تفسير سورة الأنعام

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الأنعام
مكية غير ست أو ثلاث آيات :
من قوله ( قل تعالوا ) وهي مائة وخمس، أو ست وستون آية
وعشرون ركوعا١
١ وهي في مصحفنا، الذي برواية حفص عن عاصم مائة وخمس وستون آية، ولكن المصنف أوردها مائة وستا وستين آية..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ جمع١ السماوات لظهور تعددها دون الأرض، ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ أي : أنشأهما، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، فإن لكل جرم نور، ﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾، عطف على الحمد لله وتم للاستبعاد ومفعول يعدلون محذوف أي : يسوون الأوثان ( بربهم ) أو بربهم متعلق ب ( كفروا ) و( يعدلون ) من العدول لا من العدل وصلته محذوفة أي : يعدلون عنه، وقيل : الباء بمعنى عن فيتعلق بيعدلون.
١ لأن تعددها ظاهر بالعقل والنقل بخلاف الأرض، فإن كيفية تعددها مع عدم ثبوت النقل لدى العقل متعسر/١٢ وجيز..
﴿ هو الذي خلقكم ﴾ : ابتدأ خلقكم، ﴿ من طين ﴾ فإن آدم منه، ﴿ ثم قضى أجلا ﴾ أي : الموت، ﴿ وأجل مسمى ﴾ أي : الآخرة، ﴿ عنده ﴾ : لا يعلمه إلا هو، أو مدة الدنيا وعمر الإنسان، أو النوم والموت، أو مدة العمر ومدة البرزخ، والواو إما للعطف على ( هو الذي ) أو للحال، ﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ : تشكون في أمر الساعة.
﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ : متعلق بالله باعتبار المعنى١ الوصفي الذي ضمنه اسم الله وهو مقولية هذا الاسم عليه خاصة أو متعلق بقوله :﴿ يعلم ﴾ ولا يلزم كون ذاته أو علمه فيهما : بل يكفي كون المعلوم فيهما وهو إما خبر ثان أو حال، ﴿ سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون ﴾ : من خير وشر.
١ لا خفاء في أنه لا يجوز تعلقه بلفظ الله لكونه اسما لا صفة، فالقول أنه متعلق به بهذا التوجيه كأنه قال: وهو الذي يقال له الله فيهما لا يشترك به في هذا الاسم أو كأنه قال: وهو المعبود فيهما كما في قوله: هو حاتم في حيه، أي: جواد والله أعلم هذا ما في المنيهة وفي الفتح (وهو الله) أي: هو المعبود فيهما كقوله: (هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف: ٨٤)، وهو الذي يقال له فيهما، قال ابن عطية: هذا عندي أفضل الأقوال، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى، وقال ابن جرير: هو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض، والأول أولى/١٢..
﴿ وما تأتيهم من آية ﴾ ( من ) زائدة للاستغراق، ﴿ من آيات ربهم ﴾ : الدالة على وحدانيته، و( من ) تبعيضية لا تبيينية إلا أن تكون النكرة في النفي بمعنى جميع الأفراد، ﴿ إلا كانوا عنها ﴾ : عن التفكر فيها، ﴿ معرضين ﴾ : لا يلتفتون إليها.
﴿ فقد كذّبوا بالحق ﴾ أي : القرآن، ﴿ لما جاءهم ﴾ أي : إن أعرضوا فلا تعجب فإنهم كذّبوا بأعظم آية، وهذا أشد من الإعراض، ﴿ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي : أخبار القرآن وأحواله بأنهم بأي شيء استهزءوا، وهذا تهديد ووعيد شديد.
﴿ ألم يروا كم ﴾ : قوم، ﴿ أهلكنا من قبلهم من قرن١ والقرن أهل كل عصر أو مدة أعمار الناس، ﴿ مكّناهم في الأرض ﴾ : أعطيناهم من العمر، والمال، ﴿ ما لم نُمكّن لكم ﴾ : ما لم نعطه لكم، ﴿ وأرسلنا السماء ﴾ : المطر والسحاب ﴿ عليهم مدرارا ﴾ : كثير الدر أي : النصب، ﴿ وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ : بالعذاب من القحط والصواعق وغيرهما، ﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ : بدلا منهم فليخافوا أن نفعل بهم كما فعلنا بهؤلاء.
١ والقرن: الأمة المقترنة في مدة، ومدة القرن مائة سنة عند الأكثرين، ويدل عليه ما قاله –صلى الله عليه وسلم– في شأن أحد من الصحابة (إنه يعيش قرنا) فعاش مائة سنة/١٢ وجيز..
﴿ ولو نزّلنا عليك كتابا ﴾ : مكتوبا، ﴿ في قرطاس فلمسوه بأيديهم ﴾ واللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة، فإن الأكثر أنه بعد المعاينة، وأكثر السحر والتزوير في المراءى١، ﴿ لقال الذين كفروا ﴾ : عنادا، ﴿ إن هذا ﴾ : ما هذا، ﴿ إلا سحر مبين ﴾ قيل : نزلت حين قالوا لا نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملك يشهدون أنه من عند الله.
١ وأكثر السحر والشعبذة في المرائي، ولا يقع التزوير في اللمس، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا/١٢ منه..
﴿ وقالوا لولا ﴾ : هلا ﴿ أُنزل عليه ﴾ : على محمد، ﴿ مَلك ﴾ : يخبرنا أنه نبي، ﴿ ولو أنزلنا مَلَكاً ﴾ : بحيث يرونه كما اقترحوا، ﴿ لقُضي١ الأمر ﴾ : لحق إهلاكهم وعذابهم، فإن سنة الله جرت على أن من اقترح آية ولم يؤمن بها بعد نزولها استؤصلوا بالعذاب، ﴿ ثم لا يُنظرون ﴾ : لا يمهلون.
١ أو معناه لو أنزلنا ملكا على صورة ملكية لماتوا من هوله فإن رؤية الملك في صورته من خواص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه رأى جبريل في صورته مرتين، وقوله: (ولو جعلنه ملكا) يؤيد هذا المعنى/١٢ وجيز..
﴿ ولو جعلناه ﴾ أي : الرسول الذي أنزل على محمد، ﴿ ملكا ﴾ : يشهد على صدقه، ﴿ لجعلناه رجلا ﴾ : في صورة رجل فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، أو معناه ؛ ولو جعلنا الرسول إليكم بدل الرسول البشري ملكا فإنهم قالوا أيضا :( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) ( فصلت : ١٤ )، ﴿ ولَلبسنا١ عليهم ما يلبسون ﴾، ولو جعلناه رجلا لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فينفون رسالته، ويقولون هو بشر مثلنا كما يقولون في شأن محمد –عليه الصلاة والسلام.
١ فإنهم إذا رأوا ملكا في صورة إنسان يقولون: هذا إنسان ليس بملك؛ فإن استدل بدليل على أنه ملك كذبوه/١٢..
﴿ ولقد استُهزئ برسل من قبلك ﴾، تسلية لمحمد –عليه الصلاة والسلام ﴿ فحاق ﴾ : أحاط أو نزل، ﴿ بالذين سخروا منهم ﴾ : من الرسل وبال، ﴿ ما كانوا به يستهزئون١ قل ﴾ : لهم يا محمد.
