي.
387
عَنْهُمْ}؛ أي: فصد عنهم بوجهك، وقم ولا تقعد معهم ﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾ ويشرعوا ﴿فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾؛ أي: حديث غير التكذيب والاستهزاء بآياتنا، ويصح عود الضمير على الآيات نظرًا لمعناها؛ لأنها بمعنى الحديث والقول، ذكره أبو البقاء. قال المراغي: والمخاطب (١) بالآية الرسول - ﷺ -، ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنون في كل زمان؛ أي: وإذا رأيت أيها الرسول، أو أيها المؤمن، الذين يخوضون في آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين.. فصد عنهم بوجهك، وقم ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها من جانب الكفار، أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء؛ وتأييدًا لما استحدثوا من مذاهب وأراء، وتفنيدًا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء، وإذا خاضوا في غير ذلك.. فلا ضير في القعود معهم.
وسِرُّ (٢) هذا النهي: أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم في التمادي فيما هم فيه، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه، والمشاركة في ذلك كفر ظاهر لا يرتكبه إلا كافر مجاهر، أو منافق مراء، كما أنَّ في التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنةً في الدين، لا تنقص عن الأولى ضررًا، فإن أربابها تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ومن ثم حذر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع. ومن الناس من يحرفون آيات الله على مواضعها بهواهم؛ ليكفروا بها مسلمًا، أو يضلِّلوا بها مهتديًا، بغيًا عليه وحسدًا له.
وفي (٣) هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله - ﷺ -، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
388
أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها.. علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقدًا أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل، وأنكر المنكر. ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: وإن أنساك الشيطان بوسوسته نهينا إياك عن مجالسة الخائضين في آيات الله بعد تذكرك أولًا، وقعدت معهم وهم على تلك الحال، ثم ذكرت بعد ذلك.. ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾؛ أي: بعد تذكرك النهي ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلًا من الإيمان بها والاهتداء بهديها؛ أي: فقم عنهم ولا تجلس معهم بعد ذلك. وإنما (١) أبرزهم ظاهرين تسجيلًا عليهم بصفة الظلم، وإلا فحق العبارة أن يقال: فلا تقعد معهم. وجاء في الشرط الأول بـ ﴿إِذَا﴾؛ لأن خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني بـ ﴿إن﴾؛ لأن إنساء الشيطان له ليس أمرًا محققًا، بل قد يقع وقد لا يقع، وهو معصوم منه، ولم يجىء مصدر على فعلى إلا ذكرى اهـ "سمين".
والخطاب (٢) في قوله: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ للرسول - ﷺ -، والمراد غيره، أو هو للرسول - ﷺ - بالذات، ولغيره بالتبع، كما هو الشأن في أحكام التشريع غير الخاصة به - ﷺ -. ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف في جوازه، قال تعالى لخاتم أنبيائه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ وثبت وقوعه من موسى عليه السلام: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾، ولكن الله عصمهم من نسيان
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
389
شيء مما أمرهم بتبليغه.
وثبت في "الصحيحين" و"السنن" أن النبي - ﷺ - سها في الصلاة، وقال: "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت.. فذكِّروني". وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل في مفهوم قوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)﴾. ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان؛ لكونه ضارًا ومفوتًا لبعض المنافع، أو لكونه حصل بوسوسته، ولو بشغل القلب ببعض المباحات، فلا يعد من سلطان الشيطان على الناس، واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله تعالى عن عباده المخلصين بقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)﴾.
وقرأ (١) ابن عامر: ﴿ينسينك﴾ مشددًا عدّاه بالتضعيف، وعدّاه غيره بالهمزة.
٦٩ - وروي عن ابن عباس: أنه لما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف بالبيت.. نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الشرك والمعاصي ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾؛ أي: من حساب الخائضين وعقوبتهم ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾، فـ ﴿مِنْ﴾ زائدة؛ أي: ليس على الذين آمنوا واتقوا شيء من حساب الخائضين في آيات الله، فلا يحاسبون على خوضهم فيها، وعلى غيره من أعمالهم السيئة التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم، وأعرضوا عنهم كما أمروا. ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾؛ أي: ولكن عليكم أيها المتقون أن تذكروهم ذكرى، وتعظوهم عظة إذا سمعتموهم يخوضون، بأن تقوموا عنهم، وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾؛ أي: لعلهم يتجنبون الخوض في الآيات حياءً منكم، ورغبة في مجالستكم، قاله مقاتل. أو
(١) البحر المحيط.
لعلهم يتقون الوعيد بتذكيركم إياهم.