١ ولما ذكر ما حل بالمستهزئين. والمخاطبون أمة أمية لم يدرس الكتب ولم يجالس العلماء فلها أن تكابر في هلاكهم، فقال: (قل سيروا في الأرض)/١٢ وجيز..
﴿ سيروا١ في الأرض ﴾ : بالأقدام، أو بالعقل والفكر، ﴿ ثم انظروا كيف كان عاقبة٢ المكذبين ﴾ : فتعتبروا.
١ والظاهر أن المراد من السير والنظر بالعين والأرض ما قرب من بلادهم كأرض عاد وثمود ومدائن قوم لوط وثمود/١٢ وجيز..
٢ عاقبة الشيء ما آل إليه/١٢ وجيز..
﴿ قل لمن١ ما في السماوات والأرض ﴾ : خلقا وملكا ﴿ قل لله ﴾، فإن الكفرة متفقون معكم في ذلك، فإن هذا من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن ينكره، ﴿ كتب ﴾ : التزم، ﴿ على نفسه٢ الرحمة ﴾ : لطفا وفضلا فمن أقبل إليه مع عظم ذنبه قبله، ﴿ ليجمعنّكم ﴾ أي : في القبور، ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ : فيجازيكم بأعمالكم، ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي : في اليوم، ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ : بتضييع الفطرة، والعقل نصب على الذم أو رفع أو مبتدأ ما بعده خبره، ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ فإن استعمال العقل باعث على الإيمان.
١ ولما ذكر تقريعهم بذنوبهم التي هي الشرك بالله أمر نبيه أن يسألهم سؤال تبكيت يلجئهم إلى الإقرار بوحدانيته قال: (قل لمن ما في السماوات) الآية/١٢ وجيز..
٢ وثبت في الصحيحين مرفوعا (لما قضى الله الخلق كتب فوضعه عنده فوق العرش: (إن رحمتي سبقت غضبي)/١٢ فتح [البخاري (٧٤٥٣)، ومسلم (٥/٥٩٧) ط الشعب. ولفظه(... كتب عنده فوق عرشه)]..
﴿ وله ﴾ عطف على الله في ( قل الله )، ﴿ ما سكن في الليل والنهار ﴾ أي : وله ما استقر في الأزمنة، وهو من السكنى قيل : تقديره ما سكن فيهما وتحرك واكتفى بأحد الضدين عن الآخر، ﴿ وهو السميع ﴾ : لكل مسموع، ﴿ العليم ﴾ : بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء.
﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾، إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليًّا معبودا ربا، ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ : مبدعهما، صفة الله، فإنه بمعنى الماضي فالإضافة معنوية ﴿ وهو يُطعِم١ ولا يُطعَم ﴾ يَرزُق ولا يُرزَق لا أحد إلا يحتاج إليه، وهو غير محتاج إلى أحد، ﴿ قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم٢ : من هذه الأمة، ﴿ ولا تكونن ﴾ عطف على أمرت أي : قيل لي لا تكونن، أو على قل، ﴿ من المشركين ﴾.
١ يعني جميع المنافع منه، وخص الإطعام لمزيد مس الحاجة إليه/١٢ وجيز..
٢ هذا على سبيل التحريض على الإسلام كملك يأمر رعاياه بأمر ثم يتبعه بقوله: أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعله/١٢ وجيز..
﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾، جواب الشرط دال عليه ( أخاف )، والشرط معترض بين الفعل ومفعوله، وفيه تعريض بأنهم مستوجبون للعذاب بألطف وجه.
﴿ من يُصرف ﴾ : العذاب، ﴿ عنه يومئذ فقد رحمه ﴾ : وأنعم عليه، ومن قرأ يصرف مبني للفاعل فالضمير لله، والمفعول وهو العذاب محذوف، ﴿ وذلك ﴾ أي : الصرف والرحم، ﴿ الفوز المبين ﴾.
﴿ وإن يمسسك الله بضر ﴾ : كمرض وبلاء، ﴿ فلا كاشف له ﴾ : لا قادر على رفعه، ﴿ إلا هو وإن يمسسك بخير ﴾ : كصحة ونعمة، ﴿ فهو على كل شيء قدير ﴾ : فيقدر على حفظه وإدامته، ولا راد لفضله.
﴿ وهو القاهر فوق١ عباده ﴾ : قهره استعلى عليهم فهم تحت تسخيره، ﴿ وهو الحكيم ﴾ : في أمره، ﴿ الخبير ﴾ : بخفايا العباد.
١ قوله: (فوق) إلخ، ومثله قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل: ٥٠)، وقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح) (المعارج: ٤)، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على فوقية الله تعالى، وعلوه على خلقه قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية –قدس الله روحه– في العقيدة الحموية: فهذا كتاب الله تعالى من أوله إلى آخره وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم– من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق السماء، وفوق كل شيء، وعلا كل شيء وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (فاطر: ١٠)، وقوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) (آل عمران: ٥٥)، وقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) (الملك: ١٦-١٧)، وقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) (المعارج: ٤)، وقوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) (السجدة: ٥)، وقوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل: ٥٠) وقوله تعالى: (ثم استوى على العرش) (البقرة: ٢٩)، في سبعة مواضع: (الرحمن على العرش استوى) (طه: ٥)، (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) (غافر: ٣٦-٣٧)، (تنزيل من حكيم حميد) (فصلت: ٤٢)، (منزل من ربك) (الأنعام: ١١٤)، إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بتكلف، وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى مثل قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، ونزول الملائكة من عند ربهم وصعودها إليه إلى أن قال: وقوله في أحاديث الأوعال (والعرش فوق ذلك)، والله فوق عرشه وهو تعليم ما أنتم عليه، وذكر رحمه الله الأحاديث، وأقوال الصحابة إلى أن قال: إلى أمثال ذلك مما ر يحصيه إلا الله تعالى مما هو من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلم الضروري أن الرسول المبلغ عن الله تعالى ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله تعالى على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية، والإسلام إلا من اجتالتهم الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين ألوفا، وليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين ولا عن أئمة الدين الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش ولا أنه في كل مكان ولا أن الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها. انتهى قاله شيخ الإسلام ملخصا/١٢. .
﴿ قل أي شيء أكبر شهادة ﴾، نزلت١ حين زعم قريش أن أهل الكتاب أنكروا نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم– فسألوا عنه من يشهد بنبوتك، ﴿ قل٢ الله ﴾ أعظم شهادة، فإن أعظمية شهادة الله تعالى أمر لا ينكر، ﴿ شهيد ﴾ أي : هو شهيد، ﴿ بيني وبينكم ﴾ أو الله مبتدأ، وشهيد٣ خبر فإنه إذا كان هو الشهيد فأكبر شيء شهادة شهيد له، ﴿ وأوحي إليّ هذا القرآن ﴾ : الذي ترونه ناطقا بحجج وبينات، ﴿ لأُنذركم به ﴾ : يا أهل مكة، ﴿ ومن بلغ ﴾ : وسائر من بلغه من الأسود والأحمر قل :﴿ أئنّكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ﴾ تقرير لهم مع إنكار، ﴿ قل لا أشهد ﴾ : بما تشهدون، ﴿ قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تُشركون ﴾ : من الأصنام.
١ كما رواه محي السنة، والواحدي، والكلبي/١٢ وجيز..
٢ قال البخاري في صحيحه في كتاب الرد على الجهمية بعد ما ذكر هذه الآية في ترجمة الباب: فسمى الله نفسه شيئا. سمى النبي –صلى الله عليه وسلم– القرآن شيئا وهو صفة من صفات الله، وقال: (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص: ٨٨)/١٢..
٣ وعلى هذا الجواب نوع من الأسلوب الحكيم كأنه قيل: معلوم أن الله أكبر شهادة فالكلام الأنسب بالمقام الإخبار بأن الله شهيد بيني وبينكم لينتج جواب السؤال مع زيادة مهمة/١٢.
.

﴿ الذين١ آتيناهم الكتاب يعرفونه ﴾ أي : محمدا –عليه الصلاة والسلام– بنعته المذكور في التوراة والإنجيل، ﴿ كما يعرفون أبناءهم ﴾ : بحيث لا يشكون في رسالته، فعدم شهادتهم برسالته لعنادهم، ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ : من أهل الكتاب، وهجروا ما في كتابهم، ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ : به.
١ ولما قال قريش سألنا لك عن اليهود فكذبوك قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) الآية/١٢ وجيز..
﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾ : اختلق، ﴿ على الله كذبا ﴾ : ككذب المشركين، وأهل الكتاب، ﴿ أو كذّب بآياته ﴾ : كالقرآن، ومعجزات محمد –عليه الصلاة والسلام– أي : لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف بمن جمع بينهما ؟ ! ﴿ إنه ﴾ أي : إن الشأن، ﴿ لا يفلح الظالمون ﴾ : فضلا ممن هو أظلم.
﴿ ويوم ﴾ أي : اذكر، ﴿ نحشرهم جميعا ﴾ : العابد والمعبود، ﴿ ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم ﴾ : آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، ﴿ الذين كنتم تزعمون ﴾ أي : تزعمونهم شركاءهم ( حينئذ ) يشاهدون آلهتهم في غاية الهوان، فيسأل عنهم تقريعا وتوبيخا.
﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ﴾ أي : لم تكن غاية فتنتهم، ومقاتلتهم وكفرهم في الدنيا إلا التبرؤ، في الآخرة أو عاقبة افتتانهم ومحبتهم في الأصنام إلا التبرؤ أو معذرتهم أو جوابهم وسماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص يقال : فتنت الذهب إذا خلصته، ومن قرأ بنصب فتنتهم، فتكون تأنيث الفعل للخبر كقولك : من كانت أمك ؟ ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين١ فيحلفون بالكذب لحيرتهم ( فحينئذ ) يختم على أفواههم، ويشهد عليهم جوارحهم.
١ أي: لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم الحلف من الجحود على نفيه بقوله: (والله) إلخ/١٢ فتح..
﴿ انظر كيف كذبوا على أنفسهم ﴾ : في الآخرة بنفي شركهم في الدنيا ﴿ وضل عنهم ما كانوا١ يفترون ﴾، وغاب عنهم ما كانوا يفترون إلهيته، وشفاعته.
١ أي: ما يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله ويشفعون لهم/١٢..
﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ إذا قرأت القرآن كأبي جهل، والوليد، وأضرابهم، ﴿ وجعلنا على قلوبهم أكِنّة ﴾ : أغطية كراهة ﴿ أن يفقهوه ﴾ أو عن أن ﴿ وفي آذانهم١ وقرا ﴾ : ثقلا وصمما مثل نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبول القرآن، واعتقاد صحته بالأكنة والوقر، ﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ﴾ لقوة عنادهم، ﴿ حتى إذا جاءوك ﴾ : بلغ عنادهم إلى أنهم إذا جاءوك، ﴿ يجادلونك ﴾ جملة حالية، ﴿ يقول الذين كفروا ﴾ جواب إذا وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، ﴿ إن هذا إلا أساطير٢ الأولين ﴾ والأساطير : الأباطيل أو أحاديث الأمم السالفة التي سطروها في كتبهم.
١ هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح بعضها للهدى ويجعل بعضها في أكنة، فلا يفقه كلام الله، ولا يؤمن/١٢ معالم..
٢ عن ابن عباس أن جماعة من قريش كانوا يستمعون القرآن فقالوا لشخص منهم هو فصيح شاعر سمع أقاصيص رستم، واسفنديار، وأمثالهم ما تقول أنت فيما يقرأ؟ فأجاب ما هو إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون/١٢ وجيز..
﴿ وهم ينهون ﴾ : الناس ﴿ عنه ﴾ استماع القرآن أو الإيمان، ﴿ وينأون١ عنه ﴾ : يتباعدون عنه بأنفسهم٢ وعن بعض٣ السلف أنه في شأن أبي طالب، فمعناه ينهون عن التعرض لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه، ويتباعدون عنه، فلا يؤمنون به، ﴿ وإن يُهلكون ﴾ : وما يهلكون بذلك ﴿ إلا أنفسهم وما٤ يشعرون ﴾ : ذلك.
١ وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى عن أذى النبي –صلى الله عليه وسلم– ويمنعهم وينأى عن الإيمان به أي يبعد حتى روى أنه اجتمع عليه رؤوس المشركين، وقالوا: خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا، فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم، وروي أن النبي –صلى الله عليه وسلم– دعاه إلى الإيمان فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت به عينك، ولكن أذب عنك ما حييت، وقال فيه أبيات شعر:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا/١٢..

٢ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال قال: نزلت في عمومة النبي –صلى الله عليه وسلم– وكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر /٢ أسباب نزول السيوطي..
٣ كما رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس/١٢ أسباب نزول للسيوطي..
٤ ولما بين غاية جهلهم وختم بالتهديد الشديد استشرف النفوس إلى معرفة حالهم في مآلهم فقال: (ولو ترى)/١٢ وجيز..
﴿ ولو ترى ﴾، جوابه محذوف أي : لرأيت أمرا فظيعا، وحالا عجيبا، ﴿ إذ وُقفوا على النار ﴾ : وعاينوا ما فيها من أنواع العذاب، ﴿ فقالوا يا ليتنا نُردّ ﴾ : إلى الدنيا، ﴿ ولا نكذّب ﴾، عطف على نرد فيكون المعنى على تمني مجموع الأمرين، أو عطف على التمني عطف إخبار على إنشاء، وهو جائز باقتضاء المقام أو حال وأما على قراءة النصب فبإضمار أن بعد الواو كما بعد الفاء، ﴿ بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾.
﴿ بل بدا لهم ﴾ : إضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني.