فصل


قال (١) سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾، وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها؛ لأنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ؛ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره. وقيل: إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة، فلا تكون منسوخة.
٧٠ - وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات الله هزوا.. أمره بترك المستهزئين بدينهم، الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾؛ أي (٢): واترك يا محمَّد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا وجعلوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه - وهو دين الإِسلام - لعبًا ولهوًا، وذلك حيث سَخِروا به واستهزؤوا به. وقيل: إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعبًا ولهوًا. وقيل: إن الكفار إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه. وقيل: إن الله جعل لكل قوم عيدًا، فاتخذ كل قوم دينهم - يعني: عيدهم - لعبًا ولهوًا، يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين، فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيرًا وفعل الخير فيه، مثل عيد الفطر، وعيد النحر، ويوم الجمعة. ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ يعني: أنهم اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا، وغلب حبها على قلوبهم، فأعرضوا عن دين الحق، واتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا. وقال الرازي: لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين، واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا. انتهى. ومعنى الآية: وذر يا محمَّد الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، واتركهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم. والمراد بتركهم: ترك معاشرتهم ومخالطتهم، لا ترك الإنذار والتخويف.
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
391
وعبارة "المراغي" هنا (١) أي: ودَعْ أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين، الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، وغرتهم الحياة الدنيا الفانية، فآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات عما جاءهم من الحق مؤيدًا بالحجج والآيات، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)﴾. واتخاذهم دينهم لعبًا ولهوًا؛ أنهم لما عملوا ما لا يزكي نفوسهم، ولا يطهر قلوبهم، ولا يهذب أخلاقهم، ولا يقع على وجه يرضي الله سبحانه، ولا يعد للقائه في دار الكرامة.. أضاعوا الوقت فيما لا يفيد، وهذا هو اللعب، أو شغلوا عن شؤونهم وهمومهم الأخروية وهذا هو اللهو.
وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير بالقرآن، وتبليغ الرسالة، فقال: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾؛ أي: وذكر يا محمَّد بالقرآن وعظ به هؤلاء المشركين وغيرهم مخافة ﴿أَنْ تُبْسَلَ﴾ وتحبس ﴿نَفْسٌ﴾ في جهنم وتهلك فيها ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾؛ أي: بسبب ما كسبت وعملت من الشرك والمعاصي، والضمير في قوله: ﴿بِهِ﴾ يعود على القرآن المعلوم من السياق؛ لأنه هو الذكر، بُعث به الرسول المذكر.
والمعنى (٢): وذكرهم بالقرآن ومواعظه، وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جهنم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا، وتحرم الثواب في الآخرة ثم وصف النفس المبسلة، وعلل إبسالها، فقال: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: ليس لتلك النفس التي هلكت من دون الله ﴿وَلِيٌّ﴾؛ أي: ليس لها ولي يلي أمرها، وناصر ينصرها غير الله تعالى ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ يشفع لها في الآخرة عند الله إلا بإذنه، كما قال: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾، وقال: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾.
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
392
ثم أرشد إلى أنه لا ينفع في الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء، فقال: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾؛ أي: وإن تفد تلك النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء وتعطه ﴿لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾؛ أي: لا يقبل ذلك العدل والفداء منها، والمراد: أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل، وهذا كقوله في سورة البقرة: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)﴾.
والخلاصة (١): أن النفس المبسلة تمنع في ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة، فلا ولي ولا حميم ولا شفيع ولا فداء إلى نحو أولئك، مما ربما نفع في مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع. وفي هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية، وهو رجاء النجاة في الآخرة، كما هو الحال في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى، أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى، وتقرير لأصل ديني، وهو أن لا نجاة في الآخرة ولا رضوان من الله ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به، وعمل صالح يزكي النفس ويطهرها؛ أما من دس نفسه، وأبسله كسبه للسيئات والخطايا، واتخذ دين الله هزوًا ولعبًا، وغرته الحياة الدنيا، فلا تنفعه شفاعة، ولا تقبل منه فدية.
ثم بيَّن أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ المتخذون دينهم لعبًا ولهوًا المغترون بالحياة الدنيا هم ﴿الَّذِينَ أُبْسِلُوا﴾ وحرموا الثواب، وأسلموا للعذاب، وحبسوا عن دار السعادة ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾؛ أي: بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة، ويصدهم عن العقائد الزائغة.
ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أُبسلوا، فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المتخذين دينهم لعبًا ولهوًا ﴿شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: من ماء حار مغلي
(١) المراغي.
393
بالغ النهاية في شدة الحرارة، يستردد ويتجرجر في بطونهم، وتتقطع به أمعائهم ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كفرهم المستمر في الدنيا الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه، وهذه الجملة تأكيد وتفصيل لقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾.
والخلاصة (١): أن رسوخهم في الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير. وفي ذلك عبرة لمن يفقه القرآن، ولا يغتر بلقب الإِسلام، ويعلم أنَّ المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنة الرسول طريقه، لا من اغتر بالأماني والأوهام، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين والأولياء والناصرين.
الإعراب
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾.
﴿وَعِنْدَهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَعِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَعْلَمُهَا﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الظرف؛ لوقوعه خبرًا. ﴿وَيَعْلَمُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها، مسوقة لبيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات ﴿فِي الْبَرِّ﴾: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما. ﴿وَالْبَحْرِ﴾: عطف على البر.
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ
(١) المراغي.
394
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَسْقُطُ﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿وَرَقَةٍ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿يَعْلَمُهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿وَرَقَةٍ﴾، وجاءت (١) الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتقدير: وما تسقط من ورقة إلا عالمًا بها؛ لأنه مسقطها بإرادته. ﴿وَلَا﴾: (الواو): عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿حَبَّةٍ﴾: معطوف على ﴿وَرَقَةٍ﴾. ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ ﴿حَبَّةٍ﴾. ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾ معطوفان أيضًا على ﴿وَرَقَةٍ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾: جار ومجرور وصفة، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: إلا هو كائن في كتاب مبين، وجملة الاستثناء في محل النصب بدل من جملة الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ بدل كل من كل؛ أي: وما تسقط من ورقة، ولا توجد حبَّة وما بعدها إلا هو في كتاب مبين.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿بِاللَّيْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾. ﴿وَيَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿جَرَحْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما جرحتموه. ﴿بِالنَّهَارِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَرَحْتُمْ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب وتراخ. ﴿يَبْعَثُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ على كونها صلة الموصول
(١) الفتوحات.
395
لا محل لها من الإعراب.
﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿مُسَمًّى﴾: صفة له، والفعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، واللام متعلقة بـ ﴿يَبْعَثُكُمْ﴾، والتقدير: ثم يبعثكم فيه لقضاء أجل مسمى. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها.
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١)﴾.
﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿الْقَاهِرُ﴾، أو حال من الضمير المستتر في ﴿الْقَاهِرُ﴾ تقديره: حال كونه مستعليًا فوق عباده. ﴿وَيُرْسِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿حَفَظَةً﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على اسم الفاعل على كونها صلة لأل الموصولة، والتقدير: وهو الذي يقهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة.
وفي "الفتوحات": قوله: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ فيه ثلاثة أوجه (١):
أحدها: أنه عطف على اسم الفاعل الواقع صلة لـ ﴿أل﴾؛ لأنه في معنى
(١) الجمل.
396
يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده، ويرسل، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله.
والثاني: أنها جملة فعلية عطفت على جملة اسمية، وهي قوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾.
الثالث: أنها معطوفة على الصلة، و ﴿مَا﴾ عطف عليها، وهو قوله: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ و ﴿يَعْلَمُ﴾، وما بعده؛ أي: وهو الذي يتوفاكم، ويرسل عليكم حفظة. اهـ "سمين". ﴿حَتَّى﴾: ابتدائية لدخولها على الجملة، غائية لكون ما بعدها غاية لما قبلها. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُفَرِّطُونَ﴾: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿رُسُلُنَا﴾؛ أو مستأنفة مسوقة للإخبار عنهم بهذه الصفة. اهـ "كرخي". وفي "الفتوحات": قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ﴾ حتى (١) هذه هي التي يبتدأ بها الكلام، وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها، كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة تحفظ أعمالكم مدة حياتكم، حتى إذا انتهت مدة حياة أحدكم كائنًا ما كان، وجاءه أسباب الموت ومباديه.. توفته رسلنا. اهـ "أبو السعود".
﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (٦٢)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿رُدُّوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ على كونها جواب ﴿إِذَا﴾. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مَوْلَاهُمُ﴾: صفة أولى للجلالة. ﴿الْحَقِّ﴾: صفة ثانية له. ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الْحُكْمُ﴾: مبتدأ مؤخر،
(١) الجمل.
397
والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور باللام، والعامل في الحال الاستقرار الذي تعلق به الظرف.
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. ﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾. ﴿وَالْبَحْرِ﴾: معطوف على ﴿الْبَرِّ﴾. ﴿تَدْعُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾. ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾: حالان من فاعل ﴿تَدْعُونَهُ﴾. ولكن بعد تأويلهما بالمشتق؛ أي: تدعونه حال كونكم متضرعين ومخفين. ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾: اللام موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَنْجَانَا﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ هَذِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْجَانَا﴾. ﴿لَنَكُونَنَّ﴾ اللام: رابطة لجواب القسم. ﴿نَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على المتكلمين. ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿نكون﴾، وجملة ﴿نكون﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه تقديره: إن أنجانا.. نكون من الشاكرين، وقد اجتمع هنا شرط وقسم، فحذف جواب المؤخر منهما، وهو الشرط على القاعدة، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف منصوب على الحال من فاعل ﴿تَدْعُونَهُ﴾ تقديره: تدعونه قائلين: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.
﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾.
398
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ﴾: إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿مِنْهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾. ﴿وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ. وجملة ﴿تُشْرِكُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قُلِ﴾.
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ الْقَادِرُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿الْقَادِرُ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول القول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَبْعَثَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَبْعَثَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ تقديره: على بعثه عليكم عذابًا من فوقكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿الْقَادِرُ﴾. ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَبْعَثَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿شِيَعًا﴾: حال من مفعول ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾، ولكن في تأويل متفرقين. ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ﴾: فعل ومفعول أول معطوف على ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿بَأْسَ بَعْضٍ﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. ﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه
399
﴿نُصَرِّفُ﴾، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام. ﴿نُصَرِّفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به، وهذه الجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول لـ ﴿انْظُرْ﴾، و ﴿كَيْفَ﴾ معلقة له عن العمل في لفظه. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترجٍ وتعليل ونصب، والهاء: اسمها، وجملة ﴿يَفْقَهُونَ﴾ في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها، والمعنى: انظر يا محمَّد كيف نصرف لهم الآيات لكي يفقهوا ويفهموا ويتدبروا تلك الآيات.
﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَكَذَّبَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذَّبَ﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿قَوْمُكَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير به؛ أي: كذبوا به حال كونه حقًّا، وهو أعظم في القبح، أو الجملة مستأنفة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَسْتُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿وَكِيلٍ﴾. ﴿بِوَكِيلٍ﴾: خبر ﴿ليس﴾، والباء زائدة، وجملة ﴿ليس﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل وحرف تنفيس، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿رَأَيْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر
400
في محل النصب مفعول به لـ ﴿رأى﴾؛ لأن رأى بصرية يتعدى لمفعول واحد. ﴿يَخُوضُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَخُوضُونَ﴾. ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. ﴿أَعْرِضْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إِذَا﴾ مع جوابها مستأنفة. ﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾: فعل وفاعل وناصب، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى: إلى تقديره: إلى خوضهم في حديث غيره، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَعْرِضْ﴾. ﴿فِي حَدِيثٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَخُوضُوا﴾. ﴿غَيْرِهِ﴾: صفة ومضاف إليه مجرور؛ لأنه بمعنى مغاير. ﴿وَإِمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِمَّا﴾: حرف شرط، وما: زائدة. ﴿يُنْسِيَنَّكَ﴾: ينسين: فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة، حرف لا محل لها من الإعراب، والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به. ﴿الشَّيْطَانُ﴾: فاعل. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية؛ لكون الجواب جملة طلبية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَقْعُدْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بَعْدَ الذِّكْرَى﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَقْعُدْ﴾. ﴿مَعَ الْقَوْمِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَقْعُدْ﴾ أيضًا. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾، وجملة ﴿تَقْعُدْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الشرطية.
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿يَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قَدمت عليها. {مِنْ
401
شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿ذِكْرَى﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: ولكن ذكروهم ذكرى، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: لعل: حرف نصب وتعليل، والهاء: اسمها، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾.
﴿وَذَرِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ذَرِ﴾: فعل أمر مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب على المفعولية. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿دِينَهُمْ﴾: مفعول أول لها. ﴿لَعِبًا﴾: مفعول ثان. ﴿وَلَهْوًا﴾: معطوف عليه، والجملة صلة الموصول. ﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾: فعل ومفعول. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فاعل. ﴿دِينَهُمْ﴾: صفة لها، والجملة معطوفة على جملة الصلة. ﴿وَذَكِّرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ذكر﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المنصوب على كونه مفعولا لأجله، تقديره: وذكر به مخافة إبسال نفس. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُبْسَلَ﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض، وتاء تأنيث، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسٌ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبته. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ﴿وَلِيٌّ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿وَلِيٌّ﴾: اسم ليس مؤخر. ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ مستأنفة، أو حال من ﴿نَفْسٌ﴾ أو صفة لها، كما
402
ذكره "أبو السعود".
﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تَعْدِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسٌ﴾. ﴿كُلَّ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿عَدْلٍ﴾: مضاف إليه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُؤْخَذْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿كُلَّ عَدْلٍ﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق به، وجملة ﴿لَا يُؤْخَذْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿أُبْسِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُبْسِلُوا﴾. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبوه. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿شَرَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿شَرَابٌ﴾، والجملة الإسمية في محل الرفع خبر ثان لأولئك، أو في محل النصب حال من ضمير ﴿أُبْسِلُوا﴾، أو من الموصول، أو مستأنفة. ﴿وَعَذَابٌ﴾: معطوف على ﴿شَرَابٌ﴾. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿بِمَا كَانُوا﴾: الباء: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كفرهم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله: ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ المفاتح: جمع مفتح - بفتح الميم وكسر التاء - بمعنى: المخزن، فيكون اسم مكان، والمخزن - بفتح الميم وكسر الزاي -: المكان الذي يخزن فيه الجواهر النفيسة وغيرها، أو جمع مفتح بكسر الميم وفتح التاء، والمفتح: هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، فيكون اسم الآلة، ففي
403
الكلام استعارة كما سيأتي في مبحثها.
وفي "السمين": في المفاتح ثلاثة أقوال (١):
أحدها: أنه جمع مفتح بكسر الميم، والقصر مع فتح التاء، وهو الآلة التي يفتح بها، كمنبر ومنابر.
والثاني: أنه جمع مفتح بفتح الميم وكسر التاء، كمسجد، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس بقوله: هي خزائن المطر.
والثالث: أنه جمع مفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضًا إلا أن هذا فيه ضعف من حيث إنه كان ينبغي أن تقلب ألف المفرد ياء، فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نقل في جمع مصباح مصابيح، وفي جمع محراب محاريب، وهذا كما أتوا في جمع ما لا مدّ في مفرده، كقولهم: دراهم وصياريف في جمع: درهم وصيرف، فزادوا في هذا ونقصوا في ذلك. وقد قرئ ﴿مفاتيح﴾ كما مرَّ، وهي تؤيِّد أن مفاتح جمع: مفتاح، وإنما حذفت مدته، وجوز الواحدي أن يكون مفاتح جمع: مفتح - بفتح الميم والتاء - كمذهب على أنه مصدر، فعلى هذا مفاتح جمع: مفتح بمعنى: الفتح، ويكون المعنى: وعنده فتوح الغيب؛ أي: هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده. اهـ.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ والبحر (٢): كل مكان واسعٍ حاوٍ للكثير من الماء، والبر: ما يقابله.
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾ والسقوط: الوقوع من علو، والورقة واحدة الورق من النبات والكاغد، وهي معروفة، والرطب واليابس معروفان، يقال: رطب فهو رطيب، ورطب ويبس فهو يابس ويبيس، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ التوفي: أخذ الشيء وافيًا؛ أي: تامًّا كاملًا، ويقابله التوفية وهو إعطاء الشيء تامًّا كاملًا، ويقال: وفاه حقه فتوفاه منه، قال تعالى:
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
404
﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾، ويقال: توفاه واستوفاه: أحصى عدده، ثم أطلق التوفي على الموت؛ لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذًا تامًّا، وأطلق على النوم كما في الآية، وفي آية الزمر.
﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ والجرح: يطلق على العمل والكسب بالجوارح، وعلى التأثير الدامي من السلاح، وما في معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش، وتسمى الخيل والأنعام المنتجة جوارح أيضًا؛ لأن نتاجها كسبها، والجرح كالكسب، يطلق على الخير والشر، والاجتراح فعل الشر خاصة في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. وفي "المصباح": وجرح من باب نفع، واجترح عمل بيده واكتسب، ومنه قيل لكواسب الطير والسباع: جوارح جمع: جارحة؛ لأنها تكسب بيدها.
﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ﴾؛ أي: يوقظكم من النوم، وعرَّفوا النوم: بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهرًا عليه، تمنع حواسه الحركة، وعقله الإدراك.
﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ والحفظة: جمع: حافظ، مثل: كتبة وكاتب، وهو جمع (١) منقاس لفاعل وصفًا مذكرًا صحيح اللام عاقلًا، وقلَّ فيما لا يعقل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ
والمراد بالحفظة هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾.
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ والظلمات جمع: ظلمة، وهي عدم الضوء، وهي (٢) ضربان: ظلمات حسية؛ كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية؛ كظلمة الجهل بالمسالك والطرق، وظلمة فقد الأعلام والمنار، وظلمة الشدائد والأخطار؛ كالعواصف والأعاصير وهياج البحار إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس، وتدهش العقول. قال الزجاج: تقول
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
405
العرب لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب؛ أي: أنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وفي المثل؛ أي: رأى الكواكب ظهرًا؛ أي: أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارًا.
﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ التضرع: تفعل من الضراعة، وهو المبالغة في الضراعة، وهي الذل والخضوع، والمراد منه هنا: ما كان صادرًا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري المطوي في أنفس البشر. والخفية - بضم الخاء وكسرها -: الخفاء والاستتار. والدعاء قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء، وقد يكون بالإسرار هربًا من الرياء، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعًا صوته متضرعًا مبتهلًا، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصًا ومحتسبًا، ويتحرى أن لا تسمعه أذن، ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل المسؤول. والخفية - بضم الخاء وكسرها - كما مرَّ: اسم مصدر من أخفى الشيء يخفي إخفاء وخفية إذا ستره.
وقرأ الأعمش: ﴿خِيفة﴾ كما مرَّ بكسر الخاء وتقديم الياء الساكنة على الفاء، وهي من الخوف، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها.
﴿وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ والكرب: الغم الشديد، يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب قال عنترة:
وَمَكْرُوْبٍ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي
﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾؛ أي: يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إتفاق، فيجعلكم فرقًا مختلفة لا فرقة واحدة. ومعنى خلطهم (١): إنشاب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، كقول الشاعر:
وَكَتِيْبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيْبَةٍ حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِيْ
فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُوْرَهُمْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وَآخَرَ مُسْنَدِ
والشيع جمع: شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واحد.
(١) البحر المحيط.
406
وفي "الفتوحات" (١): والشيع جمع: شيعة، كسدرة وسدر، والشيعة من يتقوَّى به الإنسان، والجمع: شيع كما تقدم وأشياع، كذا قاله الراغب، والظاهر أن أشياعًا جمع: شيع كعنب وأعناب وضلع وأضلاع، وشيع جمع: شيعة، فهو جمع الجمع اهـ "سمين". وفي "القاموس": وشيعة (٢) الرجل - بالكسر -: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولَّى عليًّا وأهل بيته، حتى صار اسمًا لهم خاصَّةً، والجمع: أشياع وشيع؛ كعنب. انتهى.
﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ وهذا هو ما عليه الناس اليوم من الاختلافات وسفك بعضهم دماء بعض، والبأس: العذاب الشديد، كما في "المصباح".
﴿نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: نحولها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرًا للمعنى: وتقريبًا إلى الفهم.
﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ الفقه: فهم الشيء بدليله وعلته المفضي إلى الاعتبار والعمل به.
﴿لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ والوكيل: هو الذي توكل إليه الأمور. ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ والنبأ: الشيء الذي ينبأ عنه، والمستقر: يصح كونه مصدرًا، واسم مكان أو زمان؛ أي: استقرار أو مكانه أو زمانه.
﴿الَّذِينَ يَخُوضُونَ﴾ الخوض (٣)، في اللغة: هو الشروع في الماء والعبور فيه، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه، يقال: تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث.
﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ والذكرى مصدر: ذكر يذكر ذكرى، جاء على وزن: فعلى، وألفه للتأنيث، ولم يجىء مصدر على فعلى غيره. ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ أصل (٤) البسل في اللغة: التحريم والمنع، ومنه: هذا عليك بسل؛ أي: حرام
(١) الجمل.
(٢) القاموس المحيط.
(٣) الخازن.
(٤) الفتوحات.
407
ممنوع اهـ "خازن".
وعبارة "أبي السعود": وأصل البسل والإبسال: المن، ومنه: أسد باسل؛ لأن فريسته لا تفلت منه، أو لأنه ممتنع، والباسل: الشجاع؛ لامتناعه من قرنه، وهذا بسيل عليك؛ أي: حرام ممنوع اهـ.
وفي "المختار": وأبسله: أسلمه، فهو بسيل، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ قال أبو عبيدة: أن تسلم، والمستبسل: الذي يوطّن نفسه على الموت أو الضرب، وقد استبسل؛ أي: استقتل، وهو أن يطرح نفسه في الحرب ويريد أن يقتل أو يقتل لا محالة، وفسر هنا: بالحبس في النار، وبالحرمان من الثواب وبالفضيحة.
قال أبو حيان: الإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ويقال: أبسلت ولدي: أرهنته قال الشاعر:
وَإِبْسَالي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ بَعُوْنَاه وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ
بعوناه: جنيناه، والبعو: الجناية. انتهى.
﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾؛ أي: تفتد بكل فداء كما عبر به "الخازن"، وعدل بهذا المعنى من باب ضرب.
وفي "المصباح": يقال: عدلت هذا بهذا عدلًا من باب ضرب إذا جعلته مثله قائمًا مقامه، والعدل أيضًا: الفدية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾. اهـ.
وفي "البيضاوي": والعدل: الفدية؛ لأنها تعادل المفدى، و ﴿كُلَّ﴾ نصب على المصدر.
﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ وشراب (١): فعال بمعنى: مفعول، وفعال بمعنى: مفعول؛ كطعام بمعنى: مطعوم لا ينقاس، لا يقال: أكال بمعنى مأكول، وضراب
(١) الفتوحات.
408
بمعنى: مضروب، والحميم: الماء الشديد الحرارة، وأليم: شديد الألم، فكلاهما صيغة مبالغة على وزن فعيل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾؛ لأنه استعار المفاتح للأمور الغيبية، كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات، قال الزمخشري: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المغلقة بالأقفال، فهو سبحانه العالم بالمغيبات وحده، وفي قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾، فإنه استعار التوفي من الموت للنوم؛ لأن التوفي حقيقة في الموت لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز.
ومنها: الترشيح في قوله: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ وهو ذكر ما يلائم المستعار منه. قال القاضي: أطلق البعث ترشيحًا للتوفي؛ أي: لما استعير التوفي من الموت للنوم.. كان البعث - الذي هو في الحقيقة الإحياء بعد الموت - ترشيحًا؛ لأنه أمر يلائم المستعار منه اهـ "كرخي".
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾؛ لأنه استعار الظلمات المعطلة لحاسة البصر للشدائد الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول، وفي قوله: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾؛ لأن الذوق حقيقة في المذوقات.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾؛ لأن الخوض حقيقة في الانغماس في الماء، فاستعير للأخذ في الحديث والشروع فيه على وجه اللعب واللهو، وقيل: الخوض كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها.
ومنها: الحصر في مواضع، كقوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾؛ لأن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد حصره في الخبر، وكقوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾، وقوله:
409
﴿ألَا لَهُ الْحُكْمُ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾، وقوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ﴾، وقوله: ﴿وَلَا حَبَّةٍ﴾، وقوله: ﴿رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾، وقوله: ﴿اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، وقوله: ﴿فوق وتحت﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ للتسجيل عليهم بقبح ما ارتكبوا؛ حيث وضعوا التكذيب والاستهزاء مكان التصديق والتعظيم، وحق العبارة أن يقال: فلا تقعد معهم كما مر.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ من إسناد ما للسبب إلى المسبب؛ لأن المراد بالإسناد أسباب الموت ومقدماته.
ومنها: الاستفتاح والتنبيه في قوله: ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
410
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر جزاء الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، بأنه لا ولي لهم ولا شفيع من دون الله، وأنهم مبسلون في عذاب جهنم، ولهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.. أمر نبيه - ﷺ - بأن يقول لهم هذه المقالة؛ أي: كيف ندعوا من دون الله أصنامًا لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن أردنا منها نفعًا، ولا نخشى ضرها بوجه من الوجوه،
411
ومن كان هكذا.. فلا يستحق العبادة توبيخًا لهم وإنكارًا عليهم عبادتها.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه يحشر إلى جزائه العالم، وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم.. ذكر مبتدأ وجود العالم وخلقه له بالحق؛ أي: بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل؛ أي: لم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا، بل صدرا عن حكمة وصواب، وليستدل بهما على وجود الصانع؛ إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث، لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه جلَّ وعلا.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الجملة لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء، وتضمن البعث إفنائهم قبل ذلك.. ناسب ذكر الوصف بالحكيم، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة.. ناسب ذكر الوصف بالخبير، إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قوله: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾.. ناسب ذكر هذه الآية هنا، وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه؛ إذ هو جدهم الأعلى، فذكِّروا بأن إنكار هذا النبي محمَّد - ﷺ - عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها، وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد، وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليه السلام.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...﴾ الآية، سبب
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
412
نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن عبيد الله بن زجر عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلًا، ثم حمل، فقتل رجلًا آخر، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإِسلام بعد هذا، فقال رسول الله - ﷺ -: "نعم"، فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه، فقتل رجلًا ثم آخر، ثم قتل. قال فيرون: إن هذه الآية نزلت فيه. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٧١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء المشركين الذين يدعونك إلى دين آبائهم ﴿أَنَدْعُو﴾؛ أي: نعبد ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين عبادة الله الضار النافع ﴿مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾؛ أي: الأصنام التي لا تنفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناها، ولا تضرنا إن تركنا عبادتها، وأدنى مراتب المعبودية: القدرة على ذلك؛ أي: لا ينبغي لنا ولا يمكن منا أن نعبد غير الله سبحانه وتعالى بعد أن هدانا الله تعالى إلى الإِسلام والتوحيد، والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ ﴿و﴾ هل ﴿نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾؛ أي: وهل نرجع وراءنا وخلفنا إلى الشرك ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وأرشدنا إلى دينه وأكرمنا به، لا نرجع إلى الشرك، ويقال لكل (٢) من أعرض عن الحق إلى الباطل: أنه رجع إلى خلف، ورجع على عقيبه؛ لأن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا تكامل حصل له العلم، فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى.. فكأنه رجع إلى أول مرة. والمعنى (٣): قل يا محمَّد للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعوا من دون الله تعالى حجرًا أو شجرًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده التفسير والنفع، والحياة والموت؟ إن كنتم تعقلون.. فتميزون بين الخير والشر، ولا شك أن خدمة من يرتجى نفعه ويرهب ضره أحق وأولى من خدمة ما لا يرجى منه شيء منهما، وهل نرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله
(١) لباب النقول.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
413
إلى الإِسلام والتوحيد؟
والخلاصة: أن ذلك لا ينبغي لنا ولا يقع منا للأسباب الآتية:
١ - أن هذا تحول وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء، ويمنح الخير إن شاء إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
٢ - أنه رد على الأعقاب، وتقهقر إلى الوراء.
٣ - أن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧)﴾.
ثم ضرب مثلًا يصوِّر المرتد في أقبح حالة كانت تتخيلها العرب، فقال: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أنرد على أعقابنا ونرجع إلى الشرك حالة كوننا مشبهين بالشخص الذي استهوته واختطفته وأضلته الشياطين والغيلان ومردة الجن عن الطريق الموصل إلى المقصد، واستتبعته وألقته في الهوية والبراري والصحارى من الأرض حالة كونه ﴿حَيْرَانَ﴾؛ أي: متحيرًا في شأنه لا يدري أين يذهب، لضلاله عن الطريق ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك المستهوى الضال عن الطريق ﴿أَصْحَابٌ﴾ ورفقة ﴿يَدْعُونَهُ﴾ وينادونه ليردوه ﴿إِلَى الْهُدَى﴾؛ أي: إلى الطريق الذي أخطأ عنه قائلين في ندائهم: ﴿ائْتِنَا﴾ وجئنا وأقبل إلينا، فإن الطريق ها هنا، فلا يسمعهم ولا يجيبهم، فيهلك في الصحارى؛ أي: لا ينبغي لنا أن نكون مثل ذلك المستهوى الضال عن الطريق. والمعنى؛ أي: أنرد على أعقابنا، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى ويضل في الأرض حيران تائهًا، له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه، ويقولون له: ائتنا.
وخلاصة المثل (١): أن من يرتد مشركًا بعد الإيمان.. كمن جعله العشق أو
(١) المراغي.
414
الجنون هائمًا على وجهه ضالًا في الفلوات حيران لا يهتدي، تاركًا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه: عد إلينا وارجع، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة. قال صاحب "الكشاف": وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان وتختطفه، والغيلان تستولي عليه، كما قال تعالى: ﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. قال ابن عباس (١): مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه، فيصبح وقد ألقته في مهمهٍ ومهلكة، فهو حائر في تلك المهامه. وحمل الزمخشري ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل؛ كأنه قيل: كالذي أمالته الشيطان عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر، وحمله غيره كأبي عليّ على أنه من الهُويُّ بمعنى: السقوط؛ أي: ألقته في هوة ووهدة، ويكون استفعل بمعنى: أفعل، نحو استزل وأزل.
وقرأ السلمي والأعمش وطلحة (٢): ﴿استهوته الشيطان﴾ بالتاء، وإفراد الشيطان. وقال الكسائي: إنها كذلك في مصحف ابن مسعود انتهى. والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعًا. وقرأ الحسن: ﴿الشياطون﴾، وتقدم، وقد لحن في ذلك، وقد قيل: هو شاذ قبيح، وفي مصحف عبد الله: ﴿أتينا﴾ فعلًا ماضيًا لا أمرًا، فـ ﴿إِلَى الْهُدَى﴾ متعلق به.
ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه، لا فيما يدعونه إليه، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾؛ أي: إن (٣) طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم ﴿هُوَ الْهُدَى﴾ والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام؛ لأن ما وراءه ضلال، ففيه زجر عن عبادتها، كأنه يقول: لا نفعل ذلك، فإن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره، والمعنى: قل لهم يا محمَّد: إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته هو الهدى الحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
415
ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعًا لما ألفيتم عليه آبائكم. ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: وقيل لهم يا محمَّد: وأمرنا بأن نسلم ونخلص العبادة لله سبحانه وتعالى مالك العالمين، فأسلمنا لأنه هو الذي يستحق العبادة منا لا غيره،
٧٢ - والآمر هو الله سبحانه وتعالى ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ﴾؛ أي: واتقوا رب العالمين؛ أي: وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى الله؛ لأن فيهما ما يقرب إليه، والمعنى: وأمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة وبالتقوى. وإقامة (١) الصلاة: الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله، وهي: أن تزكِّي النفس بمناجاة الله وذكره، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والتقوى: اتقاء ما يترتب عليه مخالفة دين الله وشرعه.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى لقائه ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتجمعون؛ أي: وهو سبحانه وتعالى الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، فليس من العقل ولا من الحكمة أن يعبد أو يخاف أو يرجى غيره تعالى.
٧٣ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد على غير مثال سابق ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع وما فيها ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وما فيها خلقًا ملتبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ والحكمة، وهو أنه على وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته البالغة، ولم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا، فهو لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما كسبت، ونحو هذه الآية قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾، وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦)﴾ ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ظرف لقوله: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾؛ أي: وقوله سبحانه وتعالى هو الحق الواقع الذي لا شك فيه حين يقول للشيء الذي أراد إيجاده: كن؛ أي: اخرج من العدم، فيكون؛ أي: فيوجد ذلك الشيء الذي
(١) المراغي.
416
تعلقت إرادته بإيجاده، وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه، فلا مرد لأمره، ولا تخلف لقضائه وحكمه، ومن كان أمره التكويني مطاعًا.. يكون أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج في النفس ولا ضيق منه، فالخلق حق، والأمر حق: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾.
والمراد من هذا الأمر (١): التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات، وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة، بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلًا. والمراد بالقول كلمة: ﴿كُنْ﴾ تمثيل؛ لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنًا من زمن النطق بـ ﴿كُنْ﴾.
﴿وَلَهُ﴾ سبحانه وتعالى خاصة ﴿الْمُلْكُ﴾ والسلطنة ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾ وينادى ﴿فِي الصُّورِ﴾ لبعث الخلائق، وهو يوم القيامة؛ أي: وله سبحانه وتعالى الملك يوم الحشر يوم يبعث من في القبور، وينفخ في الصور، والأمر حينئذ لله وحده، ولا تملك نفس لنفس شيئًا من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق أن يدعو سواه، ويتخذ له إلهًا غير الله، ويرد على عقبيه ويرجع إلى أسوأ حاليه؟! وإنما أخبر (٢) سبحانه وتعالى عن ملكه يومئذ، وإن كان الملك له تعالى خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا منازع له يومئذ يدِّعي الملك، وأنه المنفرد بالملك يومئذ، وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم، واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، وأنه لا منازع له فيه، وعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور.
واختلفت (٣) العلماء في ﴿الصُّورِ﴾ المذكور في الآية، فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه، وهو لغة أهل اليمن. قال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق، ويدل على
(١) المراح.
(٢) الخازن.
(٣) الخازن.
417
صحة هذا القول: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي - ﷺ -، فقال: ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه". أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ"، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله - ﷺ -، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟ وكيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا"، وربما قال: "توكلنا على الله" أخرجه الترمذي. وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعنى النفخ فيها إحياؤها بنفخ الروح فيها، وهذا قول الحسن ومقاتل. والقول الأول أصح؛ لما تقدم في الحديث، ولقوله تعالى في آية أخرى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى﴾، ولإجماع أهل السنة على أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين: نفخة الصعق، ونفخة البعث للحساب.
وقرأ الحسن (١): ﴿الصور﴾ بتحريك الواو، وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض، ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة؛ كثومة وثوم. وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿ننفخ﴾ بنون العظمة.
وهو سبحانه وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ أي: عالم ما غاب عن عباده وما يشاهدونه ويعلمونه، فلا يغيب عن علمه شيء. قال الحسن: الغيب: ما غاب عنكم مما لم تروه، والشهادة: ما قد رأيتم من خلقه. وقال ابن عباس: الغيب والشهادة: السر والعلانية: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْحَكِيمُ﴾ في جميع أفعاله وتدبير خلقه ﴿الْخَبِيرُ﴾ بكل ما يفعلونه من خير وشر.
والمعنى (٢): أن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، والذي قوله الحق تكوينًا وتكليفًا، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق: هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
418
وخفاياها، ولا يشذ عن علمه شيء منها، فلا ينبغي لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾، وقال: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾.
وقرأ الأعمش (١): ﴿عالمِ﴾ بالخفض، ووُجِّه على أنه بدل من الضمير في: ﴿له﴾، أو من ﴿رب العالمين﴾ أو نعت للضمير في ﴿له﴾، والأجود الأول؛ لبعد المبدل منه في الثاني، وكون الضمير الغائب يوصف إنما أجازه الكسائي وحده، وليس مذهب الجمهور.
٧٤ - ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم - إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم - قصص جدهم إبراهيم الخليل الذي يعظمونه ويدَّعون اتباع ملته، حين جادل قومه وراجعهم في بطلان ما كانوا يعملون؛ إذ قال لأبيه آزر منكرًا عليه وعلي قومه، وعائبًا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا أبتِ ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ تعبدها وتجعلها معبودًا لك من دون الله الذي خلقك وخلقها، فهو المستحق للعبادة دونها والأصنام: جمع صنم، وهو ما صوِّر على هيئة الإنسان، وعبد من دون الله، سواء كان من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك، ذكره "الصاوي". ﴿إِنِّي أَرَاكَ﴾ يا أبتِ ﴿وَقَوْمَكَ﴾ الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ وخطأ عن الصراط المستقيم. ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: واضح ذلك الضلال لا شبهة فيه للهدى، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها بأيديكم من الحجارة، أو تقطعونها من الخشب، أو تصنعونها من المعادن، فأنتم أرفع منها قدرًا وأعز جانبًا، ولم تكن آلهة بذاتها، بل باتخاذكم إياها آلهة، ولا يليق بالعاقل أن يعبد ما هو مساوٍ له في الخلق، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه، ومحتاج إلى الغني القادر، ولا يقدر على شيء لا نفع ولا ضر، ولا إعطاء ولا منع.
(١) البحر المحيط.
419
وقرأ الجمهور: ﴿ءَازَرَ﴾ بفتح الراء. وقرأ أبي وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء، وكونه علمًا، ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء، وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذًا. وفي مصحف أبي: ﴿يا آزر﴾ - بحرف النداء - ﴿اتخذت أصنامًا﴾ بالفعل الماضي. فيحتمل العلمية والصفة. وقرأ ابن عباس أيضًا: ﴿أأزرًا تتخذ أصنامًا﴾ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكون الزاي ونصب الراء منونة، وحذف همزة الاستفهام من ﴿أتتخذ﴾. قال ابن عطية: المعنى: أعضدًا وقوة ومظاهرة على الله تتخذ، وهو من قوله: ﴿اشدد به أزرى﴾. وقال الزمخشري: هو اسم صنم، ومعناه: أتعبد أزرًا على الإنكار، ثم قال: أتتخذ أصنامًا آلهةً؛ تبيينًا لذلك وتقريرًا، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنه كالبيان له. وقرأ ابن عباس أيضًا وأبو إسماعيل الشامي: ﴿أإزرًا﴾ بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام ﴿تتخذ﴾. قال ابن عطية: ومعناها: إنها مبدلة من واو، كوسادة وإسادة، كأنه قال: أوزرًا ومأثمًا تتخذ أصنامًا، ونصبه على هذا بفعل محذوف. وقرأ الأعمش: ﴿إزرا تتخذ﴾ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها، وبغير همزة استفهام في ﴿تتخذ﴾، وذكره أبو حيان في "البحر".
واختلف (١) العلماء في لفظ ﴿ءَازَرَ﴾ فقال محمَّد بن إسحاق والكلبي والضحاك: آزر: اسم أبي إبراهيم، وهو تارح، ضبطه بعضهم بالحاء المهملة، وبعضهم بالخاء المعجمة، فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارح، مثل يعقوب وإسرائيل: اسمان لرجل واحد، فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي: آزر، وتارح لقب له، أو بالعكس، والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح؛ ليعرف بذلك، وكان آزر أبو إبراهيم من كوثى، وهي قرية من سواد الكوفة. وقال سليمان التيمي: آزر: سب وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج. وقيل: الشيخ الهرم، وهو بالفارسية، وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظًا قليلة فارسية، وقيل: هو المخطىء، فكأن إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر: اسم صنم كان والد
(١) الخازن.
420
إبراهيم يعبده، وإنما سماه بهذا الاسم؛ لأن من عبد شيئًا أو أحبه.. جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسمًا له، فهو كقوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾. وقيل: معناه: وإذ قال إبراهيم لأبيه يا عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والصحيح هو الأول: أن آزر اسم لأبي إبراهيم؛ لأن الله تعالى سماه به، وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح، ففيه نظر؛ لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم.
وقد أخرج البخاري في "أفراده" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - قال: "يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة.. " الحديث، فسماه النبي - ﷺ -: آزر أيضًا، ولم يقل: أباه تارح، فثبت بهذا أن اسمه الأصلي آزر لا تارح، والله أعلم. وقيل: كان آزر من أهل حران، وهو تارخ بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، ذكره أبو حيان في "البحر". وإبراهيم اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح، وهو العاشر من أولاد سام كما في سفر التكوين من التوراة، ولد في بلدة: أور؛ أي: النور، من بلاد الكلدان، وهي المعروفة الآن باسم: أورفا في ولاية حلب كما يرجح ذلك المؤرخون. ومعنى إبراهيم: أبو الجمهور العظيم؛ أي: أبو الأمة، وهو تبشير من الله له بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام.
وقد أثبت علماء الآثار (١) أن عرب الجزيرة سكنوا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر، وغلبت لغتهم فيهما، ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابي الذي كان معاصرًا لإبراهيم عليه السلام عربي، وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية في الوادي الذي بنيت فيه مكة، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك، والله أعلم.
٧٥ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، وهو أنهم
(١) المراغي.
421
كانوا في ضلال مبين في عبادتهم للأصنام والأوثان ﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض؛ أي: خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع، فأريناه تلك الكواكب التي تدور في أفلاكها على وضع لا تعدوه، وأريناه الأرض وما في طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان في معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه، وجلينا له بواطن أمورها وظواهرها، مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شيء. والمعنى (١): وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام.. نريه ملكوت السموات والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ﴾؛ لأنه سبحانه وتعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم، فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض، فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى، والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة، كالرهبوت والرغبوت والرحموت: من الرهبة والرغبة والرحمة. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض، وذلك أنه أقيم على صخرة، وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب، وحتى رأى مكانه في الجنة، فذلك قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ يعني: أريناه مكانه في الجنة، وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين، ورأى ما فيها من العجائب. وقرأ (٢) أبو السمال: ﴿مَلْكُوتَ﴾ - بسكون اللام -: وهي لغة بمعنى: الملك. وقرأ عكرمة: ﴿ملكوث﴾ بالثاء المثلثة. وقال: ﴿ملكوثا﴾ باليونانية والقبطية. وقال النخعي: هي ﴿ملكوثا﴾ بالعبرانية. وقرىء: ﴿وكذلك ترى﴾ التاء من فوق ﴿إبراهيم ملكوت﴾ - برفع التاء -؛ أي: تبصره دلائل الربوبية.
وقوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ معطوف على محذوف معلوم من السياق تقديره: وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليقيم بها الحجة على
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
422
المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الموقنين؛ أي: من زمرة الراسخين في الإيقان، البالغين عين اليقين. وقيل: الواو زائدة، ومتعلق ﴿الْمُوقِنِينَ﴾ محذوف تقديره: من الموقنين بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته ورسالته. واليقين وكذا الإيقان: عبارة (١) عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة؛ لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت.. صارت سببًا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب، وزالت الشبهة عند ذلك.
٧٦ - ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض، فقال: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾؛ أي: إنه سبحانه وتعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض.. كان من أول أمره في ذلك أنه لما جن وأظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من عالم الأرض.. نظر في ملكوت السموات فـ ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ عظيمًا ممتازًا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه، وهو كوكب: المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والرومان، وهو في السماء السادسة. وقيل: هو الزهرة، وهي في السماء الثالثة، وبالجملة فالكوكب من السبعة السيارة
المجموعة في قول بعضهم:
زُحَلٌ شَرَى مَرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارَا
وكان قوم إبراهيم أئمتهم في هذه العبادة، وهم لهم مقتدون، فلما رآه ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿هَذَا﴾ الكوكب ﴿رَبِّي﴾ ومعبودي في زعمكم؛ أي: قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدًا للإنكار عليهم، فحكى مقالتهم أولًا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها، فأوهمهم أولًا أنه موافق لهم على زعمهم ثم كر عليه بالنقض بانيًا دليله على الحس والعقل ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ وغاب وغرب هذا الكوكب واحتجب عنه ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾؛ أي: لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان، المتغيرين من حال إلى حال، المحتجبين
(١) الخازن.
بالأستار؛ أي: لا أحب (١) ربًّا يغيب ويحتجب؛ إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقده، فما بالك بحب العبادة له الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله؛ لأنه قد هدت إليه الفطرة، وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغي أن يكون إلا للرب الحاضر القريب السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته:
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
والباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾، وقد جاء في الحديث في وصف الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
والخلاصة: أن في هذا تعريضًا بجهل قومه في عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدري شيئًا من أمر عبادتهم، وهذا قريب من قوله لأبيه: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾. وإنما احتج (٢) إبراهيم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؛ لأن الاحتجاج بالأفول أظهر؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاء بلفظ ﴿الْآفِلِينَ﴾؛ ليدل على أن ثَمَّ آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول، فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث.
٧٧ - ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ إبراهيم ﴿الْقَمَرَ﴾ حال كونه ﴿بَازِغًا﴾؛ أي: طالعًا من وراء الأفق أول طلوعه ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿هَذَا﴾ القمر الطالع ﴿رَبِّي﴾؛ أي: معبودي على طريق الحكاية لما كانوا يقولون؛ تمهيدًا لإبطاله كما علمت فيما سلف، والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب في ليلة، ورأى القمر في الليلة التالية ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ القمر وغاب، كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرًا وأسطع نورًا وأقوى منه ضياء ﴿قَالَ﴾ إبراهيم مسمعًا من حوله من قومه: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾؛ أي: لئن لم يثبتني ربي على الهداية ويوفقني للحجة، وليس المراد
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
أنه لم يكن مهتديًا؛ لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة. وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى. ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ الذين أخطؤوا الحق في ذلك، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله، واتبعوا أهواءهم، ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه وتعالى.
وفي هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه، وإرشاد إلى توقف الهداية على الوحي الإلهي،
٧٨ - وقد انتقل في المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم، والتصريح بأنهم على شرك بيِّن بعد أن تبلج الحق وظهر غاية الظهور، وذلك قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ﴾ حالة كونها ﴿بَازِغَةً﴾؛ أي: طالعة من وراء الأفق ﴿قَالَ﴾ إبراهيم مشيرًا إليها ﴿هَذَا﴾ الطالع، أو هذا الذي أرى الآن هو ﴿رَبِّي﴾؛ أي: معبودي، وإنما قال هذا ولم يقل هذه مع كون الشمس مؤنثة، قيل: نظرًا لكونها بمعنى: الطالع كما أشرنا إليه في الحل، أو نظرًا لكون الخبر مذكرًا، أو لأن تأنيثها غير حقيقي ﴿هَذَا﴾ الطالع الآن ﴿أَكْبَرُ﴾ من الكوكب والقمر قدرًا، وأعظم ضياء ونورًا، فهو أجدر منهما بالربوبية، وفي هذا مبالغة في المجاراة لهم، وتمهيد لإقامة الحجة عليهم، واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ الشمس وغابت كما أفل غيرها من الكوكب والقمر، واحتجب ضوؤها المشرق، وكانت الوحشة بذلك أشدَّ من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر.. صرح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم، و ﴿قَالَ﴾ متبرئًا من شرك قومه ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث.
والخلاصة: أنه حاور وداور وتلطف في القول، وأرخى لخصمه العنان حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجهٍ وأحسن طريق متبرئًا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابًا وآلهةً مع الله،
٧٩ - وبعد أن تبرأ من شركهم.. قفى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص، فقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾؛ أي: إني جعلت توجهي في عبادتي، أو قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عَزَّ وَجَلَّ، وذكر الوجه؛
425
لأنه العضو الذي يعرف به الشخص، أو لأنه يطلق على الشخص كله ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: للإله الذي خلق السموات والأرض، وأكمل خلقهن أطوارًا في ستة أيام، فهو خالق هذه الكواكب النيرات، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من المعادن والنباتات حالة كوني ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة التي هي الشرك والخرافات إلى الدين الحق الذي هو التوحيد والإخلاص لله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بالله شيئًا من المخلوقات، وفي معنى الآية قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.
وإسلام (١) الوجه له تعالى: توجه القلب إليه، وعبر عنه به؛ لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال أو الإعراض، والسرور أو الكآبة إلى نحو أولئك، وتوجيهه له: جعله يتوجه إليه وحده في طلب حاجته، وإخلاص عبوديته إذ هو المستحق للعبادة القادر على الأجر والثواب. ومراد إبراهيم أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وغيرها، فتوجهه وإسلامه خالص لا يشوبه شرك ولا رياء، وما هو من المشركين به، الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل. وظاهر ما حكاه الله عن إبراهيم عليه السلام أن قومه يتخذون الأصنام آلهة لا أربابًا، ويتخذون الكواكب أربابًا آلهة، والإله هو المعبود، وكل من عبد شيئًا.. فقد اتخذه إلهًا، والرب هو السيد المالك المربي المدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء، وفي كل زمن، وعلى كل حال، وملك غيره ناقص موقوت، فهو المعبود بحق، والعبادة: هي التوجه بالدعاء والتعظيم القولي أو الفعلي إلى ذي السلطان الأعلى، خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه.
والأصل (٢) في اختراع عبادة غير الله تعالى من حجر أو شجر أو شمس أو
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
426
قمر أمران:
١ - أن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق، ليس خاضعًا لسنن الله في الأسباب والمسببات.
٢ - اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق، تشفع عنده، وتقرب إليه كل من توجه إليها، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل؛ لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤاله، وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها، وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة، ومن ثمَّ كانوا يقولون في طوافهم بالبيت الحرام: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما مَلك.
وكان قوم إبراهيم عليه السلام قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة، إذ إنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم، ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم وضرهم، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتي في حججهم في سورة الشعراء، ومن ثَمَّ اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابًا مدبرين، لكنهم اتخذوا (١) الكواكب أربابًا لما لها من التأثير السببي في الأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس، والقمر يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام، وينصر جندهم ويخذل عدوهم، ويعتقدون أنَّ مرداخ - وهو المشتري - شيخ الأرباب، ورب العدل والأحكام، وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن رنكال - وهو المريخ - رب الصيد وسلطان الحرب، وأن عشتار - وهو الزهرة - ربة الغبطة والسرور والسعادة، وتمثل بصورة امرأة عارية، وأن - نيو - وهو عطارد - رب العلم والحكمة.
وجاء إبراهيم بحجته البالغة، فحصر العبادة في فاطر السموات والأرض
(١) المراغي.
427
وحده دون غيره من الوسائل، فقال في تماثيلهم: ﴿بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
٨٠ - ﴿وَحَاجَّهُ﴾؛ أي: حاج إبراهيم عليه السلام وجادله ﴿قَوْمُهُ﴾ وخاصموه ونازعوه في أمر التوحيد، فهو إذ أبان لهم بطلان عبادة الأصنام، وربوبية الكواكب، وأثبت لهم وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده، حاجوه وخاصموه ببيان أوهامهم في شركهم، إذ قالوا: إن اتخاذ الآلهة لا ينافي الإيمان بالله الفاطر للسموات والأرض؛ لأنهم شفعاء عنده، ولما لم يجد ذلك معه.. خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا: إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم، وليس للمقلد أن يحتج، ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، وكثيرًا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة؛ إذ يومض في قلبه نورها، ثم يعود إلى سابق وهمه خائفًا مما لا يخاف، راجيًا ما لا يرجى.
﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ وتجادلوني ﴿في﴾ شأن ﴿اللهِ﴾ وما يجب في الإيمان به؛ أي: أتخاصمونني في كونه لا شريك له ولا ند ولا ضد، والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: لا تخاصموني ولا ينبغي لكم ذلك ﴿و﴾ الحال أنه سبحانه وتعالى ﴿قد هداني﴾ وأرشدني إلى توحيده، وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية، والمعنى: وقد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص، وبما بصرني به من الحجة التي أقمتها عليكم، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم. وقرأ (١) نافع وابن عامر بخلاف عن هشام: ﴿أَتُحَاجُّوني﴾ بتخفيف النون، وأصله بنونين الأولى علامة الرفع، والثانية نون الوقاية، والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو. وقرأ باقي السبعة: بتشديد النون أصله: أتحاجونني، فأدغم فرارًا من ثقل توالي مثلين متحركين.
(١) البحر المحيط.
428
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾؛ أي: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون الله سوءًا ينالني في نفسي، ذلك أني أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع.
قال هذا الكلام لهم لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه؛ أي: إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع. والضمير في: ﴿بِهِ﴾ يجوز أن يعود على الله؛ أي: الذي تشركونه بالله، وأن يعود على ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي: الذي تشركون به الله تعالى ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾؛ أي: لا (١) أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها، فإنه لا محالة كما شاء ربي، فإن شاء أن يسقط عليَّ صنم يشجُّني، أو كسف من شهب الكواكب يقتلني، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكواكب، ولا بقدرته ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته، ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الله الجارية إلا بما يثبت في علمه الأزلي.
وحاصل المعنى (٢): وحاجه قومه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك، ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليدًا، وبالتخويف مما يعبدونه من الأصنام، كقول قوم هود: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده، ورفض ما سواه، وأنه لا يخاف من آلهتهم. ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله، فقال: ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾؛ أي: أحاط ربي بكل شيء علمًا، فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب. والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ داخلة على محذوف وهي للاستفهام التقريري والتوبيخي، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضري ولا
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
429
على إيصال النفع إليكم، فالسلطة العليا له تعالى وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئًا من النفع أو التفسير.. فلا يكون ذلك داعيًا لرفعها عن رتبة المخلوقات، وجعلها أربابًا ومعبودات، وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه؛ لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، ويهدي إليه الوجدان.
٨١ - وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم، بل يخاف الله وحده.. تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخاف، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه، وقال ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ﴾ وأرهب ﴿مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ ـوه بربكم من خلقه، فجعلتموه ندًّا له ينفع ويضر ﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾؛ أي: حجة بينة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكًا في الخلق والتدبير، أو في الوساطة والشفاعة، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى.
والمعنى (١): وكيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله، وهو الضار النافع الخالق الرازق، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصًا ولا متحولًا، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم والتعجب من فساد عقولهم، حيث خوفوه خشبًا وحجرًا لا ينفع ولا يضر، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله، وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله. و ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ مفعول أشركتم؛ أي: ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بعبادتها عليكم سلطانًا شركاء لله، أو المعنى: إن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له، ولا أنزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة، وجعلوها شركاء لله سبحانه وتعالى؟!
والخلاصة (٢): أن ما يدعى لصحة هذا الخوف باطل، وأنه عليه السلام لم
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
430
يجد لهذا الخوف وجهًا، فلا يخاف الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدعى لهما. وقوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ مذكور على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان، والتقليد ليس بعذر، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة، والله لم ينزل بما ادعيتموه سلطانًا؛ لأنه باطل، فلا سلطان عليه ولا دليل.
والاستفهام في قوله: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾ استفهام استخبار وتقرير؛ أي: فأي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته. والمراد بالفريقين: فريق الموحدين: الذين يعبدون الله وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره، وفريق المشركين: الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب، فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر؛ كالشمس والقمر والكواكب والملائكة، ونكتة التعبير بـ ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ دون أن يقول: فأينا أحق بالأمن: الإشارة إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، لا خاصة به وبهم، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله، وإن كان قد علم قطعًا أنه هو الآمن لا هم، كما قال الشاعر:
فَلَئِنْ لَقِيْتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ أَيِّيْ وَأَيُّكَ فَارِسُ الأَحْزَابِ
أي: أينا، ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر.. فأخبروني بذاك وبيِّنوه بالأدلة. وفي هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق، أو السكوت على الحمق والجهل.
والمعنى: أي (١) إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات.. فكيف تخوفوني بها، وكيف
(١) الشوكاني.
431
أخافها، وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه؟ وبعد هذا فأخبروني؛ أي: الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف إن كنتم تعلمون بحقيقة الحال، وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة؟
٨٢ - ثم بين سبحانه وتعالى الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل، فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾؛ أي: إن الذين آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شيئًا ولم يلبسوا؛ أي: لم يخلطوا إيمانهم بظلم؛ أي: بشرك، ولم ينافقوا في إيمانهم ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ يوم القيامة من عذاب النار دون غيرهم ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ في الدنيا إلى سبيل الرشاد والصواب ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل. والمراد (١) بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه بالله ويخلطه به: هو الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه، أو من دونه، فيعظم كتعظيمه، ويحبه كحبه للاعتقاد أنَّ له نفعًا أو ضرًّا بذاته أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضار أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام. يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية.. شق ذلك على المسلمين، وقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "إنه ليس ذلك الذي تعنون، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: ﴿لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. والمراد بالأمن: الأمن من عذاب الله الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته.
وقرأ مجاهد (٢): ﴿ولم يلبسوا إيمانهم بشرك﴾، ولعل ذلك تفسير معنى؛ إذ هي قراءة تخالف السواد. وقرأ عكرمة: ﴿ولم يلبسوا﴾ بضم الياء.
٨٣ - ﴿وَتِلْكَ﴾ الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ...﴾ إلى قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ المثبتة للحق، المزيفة
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
432
للباطل، هي ﴿حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: هي الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناه إياها؛ إما بوحي، أو إلهام حجة. ﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾ ليلزمهم ويقنعهم بها ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة، أو بما هو أعم من ذلك؛ أي: إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها، فالعلم درجة كمال، والحكمة درجة كمال، وقوة المعارضة في الحجاج درجة كمال، والسيادة والحكم بالحق كذلك، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات؛ لأنها تشمل عليها وتزيد. والله يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقي درجته، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه، ويؤتي صاحب الدرجة الوهبية: النبوة ما لم يؤتِ غيره من أهل المناقب: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبره لعباده من الرفع والخفض ﴿عَلِيمٌ﴾ بشؤونهم من استحقاق الرفع وعدمه وسيريك ذلك عيانًا في سيرتك مع قومك، كما أراكه بيانًا فيما حدث عن إبراهيم مع قومه، وتأس في نفسك وقومك المكذبين بأبيك، واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر.
ويحتمل (١) أن يكون المراد بالخطاب إبراهيم، فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب.
الإعراب
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ في الْأَرْضِ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت الهمزة للاستفهام الإنكاري. ﴿نَدْعُو﴾: فعل وفاعل، والجملة في
(١) البحر المحيط.
433
محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نَدْعُو﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿نَدْعُو﴾. ﴿لَا﴾ نافية ﴿يَنْفَعُنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَلَا يَضُرُّنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَنْفَعُنَا﴾. ﴿وَنُرَدُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود علي المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿نَدْعُو﴾. ﴿عَلَى أَعْقَابِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نُرَدُّ﴾، أو حال من ضمير ﴿نُرَدُّ﴾؛ أي: منقلبين على أعقابنا. ﴿بَعْدَ﴾: منصوب على الظرفية. ﴿إِذْ﴾: حرف بمعنى أن المصدرية لا محل لها من الإعراب. ﴿هَدَانَا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة ﴿بَعْدَ﴾ إليه تقديره: بعد هداية الله إيانا، والظرف متعلق بـ ﴿نُرَدُّ﴾. وعبارة "الجمل" هنا: قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله﴾ (١) ﴿إِذْ﴾: ظرفية؛ أي: بعد وقت هدانا الله؛ أي: بعد وقت هداية الله لنا، أو بمعنى أن المصدرية، وهو ظاهر اهـ شيخنا. ﴿كَالَّذِي﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿نُرَدُّ﴾؛ أي: نرد على أعقابنا مشبهين بالذي استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف تقديره: نرد ردًّا، مثل: رد الذي استهوته الشياطين. ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿في الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾.
﴿حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١)﴾.
﴿حَيْرَانَ﴾: حال من ضمير ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾. وعبارة "الجمل" هنا قوله: ﴿في الْأَرْضِ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بقوله ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾.
الثاني: أنه حال من مفعول ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾.
(١) الفتوحات.
434
الثالث: أنه حال من ﴿حَيْرَانَ﴾.
الرابع: أنه حال من الضمير المستكن في ﴿حَيْرَانَ﴾، و ﴿حَيْرَانَ﴾ إما حال من هاء ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾، وإما من ﴿الذي﴾، وإما من الضمير المستكن في الظرف. انتهت ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أَصْحَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿حَيْرَانَ﴾. ﴿يَدْعُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿إِلَى الْهُدَى﴾: متعلق به، والجملة صفة لـ ﴿أَصْحَابٌ﴾. ﴿ائْتِنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل ﴿يَدْعُونَهُ﴾؛ أي: يدعونه قائلين ائتنا. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ هُدَى اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿هُدَى اللهِ﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾: ومضاف إليه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْهُدَى﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَأُمِرْنَا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لِنُسْلِمَ﴾: اللام: حرف جر بمعنى الباء. ﴿نُسْلِمَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. ﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نُسْلِمَ﴾، وجملة ﴿نُسْلِمَ﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام التي بمعنى الباء المتعلقة بـ ﴿أُمِرْنَا﴾، والتقدير: وأمرنا بالإِسلام لرب العالمين.
﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿نُسْلِمَ﴾؛ أي: وأمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة. ﴿وَاتَّقُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: وأمرنا بالإِسلام لرب العالمين. وبإقامة الصلاة، وبتقوى الله تعالى. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾. وجملة ﴿تُحْشَرُونَ﴾ صلة الموصول، والجملة الإسمية مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر به من الأمور الثلاثة، كما ذكره "أبو السعود".
435
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾ تقديره: حالة كونه ملتبسًا بالحق والحكمة. ﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿الْحَقُّ﴾ الآتي. ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿كُنْ﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾، وإن شئت قلت: ﴿كُنْ﴾: فعل أمر من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على شيء مخلوق، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فَيَكُونُ﴾ الفاء: حرف عطف وتعقيب. ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على شيء مخلوق، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقُولُ﴾ على كونها مضافًا إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، والتقدير: قوله الحق يوم يقول كن فيكون؛ أي: واقع لا محالة.
﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
﴿وَلَهُ الْمُلْكُ﴾: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿الْمُلْكُ﴾؛ أي: يملك الأمور يوم. ﴿يُنْفَخُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿في الصُّورِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُنْفَخُ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿عَالِمُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم، والجملة مستأنفة ﴿عَالِمُ﴾: مضاف. ﴿الْغَيْبِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف على ﴿الْغَيْبِ﴾. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر أول. ﴿الْخَبِيرُ﴾: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾.
436
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤)﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد لقومك قصة إذ قال إبراهيم، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لِأَبِيهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿آزَرَ﴾: بدل من أبيه، أو عطف بيان له، مجرور وعلامة جره الفتحة، والمانع له من الصرف العلمية والعجمية. ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التوبيخي. ﴿تَتَّخِذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿آزَرَ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَصْنَامًا﴾: مفعول أول لـ ﴿تَتَّخِذُ﴾. ﴿آلِهَةً﴾: مفعول ثانٍ له. ﴿إِنِّي﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿أَرَاكَ﴾ أرى: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول أرى إن قلنا: إنها بصرية، ومفعول أول لها إن قلنا: إنها علمية. ﴿وَقَوْمَكَ﴾: معطوف على الكاف. ﴿في ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿أرى﴾ إن قلنا: إنها بصرية، أو في محل المفعول الثاني إن قلنا: إنها علمية، وجملة ﴿أرى﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة للإنكار والتوبيخ قبلها.
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: إراءة مثل إراءته ضلال أبيه وقومه. ﴿نُرِي﴾: فعل مضارع لأرى الرباعي، من رأى البصرية تتعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول أول. ﴿مَلَكُوتَ﴾: مفعول ثانٍ، وهو مضاف. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف عليه. ﴿وَلِيَكُونَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف تقديره: ليستدل به على قومه. ﴿ليكون﴾: اللام لام كي ﴿يكون﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، واسمه
437
ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾: خبر ﴿يَكُونَ﴾، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولكونه من الموقنين، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المحذوف تقديره: ونرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، إراءة مثل ذلك لاستدلاله على قومه، ولكونه من الموقنين.
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة تفصيلية. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿جَنَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿اللَّيْلُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿ما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿رَأَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿كَوْكَبًا﴾: مفعول به لرأى لأنها بصرية، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ﴾ عطف مفصل على مجمل. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة معطوفة على جملة رأى كوكبًا بعاطف مقدر أو مستأنفة. ﴿هَذَا رَبِّي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿أَفَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿كوكب﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَمَّا﴾ الأولى. ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أُحِبُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿الْآفِلِينَ﴾: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿رَأَى الْقَمَرَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿بَازِغًا﴾: حال من ﴿الْقَمَرَ﴾؛ لأن رأى
438
بصرية، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَمَّا﴾ الأولى. ﴿هَذَا رَبِّي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿أَفَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْقَمَرَ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾. ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَئِنْ لَمْ﴾ اللام: موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَهْدِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. ﴿فِي﴾: النون نون الوقاية، والياء: مفعول به. ﴿رَبِّي﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿لَأَكُونَنَّ﴾: اللام: رابطة لجواب القسم. ﴿أَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، واسمها ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿أكُونَنَّ﴾. ﴿الضَّالِّينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾، وجملة ﴿أكُونَنَّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم على القاعدة المطردة من أن المذكور يكون جواب ما قدم من الشرط والقسم، تقديره: إن لم يهدني ربي أكن من القوم الضالين، وجملة القسم وجوابه في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿رَأَى الشَّمْسَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿بَازِغَةً﴾ حال من ﴿الشَّمْسَ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على
439
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَمَّا﴾ الأولى. ﴿هَذَا رَبِّي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. وكذا جملة قوله: ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: الفاء: عاطفة، ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿أَفَلَتْ﴾: فعل ماضٍ، والتاء علامة التأنيث، وفاعله ضمير ﴿الشَّمْسَ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى آخره مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾: ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ﴿إن﴾ حرف نصب، والياء اسمها. ﴿بَرِيءٌ﴾: خبرها، وجملة ﴿إن﴾ جواب النداء على كونها مقول القول لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾، وجملة ﴿تُشْرِكُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تشركونه بالله.
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
﴿إِنِّي﴾ إنّ: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِلَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَجَّهْتُ﴾. ﴿فَطَرَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿حَنِيفًا﴾: حال من فاعل ﴿وَجَّهْتُ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: خبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَجَّهْتُ﴾.
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي في اللهِ﴾.
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿قَالَ﴾: فعل
440
ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ إلى آخره مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. ﴿تُحَاجُّونِّي﴾: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المدغمة في نون الوقاية على قراءة التشديد، أو المحذوفة على قراءة التخفيف، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به. ﴿في اللهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول.
﴿وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾.
﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿هَدَانِ﴾: هدى: فعل ماضٍ، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من ياء ﴿تُحَاجُّونِّي﴾؛ أي: أتجادلوني في الله حال كوني مهتديًا من عنده، أو حال من لفظ الجلالة؛ أي: أتخاصموني فيه حال كونه هاديًا لي، فحجتكم داحضة لا تجدي شيئًا. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ على كونها حالًا من الياء، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. ﴿تُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تشركونه به.
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يَشَاءَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾. ﴿رَبِّي﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف، والمستثنى منه محذوف أيضًا تقديره: ولا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات؛ لأنها لا تضر ولا تنفع إلا وقت مشيئة ربي إصابةً لي بشيء من المكروه أو المحبوب، فيصيبني من جهتها، فيكون الاستثناء من عموم الأزمان، ويصح أن يكون من
441
عموم الأحوال، والتقدير: ولا أخاف ما تشركون به في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى.
﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.
﴿وَسِعَ رَبِّي﴾: فعل وفاعل. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿عِلْمًا﴾: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: وسع علمه كل شيء كـ ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل الاستثناء؛ أي: لأنه أحاط بكل شيء علمًا. ﴿أَفَلَا﴾: الهمزة للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها إنشائية لا محل لها من الإعراب، ولكنها في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، والتقدير: أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع، فلا تتذكرون أنها غير قادرة على شيء ما.
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾.
﴿وَكَيْفَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَيْفَ﴾: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب على الحال مبني على الفتح، والعامل فيه ﴿أَخَافُ﴾. ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿أَشْرَكْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما أشركتموه بالله. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَخَافُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿أَخَافُ﴾، والتقدير: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رابط يعود على ذي الحال. لا يضر ذلك؛ لأن الواو نفسها رابطة. اهـ "سمين". ﴿أَنَّكُمْ﴾ ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر، والكاف اسمها. ﴿أَشْرَكْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ تقديره: أنكم مشركون بالله، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في
442
تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا تخافون إشراككم بالله. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ﴾: ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يُنَزِّلْ﴾: مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُنَزِّلْ﴾، وكذا ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿سُلْطَانًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿يُنَزِّلْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾.
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿فَأَيُّ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم معبودي ومعبودكم، وأردتم بيان حالي وحالكم.. فأقول لكم ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾: ﴿أَيُّ﴾ اسم استفهام مبتدأ مرفوع. ﴿الْفَرِيقَيْنِ﴾: مضاف إليه. ﴿أَحَقُّ﴾: خبر. ﴿بِالْأَمْنِ﴾: متعلق به، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ خبر كان وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار.. فأخبروني أيُّ هذين الفريقين أحق بالأمن؟
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿إِيمَانَهُمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿بِظُلْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَلْبِسُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثانٍ. ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿الْأَمْنُ﴾ مبتدأ ثالث، والجملة من المبتدأ الثالث وخبره خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾: مبتدأ وخبر، معطوف على جملة قوله: ﴿لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ على كونه خبرًا للمبتدأ الثاني.
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)﴾.
443
﴿وَتِلْكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ. ﴿حُجَّتُنَا﴾: خبر المبتدأ. وجملة ﴿آتَيْنَاهَا﴾ خبر ثانٍ، أو في محل النصب حال من ﴿حُجَّتُنَا﴾، والعامل فيها معنى الإشارة، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿آتَيْنَا﴾؛ لأنه بمعنى: أعطينا. ﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حُجَّتُنَا﴾. ﴿نَرْفَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿آتَيْنَاهَا﴾. ﴿دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ - بالإضافة -: مفعول به، وهو مضاف، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة: في محل الجر مضاف إليه. وبالتنوين: ﴿دَرَجَاتٍ﴾: مفعول فيه، أو مفعول ثانٍ على تضمين نرفع بمعنى: نعطي، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة: مفعول به. ﴿نَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: نشاءه. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿رَبَّكَ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر أول؛ لأن ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ الأعقاب جمع: عقب، وهو مؤخر الرجل، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدة: نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه، ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم.
﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾؛ أي: ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، ومنه قولهم: حسن فلان؛ أي: مسته الجن، فذهبت بعقله، وكانوا يقولون: إن الجن تظهر لهم في المهامه، وتتلون لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلب من يراها، فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون هي التي يسمونها: الغيلان والأغوال والسعالي.
وقوله: ﴿حَيْرَانَ﴾؛ أي: تائهًا ضالًا عن الجادة، لا يدري ما يصنع؟ وهو وصف مذكر مؤنثه حيرى؛ كسكران وسكرى، فلذلك منع من الصرف، ويقال: حار يحار حيرة وحيرورة إذا تردد.
444
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ﴾ والصور في اللغة: القرن، وهو هنا شيء من خلق الله على صورة القرن المستطيل، وفيه جميع الأرواح، وفيه ثقب بعددها، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبة، ووصلت لجسدها، فتحله الحياة. اهـ "سمين". وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها، فجعلوا منها أبواقًا ينفخون فيها، لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع، ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب.
﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ والأصنام: جمع صنم، وهو والتمثال والوثن بمعنى واحد، وهو الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان. اهـ "خازن".
﴿في ضَلَالٍ﴾ والضلال: العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي والمعنوي.
﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ﴾ وملك الله وملكوته: سلطانه وعظمته، والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرهبة والرغبة والرحمة، كما مرَّ.
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ يقال (١): جن عليه الليل وأجن بمعنى: أظلم، فيستعمل قاصرًا، وجنه وأجنه الليل، فيستعمل متعديًا، فهذا مما اتفق فعل وأفعل لزومًا وتعديًا إلا أن الأجود في الاستعمال: جن عليه الليل وأجنه الليل، فيكون الثلاثي لازمًا، والرباعي متعديًا. اهـ "سمين".
﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ والكوكب والكوكبة واحد الكواكب، وهي: النجوم ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ في "المصباح": أفل (٢) الشيء أفلًا وأفولًا من بأبي ضرب وقعد: غاب، ومنه: أفل فلان عن البلد إذا غاب عنها، والأفيل: الفصيل وزنًا ومعنى، والجمع: إفال بالكسر. وقال الفارابي: الإفال: بنات المخاض فما فوقها، وقال أبو زيد: الأفيل: الفتى من الإبل. وقال الأصمعي: ابن تسعة أشهر أو ثمانية. وقال ابن فارس: جمع الأفيل: إفال، والإفال: صغار الغنم، والأفول: غيبوبة الشيء بعد ظهوره.
(١) الفتوحات.
(٢) المصباح المنير.
445
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾ القمر معروف، سمي بذلك لبياضه، والأقمر: الأبيض، وليلة قمراء: مضيئة، قاله ابن قتيبة. وبزوغ القمر: ابتداء طلوعه، يقال: بزغ بفتح الزاي يبزغ بضمها، واستعمل قاصرًا ومتعديًا يقال: بزغ البيطار الدابة؛ أي: أسال دمها، فبزغ هو؛ أي: سال، ثم قيل لكل طلوع: بزوغ، ومنه: بزغ ناب الصبي والبعير تشبيهًا بذلك اهـ "سمين".
وفي "المصباح": بزغ البيطار والحاجم بزغًا من باب قتل: شرط، وأسال الدم، وبزغ ناب البعير بزوغًا: إذا طلع، وبزغت الشمس: طلعت فهي بازغة. اهـ.
﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ وجه من باب فعل المضعف، وتوجيه الوجه لله تعالى تركه يتوجه إليه وحده في طلب حاجته وإخلاص عبوديته. ﴿فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق ﴿حَنِيفًا﴾ الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق الذي هو التوحيد.
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ حاج من باب فاعل الرباعي المزيد بالألف بين الفاء والعين، يدل على المفاعلة، والمحاجة المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد، وتارةً على ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه، أو ردِّ دعوى خصمه، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى قسمين: إلى حجة دامغة يثبت بها الحق، وإلى حجة داحضة يموه بها الباطل، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهةً.
﴿أَتُحَاجُّونِّي﴾ بتشديد الجيم والنون أصله: أتحاججونني بوزن تضاربونني بجيمين، فأدغمت الجيم الأولى في الثانية، وكذا النون: أدغمت الأولى في الثانية على قراءة التشديد، وأما على قراءة التخفيف، فاختلفوا في المحذوفة من النونين، فقال سيبويه وغيره من البصريين: المحذوفة الأولى التي هي نون الرفع؛ لأنها نائبة عن الضمة، وهي قد تحذف تخفيفًا كما في قراءة أبي عمرو: ﴿ينصركم﴾ و ﴿يأمركم﴾ و ﴿يشعركم﴾ فكذا ما ناب عنها. وقال الفراء ومن وافقه: المحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية؛ لأن الثقل إنما حصل بها، ولأن الأولى دالة على الإعراب، فبقاؤها أولى، وبرهن كل على مختاره بما
446
يطول بنا الكلام في ذكره، أفاده في "الفتوحات" وإنما اختاروا (١) التخفيف في قراءة من خففها فرارًا من اجتماع مشددين في كلمة واحدة، وهما: الجيم والنون.
وقال أبو عبيدة (٢): وإنما كره التثقيل من كرهه للجمع بين ساكنين، وهما: الواو والنون، فحذفوها. قال أبو جعفر: والقول في هذا قول سيبويه، ولا ينكر الجمع بين ساكنين إذا كان الأول حرف مد ولين، والثاني مدغمًا كما هنا.
﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ بحذف الياء؛ لأن الكسرة تدل عليها، والنون عوض منها إذا حذفتها، وإثباتها حسن.
﴿سُلْطَانًا﴾ السلطان: الحجة والبرهان. ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ لم يلبسوا: لم يخلطوا، والظلم هنا: هو الشرك في العقيدة أو العبادة؛ كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه، أو من دونه، والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق في قوله: ﴿يَنْفَعُنَا﴾ و ﴿يَضُرُّنَا﴾، و ﴿الْغَيْبِ﴾ و ﴿الشَّهَادَةِ﴾.
ومنها: التقبيح والتشنيع في قوله: ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الأمر وتشنيعه؛ لأنها المشية الدنية.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى﴾ مع ما قبله.
ومنها: التخصيص بعد التعميم في قوله: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ بعد قوله: ﴿لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ اهتمامًا بشأن الصلاة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾، وفي قوله: ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾، وفي قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾، وفي قوله: ﴿بَازِغًا﴾.
(١) الصاوي.
(٢) إعراب النحاس.
447
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَفَلَ﴾ و ﴿الْآفِلِينَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾، وبين الكوكب والقمر والشمس.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: أريناه.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾؛ لأن فيه تعريضًا بضلال قومه.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي﴾، وفي قوله: ﴿أَشْرَكْتُمْ﴾ و ﴿تُشْرِكُونَ﴾، وفي ﴿أَخَافُ﴾ و ﴿وَلَا تَخَافُونَ﴾.
والتكرار في: ﴿أَشْرَكْتُمْ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾؛ لأنه استعارة عن الرجوع إلى الشرك.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
448
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله في التوحيد، وعدَّد وجوه نعمه وإحسانه إليه.. ذكر هنا أنه جعله عزيزًا في
(١) المراغي.
449
الدنيا؛ إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته، وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) عدد نعمه على إبراهيم، فذكر إيتاءه الحجة على قومه، وأشار إلى رفع درجاته.. ذكر هنا ما مَنَّ به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل، ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق، قيل: لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، ولم يخرج من صلب إسماعيل نبي إلا محمَّد - ﷺ -، ولم يذكره في هذا المقام؛ لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله، بأن جدهم إبراهيم لما كان موحدًا لله متبرئًا من الشرك.. رزقه الله تعالى أولادًا ملوكًا وأنبياء انتهت.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه فضلهم واجتباهم وهداهم.. ذكر هنا ما فضلوا به.
قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما (٣) ذكر وقرَّر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا، وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره.. أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٤) بين أن القرآن كتاب من عند الله تعالى، وردَّ على الذين أنكروا إنزاله على محمَّد - ﷺ - لأنه بشر - بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى - وهو بشر -.. أردف ذلك بوعيد من كذب على الله وادَّعى النبوة والرسالة، أو ادَّعى أنه قادر
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
450
على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي - ﷺ -. ذلك أن من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأنَّ القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به.. فأكمل الناس إيمانًا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء - وهو محمَّد - ﷺ - لا يمكن أن يعرض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...﴾ الآية سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي - ﷺ -، فقال له النبي - ﷺ -: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين" - وكان حبرًا سمينًا - فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟ فقال: واللهِ ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمع قومه تلك المقالة.. قالوا: ويلك! ما هذا الذي بلغنا عنك، أليس الله أنزل التوراة على موسى؟ فلِمَ قلت هذا؟! قال: أغضبني محمَّد فقلته، فقالوا: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق، فعزلوه من الحبرية وعن رياستهم لأجل هذا الكلام، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فأنزل الله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...﴾ الآية، مرسل.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: ما أنزل الله من السماء كتابًا، فأنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ نزل في مسيلمة. ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ قال: نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنبي - ﷺ -، فيملي عليه عزيز حكيم،
(١) لباب النقول.
451
فيكتب غفور رحيم، ثم يقرأ عليه فيقول: نعم، سواء، فرجع عن الإِسلام ولحق بقريش، ثم رجع بعد ذلك إلى الإِسلام، فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله - ﷺ - بمر الظهران.
وأخرج عن السدي نحوه، وزاد: قال: إن كان محمَّد يوحى إليه.. فقد أوحي إلي، وإن كان الله ينزله على محمَّد.. فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمَّد: سميعًا عليمًا، فقلت أنا: عليمًا حكيمًا.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير وغيره عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ إلى قوله: ﴿شُرَكَاءُ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٨٤ - قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ عطف فعلية على اسمية؛ أي: ووهبنا لإبراهيم إسحاق ابنه لصلبه من سارة نبيًّا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب بن إسحاق نبيًّا منجبًا للأنبياء والمرسلين، جزاءًا على الاحتجاج في الدين، وبذل النفس فيه. ﴿كُلًّا هَدَيْنَا﴾؛ أي: وهدينا كلًّا من إسحاق ويعقوب ووفقناه طريق الحق والرشاد، كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة المعارضة والحجة.
وإنما (٢) ذكر إسحاق دون إسماعيل؛ لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل، ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون: إنَّ معنى ﴿إِسْحَاقَ﴾: الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مئة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعًا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومئة سنة. ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل إبراهيم؛ أي: وهدينا جده نوحًا الذي هو آدم الثاني إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته، فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
452
إلى طريق الرشاد، وقال: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تنبيهًا على قدمه، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس. والمراد بذلك أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب؛ إذ قد رزقه الله أولادًا مثل إسحاق ويعقوب، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين، كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء، والمقصود من تلاوة هذه النعم على محمَّد - ﷺ - تشريفه؛ لأن شرف الوالد يسري إلى الولد. وفي ذكر نوح (١) لطيفة، وهي أن نوحًا عليه السلام عُبدت الأصنام في زمانه، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام، ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته، ورفض تلك الأصنام، وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾، وكان إبراهيم عُبدت الأصنام في زمانه، ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها، فذكر الله تعالى نوحًا وأنه هداه كما هدى إبراهيم.
والضمير في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ اختلفوا في مرجعه، قيل: يرجع إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، وهو اختيار جمهور المفسرين؛ لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولأن الله ذكر في جملة هذه الذرية لوطًا وهو ابن أخي إبراهيم، ولم يكن من ذريته، فثبت بهذا أن الضمير يرجع إلى نوح، وقيل: يعود إلى إبراهيم؛ لأن الكلام في شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من الفضائل، وإنما ذكر نوحًا؛ لأنه جده، فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه. قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب؛ لأن لوطًا ابن أخِ إبراهيم، والعرب تجعل العم أبًا، فكأنه من ذريته. وقال أبو سليمان الدمشقي: ووهبنا له لوطًا في المعاضدة والنصرة انتهى. وقال الزجاج: كلا القولين جائز؛ لأن ذكرهما جميعًا قد جرى؛ أي: وهدينا من ذرية إبراهيم ﴿دَاوُودَ﴾ بن إيشا، وكان ممن أتاه الله الملك والنبوة. ﴿و﴾ هدينا ﴿سُلَيْمَانَ﴾ بن داود، وكان أيضًا ممن أوتي الملك والنبوة وقرنهما؛ لأنهما أبٌ وابن، ولأنهما ملكان نبيان، وقدم داود لتقدمه في
(١) البحر المحيط.
453
الزمان، ولكونه صاحب كتاب، ولكونه أصلًا لسليمان وهو فرعه ﴿و﴾ هدينا ﴿أَيُّوبَ﴾ بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ﴿و﴾ هدينا ﴿يوسف﴾ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وكان ممن أوتي الملك والنبوة، وقرن (١) بينه وبين أيوب؛ لاشتراكهما في الامتحان: أيوب بالبلاء في جسده، ونبذ قومه له، ويوسف بالبلاء بالسجن، وبغربته، وفي مآلهما بالسلامة والعاقبة، وقدم أيوب؛ لأنه أعظم في الامتحان. قال الفراء: يوسف - بضم السين من غير همز - لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤسف بالهمز، وبعض العرب يقول: يوسف - بكسر السين -، وبعض بني عقيل: يوسَف بفتح السين، ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير". ﴿و﴾ هدينا ﴿مُوسَى﴾ بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ﴿و﴾ هدينا ﴿هَارُونَ﴾ بن عمران أخا موسى، وكان أكبر منه بسنة ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه بإيتائه الحجة الدامغة، وهبة الأولاد الأخيار.. نجزي من كان محسنًا في عبادتنا، مراقبًا في أعماله لنا على إحسانه، وقد فسر النبي - ﷺ - الإحسان بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنه يراك".
٨٥ - ﴿و﴾ هدينا ﴿زَكَرِيَّا﴾ بن آذن بن بركيا ﴿و﴾ هدينا ﴿يَحْيَى﴾ بن زكريا ﴿و﴾ هدينا ﴿عِيسَى﴾ بن مريم بنت عمران ﴿و﴾ هدينا ﴿إِلْيَاسَ﴾ بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. وهذا هو الصحيح في نسبه، وقرن بين (٢) هؤلاء الأربعة لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وبدأ بزكريا ويحيى؛ لسبقهما في الزمان، وقدم زكريا، لأنه والد يحيى، فهو أصل ويحيى فرع. وقرن عيسى وإلياس؛ لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد على ما قيل في إلياس، وقدم عيسى؛ لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة ﴿كُلٌّ﴾ من هؤلاء الأنبياء المذكورين سابقًا من إبراهيم إلى هنا ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: من الكاملين في الصلاح، وهو الإتيان بما ينبغي، والتحرز عما لا ينبغي.
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
وتقدم خلاف القراء في زكريا مدًّا وقصرًا. وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة ﴿إِلْيَاسَ﴾.
٨٦ - ﴿و﴾ هدينا ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ بن إبراهيم الخليل من هاجر، وهو أكبر ولده، وقيل: هو نبي من بني إسرائيل، كان زمان طالوت، وهو المعني بقوله إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، والقول الأول هو المشهور الصحيح، وإنما أخر ذكره إلى هنا؛ لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد، فلهذا السبب أخر إسماعيل إلى هنا ﴿و﴾ هدينا ﴿الْيَسَعَ﴾ بن أخطوب بن العجوز، وقال زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون.
وجمهور القراء يقرؤون: ﴿الْيَسَعَ﴾ بلام واحدة مخففًا، كأن أل أدخلت على مضارع: وسع، منهم ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة والكسائي هاهنا، وفي ص: ﴿والليسع﴾ على وزن فيعل نحو الضيغم. ﴿و﴾ هدينا ﴿يُونُسَ﴾ بن متى، وهي أمه، ويقال فيه: يونس بضم النون، وفتحها، وكسرها، وكذلك سين يوسف بالتثليث كما تقدم. وبفتح نون: ﴿يونَس﴾، وسين ﴿يوسَف﴾ قرأ الحسن وطلحة ويحيى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن، ذكره أبو حيان في "البحر".
﴿و﴾ هدينا ﴿لُوطًا﴾ بن هاران أخي إبراهيم ﴿وَكُلًّا﴾ من هؤلاء الأنبياء المذكورين ﴿فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بالنبوة والرسالة، فهم يفضلون على الملائكة والأولياء وجميع الصالحين. وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، لعموم لفظ العالمين ما سوى الله تعالى، فيندرج في العموم الملائكة. وإنما جمع هؤلاء الأربعة؛ لأنه لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع. واعلم (١) أن الله تعالى خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل، فمنهم أصول الأنبياء، وإليهم يرجع حسبهم جميعًا، وهم: نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب. ثم المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق بعد النبوة ستة:
الأولى: مرتبة الملك والسلطان والقدرة، ذكر فيها: داود وسليمان.
(١) البحر المحيط والمراح.
والثانية: مرتبة البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وذكر فيها: أيوب.
والثالثة: مرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك، وذكر فيها: يوسف.
والرابعة: مرتبة قوة البراهين وكثرة المعجزات والقتال والصولة، وذكر فيها: موسى وهارون.
والخامسة: مرتبة الزهد الشديد، والانقطاع عن الناس للعبادة، وترك مخالطتهم، وذكر فيها: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس.
والسادسة: مرتبة عدم الاتباع، وذكر فيها: إسماعيل واليسع ويونس ولوطًا.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ثمانية عشر نبيًّا لم يرتبهم بحسب أزمانهم، ولا بحسب فضلهم؛ لأن الكتاب أنزل ذكرى وموعظة للناس، لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.
فائدة في أعمار الأنبياء
وعاش آدم (١) تسع مئة وستين سنة. ومكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. وعاش إبراهيم مئة وخمسًا وسبعين سنة. وعاش ولده إسماعيل مئة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة. وعاش أخوه إسحاق مئة وثمانين سنة، وولد بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة. وعاش يعقوب بن إسحاق مئة وسبعًا وأربعين سنة. وعاش يوسف بن يعقوب مئة وعشرين سنة. وعاش موسى مئة وعشرين سنة. وعاش داود مئة سنة. وعاش ولده سليمان نيفًا وخمسين سنة. وعاش أيوب ثلاثًا وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين. انتهى من "التحبير في علم التفسير" للجلال السيوطي: بتصرف.
٨٧ - وقوله: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ إما عطف (٢) على ﴿كُلًّا﴾ فالعامل فيه ﴿فَضَّلْنَا﴾، و ﴿مِنْ﴾ تبعضية؛ أي: وفضلنا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم،
(١) التحبير في علم التفسير.
(٢) المراح.
أو على ﴿نُوحًا﴾، فالعامل فيه ﴿هَدَيْنَا﴾، و ﴿مِنْ﴾ ابتدائية، والمفعول محذوف؛ أي: وهدينا بالنبوة والإِسلام من آبائهم جماعات كثيرة: آدم وشيثًا وإدريسَ وهودًا وصالحًا، ومن ذرياتهم جماعات كثيرة: أولاد يعقوب، ومن إخوانهم جماعات كثيرة: إخوة يوسف، لا كلهم؛ إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدي ابنه، أو أبيه أو أخيه، ألا ترى إلى أبي إبراهيم، وابن نوح، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)﴾.
قوله: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ عطف على (١) ﴿فَضَّلْنَا﴾، وتكرير الهداية في قوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ﴾ إلخ لتكرير التأكيد وتمهيدًا لبيان ما هدوا إليه، يقال (٢): اجتبى فلان فلانًا لنفسه إذا اختاره واصطفاه، ومعنى اجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بفيض إلهي يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه، كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء.
والمعنى: أي وفضلنا كلًّا من الأنبياء المذكورين على العالمين واجتبيناهم؛ أي: اصطفيناهم بالنبوة والرسالة واخترناهم بالقرب إلينا وهديناهم؛ أي: أرشدناهم ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى دين الحق القويم الذي لا عوج فيه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.
٨٨ - ﴿ذَلِكَ﴾ الهدى الذي هدي به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل، فوفقوا به لإصابة الدين الحق الذي به رضا ربهم، وشرف الدنيا وكرامة الآخرة هو ﴿هُدَى اللَّهِ﴾ الخاص وتوفيقه ولطفه الذي ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ ويوفق به ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ حتى ينيب إلى طاعته، ويخلص العمل له، ويقر بالتوحيد، ويرفض الأوثان والأصنام.
والهداية ضربان: ضرب ليس لصاحبه سعي فيه، ولا هو مما ينال بالكسب، وهو النبوة، وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه - ﷺ -: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾،
(١) أبو السعود.
(٢) المراغي.
وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهي والتوفيق لنيل المراد.
ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد، فقال: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء المهديون بربهم مع الله سبحانه وتعالى إلهًا آخر، فعبدوا معه غيره ﴿لَحَبِطَ﴾ وبطل ﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: أجر أعمالهم التي كانوا يعملونها؛ أي: لبطل عنهم مع فضلهم وعلو درجاتهم أعمالهم المرضية، وعبادتهم الصالحة، فكيف بمن عداهم، والمقصود من هذا الكلام: تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك إذ توحيد الله تعالى هو المزكي للأنفس، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدنس لها، والمفسد لفطرتها، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به.
٨٩ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الأنبياء الثمانية عشر المذكورون بأسمائهم هم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ﴾ وأعطيناهم ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: فهمًا تامًّا لما في الكتاب، وعلمًا محيطًا بأسراره. فالمراد بإيتاء الكتاب لكل منهم: تفهيم ما فيه أعم من أن يكون ذلك بالإنزال عليه ابتداءً، أو بوراثته ممن قبله، ذكره "أبو السعود" بالمعنى. والمراد بالكتاب: ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى، وزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى ﴿و﴾ آتيناهم ﴿الْحُكْمَ﴾؛ أي: العلم والفقه في الدين، فإن الله تعالى جعلهم حكامًا على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ فيقدرون بها على التصرف في ظواهرهم كالسلاطين، وفي بواطنهم وأرواحهم كالعلماء، وكل نبي من الأنبياء آتاه الله العلم الصحيح والفقه في أمور الدين وشؤون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به، سواء أنزله عليه، أم أنزله على غيره، واختص بعضهم بإتائه الحكم صبيًّا؛ كيحيى وعيسى؛ أي: بإعطائه ملكة الحكم الصحيح في الأمور.
وأما (١) الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات، فلم يعطه إلا بعض الأنبياء، وتكون هذه العطايا الثلاث أعني: الكتاب والحكم والنبوة مرتبة بحسب
(١) المراغي.
458
درجات الخصوصية، فبعض النبيين أعطي الثلاث؛ كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾، فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه. وقال حكاية عن موسى: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. وقال عز اسمه: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾. وقال في داود وسليمان معًا: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾. ومنهم من أوتي الحكم والنبوة، كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
والخلاصة: أن كل من أوتي الكتاب.. أوتي الحكم والنبوة، وكل من أوتي الحكم ممن ذكر.. كان نبيًّا، وما كان نبي منهم كان حاكمًا ولا صاحب كتاب منزل. وهذه هي مراتب الفضل بينهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم.
﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾؛ أي: بهذه الثلاث: الكتاب والحكم والنبوة، أو بآيات القرآن ﴿هَؤُلَاءِ﴾ المشركون من أهل مكة وغيرهم ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾؛ أي: برعايتها؛ أي: وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها، وتولي نصر الداعي إليها. ﴿قَوْمًا﴾ كرامًا ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾؛ أي: ليسوا بكافرين بها، فمنهم من آمن بها، ومنهم من سيؤمن بها عند ما يدعى إليها. فالباء (١) في قوله: ﴿لَيْسُوا بِهَا﴾ صلة وفي ﴿بِكَافِرِينَ﴾ لتأكيد النفي. وعبارة "الجمل": قوله: ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾؛ أي: في وقت من الأوقات، بل هم مستمرون على الإيمان بها، فإن الجملة الإسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت كذلك السلبية تفيد دوام النفي بمعونة المقام، لا نفي الدوام كما حقق في مقامه. اهـ "أبو السعود" انتهت.
أخرج ابن (٢) جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ يعني: أهل مكة: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ يعني: أهل المدينة والأنصار. اهـ.
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
459
والذي عليه المعول أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله - ﷺ - مطلقًا، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها، وكانوا بعد الهجرة في المقدمة في كل عمل وجهاد، ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات؛ لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ومن ثَمَّ قال: ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين.
وفي الآية (١) دليل على أن الله سبحانه وتعالى ينصر نبيه - ﷺ -، ويقوي دينه، ويجعله غالبًا على الأديان كلها، وقد جعل ذلك: فهو إخبار عن الغيب.
٩٠ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات السابقة، والذين وصفهم الله تعالى بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة هم ﴿الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بالأخلاق الحسنة هداية كاملة ﴿فَبِهُدَاهُمُ﴾؛ أي: فبهدى هؤلاء المذكورين من الأنبياء وبأخلاقهم الشريفة دون ما يخالفه من أعمال غيرهم ﴿اقْتَدِهْ﴾؛ أي: اتبع أيها الرسول فيما يناله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة، وإقامة الدين والصبر على التكذيب والجحود، وإيذاء أهل العناد ومقلدي الآباء والأجداد، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال؛ كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل. قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)﴾.
والخلاصة (٢): أن الله سبحانه وتعالى أمره بالاقتداء بهم في الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء، والعفو عنهم، وقد كان مهتديًا بهداهم كلهم، فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم؛ لأنه اقتدى بها كلها، فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقًا فيهم مع ما أوتيه دونهم، ومن ثَمَّ شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
460
عَظِيمٍ (٤)}، وكذلك فضائله الموهوبة هي فيه أظهر وأعظم، فبعثته عامة للناس أسودهم وأحمرهم، وبه ختمت النبوة والرسالة، وكمال الأشياء في خواتيمها صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وبهذه (١) الآية استدل بعض العلماء على أن محمدًا - ﷺ - أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين، وذلك لأن جميع الصفات الحميدة كانت متفرقة فيهم، فيلزم أنه - ﷺ - حصلها ومتى كان الأمر كذلك.. وجب أن يقال: إنه - ﷺ - أفضل منهم بكليتهم، فكان نوح صاحب تحمل الأذى من قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة في الله تعالى؛ وكان إسحاق ويعقوب صاحبي صبر على البلاء والمحن، وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، وكان أيوب صاحب صبر على النبلاء، وكان يوسف جامعًا بين الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق، وكان يونس صاحب تضرع، وكان سيدنا محمَّد - ﷺ - جامعًا لجميع هذه الأخلاق الحميدة كلها، فكان أفضلهم ورئيسهم.
تنبيه: ذكر بعض العلماء أن الأنبياء المرسلين الذين ذكروا في القرآن، ويجب الإيمان بهم تفصيلًا خمسة وعشرون، هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في هذه الآيات، والسبعة الآخرون هم: آدم - أبو البشر - وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وخاتم الجميع محمَّد - ﷺ - وعليهم أجمعين. وليس (٢) في القرآن نص قطعي صريح في رسالة آدم عليه السلام، بل مفهوم قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أن نوحًا أول نبي مرسل أوحى إليه رسالته وشرعه، وكذلك حديث الشفاعة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا، فيقول لهم آدم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصابه،
(١) المراح.
(٢) المراغي.
461
فيستحي من ربه عَزَّ وَجَلَّ، ولكن ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله إلى الأرض، فيأتون نوحًا... " إلخ.
والخلاصة: أن الآية تدل على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام، ويرى بعض العلماء أن آدم كان على هدى من ربه ربى عليه أولاده، وبشرهم بالثواب وأندرهم بالعقاب. وهذه هداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلغوها أقوامهم، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها، فإن طرق الهداية متعددة، وقد تكون هي هداية الفطرة. ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم، فأعرضوا عما دعوا إليه، وهذه هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها: رسولًا، دون الأولى.
وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأهل حرميهما وأبو عمرو (١): ﴿اقْتَدِهْ﴾ بالهاء ساكنة وصلًا ووقفًا، وهي هاء السكت أجروها وصلًا مجراها وقفًا وقرأ الأخوان حمزة والكسائي بحذفها وصلًا، وإثباتها وقفًا، وهذا هو القياس. وقرأ هشام: ﴿اقْتَدِهْ﴾ باختلاس الكسر في الهاء وصلًا وسكونها وقفًا. وقرأ ابن ذكوان: بكسرها ووصلها يياء وصلًا، وسكونها وقفًا، ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت، وتغليط ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه، وتأويلها على أنها هاء السكت ضعيف.
﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لجميع من بعثت إليه من أهل مكة وغيرهم ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ﴾ ولا أطلب منكم ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكركم به، أو على تبليغ الرسالة أو على التوحيد ﴿أَجْرًا﴾ وجعلًا من مال ولا غيره من المنافع من جهتكم، كما أن جميع من قبلي من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرًا على التبليغ والهدى، وقد تكرر هذا الأمر له - ﷺ - في سور متعددة، كقوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قيل (٢): لما أمره الله تعالى بالاقتداء بالنبيين، وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
462
وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم، فقال: ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾.
﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ كافة؛ أي: ما هو إلا تذكير وموعظة وإرشاد للعالمين كافة، لا لكم خاصة. وفي هذا تصريح بعموم رسالته وبعثته - ﷺ - للناس جميعًا أسودهم وأحمرهم، إنسهم وجنهم.
٩١ - ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ أي: وما عرفت الله سبحانه وتعالى اليهود وقومك المشركون حق معرفته، وما عظموه حق عظمته؛ أي: العظمة اللائقة به المستحقة له. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: ما عظموا الله حق عظمته. وقال أبو العالية: ما وصفوا الله حق صفته. وقال الأخفش: ما عرفوا الله حق معرفته ﴿إِذْ قَالُوا﴾؛ أي: إذ قالت اليهود لك يا محمَّد حين خاصموك ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: من كتاب، وذلك أن اليهود أنكروا إنزال الله من السماء كتابًا إنكارًا للقرآن.
أي: ما عرفوه (١) حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب، فإن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة، أو بتكليمه إياهم بدون واسطة، وهم قد أنكروا الوحي، وجهلوا فضل البشر، وقالوا: ما أنزل الله على أحد منهم شيئًا.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: ﴿وَمَا قَدَّرُوا﴾ بالتشديد ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ بفتح الدال.
ومن عرف حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة، وعلمه المحيط بكل شيء، ونظر في آياته في الأنفس والآفاق، وعلم أنه أحسن كل شيء خلقه، وخلق الإنسان مستعدًا للصعود إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله أثرًا لعلومه، وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية.. علم أنَّ الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله
(١) المراغي.
463
لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين، فإن إرسالهم وإنزال الوحي عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنساني في حياته الجسمانية والروحية، فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب، ويزول الخلاف والشقاق بين الناس، ويعيشون في وفاق ووئام (١) علمًا منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم وتحاسبهم على النقير والقطمير في ذلك اليوم العبوس القمطرير، وتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب. ثم لقن الله رسوله - ﷺ - الرد على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش إثر بيان كون ذلك من شؤونه تعالى، ومن مقتضى نظام حياة البشر، وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، فقد أرسلوا إلى المدينة وفدًا، زعيماه: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط؛ ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمَّد وصفته؛ لأنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء. فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه، فأنكروا معرفته، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجًا ملزمًا ودافعًا لإنكارهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء اليهود والمشركين من قومك الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ على سبيل التوبيخ والقريع والتبكيت ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾، أي: من أنزل التوراة التي أنزلت على موسى بن عمران؟ وفي هذا الاستفهام توبيخ لليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر حال كون ذلك الكتاب المنزل على موسى ﴿نُورًا﴾ أي: ضياء من ظلمة الضلالة ﴿وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾؛ أي: هاديًا للناس، ومفرقًا بين الحق والباطل من دينهم، وذلك قبل أن تبدل وتغير، حال كونكم ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾؛ أي: تجعلون ذلك الكتاب ﴿قَرَاطِيسَ﴾؛ أي: أوراقًا مفرقة في دفاتر كثيرة ﴿تُبْدُونَهَا﴾؛ أي: تظهرون تلك القراطيس المكتوبة؛ أي: يظهرون ما وافق هواهم منها ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ من تلك القراطيس مما لا يوافق هواهم؛ كنعت محمَّد - ﷺ -،
(١) الوئام: بالهمزة بعد الواو كالوفاق وزنا ومعنى، وفي المثل: لولا الوئام لهلك الأنام؛ أي: لولا الموافقة بينهم اهـ مختار.
464
وآية الرجم. والمعنى (١): يضعون الكتاب في ورقات مفرقة، فجعلوه أجزاء نحو نيف وثمانين جزءًا، وفعلوا ذلك ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه، فيجعلون ما يريدون إخفاءه على حدة ليتمكنوا من إخفائه.
قال أبو حيان: إن كان (٢) المنكرون بني إسرائيل.. فالاحتجاج عليهم واضح؛ لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى، وإن كانوا العرب.. فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، وكانوا يقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم انتهى.
وقرأ الجمهور بالتاء الفوقانية في الأفعال الثلاثة: ﴿تبدون﴾، ﴿تخفون﴾، ﴿تجعلون﴾. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الثلاثة. فأما (٣) الغيبة.. فللحمل على ما تقدم من الغيبة في قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ﴾ إلخ. وعلى هذا فيكون في قوله: ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾ تأويلان:
أحدهما: أنه خطاب لهم أيضًا، وإنما جاء به على طريقة الالتفات.
والثاني: أنه خطاب للمؤمنين من قريش اعترض به بين الأمر بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ﴾، وبين قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾. وأما قراءة تاء الخطاب.. ففيها مناسبة لقوله: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ ورجحها مكي وجماعة، لذلك قال: وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه.
وقوله: ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾ يحتمل أن يكون مستأنفًا مقررًا لما قبله، وأن يكون حالًا؛ أي: قل لهم: من أنزل الكتاب الذي جاء به، والحال أنكم قد علمتم أيها اليهود من ذلك الكتاب الذي أنزل على موسى من أمور دينكم ودنياكم ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ من قبل إنزال ذلك الكتاب من الأحكام والحدود،
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
465
والحلال والحرام، ونعت محمَّد - ﷺ - وصفته، فإن أجابوك وقالوا: الله أنزله.. فذاك، وإلا فـ ﴿قُلِ﴾ لهم ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أنزله على موسى لا جواب غيره ﴿ثُمَّ﴾ بعد هذا الجواب ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ﴾؛ أي: اتركهم يا محمَّد في باطلهم الذي يخوضون فيه، وينهمكون فيه حال كونهم ﴿يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: يستهزئون ويسخرون من الحق الذي جئت به، ويصنعون مثل صنع الصبيان الذين يلعبون حتى يأتي أمر الله فيهم.
والمعنى (١): قل لهم أيها الرسول: الله أنزله على موسى، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان فيما يخوضون فيه من باطلهم، وكفرهم بآيات الله حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان. وفي أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماءٌ إلى أنهم لا ينكرونه لما في ذلك من المكابرة، وما في الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق.
٩٢ - وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى.. بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمَّد - ﷺ -، فقال: ﴿وَهَذَا﴾ القرآن الذي يقرؤه محمَّد - ﷺ - ﴿كِتَابٌ﴾ عظيم ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ على محمَّد - ﷺ - بالوحي على لسان جبريل، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى ﴿مُبَارَكٌ﴾؛ أي: كثير الخير دائم البركة والمنفعة، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية.
وهذا من جملة الرد عليهم في قولهم (٢): ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ أخبرهم بأن الله أنزل التوراة على موسى وعقبه بقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ يعني: على محمَّد - ﷺ -، فكيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء. ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب الإلهية؛ أي: موافق لما في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية في التوحيد، وتنزيه الله عما لا يليق به، وفي الدلالة على البشارة والنذارة.
وقوله: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ معطوف على معنى ما قبله؛ أي: أنزلناه للبركة والتصديق، ولتنذر به أم القرى، أو على معلوم من السياق تقديره: أنزلناه لتبشر
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
466
به من آمن به؛ أي: ولتخوف به عذاب الله وبأسه أهل أم القرى؛ أي: أهل مكة إن لم يؤمنوا به، وخص أم القرى وهي مكة؛ لكونها أعظم القرى والبلدان شأنًا، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، فالإنذار لأهلها مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض. وسميت مكة أم القرى؛ لاجتماع الخلق إليها في حجهم، كما يجتمع الأولاد إلى الأم، فيحصل لهم الحج الذي هو أصول العبادة، والتجارة التي هي أصول أسباب المعيشة ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾؛ أي: ولتنذر به من حول أم القرى من سائر أهل الأرض مشارقها ومغاربها. وقد ثبت عموم بعثة النبي - ﷺ - في آيات كثيرة، كقوله تعالى في هذه السورة: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾؛ أي: وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته، وقوله في سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾، وقوله في سورة سبأ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ ويصدقون ﴿بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بقيام الساعة والمعاد إلى الله، ويصدقون بالثواب والعقاب، والمجازاة على الأعمال ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: يؤمنون بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه على محمَّد - ﷺ -، ويقرون به، سواء كان من أهل الكتاب، أم من غيرهم إذا بلغتهم دعوته؛ لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا في الفيافي والقفار، وضلوا الطريق، حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخرّيت العالم بخفاياها والخبير بذرعها ومسالكها، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته وسلكوا سبيله، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين، وأما الذين ينكرون البعث والجزاء.. فلا حاجة لهم إلى هدايته.
وفي هذا (١) تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا البعث والجزاء.. امتنعوا عن قبول هذا الدين، وأنكروا نبوة محمَّد - ﷺ -. ﴿وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
467
يؤمنون بهذا الكتاب، والحال أنهم يحافظون ويداومون على صلاتهم، فيؤدونها في أوقاتها، ويقيمون أركانها وآدابها، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات؛ لأنها عماد الدين ورأس العبادات بعد الإيمان بالله، فلم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾؛ أي: صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة.
قال - ﷺ -: "من ترك الصلاة متعمدًا.. فقد كفر". ولأن المحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة، وترك الفحشاء وجميع المحرمات، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهواتها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ﴾ بالإفراد، والمراد به الجنس، وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر: ﴿صلواتهم﴾ بالجمع، ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمَّد بن إبراهيم البغدادي في كتاب "الروضة" من تأليفه، وقال: تفرد بذلك عن جميع الناس.
٩٣ - والاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ للإنكار بمعنى النفي. وهذه (٢) الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتاب على رسله؛ أي: كيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد أشد ظلمًا، وأعظم جرمًا ممن اختلق على الله كذبًا. وكذب على الله في شيء من الأشياء، كالذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، أو جعل لله شريكًا أو ولدًا أو صاحبة. ﴿أَوْ﴾ ممن ﴿قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ من الله شيء ﴿و﴾ الحال أنه ﴿لم يوح إليه شيء﴾ من الله، كمسيلمة الكذاب الذي ادَّعى النبوة باليمامة، والأسود العنسي الذي ادَّعى النبوة باليمن، وطليحة الأسدي الذي ادَّعى النبوة في بني أسد، ونحوهم من كل من ادعى ذلك، أو يدعيه في أي زمان كان. ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ إليك؛
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
468
أي: ومن أظلم ممن ادَّعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله، كمن قال من المشركين: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾، فقد أُثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول: إن القرآن أساطير الأولين، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله.
ثم ذكر سبحانه وتعالى وعيده للظالمين لشدة جرمهم، وعظيم ذنبهم، فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: ولو تبصر يا محمَّد، أو أيها المخاطب، إذ يكون الظالمون سواءٌ كانوا ممن ذكر في الآية، أو من غيرهم ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ وسكراته، وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم، كما تحيط غمرات الماء الغرقى، وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه، ولا قدرة للبيان على تجلي كنهه وحقيقته ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي والحال أن ملائكة الموت باسطوا أيديهم ومادوها إليهم؛ لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب، كما قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾.
ثم حكى سبحانه وتعالى أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد، وخلصوها من هذه الآلام، أو أخرجوها من أبدانكم لنقبضها. قال صاحب "الكشاف": هذا (١) تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح، يبسط يده إلى من له عليه الحق ليعنف عليه في المطالبة، ولا يمهله، ويقول له: أخرج ما لي عليك الساعة، ولا أريم - لا أبرح - مكاني حتى أنزعه من أحداقك. انتهى.
ويرى بعضهم أنه لا داعي للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل، فربما تمثل الملائكة للبشر بمثل صورهم، وتخاطبهم بمثل كلامهم، فهي إذًا ممكنة على الحقيقة، فلا معدل عنها. وحالة كون الملائكة قائلين لهم وقت الموت: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾؛ أي: في هذا اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم، تجزون وتلقون عذاب الذل والخزي والإهانة جزاء ظلمكم لأنفسكم.
(١) الكشاف.
469
وقرأ عبد الله وعكرمة: ﴿عذاب الهوان﴾ بالألف وفتح الهاء. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾؛ أي: بسبب قولكم مفترين على الله غير الحق، كقول بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر: أنه أوحي إليه، ولم يوح إليه شيء، وإنكار طائفة منهم لما وصف الله به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات. ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾؛ أي: وبسبب كونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله تعالى احتقارًا لمن أكرمه الله بإظهارها على يديه ولسانه.
ومعنى الآية: ولو ترى (١) يا محمَّد الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت في الدنيا، والملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم، قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد، وخلصوها من هذه الآلام، هذا الوقت تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد بسبب الافتراء على الله، والتكبر عن آيات الله.. لرأيت أمرًا فظيعًا، أو المعنى: ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى أنواع الشدائد والتعذيبات في الآخرة، فأدخلوا جهنم، والملائكة باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب مبكتين لهم، قائلين: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد، هذا الوقت تجزون العذاب المشتمل على الإهانة بسبب كونكم قائلين قولًا غير الحق، وكونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله.. لرأيت أمرًا عظيمًا.
٩٤ - ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم ملائكة العذاب، فقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جئتمونا أيها الظالمون وحدانًا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان، مجردين من الخدم والأملاك والأموال. وقرىء (٢): ﴿فراد﴾ بوزن ثلاث غير مصروف. وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: ﴿فرادًا﴾ بالتنوين، وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما: ﴿فردى﴾ مثل: سَكْرى كقوله تعالى: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾.
﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ أي: كما أخرجناكم أول مرة من بطون أمهاتكم
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
470
حفاة عراة غلفًا، ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله في آية أخرى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ لأن المراد: لا يكلمهم تكليم إكرام ورضاء. ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ﴾ وأعطيناكم في الدنيا من الأهل والأولاد والأموال ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾؛ أي: في الدنيا، وما نرى معكم شيئًا منه؛ أي: إن ما كان شاغلًا لكم عن الإيمان بالرسل، والاهتداء بما جاءوا به من الأهالي والأولاد والأموال والخدم والحشم والأثاث والرياشي لا ينفعكم اليوم، كما كنتم تتوهمون، فهو لم يغن عنكم شيئًا، ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة. ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ﴾؛ أي: وما رأينا وأبصرنا معكم ﴿شُفَعَاءَكُمُ﴾ من الملائكة والصالحين من البشر، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم معكم ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ وظننتم ﴿أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ مع الله، وقد زعمتم في الدنيا أنهم شركاء لله، تدعونهم ليشفعوا لكم عنده، ويقربونكم إليه زلفى بتأثيرهم في إرادته، وحملهم إياه على ما لم تتعلق به إرادته في الأزل. وفي هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية، وهما: الفداء، والشفاعة.
وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: لقد انقطع اليوم ما كان بينكم أنتم وشركائكم في الدنيا، من صلات النسب والملك والولاء والصداقة ﴿و﴾ لقد ﴿ضَلَّ﴾ وغاب ﴿عَنْكُمْ﴾ أيها الظالمون ﴿مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ وتظنون في الدنيا من شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء، وأوهام الفداء، وقد علمتم الآن بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم.
والخلاصة: أن آمالكم قد خابت في كل ما تزعمون وتتوهمون، فلا فداء ولا شفاعة، ولا ما يغنى عنكم من عذاب الله من شيء.
وقرأ جمهور السبعة (١): ﴿بَيْنَكُمْ﴾: بالرفع على أنه اتسع في الظرف، وأسند الفعل إليه، فصار اسمًا، كما استعملوه اسمًا في قوله: ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾، وكما حكى سيبويه: هو أحمر بين العينين، ورجحه الفارسي، أو على
(١) البحر المحيط.
471
أنه أريد بالبين: الوصل؛ أي: لقد تقطع وصلكم، قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي. فالبين: اسم يستعمل للوصل والفراق، فهو مشترك بينهما، كالجون للأسود والأبيض.
وقرأ نافع والكسائي وحفص: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ بفتح النون، وخرجه الأخفش على أنه فاعل، ولكنه مبني على الفتح حملًا على أكثر أحوال هذا الظرف، وقد يقال: لإضافته إلى مبني كقوله: ﴿ومِنَّادُونَ ذلك﴾ وخرجه غيره على أنه منصوب على الظرف، وفاعل ﴿تَقَطَّعَ﴾ التقطع. وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش: ﴿ما بينكم﴾، والمعنى: تلف وذهب ما بينكم وبين ما كنتم تزعمون، على إسناد الفعل إلى الذي بينكم.

فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية


عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - ﷺ - بموعظة، فقال: "أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلًا. ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ " متفق عليه.
وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "يحشر الناس حفاة عراة غرلًا" قالت عائشة: فقلت: الرجال والنساء جميعًا، ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذلك". متفق عليه.
وروى الطبري بسنده عن عائشة: أنها قرأت قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟! فقال رسول الله - ﷺ -: "لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض".
الإعراب
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)﴾.
472
﴿وَوَهَبْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿إِسْحَاقَ﴾: مفعول به لـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾: معطوف عليه، ولم ينونا؛ لأنهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة.
فائدة: وجميع أسماء النبيين أعجمية ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة إلا سبعة مجموعة في قول بعضهم:
أَلَا إِنَّ أَسْمَاءَ النَّبِيِّيْنَ سَبْعَةٌ لَهَا الصَّرْفُ فِيْ إِعْرَابِ مَنْ يَتَنَشَّدُ
فَشِيْثٌ وَنُوْحٌ ثُمَّ هُوْدٌ وَصَالِحٌ شُعَيْبٌ وَلُوْطٌ وَالنَّبِيُّ مُحَمَّدُ
فهذه السبعة مصروفة؛ لأن أربعة منها عربية: وهم محمد، وصالح، وشعيب، وهود. وثلاثة منها أعجمية، ولكنها صرفت لخفتها بسكون الوسط، وهم: نوح، ولوط، وشيث صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ عطف فعلية على اسمية. ﴿كُلًّا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿هَدَيْنَا﴾. ﴿هَدَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَنُوحًا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿هَدَيْنَا﴾. ﴿هَدَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿هَدَيْنَا﴾ الأولى. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿نُوحًا﴾. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿دَاوُودَ﴾ وما بعده تقديره: حالة كونهم كائنين من ذريته. وقوله: ﴿دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ﴾ معطوفات على ﴿نُوحًا﴾، ﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونجزي المحسنين على إحسانهم جزاءًا مثل جزائنا لإبراهيم، والجملة مستأنفة.
﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦)﴾.
﴿وَزَكَرِيَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿زكريا ويحيى وعيسى وإلياس﴾: معطوفات على ﴿دَاوُودَ﴾. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ،
473
والجملة مستأنفة. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا﴾: معطوفات أيضًا على ﴿دَاوُودَ﴾. ﴿وَكُلًّا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿كُلًّا﴾ مفعول مقدم. ﴿فَضَّلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة.
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)﴾.
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ﴾: جار ومجرور في محل النصب معطوف على ﴿كُلًّا﴾، فالعامل فيه ﴿فَضَّلْنَا﴾، أو معطوف على ﴿نُوحًا﴾ فالعامل فيه ﴿هَدَيْنَا﴾، والتقدير: وفضلنا كلًّا منهم، وبعض أبائهم، ﴿وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾: معطوفان على ﴿آبَائِهِمْ﴾. ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَضَّلْنَا﴾، وكذلك ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ﴾ جملة معطوفة على جملة ﴿فَضَّلْنَا﴾. ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور وصفة، متعلق بـ ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾.
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾، والجملة الفعلية في محل (١) النصب حال من الهدى، والعامل فيه: الإشارة، ويجوز أن يكون حالًا من اسم الله تعالى، وبجوز أن يكون ﴿هُدَى اللَّهِ﴾ بدلًا من ﴿ذَلِكَ﴾، و ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ الخبر، ذكره أبو البقاء. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾. ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَنْ﴾، أو من العائد المحذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاء هدايته من عباده. ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَحَبِطَ﴾:
(١) العكبري.
474
اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿حَبِطَ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع فاعل. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، وجملة ﴿حَبِطَ﴾ جواب ﴿لو﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾: معطوفان على ﴿الْكِتَابَ﴾. ﴿فَإِنْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن هؤلاء آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، وأردت بيان ما إذا كفر بها.. فأقول لك: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يَكْفُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿بِهَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿هَؤُلَاءِ﴾: فاعل. ﴿فَقَدْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ ﴿قَدْ﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿وَكَّلْنَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿وَكَّلْنَا﴾. ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿لَيْسُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهَا﴾، متعلق بـ ﴿كَافِرِينَ﴾. ﴿بِكَافِرِينَ﴾: خبر ليس، والباء فيه زائدة، وجملة ﴿ليس﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿هَدَى اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هداهم الله.
475
﴿فَبِهُدَاهُمُ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن أولئك هم الذين هداهم الله، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾: ﴿بِهُدَاهُمُ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اقْتَدِهْ﴾. ﴿اقْتَدِهْ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والهاء: حرف سكت مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا. بيانيًّا.
﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿أَجْرًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿سأل﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾ نافية ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿ذِكْرَى﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ذِكْرَى﴾.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿قَدَرُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿حَقَّ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿قَدْرِهِ﴾. مضاف إليه، والأصل: قدره الحق، ثم أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما ذكره "أبو السعود". ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها، والظرف متعلق بـ ﴿قَدَرُوا﴾، والتقدير: وما قدروا الله حق قدره وقت قولهم. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى بَشَرٍ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
476
﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإخباري في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية خبر ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿الَّذِي﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿الْكِتَابَ﴾. ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿مُوسَى﴾: فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿نُورًا﴾: حال من ضميره ﴿بِهِ﴾، فالعامل فيه ﴿جَاءَ﴾، أو من ﴿الْكِتَابَ﴾، والعامل فيه: ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿وَهُدًى﴾: معطوف على ﴿نُورًا﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾ صفة لـ ﴿هُدًى﴾. ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿قَرَاطِيسَ﴾: منصوب بنزع الخافض؛ أي: في قراطيس وأوراق، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿بِهِ﴾، أو من ﴿الْكِتَابَ﴾. ﴿تُبْدُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿قَرَاطِيسَ﴾.
﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾.
﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تبدون﴾، والرابط محذوف تقديره: وتخفون كثيرًا منها، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿عُلِّمْتُمْ﴾، وجملة ﴿عُلِّمْتُمْ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾. ﴿لَمْ تَعْلَمُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف تقديره: وعلمتم ما لم تعلموه. ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لضمير الفاعل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
477
﴿وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾: معطوف على ضمير الفاعل.
﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: الله أنزله، أو فاعل بفعل محذوف تقديره: أنزله الله، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلِ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿ذَرْهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿فِي خَوْضِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ذَرْهُمْ﴾. وجملة ﴿يَلْعَبُونَ﴾ في محل النصب حال من ضمير المفعول في ﴿ذَرْهُمْ﴾ وعبارة "الفتوحات": قوله: ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ يجوز أن يكون ﴿فِي خَوْضِهِمْ﴾ متعلقًا بـ ﴿ذَرْهُمْ﴾، وأن يتعلق بـ ﴿يَلْعَبُونَ﴾، وأن يكون حالًا من مفعول ﴿ذَرْهُمْ﴾، وأن يكون حالًا من فاعل ﴿يَلْعَبُونَ﴾، فهذه أربعة أوجه انتهت.
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.
﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة أولى لـ ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿مُبَارَكٌ﴾ صفة ثانية له. ﴿مُصَدِّقُ﴾: صفة ثالثة له، وهو مضاف ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه. ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة الموصول.
تنبيه: قوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ...﴾ إلخ صفات لـ ﴿كِتَابٌ﴾، وقدّم وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ قالوا: لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال؛ إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك، ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية؛ لأن الإنزال يتجدد وقتًا فوقتًا، والثانية اسمًا صريحًا؛ لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا؛ أي: ذو بركة ثابتة مستقرة اهـ "سمين".
﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.
478
﴿وَلِتُنْذِرَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لِتُنْذِرَ﴾ اللام لام كي. ﴿تُنْذِرَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولإنذارك أم القرى، الجار والمجرور معطوف على جار ومجرور معلوم من معنى ما قبله على كونه متعلقًا. بـ ﴿أنزلناه﴾ تقديره: وهذا كتاب أنزلناه للبركة، ولإنذارك أم القرى. ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾.
﴿حَوْلَهَا﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُحَافِظُونَ﴾ المذكور بعده. وجملة ﴿يُحَافِظُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أظلم﴾. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾. ﴿كَذِباً﴾: مفعول به. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿افْتَرَى﴾. ﴿أُوحِيَ﴾ فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يُوحَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿شَيْءٌ﴾: نائب فاعل لـ ﴿يُوحَ﴾، وجملة ﴿يُوحَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالَ﴾.
﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾.
479
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿من افترى﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿سَأُنْزِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مِثْلَ﴾: مفعول به، وهو مضاف. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل الجر مضاف إليه، ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مثل ما أنزله الله، ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: مبتدأ. ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذِ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿تَرَى﴾ على كونه مفعولًا به لـ ﴿تَرَى﴾، والتقدير: ولو ترى وقت كون الظالمين في غمرات الموت، وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في قوله ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾. و ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ خفض لفظًا، وموضعه نصب، وإنما سقطت النون للإضافة. ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من الضمير في ﴿بَاسِطُو﴾، والتقدير: والملائكة باسطوا أيديهم حالة كونهم قائلين للظالمين: أخرجوا أنفسكم. ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾ المذكور بعده. ﴿تُجْزَوْنَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾، والأول قام مقام الفاعل، والجملة الفعلية مقول للقول المحذوف.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.
﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص
480
واسمه. ﴿تَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُونَ﴾. ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾: مفعول به. لـ ﴿تَقُولُونَ﴾؛ لأنه بمعنى: تذكرون، وجملة ﴿تَقُولُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كونكم قائلين غير الحق، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾. ﴿وَكُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿عَنْ آيَاتِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾. وجملة ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿كان﴾ الأولى على كونها صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: وبسبب كونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله تعالى.
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، اللام موطئة للقسم، قد: حرف تحقيق. ﴿جِئْتُمُونَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿فُرَادَى﴾: حال من فاعل ﴿جِئْتُمُونَا﴾، ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث المقصورة كأسارى. ﴿كَمَا﴾ الكاف: حرف جر وتشبيه، ما: مصدرية. ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كخلقنا إياكم أول مرة الجار والمجرور حال من فاعل جئتمونا والتقدير ولقد جئتمونا فرادى مشبهة حالكم حال خَلْقنا إياكم أول مرة. ﴿وَتَرَكْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿جِئْتُمُونَا﴾ على تقدير: قد، أو مستأنفة ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿تَرَكْتُمْ﴾. ﴿خَوَّلْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ وأو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما خولناكموه. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَرَكْتُمْ﴾.
﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾.
481
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿نَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مَعَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نَرَى﴾. ﴿شُفَعَاءَكُمُ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَتَرَكْتُمْ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول صفة لـ ﴿شُفَعَاءَكُمُ﴾ ﴿زَعَمْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿فِيكُمْ﴾: متعلق بخبر ﴿أن﴾ المذكور بعده ﴿شُرَكَاءُ﴾: خبر ﴿أن﴾ مرفوع، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم تقديره: زعمتم كونهم شركاء فيكم.
﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
﴿لَقَدْ﴾ اللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿تَقَطَّعَ﴾: فعل ماضٍ. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بفاعل محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال بينكم، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. وعبارة "السمين" (١) هنا: قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ نصبًا، والباقون: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ رفعًا. فأما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال، والاتصال وإن لم يكن مذكورًا حتى يعود عليه ضمير، لكنه تقدم ما يدل عليه، وهو لفظ: شركاء، فإن الشركة تشعر بالاتصال، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم، فانتصب ﴿بَيْنَكُمْ﴾ على الظرفية.
الثاني: أن الفاعل هو ﴿بَيْنَكُمْ﴾، وإنما بقي على حاله منصوبًا حملًا له على أغلب أحواله، وهو مذهب الأخفش، وقد يقال: لإضافته إلى مبنى.
الثالث: قال الزمخشري: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ معناه: لقد وقع التقطع بينكم، كما تقول جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بين الشيئين على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل.
(١) الفتوحات.
482
وأما القراءة الثانية ففيها وجهان.
أحدهما: أن ﴿بين﴾ اسم غير ظرف، وإنما معناها الوصل؛ أي: لقد تقطع وصلكم.
الثاني: أن هذا كلام محمول على معناه؛ إذ المعنى: لقد تفرق جمعكم وتشتت، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب انتهت مع بعض تصرف.
وقال الزجاج: والرفع أجود، والمعنى لقد تقطع وصلكم.
﴿وَضَلَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع فاعل ﴿ضَلَّ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿تَقَطَّعَ﴾ على كونها جوابًا لقسم محذوف. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿تَزْعُمُونَ﴾: فعل وفاعل، ومفعولا ﴿تَزْعُمُونَ﴾ محذوفان، التقدير: تزعمونهم شفعاء، حذفا للدلالة عليهما، كما قال الشاعر:
تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبِ
أي: وتحسبه عارًا، وجملة ﴿تَزْعُمُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من ﴿تَزْعُمُونَ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
قوله: ﴿وَالْيَسَعَ﴾ وتقدم لك أن الجمهور قرؤوا: ﴿الْيَسَعَ﴾ بلام واحدة ساكنة وفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿الليسع﴾ بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان:
أحدهما: أنه منقول من فعل مضارع، والأصل: يوسع بكسر السين، ثم حذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة، ثم فتحت السين بعد حذف الواو؛ لأجل حرف الحلق وهو العين، مثل: يهب ويقع ويدع ويلغ، ثم سمى به مجردًا عن الضمير، وزيدت فيه الألف واللام شذوذًا كاليزيد في قوله:
483
وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنَفَصِلْ
رَأَيْتُ الْوَلِيْدَ بْنَ الْيَزِيْدِ مُبَارَكًا شَدِيْدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلاَفَةِ كَاهِلُهْ
ولزمت فيه كما لزمت في الآية، وقيل: الألف واللام فيه للتعريف، كأنه قدر تنكيره.
والثاني: أنه اسم أعجمي لا اشتقاق له، وأما قراءة الأخوين، فأصله: ليسع كضيغم وصيرف، وهو اسم أعجمي، ودخول الألف واللام فيه على الوجهين المتقدمين، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، فقال: سمعنا اسم هذا النبي في جميع الأحاديث اليسع، ولم يسمّه أحد منهم الليسع، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه، وإنما آثر الرواة هذه اللفظة لخفتها، لا لعدم صحة الأخرى. وقال الفراء: قراءة التشديد أشبه بأسماء العجم. وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات، وكذلك في سين يوسف اهـ "سمين".
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ والاجتباء: الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار، مشتق من جبيت الماء في الحوض: جمعته فيه، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصيتك.
﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ بها السكت، وهي حرف يجتلب للاستراحة عند الوقف، فثبوتها وقفًا لا إشكال فيه، وأما ثبوتها وصلًا فإجراء ومعاملة له مجرى الوقف، كما قال في "الخلاصة":
وَقِفْ بِهَا الْسَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلّ بِحَذْفِ آخِرٍ كَأَعْطِ مَنْ سَأَلْ
ثم قال:
وَرُبَّمَا أُعْطِيَ لَفْظُ الْوَصْلِ مَا لِلْوَقْفِ نَثْرًا وَفَشَا مُنْتَظِمَا
والاقتداء: طلب موافقة الغير في فعله، فمعنى فبهداهم اقتداه؛ أي: ائتم بهم في التوحيد والصبر، دون الفروع المختلفة باختلاف الشرائع، ودون المنسوخة، فإنها بعد النسخ لا تتبع، ويقال: اقتدى به إذا اتبعه وجعله قدوة له؛ أي: متبعًا.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى﴾ هو مصدر ذكر يذكر ذكرى على وزن فعلى بكسر الفاء،
484
ولم يأتِ مصدر على وزن فعلى بكسر الفاء إلا ذكرى كما مرَّ.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ يقال: قدر يقدر من باب نصر ينصر، وأصل القدر: السبر والحزر، يقال: قدر الشيء إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء، وقدر الشيء ومقداره: مقياسه الذي يعرف به، ويقال: قدره يقدره إذا قاسه، والقدر والقدرة والمقدار: القوة أيضًا، والقدر: الغنى واليسار والشرف.
﴿يَلْعَبُونَ﴾ وفي "القاموس": لعب كسمع لعبًا بكسر العين ضد جد، فاللعب يشمل الهزل والسخرية والاستهزاء.
﴿قَرَاطِيسَ﴾ جمع قرطاس، كمصابيح جمع مصباح، وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما.
﴿مُبَارَكٌ﴾ اسم مفعول من بارك؛ لأن الله سبحانه وتعالى بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾ وأم القرى: مكة، وسميت بذلك؛ لأنها قبلة أهل القرى، أو لأنهم يعظمونها كالأم، أو لأن فيها أول بيت للناس.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ﴾ الافتراء: اختلاق الكذب، وافتراء الكذب على الله: الاختلاق عليه، والحكاية عنه ما لم يقله، أو اتخاذ الأنداد والشركاء.
﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ والغمرات: جمع غمرة، وهي: الشدة الفظيعة، وأصلها: من غمره الماء إذا ستره؛ كأنها تستر بغمها من تنزل به اهـ "سمين". وفي "المختار": وقد غمره الماء؛ أي: علاه، وبابه نصر، والغمرة: الشدة، والجمع: غمر بفت الميم كنوبة ونوب، وغمرات الموت: شدائده.
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ واليوم: الزمن المحدود، والمراد به هنا: يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء. والهُون - بالضم - والهوان الذل، ومنه قوله تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ والهون - بالفتح -:
485
اللين والرفق، ومنه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾. وأضاف (١) العذاب إلى الهون إيذانًا بأنه متمكن فيه، وذلك لأنه ليس كل عذاب يكون فيه هون؛ لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب كضرب الوالد ولده، ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وذلك أن الأصل العذاب الهون، وصفه به مبالغة، ثم أضافه إليه حد الإضافة في قولهم: بقلة الحمقاء، ونحوه، ويدل على أنّ الهون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك اهـ "سمين".
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ واختلف (٢) الناس في ﴿فُرَادَى﴾ هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده. فقال الفراء: فرادى جمع فرد بفتح الراء، وفريد وفرد بسكونها وفردان، فجوز أن يكون جمعًا لهذه الأشياء. وقال ابن قتيبة: هو جمع فردان كسكران وسكارى، وعجلان وعجالى. وقال قوم: هو جمع فريد كرديف وردافى، وأسير وأسارى، قاله الراغب. وقيل: هو اسم جمع؛ لأن فردًا لا يجمع على فرادى. وقول من قال إنه جمع له، فإنما يريد في المعنى، ومعنى فرادى: فردًا فردًا اهـ "سمين".
وفي "البيضاوي": وفرادى جمع فرد، والألف للتأنيث ككسالى. وقرىء فرادًا بالتنوين، كغراب وفراد بلا تنوين، كثلاث، وفردى كسكرى اهـ. فهذه أربع قراءات: الأولى: هي المتواترة، والثلاثة بعدها شواذ، كما في "السمين". ويقال (٣): رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لهما أخ، وفرد الرجل يفرد فرودًا إذا تفرد، فهو فارد.
قوله: ﴿خَوَّلْنَاكُمْ﴾؛ أي: أعطيناكم، يقال (٤): خوله: أعطاه وملكه، وأصله: تمليك الخول كما تقول: مولته إذا ملكته المال، والترك وراء الظهر يراد
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
486
به: عدم الانتفاع بالشيء.
﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ البين: الفراق، قيل: يطلق على الوصل فيكون مشتركًا.
قال الشاعر:
فَوَاللهِ لَوْلاَ الْبَيْنُ لَمْ يَكُنِ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى مَا حَنَّ للْبَيْنِ آلِفُهْ
وهو هنا مصدر بأن يبين بينًا بمعنى: البعد، ويطلق على الضدين، كالبعد والقرب والوصل والانقطاع، والمراد به هنا: الوصل؛ أي: الاتصال؛ أي: العلقة والارتباط، ويضاف البين إلى المثنى كقوله تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾، وإلى الجمع كقوله: ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر كقوله: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾.
قوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ومرة في الأصل: مصدر لمر يمر مرة، ثم اتسع فيها، فصارت زمانًا. قال أبو البقاء: وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل. وقال الشيخ: وانتصب أول مرة على الظرف؛ أي: أول زمان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الوصل والفصل في أسماء الأنبياء عليهم السلام.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا﴾، وفي: ﴿أُنزِلَ﴾، وفي ﴿يُؤمِنونَ﴾ وفي ﴿كُنتُمْ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا﴾، وفي قوله: ﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾،
487
وفي قوله: ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾؛ لأن تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر، وفي قوله: ﴿إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿هَدَى اللَّهُ﴾.
ومنها: المبالغة في النفي في قوله: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأن فيه مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل بزيادة ﴿مِنْ﴾ الاستغراقية.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي قوله: ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾؛ لأن فيه استعارة لفظ الأم لمكة المكرمة؛ حيث شبهت بالوالدة، فاستعير لها لفظ الأم على طريقة الاستعارة التصريحية الترشحية؛ لأنها أصل المدن والقرى، ولفظ القرى ترشيح، وفي قوله: ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾؛ لأن الغمرة حقيقة في ستر الماء لمن دخل فيه، فاستعيرت لشدائد الموت. قال (١) الشريف الرضي: هذه استعارة عجيبة حيث شبه سبحانه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه، وسميت غمرة؛ لأنها تغمر قلب الإنسان.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾؛ لأن الترك وراء الظهر كناية عن عدم الانتفاع بالشيء.
ومنها: الزيادة والحذف في مواضع عديدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تلخيص البيان.
488
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم الكلام (١) على تقرير التوحيد وتقرير النبوة.. أردفه بذكر الدلائل الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيهًا بذلك
(١) الخازن.
489
على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك.. كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وتعريفًا منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه.
وعبارة "المراغي" هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى بعد أن (١) أثبت أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث، وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول.. عاد هنا وفصَّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه، وحكمه في الإحياء والإماتة، والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السموات، وإبداعه في شؤون النبات.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما استدل (٢) على باهر حكمته وقدرته بدلالة أحوال النبات والحيوان، وذلك من الأحوال الأرضية.. استدل أيضًا على ذلك بالأحوال الفلكية؛ لأن فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى؛ لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعًا في النفوس من الأحوال الأرضية.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٣) ذكر البراهين الدالة على تفرده بالخلق والتدبير في عالم السموات والأرض.. ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.
وقال أبو حيان (٤): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته، وامتنانه على عالم الإنسان
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
490
بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين أن في ذلك آيات لقوم يعلمون، ولقوم يفقهون، ولقوم يؤمنون.. ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته، ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات.
قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام (١) الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده، وكمال قدرته وعلمه.. عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة، وتبليغ النبي - ﷺ - أوامر ربه، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد، وما يقوله المشركون في المبلغ لها، وأعلم سبحانه سنته فيهم وفي أمثالهم، وما يجب على الرسول معهم، وما ينفى عنه.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (٢) رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وبيَّن أن من مقتضى سنته في البشر أن لا يتفقوا على دين واحد لاختلاف استعدادهم، وتفاوتهم في درجات الفهم والفكر، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فينبغي أن لا يضيقوا ذرعًا بما يرون وما يشاهدون من الإزدراء بهم، والطعن في دينهم، فإن الله هو الذي منحهم هذه الحرية، ولم يجبرهم على الإيمان.. نهى المؤمنين هنا عن سب آلهة المشركين؛ لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول، ثم ذكر طلب بعضهم للآيات؛ لأن القرآن ليس من جنس المعجزات، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به، وحلفوا على ذلك، وأكدوه بكل يمين محرجة.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
491
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآية.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما (٢): لما نزلت ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾.. قال المشركون: يا محمد، لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت.. قالت قريش: انطلقوا، فلندخلن على هذا الرجل، فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه ويحميه، فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلًا منهم يقال له المطلب، فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك، يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا، فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى الهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعا النبي - ﷺ - فجاءه، فقال له: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله - ﷺ -: "ما يريدون"؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي - ﷺ -: "أرأيتم لو أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها.. ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج؟ قال أبو جهل: وأبيك: لنعطينكها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها، قال: "يا عم
(١) لباب النقول.
(٢) الخازن.
492
ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بها، فوضعوها في يدي.. ما قلت غيرها" فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ومن يأمرك، فأنزل: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله قريشًا، فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب به الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم الناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله - ﷺ -: "أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ " قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبًا قال: "فإن فعلت تصدقوني"؟ قالوا: نعم والله، فقام رسول الله - ﷺ - يدعو، فجاء جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهبًا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿يَجْهَلُونَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٩٥ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾؛ أي: سياق جميع الحبوب من الحنطة والشعير والذرة وغيرها، من الأورق الخضر ﴿و﴾ فالق ﴿النَّوَى﴾ وشاقها، وهي التي في داخل الثمار عن الشجر الأخضر، فإذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر عليها مدة.. أظهر الله تعالى في تلك الحبة أو النواة من أعلاها شقًّا، ومن أسفلها شقًّا آخر، فيخرج من الحبة ورق أخضر، ومن النواة شجرة صاعدة في الهواء، ويخرج منها عروق هابطة في الأرض، وقيل: معنى فالق الحب والنوى: شاقهما الشق الذي فيهما من أصل الخلقة، وقيل: معنى فالق الحب والنوى: خالقهما. والنوى: جمع نواة، يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ والمنغا وغيرها. وهذه الجملة شروع منه سبحانه وتعالى في تعداد عجائب صنعه، وذكر ما تعجز آلهتهم عن أدنى شيء منه.
(١) لباب النقول.
وقرأ عبد الله (١): ﴿فلق الحب﴾ بصيغة الفعل الماضي.
وقوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ﴾؛ أي: الحيوان ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ﴾؛ أي: من النطفة والبيضة وهي ميتة، في محل الرفع خبر بعد خبر، لـ ﴿إنّ﴾ و، وقوله: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ﴾؛ أي: مخرج النطفة والبيضة وهي ميتة ﴿مِنَ الْحَيِّ﴾؛ أي: من الحيوان، معطوف على (٢) قوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ عطف جملة اسمية على جملة فعلية، ولا مانع من ذلك. وقيل: معطوف على ﴿فَالِقُ﴾ على تقدير أن جملة ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ مفسرة لما قبلها، والأول أولى.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النطفة بشرًا حيًّا، ومن البيضة أفراخًا حية، ومن الحب اليابس نباتًا غضًّا، ومن الكافر مؤمنًا، ومن العاصي مطيعًا، وبالعكس.
﴿ذَلِكُمُ﴾ الصانع هذا الصنع العجيب المذكور سابقًا من شق الحب والنوى بقدرته الباهرة هو ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود الحق المستجمع لكل كمال، والمفضل بكل إفضال، والمستحق لكل حمد وإجلال. ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: فكيف تصرفون عن عبادته وتوحيده والإيمان بالبعث إلى عبادة غيره، واتخاذ شريك معه، وإنكار البعث مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته.
والمعنى: ذلكم المتصف (٣) بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شيء، المستحق للعبادة وحده، لا شريك له، فكيف تصرفون عن عبادته، وتشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك؛ كفلق نواة وحبة، وإيجاد نخلة وسنبلة؟
٩٦ - ﴿فَالِقُ﴾ ظلمة الليل وكاشفها ومزيلها بضوء ﴿الْإِصْبَاحِ﴾ ونور النهار. والمراد بظلمة الليل: الغبش الذي يلي الإصباح المستطيل الكاذب. والإصباح بمعنى: الصبح، فالصبح والإصباح والصباح بمعنى واحد، وهو أول النهار، وذلك (٤) لأن الأفق من الجانب الغربي والشمالي والجنوبي مملوء من الظلمة، ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه. وقيل: المعنى
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) المراح.
494
خالق الإصباح من الفلق بمعنى الخلق يعني: أن الله سبحانه وتعالى مبدي ضوء الإصباح وخالقه ومنوره.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء (١): ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ بفتح الهمزة. وقرأ الجمهور بكسرها، وهو على قراءة الفتح جمع: صبح، وعلى قراءة الكسر مصدر: أصبح. وقرأت فرقة بنصب: ﴿الإصباحَ﴾ وحذف تنوين ﴿فالق﴾، وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله:
وَلاَ ذَاكِرَ الله إلا قَلِيْلًا
حذف التنوين لالتقاء الساكنين، والمبرد يجوزه في الكلام. وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو حيوة: ﴿فلق الإصباح﴾ بفعل ماضٍ، وهمزة مكسورة.
﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾؛ أي: وجعل سبحانه وتعالى الليل وقت سكون وراحة وطمأنينة للخلق؛ لأن الناس يسكنون فيه عن الحركة في معاشهم، ويستريحون من التعب والنصب الحاصل لهم بشغل النهار.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي على صيغة الماضي، والباقون على صيغة اسم الفاعل. وقرأ يعقوب ساكنًا. ﴿و﴾ جعل سبحانه وتعالى ﴿الشمس والقمر﴾ جاريين بـ ﴿حُسْبَانًا﴾؛ أي: بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص؛ أي: قدر (٢) الله تعالى حركة الشمس بمقدار معين من السرعة والبطء، بحيث تتم الدورة في سنة، وقدَّر حركة القمر بحيث تتم الدورة في شهر، وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة، وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات وأمور الحرث والنسل، والمعنى: جعلهما علامتي حساب وعد للأوقات، تتعلق بهما مصالح العباد، تحسب بهما الأوقات التي تتعلق بها العبادات والمعاملات، وسيَّرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص، ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه.
وقرأ الجمهور بنصب ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ على إضمار فعل؛ أي: وجعل
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
495
الشمس والقمر كما مر في حلنا. وقرأ أبو حيوة بجر ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ عطفًا على الليل على قراءة من قرأ: ﴿وجاعل الليل﴾ وقرىء (١) شاذًا: ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ برفعهما على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: مجعولان حسبانًا، أو محسوبان حسبانًا. وقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى (٢) جعلهما حسبانًا؛ أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم ﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ﴾؛ أي: تدبير الإله الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص ﴿الْعَلِيمِ﴾ بتدبيرهما، والأنفع من التداوير الممكنة لهما. وعبارة أبي حيان: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ذلك الجعل أو ذلك الفلق والجعل، أو ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى جميع الأخبار من قوله: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾ إلى آخرها ﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب الذي كل شيء من هذه في تسخيره وقهره. ﴿الْعَلِيمِ﴾ الذي لا يعزب عنه شيء من هذه الأحوال، ولا من غيرها؛ أي (٣): حصول هذه الأحوال لا يمكن إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وبعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، فليس حصول حركات أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة بالطبع، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار.
٩٧ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وخلق ﴿لَكُمُ﴾ أيها الناس ﴿النُّجُومَ﴾ والكواكب ﴿لِتَهْتَدُوا بِهَا﴾؛ أي: للاهتداء بها ﴿فِي ظُلُمَاتِ﴾ الليل عند المسير في ﴿الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه، فامتن الله على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق، والجهات التي تقصد، والقبلة في البر والبحر؛ إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة، كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها، والمعنى: وهو الذي خلق لكم النجوم لاهتدائكم بها في مشتبهات الطرق إذا سافرتم في بر أو بحر، ولاستدلالكم بها على معرفة القبلة، وعلى معرفة أوقات الصلاة. والمراد بالنجوم هنا: ما عدا الشمس والقمر
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
من النيرات؛ لأنه الظاهر من سياق الكلام، ولأنه المعهود في الاهتداء، وهذه إحدى منافع النجوم التي خلقها الله لها.
ومنها: ما ذكره الله في قوله: ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧)﴾، ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾.
ومنها: جَعْلها زينة للسماء، ومن زعم غير هذه الفوائد.. فقد أعظم على الله الفرية. ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لقوم يعلمون؛ أي: يتأملون فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب؛ أي: فإن هذه النجوم كما يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر، فكذلك يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه.
وكانت العرب في أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم، فتحفظ أوقات السنة بالأنواء، وهي نجوم منازل القمر في مطالعها ومغاربها، وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين:
١ - معرفة الوقت من الليل، أو من السنة.
٢ - معرفة المسالك والطرق والجهات.
والمراد بالظلمات: ظلمة الليل، وظلمة الأرض، أو الماء، وظلمة الخطأ والضلال.
وحاصل المعنى: والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة في البر والبحر إذا ضللتم الطريق، أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلًا، فيها تستدلون على الطرق فتسلكونها، وتنجون من الخطأ والضلال في البر والبحر.
٩٨ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ وأوجدكم وخلقكم مع كثرتكم واختلاف ألسنتكم وألوانكم ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هي الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد، وهو آدم عليه السلام، وفي إنشاء البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته، وفي التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر، وأن يكون هذا التفرق إلى
497
شعوب وقبائل مدعاةً إلى التآلف، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾؛ أي: ولكم موضع استقرار في الأصلاب، وموضع استيداع في الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأن النطفة تتوالد في الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع، كما قال الشاعر:
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَللآبَاءِ أَبْنَاءُ
فالمستقر على هذا التفسير: صلب الأب، والمستودع: رحم الأم، لأن (١) النطفة حصلت في صلب الأب قبل حصولها في رحم الأم، فحصول النطفة في الرحم من فعل الرجل مشبه بالوديعة، وحصولها في الصلب لا من جهة الغير. وقال أبو مسلم الأصبهاني: إن تقدير الآية: هو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم ذكر ومنكم أنثى، وإنما عبر عن الذكر بالمستقر؛ لأن النطفة إنما تنشأ في صلبه وتستقر فيه، وإنما عبر عن الأنثى بالمستودع؛ لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة.
وقرأ (٢) ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي: بكسر القاف على صيغة اسم الفاعل، والباقون: بفتحها. وأما ﴿مستودع﴾ فهو بفتح الدال لا غير، وهما مرفوعان على أنهما مبتدان، وخبرهما محذوف، والتقدير على القراءة الأولى - أعني قراءة الكسر -: فمنكم مستقر على ظهر الأرض، وعلى القراءة الثانية - أعني قراءة الفتح -: فلكم مستقر على ظهرها؛ أي: موضع قرار، ومنكم مستودع في الرحم، أو في باطن الأرض، أو في الصلب. وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع في الأرض. وقيل: المستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب. وقيل: المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق. وقيل: الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث، ومما يدل على تفسير المستقر
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
498
بالكون على الأرض قول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾؛ أي: قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا من تفاصيل خلق البشر ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: يدققون النظر ويتأملون فيها، فإن إنشاء البشر من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف صنعة، وإن الاستدلال بالأنفس أدق من الاستدلال بالنجوم في الآفاق لظهورها. وعبارة "المراغي" هنا: قوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾؛ أي (١): إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا في الخلق مفصلة وموضحة لقدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويفهمون المراد منه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه.
وعبر هنا بالفقه، وفيما قبلها بالعلم؛ لأن استخراج الحكم من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات، وفطنة في استخراج دقائق الحكم. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر والتأمل في العبرة منها، وكذلك جميع المظاهر الفلكية. ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين، وهي إنزال الماء من السماء، وجعله سببًا للنبات، فقال:
٩٩ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا؛ أي: وهو الله الذي خلق هذه الأجسام في السماء، ثم ينزلها إلى السحاب، ثم من السحاب إلى الأرض ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾؛ أي: بسبب هذا الماء ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: نبات كل صنف من أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره اختلافًا متفاوتًا في مراتب الزيادة والنقصان، سواء كان من النجم، أو من الشجر، كما قال تعالى: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾.
﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ﴾؛ أي: من النبات ﴿خَضِرًا﴾؛ أي: زرعًا، والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولًا في القمح والشعير والذرة والأرز، ويكون السنبل في أعلاه؛ أي: فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئًا غضًّا أخضر،
(١) المراغي.
499
وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، كساق النجم وأغصان الشجر. ﴿نُخْرِجُ مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الخضر؛ أي: من هذا الأخضر المتشعب النبات آنًا بعد آن. ﴿حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾ بعضه فوق بعض في سنبلة واحدة، وهذا الخارج هو السنبل، مثل سنبل الشعير والقمح والذرة وسائر الحبوب.
وقرأ الأعمش وابن محيصن: ﴿يخرج منه حب متراكب﴾ على أنه مرفوع بـ ﴿ـيخرج﴾، و ﴿متراكب﴾ في رفعه ونصبه صفة له. وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له، وهو ما عدا الشجر. وفي تقديم الزرع على النخل دليل على أفضلية الزرع على الشجر، ولأن حاجة الناس إليه أكثر؛ لأنه القوت المألوف. ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر، فقال: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ طَلْعِهَا﴾ بدل منه ﴿قِنْوَانٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿دَانِيَةٌ﴾ صفة له؛ أي: وأخرجنا من النخل نخلًا من طلعها قنوان دانية؛ أي: عنقود وعذوق قريبة يناله القاعد والقائم؛ لانحنائها بثقل حملها، أو لقصر ساقها، وفيه اكتفاء؛ أي: وغير دانية لطولها، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ وإنما اقتصر على ذكرها دون مقابلها لدلالتها عليه، وزيادة النعمة فيها بقربها إلى المجتني، ففيها سهولة التناول دون البعيدة لاحتياجها إلى كلفة. والطلع: أول ما يبدو ويطلع ويظهر من زهر النخل قبل أن ينشق عنه غلافه. والقنوان: واحدها: قنو، والقنو: العذق الذي يكون فيه التمر، وهو من النخل كالعنقود من العنب، والسنبلة من القمح. وذكر الطلع مع النخل؛ لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام.
وقرأ الجمهور (١): ﴿قِنْوَانٌ﴾ بكسر القاف. وقرأ الأعمش والخفاف عن أبي عمر والأعرج في رواية: بضمها، ورواه السلمي عن علي بن أبي طالب. وقرأ الأعرج في رواية، وهارون عن أبي عمر: ﴿وقنوان﴾ بفتح القاف. وخرجه أبو الفتح على أنه اسم جمع على فعلان؛ لأن فعلانًا ليس من أبنية جمع التكسير.
وقوله: ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ بالنصب بكسر التاء على قراءة الجمهور معطوف
(١) البحر المحيط.
500
على ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من عطف الخاص على العام لشرفه، ولما جرد النخل.. جردت جنات الأعناب لشرفهما؛ أي: وأخرجنا بالماء بساتين كائنة من أعناب. وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم: ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ بالرفع، وهي قراءة علي بن أبي طالب. وقدره أبو البقاء: ومن الكرم ﴿جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ نظرًا لقوله أولًا: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾.
وقوله: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ معطوفان على نبات كل شيء؛ أي: وأخرجنا بذلك الماء شجر الزيتون وشجر الرمان حالة كون كل واحد منهما ﴿مُشْتَبِهًا﴾؛ أي: يشبه (١) بعضه بعضًا في بعض أوصافه ﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾؛ أي: ولا يشبه بعضه بعضًا في البعض الآخر. وقيل: إن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن، وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم. وقال قتادة: مشتبهًا ورقها مختلفًا ثمرها؛ لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان.
وقيل: هما منصوبان على الاختصاص، وإنما خصهما بالذكر لقرب منابتهما من العرب؛ أي (٢): وأخص من نبات كل شيء: الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبهًا في بعض الصفات وغير مشتبه في بعض آخر، فإنها أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر، وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنها الحلو، والحامض، والمرُّ، وكل ذلك دال على قدرة الصانع وحكمة المبدع جلَّ شأنه.
واعلم (٣): أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع، وإنما قدم الزرع على سائر الأشجار؛ لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفواكه؛ وإنما قدم النخلة على غيرها؛ لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء، وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار، وإنما ذكر العنب عقب النخلة؛ لأنها من أشرف أنواع الفواكه، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من المنافع أيضًا؛ لأنه فاكهة ودواء. وقرأ الجمهور: ﴿مُشْتَبِهًا﴾، وقرىء شاذًا: ﴿مُشْتَبِهًا﴾، وهما بمعنى واحد،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
501
كاختصم وتخاصم، واشترك وتشارك، واستوى وتساوى، ونحوها مما اشترك فيه باب الافتعال والتفاعل.
﴿انْظُرُوا﴾ أيها المخاطبون نظر اعتبار واستبصار ﴿إِلَى ثَمَرِهِ﴾؛ أي: إلى ثمر كل واحد مما ذكر ﴿إِذَا أَثْمَرَ﴾؛ أي: إذا أخرج ثمره أول ظهوره، وكيف يخرج ضئيلًا لا يكاد ينتفع به ﴿وَ﴾ انظروا إلى ﴿يَنْعِهِ﴾؛ أي: وإلى نضجه وإدراكه، وكيف أنه يصير ضخمًا ذا نفع عظيم ولذة كاملة، ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين يستبين لكم لطف الله وتدبيره وحكمته في تقديره، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده؛ أي: انظروا أيها المخاطبون إلى حال هذه الثمار من ابتداء خروجها وظهورها إلى انتهاء كبرها ونضجها، كيف تتنقل من حال إلى حال في اللون والرائحة، والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مرًّا وبعضه مالحًا لا ينتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلوًا طيبًا نافعًا مستساغ المذاق، فسبحان القادر الخلاق.
والحاصل: انظروا نظر استدلال واعتبار كيف أخرج الله تعالى هذه الثمرة الرطبة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة، فإنه مما يدل على قدرته الباهرة وحكمته الظاهرة.
وقرأ ابن وثاب ومجاهد وحمزة والكسائي (١): ﴿إلى ثُمره﴾ بضم الثاء والميم، جمع ثمرة كخشبة وخشب، وأكمة وأكم. وقرأت فرقة بضم الثاء وإسكان الميم طلبًا للخفة، كما تقول في الكتب: كتب. وقرأ باقي السبعة بفتح الثاء والميم، وهو اسم جنس، كشجرة وشجر. والثمر جنى الشجر وما يطلع منه. وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَيَنْعِهِ﴾ بفتح الياء وسكون النون. وقرأ قتادة والضحاك وابن محيصن بضم الياء وسكون النون. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني ﴿ويانعه﴾ اسم فاعل من ينع، ونسبها الزمخشري إلى ابن محيصن.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ﴾؛ أي: إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
502
والأشكال والألوان ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلائل باهرة على قدرة الله تعالى ووحدانيته ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون بوجود الله تعالى ووحدانيته، وإن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم، وناسب ختم هذه الآية بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ كون ما تقدم دالًّا على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة، فلا بدَّ لها من مدبر مع أنها نابتة من أرض واحدة، وتسقى بماء واحد ذكره في "الجمل".
والمعنى (١): إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته لمن هو مؤمن بالفعل، ولمن هو مستعد للإيمان. أما غيرهم.. فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر، ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهي النظام، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات، ولا يبحثون عن كون انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دالًّا على كمال الحكمة، وعلى أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة.
١٠٠ - ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالتهم؛ أي: وجعل هؤلاء المشركون الجن شركاء لله سبحانه وتعالى ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الجن، أو قد خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض في صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقًا، ولا يصل به إلى درجة أن يكون إلهًا وربًّا.
وفي المراد (٢) من الجن هنا أقوال، فقال قتادة: إنهم الملائكة، فقد عبدوهم، وقال الحسن: إنهم الشياطين، فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي. وقيل: إبليس، فقد عبده أقوام وسموه ربًّا، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
503
وروي عن ابن عباس أنه قال: إنها نزلت في الزنادقة الذين يقولون: إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور، رجح الرازي هذا الرأي قال: إن المراد من الزنادقة: المجوس الذين قالوا: إن كل خير في العالم، فهو من يزدان - النور - وكل شر فهو من أهرمن؛ أي: إبليس. وقرأ (١) الجمهور: بنصب ﴿الْجِنَّ﴾، وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أول لـ ﴿جَعَلُوا﴾، وجعلوا بمعنى: صيروا، و ﴿شُرَكَاءَ﴾: مفعول ثانٍ، و ﴿لِلَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿شُرَكَاءَ﴾.
وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب: ﴿الْجِنَّ﴾ بالرفع على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه شركاء؟ فقيل لهم: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه، والانتقاص جعلوه شريكًا لله. وقرأ شعيب بن أبي حمزة: ﴿الْجِنَّ﴾ بخفض النون، ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضًا، وحمل على الإضافة التي للتبيين، ولا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله، وهذا معنى لا يظهر. وقرأ (٢) يحيى بن يعمر ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ بإسكان اللام، وكذا في مصحف عبد الله، والظاهر أنه عطف على الجن؛ أي: وجعلوا الذي ينحتونه أصنافًا شركاء لله، كما قال تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾ فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى: المخلوق، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: وقرىء: ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾؛ أي: اختلاقهم الإفك يعني: وجعلوا لله خلقهم؛ حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: والله أمرنا بها. انتهى. والخلق هنا: مصدر بمعنى: الاختلاق. ﴿وَخَرَقُوا لَهُ﴾؛ أي: خرق هؤلاء المشركون واختلقوا وكذبوا، وجعلوا لله سبحانه وتعالى ﴿بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بغير علم؛ أي: بجهل وضلالة؛ أي: واختلقوا له تعالى بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم؛ أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميًا بقول عن جهالة وغباوة من غير فكر وروية، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
504
بمقام الألوهية؛ حيث قال مشركو العرب: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فلو عرفوا أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته.. لامتنعوا أن يثبتوا له تعالى البنين والبنات؛ فإن الولد قال على كونه منفصلًا من جزء من أجزاء الوالد، وذلك إنما يكون في مركب يمكن انفصال بعض أجزائه، وذلك في حق الفرد الواجب الوجود لذاته محال، فمن عرف حقيقة الإله استحال أن يقول: له تعالى ولد. وقرأ (١) نافع: ﴿وخرقوا﴾ بتشديد الراء وبالقاف، وباقي السبعة بتخفيفها، وقرأ ابن عمر وابن عباس ﴿وحرفوا﴾ بالحاء المهملة والفاء، وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس بمعنى؛ وزوروا له أولادًا؛ لأن المزور محرف مغير للحق إلى الباطل.
﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما لا يليق به من سمات الحدوث، ونزه الله تعالى ذاته بنفسه عن كل ما لا يليق به ﴿وَتَعَالَى﴾؛ أي: تقدس وترفع ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾؛ أي: عن الباطل الذي يصفونه به، وعما يقوله المشركون في حقه من أن له شريكًا وولدًا. فالتسبيح (٢) يرجع إلى ذات المسبح، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له تعالى، سواء سبحه تعالى مسبح أم لا، فكأنه قال هنا: نزهت ذاتي عن كل ما لا يليق بي، وترفعت صفاتي عن ما لا يليق بها، وهو سبحانه وتعالى
١٠١ - ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: خالق السموات والأرض وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق، فهو الخالق المبدع. وقرأ المنصور ﴿بَدِيعُ﴾ بالجر، ردًّا على قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ﴾، أو على ﴿سُبْحَانَهُ﴾. وقرأ صالح الشامي ﴿بَدِيعُ﴾ بالنصب على المدح، ذكره أبو حيان. والاستفهام في قوله ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ للإنكار والاستبعاد، وجملة قوله: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ حالية؛ أي: كيف يكون له سبحانه وتعالى ولد، والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها، والولد لا يوجد إلا كذلك؛ لأنه إذا لم تكن صاحبه.. استحال وجود الولد، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرضية صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها، وصدور تسبب
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
505
كالتوالد ونحوه بحسب سننه في الخلق. وقرأ النخعي: ﴿ولم يكن﴾ بالياء، ووجه على أن فيه ضميرًا يعود على الله، أو على أن فيه ضمير الشأن، وجملة: ﴿لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ على هذين الوجهين في موضع نصب خبر يكن، أو على ارتفاع ﴿صاحبة﴾ بـ ﴿يكن﴾، وذُكِّر للفصل بين الفعل والفاعل كقوله:
وَلَدَ الأُخَيِطلَ أُمُّ سُوْءْ
وحضر للقاضي امرأة ذكره أبو حيان في "البحر".
وجملة قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ مقررة لإنكار نفي الولد، ودليل بعد دليل على ذلك؛ أي: وهو سبحانه وتعالى خلق كل شيء من الكائنات خلقًا وأوجده إيجادًا، ولم يلده ولادة كما زعمتم، فما افتريتم واخترعتم من الولد، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه. يعني (١): إن الصاحبة والولد في جملة من خلق؛ لأنه خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟ وإذا نسب الولد والصاحبة إليه.. فقد جعل له مثل، والله تعالى منزه عن المثلية، وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المعلومات ﴿عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه من مخلوقاته شيء؛ أي: إن علمه سبحانه وتعالى بكل شيء ذاتي له، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء، ولو كان له ولد.. لكان هو أعلم به، ولهدى العقول إليه بآيات الوحي ودلائله، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبًا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلي.
والخلاصة (٢): أنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه:
١ - أن من مبدعاته السموات والأرضين، وهي مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها.
٢ - أن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة لشيء.
(١) الخازن.
(٢) المراغي والبيضاوي.
506
٣ - أن الولد كفء للوالد، والله لا كفء له؛ لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه، ولأن علمه ذاتي ولا كذلك غيره.
والإشارة في قوله:
١٠٢ - ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ إلى الموصوف بما تقدم من خلق السموات والأرض وإبداعهما، ومن أنه بكل شيء عليم، ومن أنه خلق كل شيء، فإذا (١) كانت هذه الصفات ملاحظة في اسم الإشارة.. حصل التكرار في قوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ إذ يصير المعنى: الذي خلق كل شيء، خالق كل شيء ويجاب بأن قوله فيما سبق، وخلق كل شيء؛ أي: في الماضي، كما تنبىء عنه صيغة الماضي، وبأن قوله هنا: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: مما سيكون، فلا تكرار، وهكذا أجاب أبو السعود، فاسم الإشارة: مبتدأ، واسم الجلالة: خبر أول، وربكم: خبر ثانٍ، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر ثالث، و ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ خبر رابع، والخطاب في قوله: ﴿ذَلِكُمُ﴾ موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة؛ أي: ذلكم الموصوف بالصفات السابقة أيها المشركون من أنه خلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سبق، وأنه بكل شيء عليم هو المعبود بحق في الوجود، ربكم ومالككم، المستحق منكم العبادة، لا من تدعون من دونه من الأصنام؛ لأنها جمادات لا تخلق ولا تضر ولا تنفع ولا تعلم، والله تعالى هو الخالق الضار النافع، لا معبود بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، خالق كل شيء ما كان وما يكون، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه، فكيف يعبد من هو مثله ويتخذه إلهًا. والفاء (٢) في قوله: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ لمجرد السببية من غير عطف، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر، وعكسه؛ أي: هو حكم ترتب على تلك الأوصاف، وهي علل مناسبة، فحيث وجدت وجد، وحيث فقدت فقد، وبما تقرر علم أنَّ فائدة ذكر خالق كل شيء في الآية بعد قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ جعله توطئة لقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾، وأما قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فإنما ذكر استدلالًا على نفي الولد اهـ "كرخي".
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
أي: فبسبب كونه موصوفًا بالأوصاف السابقة ومستجمعا لها، وحدوه بالعبادة، ولا تشركوا به شيئًا من مخلوقاته، يعني: من كانت هذه صفاته.. فهو الحقيق بالعبادة فاعبدوه، ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى مع تلك الصفات الجليلة الشأن ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المخلوقات ﴿وَكِيلٌ﴾؛ أي: رقيب على أعمالهم حافظ لها، فيجازيهم عليها، فيجب على كل مكلف أن يعلم أنه لا حافظ إلا الله، ولا مصلح للمهمات إلا الله، فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه، ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه تعالى، ويقال: أي: كفيل بأرزاق خلقه. وقيل: معناه موكول إليه جميع الأمور، متول عليها، يدبر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية.
والخلاصة (١): أنه لا حافظ إلا الله، ولا قاضي للحاجات إلا هو، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه، ولا نلجأ في المهمات إلا إليه سبحانه وتعالى.
١٠٣ - ﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾ سبحانه وتعالى ولا تراه ﴿الْأَبْصَارُ﴾ جمع بصر، وهو حاسة النظر، أي القوة الباصرة، وقد يقال: للعين من حيث إنها محلها، أي محلُّ الحاسة، أي لا تراه أبصار الخلائق في الدنيا، وبهذا يعلم أنه لا تنافي بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. فقد روي أنه - ﷺ - قال: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب" فالمؤمنون يرونه في الآخرة لهذه الأحاديث، ولقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾. وأما الكافرون.. فهم يومئذ محجوبون عن ربهم، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾.
وقيل: معناه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف بها كنهه وحقيقته عَزَّ وَجَلَّ، وعلى هذا القول يكون نفي الإدراك على عمومه، فلا يحيط به بصر أحد لا في
(١) المراغي.
508
الدنيا ولا في الآخرة، لعدم انحصاره في بصرهم: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

فصل في البحث عن رؤية الله سبحانه وتعالى


وفي "الخازن" قال (١): جمهور المفسرين معنى الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، والأبصار ترى الباري سبحانه وتعالى ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به. وقال سعيد بن المسيب في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ لا تحيط به الأبصار. وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقد تمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع، وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وقالوا: إن الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه، وإن رؤيته مستحيلة عقلًا؛ لأن الله أخبر أن الأبصار لا تدركه، إدراك البصر عبارة عن الرؤية، إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري، ورأيته ببصري، فثبت بذلك أن قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ بمعنى: لا تراه الأبصار، وهذا يفيد العموم. ومذهب أهل السنة: أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، وإن رؤيته غير مستحيلة عقلًا. واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتاب والسنة والإجماع من الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة، قال الله تعالى: ﴿وجوه يومئذ إلى ربها ناظرة﴾ ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه في الآخرة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾؛ أي: يرى الأبصار ويحيط بها، ويبلغ كنهها، لا تخفى عليه منها خافية، وخص (٢) الأبصار بالذكر ليجانس ما قبله، وإلا فهو يدرك الأبصار وغيرها من الأشياء.
وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي: لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما السبب الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
509
أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. انتهى. فاعلم أن خلقًا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به، وهو اللطيف الخبير.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّطِيفُ﴾؛ أي: الخفي عن إدراك الأبصار له من اللطف بمعنى خفاء الإدراك، فيكون راجعًا لقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾؛ أي: فيلطف عن أن تدركه الأبصار بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته. ﴿الْخَبِيرُ﴾؛ أي: العالم بدقائق الأشياء ولطائفها، فلا يعزب عن إدراكه شيء، فيكون راجعًا لقوله: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.
والخلاصة: أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار، ولكنه خبير بكل لطيف، وهو يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.
١٠٤ - ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هذا الكلام وارد على لسان رسول الله - ﷺ - لقوله آخره: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾؛ أي: قد جاءكم وأتاكم أيها الناس في هذه الآيات البينات بصائر كائنات من ربكم وخالقكم؛ أي: قد جاءتكم الحجج الكونية والبراهين العقلية في هذا القرآن، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم، وأكمل مشاعركم، وقواكم، كما ربى أرواحكم وهذب نفوسكم، ومحص بها عقولكم حتى تصل إلى منتهى ما تسموا إليه النفوس البشرية من الكمال. والمراد بالبصائر هنا: الآيات الواردة في هذه السورة، أو القرآن بجملته، فلما كانت هذه الآيات والحجج والبراهين أسبابًا لحصول البصائر.. سميت بصائر. ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾؛ أي: فمن عرف تلك الآيات وأبصر بها الحق وآمن وعمل صالحًا، ثم اهتدى ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾؛ أي: فلنفسه أبصر واهتدى، وقدم الخير، وبلغ السعادة؛ أي: فمنفعة إبصاره لنفسه؛ لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار. ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾ عن تلك البصائر وكفر بها، وضل عن الحق وأعرض عن سبيله، وأصر على ضلاله تقليدًا لآبائه وأجداده ﴿فَعَلَيْهَا﴾؛ أي: فعلى نفسه عمي وجنى وأضر بها؛ أي: فمضرة ضلاله وكفره على نفسه، وكان وبال ذلك
العمى عليه؛ لأن الله تعالى غنى عن خلقه. ونحو الآية قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾؛ أي: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم من أرسلت به إليكم، والله هو الحفيظ عليكم، ولا يخفى عليه شيء ما أعمالكم، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علي إلا البلاغ. وقيل: معناه: لا أقدر أن أدفع عنكم ما يريده الله بكم. وقيل: معناه: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهذا كان قبل الأمر بقتال المشركين، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية السيف، وعلى القولين الأولين ليست منسوخة، والله أعلم بمراده.
١٠٥ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: ومثل تصريفنا الآيات في غير هذه السورة ﴿نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ في هذه السورة؛ أي: ونبين دلائل قدرتنا ووحدانيتنا من الآيات التكوينية والبراهين العقلية في هذه السورة تبيينًا مثل تبييننا إياها في غير هذه السورة. وقوله: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ معطوف على محذوف تقديره: وكذلك نصرف الآيات ونبينها ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام، وليقول الجاحدون المعاندون من المشركين في عاقبة أمرهم قد درست هذا القرآن من قبل، وتعلمت من أهل الكتاب، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت، وقد قالوا هذا إفكًا وزورًا، فزعموا أنه تعلَّم من غلام رومي كان يصنع السيوف بمكة، وكان يختلف إليه كثيرًا، وذلك ما عناه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة، وليقولوا درست، وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى قوم آخرون بالإعراض عنها، فمن عمل بها.. سعد، ومن قال: درست.. شقي، ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير". واللام في قوله: ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ لام العاقبة، وضابطها هي التي تدخل على شيء ليس مقصودًا من أصل الفعل، ولا حاملًا عليه، وفي قوله:
511
﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لام كي، وهي لام العلة، وضابطها: هي التي كان ما بعدها علة لما قبلها، والضمير فيه للآيات بتأويلها بالقرآن؛ أي: وكذلك نصرف الآيات ليهتدوا بها، وليقولوا درست، ولنبين تلك الآيات التي هي القرآن لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد.
والحاصل: أن لتصريف الآيات ثلاث فوائد:
١ - أن يهتدي بها المستعدون للإيمان.
٢ - وأن يقول الجاحدون: درست.
٣ - وأن نبينها لقوم يعلمون.
والحاصل: أنه علل تبيين الآيات بعلل ثلاث: أولاها محذوفة، واللام في الأولى والأخيرة لام العلة حقيقة بخلافها في الثانية، فهي لام العاقبة كما مرَّ آنفًا.
والخلاصة: أن الذين يقولون للرسول إنك درست هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله تعالى على ضروب مختلفة، ولم يفقهوا سرها وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا، وأما الذين يعلمون مدلولاتها وحسن عاقبة الاهتداء بها.. فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن، وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان.