﴿ ما كانوا يُخفون من قبل ﴾ أي : ظهر لهم قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا محبة للإيمان، ﴿ ولو رُدّوا ﴾ : إلى الدنيا، ﴿ لعادوا لما نُهوا عنه ﴾ : من الكفر لقضاء شقاوتهم في الأزل، ﴿ وإنهم لكاذبون ﴾ : فيما وعدوا صريحا ضمنا.
﴿ وقالوا ﴾، عطف على لعادوا أو نهوا أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا، ﴿ إن هي ﴾ أي : الحياة، ﴿ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾.
﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على ﴾ : مسألة. ﴿ ربهم ﴾ : وتوبيخهم، وقيل أي : بين يديه، ﴿ قال ﴾، استئناف فكأن سائلا قال : ماذا قال ربهم حينئذ ؟ ﴿ أليس هذا ﴾ : البعث ﴿ بالحق قالوا١ بلى وربنا ﴾ : إقرار مؤكد باليمين، لكن لا ينفعهم، ﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ : بسبب كفركم.
١ قال ابن عباس: هذا في موقف وقولهم (والله ربنا ما كنا مشركين) في موقف آخر وفي القيامة مواقف ففي موقف يقرون، وفي موقف ينكرون/١٢ معالم..
﴿ قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله ﴾ : بالبعث، وما يتبعه، ﴿ حتى إذا جاءتهم الساعة ﴾ : غاية لكذبوا، أو من مات فقد قامت قيامته، ﴿ بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من المجيء أو حال، ﴿ قالوا يا حسرتنا١ : تعالى فهذا أوانك، ﴿ على ما فرّطنا ﴾ : قصرنا، ﴿ فيها ﴾ : في الدنيا أو في الساعة أي : في شأنها، ﴿ وهم يحملون أوزارهم ﴾ : آثامهم، ﴿ على ظهورهم ﴾ : تمثل ذنوبهم بأقبح صورة منتنة فتركب عليهم وتسوقهم٢ إلى النار، ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ : بئس شيئا يزرونه وزرهم.
١ والحسرة شدة الندم حتى يحسر الندم النادم كما يحسر الذي يقوم به دابته في السفر البعيد/١٢ معالم..
٢ رواه أبو داود وغيره/١٢ وجيز..
﴿ وما الحياة١ الدنيا إلا لعب ولهو ﴾، لأنها تنقضي عن قريب، ولا تعقيب منفعة، ﴿ وللدار الآخرة خير للذين يتّقون٢ : لدوام لذاتها ومسراتها، ﴿ أفلا تعقلون ﴾ : إنها كذلك.
١ ولما قالوا: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) بين قصار أمرها، ومنتها أمرها فقال: (وما الحياة الدنيا)/١٢ وجيز..
٢ أشار إلى أن غير عمل التقوى لعب/١٢ وجيز..
﴿ قد نعلم١ إنه ﴾ : أي : الشأن، ﴿ ليحزُنك الذي يقولون ﴾ : تسلية لرسوله فيما قال الكفار : إنك كذاب، ﴿ فإنهم لا يُكذّبوك ﴾ : في نفس الأمر، أو في السر، ﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ : لكنهم لظلمهم جحدوا الآيات، وكذبوا بها، نزلت٢ حين قال أبو جهل : لا نكذبك لكن نكذب بما جئت به، أو لما سئل أبو جهل عنه قال : والله إنه لصادق وما كذب قط، لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش.
١ ولما كرر في هذه السورة الأمر بمقاولتهم، وأطال في الحث على مجادلتهم وكان من المعلوم أنهم لا يراعون الأدب، وجوابهم ليس إلا السبب كما هو دأب المعاند المغلوب فلهذا نفى عنهم الشعور والعقل صار الحال محتاجا إلى التسلية فقال(قد نعلم إنه) الآية/١٢ وجيز..
٢ رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين/١٢ وجيز..
﴿ ولقد كُذّبت١ رسل من قبلك فصبروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ﴾ : بمعونتهم وإهلاك أعدائهم فاصبر أنت أيضا كما صبروا فسيجيء نصرك، وما مصدرية، ﴿ ولا مبدّل لكلمات الله ﴾ : لمواعيده وحكمه، ﴿ ولقد جاءك من نبأ المرسلين ﴾ : بعض أخبارهم كيف صبروا، وكيف دمرنا قومهم.
١ هذا تسلية بعد تسلية كل منهما بطور آخر/١٢ وجيز..
﴿ وإن كان كبُر ﴾ : عظم وشق، ﴿ عليك إعراضهم ﴾ : عن الإيمان، ﴿ فإن استطعت أن تبتغي نفقًا ﴾ : تطلب منفذا، ﴿ في الأرض ﴾ : تنفذ فيه إلى جوفه، ﴿ أو سُلّما ﴾ : مصعدا، ﴿ في السماء ﴾ : تصعد به إليه، ﴿ فتأتيهم ﴾ : من الأرض أو السماء، ﴿ بآية ﴾، وجواب الشرط الثاني مقدر أي : فافعل، والجملة جواب الأول يعني لا مغير لحكم الله فاصبر، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ أي : لو أراد جمعهم على الهدى لجمعهم وهداهم، ولكن لم يتعلق به مشيئته ﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ : بالحرص على خلاف مرادنا والجزع فإنه دأب الجهلة.
﴿ إنما يستجيب ﴾ أي : يجيب دعوتكم بالإيمان، ﴿ الذين يسمعون ﴾، لا من ختم الله على سمعه فلا يتأمل ولا يفهم، ﴿ والموتى يبعثهم الله ﴾ أي : الكفار الذين كالموتى لا يسمعون، يبعثهم الله فيعلمون حين لا ينفعهم، ﴿ ثم إليه يُرجعون١ : للجزاء.
١ ولما بين تكذيبهم للرسل، ولجاجهم مع صبر الرسل عليهم، ذكر مع لجاجهم مع نبينا –صلى الله عليه وسلم– فردا آخر للتعجب، فقال: (وقالوا) /١٢ وجيز..
﴿ وقالوا لولا نُزّل عليه آية من ربه ﴾ كملك يشهد له، وكقولهم :﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ ( الإسراء : ٩٠ ) ﴿ قل إن الله قادر على أن يُنزّل آية ﴾ : وفق ما طلبوا ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون١ : أنه قادر على ذلك، وأنه لو أنزل ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما هو سنة الله.
١ ولما ذكر أنه قادر أراهم من قدرته ما يكفي العاقل في المستدل فقال: (وما من دابة)/١٢ وجيز..
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ : إتيان الصفة لدابة وطائر لزيادة التعميم، والمبالغة بحيث لا يبقى وهم خروج شيء من الإفراد لكون الوصفين١ من أوصاف الجنس دون النوع، فيشعر بأن القصد فيها إلى الجنس، ﴿ إلا أمم٢ أمثالكم ﴾ : مقدرة أرزاقها وآجالها محفوظة أحوالها أصناف تعرف بأسمائها وجمع الأمم للحمل على المعنى، ﴿ ما فرّطنا ﴾ : ما أهملنا، ﴿ في الكتاب ﴾ : في اللوح المحفوظ، ﴿ من شيء ﴾ : فإنه مشتمل على ما يجري في العالم ومن شيء أي : شيئا من التفريط، فيكون مصدرا فإن فرط غير متعد بنفسه، ﴿ ثم إلى ربهم٣ يُحشرون ﴾ أي : الأمم كلها، فينصف بعضها عن بعض، ( وإذا الوحوش حشرت ) ( التكوير : ٥ )، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما– موت البهائم حشرها.
١ وبهذا يسقط ما قيل أن الوصف بالتخصيص أولى منه بالتعميم/١٢ وجيز..
٢ قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة كالطير أمة، والهوام أمة، والذباب أمة، والسباع أمة يعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم، وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم) قال عطاء: أمثالكم في التوحيد والمعرفة/١٢..
٣ كما قال: (وإذا الوحوش حشرت) (التكوير: ٥)، والأحاديث الصحاح دالة على أن الجميع محشورة فينصف بعضها من بعض ثم يجعل الكل ترابا وعنده يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا) (النبأ: ٤٠)/١٢ وجيز، وفي الحديث: (لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء)/١٢ معالم..
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا صُمٌّ ﴾ : عن سماع آياته سماع قبول وتأثر، ﴿ وبُكم ﴾ : لا ينطقون بالحق، ﴿ في الظلمات ﴾، خبر ثالث، أو حال عن المستكن في الخير ظلمة الكفر، والجهل، والعناد، ﴿ من يشأ الله ﴾ : إضلاله، ﴿ يُضلله ﴾ : فيميته على الكفر، ﴿ ومن يشأ ﴾ : هدايته، ﴿ يجعله على صراط مستقيم١ : فيميته على الإيمان.
١ ولما بيّن عنادهم في التوحيد وأنهم في تمادي لجاجهم لا يهديهم التأمل في الآفاق أخذ يبين ما لأنفسهم في بعض أحوالهم من ظهور الحق، وصدوره عنهم فقال: (قل)/١٢ وجيز..
﴿ قل ﴾ : يا محمد للكفرة، ﴿ أرأيتكم ﴾ : أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل لا محل١ له من الإعراب، وهو من وضع السبب موضع المسبب فإنه وضع الاستفهام عن العلم موضع الاستخبار ؛ لأنه لا يخبر عن الشيء إلا العالم به ﴿ إن أتاكم عذاب الله ﴾ : قبل الموت، ﴿ أو أتتكم الساعة ﴾ : القيامة، وأهوالها، ﴿ أغير الله٢ تدعون ﴾ : في صرف العذاب عنكم، وهو متعلق بالاستخبار، ﴿ إن كنتم صادقين٣ في أن الأصنام آلهة فأخبروني لم لا تعبدون أصنامكم في ذلك الحال ؟ !
١ هذا هو الأصح/١٢ وجيز..
٢ قال صاحب البحر: جواب الشرط محذوف لدلالة (أرأيتكم) عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله فأخبروني عنه، أتدعون غير الله لكشفه؟! كما تقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به؟، ثم قال: هذا الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية/١٢..
٣ أراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) (لقمان: ٣٢)/١٢ معالم..
﴿ بل إياه تدعون١ : تخصونه بالدعاء كما قال تعالى :( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ( لقمان : ٣٢ ) ﴿ فيكشف ما تدعون ﴾ : الله، ﴿ إليه ﴾ : إلى كشفه، ﴿ إن شاء ﴾ لكن لم يشأ كشف عذاب الآخرة عنهم، ﴿ وتنسون٢ ما تُشركون ﴾ فلا تذكرونه في ذلك الوقت.
١ كما حكى عنهم في مواضع، وتقديم المفعول لإفادة التخصيص/١٢ بيضاوي..
٢ لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره /بيضاوي/ فمن هاهنا تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرا من الذين قاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فقد سمعت أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشايخ ولم يستغيثوا بهم بل أخلصوا لله وحده لا شريك له واستغاثوا به وحده فإذا جاء الرخاء أشركوا وأنت ترى المشركين من أهل زماننا ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل معروف الكرخي أو عبد القادر الجيلاني وأجل من هؤلاء من زيد بن الخطاب، والزبير أجل من هؤلاء مثل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فالله المستعان ومنه نسأل العفو والغفران/١٢، وفي الدر النضيد للشوكاني أن هؤلاء القبوريين قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم وهو أن أهل الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من الأمور كما حكاه الله عنهم بقوله: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) (الإسراء: ٦٧)، وبقوله: (قل أرأيتكم) وبقوله: (وإذا مس الإنسان الضر دعا ربه منيبا ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل) (الزمر: ٨)، وبقوله: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) (لقمان: ٣٢)، بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهتهم الشدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النذور وقل من يستغيث بالله سبحانه في تلك الحال وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم، ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله أعاذنا الله من الشرك والكفران ومنه نسأل العصمة والغفران/١٢. .
﴿ ولقد أرسلنا١ إلى أمم من قبلك ﴾ : أي الرسل فكذبوهم، ﴿ فأخذنا بالبأساء ﴾ : بالشدة والجوع، ﴿ والضراء ﴾ : الأمراض والنقصان، ﴿ لعلهم يتضرّعون ﴾، : لكي يسألوا ربهم متذللين تائبين.
١ ولما أخبر أنه تعالى قد يكشف البلاء بالتضرع إلى الله أنبأهم أن تركه يوجب غضب الله بنوع من الاستدلال للترهيب، فقال: (ولقد أرسلنا)/١٢ وجيز.
.

﴿ فلولا إذا جاءهم بأسُنا تضرّعوا ﴾، حاصله نفي التضرع١، لكن جاء ب ( لولا ) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر سوى العناد والقساوة، لأن ( لولا ) يفيد اللوم والتنديم، وذلك إنما يحسن إذا لم يكن في ترك الفعل عذر، وعنه مانع، ﴿ ولكن قست قلوبهم ﴾ : ما رقت، ﴿ وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون٢ : فأصروا عليه.
١ فعدم التضرع لقسوة قلوبهم فقلوبهم كالحجارة أو أشد ولفظة لكن واقع بين الضدين بحسب الحقيقة أعني اللين والقسوة/١٢ وجيز..
٢ يعني الحامل على ترك التضرع قسوة القلب، والإعجاب بالأعمال التي كان الشيطان سببها في تحسينهم لهم/١٢ وجيز..
﴿ فلما نسوا ما ذُكّروا به ﴾ : من البأساء والضراء ولم يتعظوا به، ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ : من أنواع النعم استدراجا ليكون الأخذ والهلاك أشد عليهم وأفظع، ﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ﴾ : وحسبوا أنهم على شيء، ﴿ أخذناهم بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من الأخذ، ﴿ فإذا١ هم مُبلسِون ﴾ : آيسون من كل خير.
١ ابتلاهم أولا فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم فلم يشكروا بالإنابة، بل فرحوا وغفلوا فأخذهم بنوع لم يتقدم لهم شعور به ليوطنوا نفوسهم على لقائه/١٢ وجيز..
﴿ فقُطِع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ : آخرهم لم يترك منهم أحد، ﴿ والحمد لله رب١ العالمين ﴾ : على إهلاك الظلمة الذين من شؤمهم تقطع الرحمة، وتحزن الطير في وكره.