فصل


وفي ﴿دَرَسْتَ﴾ قراءات (١)، قرأ أبو عمرو وابن كثير: ﴿دَارَسْتَ﴾ بألف بين الدال والراء وسكون السين وفتح التاء، كفاعلت، وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة، والمعنى عليها: دارست يا محمد أهل الكتاب ودارسوك؛ أي: ذاكرتهم وذاكروك. وقرأ ابن عامر ويعقوب وجماعة من غير السبعة: ﴿دَرَسْتَ﴾ بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف، كخرجت
(١) البحر المحيط وزاد المسير والشوكاني.
512
مسندًا إلى ضمير الغائبة، وهي قراءة الحسن، والمعنى عليها: قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وتكررت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم. وقرأ باقي السبعة، وهم عاصم وحمزة والكسائي: ﴿دَرَسْتَ﴾ كضربت، والمعنى عليها: درست يا محمد في الكتب القديمة، وتعلمت من أبي فكيهة وجبر ويسار، وسنبين هذا إن شاء الله تعالى عند قوله: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ في سورة النحل، وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: ﴿دُرِست﴾ بضم الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يسر، ومعناها قرئت. وقرأ أبي بن كعب: ﴿دَرُسَتْ﴾ بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء.
قال الزجاج: وهي بمعنى: درست بفتحات؛ أي: انمحت ومضت، إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة. وقرأ معاذ القارئ وأبو العالية ومورق: ﴿دُرِّسْت﴾ بضم الدال وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن عباس وأبي والأعمش: ﴿دَرَس﴾ بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء؛ أي: قرأ محمد. وروى عصمة عن الأعمش: ﴿دارس﴾ بألف. وروي عن الحسن: ﴿درسن﴾ مبنيًّا إلى المفعول، مسندًا إلى النون؛ أي: درست الآيات، وكذا هي في مصاحف عبد الله. وقرأت فرقة: ﴿درسن﴾ بتشديد الراء مبالغة في درسن. وقرىء: ﴿دارسات﴾؛ أي: هي قديمات، أو ذات درس كعيشة راضية. وقرىء: ﴿درست﴾ بالتشديد والخطاب؛ أي: درست الكتب القديمة. وقرىء: ﴿درست﴾ مشددًا مبنيًّا للمفعول المخاطب. وقرىء: ﴿دورست﴾ بالتخفيف والواو مبنيًّا للمفعول، والواو مبدلة من الألف في دارست. وقرأت فرقة: ﴿دارست﴾؛ أي: دارستك الجماعة الذين تتعلم منهم، وجاز الإضمار لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم، ويجوز أن يكون الفعل للآيات وهو لأهلها؛ أي: دارس أهل الآيات، فهذه خمس عشرة قراءة في هذه الكلمة. وقرأت طائفة منهم المبرد: ﴿وليقولوا﴾ بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والتهديد؛ أي: وليقولوا ما شاءوا، فإن الحق بين. وقرأ الجمهور بكسرها، وقالوا: هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها، والفعل منصوب بأن المضمرة، وهي لام كي.
513
تتمة: في معنى: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ أي (١): وليقول بعضهم: ذاكرت يا محمد أهل الأخبار الماضية، فيزداد كفرًا على كفر. وذلك لأن النبي - ﷺ - كان يظهر آيات القرآن نجمًا نجمًا، والكفار كانوا يقولون: إن محمدًا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يتفكر فيها، ويصلحها آية فآية، ثم يظهرها، ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء.. فلم لم يأت بهذا القرآن دفعة واحدة، كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة؛ أي: فإن تكرير هذه الآيات حالًا بعد حال هي التي أوقعت الشك للقوم في أن محمدًا - ﷺ - إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين.
وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان: فريق فسدت فطرتهم، ولم يبقَ لديهم استعداد لهديه، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار، وفريق آخر اهتدى به، وعمل بما فيه.. أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه بالبيان له، والعمل به، فقال:
١٠٦ - ﴿اتَّبِعْ﴾ يا محمد ﴿مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ما أنزل إليك من ربك؛ أي: ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، وهو القرآن، فاعمل به وبلغه إلى عبادي، ولا تلتفت إلى قول من يقول: دارست أو درست، ولا تتبع أهوائهم. وفي قوله: ﴿مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ تعزية لقلب النبي - ﷺ -، وإزالة الحزن الذي حصل له بسبب قولهم: درست. ونبه (٢) بقوله سبحانه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ على أنه سبحانه وتعالى واحد فرد صمد لا شريك له، وإذا كان كذلك.. فإنه تجب طاعته ولا يجوز تركها بسبب جهل الجاهلين، وزيغ الزائعين. وهذه الجملة معترضة لا محل لها من الإعراب، أكد بها إيجاب اتباع الوحي، أو حال مؤكدة من ﴿رَبِّكَ﴾. ﴿وَأَعْرِضْ﴾ يا محمد ﴿عَنِ﴾ استهزاء ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ وشركهم الذين يستهزئون بك، ولا تبال بهم واتركهم ولا تقاتلهم في الحال حتى يأتيك الأمر بقتالهم، فيكون الأمر بالإعراض منسوخًا بآية السيف على هذا المعنى، أو
(١) المراح.
(٢) الخازن.
المعنى: اتركهم في الحال لا على الدوام، فيكون غير منسوخ.
وحاصل معنى الآية: أي (١) اتبع ما أوحي إليك لتزكي نفسك، وتكون إمامًا لأبناء جنسك، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلمه ويأتمر بما يُؤمر به، ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحي، هو المعبود الواحد الذي لا شريك له، المجازي على الأعمال التي لا تقبل شفاعة ولا فداء. ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك ولا مثل قولهم: درست؛ لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال، ولا بالانكباب على خرافات الأعمال، ثم هون عليه أمر الإعراض عنهم فقال:
١٠٧ - ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى توحيدهم وعدم إشراكهم لـ ﴿مَا أَشْرَكُوا﴾ بأن يخلق البشر كلهم مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والطاعة والفسق، مضت سنته بأن يكونوا مختارين في أعمالهم وفي كسبهم لعلومهم وأعمالهم، وجعل منها الخير والشر، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرًا.
والمعنى (٢): لا تلتفت يا محمد إلى سفاهات هؤلاء المشركين الذين قالوا لك: إنما جمعت هذا القرآن من مذاكرة الناس، ولا يثقلن عليك شركهم، فإنا لو أردنا إزالة الشرك عنهم.. لقدرنا، ولكنا تركناهم مع كفرهم، فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم.
﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ﴾ يا محمَّد ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على هؤلاء المشركين ﴿حَفِيظًا﴾؛ أي: رقيبًا، ولا حافظًا من جهتنا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: وما أنت بحافظ ولا قيم عليهم من جهتم تقوم
(١) المراغي.
(٢) المراح.
بأرزاقهم وتتولى أمورهم وتتصرف فيها. والمعنى (١): أنك لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب، وإنما بعثت مبلغًا، فلا تهتم بشركهم، فإن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
والخلاصة (٢): أنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي، بل أنت بشير ونذير، والله هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم.
١٠٨ - ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: ولا تشتموا أيها المؤمنون الأصنام التي كان المشركون يعبدونها ويدعونها من دون الله تعالى لجلب نفع لهم، أو دفع ضر عنهم بوساطتها وشفاعتها لهم عند الله تعالى ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾؛ أي: فيتسبب عن ذلك سب المشركين لله تعالى ﴿عَدْوًا﴾؛ أي: ظلمًا ملتبسًا ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أي: بجهل بالله تعالى ليغيظوا المؤمنين، ولينتصروا لآلهتهم لشدة غيظهم لأجلها، فيخرجوا عن حال الاعتدال إلى ما ينافي العقل، كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف، فإنه قد يلفظ بما يؤدي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك.
والمعنى: ولا تسبوا الأصنام التي كان المشركون يدعونها من دون الله، فيسبوا الله للظلم بغير علم بما يجب في حقه عليهم؛ لأنهم جهلة بالله تعالى؛ لأن بعضم كان يقول بالدهر ونفي الصانع. قال (٣) قتادة: كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عَزَّ وَجَلَّ انتهى. وإنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان مباحًا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد، وهو سب الله وسب رسوله، فظاهر الآية كان نهيًا عن سب الأصنام، وحقيقتها النهي عن سب الله تعالى؛ لأنه سبب لذلك، وفي ذلك دلالة على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة.. وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر.
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
516
وقيل معنى الآية (١): ولا تسبوا أيها المؤمنون من يعبدون الأصنام من حيث عبادتهم لآلهتهم، كأن تقولوا: تبًّا لكم ولما تعبدون من الأصنام مثلًا، فيسبوا رسول الله - ﷺ - تجاوزًا عن الحق إلى الباطل بجهالة منهم بما يجب عليهم، فإن الصحابة متى شتموهم.. كانوا يشتمون رسول الله - ﷺ -، فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى؛ لأن الكفار كانوا مقرين بالله تعالى، وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى.
تنبيه: وفي هذه الآية دليل (٢) على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به، بل كان واجبًا عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه، وفعلوا غيره من المنكرات عنادًا للحق، وبغضًا لأتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه وتعالى، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة، وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق.. وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة.. قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين، المتهاونون بالشرائع، وهم شر من الزنادقة؛ لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإِسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرًا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سد الذرائع، وقطع التطرق إلى الشبه.
وقرأ (٣) الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد:
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
517
﴿عُدُوًّا﴾ بضم العين والدال وتشديد الواو، وهو مصدر لعدا؛ لأنه يقال: عدا يعدو وعَدْوًا وعدوانًا وعُدُوًا، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ غيرهم بفتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو. ومعنى القراءتين واحد؛ أي: ظلمًا وعدوانًا. وقرأ بعض المكيين - وعينه الزمخشري، فقال: عن ابن كثير -: بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو؛ أي: أعداء، وهو منصوب على الحال المؤكدة، وعدو يخبر به عن الجمع كما قال تعالى: ﴿هُمُ العَدُوُّ﴾ ومعنى بغير علم: على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به، وهو بيان لمعنى الاعتداء.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين ﴿زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم كافرهم ومؤمنهم ﴿عَمَلَهُمْ﴾ من كفر وإيمان وشر وخير ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر، والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان: هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ﴿ثُمّ﴾ بعد موتهم ﴿إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾ بالبعث للمجازاة ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾؛ أي: يخبرهم ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الطاعات والمعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.
والخلاصة (١): أن سننا في أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه، سواء كان مما عليه أباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم، وسواء أكان ذلك عن تقليد وجهل، أم عن بينة وعلم.
ومن هذا يعلم أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه، لا أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينًا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها تزيينًا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، وإلا كان الإيمان والكفر، والخير والشر من الغرائر الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل، وإنزال الكتب لأجله، وكان عمل الرسل
(١) المراغي.
518
والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملًا لا فائدة فيه.
والخلاصة: أن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن الله جل شأنه، سواء في ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة. ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ثم إلى ربهم ومالك أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث لا إلى غيره؛ إذ لا رب سواه، فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، ويجزيهم عليه ما يستحقون، وهو تعالى بهم عليم.
١٠٩ - ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الإيمان وأشدها مبالغة، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف، وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيمًا... أقسموا بالله تعالى، والمعنى: حلفوا غاية حلفهم وأوكده ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ من الآيات الكونية مما اقترحوه كقلب الصفا ذهبًا. ﴿لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾؛ أي: بتلك الآية بأنها من عند الله تعالى، وأنك رسول من لدنه. وفي هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد؛ إذ هم لم يعدوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات، ومن ثم اقترحوا غيرها، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم في طلب المعجزات وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات.
وقرأ طلحة بن مصرف: ﴿لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ مبنيًّا للمفعول وبالنون الخفيفة.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾ والمعجزات التي من جنسها ما اقترحتموه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ وحده، فهو القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها في يشاء ويمنعها في يشاء بحكمته وقضائه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فلا يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب. روي أن قريشًا اقترحوا بعض آيات، فقال رسول الله - ﷺ -: "فإن فعلت بعض ما تقولون.. أتصدقونني"؟ فقالوا: نعم، وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن، فسأل المسلمون رسول الله - ﷺ - أن ينزلها طمعًا في إيمانهم، فهم رسول الله - ﷺ - بالدعاء، فنزلت الآية: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾؛ أي: وما يعلمكم أيها المؤمنون الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا، والنبي - ﷺ - منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته في ذلك. والاستفهام فيه إنكاري
519
بمعنى النفي، وفي الكلام حذف أيضًا؛ أي: وأي شيء يدريكم ويعلمكم أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون، والمعنى: أنه ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب، وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية.
وقرأ قوم بسكون ضمة الراء في (١): ﴿يُشْعِرْكُمْ﴾، وقرىء باختلاسها. وأما الخطاب، فقال مجاهد وابن زيد: هو للكفار. وقال الفراء وغيره: المخاطب بها المؤمنون. وقرأ أبو عمرو وابن كثير والعليمي والأعشى عن أبي بكر وعاصم في رواية داود الإيادي: أنها بكسر الهمزة. وقرأ باقي السبعة بفتحها. وقرأ ابن عامر وحمزة: ﴿لا تؤمنون﴾ بتاء الخطاب. وقرأ باقي السبعة بياء الغيبة. فيتحصل من هذا المذكور أربع قراءات:
الأولى: كسر الهمزة والياء، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر - بخلاف عنه في كسر الهمزة - وهذه قراءة واضحة، أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ألبتة على تقدير مجيء الآية، وتم الكلام عند قوله: ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾، ومتعلق ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ محذوف؛ أي: وما يشعركم ما يكون، فإن كان الخطاب للكفار.. كان التقدير: وما يشعركم ما يكون منكم، ثم أخبر على جهة الالتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات. وإن كان الخطاب للمؤمنين.. كان التقدير: وما يشعركم أيها المؤمنون ما يكون منهم، ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم.
القراءة الثانية: كسر الهمزة والتاء، وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب في هذه القراءة للكفار، كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم، ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جدًّا أن يكون الخطاب في: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ للمؤمنين، وفي: ﴿لا تؤمنون﴾ للكفار.
والقراءة الثالثة: فتح الهمزة والياء، وهي قراءة نافع والكسائي وحفص
(١) البحر المحيط.
520
فالظاهر أنَّ الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم، أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تدرون ذلك، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنون مجيئها، فقال: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى: إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون.
القراءة الرابعة: فتح الهمزة والتاء، وهي قراءة ابن عامر وحمزة، والظاهر أنه خطاب للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة ﴿لاَ﴾؛ أي: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت، كما أقسمتم عليه انتهى. من "البحر المحيط" بالتقاط واختصار.
١١٠ - وقوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ في هذه (١) الجملة وجهان:
أحدهما: أنها وما عطف عليها من قوله: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ عطف على ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ داخل في حكم ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾؛ أي: وما يشعركم أيها المؤمنون أنا نقلب أفئدتهم وقلوبهم ونحولها ونصرفها عن إدراك الحق، فلا يفهمونه ﴿و﴾ أنا نقلب ﴿أَبْصَارَهُمْ﴾ عن اجتلاء الحق ورؤيته، فلا يبصرونه، فلا يؤمنون بالآية التي اقترحوها إذا جاءت ﴿كمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ﴾ أي: كما لم يؤمنوا بما جاء به محمد - ﷺ - من الآيات ﴿أول مرة﴾؛ أي: قبل نزول مقترحهم من الآيات السابقة على اقتراحهم، كانشقاق القمر؛ أي: كما لم يؤمنوا بما قبل ذلك من الآيات التي جاء بها رسول الله - ﷺ - مثل انشقاق القمر وغير ذلك من الآيات الباهرات، وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات، وقيل: في الكلام حذف تقديره: فلا يؤمنون به ثاني مرة، كما لم يؤمنوا به أول مرة، وتقليب الأفئدة والأبصار الطبع والختم عليها. ﴿و﴾ ما يشعركم أنَّا ﴿نَذَرُهُمْ﴾ ونتركهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ وضلالهم حالة كونهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ويترددون في الطغيان متحيرين، والعمه: التردد في الأمر من الحيرة فيه، والطغيان: تجاوز
(١) الفتوحات.
521
الحد؛ أي: إنا ندعهم يتجاوزون الحد في الكفر والعصيان، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات محدثين أنفسهم: أهذا هو الحق المبين، أم السحر الذي يخدع عيون الناظرين؟ وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين، أو المكابرة والجدل كبرًا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم؟ وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكيمة في ربط المسببات بأسبابها، فرسوخهم في الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان، هو سبب تقليب القلوب والأبصار؛ أي: الختم عليها، فلا تفقه ولا تبصر.
والوجه الثاني من الوجهين: أن جملة قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. قال الصاوي: قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ استئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله سبحانه وتعالى لا غيره، فمن أراد له الهدى حوّل قلبه له، ومن أراد شقاوته حول قلبه لها انتهى. وفي الآية (١) دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها ويزيغ ما أراد منها، ومنه قوله - ﷺ -: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فمعنى قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ نزيغها عن الإيمان، ونقلب أبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة الصواب، وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنون بها، كما لم يؤمنوا بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فعلى هذا يكون الضمير في: ﴿بِهِ﴾ عائدًا على الإيمان بالقرآن، وبما جاء به رسول الله - ﷺ - قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها. قوله: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾؛ أي: ونترك هؤلاء المشركين الذين سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون في تمردهم على الله واعتدائهم عليه يترددون لا يهتدون إلى الحق.
وقرأ (٢) النخعي: ﴿ويقلب﴾ و ﴿يذرهم﴾ بالياء فيهما، والفاعل ضمير الله. وقرأ أيضًا فيما روي عنه مغير الصيغة: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ بالرفع فيهما على البناء للمفعول، ﴿ويذرهم﴾ بالياء وسكون الراء، وافقه على ﴿ويذرهم﴾
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
522
الأعمش والهمداني. وقال الزمخشري: وقرأ الأعمش: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ على البناء للمفعول.
الإعراب
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَالنَّوَى﴾: معطوف على ﴿الْحَبِّ﴾. ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ﴾: فعل ومفعول. ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿إن﴾ أو مستأنفة. ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ﴾: معطوف على ﴿يُخْرِجُ﴾ إن قلنا: إن جملته خبر ثان لـ ﴿إن﴾، ومعطوف على ﴿فَالِقُ﴾ إن قلنا: إن جملة ﴿يُخْرِجُ﴾ مستأنفة، فهي معترضة حينئذ. ﴿مِنَ الْحَيِّ﴾ متعلق بـ ﴿مُخْرِجُ﴾. ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن ذلك الصانع هو المستحق بالعبادة والألوهية، وأردتم بيان ما يستحقه حالكم من التعجب.. فأقول لكم: ﴿أنى﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تُؤْفَكُونَ﴾. ﴿تُؤْفَكُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويصح أن تكون الفاء استئنافية.
﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)﴾.
﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾: خبر رابع لـ ﴿أن﴾، ومضاف إليه. ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع معطوفة على ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ على كونها خبر لـ ﴿أن﴾. ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾: معطوفان على ﴿اللَّيْلَ﴾. ﴿حُسْبَانًا﴾: معطوف على ﴿سَكَنًا﴾، ففيه العطف على معمولي عامل
523
واحد. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿تَقْدِيرُ﴾: خبر. ﴿الْعَزِيزِ﴾: مضاف إليه ﴿الْعَلِيمِ﴾: صفة له، والجملة مستأنفة.
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾؛ لأن ﴿جَعَلَ﴾ بمعنى: خلق يتعدى لمفعول واحد. ﴿لِتَهْتَدُوا﴾: اللام: لام كي. ﴿تَهْتَدُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿بِهَا﴾: متعلق به. ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تهتدوا﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لاهتدائكم بها في ظلمات البر والبحر، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، فإن قيل: كيف يتعلق حرفا جر متحدان في اللفظ والمعنى بعامل واحد فالجواب: أن الثاني بدل من الأول بدل اشتمال بإعادة العامل. ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنافة. ﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿فَصَّلْنَا﴾، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿أنشأ﴾. ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾: الفاء: عاطفة تفصيلية. ﴿مستقر﴾: مبتدأ خبره محذوف تقديره: فمستقر كائن لكم على قراءة فتح القاف، وعلى قراءة كسرها: فمنكم مستقر، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية، أعني: جملة قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ على كونها تفصيلًا لها. ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾: مبتدأ خبره محذوف أيضًا تقديره: ومستودع لكم، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾. ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.
524
﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق به. ﴿يَفْقَهُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿مَاءً﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾: الفاء: حرف عطف وترتيب. ﴿أَخْرَجْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنَا﴾. ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾: الفاء: حرف عطف وترتيب. ﴿أخرجنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أخرجنا﴾؛ لأن العاطف هنا مرتب. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿أخرجنا﴾. ﴿خَضِرًا﴾ مفعول ﴿أخرجنا﴾. ﴿نُخْرِجُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به. ﴿حَبًّا﴾ مفعول به لـ ﴿نُخْرِجُ﴾. ﴿مُتَرَاكِبًا﴾: صفة ﴿حَبًّا﴾، وجملة ﴿نُخْرِجُ﴾ في محل النصب صفة ﴿خَضِرًا﴾، ولكنها سببية.
﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾.
﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ طَلْعِهَا﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله بدل بعض من كل. ﴿قِنْوَانٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿دَانِيَةٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو جنات، والمعطوف عليه الذي هو نبات كل شيء. ﴿وَجَنَّاتٍ﴾: معطوف على ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ منصوب بالكسرة. ﴿مِنْ أَعْنَابٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ معطوفان على ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ جريًا على القاعدة المشهورة عندهم، من أنه إذا تكررت المعطوفات، وكان العطف بالواو.. يكون على الأول، ولو كثرت المعطوفات، وإن كان العطف بمرتب.. يكون الكل معطوفًا على ما قبله كما مر قريبًا في ﴿أخرجنا﴾، كما ذكرناه في "الباكورة الجنية على متن الأجرومية" نقلًا
525
عن الحامدي. ﴿مُشْتَبِهًا﴾: حال من ﴿الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾؛ أي: حالة كونهما مشتبهًا ورقهما، وقيل: حال من ﴿الرُّمَّانَ﴾ فقط. ﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾: معطوف على مشتبهًا؛ أي: حالة كونهما غير متشابه ثمرهما.
﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿انْظُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة متسأنفة. ﴿إِلَى ثَمَرِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿انْظُرُوا﴾. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿أَثْمَرَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على كل ما ذكر من الأشجار، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿انْظُرُوا﴾، والتقدير: انظروا إلى ثمره وقت إثماره. ﴿وَيَنْعِهِ﴾: معطوف على ﴿ثَمَرِهِ﴾ مجرور بـ ﴿إِلَى﴾؛ أي: وانظروا إلى ينعه إذا أدرك.. تروا أمرًا عجيبًا دالًّا على باهر قدرته. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إن﴾. ﴿لَآيَاتٍ﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿آيَاتٍ﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر: ﴿لِقَوْمٍ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿آيات﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿لِقَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)﴾.
﴿وَجَعَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿شُرَكَاءَ﴾. ﴿شُرَكَاءَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. ﴿الْجِنَّ﴾: مفعول أول، والتقدير: وجعلوا الجن شركاء لله. ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من الجلالة على تقدير: قد. ﴿وَخَرَقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَجَعَلُوا﴾. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خرقوا﴾. ﴿بَنِينَ﴾: مفعول به. ﴿وَبَنَاتٍ﴾: معطوف عليه. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿وَخَرَقُوا﴾؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بجهالة وغير علم. ﴿سُبْحَانَهُ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: سبح نفسه بذاته تسبيحًا، ونزهه تنزيهًا من كل ما لا يليق به، والجملة
526
مستأنفة. ﴿وَتَعَالَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿سُبْحَانَهُ﴾. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تعالى﴾. ﴿يَصِفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يصفونه به.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)﴾.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وهو تعالى بديع السموات. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل النصب على التشبيه بالحال، أو بالظرف، والعامل فيه ﴿يَكُونُ﴾. ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع تام. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿وَلَدٌ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة، وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، فلا نطيل الكلام بإيرادها. ﴿وَلَمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع تام مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق به ﴿صَاحِبَةٌ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُ﴾. ﴿وَخَلَقَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿خَلَقَ﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾ ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)﴾.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾: مبتدأ وخبر أول، والجملة مستأنفة. ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر ثانٍ ﴿لَا﴾: نافية. ﴿إِلَهَ﴾ في محل النصب اسم ﴿لَا﴾، وخبر ﴿لا﴾ محذوف تقديره: موجود، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر ثالث. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾ في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لا﴾ المحذوف. ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: خبر رابع ومضاف إليه. ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾: الفاء:
527
سببية كما في "الجمل". ﴿اعْبُدُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم كونه خالق كل شيء، وأردتم بيان ما يلزمكم.. فأقول لكم: اعبدوه، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿وَكِيلٌ﴾. ﴿وَكِيلٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ كما في "الجمل".
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾.
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿اللَّطِيفُ﴾: خبر أول. ﴿الْخَبِيرُ﴾: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)﴾.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاء﴾، أو صفة لـ ﴿بَصَائِرُ﴾. ﴿فَمَن﴾: الفاء: عاطفة تفصيلة. ﴿من﴾: اسم شرط، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿أَبْصَرَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. ﴿لنفسه﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فإبصاره كائن لنفسه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾ على كونها مفصلة لها ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في
528
محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿عَمِيَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَعَلَيْهَا﴾: الفاء: رابطة الجواب. ﴿عَلَيْهَا﴾: جار ومجزور خبر مبتدأ محذوف تقديره: فعماه عليها، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿وَمَا أَنَا﴾: ﴿ما﴾: حجازية. ﴿أنَا﴾: في محل الرفع اسمها ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَفِيظٍ﴾. ﴿بِحَفِيظٍ﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية معطوفة على جملة ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾.
﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كذلك﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف منصوب بـ ﴿نُصَرِّفُ﴾. ﴿نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، والتقدير: ونصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفًا مثل تصريفنا في هذه السورة. ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ الواو: عاطفة. اللام: حرف جر وعاقبة. ﴿يقولوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. ﴿دَرَسْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول، وجملة ﴿يقولوا﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولقولهم درست، الجار والمجرور معطوف على جار ومجرور محذوف تقديره: وكذلك نصرف الآيات لاهتداء المهتدين، ولقوله الجاحدين بها في عاقبة أمرهم: درست. ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿لنبينه﴾ اللام لام كي. ﴿نبينه﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق به. وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: صفة لـ ﴿قوم﴾، وجملة ﴿نبين﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: ولتبييننا إياه لقوم يعلمون، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِيَقُولُوا﴾.
﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)﴾.
﴿اتَّبِعْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.
529
﴿مَا﴾؛ موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به ﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أوحي﴾ أيضًا، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَعْرِضْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ﴾. ﴿عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أعرض﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عدم إشراكهم، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾: نافية ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ﴾: نافٍ وفعل وفاعل ومفعول أول. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَفِيظًا﴾. ﴿حَفِيظًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿لو﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿وكيل﴾. ﴿بِوَكِيلٍ﴾: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ...﴾ إلخ مؤكدة لها؛ لأنها عينها.
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونهم: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ضمير العائد المحذوف، أو من الموصول. ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾: الفاء: عاطفة سببية. ﴿يسبوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. ﴿عَدْوًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، والتقدير: سبًّا عدوًا، أو على الحالية، أو على كونه مفعولًا لأجله. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور حال مؤكدة من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم متعادين ملتبسين بغير علم، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع
530
صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن سبكم آلهتهم، فسبهم الله عدوًا بغير علم.
﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف منصوب بـ ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿زَيَّنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿عَمَلَهُمْ﴾: مفعول ﴿زَيَّنَّا﴾ والتقدير: زينا لكل أمة من الأمم عملهم تزيينا مثل تزيينا لهؤلاء المشكرين شركهم، والجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخٍ. ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾: ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر كان، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يعملونه.
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾.
﴿وَأَقْسَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: مفعول مطلق ومضاف إليه. ﴿لَئِنْ﴾: اللام: موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿لَيُؤْمِنُنَّ﴾ اللام واقعة في جواب القسم مؤكدة للأولى. ﴿يُؤْمِنُنَّ﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿بِهَا﴾: جار ومجرور متعلق به، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم من جواب القسم تقديره: إن جاءتهم آية يؤمنون بها، وإنما جعلنا المذكور جواب القسم لسبقه على الشرط كما هو القاعدة المقررة عندهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة لا محل لها من
531
الإعراب لاعتراضها بين القسم وجوابه، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة.
﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿الْآيَاتُ﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿ما﴾ الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾. ﴿أَنَّهَا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، الهاء: اسمها. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْآيَات﴾، والجملة في محل الخفض بـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ هو من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد المفعول الثاني لـ ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾، والتقدير: وما يشعركم إيمانهم وعدم إيمانهم وقت مجيء تلك الآيات؛ أي: لا تدرون ذلك، هذا على قراءة الفتح لـ ﴿أن﴾، وأما على قراءة الكسر: فهي مستأنفة، وفي المقام أوجه من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها.
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾.
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَأَبْصَارَهُمْ﴾: معطوف على ﴿أَفْئِدَتَهُمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا يُؤمِنُون﴾ على كونها معمولة لـ ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾؛ أي: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم أو مستأنفة. ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا﴾: الكاف: حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿لَمْ﴾ حرف جزم. ﴿يُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق
532
بـ ﴿يُؤْمِنُوا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم تقليبًا مثل عدم إيمانهم به أول مرة. ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾. ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾. ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نذرهم﴾، أو متعلق بـ ﴿يعمهون﴾. وجملة ﴿يَعْمَهُونَ﴾ في محل النصب حال من مفعول ﴿نذرهم﴾ أو من ضمير ﴿طُغْيَانِهِمْ﴾، أو في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿نذر﴾؛ لأن الترك بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ يجوز أن تكون الإضافة محضة على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأن ذلك قد كان، ويدل عليه قراءة عبد الله ﴿إن الله فلق الحب والنوى﴾ فعلًا ماضيًا. ويجوز أن تكون الإضافة غير محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، وذلك على حكاية الحال، فيكون الحب مجرور اللفظ منصوب المحل، والفلق، وكذا الفرق والفتق: هو شق الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضه عن بعض. والحب: هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير. والنوى: واحدها نواة، وهي ما يكون في داخل التمر والزبيب.
﴿والإصباح﴾ - بكسر الهمزة -: مصدر أصبح الرجل إصباحًا إذا دخل في الصباح، وفي "المصباح": الصبح: الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا خلاف المساء، وأصبحنا: دخلنا في الصباح اهـ. وفي "السمين": الجمهور على كسر الهمزة، وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحًا. وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإصباح واحد، وهو أول النهار. وقيل: الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نقل ذلك عن مجاهد. والظاهر أن الإصباح في الأصل مصدر سمي به الصبح. وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر:
533
﴿الأصباح﴾ بفتح الهمزة، وهو جمع: صبح نحو: قفل وأقفال، وبرد وأبراد. اهـ.
﴿سَكَنًا﴾ السكن: السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت، وزمان كالليل، وما يسكن الإنسان ويطمئن إليه استئناسًا به من زوج أو حبيب. وفي "المصباح": والسكن: ما يسكن إليه من أهل ومال وغير ذلك، وهو مصدر سكنت إلى الشيء من باب طلب.
﴿حُسْبَانًا﴾ والحسبان - بضم الحاء -: مصدر حسب كالحسبان بالكسر، فكل من مضموم الحاء ومكسورها مصدر حسب كالحساب، فلهذا الفعل ثلاثة مصادر. وفي "المصباح": حسبت المال حسبًا من باب قتل أحصيته عددًا، وفي المصدر أيضًا حسبة بالكسر، وحسبانًا بالضم، وحسبت زيدًا قائمًا أحسبه من باب تعب في لغة جميع العرب إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس حسبانًا بالكسر بمعنى ظننت اهـ. والحساب: استعمال العدد في الأشياء والأوقات.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ والمستقر: موضع القرار والإقامة، يقال: قر في مكانه واستقر، فمن كسر القاف.. قال: المستقر بمعنى القار، ومن فتحها.. جعله مكان استقرار. وأما المستودع: فيجوز أن يكون اسمًا للإنسان استودع ذلك المكان، وذلك على قراءة الكسر، ويجوز أن يكون المكان نفسه؛ أي: المستودع فيه؛ أي: موضع الوديعة، والوديعة: هي ما يتركه المرء عند غيره ليأخذه بعد، ولكن المستودع هنا بفتح الدال لا غير، لكن على قراءة الكسر في مستقر يكون معنى مستودع شيء مودوع، وهو النطفة في الصلب. وعلى قراءة الفتح يكون معنى مستودع مكان استيداع، وهو الصلب نفسه ذكره في "الفتوحات".
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ وأصل ماء: ماه، والهاء خفية، والألف كذلك، فأبدل من الهاء همزة؛ لأن الهمزة جلدة، فأصله: موه، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها.. قلبت ألفًا، فصار: ماء، ذكره العلامة النحاس في "إعراب القرآن".
534
﴿خَضِرًا﴾: اسم فاعل من خضر من باب فعل المكسور العين، يقال: خضر الشيء فهو خضر وأخضر كعور فهو عور وأعور، فخضر وأخضر بمعنى، والخضر من النبات: الغض الناضر الطري.
﴿مُتَرَاكِبًا﴾ المتراكب: ما تراكب حبه بعضه فوق بعض.
﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ والنخل والنخيل: واحدهما نخلة، والنخل: شجر التمر، وفي "الفتوحات": النخل: اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾، وقال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ والطلع: أول ما يخرج منها قبل انشقاق الكيزان، فيقال له في هذه الحالة طلع، فإذا انشقت عنه الكيزان سمي عذقًا، وهو القنو. والقنوان: جمع تكسير، مفرده: قنو كصنو وصنوان، وهذا الجمع يلتبس بالمثنى حالة الوقف، فإذا قلت: عندي قنوان، وسكنت النون.. لا يدرى أنه مثنى أو جمع، ويمتازان بتحريك النون، فنون المثنى مكسورة دائمًا، ونون هذا الجمع تتوارد عليها الحركات الثلاث بحسب الإعراب، ويمتازان أيضًا في النسب، فإذا نسبت إلى المثنى رددته إلى المفرد، فقلت: قنوي، وإذا نسبت إلى الجمع.. أبقيته على حاله؛ لأنه جمع تكسير فقلت: قنواني، ويمتازان أيضًا في الإضافة، فنون المثنى تسقط لها بخلاف نون الجمع التكسير، فتقول في المثنى: هذان قنواك، وفي الجمع: هذه قنوانك، ويقال مثل هذا في صنوان مثنى وجمعًا.
﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ وقال الزجاج: قرن الزيتون بالرمان؛ لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر:
بُوْرِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيْبُ كَمَا بُوْ رِكَ نَضْجُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُوْنْ
﴿وَيَنْعِهِ﴾ والينع: مصدر ينع بكسر النون يينع بفتحها، فهي مكسورة في الماضي مفتوحة في المضارع، ويصح العكس، والمصدر على كل حال: ينع بوزن منع، والينع بالفتح والضم مصدر ينعت الثمرة إذا نضجت، والفتح لغة أهل الحجاز، والضم لغة أهل نجد، ويقال؛ والمعنى؛ انظروا إلى ثمره إذا أثمر رقيقًا مستدقًا، وإلى ينعه ونضجه حين يينع ويبدو صلاحه وينضج.. وفي "المختار":
535
ينع الثمر إذا نضج، وبابه ضرب وجلس وقطع وخضع انتهى.
﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾ يقال: خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها إذا ابتدعها كذبًا. وقال الراغب الخرق: قطع الشيء على سبيل الفساد، قال تعالى: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ والخلق فعل الشيء بتدبير ورفق، والبدع بكسر أوله والبديع: الشيء الذي يكون أولًا، ومنه: البدعة في الدين. وقال الراغب: الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء، والبديع من أسمائه تعالى.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ البصائر: جمع بصيرة، ولها عدة معان: منها: عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة باليقين، والعبرة، والشاهد المثبت للأمر، والحجة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، والمراد بها هذا: الآيات الواردة في هذه السورة، أو القرآن بجملته. وفي "القاموس": البصر محركًا: حس العين، والجمع أبصار مثل سبب وأسباب، ومن القلب: نظره وخاطره، والبصير: المبصر - والجمع بصراء - والعالم، وبالهاء: عقيدة القلب والفطنة والحجة اهـ.
﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: نأتي بها متواترة حالًا بعد حال مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه.
﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ يقال: درس الشيء يدرس أو باب نصر إذا عفا وزال، فهو دارس ودرسته الريح وغيرها، ودرس اللابس الثوب درسًا إذا أخلقه وأبلاه، فهو دريس، ودرسوا القمح إذا داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه، ودرس الناقة إذا راضها، ودرس الكتاب والعلم يدرسه درسًا ودراسة ومدارسة؛ أي: ذلله بكثرة القراءة حتى خف وسهل عليه حفظه أو ذلك، والمعنى العام للدرس: تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به، أو يصل إلى الغاية منه.
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: حلفوا، وسُمي الحلف قسمًا؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب، والجهد بفتح الجيم: المشقة، وبضمها؛ الطاقة، ومنهم أو يجعلهما بمعنى واحد، وانتصب ﴿جهد﴾ على النيابة عن المصدر المنصوب. بـ ﴿أقسموا﴾، أي: أقسموا جهد إقساماتهم، والأيمان
536
بمعنى: الإقسامات كما تقول: ضربت مسند الضربات.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ وفي "المصباح": عمه في طغيانه عمهًا من باب تعب إذا تردد متحيرًا مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه وأعمه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ﴾، وفي قوله: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾، وفي قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾، وفي قوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ الغيبة إلى التكلم، وكان قياس ما قبله: فأخرج به، والنكتة في هذا الالتفات الاعتناء بشأن المخرج، والإشارة إلى أن نعمه عظيمة.
ومنها: الطباق بين لفظ ﴿الْحَيِّ﴾ و ﴿الْمَيِّتِ﴾، وبين: ﴿الشمس﴾ و ﴿القمر﴾، وبين: ﴿الْبَرِّ﴾ و ﴿البحر﴾، وبين لفظ: ﴿أَبْصَرَ﴾ و ﴿عَمي﴾.
ومنها: من المحسنات البديعية ما يسمى: رد العجر على الصدر في قوله: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي بمعنى النفي في قوله: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ لمزيد الشرف؛ لأنهما من أعظم النعم.
ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ ﴿يُخْرِجُ﴾ و ﴿مخرج﴾، وبين لفظ: ﴿بَصَائِرُ﴾ و ﴿أَبْصَرَ﴾.
537
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من باب الإطلاق اسم السبب على المسبب؛ أي: حجج وبراهين؛ لأن البصائر جمع بصيرة، والبصيرة: هي النور الذي تبصر به النفس؛ أي: الروح، كما أو البصر هو النور الذي تبصر به العين، فأطلق البصائر التي هي الأنوار القلبية التي هي السبب في إدراك الحجج والبراهين على تلك الحجج التي تسبب عنها، والعلاقة السببية.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾؛ أي: لا تدركه الأبصار: لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار، لأنه الخبير، فيكون اللطيف مستعارًا أو مقابل الكشيف، وهو الذي لا يدرك بالحاسة، ولا ينطبع فيها. انتهى من "البيضاوي".
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ومن عَمي﴾؛ لأنه استعار العمى للضلال، وإنما عبر عن الضلال بالعمى تقبيحًا له وتنفيرًا عنه.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى من تفسير الجزء السابع من القرآن الكريم، فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تيسيره حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين، ويملأ ما في السموات والأرضين عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد الثامن في اليوم الخامس منتصف النهار من شهر الله المبارك ذي الحجة من شهور سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية بحارة الرشدة من المسفلة من مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، وختم عمرنا فيها، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، سيدنا محمَّد وآله وصحبه وجنده، والحمد لله رب العالمين آمين. =
538
ولقد أجاد من قال:
وَلِبَنِيْ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ مَعْذِرَةٌ مَقْبُوْلَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ
وَإنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ
أَلْحَمْدُ لِلَّهِ مُسَبِّبِ الأسْبَابِ عَلَى مَا وَفَّقَنَا بِشَرْحِ الْكِتَابِ
شَرْحًا يُسَمَّى حَدَائِقَ الرَّوْحَانِ مُشْتَمِلًا عَلَى عُلُوْمِ الْقُرْآنِ
= تم تصحيح هذه النسخة من هذا المجلد الثامن بيد مؤلفه في آخر الساعة الأولى من يوم الإثنين اليوم الخامس عشر من شهر الربيع الثاني من شهور سنة ألف وأربع مئة وعشرة ١٤١٠ هـ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.
تم بعون الله سبحانه وتعالى المجلد الثامن من تفسير "حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن"، ويليه المجلد التاسع، وأوله قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ آية رقم: ١١١ من آيات سورة الأنعام.
539
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد التاسع»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٩]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
جَزَى الله خَيْرًا مَن تَأَمَّلَ صَنْعَتِي وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضلِهِ وَفِطْنَتِهِ أَستَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ
وَلبَنِيْ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ مَعْذِرَةٌ مَقبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ
آخرُ
5

[استهلال:]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على إفضاله والشكر له على نواله والصلاة والسلام على نبينه محمد ﷺ وآله.
أما بعد: فإني لما فرغت من شرح الجزء السابع من القرآن الكريم بتوفيقه وتيسيره.. أردت أن أشرع في شرح الجزء الثامن منه بعون الله وفضله، فقلت مستمدا منه تعالى:
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما
7
قبلها: أن الله - سبحانه وتعالى - لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث، واقتراح المشركين بعض الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.. ذكر هنا أن رؤية المعجزات لن تفيد من عميت بصيرته، وأنه لو أتاهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى يكلموهم، وحشر السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول.. ما آمنوا بمحمد ﷺ وبالقرآن؛ لتعرقهم وتأصلهم في الضلال.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بين في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنّا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله: ﴿وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فأفاد أن سننه فيهم وفي أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود وحملوها على أنها؛ إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين.. ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك، وفصل الإجمال الماضي في قوله: ﴿وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فأيأس النبي ﷺ من إيمانهم ولو جاءهم بكل آية وأتى لهم بكل دليل. انتهت.
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٢) في سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم كاذبون في أيمانهم، وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وأن دأبهم صرف الناس عن اتباع الحق، وتزيين الباطل فيغتر من لا يؤمن بالآخرة، ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.. ذكر هنا الآية الكبرى؛ وهي القرآن الكريم، فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه ﷺ من جميع ما اقترحوه، وهو الذي يجب الرجوع إليه في أمر الرسالة واتباع حكمه فيها دون
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
8
أولئك الضالين المبطلين من شياطين الإنس والجن.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أجاب عن شبهات الكفار، وبين بالدليل صحة نبوة محمد ﷺ.. ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال؛ لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله، فلا ينبغي الركون إليهم والعمل بآرائهم.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة محمد ﷺ كانوا ضلّالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم، ثم أردف ذلك ببيان مسألة هامة لها خطر، وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تضمنت (٢) الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وكانوا يسمون في كثير مما يذبحونه اسم آلهتهم.. أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله تعالى لا غيره من آلهتهم أمر إباحة، وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لا ما مات حتف أنفه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (٣) أنه قال: المستهزؤون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، ثم
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح وزاد المسير.
9
إنهم أتوا رسول الله ﷺ في رهط من أهل مكة، وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا؛ أي: كفيلا على صحة ما تدعيه، فنزلت هذه الآية، وقال ابن الجوزي: رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١):
أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى؛ ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية. ذكره الماوردي.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء.
قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): أن الله تعالى لما حرم الميتة قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم - يريدون الميتة - فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال السيوطي: قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٣): ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾.
وأخرج (٤) أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ﴾ قالوا: ما ذبح الله لا
(١) زاد المسير.
(٢) زاد المسير.
(٣) لباب النقول.
(٤) لباب النقول.
10
تأكلون وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ..﴾ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقولوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب؛ يعني الميتة، فهو حرام؟! فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ﴾ قال:
الشياطين من فارس، وأولياؤهم قريش.
التفسير وأوجه القراءة
١١١ - ﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ﴾؛ أي: أنزلنا على هؤلاء المشركين الْمَلائِكَةَ كما طلبوا في قولهم: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة، وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى﴾ من القبور كما طلبوا في قولهم: ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا﴾ بأن نحييهم لهم، ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة بأن أقروا بأن محمدا رسول الله، والقرآن كلام الله تعالى.
﴿وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي وجمعنا على هؤلاء المستهزئين زيادة على ما اقترحوه ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ من أصناف المخلوقات كالسباع والطيور حالة كونهم ﴿قُبُلًا﴾؛ أي: كفلا بصدق محمد ﷺ مقرين له، أو المعنى: وجمعنا عليهم كلّ شيء من المخلوقات قبلا؛ أي: فوجا فوجا، وجماعة جماعة، وصنفا صنفا، أو المعنى: وحشرنا عليهم قبلا؛ أي: مقابلة ومعاينة ﴿ما كانُوا﴾؛ أي: ما كان هؤلاء المشركون ﴿لِيُؤْمِنُوا﴾ بمحمد ﷺ وبالقرآن ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ إيمانهم؛ أي: ولو أظهر الله سبحانه وتعالى جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار، فإنهم لا يؤمنون في حال من الأحوال الداعية إلى الايمان إلا في حال مشيئة الله تعالى لإيمانهم ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر المؤمنين ﴿يَجْهَلُونَ﴾ عدم إيمانهم؛ أي: أن الكفار لو أوتوا بكل آية.. لم يؤمنوا، ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات؛ لجهلهم عدم مشيئة الله تعالى لإيمانهم، فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون؛ ولذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحوا الآيات ما اقترحوا ظنا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان، ولا تغير
11
طباع البشر في اختيار ما يترجح لدى كل منهم بحسب ما يؤدي إليه فكره وعقله، ولو شاء الله لخلق الايمان في قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار، وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل، كما أنه لو شاء جعل الآيات مغيرة لطبائع البشر، وملزمة لهم أن يؤمنوا، فيكون الإيمان إلجاء وقسرا لا اختيارا وكسبا، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
وقيل: الضمير في ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ عائد على الكفار، والمعنى: ولكن أكثر الكفار يجهلون (١) جهلا يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب، أو يجهلون (٢) أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة، أو يجهلون أن كلا من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره. وقال الزمخشري: يجهلون، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات.
وقرأ نافع وابن عامر (٣): ﴿قُبُلًا﴾ - بكسر القاف وفتح الباء - ومعناه: مقابلة؛ أي: عيانا ومشاهدة. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد ونصبه على الحال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: ﴿قُبُلًا﴾ - بضم القاف والباء - فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد: جمع قبيل، وهو النوع؛ أي: نوعا نوعا، وصنفا صنفا. وقال الفراء والزجاج: جمع قبيل بمعنى كفيل؛ أي: كفلا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد. وقيل: قبلا بمعنى قبلا؛ أي: مقابلة ومواجهة، ومنه قولهم: أتيتك قبلا لا دبرا؛ أي: من قبل وجهك. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة: ﴿قُبُلًا﴾ - بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم -. وقرأ أبي والأعمش ﴿قبيلا﴾ - بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها - وانتصابه في هذه القراءة على الحال. وقرأ ابن مصرف بفتح القاف وسكون الباء.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
12
١١٢ - ثم أراد الله سبحانه وتعالى بعد ما تقدم تسلية نبيه ﷺ ببيان أن سنته في الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس، فقال: وَ ﴿كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾ استئناف مسوق لتسلية النبي ﷺ على ما يشاهده من عدواة قريش وما بنوه عليها من الأقاويل الباطلة ببيان أن ذلك ليس مختصا بك، بل هو أمر ابتلي به كل من سبقك من الأنبياء فصبروا، ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده. ذكره أبو السعود؛ أي: وكما جعلنا هؤلاء المستهزئين ومن نحا نحوهم أعداء لك.. جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوا قبلك ﴿عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾؛ أي: أعداءهم شياطين الإنس والجن ومردتهم، والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء.. ابتلينا من قبلك بالأعداء من الإنس والجن؛ ليعظم الأجر والثواب عند الصبر على الأذى، فلك أسوة بهم ولست منفردا بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء.
وقال الزجاج: عدوا بمعنى (١): أعداء. قال تعالى: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾، وقال الشاعر:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحًا لأجْلِ كَوْنِ فَهْمهِ قَبِيْحَا
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ صَافِيْ الْعَسَلْ وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ شَوْيَّ البَصَلْ
لأَجْلِ مَرَضِهِ الْعُضَالِ قَدْ أَعْيَا الأَطِبَّةَ الْفُضَّالِ
مِنْ حَسَدٍ وَكِبْرٍ وَعُجْبِ وِغِلَّ وَحِقدٍ أيَّ ذنْبِ
إذا أنا لم أنفع صديقي بودّه فإنّ عدوّي لم يضرّهم بغضي
و ﴿شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ منصوب (٢) على البدل من ﴿عَدُوًّا﴾ ومفسر له، ويجوز أن يكون: عَدُوًّا منصوبا على أنه مفعول ثان قدم مسارعة إلى بيان العداوة، والمعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لكل نبي. وفي: ﴿شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم مردة الإنس والجن. قاله الحسن وقتادة.
والثاني: أن شياطين الإنس الذين مع الإنس، وشياطين الجن الذين مع الجن. قاله عكرمة والسدي.
والثالث: أن شياطين الإنس والجن كفارهم. قاله مجاهد وذكره ابن
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
13
الجوزي في «تفسيره». وقرأ الأعمش شاذا (١): ﴿الجن والإنس﴾ بتقديم الجن.
ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء (٢): أن سنة الله قد جرت بأن يكون الشرير الذي لا ينقاد للحق كبرا وعنادا، أو جمودا على ما تعود، عدوا للداعي إليه من الأنبياء وورثتهم وناشري دعوتهم، وهكذا الحال في كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر في الأمور الدينية أو الاجتماعية، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد، وتكون العاقبة انتصار الحق، وبقاء الأمثل الأصلح، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدون، وليس العمل للآخرة إلا كذلك ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)﴾.
ثم بين الله سبحانه وتعالى بعدئذ أن من أثر عداوة هؤلاء الشياطين للأنبياء مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها، فقال: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾؛ أي: حالة كون تلك الشياطين يوحي بعضهم؛ أي: يلقي بعضهم ويسر ويناجي إلى بعض آخر، ويعلمه؛ أي: يلقي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول؛ أي: مزخرفه ومزينه ومحسنه ظاهرا مع بطلان باطنه غرورا؛ أي: ليغروا ويفتنوا بذلك المزخرف المؤمنين والصالحين عن دينهم وعبادتهم وطاعتهم أمر ربهم، يعني (٣): أن الشياطين يغرون بذلك الكذب المزخرف غرورا، وذلك أنّ الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم، ويغرونهم بها غرورا. قال مقاتل (٤): وكّلّ إبليس بالإنس شياطين يضلونهم، فإذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن.. قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه ذهب إلى متمرد من الإنس، هو شيطان الإنس،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
(٤) زاد المسير.
14
فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن؛ لأني إذا تعوذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عيانا، ذكره ابن الجوزي. وقال ابن عباس: الجن هم أولاد الجان، وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس، وهم لا يموتون إلا مع إبليس، والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال: الكهنة هم شياطين الإنس انتهى من «الشوكاني». ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ﴾ يا محمد إيمانهم، أو عدم تزيين الشياطين زخرف القول ﴿ما فَعَلُوهُ﴾؛ أي: ما فعل الكفار معاداتك ومعاداة الأنبياء قبلك، أو ما فعل الشياطين إيحاء زخرف القول غرورا. وقال أبو حيان (١)؛ أي: ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها انتهى.
﴿فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾ عليك وعلى الله، فإن الله تعالى يجزيهم وينصرك ويخزيهم و ﴿ما﴾: إما مصدرية، والتقدير: اتركهم وافتراءهم عليك وعلى الله وإما موصولة؛ أي: اتركهم والذي يفترونه، يعني (٢): فخلهم يا محمد وما زين لهم إبليس وغرهم به من الكفر والمعاصي، فإني من ورائهم. وعبارة المراح: أي اترك يا محمد هؤلاء الكفرة المستهزئين وافتراءهم بأنواع المكايد، فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة. قال ابن الجوزي؛ أي (٣): فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف، انتهى. وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١)﴾.
وعبارة «المراغي» هنا: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾؛ أي (٤): يلقي بعضهم إلى بعض القول المموه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغروا غيرهم ويخدعوه، ويميلوه إلى ما يريدون. وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للإنسان
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) زاد المسير.
(٤) المراغي.
15
الأول وزوجه الكريم - آدم وحواء - فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها كما قال: ﴿وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي، فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية، ويمنونهم بعفو الله ورحمته، وشفاعة أنبيائه وأوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله:
تكثّر ما استطعت من الخطايا فإنك واجد ربا غفورا
﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ﴾؛ أي: ولو شاء ربك أن لا يفعلوا هذا الغرور.. ما فعلوا، ولكنه لم يشأ أن يغير خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم، بل شاء أن يكون الإنس والجن على استعداد لقبول الحق والباطل والخير والشر، وأن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال: ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾.
﴿فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾ من الكذب ويخترعون من الإفك صرفا للناس عن سبيل الحق، وسعيا في إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد، وامض لشأنك كما أمرت، فعليك البلاغ وعلينا الحساب والجزاء، وسترى سنتنا فيهم وفي أمثالهم، وقد أراه عاقبة أمرهم، فأهلك المستهزئين بالقرآن، ونصره على أعدائه المشركين: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ انتهت.
١١٣ - واللام في قوله: ﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ لام كي معطوفة على مقدر معلوم من السياق على كونها علة ليوحي؛ أي: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموه من القول؛ ليغروا به المؤمنين من أتباع الأنبياء، فيفتنوهم عن دينهم ﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ﴾؛ أي: ولكي تميل إلى هذا المزخرف ﴿أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: قلوب الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؛ لأنه الموافق لأهوائهم؛ إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، فيعلمون بطلانها، فلا تغرهم تلك الزخارف، ولا تعجبهم تلك الأباطيل.
﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾؛ أي: وليرضى الذين لا يؤمنون بالآخرة ذلك المزخرف لأنفسهم ويحبوه لهم بعد الإصغاء إليه بلا بحث ولا تمحيص فيه. ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾؛ أي:
وليكتسبوا بسبب ارتضائهم له وغرورهم ﴿ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾؛ أي: ما هم مكتسبون له من الآثام، فيعاقبوا عليها.
وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله (١): ﴿ولتصغي﴾ - بكسر الغين - من أصغى الرباعي. وقرأ الحسن بسكون اللام في الأفعال الثلاثة، وقيل عنه بالسكون في: ﴿لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ وبالكسر في: ﴿وَلِتَصْغى﴾. وقال أبو عمرو الداني: قراءة الحسن إنما هي: ﴿ولتصغي﴾ - بكسر الغين - انتهى. وخرّج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي، وهي لام كي في الثلاثة، وهي معطوفة على ﴿غُرُورًا﴾، وسكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس. قاله أبو الفتح. وقال غيره: هي لام الأمر في الثلاثة، ويبعد ذلك في ﴿ولتصغي﴾ - بإثبات الياء - وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام كما في قراءة قنبل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾ على أنه يحتمل التأويل. وقيل هي في ﴿وَلِتَصْغى﴾ لام كي سكنت شذوذا، وفي: ﴿لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ لام الأمر مضمنا التهديد والوعيد كقوله: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾.
١١٤ - والاستفهام في قوله: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ للإنكار، والفاء عاطفة على فعل مقدر، والكلام على إرادة القول، والتقدر: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أأضل وأميل إلى زخارف الشياطين فـ ﴿أَبْتَغِي﴾ وأطلب ﴿حَكَمًا﴾؛ أي: حاكما ﴿غير الله﴾ يحكم بيني وبينكم ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون حالة كون ذلك الكتاب ﴿مُفَصَّلًا﴾؛ أي: مبينا فيه الحق والباطل، فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم؛ أي: لا أبتغي حكما غير الله نزلت حين قال مشركوا قريش للرسول صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، والحكم (٢) والحاكم معناهما عند أهل اللغة واحد، لكن بعض
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
17
أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم؛ لأن الحكم لا يحكم إلا بالحق، والحاكم قد يجور، ولأن الحكم من تكرر منه الحكم، والحاكم يصدق بمرة.
والمعنى: ليس (١) لي أن أتعدى حكم الله تعالى، ولا أن أتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل من حكمه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم.. هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند الله لا من عنده، كما جاء في قوله: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: جاوزت الأربعين، ولم يصدر عني مثله في علومه، ولا في إخباره الغيب، ولا في فصاحته وبلاغته.
والخلاصة:
أنكم تتحكمون في طلب المعجزات؛ لأن الدليل على نبوة محمد ﷺ قد حصل بوجهين:
١ - أنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة بأسلوب عجز الخلق عن معارضته، فيكون هذا دليلا على أن الله تعالى قد حكم بنبوته.
٢ - ما سيذكره بعد من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه ﷺ حق، وأن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى، ثم ذكر ما يؤكد ما سبق، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾؛ أي: وأهل الكتاب الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل والزبور ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾؛ أي: أن هذا القرآن ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ حالة كونه متلبسا ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق الذي لا شك فيه ولا شبهة، والمراد بهم علماء أهل الكتاب، فهو عام بمعنى الخصوص.
قرأ ابن عباس وابن عامر وحفص (٢): ﴿مُنَزَّلٌ﴾ - بتشديد الزاي - والباقون بسكون النون. ﴿فَلا تَكُونَنَّ﴾ يا محمد، أو أيها المخاطب ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾؛ أي: من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق، وأنه منزل من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
18
عند الله - سبحانه وتعالى، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم؛ أي: إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا، وكذبوا به.. فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى.. يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحي الذي نزل على أنبيائهم، وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله مع أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم في عصر التنزيل، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب، فآمنوا وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا، فباء بالخسران المبين.
والخطاب في قوله (١): ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ إما للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره على سبيل التعريض كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإما له صلى الله عليه وسلم، والمراد النهي له عن الشك في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فهو من باب التهييج والإلهاب؛ لأنه ﷺ لم يشك قط، أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ﴾.
١١٥ - ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ لما (٢) قدم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث، والطعن على مخالفي ذلك، وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص.. ناسب ذكر هذه الآيات هنا؛ أي: تمت أقضيته ونفذت أقداره. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى:
إن الله قد أتم وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل. وقال قتادة: كلماته القرآن؛ أي: تم وعده لأوليائه بنصرهم، ووعيده لأعدائه بخذلانهم. وقال الزمخشري: في كل ما أخبره به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع (٣): ﴿كلمات﴾ بالجمع هنا، وفي يونس في الموضعين، وفي المؤمن. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب:
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
19
﴿كَلِمَةُ﴾ بالإفراد في جميع ذلك. وقد ذكرت العرب الكلمة وأرادت بها الكثرة، يقولون: قال قس في كلمته؛ أي: في خطبته، وزهير في كلمته؛ أي: في قصيدته. فمن قرأ بالإفراد.. قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة، ومن قرأ بالجمع.. قال: لأن الله تعالى قال في سياق الآية: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾، فوجب الجمع في اللفظ الأول إتباعا للثاني، وترسم بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع وقراءة الإفراد، وكذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا وإفرادا، فإنه يكتب بالتاء المجرورة على كل من القراءتين باتفاق المصاحف إلا موضعين من ذلك، فقد اختلف فيهما المصاحف:
أحدهما: في يونس في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾.
وثانيهما: في غافر في قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فاختلفت فيهما المصاحف، فبعضها بالتاء المجرورة، وبعضها بالتاء المربوطة.
وقوله: ﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ تمييز لـ ﴿كَلِمَةُ﴾؛ أي: تمت كلمات ربك وأقضيته من جهة الصدق فيما وعد وأوعد، ومن جهة العدل فيما أمر ونهى، أو المعنى: تمت كلمات ربك وقرآنه من جهة الصدق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية، وعما هو كائن إلى قيام الساعة، ومن جهة العدل في أحكامه من الأمر والنهي والحلال والحرام، وسائر الأحكام. ويصح كون ﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ حالا من (الكلمة)؛ أي: حالة كونها صادقة فيما أخبرت، وعادلة فيما أمرت ونهت، ويصح كونهما حالا من ﴿رَبِّكَ﴾؛ أي: حالة كونه صادقا فيما وعد وأوعد، وعادلا فيما أمر ونهى. ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾؛ أي: لا مغير لأقضيته، ولا راد لأحكامه وأقداره، ولا خلف لمواعيده، أو لا مبدل لكلمات القرآن، فلا يلحقها تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ؛ أي: لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق منه وأعدل، ولا بما هو مثله، ولا يقدر المفترون على الزيادة فيه والنقصان منه لا في اللفظ ولا في المعنى، وفي هذا ضمان من الله تعالى لحفظ القرآن كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾. وفي «الخازن» لما وصفها بالتمام، وهو في
20
كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص والتغيير، قال: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ انتهى.
وفي حرف أبي: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ﴾.
ومعنى الآية: وتمت (١) كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك، كما تمت في الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)﴾ وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا، وقد يزادون على ذلك فضلا من الله ورحمة، والمراد بالخبر لازمه، وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي ﷺ على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه، وإيئاس للطامعين من المسلمين في إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.
وخلاصة المعنى: كما أنّ سنتي قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن.. تمت كلمتي بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾؛ أي: إن كلمة الله في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها؛ لأن كلمات الله لا مبدل لها، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها، وتمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا، أو الوعيد وعدا، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو المتوعّد بالعقاب إلى غيرهما، أو يحول دون وقوعهما.
والخلاصة: أنه لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيؤه، وكونه على ما أخبر جلّ شأنه ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿السَّمِيعُ﴾ لتلك الأقوال الخادعة عنه ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلوبهم من المقاصد والمكايد، والنيات، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات، فيجازيهم عليها، أو المعنى: السميع لتضرع أوليائه ولقول أعدائه، العليم بما في قلوب الفريقين.
١١٦ - ﴿وَإِنْ تُطِعْ﴾؛ أي: وإن توافق يا محمد ﴿أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
الكفار من الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل، وإبطال الحق. قيل: والمراد بأكثر أهل الأرض رؤساء مكة، والمراد بالأرض خصوص مكة. ﴿يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: يصرفوك عن الطريق الموصول إلى الله؛ أي: وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله وأودعه في كلماته المنزلة عليك يضلوك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة، ثم أكد ما سبق بقوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾؛ أي: ما يتبع كفار أهل الأرض في إثبات مذهبهم، وتأسيس عقائدهم كتحليل الميتة وتحريم السائبة ﴿إِلَّا الظَّنَّ﴾؛ أي: إلا ظن أن آباءهم كانوا على الحق، فهم على آثارهم مقتدون ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾؛ أي: وما هم إلا يكذبون، وهذا تأكيد لما قبله، فإن رؤساء أهل مكة منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وجليس بن ورقاء الخزاعي قالوا للمؤمنين: إن ما ذبح الله خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم؛ أي: أن هؤلاء لا يتبعون في عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم وما هم إلا يخرصون في ترجيح بعض منها على بعض كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبون إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونحو ذلك، وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي في الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، واتباعهم للخرص والظن، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.
١١٧ - وهذا من علم الغيب الذي أوتيه هذا النبي الأمي، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النزر اليسير من شؤون الأمم المجاورة لبلاد العرب، ثم أعقبه تأكيدا آخر زيادة في التحذير فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ الذي رباك يا محمد، وعلمك بما أنزله إليك، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق ﴿هُوَ أَعْلَمُ﴾ منك ومن سائر عباده ﴿مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾؛ أي: بمن يضل عن سبيله القويم
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ السالكين صراطه المستقيم، ففوض أمرهم إلى خالقهم، فهو العليم بالضال والمهتدي، ويجازي كلا بما يليق بعمله.
وقرأ الحسن وأحمد بن أبي شريح: ﴿يضل﴾ - بضم الياء - وفاعل ﴿يضل﴾ ضمير ﴿مَنْ﴾، ومفعوله محذوف؛ أي: من يضل الناس، أو ضمير الله على معنى يجده ضالا، أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد؛ لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما. ذكره أبو حيان في «البحر».
١١٨ - وبعد أن أبان لرسوله ﷺ أن أكثر أهل الأرض يضلون من أطاعهم؛ لأنهم ضالون خراصون، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين.. أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين من قومهم، ومن غيرهم في مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام، فقال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ وهذا كلام متفرع من النهي عن اتباع المضلين، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم، فقال الله للمسلمين:
﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾؛ أي: إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وهو المذكى ببسم الله خاصة، دون غيره مما ذكر عليه اسم غيره فقط، أو مع اسمه تعالى، أو مات حتف أنفه ﴿إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ﴾ التي جاءتكم بالهدى والعلم ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.

فصل


وقد كان مشركوا العرب وغيرهم من أرباب الملل يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم عند ذبحها، وهذا شرك بالله؛ لأنه عبادة يقصد بها غيره تعالى سواء سموه إلها أو معبودا، أو لم يسموه.
١١٩ - ﴿وَما لَكُمْ﴾؛ أي: وأي سبب حاصل لكم أيها المؤمنين في: ﴿أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ عند الذبح وأن تأكلوا من غيره؛ أي: وأي غرض لكم في
23
الامتناع من أكله؟ وهو استفهام يتضمن الإنكار على من امتنع من ذلك؛ أي: لا شيء يمنعكم من ذلك، وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره؛ أي: ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك؟ ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى قد بين لكم ما حرم عليكم بقوله سبحانه وتعالى في هذه السورة فيما سيأتي: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ ومعنى ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾؛ أي: ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم. فهذا وإن كان متأخرا في التلاوة، فلا يمتنع أن يكون هو المراد؛ لأن التأخر في هذا قليل، وأيضا التأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول.
أو بين لكم بقوله تعالى في أول سورة المائدة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية؛ لأن الله تعالى علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول. ﴿إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلا ما دعتكم الضرورة والمشقة وأحوجتكم إلى أكله بسبب شدة المجاعة مما حرم عليكم عند الاختيار؛ فهو حلال لكم لأجل الضرورة بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم، فحينئذ يزول التحريم، والقاعدة الشرعية: (الضرورات تبيح المحظورات)، والقاعدة الأخرى: (الضرورة تقدر بقدرها) فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة، ويتقي به الهلاك لا أكثر منه.
وقرأ العربيان (١) - أبو عمرو وابن عامر - وابن كثير: ببناء ﴿فصل﴾ و ﴿حرم﴾ للمفعول مع التشديد. وقرأ نافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الفعل الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وقرأ عطية العوفي: ﴿فصل﴾ - بالتخفيف مع البناء للفاعل -؛ أي: أبان وأظهر.
(١) المراح والشوكاني.
24
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا﴾ من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم: أتأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما يذبحه الله تعالى؟ ﴿لَيُضِلُّونَ﴾ أنفسهم وأتباعهم ﴿بِأَهْوائِهِمْ﴾ الزائفة وشهواتهم الفاسدة جهلا ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان على ما فيه، يجادلون اعتداء وخلافا لأمر الله تعالى ونهيه، وطاعة للشياطين كعمرو بن لحي فمن دونه؛ لأنه أول من بحر البحائر، وسيب السوائب، وأباح الميتة، وغيّر دين إبراهيم - عليه السلام -.
تتمة:
وأصل (١) عبادة الأوثان أنه كان في القوم الذين أرسل إليهم نوح - عليه السلام - رجال صالحون، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها، لكنهم حفظوا تكريمها والتبرك بها تدينا وتوسلا إلى الله، فكان ذلك عبادة لها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (٢): ﴿لَيُضِلُّونَ﴾ - بفتح الياء هنا - وفي يونس: ﴿رَبَّنا لِيُضِلُّوا﴾ وفي إبراهيم: ﴿أَنْدادًا لِيُضِلُّوا﴾، وفي الحج: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ﴾، وفي لقمان: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وفي الزمر: ﴿أَنْدادًا لِيُضِلَّ﴾ وضمها الكوفوين في الستة، ووافقهم الصاحبان نافع وابن عامر إلا في يونس وهنا ففتح.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد الذي أرشدك وهداك ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ منك ومن سائر خلقه ﴿بِالْمُعْتَدِينَ﴾؛ أي: بالمجاوزين الحد في التحليل والتحريم الذين يتجاوزون ما أحله الله إلى ما حرمه عليهم، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها، وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى. وفي الآية إيماء إلى تحريم القول في الدين بالتقليد؛ لأن ذلك من اتباع الأهواء بغير علم؛ إذ المقلد غير عالم بما قلد فيه.
١٢٠ - ثم أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
25
فقال: ﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ﴾؛ أي: واتركوا أيها الناس ظاهر الإثم وعلنه، وباطن الإثم وسره خوفا من عقاب الله تعالى وامتثالا لنهيه. والإثم لغة: ما قبح، وشرعا: ما حرمه الله تعالى ومنعه، والله سبحانه وتعالى لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد، في أنفسهم أو في أموالهم أو في عقولهم أو في أعراضهم أو في دينهم، أو ضارا بالجماعات في مصالحهم السياسية أو الاجتماعية، والظاهر من الإثم ما كان يظهر؛ وهو ما تعلق بأفعال الجوارح، والباطن ما كان لا يظهر؛ وهو ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والعجب، وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس، ومنه الاعتداء في أكل المحرم الذي يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله - سبحانه وتعالى -: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وهذه (١) الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة في تحريم الآثام، ومن ثم قال ابن الأنباري: المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا، تريد ما أخذت منه شيئا بوجه من الوجوه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ﴾ في الدنيا، أي: يعملون نوعا من أنواع الآثام الظاهرة أو الباطنة ﴿سَيُجْزَوْنَ﴾ في الآخرة ﴿بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾؛ أي: بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام إن لم يتوبوا، وأراد الله عقابهم، وهذا مخصوص بما إذا لم يتب كما قيدنا. أما إذا تاب المذنب من ذنبه توبة صحيحة لم يعاقب. وزاد (٢) أهل السنة في ذلك، فقالوا: المذنب إذا لم يتب.. فهو في خطر مشيئة الله تعالى إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، وبالجملة فلا يخفى ما في الآية من الوعيد والتهديد للعصاة، أي سيلقون جزاء إثمهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة، أما الذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.. فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم في قلوبهم بما
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
26
يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ وبذلك تعود نفوسهم زكية، وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لماما. واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة؛ أي: أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على ما فات تمحو آثار الذنب الماضي، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب، كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾
.
١٢١ - ثم صرح سبحانه وتعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق بقوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ لشدة العناية؛ لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال: ﴿وَلا تَأْكُلُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾؛ أي: مما مات حتف أنفه، ولا مما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾؛ أي: وإن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه بغير ضرورة لفسق وخروج عما يحل، أو إن ما ذكر عليه اسم غير الله لفسق ومعصية كما جاء في الآية الأخرى: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ وجوز ابن عطية أن يعود الضمير على المصدر المنفي الذي تضمنه قوله: ﴿لَمْ يُذْكَرِ﴾ كأنه قيل: وإن ترك الذكر لفسق؛ أي: لمعصية وكفر، وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، وتضمنت معنى التعليل، فكأنه قيل: لفسقه.