١ وفي تلك الحكاية تسلية وتنبيه وترهيب لمن له بصيرة ولما هددهم، أولا بالعذاب المطلق الذي هو بنوع خاص من الأخذ هددهم ثانيا بعذاب خاص فقال: (قل أرأيتم)/١٢..
﴿ قل أرأيتم ﴾ : أيها المشركون، ﴿ إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ﴾ : أصمكم وأعماكم، ﴿ وختم على قلوبكم ﴾ : حتى لا تفهموا شيئا، ﴿ من إله غير الله يأتيكم به ﴾ : بما أخذ وختم أو بأحد هذه المذكورات، ﴿ انظر كيف نُصرّف الآيات ﴾ : نوضحها ونكررها، ﴿ ثم هم يصدفُون ﴾ : يعرضون.
﴿ قل أرأيتكم ﴾ : أخبروني، ﴿ إن أتاكم عذاب الله بغتة ﴾ : على غفلة أو ليلا، ﴿ أو جهرة ﴾ : معاينة تعلمون١ نزوله أو نهارا،
﴿ هل يهلك إلا القوم الظالمون٢ فإن الموحدين لا يهلكون بالعذاب البتة ؛ بل أولئك لهم الأمن كما فعل بالأمم الماضية ما نزل العذاب إلا بعد تمييز المسلمين، ولو نزل على مسلم مصيبة فهي ليست بعذاب٣.
١ فعلى هذا ناسب مقابلة البغتة بالجهرة/١٢..
٢ ولما طلبوا من الرسل الآيات التي ليست في قدرتهم، بل هو في قدرة مرسلهم أشار إلى أن الظلم في طلبهم بين حقيقة الرسالة، وقال: (وما نرسل المرسلين) الآية/١٢ وجيز..
٣ بل هي تهذيب له/١٢ وجيز..
﴿ وما نُرسل المرسلين إلا مبشّرين ومُنذرين١ فمن آمن وأصلح ﴾ : العمل، ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ : بالعذاب، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ : على ما فات من دنياهم.
١ وفي مبشرين، ومنذرين مع أنهما حال فيهما معنى الليلة أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار لا لأن يقترح منهم الآيات بعد وضوح دينهم بالمعجزات/١٢ وجيز..
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا يمسُّهم العذاب ﴾ : يصيبهم، ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ : بسبب فسقهم.
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن١ الله ﴾ : فأعطيكم ما تريدون، ﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ : فأخبركم٢ بكل ما تسألون، عطف على ﴿ عندي خزائن الله ﴾، وقيل : على ( لا أقول )، ﴿ ولا أقول لكم إني مَلك ﴾ : فأقدر على ما يقدر، ﴿ إن أتّبع إلا ما يوحى إليّ ﴾ وحاصله لا أدعي ما تستبعده العقول ؛ بل أدعي النبوة كما كان لكثير من البشر، ﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير ﴾ : مثل للجاهل، والعالم أي : لا يستوي متبع الوحي ومن ضل، ﴿ أفلا تتفكرون٣ أنه لا تستوي كقوله تعالى :( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) ( الرعد : ١٩ ).
١ جواب لما قالوا إن كنت رسولا فاسئل حتى يوسع علينا خيرات الدنيا/١٢ وجيز..
٢ حتى أقول لكم من الأخبار المستقبلة من المصالح، والمضار لتستعدوا لتحصيل الملك، ودفع هذه/١٢ وجيز..
٣ فيه عرض وتحضيض على الفكر/١٢..
﴿ وأنذر١ به ﴾ بالقرآن، ﴿ الذين٢ يخافون أن يُحشروا إلى ربهم ﴾ : يخافون هول يوم الحشر لا من جزم استحالته، ﴿ ليس لهم من دونه وليّ ﴾ : يتولى أمرهم، ﴿ ولا شفيع٣ : يشفع٤ بغير إذنه إن أراد العذاب بهم، والجملة حال، ﴿ لعلهم يتقون ﴾ : عن كفرهم ومعصيتهم.
١ ولما قال: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) أمر بالإنذار لأنهم أجلاف، فقال: (وأنذر به الذين) الآية/١٢ وجيز..
٢ والخائف المقصر في العمل من المؤمنين وأهل الكتاب وكثير من المشركين بعدما أخبروا بالحشر/١٢..
٣ قوله: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الآية قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: لا ينافي هذه الآية مذهبنا في إثبات الشفاعة للمؤمنين، لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما يكون بإذن الله لقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة: ٢٥٥)، فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله تعالى كانت في الحقيقة من الله تعالى. انتهى وفي لباب التأويل تحت قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر: ٤٤)، أي: لا يشفع إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى، لأنه هو الشفيع في الحقيقة، وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده. انتهى، وقال الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي في كتابه الصارم المنكى: فمن أنكر شفاعة نبينا في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة، ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه، فقد خالف جميع المسلمين ونصوص القرآن قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة: ٢٥٥)، وقال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء: ٢٨)، وقال تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) (النجم: ٢٦)، وقال تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) (طه: ١٠٨، ١٠٩)، وقال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) (السجدة: ٤)، ومثل هذا في القرآن كثير. انتهى وقال المصنف في موضع آخر من كتابه المذكور: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ: ٢٣)، قد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الشفاعة قال: (فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمده بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال لي ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة) وكذلك ذكره في المرة الثانية، والمرة الثالثة، ولهذا قال (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) (الزخرف: ٨٦)، فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله وقوله (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (الزخرف: ٨٦)، استثناء منقطع أي: من شهد بالحق وهم يعلمون أنهم أصحاب الشفاعة منهم الشافع، ومنهم المشفوع له. انتهى أقول: فثبت من هذه الدلائل أن الشفاعة كلها لله، وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعلمه وأنه لا يرضى إلا بالتوحيد والشفاعة مقيدة بهذه القيود كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) (الأحزاب: ٤)/١٢..
٤ وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم هم يشفعون لهم وهم أهل الكتاب أو أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون أو أن المشايخ يشفعون لمريدهم وهم المتصوفون، لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة: ٢٥٥)/١٢ فتح..
﴿ ولا تطرد١ الذين ﴾ : لا تبعدهم عنك، ﴿ يدعون ربهم بالغداة والعشيّ ﴾ : يصلون المكتوبات في ليلهم ونهارهم، أو صلاة الصبح، والعصر، أو يذكرون ربهم، ﴿ يريدون وجهه ﴾ أي : يعبدونه حال كونهم مخلصين فيها ﴿ ما عليك من حسابهم من شيء ﴾، ( من ) زيدت للاستغراق وهو فاعل عليك لاعتماده على النفي، ومن حسابهم حال من شيء، أو من شيء مبتدأ وما عليك خبره، والحال من ضمير في الخبر أي : من شيء من تبعة حسابهم ليست عليك، ولا تكلف أمرهم، ﴿ وما من حسابك عليهم من شيء ﴾ : وليست تبعة حسابك عليهم، ولا يكلفون أمرك أو معناه إنما حسابهم على الله ليس عليك كما أنه ليس عليهم من حسابك من شيء كقول نوح –عليه الصلاة والسلام– في جواب :( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) ؟ ! قال :( وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين ) ( الشعراء : ١١١-١١٣ )، ﴿ فتطردهم ﴾، جواب النفي، ﴿ فتكون من الظالمين ﴾ جواب النهي نزلت في فقراء المؤمنين قال رؤساء قريش : يا محمد نحّ هؤلاء الأعبد عن مجلسك حتى نجالسك ونسمع كلامك٢.