فصل


اختلف العلماء في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها (١)، فذهب قوم إلى تحريمها سواء تركها عامدا أو ناسيا، وهو قول ابن سيرين والشعبي، ونقله الإمام فخر الدين الرازي عن مالك. ونقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام، احتجوا في ذلك بظاهر هذه الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة: إن ترك التسمية عامدا لا تحل، وإن تركها ناسيا تحل.
وقال الشافعي: تحل الذبيحة مطلقا سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا،
(١) الخازن.
27
ونقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومالك في رواية عنه. ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين فيما إذا ترك التسمية عامدا، وإن تركها ناسيا.. حلت، فمن أباح أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها قال: المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم الأصنام؛ بدليل أنه سبحانه وتعالى في سياق الآية: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره. وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح.
وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق، واحتجوا في إباحتها أيضا بما روى البخاري في «صحيحه» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله، إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمات، فما ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا». قالوا: لو كانت التسمية شرطا للإباحة.. لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح. وقال الشافعي: أول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة؛ وهي قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾، ﴿وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾.. علمنا أن المراد من هذا العموم هو الخصوص. والفسق: ذكر اسم غير الله في الذبح كما قال في آخر السورة: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ فصار هذا الفسق الذي أهل لغير الله به مفسرا لقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ وإذا كان كذلك كان قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ مخصوصا بما أهل لغير الله به، والله أعلم.
﴿وَإِنَّ الشَّياطِينَ﴾؛ أي: وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴿لَيُوحُونَ﴾؛ أي: ليوسوسون ﴿إِلى أَوْلِيائِهِمْ﴾ من المشركين، ويلقون إليهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلوكم به من الشبهات ﴿لِيُجادِلُوكُمْ﴾؛ أي: ليجادل أولئك الأولياء إياكم أيها المؤمنون بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم، وتتركون ما قتله الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: وإن وافقتم أيها المؤمنون أولئك الأولياء في أكل الميتة وما حرم الله عليكم ﴿إِنَّكُمْ﴾
28
إذا ﴿لَمُشْرِكُونَ﴾ مثلهم. قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله؛ فهو مشرك، وإنما سمي مشركا؛ لأنه أثبت حاكما غير الله - عز وجل -، ومن كان كذلك فهو مشرك انتهى. قال عكرمة: وإن الشياطين؛ يعني: مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش زخرف القول؛ ليصل ممن أكل الميتة إلى نبي الله وأصحابه ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس، فكتبوا إلى قريش، وكانت بينهم مكاتبة إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال، وما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله هذه الآية.
وما يذبح (١) عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله؛ لأنه مما أهل به لغير الله، وقال بعض الشافعية: هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه؛ فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، وهذا هو الراجح الذي عليه المعول.
الإعراب
﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿أَنَّنا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب. و ﴿نا﴾: اسمها. ﴿نَزَّلْنا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْهِمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿الْمَلائِكَةَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ تقديره: ولو أننا منزلون، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بفعل محذوف تقديره: ولو ثبت تنزيلنا إليهم الملائكة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع
(١) المراغي.
29
بفعل محذوف معطوفة على جملة ﴿أن﴾. ﴿وَحَشَرْنا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع بفعل محذوف معطوفة على جملة ﴿أَنَّنا﴾. ﴿قُبُلًا﴾: حال من ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ لأنه تخصص بالإضافة، ولكنه في تأويل مشتق تقديره: حالة كونهم معاينين ومشافهين للكفار، والتقدير: ولو ثبت تنزيلنا إليهم الملائكة وتكليم الموتى إياهم وحشرنا كل شيء عليهم. ﴿ما﴾: نافية ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لِيُؤْمِنُوا﴾ (اللام): حرف جر وجحود. ﴿يؤمنوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كان﴾ تقديره: ما كانوا أهلا للإيمان، وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من عام الأحوال.
﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَشاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف إليه تقديره: ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم.
﴿وَلكِنَّ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿لكِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾: اسمها، وجملة ﴿يَجْهَلُونَ﴾ خبر ﴿لكِنَّ﴾، وجملة ﴿لكِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية.
﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وجعلا مثل جعلنا لك عدوا من هؤلاء المشركين. ﴿جَعَلْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. ﴿عَدُوًّا﴾: مفعول أول له. ﴿شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ بدل من ﴿عَدُوًّا﴾، والتقدير: وكذلك جعلنا عدوا شياطين الإنس والجن لكل نبي. وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي ﴿شَياطِينَ﴾ مفعولا أول، والثاني ﴿عَدُوًّا﴾،
30
و ﴿لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾ حالا من ﴿عَدُوًّا﴾ لأنه صفته في الأصل، أو متعلق بالجعل قبله، والتقدير: وجعلنا شياطين الإنس والجن عدوا لكل نبي جعلا مثل جعلنا هؤلاء عدوا لك، فاصبر كما صبروا. ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلى بَعْضٍ﴾: متعلق به. ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ مفعول به. ﴿غُرُورًا﴾: مفعول لأجله، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿شَياطِينَ الْإِنْسِ﴾. ﴿وَلَوْ﴾: (الواو): استئنافية.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿شاءَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿ما﴾: نافية. ﴿فَعَلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَذَرْهُمْ﴾ (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه لو شاء ربك ما فعلوه، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك ﴿ذرهم وما يفترون﴾: ﴿ذرهم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿وَما﴾: (الواو): عاطفة، أو واو المعية. ﴿ما﴾: موصولة، أو نكرة موصوفة في محل النصب معطوفة على الهاء في ﴿ذرهم﴾، أو في محل النصب على أنه مفعول معه، أو مصدرية. ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ إن قلنا موصولة اسمية، أو صفة لـ ﴿ما﴾ إن قلنا ﴿ما﴾ نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وذرهم والذين يفترونه، أو شيئا يفترونه، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على الهاء، أو منصوب على أنه مفعول معه، والتقدير: فذرهم وافتراءهم، أو مع افترائهم، وجملة (ذرهم) من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾.
﴿وَلِتَصْغى﴾ (الواو): عاطفة. ﴿لِتَصْغى﴾ (اللام): حرف جر وتعليل، ﴿تصغى﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿أَفْئِدَةُ الَّذِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، وجملة ﴿تصغى﴾ صلة أن
31
المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولصغي أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، الجار والمجرور معطوف على ﴿غُرُورًا﴾، وما بينهما اعتراض، والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول للغرور ولصغي أفئدة الذين يؤمنون بالآخرة، ولكن لما كان المفعول الأول مستكملا لشروط النصب نصب، وهذا فات فيه شرط النصب، وهو صريح المصدرية واتحاد الفاعل، فإن فاعل الوحي بعضهم، وفاعل الإصغاء الأفئدة، فلذا وصل الفعل بحرف العلة.
﴿وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾.
﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ (الواو): عاطفة. (اللام): حرف جر وتعليل، ﴿يرضوه﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولرضاهم إياه، الجار والمجرور معطوف على ﴿غُرُورًا﴾. ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾: (الواو): عاطفة، (اللام): حرف جر وتعليل، ﴿يقترفوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولاقترافهم ما هم مقترفون، الجار والمجرور معطوف على ﴿غُرُورًا﴾. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. ﴿هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما هم مقترفونه.
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا﴾.
﴿أَفَغَيْرَ﴾ (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أأميل إلى زخارف الشياطين. (الفاء): عاطفة. ﴿غير الله﴾: مفعول به لـ ﴿أَبْتَغِي﴾ مقدم عليه. ﴿أَبْتَغِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. حَكَمًا حال من ﴿غير﴾، أو تمييز له، وجملة ﴿أَبْتَغِي﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الجلالة مؤكدة لإنكار ابتغاء غيره تعالى حكما؛ لأن ﴿غير﴾ هنا بمعنى مغاير، فيصح عمله في المضاف إليه. ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿إِلَيْكُمُ﴾: متعلق بأنزل.
32
﴿الْكِتابَ﴾: مفعول به. ﴿مُفَصَّلًا﴾: حال من ﴿الْكِتابَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول. ﴿يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَنَّهُ﴾: (أن): حرف نصب ومصدر، و (الهاء): اسمها. ﴿مُنَزَّلٌ﴾: خبرها. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في ﴿مُنَزَّلٌ﴾، وجملة (أن) في تأويل مصدر سد مسد مفعولي علم. ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حال أهل الكتاب، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: (لا تكونن): (لا): ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)﴾.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾: حالان من كلمة ﴿رَبِّكَ﴾، أو تمييزان لها. ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿مُبَدِّلَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لِكَلِماتِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُبَدِّلَ﴾، وخبر ﴿لا﴾ محذوف تقديره: لا مبدل لكلماته موجود، وجملة ﴿لا﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب حال من فاعل ﴿تَمَّتْ﴾ على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط، أو مستأنفة. ذكره «أبو السعود». ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (١١٦)﴾.
33
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿تُطِعْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿أَكْثَرَ﴾: مفعول به وهو مضاف. و ﴿مَنْ﴾ الموصولة في محل الجر مضاف إليه ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ جار ومجرور صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿يُضِلُّوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جوابا لها، وعلامة جزمه حذف النون. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية، مستأنفة. ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الظَّنَّ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة.
﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، وجملة ﴿يَخْرُصُونَ﴾ في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية المنفية معطوفة على الجملة الفعلية المنفية المذكورة فيها.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿رَبَّكَ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل أو مبتدأ. ﴿أَعْلَمُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، أو خبر المبتدأ، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مقررة لمضمون الجملة الشرطية وما بعدها ومؤكدة لما تفيده من التحذير كما في «أبي السعود». ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب بفعل محذوف دل عليه ﴿أَعْلَمُ﴾ تقديره: إن ربك هو أعلم يعلم من يضل، والجملة المحذوفة في محل الرفع بدل من ﴿أَعْلَمُ﴾. ﴿يَضِلُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَضِلُّ﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. و ﴿هُوَ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. بِالْمُهْتَدِينَ: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾.
﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)﴾.
﴿فَكُلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على ما تقدم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل: اتبعوا ما أمركم الله به من أكل المذكى دون الميتة، ﴿كلوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كلوا﴾.
34
﴿ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ﴾: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿ذُكِرَ﴾، والجملة الفعلية لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير عليه. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿بِآياتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُؤْمِنِينَ﴾. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم بآياته مؤمنين.. فكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: استفهامية للاستفهام الإنكاري التوبيخي في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَّا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَأْكُلُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾، مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: وأي غرض لكم في عدم أكلكم مما ذكر اسم الله عليه والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَأْكُلُوا﴾. ﴿ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ﴾: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها. ﴿وَقَدْ فَصَّلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل النصب حال من الجلالة. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَصَّلَ﴾. (ما): موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. ﴿حَرَّمَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما حرمه عليكم. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء، والظاهر أنه استثناء متصل؛ لأنه من جنس المستثنى منه. ﴿اضْطُرِرْتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿إِلَيْهِ﴾.
35
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿كَثِيرًا﴾: اسمها. ﴿لَيُضِلُّونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿يضلون﴾: فعل وفاعل. ﴿بِأَهْوائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يضلون﴾، ومفعول ﴿يضلون﴾ محذوف على قراءة ضم الياء تقديره: ليضلون الناس، وقراءة الفتح لا تحتاج إلى حذف، فرجحها بعضهم بهذا الاعتبار. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يضلون﴾ تقديره: ملتبسين بغير علم، وجملة ﴿يضلون﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿أَعْلَمُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿بِالْمُعْتَدِينَ﴾: متعلق به، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)﴾.
﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه. ﴿وَباطِنَهُ﴾: معطوف على ﴿ظاهِرَ الْإِثْمِ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب اسمها. ﴿يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. ﴿سَيُجْزَوْنَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يجزون﴾: كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَقْتَرِفُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يقترفونه.
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (٢١)﴾.
﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية وجازمة. ﴿تَأْكُلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق
36
بـ ﴿تَأْكُلُوا﴾. ﴿لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ﴾: جازم وفعل مغير ونائب فاعل ومضاف إليه. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُذْكَرِ﴾ وهو العائد على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، أو حالية، ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿الهاء﴾: اسمها. لَفِسْقٌ: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿فسق﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ إما مستأنفة، أو معطوفة على قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُوا﴾ على مذهب سيبويه، أو حال من ﴿ما﴾ الموصولة في قوله: ﴿مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾؛ أي: ولا تأكلوه والحال إنه لفسق. ﴿وَإِنَّ الشَّياطِينَ:﴾ ناصب واسمه. ﴿لَيُوحُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿يوحون﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلى أَوْلِيائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يوحون﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿لِيُجادِلُوكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: لام كي، ﴿يجادلوكم﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لمجادلتهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يوحون﴾. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِنَّ﴾ حرف شرط ﴿أَطَعْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وقبل ﴿إِنَّ﴾ الشرطية لام القسم مقدرة تقديره: ﴿ولئن أطعتموهم﴾.
﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَمُشْرِكُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿مشركون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها جواب القسم الذي قدرناه آنفا، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده، وجاز الحذف؛ لأن فعل الشرط ماض كما ذكره السمين، والتقدير: وإن أطعتموهم فأنتم مشركون.
التصريف ومفردات اللغة
قوله: ﴿قُبُلًا﴾؛ أي: كفلا وضمنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، جمع قبيل بمعنى كفيل، مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب، ونصيب ونصب، أو جمع قبيل بمعنى جماعة جماعة، أو صنفا صنفا كل صنف على حدة، والمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء فوجا فوجا، ونوعا نوعا من سائر المخلوقات.
37
﴿عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ والعدو ضد الصديق؛ وهو من يفرح لحزنك ويحزن لفرحك، ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والأنثى، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)﴾؛ أي: أعداء، وقال ابن عباس كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان.
﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ والإيحاء: الإعلام بالشيء من طريق خفي سريع كالإيماء، والزخرف: الزينة كالأزهار للرياض، والذهب للنساء، وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام. قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: كل ما حسنته وزينته وهو باطل؛ فهو زخرف انتهى. والغرور: الخداع بالباطل.
﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ يقال: صغوت (١) كدعوت، وصغيت كرميت، وصغيت - بكسر الغين - كرضيت، فمصدر الأول: صغوا، والثاني: صغا، والثالث: صغا ومضارعها يصغى - بفتح الغين - وهي لازمة، وأصغى مثلها لازم، ويأتي متعديا بكون الهمزة فيه للنقل. قال الشاعر في اللازم:
ترى السّفيه به عن كلّ محكمة زيغ وفيه إلى التّشبيه إصغاء
وقال في المتعدي:
أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا صماخها بدخيس الذّوق مستور
وأصله: الميل. يقال: صغت النجوم إذا مالت للغروب، وفي الحديث: فأصغى لها الإناء. قاله أبو حيان، ويقال: صغي (٢) إليه كرضي يصغى: مال، ومثله أصغى، ويقال: صغى فلان وصغوه معك؛ أي: ميله وهواه، كما يقال: ضلعه معك. وفي «المختار» صغا إذا مال، وبابه عدا وسما ورمى وصدى صغوا وصغيا أيضا، قلت: ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ وأصغى إليه مال بسمعه ونحوه، وأصغى الإناء أماله، انتهى.
﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ يقال: اقترف المال اكتسبه، والذنب اجترحه، وأكثر (٣) ما يكون
(١) البحر المحيط بزيادة.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
38
في الشر والذنوب، ويقال: خرج يقترف لأهله؛ أي: يكتسب لهم، وقارف فلان الأمر؛ أي: واقعه، وقرفه بكذا رماه بريبة، واقترف كذبا، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ والحكم: من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه ﴿مُفَصَّلًا﴾؛ أي: مبينا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام إلى غير ذلك من الأحكام ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾؛ أي: المترددين الشاكين.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ والكلمة هنا: إما القرآن أو القضاء كما مر، وتمام الشيء كما قال الراغب: انتهاؤه إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه، وتمامها هنا أنها كافية وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدق: يكون في الإخبار، - ومنها المواعيد - والعدل: يكون في الأحكام، والتبديل: التغيير بالبدل.
﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ يقال: خرص يخرص - من باب نصر - إذا حزر وقال بغير تيقين ولا علم ومنه: خرص بمعنى كذب وافترى خرصا وخروصا، وقال الأزهري: وأصله التظني فيما لا يستيقن، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين منه، والمعنى؛ أي: وما هم إلا يحدسون ويقدرون، وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض.. فالعلم الحقيقي هو عند الله تعالى، فاتبع ما أمرك به، ودع عنك طاعة غيره وهو العالم بمن يضل عن سبيله ومن يهتدي إليه.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ...﴾ إلخ. قال بعض أهل العلم (١): إن أعلم في الموضعين بمعنى يعلم. قال: ومنه قول حاتم الطائي:
فحالفت طيّء من دوننا حلفا والله أعلم ما كنّا لهم خولا
والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائبا عنه، وقيل: إن أفعل التفضيل
(١) الشوكاني.
39
على بابه، والنصب بفعل مقدر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل التفضيل؛ أي: إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله، وهو ضعيف،
وقيل: في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بمن يضل. قاله بعض البصريين، وقيل: في محل جر بإضافة أفضل التفضيل إليها. والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ﴾ وفيه أيضا التعرض لوصف الربوبية تلطفا في التسلية.
ومنها: الترقي في قوله: ﴿وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا﴾. قال أبو حيان (١): وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة؛ لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الفعل، فكان كل واحد منها مسبب عما قبله.
ومنها: التهديد والوعيد في قوله: ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ على حد قوله ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ لإفادة التعظيم والتبشيع لما يعملون نظير قوله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ﴾.
ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لأن النبي ﷺ معصوم من الامتراء إن كان الخطاب له.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ اعتناء بشأنها، وحق العبارة لا مبدل لها لتقدم المرجع.
ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ لأن المراد علماء أهل الكتاب، وفي قوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأن المراد بالأكثر رؤساء مكة،
(١) البحر المحيط.
40
وبالأرض أرض مكة.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ لأنه تأكيد للنفي المذكور قبله.
ومنها: الطباق بين لفظ: ﴿مَنْ يَضِلُّ﴾ ولفظ بِالْمُهْتَدِينَ في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)﴾، وبين لفظ ﴿ظاهِرَ﴾ ولفظ: ﴿باطن﴾ في قوله: ﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾؛ أي: تم كلامه ووحيه حيث أطلق الجزء وأراد الكل.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾، وبين قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ تأكيدا بالمفهوم من الأول.
ومنها: الزيادة في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
41
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (١)
(١) المراغي.
42
أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن والحدس، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين منهم العاشين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضروهم ويحملوهم على اقتراف الآثام، ويحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره، والتوسل به إليه وهو عبادة له.. ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم، مع ذكر السبب في استحسان الكافرين لأعمالهم؛ وهو تزيين الشيطان لهم ما يعملون، ومن ثم انغمسوا في ظلمات لا خلاص لهم منها، وأصبحوا في حيرة وتردد على الدوام.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد ﷺ من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان، وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) ما أعده من العذاب للمجرمين، وما أعده من الثواب والنعيم في دار السلام للمؤمنين إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه.. أردف ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون في يومه من الحساب، وإقامة الحجة على الكفار
وسنة الله في إهلاك الأمم.
قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
43
لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا.. أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره سبحانه وتعالى وقضائه.
قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...﴾ الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما كان الكلام في الآيات السالفة في تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة، فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين، وأن سنة الله في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.. ذكر هنا وعيد الآخرة، وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه وتعالى، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غني عن العالمين، بل لأنه مقتضى الحق والعدل المقرونين بالرحمة والفضل.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ...﴾ الآية، سبب نزولها على القول بأنها في أبي جهل وحمزة: أن أبا جهل رمى (١) النبي ﷺ بفرث، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس، وحمزة لم يكن إذ ذاك، فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل، وجعل يضربه بالقوى، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى ألا ترى ما جاء به، سفه عقولنا، وسب آلهتنا، وخالف آباءنا! فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولا؟
تعبدون الحجارة من دون الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم حمزة يومئذ، فنزلت هذه الآية. والقول الثاني؛ وهو قول الحسن في آخرين: أن هذه الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر، وهذا هو الصحيح؛ لأن المعنى إذا كان حاصلا في الكل دخل فيه كل أحد.
وأخرج ابن المنذر (٢)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
44
ضلالتهما، فأحيا الله تعالى عمر بالإسلام وأعزه، وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله ﷺ دعا فقال: «اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب».
قوله تعالى: ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها على ما قيل: أن (١) الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسي رهان.. قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٢٢ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على جملة إسمية محذوفة، والواو عاطفة ما بعدها على تلك المحذوفة، والتقدير: أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما يوحون إليهم من زخرف القول الذي غروهم به، ومن كان ميتا؛ أي: ضالا كافرا ﴿فَأَحْيَيْناهُ﴾؛ أي: فهديناه ﴿وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا﴾؛ أي: دينا وإيمانا ﴿يَمْشِي بِهِ﴾ آمنا ﴿فِي النَّاسِ﴾ من جهتهم ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ﴾؛ أي: كمن هو في ظلمات الكفر والضلال ﴿لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها﴾؛ أي: ليس بمؤمن أبدا؛ أي: لا يستويان؛ أي: لا يستوي المؤمن والكافر، فلفظة المثل زائدة كما أشرنا إليه في الحل؛ لأن المثل معناه الصفة، والمستقر في الظلمات ذواتهم لا صفاتهم، كما زيدت في قوله تعالى: ﴿فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾: وفي قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾: ويحتمل كونها أصلية.
والمعنى عليه: أيستوي المؤمن والكافر ومن كان ميتا بالكفر والجهل، فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس على بصيرة من أمر دينه
(١) الخازن.
45
وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر؛ وهو ليس بخارج منها؛ لأنه يبقى متحيرا لا يهتدي إلى وجه صلاحه، فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة، وكذلك الخابط في ظلمات الجهل والتقليد، وفساد الفطرة ليس بخارج منها؛ لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه، فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفاش بالنظر إلى النور الحسي، وإنما فسرنا الحياة في الآية بالهداية؛ لأنه كثيرا ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإنّ امرءا لم يحي بالعلم ميّت فليس له حتّى النّشور نشور
والخلاصة (١): أنه ينبغي للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته، وأن يكون القدوة والأسوة للناس في الفضائل والخيرات، والحجة على فضل دينه على سائر الأديان، وإنما قال: ﴿فِي النَّاسِ﴾ إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس، فذكر أن منفعة المؤمن ليست قاصرة على نفسه، وهذا (٢) مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر، فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها ليس بخارج منها، فيكون متحيرا على الدوام. ووجه (٣) المناسبة في ضرب المثلين هنا ما تقدم في أول السورة ﴿وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ﴾. ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم ﴿زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ﴾ والمشركين ﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الشرك والمعاصي وعبادة الأصنام؛ أي (٤): حسّنّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أي: مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله حياة عالية، وتزيين ظلمات
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) ابن كثير.
(٤) ابن كثير.
46
الضلال والكفر لموتى القلوب.. قد زين للكافرين وحسن ما كانوا يعملون من الآثام، كعداوة النبي ﷺ وذبح القرابين لغير الله تعالى، وتحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا﴾ - بفتح الواو بعد الهمزة - وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها. وقرأ طلحة: أفمن بالفاء بدل الواو.
١٢٣ - ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: وكما جعلنا في مكة صناديدها رؤساء ليمكروا فيها ﴿جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ من سائر القرى والعواصم ﴿أَكابِرَ مُجْرِمِيها﴾؛ أي: جعلنا مجرميها وفساقها أكابر ورؤساء فيها، ﴿أَكابِرَ﴾ مفعول ثان، و ﴿مُجْرِمِيها﴾ مفعول أول، والظرف لغو متعلق بنفس الفعل قبله؛ أي: جعلنا في كل بلدة فساقها عظماء ورؤساء. وقيل: إن قوله: ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ مفعول ثان مقدم، و ﴿أَكابِرَ﴾ مفعول أول مؤخر، وهو مضاف لمجرميها، فيصير المعنى: وكذلك جعلنا عظماء المجرمين كائنين في كل قرية. وقرأ ابن مسلم: ﴿أَكابِرَ مُجْرِمِيها﴾ وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد، كقوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ ذكره أبو حيان في «البحر».
﴿لِيَمْكُرُوا فِيها﴾، أي: ليفعلوا المكر فيها، وهذا (٢) دليل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، وإنما جعل المجرمين أكابر؛ لأنهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الباطل على الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رياستهم، وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فساقهم أكابرهم. وقال مجاهد: كان يجلس على كل طريق من طرق مكة أربعة أنفار يصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون لكل من يقدم: هو كذاب ساحر كاهن. فكان هذا مكرهم.
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
47
وحاصل الكلام (١): أن سنة الله تعالى في المجتمع البشري قد قضت أن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم، وهكذا كان الحال في أكثر أكابر الأمم والشعوب، ولا سيما في العصور التي تكثر فيها المطامع، ويعظم فيها حب الرياسة والكبرياء، فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم، وتعزيزا لنفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول. والمراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح، ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم، وكان أكثر أكابر مكة كذلك، وتخصيص الأكابر بذلك؛ لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم.
﴿وَما يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم، ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم ﴿إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: وما يحيق شر مكرهم إلا بهم ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: وما يعلمون بذلك أصلا، بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم. وهكذا شأن (٢) من يعادون الحق والعدل، ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد؛ لأن سنة الله قد جرت بأن عاقبة المكر السيء تحيق بأهله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبما ثبت في القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين، ومن علو الحق على الباطل، ومن هلاك القرى الظالمة، وبما أيده الاختبار، ودلت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضي ببقاء الأمثل والأصلح ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.
وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة الله في الأولين، فقال: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾؛ أي: فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
48
حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم.. لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله في خلقه، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما في الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك. وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمي أهل مكة، وفيها وعد وتسلية للنبي ﷺ والمؤمنين.
١٢٤ - ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ﴾؛ أي: وإذا جاءت مشركي العرب كالوليد بن المغيرة وعبد ياليل وأبي مسعود الثقفي ﴿آيَةٌ﴾ من القرآن تأمرهم باتباع محمد ﷺ وتخبرهم بصنيعهم ﴿قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ﴾؛ أي: قالوا: لن نصدقك ﴿حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل، فيخبرنا أنك رسول الله، وأنك صادق. قال تعالى ردا عليهم: ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أَعْلَمُ﴾؛ أي: عالم ﴿حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾؛ أي: الموضع الذي يجعل فيه رسالته؛ أي: أعلم من يليق برسالته؛ أي: بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف، وهذا (١) المعنى قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس.
[معنى آخر للآية:] وقيل معنى الآية: وإذا جاءتهم آية على صدق النبي ﷺ.. قالوا: لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى:
إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة، فيشرفه بها ويعلم من لا يستحقها، وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها، خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر.
[معنى آخر للآية أيضا:] وقيل المعنى (٢): وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول ﷺ فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى.. قالوا: لن نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى. وقال ابن
(١) المراح.
(٢) المراغي.
49
كثير: أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، بمعنى قوله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا...﴾ الآية.
وخلاصة ذلك: أنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم، وقد رد عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾؛ أي: هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، وهذا كقوله حكاية عنهم: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ...﴾ الآية، يريدون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجل في أعينهم من القريتين مكة والطائف، ذلك أنهم جازاهم الله تعالى بما يستحقون، كانوا يزدرون الرسول ﷺ بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى: ﴿وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)﴾ وهم مع ذلك كانوا يعترفون بشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، وكانوا يسمونه بالأمين، فكان ينبغي أن يكون في ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة وبكل ما فيه الكرامة، ولكن الحسد والبغي والتقليد كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال، وعمل هاتيك الأفعال في عداوته ومعاندته.
والخلاصة: أن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه لا يناله أحد بكسب، ولا يصل إليه بسبب ولا نسب، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة وطهارة القلب وحب الخير والحق، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم. وقرأ حفص وابن كثير: رِسالَتَهُ بالإفراد، والباقون على الجمع.
فائدة: ويستجاب (١) الدعاء بين هاتين الجلالتين وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما ووجد بخط بعض الفضلاء؛ وهو «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره، ومن الذي سألك فلم تعطه، ومن الذي استعان بك فلم
(١) المراح.
50
تعنه، ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه بك أستغيث أغثني يا مغيث واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين».
ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾؛ أي: سيصيب الذين أشركوا بقولهم: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ومكروا بك ﴿صَغارٌ﴾؛ أي: ذل وهوان وحقارة في الدنيا ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: ثابت لهم في حكم الله تعالى بالقتل والأسر ﴿وَعَذابٌ شَدِيدٌ﴾ بالنار في الآخرة ﴿بِما كانُوا يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: بسبب مكرهم بقولهم ذلك، وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم له وطلبهم ما لا يستحقون.
وقال اسماعيل الضرير (١): في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: صغار وعذاب شديد عند الله في الآخرة انتهى. أي: سيصيب (٢) المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء في كل شعب دب فيه الفساد عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة. ومعنى كونه من عند الله: أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق.. يقال: إنه من عند الله، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق في دار الدنيا كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد، وعذاب الأفراد لا يطرد، وإن كانوا من المجرمين الماكرين، وقد عذب الله في الدنيا أكابر مجرمي أهل مكة الذين
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
51
تصدوا لإيذاء النبي ﷺ والكيد له، فقتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغار والهوان بالباقين.
١٢٥ - ثم أردف ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للإيمان، فقال: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾؛ أي: فمن يرد الله سبحانه وتعالى هدايته للحق ويرشده لدينه ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾؛ أي: يوسع قلبه ﴿لِلْإِسْلامِ﴾ حتى يقبله بصدر منشرح منبسط له.
ومعنى الآية (١): فمن يرد الله تعالى أن يهديه للإيمان بالله وبرسوله وبما جاء به من عنده.. يوفقه له ويشرح صدره لقبوله ويهونه عليه، ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه، فيضيء به ويتسع له صدره.
والخلاصة (٢): فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبوله دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة والهادي إلى طريق الحق والرشاد.. وجد لذلك في نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور، فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه، وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته، ويذعن له قلبه بما يرى من ساطع النور الذي يستضيء به لبه، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه.
ولما نزلت هذه الآية (٣).. سئل رسول الله ﷺ عن شرح الصدر، فقال:
«هو نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح»، فقالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «نعم، الإنابة إلى الدار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت». وأسند الطبري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله ﷺ حين نزلت عليه هذه الآية: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ﴾ قال: «إذا دخل النور القلب.. انفسح وانشرح». قالوا: فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
52
الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».
﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يُضِلَّهُ﴾؛ أي: إضلاله وشقاوته ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ﴾ وقلبه ﴿ضَيِّقًا﴾ عن قبول الإسلام غير متسع له ﴿حَرَجًا﴾؛ أي: شديد الضيق لا يتسع لشيء من الهدي، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان فهو بمعنى الضيق مع المبالغة كرره تأكيدا، وحسن ذلك اختلاف اللفظ ﴿كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ﴾؛ أي: كأنما يتكلف صدره الصعود في السماء، ويحاول الطلوع إليها، ويزاول أمرا غير ممكن. قال ابن جرير: وهذا (١) مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه، أي: أن (٢) من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب.. يجد في صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد، والنظر في الآفاق والأنفس لما استحوذ على قلبه من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه، فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه، ويشعر بالعجز عن احتمالها، ويكون مثله مثل من صعد في الطبقات العليا في جو السماء إذ يشعر بضيق شديد في التنفس، وكلما صعد في الجو أكثر شعر بضيق أشد، حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء، ولم يستطع سبيلا إلى البقاء، فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا.
وخلاصة ذلك: أن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعي إلى الحق، وقد ألف الباطل وركن إليه بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك، وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه، وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.
سبحانك ربي، نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرّها البشر، ولم يفقه
(١) الطبري.
(٢) المراغي.
53
معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، وتقّدم فنّ الطيران، الآن علم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء في كتابك، ودل على صحة ما ثبت في علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوي في مختلف طبقات الهواء، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة في الهواء من الطبقات التي هي أسفل منها، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق في التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس؛ ليساعدهم على السير في تلك الطبقات.
وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا؛ لأنهم لم يهتدوا لسرها، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم، فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم: الدين والعلم صنوان لا عدوان، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفي أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين.
وخلاصة معنى الآية (١): فمن يرد الله أن يهديه قوّى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان؛ بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح، فعظمت النفرة عنه، فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا، كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه، ولا يقدر على ذلك، أو المعنى: كان قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام.
وقرأ ابن كثير (٢): ﴿ضَيِّقًا﴾ - بالتخفيف - مثل هين ولين، وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: ﴿حَرِجًا﴾ - بكسر الراء -
(١) المراح.
(٢) الشوكاني وابن الجوزي.
54
ومعناه الضيق، فيكون تأكيدا لما قبله، وقرأ الباقون: ﴿حرجا﴾ - بفتح الراء - جمع حرجة، وهي شدة الضيق. وقرأ ابن كثير: كأنما يصعد - بالتخفيف من الصعود - وقرأ النخعي: ﴿يصّاعد﴾ - بتشديد الصاد مع الألف - وأصله يتصاعد، وقرأ الباقون: ﴿يَصَّعَّدُ﴾ - بالتشديد بدون ألف - وأصله يتصعد. وقرأ ابن مسعود وطلحة: ﴿تصعد﴾ - بتاء من غير ألف - وقرأ أبي بن كعب: ﴿يتصاعد﴾ بتاء وألف.
﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما جعل الله سبحانه وتعالى صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا بالإسلام ﴿يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ﴾؛ أي: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بآيات الله ويعرضون عن الإيمان بها، أو يسلط الله الشيطان عليهم، فيظهر أثر ذلك في تصرفاتهم وأعمالهم، فيكون غالبا قبيحا سيئا في ذاته، أو فيما بعث عليه من قصد ونية؛ لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصد عنه ويطهر الأنفس منه.
١٢٦ - ﴿وَهذا﴾ الإسلام الذي يشرح له صدر من أراد هدايته هو ﴿صِراطُ رَبِّكَ﴾ الذي بعثك به، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة والبينات الظاهرة حالة كونه ﴿مُسْتَقِيمًا﴾ في نظر العقول الراجحة والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء، بل هو السبيل السوي وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد، وخروج عن الجادة التي يؤيدها العقل، وتستند إلى النقل، كما قال عليّ - كرم الله وجهه - في نعت القرآن: هو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم. ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ﴾؛ أي: قد فسرنا آيات القرآن وأوضحناها، وبيناها بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والحلال والحرام، والأمر والنهي وغير ذلك ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾؛ أي: لقوم يتذكرون بها ويتعظون بما فيها من المواعظ والعبر، فيؤمنون بها فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا في الإيمان كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح؛ وهم أصحاب محمد ﷺ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وخصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها، وفيه إدغام التاء في الأصل في الذال.
١٢٧ - ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء القوم المتذكرين ﴿دارُ﴾ الله ﴿السَّلامِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: المنزه عن جميع النقائص؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى، وهي الجنة أضافها إلى نفسه تعظيما، أو دار السلامة من كل آفة وكدر ومكروه؛ أي: السلامة الدائمة التي تنقطع، سميت الجنة بذلك؛ لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة؛ لأن السلام بمعنى السلامة نظير الضلال والضلالة، أو دار السلام بمعنى التحية؛ لقوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ﴾، ﴿إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا (٢٦)﴾ حالة كونها مدخرة لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يعني أن الجنة معدة مهيأة لهم عند ربهم حتى يوصلهم إليها ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَلِيُّهُمْ﴾؛ أي: متكفل لهم بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ﴿بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبب أعمالهم الصالحة، أو متولي أمورهم بالتوفيق والهداية في الدنيا، وبالجزاء والجنة في الآخرة، أو محبهم أو ناصرهم على أعدائهم بسبب أعمالهم الصالحة.
١٢٨ - والظرف في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ متعلق بقول مقدر بعده، تقديره: ويوم نحشر الخلائق جَمِيعًا من الأولين والآخرين في عرصات القيامة، نقول للجن: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ وهذا أولى من تقدير: أذكر؛ لخروجه حينئذ عن الظرفية، كما قاله أبو حيان في «البحر». وقرأ حفص بالياء في ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾؛ أي: ويوم يحشر الله سبحانه وتعالى الخلائق جميعا، وهو يوم القيامة يقول للجن: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ وباقي السبعة بالنون، وهذا النداء نداء شهرة وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد؛ أي: يا جماعة الجن ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾؛ أي: قد أكثرتم الاستمتاع والانتفاع، والتلذذ بالإنس بطاعتهم لكم ودخولهم فيما تريدون منهم. وقيل المعنى: أكثرتم الإغواء والإضلال من الإنس حتى صاروا في حكم الأتباع لكم ﴿وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ﴾؛ أي: أولياء الجن وأصحابهم الذين هم ﴿مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿اسْتَمْتَعَ﴾ وانتفع ﴿بَعْضُنا﴾ معاشر الجن والإنس ﴿بِبَعْضٍ﴾ آخر؛ أي: انتفع الجن بالإنس وانتفع الإنس بالجن؛ أي: انتفع كل من الجنسين بالآخر؛ أي: وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى: ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها، وبما كان لنا في طاعتهم ووسوستهم من اللذة في اتباع الهوى
56
والانغماس في اللذات. قال الحسن البصري: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس انتهى.
قال الكلبي (١): فأما استمتاع الإنس بالجن: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر، فنزل بأرض قفراء، وخاف على نفسه من الجن.. قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم، وأما استمتاع الجن بالإنس: فهو أنهم قالوا: سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم. وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، وتزيينهم الأمور التي كانوا يهوونها وتسهيل سبلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس للجن فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي، وقيل غير ذلك. وقيل: إن قوله: ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ﴾ هو من كلام الإنس خاصة؛ لأن استمتاع الجن بالإنس، وبالعكس أمر نادر لا يكاد يظهر، أما استمتاع الإنس بعضهم ببعض فهو ظاهر، فوجب الكلام عليهم.
﴿وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا﴾؛ أي: أدركنا ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا، وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل، وقرىء: ﴿آجالنا﴾ - على الجمع الذي على التذكير والإفراد - قال أبو علي: هو جنس أوقع (الذي) موقع (التي)، انتهى. ذكره أبو حيان في «البحر». ومقصدهم (٢) من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط في الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الجن، وحكاه في آي أخرى، فقال - سبحانه - في الفريقين: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ وكما ذكر في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض، وحكى في إبراهيم
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
57
أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس، وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا.
﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجن والإنس ردا عليهم ﴿النَّارُ﴾ الأخروية ﴿مَثْواكُمْ﴾؛ أي: منزلكم وموضع إقامتكم ومقركم فيها ومصيركم إليها حالة كونكم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾؛ أي: في النار؛ أي: مقيمين فيها إقامة خلود أبدا ﴿إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير، فيشتد البرد عليهم فيه، فيطلبون الرد إلى الجحيم كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه وتدبيره، فيضع كل شيء في محله اللائق به، وقيل: حكيم فيما يفعله من ثواب الطائع وعقاب العاصي، وفي سائر وجوه المجازاة ﴿عَلِيمٌ﴾ بخلقه، فيجازي كلا بعمله، أو عليم بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون، كأنه قال: إنما حكمت لهؤلاء الكفار بالخلود في النار؛ لعلمي بأنهم يستحقون ذلك.
١٢٩ - ﴿وَكَذلِكَ﴾؛ أي: وكما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض ﴿نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ آخر منهم؛ أي: نسلط بعض الظالمين بالكفر والمعاصي، أي: نسلط ونؤمر بعضهم على بعض ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: بسبب ما يعملونه من الكفر والمعاصي، أو بسبب كسبهم وعملهم المعاصي. والضمير في ﴿كانُوا﴾ عائد على البعض الثاني كما في «الجمل». والمعنى: كما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض نسلط بعض الظالمين بعضهم على بعض بسبب كسبهم من المعاصي، فيؤخذ الظالم بالظالم لما في الحديث. «ينتقم الله من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من كليهما»، وفي الحديث أيضا «كما تكونوا يولّ عليكم» ومن هذا المعنى قول الشاعر:
وما من يد إلا يد الله فوقها وما من ظالم إلا سيبتلى بأظلم
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى إذا أراد بقوم
58
خيرا ولى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم. أي: ومثل (١) ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولي بعض الظالمين لأنفسهم وللناس بعضهم على بعض آخر بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم.
روي عن قتادة أنه قال في تفسير الآية: إنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن من أين كان وحيثما كان، والكافر ولي الكافر من أين كان وحيثما كان، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولعمري لو عملت بطاعة الله، ولم تعرف أهل طاعة الله.. ما ضرك ذلك، ولو عملت بمعصية الله وتوليت أهل طاعة الله.. ما نفعك ذلك شيئا، انتهى. وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم، انتهى. ذاك أن الملوك يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة في الأنعام السائمة، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم، فيقلدوهم وهم جمهور الأمة في سيء أعمالهم، فيغلب الفساد على الصلاح، ويفسقون عن أمر الله فيهلكون، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم، وتشل عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (١٦)﴾. أما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأي فيها، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاؤون، بل يكونون تحت مراقبة أولي الأمر فيها، وقد (٢) وضع الإسلام هذا الدستور، فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد، وأمر الرسول بالمشاورة وسار على هذا النهج، وجعلت الولاية العامة - الخلافة - بالانتخاب.
واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته، وجروا على سنته، فقال الخليفة الأول
(١) الصاوي.
(٢) المراغي.
59
أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له: أما بعد: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني. وقال الخليفة الثاني على المنبر: من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومه. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة: أمري لأمركم تبع. وقوله: ﴿الظَّالِمِينَ﴾ يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم؛ إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشاكله في أخلاقه وأعماله، وينصره على من يخالفه.
١٣٠ - ثم أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال يخطر بالبال، وهو: ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة؟ فأجاب بأنهم يسألون، فقال: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ وهذا شروع (١) في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين بما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ معشر الجن بإغواء الإنس وإضلالهم إياهم؛ أي: ويوم نحشرهم جميعا نقول توبيخا لهم وتقريرا: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل من مجموعكم؛ أي: من بعضكم؛ وهو الإنس، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. والصحيح (٢) أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة، وقد قام الإجماع على أن النبي ﷺ مرسل للإنس والجن كافة، والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه تعالى أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق.. فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة. وقد زعم (٣) قوم أن الله أرسل للجن رسولا منهم يسمى يوسف.
وقرأ الأعرج: ﴿ألم تأتكم﴾ على تأنيث لفظ رسل بالتاء. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي ﷺ أرسل إليهم، كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن
(١) أبو السعود.
(٢) المراح.
(٣) الجمل.
60
منهم أنهم قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى﴾ فهذا ظاهر في أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك، ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله، ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي﴾؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ والتقرير يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي؛ أي: يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي المبينة لأصول الإيمان، وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾؛ أي: ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا؛ وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أنواع العقوبات الهائلة، ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل: ﴿قالُوا﴾ أي: قال كفار الجن والإنس ﴿شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا﴾؛ أي: شهدنا واعترفنا وأقررنا بإتيان الرسل إيانا، وبإنذارهم لنا، وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب، وفي هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعوا منهم.
وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفي موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم، وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا، ونحو الآية: ﴿قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾. وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا﴾؛ أي: غرتهم وخدعتهم عن الآخرة زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وقلدهم في ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.
وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل، حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوي المال والنسب مهما اجترحوا من الموبقات، وأبسلوا من المكارم والخيرات.
61
﴿وَ﴾ بعد أن قامت عليهم الحجة ﴿شَهِدُوا﴾ في الآخرة ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ بـ ﴿أَنَّهُمْ كانُوا﴾ في الدنيا ﴿كافِرِينَ﴾ بتلك الآيات والنذر التي جاءت بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب، ولا تنفعهم المكابرة. والكفر بالرسل ضربان: كفر بتكذيبهم بالقول، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن الله في ترتيب الأعمال على الطباع والأخلاق.
١٣١ - ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله لإصلاح حال الأفراد والجماعات في شؤونهم الدنيوية والأخروية، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء بسبب ﴿أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ﴾؛ أي بسبب أن الله سبحانه وتعالى لم يكن من سننه في تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبي الرسل بسبب ظلم من يظلم منهم ﴿وَأَهْلُها غافِلُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم غافلون إن لم يرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم، وينذرهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده؛ إذ من حكمة الله تعالى في الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها.
والخلاصة (١): أن الله تعالى لا يظلم أحدا من خلقه، بل هم الذين يظلمون أنفسهم، وأن الإهانة والتعذيب تربية لهم، وتأديب وزجر لغيرهم، وأن هذا العقاب للأمم منه ما هو في الدنيا ومنه ما هو في الآخرة، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاؤوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل. وهلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق، ويقطع روابط المجتمع، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا.
(١) المراغي.
وقيل المعنى (١): ما كان الله سبحانه وتعالى مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه وتعالى يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء، وقيل: المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾. ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من (٢) المكلفين من الجن والإنس مؤمنهم وكافرهم ﴿دَرَجاتٌ﴾ متفاوتة ومراتب مختلفة ﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾؛ أي: من جزاء أعمالهم خيرا أو شرا، فيجازيهم بأعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض، أو بنسبة عمل كل عامل، فيكون هو في درجة، فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل.
والمعنى (٣): ولكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات؛ أي: منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وإنما سميت درجات؛ لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج، وهذا إنما يكون في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من هو أعظم ثوابا، ومنهم من هو أشد عقابا، وهو قول جمهور المفسرين. وقيل: إن قوله تعالى:
١٣٢ - ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ مختص بأهل الطاعة؛ لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم ﴿وَما رَبُّكَ﴾ يا محمد ﴿بِغافِلٍ﴾؛ أي: بساه ﴿عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عما يعمل المكلفون من الثقلين من أعمال الخير أو الشر. والغفلة (٤) ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. وقرأ ابن عامر: ﴿تعملون﴾ - بالتاء الفوقية - وقرأ الباقون بالتحتية؛ أي: فكل (٥) عملهم يعلمه ربهم، وهو محصيه عليهم ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها، ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه. وفي الآية: إيماء إلى أن مناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته،
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراغي.
فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه، فجازاه الله أحسن الجزاء، وإن شاء تنكّب عن جادة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهريا، وسار في غلواء الضلال، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.
١٣٣ - ﴿وَرَبُّكَ﴾ يا محمد هو ﴿الْغَنِيُّ﴾ الكامل الغنى عن خلقه لا يحتاج إليهم، ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم فهو ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ الشاملة التي وسعت كل شيء إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده، فلا يكون غناه عنهم مانعا من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول. ويقال في الخلق: هذا غني إذا كان واجدا لأهم تلك الأسباب التي هي من فيض مولاه، وهو مع ذلك محتاج إلى غيره. انظر إلى الغني ذي المال الكثير، تراه محتاجا إلى كثير من الناس، من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شيء، كما قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)﴾.
﴿إِنْ يَشَأْ﴾ - سبحانه وتعالى - إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستئصالكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك واستخلاف غيركم بعدكم ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ﴾ من الأقوام، فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم، وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم ﴿كَما أَنْشَأَكُمْ﴾؛ أي: كما قدر على إنشأكم ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ وقد صدق وعده، فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا، وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم، ولم يلبث كفرهم أن زال بالتأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا، وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم، وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى في حروبهم وفتوحهم،
وشهد لهم بذلك أعداؤهم، حتى قال مؤرخو الإفرنج: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. وقرأ زيد بن ثابت: ﴿ذَرِّية﴾ - بفتح الذال - وكذا في آل عمران، وأبان بن عثمان: ﴿ذَرِية﴾ - بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة - وعنه ﴿ذَرْية﴾ على وزن ضَرْبة.
١٣٤ - وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة، فقال: ﴿إِنَّ ما تُوعَدُونَ﴾ ـه من جزاء الآخرة بعد البعث ﴿لَآتٍ﴾ لا محالة ولا مرد له، فإن الله لا يخلف الميعاد ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ الله بهرب ولا منع مما يريد، ولا فائتين عما هو نازل بكم وواقع عليكم، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم، وهذا دليل قد ذكره الله تعالى في كتابه مرات كثيرة، وقد أنار العلم في هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء.
١٣٥ - ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ واثبتوا ﴿عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ وطريقتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم ﴿إِنِّي عامِلٌ﴾ وثابت على مكانتي وطريقتي التي رباني ربي عليها وهداني إليها، وأقامني عليها من الإسلام والمصابرة ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ بعد حين ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ﴾؛ أي: من تكون له العاقبة المحمودة التي يحمد عليها صاحبها في هذه الدار؛ أي: من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض ومن له الدرجات العلى في الآخرة.
وفي «الفتوحات» العاقبة المحمودة: هي الاستراحة واطمئنان الخاطر، وهذه حاصلة في الدار الآخرة التي هي الجنة، فحصلت المغايرة بين الظرف والمظروف، انتهت. ويحتمل أن يراد بعاقبة الدار مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب. وفي قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ﴾ ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم، وإن عاقبة الدار الحسنى هي له صلى الله عليه وسلم. قرأ أبو بكر: ﴿على مكاناتكم﴾ - على الجمع حيث وقع - فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع، ومن أفرد فعلى الجنس.
65
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿من يكون﴾ - بالتحتية - وقرأ الباقون ﴿تَكُونُ﴾ بالفوقية. قال صاحب «الكشاف»: ﴿اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ تحتمل وجهين: اعلموا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل: إذا أمر أن يثبت على حال: على مكانك يا فلان؛ أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إني عامل على مكانتي التي أنا عليها، والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، انتهى.
والضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ للشأن؛ أي: إن الشأن لا يفوز من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم؛ لكونهم المتصفين بالظلم، أي: لا يفوزون بفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق الله وحقوق أنفسهم، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل الله وحزبهم المفلحين من المؤمنين، انظر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به، ثم من سائر مشركي العرب، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب، فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس.. لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز، وانحصر الفوز في الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام، ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾.
الإعراب
﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)﴾.
﴿أَوَ﴾ (الهمزة): داخلة على محذوف تقديره أأنتم مثلهم، و ﴿الواو﴾: عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع
66
مبتدأ. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿مَيْتًا﴾: خبرها، وجملة ﴿كانَ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿فَأَحْيَيْناهُ﴾ (الفاء): عاطفة، ﴿أحييناه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿كانَ﴾. ﴿وَجَعَلْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أحيينا﴾. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق به، لأن ﴿جعل﴾ بمعنى خلق. ﴿نُورًا﴾: مفعول ﴿جعل﴾. ﴿يَمْشِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْشِي﴾. ﴿فِي النَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق به أيضا، وجملة ﴿يَمْشِي﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿نُورًا﴾. ﴿كَمَنْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع خبر ﴿مَنْ﴾ الموصولة في قوله: ﴿أَوَمَنْ كانَ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿مَثَلُهُ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾: جار ومجرور خبره، والجملة صلة الموصول. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على مَنْ. ﴿بِخارِجٍ﴾: خبرها، و (الباء): زائدة. ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ (خارج)، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا أعني قوله: ﴿فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ﴾ تقديره: تزيينا مثل تزيين الإيمان للمؤمنين. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور في محل نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل أعمال الكافرين مزينة لهم ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿لِلْكافِرِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿زُيِّنَ﴾.
﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، وجملة ﴿زُيِّنَ﴾ من الفعل المغير ونائب فاعله مستأنفة.
﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة. ﴿وكَذلِكَ﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل صناديد مكة أكابر فيها. ﴿جَعَلْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿زُيِّنَ﴾. ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾. ﴿أَكابِرَ﴾: مفعول ثان. ﴿مُجْرِمِيها﴾ مفعول أول لـ ﴿جعل﴾ منصوب بالياء، وقيل في
67
إعرابه غير ذلك كما مر في بحث التفسير. ﴿لِيَمْكُرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿فِيها﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لمكرهم فيها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية: ﴿يَمْكُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَمْكُرُونَ﴾. ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الضمير في ﴿يَمْكُرُونَ﴾.
﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾: على كونها فعل شرط لها. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ مستأنفة. ﴿لَنْ نُؤْمِنَ﴾ إلى قوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَنْ﴾: حرف نصب. ﴿نُؤْمِنَ﴾: منصوب بـ ﴿لَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قالُوا﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿نُؤْتى﴾: فعل مضارع مغير الصغية منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: لن نؤمن إلى إيتائنا مثل ما أوتي رسل الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نُؤْمِنَ﴾. مِثْلَ: مفعول ثان لـ ﴿نُؤْتى﴾؛ لأنه بمعنى أعطى، والأول كان نائب فاعل لها. ﴿مِثْلَ﴾: مضاف. ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. ﴿أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه، والمفعول الثاني لأتى محذوف تقديره: مثل ما أوتيه رسل الله، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿حَيْثُ﴾: في محل النصب مفعول به لفعل محذوف دل عليه ﴿أَعْلَمُ﴾ تقديره: يعلم حيث يجعل رسالته، والجملة المحذوفة في محل الرفع بدل من ﴿أَعْلَمُ﴾
68
على كونها خبر المبتدأ، وإنما قدرنا العامل لـ ﴿حَيْثُ﴾؛ لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به الصريح. ﴿يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول. ﴿أَجْرَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿صَغارٌ﴾: فاعل (يصيب)، وجملة (يصيب) مستأنفة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه صفة لـ صَغارٌ، أو متعلق به أو بـ (يصيب). وَعَذابٌ: معطوف على صَغارٌ. شَدِيدٌ: صفة لـ عَذابٌ. بِما: (الباء): حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية. كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة يَمْكُرُونَ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾، صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (الباء) تقديره: بسبب مكرهم، الجار والمجرور متعلق بـ (يصيب).
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)﴾.
﴿فَمَنْ﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن من كان ميتا فأحييناه ليس كمن مثله في الظلمات، وأردت بيان علامة هداية الله وعلامة إضلاله.. فأقول لك: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُرِدِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿أَنْ يَهْدِيَهُ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فمن يرد الله هدايته. ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ (من) الشرطية على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿لِلْإِسْلامِ﴾: متعلق بـ ﴿يَشْرَحْ﴾، وجملة (من) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو
69
هما. ﴿يُرِدِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿أَنْ يُضِلَّهُ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ومن يرد إضلاله. ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا﴾: فعل ومفعولان مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه جوابا لها. ﴿حَرَجًا﴾: صفة ﴿ضَيِّقًا﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿كَأَنَّما﴾ ﴿كأن﴾: حرف نصب وتشبيه، ولكن بطل عملها لدخول ﴿ما﴾ الكافة عليه. ﴿ما﴾ كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿يَصَّعَّدُ﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على من يرد إضلاله. ﴿فِي السَّماءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَصَّعَّدُ﴾، وجملة التشبيه إما مستأنفة، أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في ﴿ضَيِّقًا﴾. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل صدر من يرد إضلاله ضيقا. ﴿يَجْعَلُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الرِّجْسَ﴾: مفعول أول. ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني إن كان جعل بمعنى يصير، والتقدير: يصير الله الرجس مستعليا عليهم محيطا بهم، ومتعلق به إن كان بمعنى يلقي؛ لأنه يتعدى حينئذ إلى مفعول واحد، والمعنى كذلك يلقي الله العذاب على الذين لا يؤمنون. وجملة ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
﴿وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)﴾.
﴿وَهذا صِراطُ رَبِّكَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿مُسْتَقِيمًا﴾: حال من ﴿صِراطُ﴾، والعامل فيه اسم الإشارة باعتبار ما فيه من معنى الفعل، فإنه في معنى أشير، فهو على حد قول ابن مالك:
وعامل ضمّن معنى الفعل لا حروفه مؤخّرا لن يعملا
وهي حال مؤكدة لصاحبها لا مبينة؛ لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما. ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿فَصَّلْنَا﴾، وجملة ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
70
﴿لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)﴾.
﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿دارُ السَّلامِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافا بيانيا لا محل لها من الإعراب لوقوعها في جواب سؤال مقدر، كأن سائلا سأل عما أعد لهم؛ فقيل له ذلك، وفي «الفتوحات» يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، ويحتمل أن تكون حالا من فاعل ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾، ويحتمل أن تكون وصفا لقوم، وعلى هذين الوجهين؛ فيجوز أن يكون الحال، أو الوصف الجار والمجرور فقط، ويرتفع ﴿دارُ السَّلامِ﴾ بالفاعلية، وهذا عندهم أولى، لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة، والأصل في الوصف والحال والخبر الإفراد فما قرب إليه أولى. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه حال من ﴿دارُ﴾، والعامل فيها الاستقرار في ﴿لَهُمْ﴾ انتهت. ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿بِما﴾: (الباء): حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء الجار والمجرور متعلق بـ وَلِيُّهُمْ. كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يعملونه.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية. ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من الهاء، أو توكيد لها، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، والظرف متعلق بقول محذوف تقديره: ويوم يحشرهم جميعا يقول الله سبحانه وتعالى توبيخا لهم: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ...﴾ إلخ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ الْإِنْسِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب النداء.
﴿وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا﴾.
﴿وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ الْإِنْسِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿أَوْلِياؤُهُمْ﴾. ﴿رَبَّنَا...﴾ إلخ مقول محكي
71
لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مقول ﴿قالَ﴾. ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه. ﴿بِبَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿اسْتَمْتَعَ﴾، والجملة الفعلية جواب النداء. ﴿وَبَلَغْنا أَجَلَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَمْتَعَ﴾. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿أَجَلَنَا﴾. ﴿أَجَّلْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَنا﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أجلته لنا.
﴿قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿النَّارُ مَثْواكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿النَّارُ مَثْواكُمْ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿خالِدِينَ﴾: حال من الكاف في ﴿مَثْواكُمْ﴾، والعامل فيه فعل مقدر إن جعل (مثوى) اسم مكان؛ لأنه لا يعمل، أو هو نفسه إن جعل مصدرا بمعنى الإقامة، وعلى الثاني يكون في الكلام حذف مضاف ليصح الإخبار؛ أي: ذات إقامتكم، وتكون الكاف فاعلا بالمصدر ذكره في «الفتوحات». ﴿فِيها﴾: متعلق بـ ﴿خالِدِينَ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿ما﴾: اسم موصول، أو نكرة موصوفة بمعنى الزمن في محل النصب على الاستثناء. ﴿شاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما شاءه الله تعالى، والمستثنى منه محذوف تقديره: خالدين فيها في كل زمان إلا الزمن الذي شاء الله عدم خلودهم ومكثهم فيها، أو إلا زمنا شاء الله عدم مكثهم فيها. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿رَبَّكَ﴾: اسمها. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر أول لها. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: تولية مثل تمتيعنا الجن والإنس بعضهم ببعض. ﴿نُوَلِّي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة متسأنفة. ﴿بَعْضَ الظَّالِمِينَ﴾: مفعول أول ومضاف
72
إليه. ﴿بَعْضًا﴾: مفعول ثان. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُوَلِّي﴾: ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يكسبونه.
﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾.
﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ منادى مضاف. ﴿وَالْإِنْسِ﴾: معطوف على ﴿الْجِنِّ﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ويوم يحشرهم جميعا يقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التقريري التوبيخي، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. (يأت): فعل مضارع مجزوم بـ لَمْ، و (الكاف): مفعول به. ﴿رُسُلٌ﴾ فاعل. ﴿مِنْكُمْ﴾ صفة لـ ﴿رُسُلٌ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿يَقُصُّونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آياتِي﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿رُسُلٌ﴾، أو في محل النصب حال من ضمير ﴿مِنْكُمْ﴾ كما ذكره أبو البقاء؛ أي: من الضمير المستتر في الجار والمجرور. ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿لِقاءَ يَوْمِكُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه. ﴿هذا﴾: بدل من يَوْمِكُمْ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿يَقُصُّونَ﴾.
﴿قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك التوبيخ؟ فقيل: قالوا: ﴿شَهِدْنا...﴾ الخ. ﴿شَهِدْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿عَلى أَنْفُسِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِدْنا﴾. ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿الدُّنْيا﴾: صفة لـ ﴿الْحَياةُ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿قالُوا﴾، أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف الذي هو ﴿وَشَهِدُوا﴾، والمعطوف عليه الذي هو ﴿قالُوا﴾. ﴿وَشَهِدُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾:
73
متعلق به، والجملة معطوفة على ﴿قالُوا﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿كافِرِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وشهدوا على أنفسهم كونهم كافرين.
﴿ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)﴾.
﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: أنه. ﴿لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ﴾: جازم وفعل ناقص واسمه. ﴿مُهْلِكَ الْقُرى﴾: خبر كان ومضاف إليه. ﴿بِظُلْمٍ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رَبُّكَ﴾؛ أي: حالة كونه متلبسا بظلم، أو حال من الضمير في ﴿مُهْلِكَ﴾، أو حال من ﴿الْقُرى﴾؛ أي: متلبسة بذنوبها، أو متعلق بـ ﴿مُهْلِكَ﴾، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة تقديره: ذلك بسبب انتفاء كون ربك مهلك القرى. ﴿بِظُلْمٍ﴾: الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن بسبب كون ربك الخ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأَهْلُها غافِلُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْقُرى﴾.
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)﴾.
﴿وَلِكُلٍّ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿دَرَجاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿دَرَجاتٌ﴾؛ أي: درجات كائنة مما عملوا. ﴿عَمِلُوا﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما عملوه. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية أو عاطفة ﴿ما﴾: حجازية. ﴿رَبُّكَ﴾: اسمها. ﴿بِغافِلٍ﴾: خبرها و (الباء): زائدة. ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بِغافِلٍ﴾. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يعملونه، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ﴾.
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ﴾.
74
﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْغَنِيُّ﴾: خبر أول. ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة، ويجوز أن يكون ﴿رَبُّكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾: وصفان له، ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ وما بعده هو الخبر كما ذكره الكرخي. إِنْ: حرف شرط جازم. ﴿يَشَأْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة إِنْ الشرطية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر ﴿رَبُّكَ﴾ ﴿وَيَسْتَخْلِفْ﴾: فعل مضارع معطوف على (يذهب)، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ بَعْدِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَسْتَخْلِفْ﴾ ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول يستخلف. ﴿يَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة. لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاؤه.
﴿كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾.
﴿كَما﴾ (الكاف): حرف جر وتشبيه، ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أنشأ﴾. ﴿آخَرِينَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كإنشائه إياكم من ذرية قوم آخرين، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ويستخلف من بعدكم، وينشىء إنشاء كإنشائه إياكم من ذرية قوم آخرين؛ لأن استخلف هنا بمعنى: أنشأ وأوجد.
﴿إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب اسم ﴿إِنَّ﴾. ﴿تُوعَدُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إن ما توعدونه. ﴿لَآتٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿آت﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص نظير قاض
75
وداع، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. وما: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية. ﴿أَنْتُمْ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾: خبرها، والباء زائدة، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. يا قَوْمِ اعْمَلُوا إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿اعْمَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿عَلى مَكانَتِكُمْ﴾: جار ومجرور حال من واو ﴿اعْمَلُوا﴾، أو متعلق به. ﴿إِنِّي﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و (الياء): اسمها. ﴿عامِلٌ﴾: خبرها، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَسَوْفَ﴾: (الفاء): تعليلية، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأوردتم بيان من له العاقبة.. فأقول لكم، ﴿سوف﴾: حرف تنفيس للاستقبال البعيد؛ لتأكيد مضمون الجملة، ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، وهي عرفانية تتعدى لمفعول واحد. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية معللة لما قبلها، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص. ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿عاقِبَةُ الدَّارِ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ صلة الموصولة، والتقدير: فسوف تعلمون الفريق الذي له عاقبة الدار. إِنَّهُ ﴿إن﴾: حرف نصب، والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها، وجملة ﴿لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ في محل الرفع خبرها، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: وما عاقبتهم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿كَمَنْ مَثَلُهُ﴾ المثل: الصفة والنعت، والظلمات جمع ظلمة؛ وهي ضد النور، وجمعها هنا؛ لأن المراد بها ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة كما مر.
76
﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها﴾ أكابر جمع أكبر، أو كبير غير منصرف؛ لأنه على زنة مفاعل، والمجرمون فاعلوا الإجرام، والإجرام هو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال. والقرية (١): البلد الجامع للناس - العاصمة في عرف هذا العصر - وقد تطلق بمعنى الشعب أو الأمة، ويراد فيها البلد في إصطلاح هذا العصر، فيقولون: ثروة البلد مصلحة البلد، ويريدون الأمة.
﴿لِيَمْكُرُوا فِيها﴾ المكر: صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة في الفعل، أو الخلابة في القول، وقال أبو عبيدة (٢): المكر الخديعة، والحيلة، والفجور والغدر والخلاف.
﴿صَغارٌ﴾: الصّغار (٣) والصّغر - بفتحتين -: الذلّ والهوان، جزاء الكفر والطغيان، والصغار: قلة في الأمور المعنوية، والصغر: - بزنة عنب - قلة في الأمور الحسية، والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنية، يقال فيه (٤): صغر ككرم كما في «القاموس» وصغر كتعب كما في «المصباح» والمصدر صغر كعنب، وصغر كقفل، وصغار كسحاب، والصغر ضد الكبر، يقال فيه: صغر - بالضم - فهو صغير، وصغر كفرح صغرا كعنب، وصغرا كشجر، وصغرانا كعثمان.
﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ يقال (٥): شرح الله صدره فانشرح؛ أي: وسعه لقبول الإيمان والخير فوسع، وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر.. مال بطبعه إليه، وقويت رغبته فيه، فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر، وقيل: الشرح: الفتح والبيان، يقال: شرح الله لفلان أمره إذا أوضحه وأظهره، وشرح المسألة إذا كانت مشكلة وأوضحها وبينها، فقد ثبت أن للشرح معنيين:
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير.
(٣) المراغي.
(٤) الفتوحات.
(٥) الفتوحات.
77
أحدهما: الفتح ومنه يقال: شرح الكافر بالكفر صدرا؛ أي: فتحه لقبوله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ وقوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ﴾ يعني فتحه ووسعه لقبوله.
والثاني: أن الشرح نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد، فيعرف بذلك النور الحق فيقبله، وينشرح صدره له ذكره في «الفتوحات».
﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ والضيق بالتشديد والتخفيف لغتان فيه كهين وهين ضد الواسع، وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضيقا كقوله تعالى: ﴿وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ يقال: ضاق يضيق ضيقا، وضيقا - بفتح الضاد وكسرها - ففي جعله مصدرا يجيء فيه الأوجه الثلاثة: في المصدر الواقع وصفا لجثة نحو رجل عدل، وهي حذف مضاف، أو المبالغة، أو وقوعه موقع اسم الفاعل؛ أي:
يجعل صدره ذا ضيق، أو ضائقا، أو نفس الضيق مبالغة.
وقولنا فيه بالتخفيف؛ أي: تخفيف الياء بحذف الياء الثانية التي هي عين الكلمة، فيصير وزنه فيلا بوزن ضربا، وقولنا بالتشديد؛ أي: تشديد الياء، ووزنه فيعل كهين وميت، وفي «السمين» وإذا قلنا: إنه مخفف من المشدد، فهل المحذوف الياء الأولى أو الثانية؟ فيه خلاف.
حرجا وحرجا - بفتح الراء وكسرها - هو المتزايد في الضيق؛ أي: شديد الضيق، فهو أخص من الأول، فكل حرج ضيق من غير عكس، وعلى هذا فالمكسور والمفتوح بمعنى واحد مأخوذ من الحرجة؛ وهي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث يصعب الدخول فيه. روي (١) أن عمر - رضي الله عنهه - سأل أعرابيا من بني مدلج عن الحرجة، فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
﴿الرِّجْسَ﴾ كل ما يستقذر حسا أو عقلا أو شرعا، أو هو ما لا خير فيه، أو
(١) المراغي.
78
اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
﴿صِراطُ رَبِّكَ﴾؛ أي: طريقه الذي ارتضاه وسنته التي اقضتها حكمته، والمستقيم ما لا إعوجاج فيه ولا زيغ.
﴿دارُ السَّلامِ﴾ هي الجنة، أو هي دار السلامة من المنغصات والكروب.
﴿وَلِيُّهُمْ﴾؛ أي: متولي أمورهم وكافيهم كل ما يهمهم.
﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ المعشر والنفر والقوم والرهط الجمع من الرجال فحسب، ولا واحد لها من لفظها. وقال الليث: المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين، ومعشر الكافرين، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية، ويجمع (١) على معاشر كما ورد: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»، وقال الأفوه:
فينا معاشر لم يبنوا لقومهم وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
﴿اسْتَكْثَرْتُمْ﴾ يقال: استكثر من الشيء إذا أخذ الكثير منه يقال: استكثر من الطعام أكل كثيرا، وهو من استفعل، ثلاثيه كثر. وقال ابن (٢) عباس ومجاهد وقتادة: أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم.
﴿وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ﴾ وأولياؤهم هم الذين تولوهم؛ أي: أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام. ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا﴾ استمتع من باب استفعل ثلاثيه متع، والاستمتاع بالشيء جعله متاعا، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا، وإن كان قليلا. ﴿وَبَلَغْنا أَجَلَنَا﴾؛ أي: وصلنا يوم البعث والجزاء.
﴿النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها﴾ المثوى مكان الثواء؛ أي: الإقامة والسكنى، أو مصدر ميمي بمعنى الثواء والإقامة، والخلود المكث الطويل غير المؤقت بوقت ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي﴾ وفي «المصباح» وقصصت الخبر قصا من باب رد حدثته
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
79
على وجهه، والاسم القصص - بفتحتين - انتهى. فهو من المضاعف المعدى، فقياسه ضم عين مضارعه.
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾؛ أي: يهلككم من أذهب الرباعي بمعنى أهلك وأعدم.
﴿يَسْتَخْلِفْ﴾؛ أي: ينشيىء الذرية والنسل من استخلف بمعنى يخلف، فالسين والتاء زائدتان.
﴿بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي: جاعلي من طلبكم عاجزا غير قادر على إدراككم.
﴿عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ المكانة الحالة التي هم عليها، واختلف في ميم مكان ومكانة، فقيل هي أصلية، وهما من مكن يمكن من باب كرم يقال: مكن مكانة عند الأمير ارتفع وصار ذا منزلة، وقيل: هي زائدة، وهما من الكون، فالمعنى على الأول: اعملوا على ممكنتكم من أمركم وأقصى استطاعتكم، فالمكانة مصدر، وعلى الثاني: اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، وعلى هذا تكون الميم زائدة، فيكون كل من المكان والمكانة مفعلا ومفعلة من الكون. ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ﴾ والدار هي الدنيا، والمراد بالعاقبة عاقبة الخير إذ لا اعتداد بعاقبة الشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها، وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن العاقبة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا﴾؛ لأنه استعار الموت للكفر، فاشتق منه ميتا بمعنى كافرا، وفي قوله: ﴿فَأَحْيَيْناهُ﴾؛ لأنه استعار الحياة للإيمان، وفي قوله: ﴿نُورًا﴾؛ لأنه استعار النور للهداية، وفي قوله: ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾؛ لأنه استعار الظلمة للضلال.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا﴾.
80
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿مَيْتًا﴾ وقوله: ﴿فَأَحْيَيْناهُ﴾، وبين قوله: ﴿نُورًا﴾ وقوله: ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿كَذلِكَ زُيِّنَ﴾، وقوله: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ﴾؛ لأن الشرح كناية عن قبول النفس للحق والهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الطباق بين لفظي: الشرح والضيق.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿حَرَجًا﴾ لأنه تأكيد لـ ﴿ضَيِّقًا﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ﴾؛ لأنه شبه حال من جعل الله صدره ضيقا حرجا عن الإيمان بحال من يكلف نفسه بالصعود إلى السماء المظلمة، أو إلى مكان مرتفع وعر كالعقبة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَهذا صِراطُ رَبِّكَ﴾؛ لأنه استعار الصراط بمعنى الطريق لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الإضافة للتشريف، في قوله: ﴿لَهُمْ دارُ السَّلامِ﴾ إذا كان السلام من أسمائه تعالى.
ومنها: الظرفية المجازية في قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الدالة على شرف الرتبة في المنزلة.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾؛ أي: أفرطتم في إغواء وإضلال الإنس، وفي قوله: ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ﴾؛ أي: استمتع
81
بعض الإنس ببعض الجن، وبعض الجن ببعض الإنس.
ومنها: تعريف الطرفين لإفادة الحصر في قوله: ﴿النَّارُ مَثْواكُمْ﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري التوبيخي في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾.
ومنها: تعويض التنوين عن المحذوف في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ﴾؛ أي لكل العاملين.
ومنها: دخول إن واللام على الجملة الاسمية للتأكيد، في قوله: ﴿إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ﴾؛ لأن المخاطبين منكرون للبعث، فلذا أكد الخبر بمؤكدين.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿اعْمَلُوا﴾ و ﴿عامِلٌ﴾ في قوله: ﴿قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ﴾.
ومنها: التهديد والوعيد (١) في قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ كقوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ﴾ وقوله: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ وقال الشاعر:
إذا ما التقينا والتقى الرّسل بيننا فسوف ترى يا عمرو ما الله صانع
وقال آخر:
ستعلم ليلى أيّ دين تداينت وأيّ غريم للتّقاضي غريمها
ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
(١) البحر المحيط بتصرف.
82
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح (١) طريقة
(١) البحر المحيط.
83
مشركي العرب في إنكارهم البعث.. ذكر أنواعا من جهالاتهم تنبيها على ضعف عقولهم، وفي قوله: ﴿مِمَّا ذَرَأَ﴾ أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود، وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيبا، والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلا أن تخلق شيئا أو تنميه.
وعبارة «المراغي» هنا: بعد أن (١) حاجّ الله سبحانه وتعالى المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين، وكان آخرها البعث والجزاء.. ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام، والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية، والخرافات الوثنية، انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله.. أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافا، فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا، واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين.
وعبارة «المراغي» هنا: علمت (٣) فيما سلف أن أصول الدين التي عني الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة هي التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر، وقد بالغ سبحانه وتعالى في تقرير هذه الأصول، وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة في التحليل والتحريم تنبيها على ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من اتباع آرائهم والسير على أهوائهم.
قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (٤) سبحانه وتعالى لما أمر بالأكل من ثماره، وبإيتاء حقه.. نهى
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
84
عن مجاوزة الحد، فقال: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها للزكاة، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا، وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال، فيبقى هو وعياله كلا على الناس.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أخرج (١) ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في هذه الآية أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة.
قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ أخرج ابن أبي شيبة (٢)، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي العالية قال: ما كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة، ثم إنهم تباذروا وأسرفوا، فأنزل الله: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.
وأخرج ابن جرير (٣) وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلا، فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى، وليس له ثمرة، فأنزل الله: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن إسرافا، ولو أنفقت صاعا في معصية الله كان إسرافا.
التفسير وأوجه القراءة
١٣٦ - ﴿وَجَعَلُوا﴾؛ أي: وعين شركاء مكة وغيرهم ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿مِمَّا ذَرَأَ﴾؛ أي: مما خلق الله سبحانه وتعالى وحده ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾؛ أي: من حبوب الزرع وكذا من ثمار الأشجار ﴿وَ﴾ من نتاج ﴿الْأَنْعامِ﴾ وهي الإبل والبقر
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) لباب النقول والشوكاني.
85
والغنم، ومن سائر أموالهم ﴿نَصِيبًا﴾؛ أي: حظا وقسما معينا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وجعلوا نصيبا من ذلك لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام ينفقونه على سدنتها، وفي قرابين يذبحون عندها، دل (١) على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد، وهو قوله: ﴿هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا﴾. ﴿فَقالُوا﴾ في النصيب الأول ﴿هذا لِلَّهِ﴾؛ أي: نتقرب به إليه ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾؛ أي: بكذبهم وافترائهم على الله تعالى متعلق بـ ﴿قالوا﴾، وإنما نسبوا (٢) للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله؛ لأن هذا الجعل لم يأمرهم الله به، فهو مجرد اختراع منهم ﴿وَ﴾ قالوا في النصيب الثاني ﴿هذا لِشُرَكائِنا﴾؛ أي: لمعبوداتنا نتقرب به إليها. ومعنى قوله: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾؛ أي: بقولهم الذي لا بينة لهم عليه، ولا هدي من الله إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه، وأن يكون بإذنه لأنه دين والدين لله ومن الله وحده، فهذا زعم مخترع لا دين مشترع، فيكون باطلا.
وقد روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب الهتهم لسدنتها وقرابينها، وما ينفق على معابدها، ثم (٣) إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم، فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها، فلم يصرفوه للمساكين، بل يصرفونه للسدنة، وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم، ولم يأكلوا منه، وإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله، ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها، وإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء مما جعلوه للأصنام في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير.
وقرأ الكسائي ويحيى بن وثاب والسلمي والأعمش (٤): ﴿بزعمهم﴾: - بضم الزاي - وهي لغة بني أسد، وقرأ الباقون بفتحها؛ وهي لغة أهل الحجاز وهما
(١) زاده.
(٢) بيضاوي.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط والشوكاني.
86
مصدران. وقيل: الفتح في المصدر، والضم في الاسم، وقرأ ابن أبي عبلة: بفتح الزاي والعين فيهما، والكسر لغة لبعض قيس وتميم، ولم يقرأ به.
﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ﴾؛ أي: فيما عينوه لشركائهم وآلهتهم ﴿فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها ﴿وَما كانَ لِلَّهِ﴾؛ أي: وما عينوه وجعلوه له - سبحانه وتعالى - ﴿فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ﴾؛ أي: يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها للتقرب به إليها ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾؛ أي: قبح الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه، أو قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شيء على الخالق القادر على كل شيء، وبعملهم شيئا لم يشرعه الله.
وللقبح وجوه متعددة منها:
١ - أنه اعتداء على الله بالتشريع، وهو لم يأذن لهم فيه.
٢ - الشرك في عبادته تعالى، ولا ينبغي أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه.
٣ - ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم.
٤ - أن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع.
١٣٧ - ثم ذكر سبحانه وتعالى من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال: ﴿وَكَذلِكَ﴾؛ أي: ومثل تزيين قسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله وآلهتهم، وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ﴾ بوأد إناثهم ونحر ذكورهم ﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾؛ أي: أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة؛ أي: زين لكثير من المشركين شركاؤهم - سدنة الآلهة وخدمها - أن يقتلوا أولادهم.
وكان مصدر هذا التنزيين وجوها مختلفة منها:
١ - اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله:
87
﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ وأشاء إلى الثاني بقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾.
٢ - اتقاء العار بوأد البنات؛ أي: بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكن سببا للعار أو السباء، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن في الشرف.
٣ - التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، فقد كان الرجل في الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما.. لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب في قصص طويل أشار إليه النبي ﷺ بقوله: «أنا ابن الذبيحين».
وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس - كالسدنة - أو شياطين الجن شركاء، وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء؛ لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم، ولا يكون ذلك إلا لله سماهم شركاء كما قال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿زَيَّنَ﴾ - مبنيا للفاعل - و ﴿قَتْلَ﴾ - نصبا على المفعولية - و ﴿أَوْلادِهِمْ﴾ - خفضا بالإضافة - و ﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾ - رفعا على الفاعل - والمعنى؛ أي: وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم، فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي، وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور.. لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله.
وقرأ ابن عامر وحده: ﴿زين﴾ - مبنيا للمفعول - و ﴿قتل﴾ - رفعا على النيابة عن الفاعل - و ﴿أولادهم﴾ - نصبا على المفعولية - و ﴿شركائهم﴾ - خفضا على إضافة المصدر إلى فاعله - والمعنى؛ أي: وزين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. وهذه القراءة متواترة صحيحة، ولا عبرة بقول ابن عطية: وهذه قراءة ضعيفة في لسان العرب، فقد قرأ ابن عامر على أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة المخزومي، وقرأ أيضا على
(١) المراح.
88
عثمان، وولد هو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأت فرقة (١)، منهم السلمي والحسن وأبو عبيد الملك - قاضي الجند وصاحب ابن عامر -: ﴿زين﴾ - مبنيا للمفعول - و ﴿قتل﴾ مرفوعا مضافا إلى ﴿أولادهم﴾، ﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾ مرفوعا على إضمار فعل؛ أي: زينه شركاؤهم هكذا أخرجه سيبويه. أو فاعلا بالمصدر؛ أي: قتل أولادهم شركاؤهم هكذا خرجه قطرب. فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما كان كذلك في القراءة الأولى، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون، ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين، وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت فرقة من أهل الشام، ورويت عن ابن عامر: ﴿زين﴾ - بكسر الزاي وسكون الياء - على أنه فعل ماض مبني للمفعول على وزن قيل وبيع و ﴿قتل﴾ مرفوع على ما لم يسم فاعله و ﴿أولادهم﴾ بالنصب، و ﴿شركائهم﴾ بالخفض غاية ما في هذه القراءة أنه من زان الثلاثي، وبني للمفعول فأعل كبيع، فهي جارية على القراءة الأولى من الفصل بالمفعول.
ثم ذكر سبحانه وتعالى علة تزيين المنكرات لهم فقال: ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾؛ أي: أنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم ويهلكوهم بالإغواء والإضلال ﴿وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾؛ أي: وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام، ويفسدوا عليهم فطرتهم، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية، فينحر الوالد ولده، ويدفن بنته الضعيفة بيده، وهي حية؛ أي: زينوا لهم ليضلوهم وليدخلوا عليهم الشك في دينهم.
والدين (٢) الذي لبّسوه وخلطوه عليهم هو ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه، فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
89
وقرأ النخعي (١): ﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾ - بفتح الياء - قال أبو الفتح استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة، واللام متعلقة بـ ﴿زَيَّنَ﴾، فهي على حقيقة التعليل إن كان التزيين من الشياطين، وعلى معنى الصيرورة إن كان من السدنة. ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى عدم قتلهم أولادهم ﴿ما فَعَلُوهُ﴾؛ أي: ما فعل كثير من المشركين قتل الأولاد بدفن البنات في حياتها، وبنحر الأولاد الذكور للأصنام ﴿فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: إذا عرفت يا محمد ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: اتركهم وافتراءهم وكذبهم في قولهم: إن الله يأمرهم بقتل أولادهم، أو فذرهم وما يختلقون من الإفك على الله والأحكام التي يشرعونها، وهو أمر تهديد ووعيد؛ أي (٢): ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة، فلا يؤثر فيه إغواء، ولا تجدي فيهم وسوسة لفعل، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء، وما يشاهدون من المحسوسات، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله، ومن ثم يؤثر في نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة، والناس يتفاوتون في هذا جدّ التفاوت، فلا يمكن أن يكونوا على رأي واحد، أو دين واحد، فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع وما يفترون من عقائد، وعليك بما أمرت به من التبليغ والله هو الذي يتولى أمرهم، وله سنن في هداية خلقه لا تتبدل، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل، ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال:
١٣٨ - ﴿وَقالُوا﴾؛ أي: وقال المشركون الذين قسموا نصيب آلهتهم أقساما ثلاثة: ﴿هذِهِ﴾؛ أي: القرابين التي جعلناها للآلهة ﴿أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾؛ أي: زروع ﴿حِجْرٌ﴾؛ أي: محرمة ﴿لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ﴾؛ أي: لا يأكل هذه الأنعام والحرث إلا خدمة الأوثان والرجال دون النساء ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾؛ أي: قالوا ما ذكر متلبسين بكذبهم، ومن غير حجة ﴿وَ﴾ هذه ﴿أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها﴾؛ أي:
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
90
ركوبها والحمل عليها، وهي البحائر والسوائب والحوامي والوصائل ﴿وَ﴾ هذه ﴿أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ إذا ركبت أو حملت أو ذبحت، ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله تعالى ﴿افْتِراءً﴾ وكذبا ﴿عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى حيث قالوا: إن الله تعالى أمرنا بهذا التقسيم، وهذا إما مفعول له، وعامله: ﴿قالُوا﴾، أو حال من ضميره، أو مصدر مؤكد له؛ لأن قولهم ذلك هو الافتراء ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ويعاقبهم ﴿بِما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ـه ويختلقون عليه؛ أي: أن الله سيكافؤهم بسبب تقولهم عليه وكذبهم، وقرأ أبان بن عثمان: ﴿نعم﴾ على الإفراد. وقرأ الجمهور: ﴿حِجْرٌ﴾ - بكسر الحاء وسكون الجيم -. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم، وقال القرطبي قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وسكون الجيم، وعن الحسن أيضا: ﴿حجر﴾ - بضم الحاء -. وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم. وقال هارون كان الحسن يضم الحاء من ﴿حجر﴾ حيث وقع إلا ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ فيكسرها. وقرأ أبي وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمة وعمرو بن دينار والأعمش: ﴿حرج﴾ - بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها - وحرج على القلب معناه: معنى حجر، أو من الحرج، وهو التضييق. ذكره أبو حيان في «البحر». أي: أنهم (١) لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزروعهم أقساما ثلاثة:
١ - أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم، وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها، ويقولون: هي حجر؛ أي: محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم، وقوله: ﴿لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ﴾؛ أي: لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء، وقوله: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾؛ أي:
بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان.
٢ - أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها. قال السدي: هي البحيرة وما ذكر معها في قوله تعالى: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ...﴾ الآية.
(١) المراغي.
91
٣ - أنعام لا يذكورن اسم الله عليها في الذبح، بل يهلون بها لآلهتهم وحدها، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها، ولا يلبون على ظهرها ﴿افْتِراءً عَلَيْهِ﴾؛ أي: أنهم قسموا هذا التقسيم، وجعلوه من أحكام الدين، ونسبوه إلى الله افتراء عليه، واختلاقا له، والله منه بريء فهو لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله كما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)﴾.
﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ الجزاء (١) الذي يستحقونه، وينكل بهم شر النكال ﴿بِما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: بسبب هذا الافتراء القبيح،
١٣٩ - ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم في التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم وقلة عقلهم فقال: ﴿وَقالُوا﴾؛ أي: وقال مشركوا مكة وغيرهم: ﴿ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ﴾؛ أي: ما ولد من هذه البحائر والسوائب حيا ﴿خالِصَةٌ لِذُكُورِنا﴾؛ أي: حلال لذكورنا خاصة، والهاء في ﴿خالِصَةٌ﴾ للمبالغة في الخلوص ﴿وَمُحَرَّمٌ عَلى﴾ جنس ﴿أَزْواجِنا﴾ وهي الإناث، فيدخل فيه البنات والأخوات ونحوهن ﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ﴾؛ أي: ذكورهم وإناثهم ﴿فِيهِ شُرَكاءُ﴾؛ أي: وإن يكن الذي في بطون الأنعام ميتة.. فهم فيه؛ أي: في الذي في البطون شركاء يأكل منه الذكور والإناث؛ أي: وما ولد منها ميتا أكله الرجال والنساء جميعا ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿وَصْفَهُمْ﴾ لما في بطونها بالتحليل والتحريم والتخصيص والاشتراك من قوله: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾؛ أي: سيوصل الله لهم جزاء ذنوبهم وهو وصفهم له بالتحليل والتحريم، فالواصف بذلك أولا عمرو بن لحي، وقد رآه النبي ﷺ يجر قصبه في النار، وكان يعلمهم تحريم الأنعام ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه ﴿عَلِيمٌ﴾ بخلقه، وهذه الجملة تعليل لمجازاته إياهم؛ أي: فمن أجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم.
قوله: ﴿وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ﴾؛ المراد (٢) بالأنعام هنا البحائر؛
(١) المراح.
(٢) المراغي.
92
أي: المشقوقة الآذان، والسوائب التي تسيب وتترك للآلهة، فلا يتعرض لها أحد، وكانوا يجعلون لبنها للذكور، ويحرمونه على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا كان ميتة اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج.
قوله: ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾؛ أي: سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم؛ لأن حكمته تعالى في الخلق وعلمه بشؤونهم جعلت عقابهم عين ما يقضيه وصفهم ونعتهم الروحي؛ إذ لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين سواء أكان في أعلى عليين، أم في أسفل سافلين.
والخلاصة: أن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل، وقيل: المعنى سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...﴾ الآية.
وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة (١): ﴿خالص﴾ - بالرفع بغير تاء - وهو خبر ﴿ما﴾؛ و ﴿لِذُكُورِنا﴾ متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني: ﴿خالصا﴾ - بالنصب بغير تاء - وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة، أو على الحال من ﴿ما﴾ على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا نحو:
(زيد قائما في الدار) وخبر ﴿ما﴾ على هذه القراءة هو ﴿لِذُكُورِنا﴾.
وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضا: ﴿خالصة﴾ - بالنصب - وإعرابها كإعراب خالصا بالنصب، وخرج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضا وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري: ﴿خالصه﴾ بالإضافة إلى الضمير، وهو بدل من ﴿ما﴾، أو مبتدأ خبره
(١) البحر المحيط.
93
﴿لِذُكُورِنا﴾، والجملة خبر ﴿ما﴾. وقرأ الجمهور: ﴿خالِصَةٌ﴾ - بالرفع بالتاء - وقرأ أبو بكر (١): ﴿وإن تكن﴾ - بتاء التأنيث - ﴿مَيْتَةً﴾ بالنصب؛ أي: وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرأ ابن كثير: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً﴾ - بالتذكير وبالرفع - على أنه من كان التامة، وقال الزمخشري: وقرأ أهل مكة: وإن تكن ميتة - بالتأنيث والرفع - انتهى. فإن عنى ابن كثير فهو وهم، وإن عنى غيره من أهل مكة، فيمكن أن يكون نقلا صحيحا، وهذه القراءة التي عزاها لأهل مكة هي قراءة ابن عامر. وقرأ باقي السبعة: ﴿وَإِنْ يَكُنْ﴾ - بالتذكير - ﴿مَيْتَةً﴾ - بالنصب - على تقدير: وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرأ يزيد: ﴿ميّتة﴾ - بالتشديد -، وقرأ عبد الله: ﴿فهم فيه سواء﴾.
١٤٠ - ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ﴾ بالوأد للبنات وبالنحر للذكور؛ أي: قد خسروا في الدنيا باعتبار السعي في نقص عددهم، وإزالة ما أنعم الله به عليهم، وفي الآخرة باستحقاق العذاب الأليم، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لقد خسروا في الدنيا والآخرة ﴿سَفَهًا﴾؛ أي: قتلوهم لأجل السفه والحمق، وقلة العقل ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أي: بغير حجة ولا إذن من الله، وهم ربيعة ومضر، وأمثالهم من العرب، وبنو كنانة لا يفعلون ذلك. وسبب هذا الخسران؛ لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد، فإذا سعى في إبطاله استحق الذم العظيم في الدنيا؛ لأن الناس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه، والعقاب العظيم في الآخرة وسببه خفة العقل؛ لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر، والقتل أعظم ضررا منه، والقتل ناجز، والفقر موهوم، وهذه السفاهة إنما نشأت من الجهل الذي هو أعظم المنكرات.
وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام، ومنهما ابن كثير وابن عامر: ﴿قتّلوا﴾ - بالتشديد -. وقرأ اليماني: ﴿سفهاء﴾ - بصيغة الجمع -. ﴿وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب، وهو معطوف على ﴿قَتَلُوا﴾، فهو صلة ثانية ﴿افْتِراءً﴾ وكذبا ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ تعالى بنسبة ذلك إليه تعالى
(١) البحر المحيط.
94
﴿قَدْ ضَلُّوا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ضلوا وأخطؤوا بهذه الافعال عن الصراط المستقيم ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى الحق بعد ضلالهم، فعلم أن فائدته بعد قوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ أنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى، كما ذكره الكرخي، فإن تحريم الحلال من أعظم أنواع الحماقة؛ لأنه يمنع نفسه تلك المنافع، ويستحق بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العقاب، أو أن الجرأة بالافتراء أعظم الذنوب، وهم قد ضلوا عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا، ولم يحصل لهم الاهتداء قط.
والحاصل (١): أن الله سبحانه وتعالى أنكر على مشركي العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم، وحكم فيهم حكما عدلا وهما:
١ - قتل أولادهم ووأد بناتهم، وبذلك خسروا خسرانا مبينا، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة، والبر والصلة، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها، واستبدال القسوة والغلظة بها إلى نحو أولئك من مساوي الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا، وبها يحل العقاب في الآخرة.
٢ - تحريم ما رزقهم الله من الطيبات، وإيضاح هذا: أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على من فعل هذين الجرمين بالخسران والسفاهة، وعدم العلم والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء.
أما الخسران: فلأن الولد نعمة من الله على العبد، فإذا سعى العبد في زوالها.. فقد خسر خسرانا عظيما؛ إذ هو قد استحق الذم في الدنيا، وقال الناس فيه: إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه، والعقاب في الآخرة؛ لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس إليه محبة.
وأما السفاهة: وهي اضطراب النفس وحماقتها، فلأنه أقدم على ضرر محقق، وهو القتل خوفا من ضرر موهوم، وهو الفقر كما مر.
(١) المراغي.
95
وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح، فذلك من أقبح القبائح والمنكرات، وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرب به إليه، وهو جرأة عليه، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأما الضلال المبين فلأنهم لم يهتدوا إلى مصالح الدين، ولا منافع الدنيا، وأما عدم الاهتداء إلى شيء من الحق والصواب فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل، ولا بهدي الشرع في منافع الدنيا وسعادة الآخرة.
وفائدة قوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط، والإنسان أحيانا قد يضل ثم يهتدي، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمئة من سورة الأنعام: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا﴾ إلى قوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه.
١٤١ - ﴿وَهُوَ﴾ - سبحانه وتعالى - ربكم ﴿الَّذِي أَنْشَأَ﴾ وأوجد وابتدع لكم ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين من الكروم ﴿مَعْرُوشاتٍ﴾؛ أي: مسموكات مرفوعات على العرش والسرير ﴿وَ﴾ جنات ﴿غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾؛ أي: متروكات على وجه الأرض لم تعرش، يقال: عرشت الكرم إذا جعلت لها دعائم وسمكا تعطف عليه القطبان، واختلفوا في معنى قوله: ﴿مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾ على أربعة (١) أقوال:
أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرش كالكرم والقرع والبطيخ، وغير معروشات ما قام على ساق كالنخل والزرع وسائر الأشجار.
والثاني: أن المعروشات ما أنبته الناس، وغير معروشات ما خرج في
(١) زاد المسير.
96
البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أن المعروشات وغير المعروشات الكرم منه ما عرش ومنه ما لم يعرش. قاله الضحاك.
والرابع: أن المعروشات الكروم التي قد عرش عنبها، وغير المعروشات سائر الشجر التي لا تعرش. قاله أبو عبيدة.
﴿وَ﴾ أنشأ ﴿النَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ عطف على ﴿جَنَّاتٍ﴾ وإنما (١) أفردهما مع أنهما داخلان في الجنات؛ لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات، والمراد بـ ﴿الزَّرْعَ﴾ جميع الحبوب التي يقتات بها، وتدخر حالة كون كل من النخل والزرع ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾؛ أي: مختلف المأكول منهما، وهو ثمرهما في الهيئة والطعم، واللون والرائحة، والجودة والرداءة، وهو حال مقدرة؛ لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا، أو متفقا، وهو مثل قولهم، مررت برجل معه صقر صائدا به غدا؛ أي: مقدرا للصيد به غدا.
﴿وَالنَّخْلَ﴾ (٢) وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة، ولا سيما للعرب، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، ومن أيسرها تناولا في السفر والحضر، ولا يحتاج إلى طبخ ولا إلى معالجة، ونواه علف لرواحلهم، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ في الماء قليلا إلى ما في خوصه وليفه من الفوائد والمنافع، وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا، وأشبهه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه.
﴿وَالزَّرْعَ﴾ وهو النبات الذي يكون بحرث الناس يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير، وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي التي عليها المعول في الاقتيات.
(١) زاده.
(٢) المراغي.
97
﴿وَهو﴾ سبحانه وتعالى الذي أنشأ، وخلق لكم ﴿الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾؛ أي: شجرهما معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾ حالة كون كل منهما ﴿مُتَشابِهًا﴾ ورقهما ﴿وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ ثمرها في الجنس والطعم، أو يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم، ولا يتشابه بعضها ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾ قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم: ﴿من ثُمُره﴾ وقرأ الباقون بفتحهما؛ أي: كلوا أيها العباد من ثمر كل منهما، أو من ثمر ذلك المذكور كله ﴿إِذا أَثْمَرَ﴾، وإن لم يدرك ويينع؛ أي: كلوا من ثمره إذا حصل منه ثمر، وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد، والأمر فيه أمر إباحة.
لما ذكر (١) الله سبحانه وتعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع من الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي، وهو الانتفاع، فقال تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ﴾ وهذا أمر إباحة كما مر آنفا، وتمسك بهذا بعضهم، فقال: الأمر قد يرد إلى غير الوجوب؛ لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحرج، وقال بعضهم: المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق؛ لأنه تعالى لما أوجب الزكاة في الحبوب والثمار.. كان يحتمل أن يحرم على المالك أن يأكل منها شيئا قبل إخراج الواجب فيها لمكان شركة الفقراء والمساكين معه، فأباح الله أن يأكل قبل إخراجه؛ لأن رعاية حق النفس مقدمة على رعاية حق الغير، وقيل: إنما قال تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ﴾ بصيغة الأمر، ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء التي أنعم الله بها على عباده هو الأكل.
وخلاصة ما سلف (٢): أنه سبحانه وتعالى بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم.. أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم؛ لأن التحريم حق لله الخالق للعباد للأقوات جميعا، فمن ادعاه لنفسه.. فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، كما أن من أذعن لتحريم غير الله.. فقد أشركه معه سبحانه وتعالى.
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
98
والتحريم الذي لا يكون إلا لله هو تحريم التشريع إما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك، فلا شرك، فإذا منع الطبيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز مثلا؛ لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما، لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك، بل الله هو الذي حرم كل ضار، والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره.
وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزروع؛ لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا، بل تحريما ما دام السبب، والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد، وليس له أن يحرم بمحض إرادته، وإذا هو أخطأ في اجتهاده.. وجب على الأمة الإنكار عليه، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق.
وفائدة قوله (١): ﴿إِذا أَثْمَرَ﴾ بيان أن أول وقت الإباحة الأكل هو وقت الإثمار، وليس بلازم أن يدرك ويينع، فالكرم ينتفع بثمره حصرما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يطحن ويؤكل خبزا، أو يطبخ، أو يعمل حلوى على أشكال شتى.
﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾؛ أي (٢): وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده وجذاذه وقطعه جملة، ويدخل في الحصاد جني العنب وصرم النخل.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب (٣): ﴿حَصادِهِ﴾؛ أي: يوم جذاذه وقطعه - بفتح الحاء - وهي لغة أهل نجد وتميم، وقرأ باقي السبعة بكسرها، وهي لغة أهل الحجاز. ذكره الفراء؛ أي (٤): اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف، والأمر بإيتائها يوم
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراح.
99
الحصاد؛ لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء، وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية.
والمعنى (١): آتوا وأعطوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية، وفائدة ذكر الحصاد الإشعار والتنبيه على أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه، وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه، وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كلها، كما قاله أبو حنيفة، ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير، فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة.
فإن قلت (٢): على هذا التفسير إشكال؛ وهو أن فرض الزكاة كان بالمدينة، وهذه السورة مكية، فكيف يمكن حمل قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ على الزكاة المفروضة؟
قلت: ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة أن هذه الآية نزلت بالمدينة، فعلى هذا القول تكون الآية محكمة نزلت في حكم الزكاة. وإن قلنا: إن هذه الآية مكية تكون منسوخة بآية الزكاة؛ لأنه قد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن، وقيل في قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ إنه حق سوى الزكاة فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والثمر، وهذا قول علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد، قال إبراهيم: هو الضغث، وقال الربيع: هو لقاط السنبل، وقال مجاهد: كانوا يجيئون بالعذق عند الصرام، فيأكل منه من مر، وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل.. يجيئون بالعذق عند الصرام، فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين، فيضربه بعصاه، فما سقط منه أكله، فعلى هذا القول هل هذا الأمر أمر وجوب أو استحباب وندب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه أمر وجوب، فيكون منسوخا بآية الزكاة، وبقوله ﷺ في
(١) المراح.
(٢) الخازن.
100
حديث الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع».
والقول الثاني: أنه أمر ندب واستحباب، فتكون الآية محكمة، وقال سعيد بن جبير كان هذا حقا يؤمر بإخراجه في ابتداء الإسلام، ثم صار منسوخا بإيجاب العشر، ولقول ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن، واختار هذا القول الطبري وصححه، واختار الواحدي والرازي القول الأول وصححاه.
﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾؛ أي: لا تجاوزوا أيها المؤمنون الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة، أو تعطوا كله، وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمس مئة نخلة فجذها، ثم قسمها في يوم واحد، ولم يرجع منها إلى منزله بشيء، فأنزل هذه الآية: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ وقد جاء في الخبر «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول»، أو المعنى: كلوا مما رزقكم من غير إسراف في الأكل كما قال في آية أخرى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.
والإسراف مجاوزة الحد، والحد الذي ينهى الله سبحانه عن مجاوزته؛ إما شرعي: كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام، وإما فطري طبيعي: وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: المجاوزين الحد الذي شرعه في كل شيء، ففيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء؛ لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار.
١٤٢ - ﴿وَ﴾ هو - سبحانه وتعالى - الذي أنشأ وخلق لكم ﴿مِنَ الْأَنْعامِ﴾ الثلاثة الإبل والبقر والغنم ﴿حَمُولَةً﴾؛ أي: ما يحمل الأثقال. وقرأ عكرمة وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: ﴿حُمولة﴾ - بضم الحاء -. ﴿وَفَرْشًا﴾؛ أي: ما يفرش للذبح، أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش، أو المعنى: هو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة؛ أي: كبارا منها تصلح للحمل كالإبل ﴿وَفَرْشًا﴾؛ أي: صغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: كلوا بعض ما رزقكم الله، وهو
ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام، أو كلوا من هذه الأنعام وغيرها، وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾؛ أي: ولا تسلكوا السبل التي يسوّلها لكم الشيطان بتحريم الحرث والأنعام، فتحرموا ما لم يحرمه الله تعالى، فإن ذلك إغواء وإضلال منه، والله المبدع قد أباحها لكم، فليس لغيره أن يحرم أو يحلل، ولا يتعبدكم به، ويقال: لمن اتبع آخر وبالغ في التأسي به: اتبع خطواته، ولا شك أن تحريم ما أحل الله من أقبح المبالغات في اتباع إغواء الشيطان؛ لأنه اتباع له في حرمان النفس من الطيبات لا في الاستمتاع باللذات كما هو أكثر غوايته. ثم علل النهي عن اتباعه بقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر العداوة، فقد أخرج آدم من الجنة، وقال: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾؛ أي: لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا، أو استقبالا، ويأمركم بالافتراء على الله بغير علم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
١٤٣ - وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام؛ إما حمولة وإما فرش.. فصلها وقسمها إلى ثمانية أزواج، فإن الحمولة؛ إما إبل، وإما بقر، والفراش؛ إما ضأن، وإما معز، وكل من الأقسام الأربعة؛ إما ذكر، وإما أنثى، وكل هذا الإيضاح المحال التي تقولوها على الله تعالى بالتحريم والتحليل، ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة، فقال: وهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾؛ أي: ثمانية أصناف من الأنعام أنشأ لكم ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: زوجين الكبش والنعجة، وقدم الضأن على المعز؛ لغلاء ثمنه، وطيب لحمه، وعظم الانتفاع بصوفه، والضأن ذوات الصوف من الغنم، والمعز ذوات الشعر منها. وقرأ طلحة بن مصرف والحسن وعيسى بن عمر: ﴿من الضأَن﴾ - بفتح الهمزة - وقرأ أبان بن عثمان: ﴿اثنان﴾ - بالرفع على الابتداء والخبر مقدم - ﴿وَ﴾ أنشأ لكم ﴿مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: زوجين التيس والعنز. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو: ﴿من المعَز﴾ - بفتح العين - وقرأ باقي السبعة بسكونها، وقرأ أبي: ﴿ومن المعزي﴾.
وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش فـ ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا وإنكارا عليهم ﴿آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾؛ أي: هل حرم الله سبحانه وتعالى الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين؟ ﴿أَمِ﴾ حرم ﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾ النعجة والعنز (أم) حرم ﴿ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؛ أي: ما حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى؟ أي: قل لهم إن كان حرم الذكور.. فكل ذكر حرام، وإن كان حرم الإناث.. فكل أنثى حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني؛ من الضأن والمعز.. فكل مولود حرام ذكرا كان أو أنثى، وكلها مولود، فيستلزم أن كلها حرام، فمن أين أخذتم تحريم البحائر والسوائب مثلا، وتحليل غيرها. وقوله: ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾ فيه قراءتان لا غير، مد الهمزة مدا لازما بقدر ثلاث ألفات، وتسهيل الهمزة الثانية على حد قوله في «الخلاصة»:
وايمن همز أل كذا ويبدل مدّا في الاستفهام أو يسهّل
﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾؛ أي: أخبروني ببينة وحجة تدل على ذلك من كتاب الله، أو خبر من أنبيائه ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دعوى التحريم، والمراد من هذا التبكيت لهم، وإلزام الحجة؛ لأنه يعلم أنه لا علم عندهم وَأنشأ لكم
١٤٤ - ﴿مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: زوجين الجمل والناقة ﴿وَ﴾ أنشأ لكم ﴿مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: زوجين الثور والبقرة فـ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد تبكيتا وتقريعا لهم ﴿آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾؛ أي: هل حرم الله سبحانه وتعالى الذكرين الجمل والثور؟ ﴿أَمِ﴾ ﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾ منهما الناقة والبقرة؟ (أم) حرم ﴿ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؛ أي: ما حملته إناث النوعين يعني من الإبل والبقر ذكرا كان أو أنثى؟
وخلاصة ذلك: أن المشركين في الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك بأن لكل من الضأن والمعز، والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر.. وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى.. وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث.. وجب تحريم الأولاد كلها؛ لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.
103
وقصارى (١) ذلك: أنه تعالى ما حرم عليهم من هذه الأنواع الأربعة، وأنهم كاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة في الرد عليهم، ثم زاد في الإنكار والتهكم بهم، فقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا﴾؛ أي: هل (٢) شاهدتم الله حرم هذا عليكم ووصاكم به؟ لا؛ أي: لم تكونوا شهداء، فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تنبئون هذه الأحكام، وتنسبونها إلى الله تعالى.
و ﴿أَمِ﴾ (٣) هنا منقطعة بمعنى ﴿بل﴾، وهمزة الإنكار، و ﴿بل﴾ للانتقال من توبيخهم بنفي العلم عنهم المستفاد من قوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إذ هو أمر تعجيز؛ أي: لا علم لكم بذلك إلى توبيخهم بنفي حضورهم وقت إيصائهم بالتحريم؛ أي: أعندكم (٤) علم يؤثر عن أحد من رسله، فتنبئوني به، أم شاهدتم ربكم، فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة؛ كلا ما حصل هذا ولا ذاك، فما هو إلا محض افتراء على الله يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله: إن الله حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى: ﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
والخلاصة: أنكم إذا لم تؤمنوا بنبي.. فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم، وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام.
وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان.. أثبت أنه افتراء على الله لإضلال عباده، وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره، ويجني سوء عاقبته، فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ والاستفهام للإنكار؛ أي: لا أحد أشد ظلما ممن اختلق على الله كذبا بنسبة التحريم إليه ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ﴾ عن دين الله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ولا حجة حال (٥) من فاعل ﴿يضل﴾؛ أي: ليضل الناس حال كونه متلبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه، أو حال من فاعل ﴿افْتَرى﴾؛ أي: افترى على الله
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) الفتوحات.
(٤) المراغي.
(٥) المراح.
104
تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى؛ أي: فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم، فما ظنك بمن افترى عليه تعالى؛ وهو يعلم أنه لم يصدر عنه.
أي: لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل تام.
والخلاصة: أن في ذلك تسجيل الغباوة عليهم، وعمى البصيرة باتباعهم محض التقليد من غير عقل ولا هوى، فإن عملهم ليس له إثارة من علم ولا قصد إلى شيء من الهدى إلى حق أو خير ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يَهْدِي﴾؛ أي: لا يوفق للرشاد ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لا يهدي أولئك المشركين؛ أي: لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان؛ أي: لا يهدي من افترى عليه الكذب، وقال عليه الزور والبهتان، ولا يهديه إلى الحق والعدل، لا من طريق الوحي، ولا من طريق العلم، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب، وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، وهؤلاء كعمرو بن لحي وأضرابه.
وقد وجد في البشر (١)؛ ناس فكروا وبحثوا فيما يجب عليهم لله من الشكر والعبادة، واتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه عقولهم، وأخطؤوا في بعض، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل كما فعل قصي؛ إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاج، ورفادتهم، وإطعامهم، وسن الشورى في مهام الأمور.
الإعراب
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا﴾.
﴿وَجَعَلُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿جَعَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة.
(١) المراغي.
105
﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور حال من ﴿نَصِيبًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿ذَرَأَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما ذرأه. ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾: جار ومجرور حال من العائد المحذوف، أو من ﴿ما﴾. وَالْأَنْعامِ: معطوف عليه. نَصِيبًا: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، ويحتمل كون (١) ﴿جعل﴾ متعديا إلى واحد بمعنى عينوا وميزوا نصيبا، وكل من الظرفين متعلق بـ ﴿جَعَلُوا﴾، أو الثاني بدل من الأول. فَقالُوا: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل، ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جَعَلُوا. ﴿هذا لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿فَقالُوا﴾. ﴿وَهذا لِشُرَكائِنا﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿هذا لِلَّهِ﴾.
﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ﴾.
﴿فَما﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوه في التقسيم، وأردت بيان عاقبة كل من النصيبين.. فأقول لك: ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿لِشُرَكائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر ﴿كانَ﴾، وجملة ﴿كانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ جوازا لما في المبتدأ من العموم، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَصِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. إِلَى ﴿اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَصِلُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا واقعا في سؤال مقدر كأنه قيل: ما عاقبة النصيبين؟.
﴿وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾.
(١) الفتوحات.
106
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿كانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ، ﴿هو﴾: مبتدأ ثان، وجملة ﴿يَصِلُ﴾ خبره. ﴿إِلى شُرَكائِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَصِلُ﴾، وجملة المبتدأ الثاني خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ﴾ على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. ﴿ساءَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم. ﴿ما﴾: موصولة في محل الرفع فاعل، وجملة ﴿يَحْكُمُونَ﴾ صلتها، والعائد محذوف تقديره: ما يحكمونه، وجملة ساءَ في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبا هو المخصوص بالذم تقديره: ساء ما يحكمون حكمهم.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ.
وَكَذلِكَ ﴿الواو﴾: استئنافية. كَذلِكَ: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وتزييننا مثل تزيين قسمة القرابين بين الله وآلهتهم. زَيَّنَ:
فعل ماض. لِكَثِيرٍ: متعلق به. مِنَ الْمُشْرِكِينَ: صفة لـ (لكثير).
قَتْلَ أَوْلادِهِمْ: مفعول به ومضاف إليه. شُرَكاؤُهُمْ: فاعل ومضاف إليه، والتقدير: وزين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم تزيينا مثل تزيين قسمة القرابين بين الله وآلهتهم، والجملة الفعلية مستأنفة.
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
لِيُرْدُوهُمْ ﴿اللام﴾: لام كي، (يردوهم): فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإردائهم إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ زَيَّنَ. وَلِيَلْبِسُوا ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: لام كي، (يلبسوا): فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿دِينَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وللبسهم عليهم دينهم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور
107
قبله، فعلل التزيين بشيئين بالإرداء وبالتخليط، وإدخال الشبهة عليهم في دينهم.
﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿شاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل والمفعول محذوف تقديره: عدم فعلهم، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿ما﴾: نافية. ﴿فَعَلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب الشرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَذَرْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن تزيينهم بمشيئة الله تعالى، وأردت بيان ما هو المطلوب لك.. فأقول لك، ﴿ذرهم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: مصدرية، أو موصولة في محل النصب معطوف على ضمير المفعول. ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على ضمير المفعول تقديره: فذرهم وافتراءهم، أو صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: فذرهم والذي يفترونه، وجملة ﴿ذرهم﴾: من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)﴾.
﴿وَقالُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿هذِهِ أَنْعامٌ﴾ إلى قوله: ﴿افْتِراءً عَلَيْهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿هذِهِ أَنْعامٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿وَحَرْثٌ﴾: معطوف على ﴿أَنْعامٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿حِجْرٌ﴾: صفة أولى لـ ﴿أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾؛ لأنه مصدر على فعل يوصف به المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث كذبح بمعنى: مذبوح كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. ﴿لا يَطْعَمُها﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول
108
في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾. ﴿نَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين؛ أعني المشركين، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من نشأه. ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿قالُوا﴾: تقديره: قالوا ذلك حالة كونهم متلبسين بزعمهم الباطل وكذبهم الفاسد، والمقول (١) الجمل الثلاث الأولى ﴿هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ...﴾ إلخ، الثانية ﴿وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها﴾ الخ باعتبار أنه خبر لمبتدأ محذوف، والثالث ﴿وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ باعتبار المذكور. ﴿وَأَنْعامٌ﴾: معطوف على ﴿أَنْعامٌ﴾ الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أنعام الخ. ﴿حُرِّمَتْ ظُهُورُها:﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿أَنْعامٌ﴾. ﴿وَأَنْعامٌ﴾: معطوف على ﴿أَنْعامٌ﴾ الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أنعام؛ لأن العطف بالواو. ﴿لا يَذْكُرُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿اسْمَ اللَّهِ﴾: مفعول ومضاف إليه. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَذْكُرُونَ﴾، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿أَنْعامٌ﴾، لكنه (٢) غير واقع في كلامهم المحكي كنظائره، بل مسوق من جهته تعالى تعيينا للموصوف، وتمييزا له عن غيره. ﴿افْتِراءً﴾: مفعول لأجله منصوب بـ قالُوا. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتِراءً﴾. ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾. ﴿كانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يفترونه.
﴿وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا﴾.
﴿وَقالُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالُوا﴾ الأولى. ﴿ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾: موصولة في محل الرفع
(١) الفتوحات.
(٢) أبو السعود.
109
مبتدأ. ﴿فِي بُطُونِ هذِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿الْأَنْعامِ﴾ بدل من الإشارة. ﴿خالِصَةٌ﴾: خبر المبتدأ، والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كعلامة ونسابة كما سيأتي في مبحث الصرف إن شاء الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قالُوا. ﴿لِذُكُورِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خالِصَةٌ﴾. ﴿وَمُحَرَّمٌ﴾: معطوف على ﴿خالِصَةٌ﴾. ﴿عَلى أَزْواجِنا﴾ متعلق به.
﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾، واسمها ضمير يعود على ﴿ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ﴾. ﴿مَيْتَةً﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾. ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية، ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿شُرَكاءُ﴾. ﴿شُرَكاءُ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿وَصْفَهُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر أول لها. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)﴾.
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿سَفَهًا﴾، مفعول لأجله منصوب بـ ﴿قَتَلُوا﴾. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿قَتَلُوا﴾؛ أي: حالة كونهم متلبسين بغير علم. ﴿وَحَرَّمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَتَلُوا﴾. ﴿ما﴾: موصولة في محل النصب مفعول به. ﴿رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إياه. ﴿افْتِراءً﴾: مفعول لأجله منصوب بـ حَرَّمُوا. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتِراءً﴾.
110
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿ضَلُّوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مؤكدة لما قبلها. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه. ﴿مُهْتَدِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كانُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْشَأَ﴾: فعل، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به منصوب بالكسرة. ﴿مَعْرُوشاتٍ﴾: صفة له. ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾: معطوف على ﴿مَعْرُوشاتٍ﴾. ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾: معطوفان على ﴿جَنَّاتٍ﴾ عطف خاص على عام. ﴿مُخْتَلِفًا﴾: حال من ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾. ﴿أُكُلُهُ﴾: فاعل ﴿مُخْتَلِفًا﴾؛ أي: حالة كون كل منهما مختلفا ثمره المأكول منه. ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾: معطوفان على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿مُتَشابِهًا﴾: حال من ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾. ﴿وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾: معطوف عليه؛ أي: حالة كل من الزيتون والرمان متشابها ورقهما، وغير متشابه ثمرهما.
﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.
﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَثْمَرَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على جميع ما ذكر، والجملة في محل الخفض بـ ﴿إِذا﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إِذا﴾ معلوم مما قبله تقديره: إذا أثمر فكلوه، وجملة إِذا معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَآتُوا حَقَّهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿كُلُوا﴾. ﴿يَوْمَ حَصادِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني متعلق بـ ﴿آتُوا﴾، لأنه بمعنى أعطوا. ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾: فعل وفاعل معطوف
111
على ﴿كُلُوا﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها، وجملة ﴿لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ خبرها، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)﴾.
﴿وَمِنَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مِنَ الْأَنْعامِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿حَمُولَةً﴾ وما بعده، ﴿حَمُولَةً﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿وَفَرْشًا﴾: معطوف على ﴿حَمُولَةً﴾؛ أي: وأنشأ لكم حمولة وفرشا من الأنعام. ﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَلا تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كُلُوا﴾. ﴿خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿إِنَّهُ﴾: ﴿إنّ﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾. عَدُوٌّ: خبر ﴿إن﴾. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿عَدُوٌّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣)﴾.
﴿ثَمانِيَةَ﴾: معطوف بعاطف مقدر على ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: وأنشأ لكم جنات معروشات، وثمانية أزواج. ﴿أَزْواجٍ﴾: مضاف إليه ﴿مِنَ الضَّأْنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْشَأَ﴾ محذوفا. ﴿اثْنَيْنِ﴾: منصوبا بـ ﴿أَنْشَأَ﴾ المحذوف، أو بدل من ﴿ثَمانِيَةَ﴾ بدل تفصيل من مجمل. ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾: معطوف على قوله: ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿نَبِّئُونِي﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي، (الذكرين): مفعول مقدم منصوب بـ ﴿حَرَّمَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَمِ﴾: حرف عطف. ﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾: معطوف على ﴿الذكرين﴾.
112
﴿أَمَّا﴾: ﴿أم﴾: حرف عطف مبني بسكون على الميم المدغمة ميم ﴿ما﴾، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿الذكرين﴾. ﴿اشْتَمَلَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿نَبِّئُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول، والنون للوقاية. ﴿بِعِلْمٍ﴾: متعلق به، والجملة معترضة لاعتراضها بين التفاصيل المذكورة قبلها والتي بعدها على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. ﴿صادِقِينَ﴾: خبرها منصوب، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم صادقين نبئوني بعلم، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.
﴿وَمِنَ الْإِبِلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْشَأَ﴾: محذوفا. ﴿اثْنَيْنِ﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْشَأَ﴾ المحذوف تقديره: وأنشأ لكم من الإبل اثنين، والجملة الحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ على كونها تفصيلا لـ ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾. ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾: معطوف على قوله: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي، ﴿الذكرين﴾: مفعول مقدم لـ ﴿حَرَّمَ﴾. ﴿حَرَّمَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَمِ﴾ حرف عطف. ﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾: معطوف على ﴿الذكرين﴾.
﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا﴾.
﴿أَمَّا﴾: ﴿أم﴾: حرف عطف، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿الذكرين﴾. ﴿اشْتَمَلَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿أَمِ﴾: منقطعة بمعنى همزة الإنكار وبل الانتقالية؛ لدخولها على الجملة المستقلة؛ أي:
113
المنقطعة عما قبلها؛ أي: بل أكنتم. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿شُهَداءَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿شُهَداءَ﴾. ﴿وَصَّاكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بِهذا﴾: متعلق بـ ﴿وَصَّاكُمُ﴾.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. ﴿افْتَرى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ﴾: ﴿اللام﴾: لام كي. ﴿يضل الناس﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿من افترى﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإضلاله الناس، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿افْتَرى﴾. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿افْتَرى﴾؛ أي: افترى على الله كذبا حالة كونه متلبسا بغير علم، أو متعلق بـ ﴿يضل﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. لا: نافية. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مِمَّا ذَرَأَ﴾ يقال: ذرأ الله الخلق يذرأ - من باب فتح - ذرأ؛ أي خلقهم على وجه الابتداع والاختراع.
﴿نَصِيبًا﴾ ﴿النصيب﴾: الحظ والقسم، والجزء من الشيء.
114
﴿هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ وفي «المصباح» (١): زعم زعما من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات فتح الزاي لأهل الحجاز، وضمها لبني أسد، وكسرها لبعض قيس، ويطلق الزعم بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفية، وزعم سيبويه؛ أي: قال، وعليه قوله تعالى: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ﴾؛ أي: قلت؛ أي: كما أخبرت، ويطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾. قال الأزهري: أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب. قال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا، أو فيه ارتياب. وقال ابن القوطبة: زعم زعما إذا قال خبرا لا يدري أحقا هو أو باطلا. قال الخطابي: ولهذا قيل: زعم مطية الكذب، وزعم غير مزعم، قال غير مقول صالح، وادعى ما لا يمكن اه.
وفي «السمين» ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ ﴿قالوا﴾؛ أي: قالوا ذلك القول بزعم لا بيقين واستبصار.
والثاني: قيل: هو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به قوله ﴿لِلَّهِ﴾. وقرأ العامة بفتح الزاي هنا وفيما يأتي، وهذه لغة أهل الحجاز؛ وهي الفصحى. وقرأ الكسائي: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ بالضم، وهي لغة بني أسد، وهل المضموم والمفتوح بمعنى واحد أو المفتوح مصدر والمضموم اسم؟ خلاف مشهور. وفي لغة لبعض قيس وبني تميم كسر الزاي، ولم يقرأ بهذه اللغة فيما علمت اهـ.
﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾؛ أي: يهلكوهم بالإغواء من أردى الرباعي ﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾؛ أي: يخلطوا قرأ (٢) الجمهور بكسر الباء من لبست عليه الأمر ألبسه - بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع - من باب ضرب إذا أدخلت عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقرأ النخعي: ﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾. - بفتح الباء - فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: لبست عليه الأمر - بفتح الباء وكسرها - ألبسه وألبسه، والصحيح
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
115
أن لبس - بالكسر - بمعنى لبس الثياب، وبالفتح بمعنى الخلط.
﴿حِجْرٌ﴾ - بكسر الحاء وسكون الجيم - فعل بمعنى مفعول؛ أي: محجور ممنوع كذبح وطحن بمعنى مذبوح ومطحون يستوي فيه الواحد والكثير والمذكر والمؤنث؛ لأن أصله المصدر، ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث. قال ابن مالك في لامية الأفعال:
من ذي الثّلاثة بالمفعول متّزنا وما أتى كفعيل فهو قد عدلا
به عن الأصل واستغنوا بنحو نجا والنّسي عن وزن مفعول وما عملا
وقال شارحها في «مناهل الرجال»: وقد يرد لفظ المصدر بمعنى المفعول كاللفظ والصيد والخلق بمعنى الملفوظ والمصيد والمخلوق؛ لأن إطلاق المصدر بمعنى المفعول مجازا كثير مطرد، انتهى.
﴿خالِصَةٌ لِذُكُورِنا﴾ و ﴿{الهاء﴾} (١) في ﴿خالِصَةٌ﴾ للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام، ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الرد بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة و ﴿ما﴾ عبارة عنها، فيكون تأنيث ﴿خالِصَةٌ﴾ باعتبار معنى ﴿ما﴾ وتذكير ﴿مُحَرَّمٌ﴾ باعتبار لفظها. وقرأ الأعمش: ﴿خالص﴾ قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدم عنه.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾ الإنشاء (٢): إيجاد الأحياء وتربيتها، وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر والجنات والبساتين والكروم الملتفة الأشجار؛ لأنها تجن الأرض وتسترها، والمعروشات: المحمولات على العرائش؛ وهي الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب. وأصل العرش في اللغة (٣): شيء مسقف يجعل عليه الكرم، وجمعه عروش يقال: عرشت الكرم أعرشه عرشا - من بابي ضرب ونصر -
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
116
وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف، واعترش العنب العريش إذا علاه وركبه، وغير المعروشات ما لم يعرش منها. والمراد أن الجنات نوعان: معروشات كالكروم، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره.
﴿يَوْمَ حَصادِهِ﴾؛ أي: يوم جذاذه وقطعه. قال سيبويه (١): جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه: فعال؛ يعني: أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر، فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، والحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحصاد والحصاد اه.
﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ من الإسراف؛ وهو تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان، وإن كان في الإنفاق أشهر. وقيل السرف: تجاوز ما حد لك، وسرف المال إنفاقه في غير منفعة، ولهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله؛ فهو سرف، وإن كان قليلا.
﴿الضَّأْنِ﴾ قيل: جمع ضائن للذكر وضائنة للأنثى؛ وقيل: اسم جمع وكذا يقال في المعز سكنت عينه أو فتحت. وفي «المصباح» المعز اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة شاة وهي مؤنثة، وتفتح العين وتسكن، وجمع الساكن أمعز ومعيز مثل عبد وأعبد وعبيد، والمعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث، ولهذا تنون في النكرة، وتصغر على معيز، ولو كانت الألف للتأنيث.. لم تحذف، والذكر ماعز، والأنثى ماعزة اه، وفيه أيضا والعنز الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول.
﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ والحمولة الكبير من الإبل، والبقر الذي يحمل عليه الناس الأثقال، والفرش ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر، أو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره كما مر.
(١) الفتوحات.
117
﴿خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ والخطوات واحدها خطوة - بالضم - وهي المسافة التي بين القدمين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: التقسيم في قوله تعالى: ﴿فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا﴾ وفي قوله: ﴿وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ الخ. ﴿وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.﴾
ومنها: التكرار في قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ﴾ وقوله: ﴿لِشُرَكائِنا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ لأنه استعار اللبس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنها لبسوها كالثياب، وصارت محيطة بهم.
ومنها: الطباق في قوله تعالى: ﴿أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾ لأن الأنعام حيوان، والحرث جماد، وبين قوله: ﴿لِذُكُورِنا وأَزْواجِنا﴾؛ أي: إناثنا، وبين قوله: ﴿مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾، وبين قوله: ﴿مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾، وبين قوله: ﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ لأن الحمولة الكبار الصالحة للحمل، والفرش الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ لأن الخطوة ما بين القدمين استعارها لتسويل الشيطان ووسوسته، وهي أبلغ (١) عبارة في التحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه.
ومنها: الجناس المغاير في قوله تعالى: ﴿افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾، وفي قوله: ﴿مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.
(١) تلخيص البيان.
118
ومنها: المقابلة في قوله تعالى: ﴿مِنَ الضَّأْنِ.. وَمِنَ الْمَعْزِ.. وَمِنَ الْإِبِلِ.. وَمِنَ الْبَقَرِ﴾.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ﴾ أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار؛ لإظهار كمال عتوهم وضلالهم أفاده أبو السعود.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: ﴿آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ لأن المقصود إنكار أن الله حرمها.
ومنها: الاعتراض في قوله تعالى: ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾، وقوله: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ لأنه اعترض بهما بين المعدودات وقعت تفصيلا لثمانية أزواج.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
119
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله.. أمر تعالى نبيه ﷺ أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما
(١) البحر المحيط.
120
هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه، لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله تعالى.
وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه في ذلك.. فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام والحرث.. أردف ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ...﴾ الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه سبحانه وتعالى لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي.. أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء، كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها من الآية قبل.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان (٣) الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفي دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل، وإنكارهم للبعث، وفي بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.. ذكر هنا شبهة مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول ﷺ فإن الله المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها وردّ عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٤): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما حرموه افتراء
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
121
عليه، ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان.. ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها، وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها.
وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لعباده جميع ما حرم عليهم من الطعام، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم، ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربهم وافترائهم عليه.. ذكر في هذه الآيات أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل، وأنواع البر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه عبد بن حميد عن طاوس (١) قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء، ويستحلون أشياء، فنزلت: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٤٥ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين المفترين على الله الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم، وقل لغيرهم من الناس ﴿لا أَجِدُ﴾ ولا أعلم ولا أرى ﴿فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ﴾؛ أي: فيما أوحاه إلي ربي. وروي عن ابن عامر: ﴿في ما أَوْحَى﴾ - بفتح الهمزة والحاء - جعله فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. ذكره أبو حيان في «البحر»؛ أي: فيما أوحاه إلي ربي في القرآن فلا ينافي تحريم ما أوحى إليه في غير القرآن، كذي الناب وذي المخلب من الطيور طعاما. ﴿مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾؛ أي: على آكل يريد أن يأكله وفي قوله: ﴿يَطْعَمُهُ﴾: زيادة تأكيد وتقرير لما قبله. ذكره الشوكاني. وقال أبو بكر الرازي في قوله: ﴿عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ دلالة على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها، وإن لم يتناول الجلد المدبوغ، ولا القرن، ولا العظم، ولا الظلف، ولا الريش ونحوها
(١) المراغي.
122
انتهى. ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ﴾ ذلك الطعام ﴿مَيْتَةً﴾ لم تذك ذكاة شرعية، وذلك شامل لما مات حتف أنفه، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها مما سبق ذكره في المائدة. وقرىء: ﴿يطّعمه﴾ - بالتشديد وكسر العين - والأصل يتطعمه، فأبدلت التاء بطاء، وأدغمت فيها الأولى. ذكره أبو البقاء. وقرأ (١) ابن كثير وحمزة: ﴿تكون﴾ - بالتأنيث - ﴿مَيْتَةً﴾ بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر: ﴿تكون﴾ - بالتأنيث - ﴿ميتة﴾ - بالرفع - على معنى: إلا أن توجد ميتة، أو إلا أن تكون هناك ميتة. وقرأ الباقون ﴿يَكُونَ﴾ - بالتذكير - ﴿مَيْتَةً﴾ - بالنصب -؛ أي: إلا ﴿أن يكون﴾ ذلك المحرم ميتة. وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ الواقعة مستثناة؛ أي: إلا وجود ميتة. وعلى قراءة غيره يكون معطوفا على قوله: ﴿مَيْتَةً﴾.
﴿أَوْ﴾ إلا أن يكون ذلك المحرم ﴿دَمًا مَسْفُوحًا﴾؛ أي: سائلا كالدم الذي يجري من المذبوح، أو من الحي حال حياته، وغير (٢) المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعذ الذبح، ومنه الكبد والطحال.
وفي الحديث: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد، ودمان: الكبد والطحال». وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم. وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا، وقيل لأبي مجلز (٣): القدر تعلوها الحمرة من الدم، فقال: إنما حرم الله تعالى المسفوح، وقالت نحوه عائشة رضي الله عنها، وعليه إجماع العلماء. وقال أبو بكر الرازي، وفي قوله: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ دلالة على أن دم البق والبراغيث
والذباب ليس بنجس انتهى.
﴿أَوْ﴾ إلا أن يكون ذلك المحرم ﴿لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ وتخصيص (٤) اللحم بالذكر؛ للتنبيه على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير، وإن كان سائره مشاركا له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجسا، أو لإطلاق الأكثر على كله، أو
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
123
الأصل على التابع؛ لأن الشحم وغيره يتبع اللحم، وقال الشوكاني: وظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، انتهى. ﴿فَإِنَّهُ﴾؛ أي: فإن كل ما ذكر من الميتة وما بعدها. وأفرد الضمير؛ لأن العطف بأو ﴿رِجْسٌ﴾؛ أي: نجس أو خبيث مخبث تعافه الطباع السليمة، وهو ضار بالأبدان الصحيحة. وقال الشوكاني: والضمير في قوله: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ عائد إلى اللحم أو الخنزير، انتهى؛ أي: قذر لتعوده أكل النجاسة، أو خبيث مخبث ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ معطوف على المنصوب قبله، وقوله: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ذكر للتعليل، ﴿أَوْ﴾ كان ذلك المحرم ﴿فِسْقًا﴾؛ أي: ذبحا خارجا عن الحلال لكونه أهل به؛ أي: ذبح به لغير الله بأن ذبح على اسم الأصنام مثلا، وهو كل ما يتقرب به إلى غير الله سبحانه وتعالى تعبدا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه.
قال أبو حيان (١): وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة، وجاءت هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوفا بقوله: ﴿مَسْفُوحًا﴾، والفسق موصوفا بقوله: ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ وفي تينك السورتين معرفة؛ لأن هذه السورة مكية؛ فعلق بالتنكير، وتينك السورتان مدنيتان؛ فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة انتهى.