١ ولما أمر بإنذار المتقين نهاه عن إذلال المتقين فقال: (ولا تطرد الذين)/١٢ وجيز..
٢ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير/١٢ وجيز..
﴿ وكذلك ﴾ : مثل ذلك الفتن العظيمة ﴿ فتنّا ﴾ ابتلينا، ﴿ بعضهم ببعض١ ليقولوا ﴾ : رؤساء قريش قالوا في شأن فقراء المسلمين وضعفائهم :﴿ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ﴾ إنكار لأن يخصهم الله بهداية ونعمة كما قالوا :( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ( الأحقاف : ١١ )، واللام للعاقبة للتعليل، ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين٢ ؛ هذا جواب لقولهم أي : الله أعلم بمن يشكر الإيمان وطبعه مستقيم فيهديه.
١ قال العلامة: ليس القصد إلى مشبه ومشبه به، بل هذا كقولك: ضربته كذلك أي: هذا الضرب المخصوص، ومثله كثير في تركيب البلغاء/١٢ وجيز..
٢ والشاكرين وقع في غاية من الحسن إذ تقدم معنى الإنعام في قولهم: (منّ الله عليهم) فناسب لفظ الشكر/١٢ وجيز..
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ هم فقراء الصحابة الذين نهى الله طردهم، ﴿ فقل سلام عليكم ﴾ : أكرمهم ببدء السلام عليهم، ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ : بشرهم بسعة رحمة الله، ﴿ أنه من عمل منكم سوءا ﴾ : من قرأ ( أنه ) بفتح الهمزة يكون بدلا من الرحمة، ومن قرأها بكسرها فاستئناف، ﴿ بجهالة ﴾ في موضع الحال أي : جاهلا بما يورثه ذلك الذنب أو متلبسا بفعل الجهالة، لأن ما يؤدي إلى الضرر لا يرتكبه سوى الجاهل قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل نزلت في عمر حين أشار بإجابة قريش إلى طرد المؤمنين فأنزل الله، ( ولا تطرد الذين ) إلخ ثم جاء واعتذر من مقالته، ﴿ ثم تاب من بعده ﴾ : العمل أو السوء، ﴿ وأصلح ﴾ عمله أو أخلص توبته، ﴿ فإنه غفور رحيم ﴾ من قرأ ( فأنه ) بفتح الهمزة تقديره فأمره، أو فله غفرانه البتة، ومن قرأ بالكسرة فتقديره : فالله يغفره ويرحمه البتة فإنه غفور رحيم.
﴿ وكذلك ﴾ : مثل ذلك التبيين الواضح، ﴿ نُفصّل الآيات ﴾ : التي يحتاج الناس إلى بيانها، ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ : من قرأ تستبين بالتاء وسبيل بالنصب فمعناه : ولتعرف طريقهم، فتعاملهم بمقتضى عملك، ومن قرأ بالتاء، ورفعها : أي : ولتبين سبيلهم ومن قرأ بالياء ورفعها فلأن السبيل يذكر ويؤنث وهو إما عطف على مقدر أي : فصلنا ليظهر الحق ولتستبين وإما تقديره : ولتستبين فصلنا هذا التفصيل.
﴿ قل١ إني نُهيت ﴾ : عن، ﴿ أن أعبد الذين تدعون ﴾ : تعبدون، ﴿ من دون الله قل لا أتّبع أهواءكم ﴾ فيه إشارة إلى علة النهي، ومبدأ ضلالهم فإن طريقهم اتباع الهوى لا الهدى، ﴿ قد ضللت إذا ﴾ أي : إن فعلت ذلك فقد ضللت، ﴿ وما أنا من المهتدين ﴾ فيه تعريض بأنهم كذلك.
١ ولما أوضح الحق واستبان طريقهم لتعاملهم بمقتضى العلم ومن مقتضاه ألا تكون متبعا لهواهم وتجاهد بالعداوة، فبين هذا بقوله: (قل إني نهيت) الآية/١٢ وجيز..
﴿ قل إني على بينة ﴾ : حجة واضحة، ﴿ من ربي ﴾ : غير متبع الهوى، وهو صفة لبينة، ﴿ وكذّبتم به ﴾ : بربي، حيث أشركتم أو الضمير للبينة فإنها بمعنى الدليل، ﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ : من العذاب كما قالوا :( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ) ( الأنفال : ٣٢ )، ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ : في تعجيل العذاب وتأخيره، ﴿ يقُصّ١ الحق ﴾ : يتبع الحق والحكمة فيما حكم، ومن قرأ ( يقضي الحق ) أي : يحكم القضاء فيكون صفة مصدر أو يصنع٢، الحق فيكون مفعولا به، ﴿ وهو خير الفاصلين ﴾ : القاضين.
١ من قص أثره يعني: تتبع/١٢..
٢ من قضى الدرع صنعه/١٢..
﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به ﴾ : من العذاب، ﴿ لقُضي الأمر بيني وبينكم ﴾ أي : لعجلته حتى أتخلص منكم حين سألتم أنتم العذاب، ﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾ أي : لكن هو أعلم بوقت العقوبة.
﴿ وعنده١ مفاتح الغيب٢ : خزائنه جمع مفتح بالميم وهو المخزن أو جمع مفتاح بكسر الميم وهو المفتاح٣، وقد صح أن مفاتيح الغيب خمس ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ) ( لقمان : ٣٤ )، ﴿ لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ﴾ أي : يحيط علمه بالمغيبات والمشاهدات، ﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾، لأنه لا تسقط إلا بعد تعلق إرادته به، ﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ﴾ : فوق الأرض أو تحته عطف على ورقة٤، ﴿ ولا رطب ولا يابس ﴾ المراد منه كل شيء، ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ : في اللوح المحفوظ، وهو صفة للمذكورات كما أن ( لا يعلمها ) صفة لورقة.
١ ولما قال الله أعلم بهم انتقل من خاص إلى عام، فقال: (وعنده مفاتح الغيب) الآية /١٢ وجيز..
٢ وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي علم الغيب ما ليس شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذلة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم- :(من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد)/١٢ فتح..
٣ كأن الغيب في بيته مقفل مفاتحه لا توجد عنده، ولا يعلم الغيب إلا الله/١٢ وجيز..
٤ والمراد من السقوط الوقوع على مكان لا الوقوع من علو وإلا فلا وجه لعطف الحبة والرطب واليابس على ورقة هي فاعل تسقط، أو من باب صفته [كذا في الأصل والأظهر: علفته] تبنا وماء وقلدته سيفا ورمحا، وفي هذه الآية مثل قوله (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) دلالة صريحة على علمه بجميع الجزئيات إحاطة تامة شاملة عامة كاملة، ولما كان من مفاتيح الغيب الموت والبعث ومن عظيم أدلة البعث النوم، والإيقاظ، وفيه مع ذلك تقرير لكمال القدرة أتبعه بما يجيء فقال: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) الآية /١٢ وجيز. .