فصل (٢)


وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيها، ونلخص من ذلك شيئا، فنقول: أما الحمر الأهلية: فذهب الشعبي وابن جبير إلى أنه يجوز أكلها، وإن تحريم الرسول لها إنما كان لعلة، وأما لحوم الخيل: فاختلف السلف فيها، وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو يوسف ومحمد بن الحسن. وعن أبي حنيفة: الكراهة، فقيل: كراهة تنزيه، وقيل: كراهة تحريم؛ وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عتيبة وأبي عبيد وأبي بكر الأصم. وقال به من التابعين مجاهد، ومن
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
124
الصحابة ابن عباس، وروي عنه خلافه، وقد صنف في حكم لحومل الخيل جزءا قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه الله قرأناه عليه، وأجمعوا على تحريم البغال، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي: إلى جواز أكله، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجّن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: لا يحل أكل ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير، وقال مالك: لا يؤكل سباع الوحش ولا البر وحشيا كان أو أهليا، ولا الثعلب ولا الضبع، ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ما يأكل الجيفة وما لا يأكل، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم، وقال الشافعي: ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد والذئب والنمر، وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل، ويؤكل الثعلب والضبع، وكره أبو حنيفة الغراب الأبقع، لا الغراب الزرعي، والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر، وكره أبو حنيفة الضّبّ.
وقال مالك والشافعي: لا بأس به. والجمهور: على أنه لا يؤكل الهر الإنسي، وعن مالك: جواز أكله إنسيا كان أو وحشيا. وعن بعض السلف جواز أكله إنسيه. وقال ابن أبي ليلى: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت. وقال الليث: لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجين ودود التمر ونحوه، وكذا قال ابن قاسم عن مالك في القنفذ. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تؤكل الفأرة. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل اليربوع، وقال الشافعي: يؤكل. وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة. وقال مالك والليث: لا بأس بأكلها. وقال صاحب «التحرير والتحبير»:
وأما المخدرات كالبنج والسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة.. فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم، وهي عندي إلى التحريم أقرب؛ لأنه إن كانت مسكرة فهي محرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبقوله: «كل مسكر
125
حرام». وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام. وقد نقل ابن بخسيشوع في كتابه: إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داء، وذكر منها أنه يصفر الجلد، ويسود الأسنان، ويجعل فيها الحفر، ويثقب الكبد ويحميها، ويفسد العقل ويضعف البصر، ويحدث الغم ويذهب الشجاعة، والبنج والسيكران كالورق في الضرر. وأما المرقدات كالزعفران والمازريون.. فالقدر المضر منها حرام. وقال جمهور الأطباء: إذا استعمل من الزعفران كثير.. قتل فرحا، انتهى وفيه بعض تلخيص.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أي: فمن دفعته ودعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حالة كونه ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ على مضطر مثله تارك لمواساته ﴿وَلا عادٍ﴾؛ أي: متجاوز قدر حاجة في تناوله، وهو القدر الذي يسد الرمق ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿غَفُورٌ﴾ له، فلا يؤاخذه بالأكل من تلك المحرمات ﴿رَحِيمٌ﴾ له حيث رخص له في الأكل من تلك المحرمات.
ولما (١) كان صدر هذه الآية مفتتحا بخطابه تعالى لنبيه ﷺ بقوله: ﴿قُلْ لا أَجِدُ﴾ اختتم الآية بالخطاب له صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ﴾ ليدل على اعتنائه تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما.
١٤٦ - ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا﴾ ورجعوا عن عبادة العجل خاصة لا على غيرهم من الأولين والآخرين ﴿حَرَّمْنا كُلَّ﴾ حيوان ﴿ذِي ظُفُرٍ﴾؛ أي: صاحب ظفر وهو كل ما ليس منفرج الأصابع مشقوفها من البهائم والطير كالإبل والنعام والإوز والبط، كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد، فهذا (٢) رد عليهم في قولهم: لسنا أول من حرمت عليهم، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما
حتى انتهى الأمر إلينا. وقرأ أبي والحسن والأعرج: ﴿ظُفْر﴾ - بسكون الفاء -، والحسن وأبو السمال - قعنب -: ﴿ظِفْر﴾ بسكونها وكسر الظاء.
(١) البحر المحيط.
(٢) أبو السعود.
126
﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ الخالصة التي تؤخذ بسهولة، وهي ثروبهما جمع ثرب؛ وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والكلى ﴿إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما﴾؛ أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما ﴿أَوِ الْحَوايا﴾ أو إلا الشحم الذي حملته المباعر والمصارين وعلقت بها ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾؛ أي: أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية، فإنه متصل بالعصعص، وهذا إنما يكون في الضأن، فتلخص: إن الذي حرم عليهم من البقر والغنم شحومهما الخالصة، وهي شحوم الكرشي والكلى، وإن ما عدا ذلك حلال لهم.
والحاصل: أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه، وكل شيء منه، ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنزع بسهولة لعدم اختلاطهما بعظم ولا لحم، ولم يحرم عليهم منهما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. والسبب (١) في تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب، كما ذكر ذلك في الفصل الثالث من سفر اللاويين من التوراة، في قرابين السلامة من البقر والغنم: (كل الشحم للرب فريضة في أجيالكم في جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئا من الشحم والدم).
﴿ذلِكَ﴾ التحريم ﴿جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾؛ أي: جعلناه عقوبة وجزاء لهم على بغيهم وظلمهم؛ وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، وليس ذلك التحريم لخبث ذاته، فكانوا (٢) كلما ارتكبوا معصية من هذه المعاصي.. عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك، ويدعون أنها محرمة على الأمم قبلهم. ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، وكان مظنة تكذيب المشركين له؛ لأنهم لا يؤمنون بالوحي، ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم.. أكده فقال: ﴿وَإِنَّا لَصادِقُونَ﴾؛ أي: وإنا لصادقون
(١) المراغي.
(٢) أبو السعود.
127
في هذه الأخبار عن التحريم وعلته؛ لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، ولأن الكذب محال علينا؛ لأنه نقص، فلا يصدر عنا،
١٤٧ - والمكذبون في قوله: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ إما اليهود، والمعنى عليه: فإن كذبك يا محمد اليهود، وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله ﴿فَقُلْ﴾ لهم في الجواب ﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾؛ أي: فأجبهم بما يدحض ويبطل هذه الشبهة بأن رحمة الله واسعة حقا ﴿وَ﴾ لكن ﴿لا﴾ يقتضي ذلك أن ﴿يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ ويمنع عقابه ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم؛ لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة في الأمم، وإن لم يطرد في الأفراد. وإما المشركون، والمعنى عليه: فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله تعالى بتحريم ما حرموا على أنفسهم كما أن فيه إطماعا لهم في رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به الرسول ﷺ فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات.
١٤٨ - ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: سيقول لك يا محمد هؤلاء المشركون عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أن لا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر، وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم، وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا لـ ﴿ما أَشْرَكْنا﴾ نحن ﴿وَلا﴾ أشرك ﴿آباؤُنا﴾ من قبلنا ﴿وَ﴾: لو شاء الله أن ﴿لا﴾ نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لـ ﴿حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ﴾ ولكنه تعالى شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء؛ ليقربونا إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، فحرمناها، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها. وقد رد عليهم شبهتهم، فقال: ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: ومثل ذلك التكذيب
128
الذي صدر من مشركي مكة لرسوله ﷺ فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ لرسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم.
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا، وأيدهم الله تعالى بباهر الآيات، ولكن المكذبين لم ينظروا نظرة إنصاف، بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم ﴿حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ وعذابنا، وأهلكناهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر.
ولو كانت مشيئة الله تعالى لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها، وأمره بها.. لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم.. لما استحقوا العقاب عليها، ولما قال: إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم، ونحو ذلك مما جاء في كثير من الآيات.
فقوله: ﴿حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ برهان دال على صدق الرسل في دعواهم، وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم، وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون، فقال: ﴿هَلْ عِنْدَكُمْ بما تقولون مِنْ عِلْمٍ﴾ تعتمدون عليه وتحتجون به ﴿فَتُخْرِجُوهُ﴾؛ أي: فتخرجوا ذلك العلم وتظهروه ﴿لَنا﴾ لنفهمه، ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية، والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم، ونتبين منها الراجح والمرجوح، وفي هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ والتهكم ما لا يخفى، وهو بمعنى الإنكار؛ أي: ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ما تتبعون في دعاواكم إلا الظن الكاذب الفاسد، وما أنتم إلا تكذبون.
وقرأ النخعي وابن وثاب: ﴿إن يتبعون﴾ - بالياء - قال ابن عطية: وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله: ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ﴾؛ لأنه يكون من باب الالتفات. ذكره أبو حيان في «البحر».
ثم أردف ذلك ببيان حقيقة حالهم، فقال: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾؛ أي:
129
ما تبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾؛ أي: وما أنتم في ذلك إلا تكذبون على الله تعالى؛ أي: أنكم لستم على شيء من العلم، بل ما تتبعون في عقائدكم وآرائكم في الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم.
١٤٩ - وبعد أن نفى عنهم درجات العلم.. أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين إن لم تكن لكم حجة ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾؛ أي: الواضحة التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها؛ وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم في أمر دينكم.. فإن لله وحده أعلى درجات العلم، وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد، وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة، وسننه في الاجتماع البشري، ولا يهتدي بهذه الآيات إلا المستعد للهداية المحب للحق الحريص على طلبه الذي يستمع القول فيتبع أحسنه دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها، وحسدا للمبلغ الذي جاء بها وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء ﴿فَلَوْ شاءَ﴾ سبحانه وتعالى هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة ﴿لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ولكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض.
أو المعنى: ولو شاء سبحانه وتعالى أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها؛ وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال.. لهداكم أجمعين، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه. وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء هدايته لهداه: ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)﴾. ونحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا﴾ وقوله: ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً﴾ وقوله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
١٥٠ - وبعد أن نفى عنهم العلم، وسجل عليهم اتباع الخرص والكذب ليظهر لهم أنهم ليسوا على شيء يعتد به من العلم.. أمر رسوله ﷺ أن يطالب مشركي قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء في إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادعوه من المحرمات، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين ﴿هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ﴾؛ أي: أحضروا شهداءكم وقدوتكم ﴿الَّذِينَ يَشْهَدُونَ﴾ ويخبرون عن مشاهدة وعيان ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَرَّمَ﴾ عليكم ﴿هذا﴾ الذي حرمتموه على أنفسكم وزعمتم أن الله تعالى حرمه علينا.
والخلاصة: عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدعون ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ بعد حضورهم بأن الله حرم ذلك ﴿فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾؛ أي فلا تصدقهم فيما يقولون، بل بين لهم فساده؛ لأن السكوت قد يشعر بالرضا.
أي: فإن فرض إحضار هؤلاء الشهداء.. فلا تصدقهم، ولا تقبل لهم شهادة، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ﴾ هؤلاء ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية في الأنفس والآفاق؛ أي: إن وقع منهم شهادة، فإنما هي باتباع الهوى، فلا تتبع أنت أهواءهم فهم كذبوا القرآن ﴿وَلا أهواء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: ولا أهواء الذين هم مع جهلهم واتباعهم للأهواء لا يصدقون بالبعث بعد الموت حتى يحملهم الإيمان به على سماع الدليل والحجة إذا ذكروا بها ﴿وَ﴾ لا أهواء الذين ﴿هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾؛ أي: يشركون بربهم، ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه في جلب الخير والنفع ودفع الضر إما استقلالا، وإما بحمله الرب على ذلك، وتأثيره في فعله وإرادته.
١٥١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس ﴿تَعالَوْا﴾ وأقبلوا إليّ أيها القوم ﴿أَتْلُ﴾ وأقرأ لكم {ما حَرَّمَ
131
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فيما أوحاه إليّ؛ وهو سبحانه وتعالى وحده الذي له حق التحريم والتشريع، وأنا مبلغ بإذنه، وقد أرسلني بذلك. وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم؛ لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة؛ وهو الشرك بالله سواء أكان باتخاذ الأنداد له، أو الشفعاء المؤثرين في إرادته، أو بما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون في التشريع، فيحللون ويحرمون. وجملة ما تلاه عليهم عشرة بالإجمال:
الأول منها: ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَيْئًا﴾ من الأشياء، وإن عظمت في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو في القدر كالملائكة والنبيين والصالحين، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله مسخرة له بقدرته وإرادته ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا﴾ ومن الشرك أيضا أن يريد بعبادته رياء أو سمعة، ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم.
والثاني: ما ذكره بقوله: ﴿وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾؛ أي: وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام، وقد جاء في القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهي عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وكفى (١) دلالة على عظم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته، وجعله ثانيها في الوصايا، وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في سورة لقمان في قوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ﴾ وما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله ﷺ أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
(١) المراغي.
132
والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة، لا احترام الخوف والرهبة؛ لأن في ذلك مفسدة كبيرة في تربية الأولاد في الصغر، وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم، وليس لهما أن يتحكما في شؤونهم الخاصة بهم لا سيما تزويجهم بمن يكرهون، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع، أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك. وإنما (١) ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين؛ لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة الله؛ لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئا، ثم بعد نعمة الله نعمة الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، ولما لهما عليه من حق التربية والنفقة والحفظ من المهالك في حال صغره.
والثالث: ما ذكره بقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾؛ أي: وأن لا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر حل ونزل ووقع بكم؛ لأنهم كانوا يئدون البنات لخوف الفقر ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾؛ أي: فإن الله سبحانه وتعالى يرزقكم وإياهم؛ أي: يرزق أولادكم تبعا لكم، وجاء في سورة الإسراء: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾.
وسر اختلاف الأسلوبين (٢)، وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا: أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع، والفقر المتوقع، فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق، لا كما يتوهم بعضهم، فيزهد في العمل بشبهة كفالته تعالى لزرقهم. وقيل اختلاف أسلوب الآيتين للتفنن، وعبارة الصاوي هنا: وإنما قال هنا: ﴿إِمْلاقٍ﴾ وقال في الإسراء: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾؛ لأن ما هنا في الفقر الحاصل بالفعل، وما في الإسراء في الفقر المتوقع، فهو خطاب للأغنياء، وقدم هنا خطاب الآباء، وهناك
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
133
ضمير الأولاد، فقيل: تفننا، وقيل: قدم هنا خطاب الآباء تعجيلا لبشارة الآباء الفقراء بأنهم في ضمان الله، وقدم هناك ضمير الأولاد لتطمئن الآباء بضمان رزق الأولاد، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد، وإن كانوا متلبسين بالفقر، والأخرى النهي عن قتلهم وإن كانوا موسرين، ولكن يخافون وقوع الفقر، انتهت.
الرابع: ما ذكره بقوله ﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ﴾؛ أي: ولا تقربوا كبائر الذنوب، وهي كل ما عظم قبحه منها سواء كان من الأفعال كالزنا، أو من الأقوال كقذف المحصنات الغافلات، وقوله: ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾ بدل من ﴿الْفَواحِشَ﴾ بدل تفصيل من مجمل، أو بدل اشتمال؛ أي: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش للناس كالزنا والقذف، وما بطن منها واستتر عن الناس كالسرقة. وقيل (١): الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد والتفكير في تدبير المكايد الضارة، وأنواع الشرور والمآثم.
وقيل: المراد بالفواحش هنا الزنا، وقوله: ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾ علانيته وسره؛ أي (٢): ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم، وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وإنما جمع الفواحش بمعنى الزنا للنهي عن أنواعها، ولذلك ذكر ما أبدل منها. وقد روي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية؛ أي: في هذه الآية وما أشبهها. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: ما ظهر منها: ظلم الناس، وما بطن منها: الزنا والسرقة؛ أي: لأن الناس يأتونهما في الخفاء. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» رواه البخاري ومسلم. وفي قوله: ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾ دقيقة، وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر، ولم يحترز منها في الباطن.. دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى
(١) المراغي.
(٢) المراح.
134
وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم، ومن كان كذلك استحق العقاب، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا لأجل خوف الله تعالى وتعظيما لأمره استوجب رضوان الله تعالى.
والخامس منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ﴾؛ أي: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام، أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان، وقد جاء في الحديث «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله.. فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا» وقوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: إلا قتلا متلبسا بالحق؛ فإنه مباح، إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» متفق عليه.
وإنما (١) أفرد قتل النفس بالذكر مع دخوله في جملة الفواحش تعظيما لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر، وقيل: إنما أفرده بالذكر؛ لأنه تعالى أراد أن يستثني منه، ولا يمكن الاستثناء من جملة الفواحش إلا بإفراده بالذكر ﴿ذلِكُمْ﴾ التكاليف الخمسة من الأوامر والنواهي ﴿وَصَّاكُمْ بِهِ﴾؛ أي: أمركم به ربكم أمرا مؤكدا ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا. والوصية (٢) في الأصل أن يعهد إلى إنسان بعمل خير، أو ترك شر، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره؛ أي: أنه سبحانه وتعالى وصاكم بذلك ليعدكم، لأن تعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.
وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
135
لا تعقل له فائدة ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة مصلحة.
١٥٢ - والسادس: ما ذكره بقوله: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي: ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه، أو وصيه إلا بالفعلة التي هي أحسن من غيرها في حفظ ماله وتثميره، ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته، وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده. قال مجاهد: هي التجارة فيه. وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئا، هذا إذا كان القيم بالمال غنيا غير محتاج، فلو كان الوصي فقيرا.. فله أن يأكل بالمعروف، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عنه، فإن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنة التأويل، فيبتعد عنه المتقي ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال لا تضر به، أو يرجح نفعها على ضررها كأن يأكل من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح، ولولاه ما ربح.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾؛ أي: احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغه رشيدا، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله، فأما (١) الأشد: فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال. والمراد بالأشد في هذه الآية: هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته سالكا مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية.
والمعنى:
احفظوا مال اليتيم، ولا تسمحوا له بتبذير شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ رشيدا فسلموه إليه.
والخلاصة:
أن المراد النهي عن كل تعد على مال اليتيم، وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا؛ إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل الخبرة بشؤون المعاش يخدع كثيرا في المعاملات.
(١) الخازن.
136
وقد كان الناس في الجاهلية لا يحترمون إلا القوة ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع في الوصية بالضعيفين المرأة واليتيم.
وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم (١)، وظهور الرشد في المعاملات المالية بالاختبار، كما سلف في سورة النساء من قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتامى﴾ الآية.
والقوة التي يحفظ بها المرء ماله في هذا العصر هي إتزان الفكر والرشد العقلي والأخلاقي بكثرة المران والتجارب في المعاملات، لكثرة الفسق والحيل، ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين، ويزينون لهم الإسراف في اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل، ويفقهون تكاليف الحياة، ويهتمون فيها بأمر النسل.
والسابع: ما ذكره بقوله: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾؛ أي: أتموا الكيل بالكميال ﴿وَ﴾ الوزن بـ ﴿الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل والحق من غير نقصان من المعطي، ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق.
والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفم الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾.
والخلاصة: أن الإيفاء بالكيل والميزان يكون من الجانبين حين البيع وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه، وقوله: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ يدل على تحري العدل في الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها﴾؛ أي: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشتري الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها
(١) المراغي.
137
بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء، بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا. والقاعدة الشرعية: أن التكليف إنما يكون بما في وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها.. لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم، وقلت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها، وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طففوا الكيل والميزان، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم كقوم شعيب. وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب عليه السلام: ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ وقال النبي ﷺ لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم».
والثامن: ما ذكره بقوله: ﴿وَإِذا قُلْتُمْ﴾ في الحكم أو الشهادة أو غيرهما ﴿فَاعْدِلُوا﴾؛ أي: فاصدقوا ﴿وَلَوْ كانَ﴾ المقول له أو عليه ﴿ذا قُرْبى﴾؛ أي: صاحب قرابة منكم.
والمعنى (١): وعليكم أن تعدلوا في القول إذ قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم؛ إذا بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين في العمران، وأساس في الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون في الأفعال كالوزن والكيل.. يكون في الأقوال، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ﴾.
والتاسع: ما ذكره بقوله ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾؛ أي: وأتموا عهد الله، وهو شامل بما عهد الله تعالى إلى عباده ووصاهم به، وأوجبه عليهم، وبما أوجبه
(١) المراغي.
138
الإنسان على نفسه كنذر ونحوه، وبما عاهده الناس بعضهم بعضا. فمن آمن برسول من رسل الله تعالى.. فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ﴾ الآية. وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة في المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
﴿ذلِكُمْ﴾ التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية ﴿وَصَّاكُمْ بِهِ﴾؛ أي: أمركم ربكم به أمرا مؤكدا ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمركم به.
والتذكر (١) يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء في القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى: ﴿وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ وقال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠)﴾.
والخلاصة (٢): أن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به في مثل قوله: ﴿وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.
ولما كانت (٣) التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى أمورا ظاهرة يجب تعقلها وتفهمها.. ختمت بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ولما كانت التكاليف
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
139
الأربعة المذكورة في الآية الأخيرة أمورا غامضة لا بد فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال.. ختمت بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. وجملة ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء: خمسة بصيغ النهي، وأربعة بصيغ الأمر، وتؤول الأوامر بالنهي؛ لأجل التناسب، وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي (١): ﴿تذكّرون﴾ حيث وقع بتخفيف الذال حذف التاء؛ إذ أصله: تتذكرون، وفي المحذوف خلاف، أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل؟ وقرأ باقي السبعة: ﴿تذّكرون﴾ - بتشديد الذال - أدغم تاء تفعّل في الذال.
١٥٣ - والعاشر: ما ذكره بقوله: ﴿وَأَنَّ هذا﴾ الذي (٢) وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو. ﴿صِراطِي﴾؛ أي: طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي حالة كونه ﴿مُسْتَقِيمًا﴾؛ أي: قويما مستويا لا اعوجاج فيه ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾؛ أي: فاسلكوه واعملوا بمقتضاه من تحريم وتحليل، وأمر ونهي وإباحة ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾؛ أي: ولا تسلكوا الطرق المختلفة، والأهواء المضلة، والبدع الرديئة. وقيل: السبل المختلفة مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ﴾؛ أي: فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾؛ أي: عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده.
وقرأ الجمهور: ﴿فَتَفَرَّقَ﴾ بتاء خفيفة، وقرأ البزي ﴿فتّفرّق﴾: بتشديدها. فمن خفف حذف إحدى التائين، ومن شدد أدغم وقيل: معنى الآية؛ أي: وإن (٣) هذا القرآن الذي أدعوكم إليه، وأدعوكم به إلى ما يحييكم هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله، ونيل سعادة الدنيا والآخرة حال كونه مستقيما لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه؛ فاتبعوه وحده؛ ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه - وهي كثيرة - فتتفرق بكم عن سبيله بحيث يذهب كل منهم في سبيل
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
140
ضلالة ينتهي بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
والخلاصة: أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه؛ فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج، وترجحون الهدى على الضلال.
وقيل (١): إن الله تعالى لما بين في الآيتين المتقدمتين ما وصاه به مفصّلا.. أجمله في هذه الآية إجمالا يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه، ويدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة، وكل ما بينه رسول الله ﷺ من دين الإسلام؛ وهو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، وأمرهم باتباع جملته وتفصيله.
وأخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله ﷺ خطا بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: «وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
وإنما جعل الصراط المستقيم واحدا (٢)، والسبل المخالفة متعددة؛ لأن الحق واحد، والباطل وهو ما خالفه كثير، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية، محرفة أو منسوخة. ونهى عن التفرق في صراط الحق، وسبيله؛ لأن التفرق في الدين الواحد، وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه، ويتعصبون له ويخطّئون من خالفه، ويرمون أتباعه بالجهل والضلال سبب لإضاعته؛ إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيه، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص، والحق لا يكون وقفا على عالم معين، ولا على أتباعه، بل كل باحث يخطئ ويصيب، وذلك ما دل عليه العقل، وأثبته الكتاب والسنة والإجماع. ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
141
فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق.. كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم.
روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿وإن هذا﴾ - بكسر الهمزة على الاستئناف - والتقدير: وإن الذي ذكر في هذه الآيات صِراطِي ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق بالفتح والتخفيف على أنها مخففة، واسمها ضمير الشأن. وقرأ الباقون بالفتح مشددة بتقدير اللام على أنه علة مقدمة لقوله: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾. وقرأ ابن عامر: ﴿صراطي﴾ - بفتح الياء -. وقرأ الأعمش: ﴿وهذا صراطي﴾: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: ﴿وهذا صراط ربكم﴾ وفي مصحف أبي: ﴿وهذا صراط ربك﴾.
﴿ذلِكُمْ﴾ الاتباع للصراط المستقيم ﴿وَصَّاكُمْ بِهِ﴾؛ أي: أمركم ربكم في الكتاب ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: لكي تتقوا وتجتنبوا الطرق المختلفة والسبل المضلة. والتقوى: (١) اسم لكل ما يتقى به من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه، وقد ذكرت في القرآن في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج، وتفسر في كل موضع بما يناسبه. والمعنى: ذلكم الاتباع لصراط الحق المستقيم، والاجتناب عن سبل الضلالات والأباطيل وصاكم ربكم به؛ ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردي في الدنيا والآخرة، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة.
وقال الرازي (٢): ختمت الآية الأولى بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ والثانية بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك، وقتل الأولاد، وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها، فنهاهم
(١) المراغي.
(٢) الفخر الرازي.
142
سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم، وإيفاء الكيل والميزان، والعدل في القول، والوفاء بالعهد؛ فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان.
وقال أبو حيان (١) ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد مر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق. ختم الآية الثالثة بالتقوى لتي هي اتقاء النار؛ إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، وحصل على السعادة السرمدية.

فصل


وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات:
منها: ما أخرجه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه.. فليقرأ هؤلاء الآيات: ﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿تَتَّقُونَ﴾.
ومنها: ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟» ثم تلا: «﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى ثلاث آيات ثم قال: «فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه».
ومنها: ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال: قال الربيع بن خيثم: أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد ﷺ بخاتمه؟ قلت: نعم، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...﴾ إلى آخر الآيات.
(١) البحر المحيط.
143
الإعراب
﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لا﴾ نافية. ﴿أَجِدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فِي ما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَجِدُ﴾. ﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مُحَرَّمًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَجِدُ﴾؛ لأنه يتعدى إلى واحد؛ لأنه من وجد الضالة. ﴿عَلى طاعِمٍ﴾: متعلق بـ ﴿مُحَرَّمًا﴾. ﴿يَطْعَمُهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿طاعِمٍ﴾، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿طاعِمٍ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿أَنْ يَكُونَ﴾: ناصب ومنصوب. ﴿مَيْتَةً﴾: بالنصب خبر ﴿يَكُونَ﴾، واسمها ضمير يعود على الشيء المحرم، والجملة في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقدير: إلا كونه ميتة، والمصدر المؤول ليس مقصود في المعنى، والمعنى: لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم إلا ميتة. ﴿أَوْ دَمًا﴾: معطوف على ﴿مَيْتَةً﴾. ﴿مَسْفُوحًا﴾: صفة له. ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾: معطوف على ﴿دَمًا﴾. ﴿فَإِنَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إنّ﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾ اسمها. ﴿رِجْسٌ﴾: خبرها، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما حرم ذلك المذكور لكونه رجسا ونجسا. ﴿أَوْ فِسْقًا﴾: معطوف على ﴿لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾. ﴿أُهِلَّ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أُهِلَّ﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿أُهِلَّ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿فِسْقًا﴾ تقديره: أو فسقا مهلا به لغير الله.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)﴾.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط
144
مقدر تقديره: إذا عرفت حرمة هذه المذكورات، وأردت بيان حكم ما إذا اضطر إليها.. فأقول لك، ﴿من اضطر﴾: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿اضْطُرَّ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿غَيْرَ﴾: منصوب على الحالية من ضمير ﴿اضْطُرَّ﴾. ﴿باغٍ﴾: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة. ﴿وَلا عادٍ﴾: معطوف على ﴿باغٍ﴾ مجرور بكسرة مقدرة، وجواب الشرط محذوف تقديره: فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر، فأكل منه.. فلا مؤاخذة عليه. ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿رَبَّكَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلة، والتقدير: فلا مؤاخذة عليه؛ لأن ربك غفور له رحيم به.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَرَّمْنا﴾: الآتي. ﴿هادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿حَرَّمْنا﴾: فعل وفاعل. ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ﴾: متعلق بـ ﴿حَرَّمْنا﴾ الآتي. ﴿حَرَّمْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿حَرَّمْنا﴾ الأولى. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَرَّمْنا﴾. ﴿شُحُومَهُما﴾: مفعول به ومضاف إليه.
﴿إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿حَمَلَتْ ظُهُورُهُما﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما حملته ظهورهما. ﴿أَوِ الْحَوايا﴾: معطوف على ﴿ظُهُورُهُما﴾: مرفوع على الفاعلية بضمة مقدرة تقديره: ﴿أو﴾ ما حملته الحوايا. ﴿أَوِ﴾: حرف عطف بمعنى الواو كسابقتها. ﴿ما﴾: موصولة، أو
145
موصوفة في محل النصب على الاستثناء معطوف على ﴿ما حَمَلَتْ﴾. ﴿اخْتَلَطَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿بِعَظْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَطَ﴾. ﴿ذلِكَ﴾: اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ. ﴿جَزَيْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والعائد محذوف تقديره: جزيناهم به. ﴿بِبَغْيِهِمْ﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿بغيهم﴾: مجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جزينا﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِنَّا﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿نا﴾ اسمها. ﴿لَصادِقُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿ذلِكَ جَزَيْناهُمْ﴾ على كونها مستأنفة.
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا أخبرتهم تحريم ما ذكر، وأردت بيان حكم ما إذا كذبوك.. فأقول لك، ﴿إن كذبوك﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿كَذَّبُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. فَقُلْ: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبا، ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قل﴾ وإن شئت قلت: ﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾. ﴿واسِعَةٍ﴾: صفة لـ ﴿رَحْمَةٍ﴾. ﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿عَنِ الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾. ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿أَشْرَكُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَوْ شاءَ﴾ إلى آخره مقول محكي لقالوا، وإن شئت
146
قلت: ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿شاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَشْرَكْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾، وجملة ﴿لَوْ﴾ في محل النصب مقول قالوا. ﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿آباؤُنا﴾: معطوف على ﴿نا﴾، وجاز العطف لوجود الفصل بـ ﴿لا﴾. ﴿وَلا حَرَّمْنا﴾: معطوف على ﴿أَشْرَكْنا﴾. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: ﴿مِنْ﴾: زائدة في المفعول ﴿شَيْءٍ﴾؛ أي: ولا حرمنا شيئا.
﴿كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾.
﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، والتقدير: كذب الذين من قبلهم تكذيبا مثل ذلك التكذيب لك في أن الله منع من الشرك، ولم يحرم ما حرموه المدلول عليه بقولهم: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ...﴾ الخ، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿ذاقُوا بَأْسَنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى ذوقهم بأسنا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: واستمروا على التكذيب إلى ذوقهم بأسنا. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ عِنْدَكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري. ﴿عِنْدَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿عِلْمٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فَتُخْرِجُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿تخرجوه﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام. ﴿لَنا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: هل ثبوت علم عندكم فإخراجكم إياه لنا؟. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿تَتَّبِعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الظَّنَّ﴾: مفعول به. ﴿وَإِنْ﴾:
147
﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، وجملة ﴿تَخْرُصُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿الفاء﴾: استئنافية أو رابطة لجواب شرط مقدر تقديره: إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة، ﴿لله﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الْحُجَّةُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْبالِغَةُ﴾: صفة لـ ﴿الْحُجَّةُ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل الجزم بإن المقدرة على كونها جوابا لها.
﴿فَلَوْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿شاءَ﴾: فعل ماض، وفاعله يعود على ﴿الله﴾، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: هدايتكم. ﴿لَهَداكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿هداكم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لضمير المفعول، والجملة جواب ﴿لو﴾، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية معطوفة مفرعة على جملة إن المقدرة على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلُمَّ﴾ اسم فعل أمر بمعنى أحضروا مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنتم. ﴿شُهَداءَكُمُ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب صفة للشهداء، وجملة ﴿يَشْهَدُونَ﴾ صلة الموصول. ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿حَرَّمَ هذا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾،
148
وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعول شهد تقديره: الذين يشهدون تحريم الله هذا. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان حكم ما إذا شهدوا.. فأقول لك: ﴿إن شهدوا﴾: ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿شَهِدُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبا، ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَشْهَدْ﴾: مجزوم بـ ﴿لا﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿مَعَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَلا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تَتَّبِعْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلا تَشْهَدْ﴾ على كونها جوابا لـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿أَهْواءَ الَّذِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾. وجملة ﴿يَعْدِلُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ على كونها صلة الموصول الثاني.
﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿تَعالَوْا﴾ فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿أَتْلُ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الواو، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿أَتْلُ﴾. ﴿حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط
149
محذوف تقديره: ما حرمه ربكم. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿حَرَّمَ﴾ لسبقه على مذهب البصريين، أو بـ ﴿أَتْلُ﴾ لقربه على مذهب الكوفيين.
﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: مصدرية. ﴿لا﴾: زائدة. ﴿تُشْرِكُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلا من ﴿ما﴾ في قوله: ﴿ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾، والتقدير: تعالوا أتل عليكم ما حرمه ربكم وأتل عليكم تحريم إشراككم به شيئا، ويصح أن تكون ﴿لا﴾: نافية، و ﴿أن﴾ مصدرية، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف تقديره: وذلك المتلو عدم إشراككم بالله شيئا، ويصح أن تكون ﴿أن﴾ تفسيرية، وجملة: ﴿لا تشركوا﴾ مفسرة لجملة ﴿أتل عليكم﴾، وفي المقام أوجه متلاطمة من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها. ﴿وَبِالْوالِدَيْنِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: وأحسنوا بالوالدين. ﴿إِحْسانًا﴾: مفعول مطلق لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾، والتقدير: ومن ذلك المتلو أن تحسنوا بالوالدين إحسانا. ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾. ﴿مِنْ إِمْلاقٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾. ﴿نَحْنُ﴾: ضمير المتكلم المعظم نفسه في محل الرفع مبتدأ. ﴿نَرْزُقُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿وَإِيَّاهُمْ﴾: معطوف على الكاف، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المتعاطفين مسوقة لتعليل النهي قبلها.
﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)﴾.
﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: {أَلَّا
150
تُشْرِكُوا}. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من ﴿الْفَواحِشَ﴾ بدل تفصيل من مجمل. ﴿ظَهَرَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿ظَهَرَ﴾ وهو الرابط بين البدل والمبدل منه، وجملة ﴿ظَهَرَ﴾ صلة ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَما بَطَنَ﴾: معطوف على ﴿ما ظَهَرَ﴾. ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾. ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿النَّفْسَ﴾. ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: التي حرم الله تعالى قتلها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور صفة للمفعول المطلق المحذوف تقديره: لا تقتلوا إلا القتل الملتبس بالحق. ﴿ذلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿وَصَّاكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مسوقة لتعليل الوصية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ﴾.
﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة على ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِالَّتِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقْرَبُوا﴾. ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَبْلُغَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْيَتِيمِ﴾. ﴿أَشُدَّهُ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق تقديره: احفظوا ماله إلى بلوغه أشده؛ أي: حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموه إليه. ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزانَ﴾: معطوف على ﴿الْكَيْلَ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾. ﴿بِالْقِسْطِ﴾: جار
151
ومجرور حال من فاعل ﴿أَوْفُوا﴾؛ أي وأوفوا الكيل والميزان حالة كونكم مقسطين؛ أي: متلبسين بالقسط والعدل.
﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
﴿لا﴾: نافية. ﴿نُكَلِّفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿نَفْسًا﴾: مفعول به، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. وُسْعَها: منصوب على الاستثناء. ﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل. ﴿قُلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذا﴾، والظرف متعلق بالجواب. ﴿فَاعْدِلُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة، ﴿اعدلوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا، وجملة إِذا معطوفة على جملة قوله: ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾. ﴿وَلَوْ كانَ﴾: ﴿الواو﴾ اعتراضية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيها يعود إلى معلوم من السياق تقديره: ولو كان المقول له أو عليه. ﴿ذا قُرْبى﴾: خبر ﴿كانَ﴾ منصوب بالألف، وجواب ﴿لَوْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: ولو كان المقول له ذا قربى فاعدلوا، وجملة ﴿لَوْ﴾ معترضة. ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿أَوْفُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾. ﴿ذلِكُمْ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿وَصَّاكُمْ بِهِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب ومنصوب، وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)﴾.
﴿وَأَنَّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿هذا﴾: في محل النصب اسمها. ﴿صِراطِي﴾: خبرها. ﴿مُسْتَقِيمًا﴾: حال مؤكدة من صِراطِي، والعامل فيها اسم الاشارة، وجملة ﴿أَنَّ﴾: من اسمها وخبرها في تأويل مصدر
152
مجرور بلام التعليل المقدرة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اتبعوه﴾؛ أي: واتبعوا هذا المذكور في الآيتين، أو في جميع هذه السورة لكونه صراطي مستقيما. ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: زائدة. ﴿اتبعوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾. ﴿فَتَفَرَّقَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿تفرق﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: هي يعود على ﴿السُّبُلَ﴾. ﴿بِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تفرق﴾ على كونه مفعولا به. ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تفرق﴾ أيضا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها تقديره: لا يكن منكم تتبع السبل فتفرقها بكم عن سبيله. ﴿ذلِكُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب ومنصوب، وجملة ﴿تَتَّقُونَ﴾ خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَلى طاعِمٍ﴾ اسم من طعم الثلاثي من باب سمع؛ أي: على آكل أي كان من الذكور أو من الإناث، فهذا (١) رد لقولهم: ﴿وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا...﴾ الخ. وقوله: ﴿يَطْعَمُهُ﴾ من باب فهم، اهـ «مختار».
﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ المسفوح: المصبوب السائل كالدم الذي يجري من المذبوح من سفح يسفح - من باب فتح - سفحا وسفوحا، يقال: سفح الدم أو الدمع سفكه وأراقه وصبه. والسفح (٢): الصب، وقيل: السيلان، وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصرا ومتعديا، يقال: سفح زيد دمعه ودمه؛ أي: أهراقه وسفحه؛ إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر، ففي المتعدي يقال: سفح،
(١) أبو السعود.
(٢) الفتوحات.
153
وفي اللازم يقال: سفوح، ومن المتعدي قوله تعالى: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ فإن اسم المفعول التام لا يبني إلا من متعد، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة:
أقول ودمعي واكف عند رسمها عليك سلام الله لله والدّمع يسفح
﴿اضْطُرَّ﴾؛ أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء معه ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ أصله باغي استثقلت الكسرة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، فصار باغ بوزن قاض، ولم يحذف التنوين لما في حذفه من إجحاف كلمة مستقلة، وكذا يقال في عاد، والمعنى: فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر.. فأكله غير باغ خارج على المسلمين، ولا عاد متعد عليهم بقطع الطريق.
﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وفي الظفر لغات خمس أعلاها: ظفر - بضم الظاء والفاء - وهي قراءة العامة. وظفر: - بسكون العين وهي تخفيف لمضمومها -، وبها قرأ الحسن في رواية، وقرأ أبي بن كعب والأعرج: ﴿ظِفِرٍ﴾ - بكسر الظاء والفاء - ونسبها الواحدي لأبي السمال، وقراءة ﴿ظَفْرٍ﴾ - بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف لمكسروها - ونسبها الناس للحسن أيضا قراءة، واللغة الخامسة أظفور، ولم يقرأ بها فيما علمت، وجمع الثلاثي أظفار، وجمع أظفور أظافير - وهو القياس - وأظافر من غير مد، وليس بقياس، اه «سمين».
﴿أَوِ الْحَوايا﴾: إما جمع (١) حاوياء، كقاصعاء وقواصع، أو جمع حاوية، كزاوية وزوايا، أو جمع حوية كهدية وهدايا، ففي مفرده أقوال ثلاثة، وقال الفارسي: يصح أن يكون جمعا لكل من الثلاثة، فإن كان مفردها حاوية أو حاوياء.. فوزنها فواعل كضوارب كزاوية وزوايا وقاصعاء وقواصع، والأصل حواوي كضوارب، قلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة، ثم قلبت الهمزة ياء، فاستثقلت الكسرة على الياء، فقلبت فتحة، فتحرك حرف العلة وهي الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحة، فقلبت ألفا فصارت حوايا ففيه أربعة أعمال، وإن شئت
(١) الفتوحات.
154
قلت: قلبت الواو همزة مفتوحة، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا فصارت همزة مفتوحة بين ألفين يشابهانها، فقلبت الهمزة ياء، ففيه ثلاثة أعمال، واختلف أهل التصريف في ذلك، وإن قلنا: إن مفردها حوية فوزنها فعائل كطرائق، والأصل: حوائي فقلبت الهمزة ياء مكسورة، ثم فتحت تلك الياء، ثم قلبت الياء الثانية التي هي لام الكلمة ألفا، فصار حوايا، ففيه ثلاثة أعمال، فاللفظ متحد والعمل مختلف. اه «سمين».
﴿هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ﴾ ﴿هَلُمَّ﴾ (١) هنا اسم فعل بمعنى أحضروا، و ﴿شُهَداءَكُمُ﴾: مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عمل مسماه من تعد ولزوم. واعلم أن هلم فيها لغتان: لغة الحجازيين ولغة التميميين، فأما لغة الحجاز: فإنها فيها بصيغة واحدة سواء أسندت لمفرد أم مثنى أم مجموع، مذكر أو مؤنث نحو: هلم يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيرها، والتزمت العرب على هذه اللغة فتح الميم وهي حركة بناء بنيت على الفتح تخفيفا. وأما لغة تميم: وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تلحق سائر الأفعال، فيقال: هلما هلموا هلمي هلمت. وقال الفراء: يقال: هلمين يا نسوة، وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرف هذا قول الجمهور، وقد خالف بعضهم في فعليتها على هذه اللغة وليس بشيء، والتزمت العرب فيها أيضا على لغة تميم فتح الميم إذا كانت مسندة لضمير الواحد المذكر، ولم يجيزوا فيها ما أجازوه في رد وشد من الضم والكسر اه، «سمين».
﴿مِنْ إِمْلاقٍ﴾ والإملاق الفقر في قول ابن عباس، وقيل: الجوع بلغة لخم، وقيل: الإسراف، يقال: أملق إذا أسرف في نفسه. قاله محمد بن نعيم اليزيدي، وقيل: الإنفاق، يقال: أملق ماله إذا أنفقه. قال المنذر بن سعيد: والإملاق الإفساد أيضا. قاله شمر. قال: وأملق يكون قاصرا ومتعديا، يقال: أملق الرجل
(١) الجمل.
155
إذا افتقر؛ فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر؛ أي: أفسده، اه «سمين».
وفي «المصباح» أملق إملاقا افتقر واحتاج، وملقت الثوب ملقا - من باب قتل - غسلته وملقته ملقا، وملقت له: توددت له - من باب تعب - وتملقت له كذلك اه.
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ﴾ هما (١) الآلة التي يكال بها ويوزن وأصل الكيل مصدر، ثم أطلق على الآلة والميزان، في الأصل مفعال من الوزن، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس، وأصل ميزان موازن ففعل به ما فعل بميقات؛ أعني: قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة، فصار ميزان.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ والأشد قيل: هم اسم مفرد لفظا ومعنى، وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: هو جمع، وعلى هذا فمفرده شدة كنعمة وأنعم. وقيل: شد كفلس وأفلس وكلب وأكلب، أو شد كضر وأضرر، أقول: ثلاثة في مفرده، وأصله من شد النهار إذا ارتفع، وقال سيبويه: واحده شدة، قال الجوهري: وهو حسن في المعنى؛ لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المغاير بين ﴿طاعِمٍ﴾ و ﴿يَطْعَمُهُ﴾، وبين ﴿شُهَداءَكُمُ﴾ و ﴿يَشْهَدُونَ﴾.
ومنها: القصر في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾؛ لأنه (٢) استعار الظفر للحافر على ما قاله القتبي.
(١) الجمل.
(٢) البحر المحيط.
156
ومنها: الإضافة لتأكيد التخصيص في قوله تعالى: ﴿شُحُومَهُما﴾ لأنه لو أتى في الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لكان كافيا في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم، ولكنه أضاف لتأكيد التخصيص.
ومنها: المبالغة في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، لأنهما من صيغ المبالغة؛ أي: مبالغ في المغفرة والرحمة.
ومنها: التعريض في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَصادِقُونَ﴾ لأنه يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم الله علينا، وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم.
ومنها: الإتيان في مقول قل، أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا: بالجملة الفعلية، فناسبت الأبلغية في الله تعالى بالرحمة الواسعة، وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت اسمية، فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين، وباب الرحمة واسع فلا تعادل، ذكره أبو حيان في «البحر».
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله تعالى: ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ لأن حق العبارة ولا يردّ بأسه عنكم ويحتمل كون الكلام على عمومه.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾؛ لأن المعنى: فلا تصدقهم، فإن تصديقهم في الشهادة الباطلة بمنزلة الشهادة لذلك الباطل، فأطلق اسم الشهادة على التصديق على سبيل الاستعارة التصريحية، ثم اشتق منه قوله: ﴿فَلا تَشْهَدْ﴾ فيكون (١) استعارة تبعية، وقيل: هو مجاز مرسل من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشهادة من لوازم التسليم، وقيل: هو كناية، وقيل: مشاكلة.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ اعتناء بشأنه؛ لأن الفواحش يندرح فيها قتل النفس، فجرد منها هذا
(١) زاده.
157
استعظاما له وتهويلا، ولأنه قد استثنى منه في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾: ولو لم يذكر هذا الخاص، لم يصح الاستثناء من عموم الفواحش، فلو قيل في غير القرآن: لا تقربوا الفواحش إلا بالحق لم يكن شيئا.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ لأنه استعار السبل للبدع والضلالات والمذاهب المنحرفة.
ومنها: التنكير في قوله تعالى: ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا﴾ لإفادة العموم والشمول.
ومنها: الإضافة في قوله تعالى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ للتشريف والتعظيم.
ومنها: التكرار في قوله تعالى: ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ تأكيدا لشأن التوصية.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي﴾ فشبه الدين القويم بالصراط بمعنى: الطريق بجامع أن كلا يوصل للمقصود، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ فشبه الأديان الباطلة بالطرق المعوجة بجامع أن كلا يوصل صاحبه إلى المهالك، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية، ذكره الصاوي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
158
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (١) ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين، وأردف ذلك بذكر الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات.. نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية، أو إلى وجوب اتباعه وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح
(١) المراغي.
159
لهم عذرا عند الله تعالى، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب، وعرفوا بالسماع خبره.
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر وإزاحة للعلة، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب.. أردف ذلك ببيان أنه لا أمل في إيمانهم البتة، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه في مستقبل أمرهم، وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله وسلامه عليه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما وصى (٢) هذه الأمة على لسان رسوله باتباع صراطه المستقيم، ونهى عن اتباع غيره من السبل، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم.. أردف ذلك بتذكير هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام، فيضيع الحق وتنفصم عرى الوحدة، وتصبح بعد أخوة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم.
قوله تعالى: ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في السورة أصول الإيمان وأقام عليها البراهين، وفند ما يورده الكفار من الشبهات، ثم ذكر في الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها.. بين هنا الجزاء العام في الآخرة على الحسنات؛ وهي الإيمان
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
160
والأعمال الصالحة، وعلى السيئات؛ وهي الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ...﴾ الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لآخر السورة: لما (١) كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين، مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم.. جاءت هذه الخاتمة آمرة له ﷺ بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل، وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه ﷺ مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه. ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين.
التفسير وأوجه القراءة
١٥٤ - و ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ للترتيب﴾ الذكري؛ أي: للترتيب في الذكر والإخبار، لا في الزمان؛ لأن إيتاء موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن، والمعنى: ثم بعد ما أخبرتكم الوصايا المتقدمة.. أخبركم بأنا أعطينا موسى التوراة، أو يقال: إن ﴿ثُمَّ﴾ هنا بمعنى الواو الاستئنافية؛ أي: وأعطينا موسى التوراة ﴿تَمامًا﴾؛ أي: لأجل إتمام نعمتنا وكرامتنا ﴿عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ وآمن بها من بني إسرائيل وأحسن العمل بأحكامها، يدل على هذا المعنى قراءة عبد الله: على الذين أحسنوا. وقرأ يحيى بن يعمر بالرفع، وخرج على حذف المبتدأ؛ أي: على الذي هو أحسن دينا، كقراءة من قرأ ﴿مثلا ما بعوضة﴾ - بالرفع - ﴿وَتَفْصِيلًا﴾ وبيانا لهم لكل شيء يحتاج إليه في الدين، فيدخل في
(١) المراغي.
161
ذلك بيان نبوة سيدنا محمد ﷺ ودينه ﴿وَهُدىً﴾؛ أي: وهداية لهم من الضلالة ﴿وَرَحْمَةً﴾؛ أي: أمانا لهم من العذاب بإنزالها لمن آمن بها ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر من الصفات لكي يؤمنون ويصدقون بلقاء ربهم بالبعث من القبور، ويفوزون بالإيمان بها السعادة الأبدية في دار الكرامة السرمدية التي أعدها الله سبحانه وتعالى لمن آمن بوحيه وتمسك بشريعته.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر عن القرآن بقوله: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾.. أردف بمدح التوراة كما جاء مثل هذا في قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا﴾، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ﴾ ثم قال: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ الآية.
وقد تكرر في الكتاب الكريم قرنه بالتوراة؛ لما بينهما من التشابه، فكل منهما شريعة كاملة؛ والإنجيل والزبور ليسا كذلك، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة، إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة، ولهم رسول يسمى موسى، وأنهم أهل علم، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتي اليهود التوراة، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا به، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأي.
وهذه الوصايا العشر التي في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات في السور المدنية، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، لكن وصايا القرآن أجمع للمعاني، فهي تبلغ العشرات إذا فصلت.
وهذه الوصايا وما أشبهها هي أصول الأديان على ألسنة الرسل يرشد إلى ذلك قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ
162
إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى} وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق، والتباعد عن الفواحش والمنكرات.
وقد يكون معنى الآية (١): ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ﴾؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء الناس: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به، وهو كذا وكذا، ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب إلى آخره ﴿تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾؛ أي: آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به كما جاء في قوله: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا﴾ وقوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا﴾ أو المعنى: آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله: ﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: مفصلا لكل شيء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها، مدنية أو حربية أو جنائية، وهذا كقوله في صفة القرآن: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿وَهُدىً وَرَحْمَةً﴾؛ أي: ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به، فينجيه الله من الضلال وعمى الحيرة ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر؛ ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله تعالى، وموضع الفوز في دار الكرامة تلك الدار التي أعدها الله لمن اهتدى بوحيه.
١٥٥ - وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم، فقال: ﴿وَهذا﴾ القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه ﴿كِتابٌ﴾ عظيم شأنه ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ على محمد ﷺ بواسطة الروح الأمين، كما أنزلنا الكتاب على موسى ﴿مُبارَكٌ﴾؛ أي: كثير الخير دينا ودنيا جامع لأسباب الهداية الدائمة، وجاء بأكثر مما في كتاب موسى من تفصيل لهدى البشر في معاشهم ومعادهم ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾؛ أي: فاتبعوا يا أهل مكة ما هداكم إليه ﴿وَاتَّقُوا﴾ ما نهاكم عنه وحذركموه {لَعَلَّكُمْ
(١) المراغي.
تُرْحَمُونَ}؛ أي: لتكون رحمته مرجوة لكم في الدنيا والآخرة إن قبلتموه ولم تخالفوه. والمعنى (١): هذا القرآن العظيم كتاب أنزلناه من اللوح المحفوظ ليلة القدر إلى سماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل مفرقا على حسب الوقائع مبارك كثير الخير والمنافع في الدنيا بالشفاء به، والأمن من الخسف والمسخ والضلال، وفي الآخرة بتلقي السؤال عن صاحبه وشهادته له وكونه ظلّة على رأسه في حر الموقف والرقي إلى الدرجات العلا.
وقال التبريزي (٢): في الكلام إشارة، وهو وصف الله التوراة بالتمام، والتمام يؤذن بالانصرام، قال الشاعر:
إذا تمّ أمر بدا نقصه توقّع زوالا إذا قيل تمّ
فنسخها الله بالقرآن ودينها بالإسلام، ووصف القرآن بأنه مبارك في مواضع كثيرة، والمبارك هو الثابت الدائم في ازدياد، وذلك مشعر ببقائه ودوامه.
١٥٦ - وقوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ﴾ الْكِتابُ علة لمعلول محذوف تقديره: وأنزلنا إليكم يا أهل مكة هذا القرآن المرشد إلى توحيد الله وطريق طاعته وتزكية النفوس من أدران الشرك بلغتكم كراهية ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم ما جاءنا كتاب نفهمه بلغتنا ﴿إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ﴾؛ أي: التوراة والإنجيل ﴿عَلى طائِفَتَيْنِ﴾؛ أي: فريقين ﴿مِنْ قَبْلِنا﴾ وهما اليهود والنصارى ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾؛ أي: وقد كنا، وقيل: وإنه كنا ﴿عَنْ﴾ معرفة ما في كتبهم وفهم ﴿دِراسَتِهِمْ﴾ وقراءتهم للكتاب الذي أنزل عليهم ﴿لَغافِلِينَ﴾؛ أي: لجاهلين لا ندري ولا نعلم ما هي؛ لعدم فهمنا ما يقولون، لأنها بلغة غير لغتنا، ولأنهم أهله دوننا، ولأنا لم نؤمر بما فيه، ولغلبة الأمية علينا.
والمراد بهذه الآية: إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن بلغتهم على سيدنا محمد ﷺ كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا
(١) الصاوي.
(٢) البحر المحيط.
على اليهود والنصارى، ولا نعلم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم.
والمعنى (١): وأنزلنا هذا القرآن بلغتكم يا أهل مكة كراهية أن تقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلغتهما، فلم نفهم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم كي لا يعتذروا عند المجازاة على شركهم وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن محيصن (٢): ﴿أن يقولوا﴾ - بياء الغيبة - يعني: كفار قريش.
١٥٧ - ﴿أَوْ﴾ كراهية أن ﴿تَقُولُوا﴾ يوم القيامة ﴿لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ﴾؛ أي: لو أننا أنزل علينا الكتاب بلغتنا كما أنزل على اليهود والنصارى بلغتهم العبرانية أو السريانية، فأمرنا بما فيه ونهينا عما نهى عنه، وبين لنا خطأ ما نحن فيه ﴿لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ﴾؛ أي: أصوب دينا من اليهود والنصارى، وأطوع للحق الذي هو المقصد الأقصى والطريق المستقيم، وأسرع إجابة لأمر الرسول لجودة أذهاننا ومزيد ذكائنا، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة.
وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مثل هذا في قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ﴾؛ أي: من إحدى الأمم المجاورة لهم من أهل الكتاب.
فرد الله تعالى عليهم بجواب قاطع لكل تعلّة، دافع لكل اعتذار، فقال: ﴿فَقَدْ جاءَكُمْ﴾ يا أهل مكة من الله سبحانه وتعالى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: قرآن عظيم فيه بيان للحلال من الحرام ﴿وَهُدىً﴾ لما في القلوب من الضلالة ﴿وَرَحْمَةٌ﴾؛ أي: نعمة من الله لعباده الذي يتبعونه ويقتفون ما فيه؛ أي: لا تعتذروا بذلك، فقد جاءكم من ربكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين في العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشؤون الاجتماع، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته إذ يجذب
(١) عمدة التفاسير للشارح.
(٢) البحر المحيط.
165
ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتم تفصيل، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه؛ وهو رحمة عامة لمن يستضيؤون بنوره وتنفذ فيهم شريعته؛ إذ هم يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا في عقائدهم وعباداتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات، وبعد أن بين عظم قدر هذا الكتاب.. بين سوء عاقبة من كذب به، فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ والفاء فيه فاء الفصحية؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة والرحمة الشاملة.. فأقول لك: لا أظلم، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: فلا أحد أشد ظلما ﴿مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ القرآنية ولم يؤمن بها ﴿وَصَدَفَ﴾؛ أي: أعرض بنفسه ﴿عَنْها﴾؛ أي: عن تلك الآيات؛ أي: عن العمل بما فيها من الأوامر والنواهي.
وقيل المعنى: كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها؛ أي: صرف الناس ومنعهم عن الإيمان بها، فجمع بين الضلال بالتكذيب، والإضلال بصرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمي قريش بمكة، فقد كانوا يصدفون العرب ويمنعونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن، فينجذبوا إلى الإيمان، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾. وقرأ ابن وثاب وابن أبي عبلة: ﴿ممن كَذَبَ﴾ بتخفيف الذال. ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ﴾؛ أي: سنعاقب الذين ﴿يَصْدِفُونَ﴾ ويعرضون ﴿عَنْ آياتِنا﴾ الواضحة وحججنا الساطعة ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾؛ أي: شديد العذاب ﴿بِما كانُوا يَصْدِفُونَ﴾؛ أي: بسبب إعراضهم عن آياتنا وتكذيبهم لرسلنا، والإضافة في سوء العذاب من إضافة الصفة إلى الموضوف؛ أي: العذاب السيء أو المعنى (١): سنجزي الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يتجرؤون عليه من الصدف عنها؛ إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين الهداية. وقرأت فرقة: ﴿يَصْدِفُونَ﴾: بضم الدال.
(١) المراغي.
166
ونحو الآية قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)﴾؛ أي: زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله، فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق.
١٥٨ - والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ إنكاري بمعنى النفي؛ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون من أهل مكة وغيرهم ﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾؛ أي: ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم من عزرائيل وأعوانه، أو ملائكة العذاب. وقرأ الكسائي وحمزة: ﴿إلا أن يأتيهم﴾ - بالياء - أَوْ إلا أن ﴿يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ يا محمد يوم القيامة للحكم (١) وفصل القضاء بين الخلائق إتيانا يليق به لا نكيفه ولا نمثله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ كما جاء في آية أخرى: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾. وقيل المراد بإتيان الله إتيان ما وعد به من النصر لأوليائه، وأوعد به أعداءه من العذاب في الدنيا كما جاء في قوله: ﴿فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾. وقيل أو يأتي أمر ربك بإهلاك ﴿أَوْ﴾ إلا أن ﴿يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾؛ أي: بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة، وهي عشرة (٢)، وهي العلامات الكبرى، وهي الدجال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر. وتقدير الآية (٣): أنهم لا يؤمنون بك يا محمد إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاثة، فإذا جاءتهم إحداها آمنوا، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم.
والخلاصة (٤): أنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة: مجيء الملائكة، أو مجيء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا﴾ وقولهم: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾، أو مجيء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ ونحو ذلك من
(١) عمدة التفاسير.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
167
الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم. وفي الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله وعدم اعتدادهم بها، وأنه لا أمل في إيمانهم البتة.
﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ الموجبة للإيمان الاضطراري من الآيات التي اقترحوها، أو ما هو أعم من ذلك، فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل: هي الآيات العظام التي تدل على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا، وتبس الجبال بسا، ويبطل هذ النظام الشمسي بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا كما في حديث «الصحيحين». والظرف متعلق بقوله: ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا﴾؛ أي: نفسا كافرة، أو مؤمنة عاصية ﴿إِيمانُها﴾ وقتئذ ﴿لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل ذلك ﴿أَوْ﴾ نفسا لم تكن ﴿كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا﴾؛ أي: عملا صالحا من قبل ظهور تلك الآيات؛ أي: لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيء تلك الآيات لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال.
قال ابن كثير: إذا (١) أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك.. فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ.. لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث. وقرأ ابن عمر وابن الزبير وابن سيرين وأبو العالية (٢): ﴿يوم تأتي﴾ - بالفوقية - مثل: ﴿تلتقطه بعض السيارة﴾ قال المبرد التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل، ومنه قول جرير:
لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشّع
وقرأ ابن سيرين: ﴿لا تنفع نفسا﴾ - بالفوقية -. قال أبو حاتم: ذكروا أنها غلط منه، وقال الزمخشري: أنث الفعل؛ لكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه. وقرأ زهير القروي: ﴿يوم يأتي﴾ - بالرفع - والخبر ﴿لا يَنْفَعُ﴾
(١) ابن كثير.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
168
والعائد محذوف؛ أي: فيه. ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمد ﴿انْتَظِرُوا﴾ أيها المعاندون ما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام، أو انتظروا ما وعدتم به من مجيء إحدى هذه الآيات ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ معكم وعد ربنا لنا ووعيده لكم، أو منتظرون ما أوعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة، وقيل المعنى: قل لهم يا محمد انتظروا هلاكي إنا منتظرون هلاككم، ونحو الآية قوله: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)﴾ وقال ابن كثير: هذا تهديد شديد للكافرين، ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك، وهو كقوله: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾.

فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية


قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ قال جمهور المفسرين (١): هو طلوع الشمس من مغربها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». أخرجه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ في قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ قال: «طلوع الشمس من مغربها». أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها.. تاب الله عليه». أخرجه مسلم.
وعن صفوان بن غسان المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب من قبل المغرب، مسيرة عرضه - أو قال: يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة، خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة، لا يغلق حتى
(١) الخازن.
169
تطلع الشمس منه». أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها» وفي رواية: «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا» متفق عليه.
وعن حذيفة بن أسد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع رسول الله ﷺ علينا ونحن نتذاكر، فقال: «ما تذكرون» قلنا: الساعة، فقال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات»، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، وثلاث خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم». أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخويصة أحدكم، وأمر العامة». أخرجه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله ﷺ حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا». أخرجه مسلم.
وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال: تصبحون والشمس والقمر من ههنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين، زاد في رواية عنه: فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا، وبسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ يوما: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها:
ارتفعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها لا ينكر الناس منها شيئا حتى
170
تنتهي، فتخر ساجدة في مستقرها تحت العرش، فيقال لها: اطلعي من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي يوم ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذلك يوم لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا».
وبسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت رديف رسول الله ﷺ ذات يوم على حمار، فنظر إلى الشمس حيث غربت فقال: «إنها تغرب في عين حمئة، تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها، فإذا أراد أن يطلعها من مغربها.. حبسها، فتقول: يا رب إن مسيري بعيد، فيقول لها: اطلعي من حيث غربت، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل».
وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله ﷺ عشية من العشيات، فقال لهم: «عباد الله توبوا إلى الله قبل أن يأتيكم بعذاب، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب، فإذا فعلت حبست التوبة وطوي العمل»، فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال، فيستيقظ الذين يخشون ربهم، فيصلون له، ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض، ثم يأتون مضاجعهم فينامون، حتى إذا استيقظوا والليل مكانه، فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم، فإذا أصبحوا فطال عليهم.. رأت أعينهم طلوع الشمس، فبينما هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب، فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل».
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا ينفع مشركا إيمانه عند الآيات، وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرا قبل ذلك.
وقال ابن الجوزي: قيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها: أن الملاحدة والمنجمين زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله تعالى قدرته، فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، فيتحقق عجزهم. وقيل: بل ذلك بعض الآيات الثلاث: الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها.
171
يروى عن ابن مسعود أنه قال: التوبة معروضة على ابن آدم، إن شاء قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة، أو طلوع الشمس من مغربها، أو يأجوج ومأجوج.
ويروى عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات.. طرحت التوبة، وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال.
ويروى عن أبي هريرة في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ قال: هي مجموع الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض. وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، وثبت عن النبي ﷺ أنه طلوع الشمس من مغربها.
قال الضحاك (١): من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه.. قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل من قبل ذلك، فأما من آمن من شرك، أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية.. فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل الله عذابا على أمة.. فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.
وفي كتاب «الإشاعة في أشراط الساعة» ما نصه (٢): ومن الأشراط العظام طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض، وهذان أيهما سبق الآخر..
فالآخر على أثره، فإن طلعت الشمس قبل.. خرجت الدابة ضحى يومها أو قريبا من ذلك. وإن خرجت الدابة قبل طلعت الشمس من الغد.
وروى أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في هذه الأمة قردة وخنازير، وتطوى الدواوين، وتجف الأقلام، لا يزاد في حسنة، ولا ينقص من سيئة، ولا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا».
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
172
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله تعالى غاية لتوبة عباده فتستأذن الشمس من أين تطلع، ويستأذن القمر من حيث يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحسبان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن، فينادي بعضهم بعضا، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، ثم يرسل الله جبرائيل إلى الشمس والقمر، فيقول: إن الرب تعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما، فتطلعا منه لا ضوء لكما عندنا ولا نور، فتبكي الشمس وكذا القمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت، فترجع الشمس والقمر، فيطلعان من مغربهما، فبينما الناس كذلك يتضرعون إلى الله عز وجل، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد: ألا إن باب التوبة قد أغلق، والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما، فينظر الناس إليهما، وإذا هما أسودان
كالعكمين لا ضوء لهما ولا نور، فذلك قوله تعالى: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ (٩). والعكم - بالكسر - الغرارة؛ أي: كالغرارتين العظيمتين، ومنه يقال لمن يشد الغرائر على الجمل: العكام، فيرتفعان مثل البعيرين المقرنين ينازع كل منهما صاحبه استباقا، ويتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها؛ فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب لهم عبادة، وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب عليهم حسرة، فإذا بلغت الشمس والقمر وسط السماء جاءهما جبريل، فأخذ بقرونهما، فردهما إلى المغرب، فيغربهما في باب التوبة، ثم يرد المصراعين، فيلتئم ما بينهما ويصيران كأنهما لم يكن صدع قط ولا خلل، فإذا أغلق باب التوبة.. لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة ولم تنفعه حسنة يعملها بعد ذلك إلا ما كان قبل ذلك يحب أن يفعله قبل ذلك، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري لهم قبل ذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها...﴾ الآية.
قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال: «يا عمر، خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب، فهو من أبواب الجنة، مصراعان من
173
ذهب مكللان بالدر والجواهر، ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب».
قال أبي بن كعب رضي الله عنه يا رسول الله، فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك، وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: «لا يا أبي، إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس بعد ذلك فيلحون على الدنيا ويعمرونها، ويجرون فيها الأنهار، ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مئة وعشرين سنة، السنة منها بقدر شهر، والشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم، واليوم بقدر ساعة».
وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تقوم الساعة حتى تعبد العرب ما كان يعبد آباؤها عشرين ومئة عام بعد نزول عيسى ابن مريم وبعد الدجال اه.
ويستمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود الموت فيهم، ويسرع فلا يبقى مؤمن، ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد، وأفضلهم من يقول: لو تنحيت عن الطريق.. لكان أحسن، فيكونون على مثل ذلك حتى لا يولد لأحد من نكاح، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة، ويكون كلهم أولاد زنا، شرار الخلق عليهم تقوم الساعة.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا طلعت الشمس من مغربها.. خر إبليس ساجدا ينادي ويجهر: إلهي مرني أسجد لمن شئت، فتجتمع إليه زبانيته، فيقولون: يا سيدنا ما هذا التضرع!؟
فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم، وهذا هو الوقت المعلوم انتهى.
174
١٥٩ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾؛ أي: إن الذين فرقوا وبددوا وشتتوا دينهم بأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
قال ابن عباس (١): هم اليهود والنصارى فرقوا دين إبراهيم الحنيف إذ تفرقوا فرقا، وكفر بعضهم بعضا، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾.
وقال الحسن: هم جميع المشركين؛ لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا: إنهم بنات الله، وبعضهم عبدوا الكواكب، فكان هذا تفريق دينهم اه.
وقال أبو هريرة في هذه الآية: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وروي ذلك مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، وليسوا منك؛ هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة» أسنده الطبري.
ولا مانع من الجمع بين الآراء (٢)، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم، وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)﴾ ثم بين أن رسوله بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كما فعل أهل الكتاب، فهو يحذر من صنيعهم، وينهى عن سلوك طريقهم، فمن اتبع سنتهم في هذا التفريق.. فالرسول بريء منه كما هو بريء من أولئك المفرقين من سالفي الأمم، فعلى (٣) هذا يكون المراد من هذه الآية: الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين، ولا يبتدعوا البدع المضلة. وفي حديث رواه أبو داود والترمذي: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
(١) ابن كثير.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
175
وقرأ حمزة والكسائي (١): ﴿فارقوا دينهم﴾ هنا وفي الروم بألف وهي قراءة علي بن أبي طالب؛ أي: تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ باقي السبعة: ﴿فَرَّقُوا﴾ بالتشديد. وقرأ إبراهيم النخعي والأعمش وأبو صالح: ﴿فرقوا﴾ بتخفيف الراء.
﴿وَكانُوا شِيَعًا﴾؛ أي: أحزابا وفرقا مختلفة في الضلالة، كل فرقة تشيع وتتبع إماما لها ﴿لَسْتَ﴾ يا محمد ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من تفرقهم، أو من السؤال عن سبب تفرقهم، والبحث عن موجب تحزبهم ﴿فِي شَيْءٍ﴾ من الأشياء، فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به، إنما عليك البلاغ وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا»؛ أي: نحن براء منه؛ أي: أنت بريء منهم وهم بريئون منك، وهذا على أن المراد من الآية: أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة. وأما على القول بأن المراد من الآية: اليهود والنصارى والكفار، فمعناه لست من قتالهم في شيء، ولست مأمورا بقتالهم، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السيف.
﴿إِنَّما أَمْرُهُمْ﴾؛ أي: جزاؤهم وعقابهم مفوض ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: أنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم، والتفريق له بما اقتضت به سنة الله تعالى من ضعف المتفرقين، وفشل المتنازعين، وتسليط الأقوياء عليهم، وإذاقة بعضهم بأس بعض، كما بين ذلك سبحانه بقوله: ﴿فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا﴾. ﴿ثُمَّ﴾ بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في الدنيا يبعثهم يوم القيامة فـ ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾ ويخبرهم عند الحساب ﴿بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ في الدنيا من الاختلاف والتفرق اتباعا للأهواء، ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء في النار وبئس القرار.
والخلاصة (٢): أن المراد بـ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا؛ هم أهل الكتاب، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم؛ ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة.. فالرسول منه بريء؛ إذ ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم، بل إذا اتصف
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
176
المسلمون بمثل ما اتصفوا به.. كان حكمهم كحكمهم؛ لأن الله لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات، والتفرق في الدين؛ لأنهم مسلمون، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين، وخروجا من سنن المهتدين.
ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق في هذه الأمة في دينها وتبعة ضعفها في دنياها ترجع إلى أمور:
منها: التنازع على الملك، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا.
ومنها: العصبية الجنسية والنعرة القومية في كل شعب وقبيل؛ إذ شمخ كل شعب بأنفه، وأبى أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة وأرفعها محتدا، فأنى له أن ينقاد لسواه.
ومنها: عصبية المذاهب والآراء في أصول الدين وفروعه، فأرباب المذاهب من الشيعة ذموا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية، ورجال الحديث تكلموا في أهل القياس.
ومنها: القول في الدين بالرأي، فإن كثيرا ممن يركن إليهم في الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة، والتفقه في فهم الكتاب، فإذا عرضت له حادثة، ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة.. أفتى فيها بالرأي، وقد يكون مصادما للدليل النقلي، أو لفتاوى الصحابة والتابعين إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشؤون المعيشة وأحوال الاجتماع، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة في الأزمنة المتعاقبة.
ومنها: دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له، ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين، واتخذوها مرجعا في استنباط بعض الأحكام، والدين منها براء.
وعن معاوية رضي الله عنه قال (١): قام فينا رسول الله ﷺ فقال: «ألا إن
(١) الخازن.
177
من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» زاد في رواية: «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخلته». أخرجه أبو داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي». أخرجه الترمذي.
قال الخطابي: في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين؛ إذ جعلهم من أمته.
١٦٠ - ﴿مَنْ جاءَ﴾ ربه يوم القيامة ﴿بـ﴾ الخصلة ﴿الحسنة﴾ والأعمال الصالحة من خصال الطاعات التي فعلها، وقلبه مطمئن بالإيمان ﴿فَلَهُ﴾؛ أي: فلذلك العامل عنده تعالى ﴿عَشْرُ﴾ حسنات ﴿أَمْثالِها﴾؛ أي: جوزي عليها بعشر حسنات أمثالها فضلا من الله سبحانه وتعالى وكرما منه، وهذا استئناف لبيان قدر جزاء العاملين، والتقييد بالعشرة؛ لأنه أقل مراتب التضعيف، وإلا فقد جاء الوعد به إلى سبعين، وإلى سبع مئة، وإلى أنه بغير حساب، إذ قد وعد بالمضاعفة دون قيد في قوله: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧)﴾ ووعد بمضاعفة كثيرة في قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً﴾ ووعد بالمضاعفة إلى سبع مئة ضعف في قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)﴾.
وفي هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين في الصفات النفسية كالإخلاص في النية، والاحتساب عند الله، والإخفاء سترا على المعطي، وتباعدا من الشهرة، والإبداء لحسن القدوة، وتحري المنافع والمصالح، وما
178
يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء، وحب الشهرة الباطلة، والمن والأذى.
والحاصل: أن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده.. لا تكون حاله كمن يبذله طيبة به نفسه، مسرورة بتوفيق الله تعالى على عمل الخير، ونيل ثواب الآخرة، واعلم أن المضاعفة تابعة للإخلاص، فكل من عظم إخلاصه.. كانت مضاعفة حسناته أكثر ﴿وَمَنْ جاءَ﴾ ربه يوم القيامة ﴿بـ﴾ الخصلة ﴿السيئة﴾ والأعمال القبيحة ﴿فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها﴾ من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات، كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب.. فعلينا أن نقول: يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب. أما إذا تاب، أو غلبت حسناته سيئاته، أو تغمده برحمته وتفضل عليه بمغفرته.. فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحا لا يبقى معه ريب لمرتاب. ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: عاملوا الحسنات وعاملوا السيئات ﴿لا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب حسنات المحسنين، ولا بزيادة عقوبات المسيئين، فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمجازاة بالمثل في السيئات من باب العدل. أي: أن كلا الفريقين فاعلي الحسنات، وفاعلي السيئات لا يظلم يوم الجزاء، لا من الله - لأنه منزه عن الظلم عقلا ونقلا، فقد روى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه إنه قال: «يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» الحديث - ولا من غيره؛ إذ لا سلطان لأحد من خلقه، ولا كسب في ذلك اليوم يمكنه من الظلم، كما يفعل الأقوياء الأشرار في الدنيا بالضعفاء.

فصل في الأحاديث المناسبة للآية


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة
179
يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى» متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا.. لقيته بمثلها مغفرة». أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: يقول الله تبارك وتعالى: «وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي.. فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة، فلم يعملها.. فاكتبوها له حسنة، فإن عملها.. فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة». متفق عليه. هذا لفظ البخاري.
وفي لفظ مسلم عن محمد رسول الله ﷺ قال: «قال الله تبارك وتعالى: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة.. فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها..
فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة.. فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها.. فأنا أكتبها له بمثلها»
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت الملائكة: رب ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: أرقبوه، فإن عملها.. فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها.. فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرّاي» (١) زاد الترمذي: ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها﴾.
وقرأ الحسن وابن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث (٢): ﴿عشرٌ﴾ - بالتنوين - ﴿أمثالُها﴾ بالرفع على أنه صفة لـ ﴿عشر﴾.
١٦١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين لك من قومك ومن سائر البشر ﴿إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي﴾؛ أي: إن ربي الذي رباني بالوحي هداني وأرشدني بما أوحاه إلي بفضله ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق قويم لا عوج فيه ولا انحراف، ولا اشتباه
(١) من جرّاي: خوفا منّي.
(٢) البحر المحيط.
180
يهدي سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه، فتقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وعرفني ﴿دِينًا قِيَمًا﴾؛ أي: دينا صادقا ثابتا قويما مصلحا يستقيم به أمور الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (١): ﴿قيّما﴾ بوزن سيد - بفتح القاف وكسر الياء المشددة -: فيعل من قام؛ كسيد من ساد، وهو أبلغ من قائم. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿قِيَمًا﴾ - بكسر القاف وتخفيف الياء - وهو مصدر كالصغر والكبر، والحول والشبع وصف به مبالغة؛ أي: دينا ذا قيم؛ أي: صدق، وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: قوما كما قالوا: عوض وحول، ولكنه شذّ عن القياس.
الزموا ﴿مِلَّةَ إِبْراهِيمَ﴾؛ أي: دينه وشريعته وما أوحي به إليه من الحنيفية السمحة حالة كون إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلا من الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم ﴿وَ﴾ حالة كون إبراهيم أيضا ﴿ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بالله يا معشر قريش؛ أي إنه منزه من الشرك وما عليه المبطلون وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين: إنهم على ملة إبراهيم، وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولليهود الذين يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى القائلين: إن عيسى ابن الله، وهذا كقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)﴾.
وهذا الدين هو دين الإخلاص لله وحده، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله، وقرره في جميع كتبه، وجعله ملة إبراهيم؛ لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركوا العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكانت قريش ومن لف لفها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادعوا اتباعه واتباع موسى وعيسى
(١) زاد المسير.
181
عليهما السلام، كما قال: ﴿ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)﴾.
١٦٢ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿إِنَّ صَلاتِي﴾ المفروضة علي وعلى أمتي التي أعبد بها ربي، وكذا الصلاة المستحبة؛ لأن المراد بالصلاة ما يشمل المفروض منها والمستحب ﴿وَنُسُكِي﴾؛ أي: جميع أنواع عبادتي من صوم وحج وزكاة وغيرها من سائر العبادات، فعطفه على ما قبله على هذا التفسير من عطف العام على الخاص، أو حجي وعمرتي. وكثر استعماله في عبادة الحج، أو ذبيحتي التي أذبح بها في الحج، أو في غيره؛ أي: إن صلاتي ونسكي مخلصان لله لا شركة لغيره فيهما ﴿وَ﴾ إن ﴿مَحْيايَ﴾؛ أي: حياتي، أو ما أوتيته في حياتي من العمل الصالح والنعم ﴿وَمَماتِي﴾؛ أي: وفاتي، أو ما أموت عليه من الإيمان، وقيل: معناه أن طاعتي في حياتي لله، وجزائي بعد مماتي من الله؛ أي:
كلاهما منسوبان ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾؛ أي: معبود العالمين وخالقهم ومالكهم.
وحاصل هذا الكلام (١): أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يبين للمشركين ويخبرهم أن صلاته ونسكه وسائر عبادته وحياته وموته كلها مخلصة لله، وواقعة بخلق الله وقضائه وقدره، فهو مخالف لهم في عبادة الأصنام وذبحهم لها ﴿لا شَرِيكَ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى في شيء من ذلك من الصلاة والنسك، والمحيا والممات في الخلق والتقدير.
وقرأ الحسن وأبو حيوة (٢): ﴿نسكي﴾ بإسكان السين، وقرأ الباقون بضمها، وقرأ نافع: ﴿محياي﴾: بسكون الياء، وقرأ الباقون بفتحها؛ لئلا يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه؛ - أي: السكون - أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه؛ لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة. قال أبو حيان: وما روي عن نافع من سكون يا المتكلم في ﴿محياي﴾ هو جمع بين ساكنين أجري الوصل
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
فيه مجرى الوقف، والأحسن في العربية الفتح. قال أبو علي: هي شاذة في القياس؛ لأنها جمعت بين ساكنين، وشاذة في الاستعمال.
وروى أبو خالد عن نافع ﴿ومحياي﴾ - بكسر الياء -، وقرأ ابن إسحاق وعيسى بن عمرو الجحدري: ﴿ومحيي﴾ - من غير ألف - على لغة هذيل؛ وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع
وقرأ عيسى بن عمر: ﴿صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي﴾ - بفتح الياء -، وروي ذلك عن عاصم.
١٦٣ - ﴿لا شَرِيكَ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى في شيء من ذلك من الصلاة والنسك والمحيا والممات، ولا شريك له في الخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه ﴿وَ﴾ قل لهم يا محمد ﴿بِذلِكَ﴾ التوحيد أو الإخلاص ﴿أُمِرْتُ﴾؛ أي: أمرني ربي ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي سابق على إسلام أمته؛ لأنهم منه يأخذون شريعته. قاله قتادة؛ أي: وأنا أول من أقر بالوحدانية، وأذعن وخضع لله سبحانه وتعالى، وأخلص في التوحيد والعبادة لله من هذه الأمة، وقيل معناه: وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره تعالى. والمراد (١) من كون محياه ومماته لله تعالى أنه قد وجه وجهه، وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته، وبذلها في سبيله، فيموت على ذلك كما يعيش، والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين، فينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، فيتحرى الخير والصلاح، والإصلاح في كل عمل من أعماله، ويطلب الكمال في ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضي ربه، ولا يحرص على الحياة لذاتها، فلا يرهب الموت فيمتنع من الجهاد في سبيل الله، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل، فيأخذ على أيدي أهل الجور،
(١) المراغي.
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وأفرد (١) الصلاة بالذكر مع دخولها في النسك؛ لأن روحها - وهو الدعاء، وتعظيم المعبود، وتوجيه القلب إليه والخوف منه - مما يقع فيه الشرك.
والخلاصة: أنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين، أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه.. كان مشركّا، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
ومعنى ﴿لا شَرِيكَ لَهُ﴾؛ أي: لا شريك له في ألوهيته، فيستحق أن يشركه في العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير في عبادته، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به، وترك ما نهى عنه. وفي هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد في العقيدة،
١٦٤ - ثم انتقل إلى برهانه الأعلى، وهو توحيد الربوبية بما أمره به، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين توبيخا لهم وإنكارا عليهم ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ الذي خلق الخلق ورباهم ﴿أَبْغِي﴾ وأطلب ﴿رَبًّا﴾ آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إلى لينفعني، أو يمنع الضر عني، أو ليقربني إليه زلفى؛ أي: هل أطلب ربا ومالكا وإلها غير الله سبحانه وتعالى أعبده وأتخذه إلها ومعبودا؟ ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى رب كل شيء مما عبد، ومما لم يعبد، ومالكه وخالقه، فكيف يليق بي أن أتخذ إلها غير الله؟ فهو الذي خلق الملائكة والمسيح، والشمس والقمر، والكواكب والأصنام، كما قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾ وإذا كان هو الخالق والمدبر، فكيف أسفه نفسي، وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخالق الخلق أجمعين.
والمعنى: أي (٢) لا أطلب إلها غيره ولا أتوكل إلا عليه، فهو رب كل شيء
(١) المراغي.
(٢) الجمل.
184
ومليكه وخالقه، فكيف يكون المملوك شريكا لمالكه ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾؛ أي: ولا تحمل نفس ذنبا ﴿إِلَّا﴾ كان ﴿عَلَيْها﴾ جزاؤه لا على غيرها ﴿وَلا تَزِرُ﴾؛ أي: ولا تعمل كل نفس ﴿وازِرَةٌ﴾؛ أي: آثمة؛ أي: ولا غير وازرة أيضا ﴿وِزْرَ أُخْرى﴾؛ أي: ذنب نفس أخرى؛ أي: فلا تحمل آثمة ولا طائعة ذنب غيرها، وإنما (١) قيد في الآية بالوازرة موافقة لسبب النزول، وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، وهو وازر وآثم إثما كبيرا. وفي الآية رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة والأولى حمل الآية على ظاهرها؛ أعني: العموم، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة، ونحو ذلك.. فيكون في حكم المخصص بهذا العموم، ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ﴾ فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ذكره الشوكاني.
والخلاصة:
أن الدين أرشدنا أن نجري على ما أودعته الفطرة في النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، والعمل يؤثر في النفس التأثير الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير الذي يدسيها ويفسدها إن كان سيئا، والجزاء مبني على هذا التأثير، فلا ينتفع أحد، ولا يتضرر بعمل غيره.
ومن كان قدوة صالحة في عمل، أو معلما له.. فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل، أو دالا عليه ومغريا به.. فإن عليه مثل إثم من فعله، وبيّن النبي ﷺ هذا بقوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان
(١) الفتوحات.
185
عليه وزرها، ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». رواه مسلم.
وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء في سورة النجم: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩)﴾. وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح في المجتمع البشري، وهادمة لأسس الوثنية، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، وهي وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا بلا كسب ولا سعي من طريق الأسباب التي جرت بها سنته في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم، وترك عقابهم عليها، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة، وإنقاذهم من عذابها.
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره - لأنه في الحقيقة كأنه عمله، إذ كان سببا فيه - دعاء أولاده وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه، كما ورد في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة. ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب، وصح في السنة أن ولد الرجل من كسبه.
﴿ثُمَّ﴾ بعد اختلافكم في الدنيا في الأديان والملل ﴿إِلى رَبِّكُمْ﴾ لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم يوم القيامة للمجازاة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: يخبركم ويعلمكم ﴿بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الدنيا من الأديان والملل، فيثيب المسلمين ويعذب الكافرين؛ أي: ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين،
186
ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه، ونحو الآية قوله: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
١٦٥ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي جَعَلَكُمْ﴾ يا أمة محمد ﴿خَلائِفَ﴾ في ﴿الْأَرْضِ﴾ عن الأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم عن بعض. وقال الطبري: أي (١) استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها أو (٢) إنكم خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها، على أن الخطاب عام للنوع الإنساني ﴿وَ﴾ هو الذي ﴿رَفَعَ بَعْضَكُمْ﴾؛ أي: الحسن والغني والشريف والعالم والقوي مثلا ﴿فَوْقَ بَعْضٍ﴾ آخر؛ أي: فوق القبيح والفقير والوضيع والجاهل والضعيف مثلا ﴿دَرَجاتٍ﴾؛ أي: في الجمال والمال، والشرف والعلم والقوة مثلا. وقال ابن كثير: أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق، والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك، انتهى. وقال في «الخازن» والمعنى: خالف بين أحوال عباده، فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز عن التسوية، أو الجهل، أو البخل، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان كما ذكره بقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ كان﴾؛ أي: ليختبركم ﴿فِي ما آتاكُمْ﴾؛ أي: فيما أعطاكم من نعمة المال والجاه والقوة، هل تشكرون عليها فلكم الثواب والزيادة، أو تكفرون فلكم العقاب والحرمان، ولينظر كيف يصنع الشريف بالوضيع، والغني بالفقير، والمالك بالمملوك، وليختبر الفقير والوضيع والمملوك هل يصبرون أم لا؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿سَرِيعُ الْعِقابِ﴾ لمن عصاه وكفر بنعمته، ووصف العقاب بالسرعة؛ لأن ما هو آت قريب، أو سريع عند إرادته تعالى، والمعنى: سريع العقاب إذا جاء وقته فلا يرد، كيف قال: سَرِيعُ الْعِقابِ مع أنه حليم، والحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه وَإِنَّهُ سبحانه وتعالى ﴿لَغَفُورٌ﴾ لمن آمن به ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن قام بشكرها.
(١) الطبري.
(٢) البيضاوي.
187
والمعنى: أنه سبحانه (١) وتعالى سريع العقاب لمن كفر به، أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكب عن سنته، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون في الدنيا من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال، أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية، وهذا مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم، وأكثريّ في ذنوب الأفراد، ومطرد في الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها.
وهو (٢) سبحانه وتعالى على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين غفور للتوابين، رحيم بالمؤمنين المحسنين؛ إذ سبقت رحمته غضبه، ووسعت كل شيء، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها وقد يغفرها لمن تاب منها، كما قال: ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)﴾.
ولما (٣) كان الابتلاء يظهر به المسيء والمحسن، والطائع والعاصي.. ذكر هذين الوصفين وختم بهما. ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد.. بدأ قوله: ﴿سَرِيعُ الْعِقابِ﴾ يعني لمن كفر ما أعطاه الله تعالى، وسرعة عقابه إن كان في الدنيا فالسرعة ظاهرة، وإن كان في الآخرة فوصفه بالسرعة لتحققه؛ إذ كل ما هو آت قريب، ولما كانت جهة الرحمة أرجى.. أكد ذلك بدخول اللام في الخبر، ويكون الوصفان بنيا بناء مبالغة، ولم يأت في جهة العقاب بوصفه بذلك، فلم يقل: إن ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة.
فائدة: في خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من العقائد والأحكام (٤):
أولا: العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات الله بذكر أفعاله وسننه في الخلق، وآياته في الأنفس والآفاق، وتأثير العقائد في الأعمال مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل، أو ورودها جوابا بعد سؤال،
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
188
وفي أثناء ذلك يرد شبهات المشركين، ويهدم هياكل الشرك ويقوض أركانه.
ثانيا: الرسالة والوحي، وتفنيد شبهات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى؛ وهي القرآن المشتمل على الأدلة العقلية، والبراهين العلمية، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل، ويستبعدون إنزال الوحي عليهم.
ثالثا: البعث والجزاء والوعد والوعيد، بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين، والجنة والنار، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن، ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان، ويسمعون أصواتهم وعزفهم، وأنهم يلقون الشعر في هواجس الشعراء.
رابعا: أصول الدين ووصاياه الجامعة في الفضائل والآداب
، والنهي عن الرذائل، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية:
١ - أن دين الله واحد
، فتفريقه بالمذاهب والأهواء، وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدي الرسول الذي جاء به، وموجب لبراءته من فاعليه.
٢ - أن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم
النفسية والبدنية، وإن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها في الأنفس، وإن الجزاء على السيئة بمثلها، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة، وجزاء السيئات على الإنسان وحده، وجزاء الحسنات له وحده، فلا يحمل أحد وزر غيره.
٣ - أن الناس عاملون بالاختيار والإرادة ولكنهم خاضعون للسنن
والأقدار، فلا جبر ولا اضطرار، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه؛ إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير: أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجري عليه.
٤ - أن لله سننا في حياة الأمم وموتها، وسعادتها وشقائها
، وإهلاكها
189
بمعاندة الرسل، والظلم والفساد في الأرض، وتربيتها بالنعم تارة، وبالنقم أخرى.
٥ - أن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق الله تعالى، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع الله.. فقد افترى إثما عظيما.
٦ - الأمر بالسير في الأرض
، وقد تكرر ذلك في الكتاب الكريم للنظر في أحوال الأمم، وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل.
٧ - الترغيب في معرفة ما في الكون
، والإرشاد إلى معرفد سنن الله فيه، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته.
٨ - أن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح
موجبة لمغفرة الذنوب.
٩ - استيلاء الناس بعضهم ببعض؛ ليتنافسوا في العلوم والأعمال النافعة
، وإعلاء كلمة الحق والدين، ورفعة شأنه وإعزاز أهله.
الإعراب
﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف بمعنى الواو. ﴿آتَيْنا﴾: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا. ﴿مُوسَى﴾: مفعول أول. ﴿الْكِتابَ﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾، ﴿تَمامًا﴾: مفعول لأجله؛ أي: لأجل إتمام النعمة. ﴿عَلَى الَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمامًا﴾. ﴿أَحْسَنَ﴾: فعل، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿وَتَفْصِيلًا﴾: معطوف على ﴿تَمامًا﴾. ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَفْصِيلًا﴾. ﴿وَهُدىً وَرَحْمَةً﴾: معطوفان عليه أيضا؛ أي: لأجل الهداية والرحمة للذي أحسن وآمن به. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿بِلِقاءِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق
190
بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)﴾.
﴿وَهذا كِتابٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلْناهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع صفة أولى لـ ﴿كِتابٌ﴾. ﴿مُبارَكٌ﴾: صفة ثانية. وفي «الفتوحات» (١): يجوز أن يكون ﴿كِتابٌ﴾ و ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ و ﴿مُبارَكٌ﴾ أخبارا عن اسم الإشارة عند من يجيز تعدد الخبر مطلقا، أو بالتأويل عند من لم يجوز ذلك، ويجوز أن يكون ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ و ﴿مُبارَكٌ﴾ وصفين لـ ﴿كِتابٌ﴾ عند من يجيز تقديم الوصف غير الصريح على الوصف الصريح اه «سمين». ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿اتبعوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ﴾. ﴿وَاتَّقُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اتبعوه﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تُرْحَمُونَ﴾ خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوق لتعليل ما قبلها.
﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦)﴾.
﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَقُولُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة مصدر مقدر معلل لفعل محذوف جوازا تقديره: وأنزلنا عليكم هذا القرآن كراهية قولكم يوم القيامة، والجملة المحذوفة المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر ونفي. ﴿أُنْزِلَ الْكِتابُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿تَقُولُوا﴾.
﴿عَلى طائِفَتَيْنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِنا﴾: جار ومجرور
(١) الفتوحات.
191
ومضاف إليه صفة لـ ﴿طائِفَتَيْنِ﴾. ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة ولكنهما مهملة لا عمل لها. فلا يقدر لها اسم وهي هنا بمعنى قد التي للتحقيق وفي «السمين» ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾: ﴿إنْ﴾: مخففة من الثقيلة عند البصريين، وهي هنا مهملة، ولذلك وليتها الجملة الفعلية، انتهى. وقال أبو حيان: إن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها، ووليها الناسخ.. فهي مهملة انتهى. ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿عَنْ دِراسَتِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقوله: ﴿لَغافِلِينَ﴾. ﴿لَغافِلِينَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿غافلين﴾: خبر كان، وجملة كان واسمها في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿تَقُولُوا﴾.
﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿تَقُولُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَقُولُوا﴾ السابق منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿تَقُولُوا﴾ السابق على كونها في تأويل مصدر ومجرور بإضافة المصدر المقدر تقديره: أو كراهية قولكم يوم القيامة. ﴿لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ﴾ مقول محكي لـ ﴿تَقُولُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿الْكِتابُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلا لفعل محذوف تقديره: لو ثبت إنزال الكتاب علينا، والجملة المحذوفة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَكُنَّا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، ﴿كنا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَهْدى﴾: خبره. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَهْدى﴾، وجملة كان الناقصة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿تَقُولُوا﴾. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾ (١): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا
(١) الفتوحات.
192
صدقتم فيما تظنون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب.. فأقول لكم: قد حصل ما فرضتم وجاءكم بينة من ربكم، وإن شئت قلت: ﴿الفاء﴾: تعليلية لمحذوف تقديره: لا تعتذروا بذلك، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَيِّنَةٌ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَهُدىً وَرَحْمَةً﴾: معطوفان على ﴿بَيِّنَةٌ﴾.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿من﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. ﴿كَذَّبَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآياتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿وَصَدَفَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿عَنْها﴾: متعلق بـ ﴿صَدَفَ﴾. ﴿سَنَجْزِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب مفعول أول مبني على الفتح على الأصح، وقيل: مبني على الياء، وقيل: منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم على لغة هذيل أو عقيل نحو قول الشاعر:
نحن اللّذون صبّحوا الصّباحا يوم النّخيل غارة ملحاحا
﴿يَصْدِفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿عَنْ آياتِنا﴾: متعلق ﴿يَصْدِفُونَ﴾. ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَصْدِفُونَ﴾. بِما: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه، وجملة ﴿يَصْدِفُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾
193
المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بصدفهم، الجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿سَنَجْزِي﴾، والمعنى: سنجزيهم بسبب صدفهم وإعراضهم عن آياتنا سوء العذاب.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾.
﴿هَلْ﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾: ناصب وفعل ومفعول وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: هل ينظرون إلا إتيان الملائكة. ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾. وكذلك جملة قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ معطوفة عليها، والتقدير: ما ينتظرون إلا إتيان الملائكة إياهم، أو إتيان ربك، أو إتيان بعض آيات ربك.
﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بقوله: ﴿لا يَنْفَعُ﴾ الآتي، وهو مضاف. ﴿يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، واسمها ضمير يعود على ﴿نَفْسًا﴾. ﴿آمَنَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسًا﴾، وجملة ﴿آمَنَتْ﴾ في محل النصب خبر ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿تَكُنْ﴾ في محل النصب صفة ﴿نَفْسًا﴾ تقديره: نفسا عادمة إيمانها من قبل، ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف؛ لضرورة اتصال الفاعل بضمير المفعول؛ لامتناع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَتْ﴾. ﴿أَوْ كَسَبَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَفْسًا﴾. ﴿فِي إِيمانِها﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَسَبَتْ﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿كَسَبَتْ﴾: من الفعل والفاعل في محل النصب معطوفة على جملة ﴿آمَنَتْ﴾ على كونها خبرا لـ ﴿تَكُنْ﴾ تقديره: لم تكن
194
مؤمنة من قبل، أو كاسبة في إيمانها خيرا. ﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿انْتَظِرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قُلِ. إِنَّا: ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد مبني بفتحة مقدرة على النون المدغمة في نون ﴿نا﴾ منع من ظهورها السكون العارض للإدغام. ﴿نا﴾: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. ﴿مُنْتَظِرُونَ﴾: خبرها مرفوع بالواو، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَكانُوا شِيَعًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿فَرَّقُوا﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿لَسْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿ليس﴾ تقديره: كائنا منهم. ﴿فِي شَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله، والمعنى: لست مستقرا منهم في شيء؛ أي: من تفريقهم، ويجوز أن يكون فِي شَيْءٍ هو الخبر، ومِنْهُمْ: حال مقدمة عليه، وذلك على حذف مضاف، والمعنى: لست كائنا في شيء كائن من تفرقهم، فلما قدمت الصفة نصبت حالا انتهى من «السمين»، وجملة ﴿ليس﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾: تقديره: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا عادم أنت كونك منهم في شيء، ولكنه خبر سببي، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر ونفي. ﴿أَمْرُهُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ تقديره: إنما أمرهم مفوض إلى الله والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل الرفع معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿ليس﴾ على كونها خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ. ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ﴾. بِما: ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص
195
واسمه، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كانُوا﴾، وجملة كانُوا صلة ﴿ما﴾ المصدرية تقديره: بفعلهم، أو صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كانوا يفعلونه، والجار والمجرور على كلا التقديرين متعلق بـ ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾، ويحتمل كون الباء زائدة، وما بعدها في محل المفعول الثاني لـ ﴿نبأ﴾.
﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿جاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾: متعلق به. ﴿فَلَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبا، ﴿له﴾: خبر مقدم. ﴿عَشْرُ أَمْثالِها﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جوابا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿جاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾: متعلق به. ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب جوازا مشاكلة للجملة السابقة، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُجْزى﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿مِثْلَها﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُجْزى﴾ ومضاف إليه والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جوابا لها وإنما لم يجزم لفظه مشاكلة مع فعل الشرط وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. وَهُمْ: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. لا: نافية ﴿يُظْلَمُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير في ﴿يُجْزى﴾، وجمع الضمير هنا اعتبارا لمعنى ﴿مَنْ﴾.
﴿قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)﴾.
196
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّنِي﴾: ناصب واسمه ونون وقاية؛ لأنها تقي الحرف المبني على الفتح من الكسرة. ﴿هَدانِي رَبِّي﴾: فعل ومفعول وفاعل ونون وقاية. ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور صفة متعلق بـ ﴿هَدانِي رَبِّي﴾ على كونه مفعولا ثانيا لها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿دِينًا﴾: بدل من محل ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ على كونه مفعولا ثانيا لـ ﴿هَدانِي رَبِّي﴾؛ لأن المعنى: هداني ربي صراطا مستقيما دينا قيما، وهدى يتعدى تارة بإلى كما هنا، وتارة بنفسه كما في قوله: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ وقيل: إنه منصوب على المصدرية المعنوية؛ أي: هداني هداية دين قيم، أو على إضمار عرفني دينا قيما، أو الزموا دينا قيما. ﴿قِيَمًا﴾ صفة لـ ﴿دِينًا﴾. ﴿مِلَّةَ﴾: عطف بيان لـ ﴿دِينًا﴾، أو بدل منه، أو على إضمار أعني. ﴿إِبْراهِيمَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعجمة. ﴿حَنِيفًا﴾: حال من ﴿إِبْراهِيمَ﴾. وَما ﴿الواو﴾: عاطفة. ما: نافية. ﴿كانَ﴾: فعل ماض، واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْراهِيمَ﴾. ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كانَ﴾، والجمل في محل النصب معطوفة على ﴿حَنِيفًا﴾ على كونها حالا من ﴿إِبْراهِيمَ﴾ تقديره: وحالة كونه عادما كونه من المشركين.
﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة القول الأول. ﴿إِنَّ صَلاتِي﴾ إلى آخر الآيتين مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿صَلاتِي﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ ومضاف إليه. ﴿وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي﴾: معطوفات على ﴿صَلاتِي﴾: جريا على القاعدة المشهورة عند النحاة: إن المعطوفات إذا كثرت، وكان العاطف غير مرتب كالواو.. ويكون العطف على الأول، وإلا فكل على ما قبله. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾: صفة للجلالة ومضاف إليه،
197
وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لا﴾: نافية. ﴿شَرِيكَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾ تقديره: لا شريك موجود له، وجملة ﴿لا﴾ في محل النصب حال من الجلالة تقديره: حالة كونه عادم الشريك له في ذلك. ﴿وَبِذلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بقوله: ﴿أُمِرْتُ﴾. ﴿أُمِرْتُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ صَلاتِي﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من التاء في ﴿أُمِرْتُ﴾.
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿غَيْرَ اللَّهِ﴾: مفعول مقدم ومضاف إليه. ﴿أَبْغِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿رَبًّا﴾: منصوب على التمييز كما صرح به القرطبي، والكرخي، أو على الحال كما في «الجمل». ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع مبتدأ. ﴿رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة تقديره: هل أطلب ربا غير الله حالة كونه رب كل شيء وخالقه، فهو كافيّ وحسبي. ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ.
﴿عَلَيْها﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَكْسِبُ﴾، ويحتمل كونه حالا من المفعول المحذوف تقديره: ولا تكسب كل نفس الذنب إلا حالة كون ذنبها مكتوبا عليها. ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾: فعل وفاعل. ﴿وِزْرَ أُخْرى﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾، أو مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ. ﴿إِلى رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها. ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿ينبئكم﴾: فعل ومفعول،
198
وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ﴾ لأن العاطف هنا مرتب. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ينبئكم﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. فِيهِ: متعلق بـ ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾. ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كان﴾ تقديره: بما كنتم مختلفين فيه، وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها صلة لـ ﴿ما﴾، أو وصفة لها.
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ﴾: فعل ومفعولان ومضاف إليه، والإضافة فيه على معنى في، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿جَعَلَكُمْ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿فَوْقَ بَعْضٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿رَفَعَ﴾. ﴿دَرَجاتٍ﴾: تمييز محول عن المفعول منصوب بـ ﴿رَفَعَ﴾؛ لأن الأصل: ورفع درجات بعضكم فوق بعض. ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يبلوكم﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لبلائه إياكم؛ أي: لابتلائه إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَفَعَ﴾. فِي ﴿ما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يبلوكم﴾. ﴿آتاكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاكم إياه، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، أو الموصوفة، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿سَرِيعُ الْعِقابِ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَغَفُورٌ﴾: ﴿اللام﴾: لام ابتداء، ﴿غفور﴾، خبر أول لـ ﴿إنّ﴾. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ الأولى على كونها مستأنفة، والله أعلم.
199
التصريف ومفردات اللغة
تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تماما اسم مصدر لأتم الرباعي، أو مصدر له على حذف الزوائد؛ أي: إتماما لنعمتنا على الذي أحسن العمل بما في ذلك الكتاب بالقيام به.
﴿وَصَدَفَ عَنْها﴾ صدف هنا لازم بمعنى أعرض عنها، ويحتمل كونه متعديا. ولذا قال أبو السعود: ﴿وَصَدَفَ﴾؛ أي: صرف الناس عنها. وفي «القاموس»: وصدف عنه يصدف - من باب ضرب - أعرض، وصدف فلانا صرفه كأصدفه اه. وفي «المختار»: صدف عنه أعرض - وبابه ضرب وجلس - وأصدفه عن كذا: أماله عنه اه.
﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها﴾ والأمثال جمع مثل، وهو مذكر، فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة المشهورة عندهم: إن المعدود إذا كان مذكرا تؤنث الآحاد من أسماء العدد، وبالعكس؛ لأنها تجري على خلاف القياس مطلقا ركبت أم لا، إلا لفظ العشرة في حالة التركيب كما قال ابن مالك في «الخلاصة»:
ثلاثة بالتّاء قل للعشره في عدّ ما آحاده مذكّره
فالجواب: إن الكلام على حذف موصوف تقديره: عشر حسنات أمثالها، فالحسنات مؤنث، فناسب تذكير العدد.
وفي «السمين» إنما ذكر اسم العدد هنا مع أن المعدود مذكر لأوجه:
منها: أن الإضافة لها تأثير، فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث، فأعطي حكم المؤنث في سقوط التاء من عدده، ولذلك يؤنث فعله حالة إضافته لمؤنث نحو: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾.
ومنها: أن هذا المذكر عبارة عن مؤنث فروعي المراد منه دون اللفظ.
ومنها: أنه روعي الموصوف المحذوف، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، وترك العدد على حاله، ومثله مررت بثلاثة نسابات، ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاة للموصوف
200
المحذوف؛ إذ الأصل: بثلاثة رجال نسابات.
وقال أبو عليّ: اجتمع هنا أمران كل منهما يوجب التأنيث، فلما اجتمعا قوي التأنيث:
أحدهما: أن الأمثال في المعنى حسنات، فجاز التأنيث.
والآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنث وإن كان مذكرا. اه.
﴿قِيَمًا﴾ - بكسر (١) القاف وفتح الياء - على قراءة ابن عامر وعاصم والأخوين كما مر على أنه مصدر نعت به، وكان قياسه قوما بالواو كعوض؛ لأنه من قام يقوم، فأعل لإعلال فعله. وقرىء: ﴿قيما﴾ - بتشديد الياء - على وزن فيّعل كسيد من ساد يسود، وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة، والمستقيم أبلغ منه باعتبار الصيغة.
﴿حَنِيفًا﴾ الأصل (٢) في الحنيف: المائل عن الضلالة إلى الاستقامة، والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم. اه «خازن». وفي «القاموس»: الحنيف كأمير: الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه، وكل من حج، أو كان على دين إبراهيم عليه السلام. وتحنف إذا عمل عمل الحنيفية، أو اختتن، أو اعتزل عبادة الأوثان، واحتنف إليه: مال. اه. وفي «المختار»: الحنيف المسلم، وتحنف الرجل إذا عمل عمل الحنيفية، ويقال احتنف؛ أي: اعتزل الأصنام وتعبد اه.
﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ أصل (٣) الوزر الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)﴾ وهو هنا الذنب كما في قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ﴾. قال الأخفش: يقال: وزر يوزر كوجل يوجل، ووزر يزر كوعد يعد وزرا، ويجوز فيه إزرا بقلب الواو همزة، يقال: وزره يزره؛ أي: حمله يحمله.
﴿خَلائِفَ الْأَرْضِ﴾ الخلائف جمع خليفة كصحيفة وصحائف، فهذا من قبيل قول ابن مالك:
(١) البيضاوي.
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني بزيادة.
201
والمد زيد ثالثا في الواحد همزا يرى في مثل كالقلائد
والخليف: هو من يخلف من كان قبله في مكان أو عمل أو ملك. وفي «القرطبي»: والخلائف جميع خليفة ككرائم جمع كريمة، وكل من جاء بعد من مضى؛ فهو خليفة اه. وفي «المصباح»: والخليفة: أصله خليف بغير هاء؛ لأنه بمعنى الفاعل دخلته الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة، ويكون وصفا للرجل خاصة، ويقال: خليفة آخر بالتذكير، ومنهم من يقول: خليفة أخرى بالتأنيث، ويجمع باعتبار أصله على خلفاء مثل شرفاء، وباعتبار اللفظ على خلائف اه.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ والابتلاء الاختبار والامتحان، يقال: بلا يبلو بلاء وبلوى من باب عدا، يقال: بلاه بلوى وبلاء جربه واختبره، وبلاه الله يبلوه بلاء - بالمد - إذا اختبره، وهو يكون بالخير والشر، اه «مختار».
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾، ﴿أَوْ تَقُولُوا﴾ وفي: ﴿وَهُدىً وَرَحْمَةٌ﴾ وفي: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ وفي: ﴿يَأْتِيَ﴾ وفي: ﴿جاءَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله تعالى: ﴿لَكُنَّا أَهْدى﴾ ﴿وَهُدىً﴾ وفي قوله: ﴿وَصَدَفَ﴾ ﴿ويَصْدِفُونَ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ وقوله: ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾، وبين: ﴿وَمَحْيايَ﴾ ﴿وَمَماتِي﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ استعار التفريق الذي هو حقيقة في الأجسام لاختلافهم في الآراء، ثم اشتق منه فرقوا بمعنى: اختلفوا على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: ﴿هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لأن الصراط حقيقة في الطريق الحسي استعارة للدين.
202
ومنها: التعريض في قوله: ﴿وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لأنه عرض بشركهم.
ومنها: عطف العام على الخاص، في قوله: ﴿خَلَقَ﴾ إذا فسرنا النسك بالعبادة الشاملة للصلاة.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في عدة مواضع كقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾.
ومنها: التهديد والوعيد في قوله: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾، وفيه أيضا الجناس المغاير.
ومنها: ما هو المعروف باللف عند البيانيين في قوله: ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ وأصل الكلام فيه يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لفّ الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا بلاغة وإعجازا واختصارا، أفاده صاحب «الانتصاف» حاشية «الكشاف».
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿وِزْرَ أُخْرى﴾ لأنه ليس هناك في الحقيقة أحمال على الظهور، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب. ذكره الشريف الرضي.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا﴾ وحق العبارة يصدفون عنها لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم.
ومنها: زيادة التأكيد باللام، في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ترجيحا لجانب الغفران على سرعة العقاب.
وعبارة «الفتوحات» هنا: باللام في الجملة الثانية فقط، وقال في الأعراف باللام المؤكدة في الجملتين؛ لأن ما هنا وقع بعد قوله: ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ...﴾ الخ، وبعد قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ﴾ فأتى باللام المؤكدة في الجملة الثانية فقط ترجيحا للغفران على سرعة العقاب، وما هناك وقع بعد قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
203
ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ} وقوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ فأتى باللام في الجملة الأولى لمناسبة ما قبلها، وفي الثانية تبعا للام في الأولى، اه «كرخي».
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير سورة الأنعام بمنه وكرمه وتوفيقه في تاريخ: ١٩/ ١/ ١٤١٠ هـ.
204
سورة الأعراف
وهي مكية كلها إلا خمس آيات، أو ثماني آيات؛ فهي مدنية. وروي (١) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكية إلا خمس آيات أولها: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾ وبه قال قتادة. وقال مقاتل: ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾ إلى قول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ﴾.
وعدد آياتها مئتان وست آيات أو خمس، وعدد كلماتها ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمس وعشرون كلمة، وعدد حروفها أربعة عشر ألف حرف وعشرة أحرف؛ وهي أطول السور المكية، وسميت هذه السورة بالأعراف؛ لذكر لفظ الأعراف فيها من باب تسمية الشيء بجزئه.
وقد روي (٢): أنها نزلت قبل سورة الأنعام، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان؛ وهو أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها.
المناسبة: ومناسبة ذكرها بعد سورة الأنعام؛ لأن هذه (٣) كالشرح والبيان لما أوجز في سورة الأنعام، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقصص الرسل قبله، وأحوال أقوامهم، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ وعلى بيان القرون كما قال: ﴿كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم، وجاءت هذه مفصلة لذلك، فبسطت فيها قصة آدم، وفصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل.
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
205
الناسخ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ»: سورة الأعراف كلها محكمة إلا آيتين:
أولاهما: قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ﴾ الآية (١٨٠). نسخت بآية السيف.
ثانيتهما: قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)﴾ الآية (١٩٩). وهذه الآية من عجيب المنسوخ؛ لأن أولها منسوخ، وآخرها منسوخ، وأوسطها محكم قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ يعني: الفضل من أموالهم (١) والأمر بالمعروف محكم، وتفسيره معروف، وقوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾: منسوخ بآية السيف انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
206

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)﴾.
المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة السابقة: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) في السورة السابقة ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ واستطرد منه لما بعده إلى قوله في آخر السورة: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ﴾ وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية.. ذكر ما يكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي بقوله: ﴿المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وذكر الأمر باتباعه بقوله: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ كما أمر به في قوله: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ وهذا وجه المناسبة بين آخر الأولى وأول الثانية. وأما وجه المناسبة بين جملة
(١) البحر المحيط.
207
السورتين؛ فقد تقدم بيانه آنفا.
قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول.. أمر الأمة باتباعه، وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)﴾ ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرهبان، والكهان والأحبار، والنار والكواكب وغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (١) فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الايمان، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وأن لا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع.. أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك، ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه، والتذكير بما حلّ بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين، وإصرارهم على أباطيل أوليائهم.
قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (٢) الرسل في الآية السالفة بالتبليغ، وأمر الأمم بالقبول والمتابعة، وذكرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا.. قفى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة، وأنه في ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٣) فيما سلف أن واضع الدين هو الله سبحانه وتعالى، فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء، وقفى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها﴾ وذكر عذاب الآخرة بقوله: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وبقوله:
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
208
Icon