﴿ وهو الذي يتوفّاكم بالليل ﴾ : هو التوفي١ الأصغر استعار التوفي للنوم لما بين الموت والنوم من المشاركات، ﴿ ويعلم ما جرحتم ﴾ : كسبتم، ﴿ بالنهار ثم يبعثكم ﴾ : يوقظكم، ﴿ فيه ﴾، الضمير للنهار وقيل : في المنام، ﴿ ليُقضى أجل مسمّى ﴾ : أجل الحياة إلى الممات أي : ليستوفي مدة عمره، ﴿ ثم إليه مرجعكم ﴾ : بالموت، ﴿ ثم ينبّئكم بما كنتم تعملون ﴾ : يجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
١ يقبض النفس كما قال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) الآية (الزمر: ٤٢)/١٢ وجيز.
.

﴿ وهو القاهر فوق١ عباده ﴾ : تصوير لقهره وعلوه بالقدرة، ﴿ ويُرسل عليكم حفظة٢ : من الملائكة تحفظ أبدانكم كما قال تعالى :( له معقبات من بين يديه ) ( الرعد : ١١ ). أو تحفظ جميع أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، ﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت ﴾ : حان أجله، ﴿ توفّته رسلنا ﴾ لملك الموت أعوان يخرجون الروح فيقبض ملك الموت، ﴿ وهم لا يُفرّطون ﴾ : فيما أمروا يفعلون ما يؤمرون.
١ فوقية تليق بجلاله كما ورد (أنت الظاهر فليس فوقك شيء) هذا ما في الوجيز وفي الفتح وهو صفة الله تعالى وهذا هو مذهب سلف الأمة وأئمتها يمرونها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا تعطيل أي: فوقية تليق بحاله وهو الحق وتقدم بيانه في الآية من السورة..
٢ نظيره (وإن عليكم لحافظين)/١٢ معالم..
﴿ ثم١ رُدّوا ﴾ أي : الملائكة أو الخلائق كلها، ﴿ إلى الله مولاهم٢ : الذي يتولى أمرهم، ﴿ الحق ﴾ : العدل الذي لا يظلم فضلا ﴿ ألا له الحكم ﴾ : يومئذ لا حكم بوجه لغيره فيه، ﴿ وهو أسرع الحاسبين ﴾ : لا يحتاج في الحساب إلى ضرب وقسمة وفكر وروية وعقد يد لا يشغله حساب عن حساب.
١ الظاهر أن الضمير للعباد المفهوم من أحدكم..
٢ إلى الله وقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أن الملائكة يصعدون بأرواح الموتى من سماء إلى سماء حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي رواية إلى السماء التي فيها الله ثم ترد إلى عليين، أو سجين، وفي الآية دليل على علوه تعالى من خلقه/١٢ فتح..
﴿ قل من يُنجّيكم١ : سؤال توبيخ، ﴿ من ظلمات البر والبحر ﴾ : شدائدها٢ وأحوالها ﴿ تدعونه تضرّعا وخُفية ﴾ : معلنين ومسرين أو إعلانا وإسرارا ﴿ لئن أنجانا الله من هذه ﴾ أي : يقولون لئن أنجيتنا ﴿ لنكوننّ من الشاكرين ﴾ : لا من الكافرين.
١ ولما بيّن كمال القدرة ذكر نوعا من القدرة عن أثرها فقال: (قل من ينجيكم)/١٢ وجيز..
٢ أي: من شدائدهما وأهوالهما كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم/١٢ معالم..
﴿ قل١ الله ينجّيكم منها ﴾ : الظلمة، ﴿ ومن كل كرب ﴾ : غم سواها، ﴿ ثم أنتم تشكرون٢ : فلا تشكرون٣.
١ أمره بالمسابقة إلى الجواب لأنه أمر متفق عليه، فيكون هو –صلى الله عليه وسلم– سبق إلى الخير والاعتراف بالوحدانية/١٢ وجيز..
٢ وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيها على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأسا/١٢ بيضاوي..
٣ ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور أحدها الدعاء، وثانيها التضرع، وثالثها الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: (وخفيه)، ورابعها التزم الاشتغال بالشكر وهو المراد من قوله (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) (يونس: ٢٢)، ثم بين تعالى أنه ينجيهم تلك المخاوف، ومن سائر موجبات الخوف والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك ونظير هذه الآية قوله: (ضل من تدعون إلا إياه) (الإسراء: ٦٧)، وقوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين) (يونس: ٢٢)، وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به/١٢ كبير..
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا١ من فوقكم ﴾ : كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط ونوح، ﴿ أو من تحت أرجلكم ﴾ : كالخسف، والزلزلة نقل عن عباس –رضي الله عنهما– عذاب الفوق أمراء السوء والتحت خدم السوء، ﴿ أو يلبسكم شيعا ﴾ : يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، ﴿ ويُذيق٢ بعضكم بأس بعض ﴾ : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب، والقتل وفي الحديث الصحيح ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، وسألت أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها، وسألت أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها٣﴿ انظر كيف نُصرّف الآيات ﴾ : نوضحها ونكررها، ﴿ لعلهم يفقهون ﴾ : لكي يفهموا ويتدبروا.
١ يعني كما أن المنجي من المهالك هو الله وحده هو الموقع فيها وحده/١٢ وجيز..
٢ ذكر الإذاقة التي للمطعوم مبالغة في أن الشدة تصل إلى باطنهم/١٢..
٣ رواه الترمذي والنسائي وابن حبان/١٢ وجيز [أخرجه الترمذي (٢٢٨٠) وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (١٧٦٧) وأصل الحديث في مسلم في (الفتن وأشراط الساعة) (٥/٧٤٠) ط الشعب..
﴿ وكذّب به ﴾ : بالقرآن١ وقيل : بالعذاب، ﴿ قومك ﴾ : قريش، ﴿ وهو الحق ﴾ : الصدق أو الواقع، ﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ : ما وكل إلى أمركم إنما علي البلاغ.
١ الدال عليه ذكر الآيات/١٢..
﴿ لكل نبأ مستقر ﴾ : لكل خبر من أخبار الله تعالى وقوع، ولو بعد حين، ﴿ وسوف تعلمون ﴾ : بعضه في الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.
﴿ وإذا رأيت١ الذين يخوضون في آياتنا ﴾ : بالطعن والاستهزاء، ﴿ فأعرض عنهم ﴾ : اترك مجالستهم، ﴿ حتى يخوضوا في حديث٢ غيره ﴾ : الضمير للآيات باعتبار القرآن، ﴿ وإما يُنسينّك الشيطان ﴾ : النهي عن مجالستهم بوساوسه٣، ﴿ فلا تقعد بعد الذكرى٤ : بعد أن تذكر، ﴿ مع القوم الظالمين ﴾، معهم فإنهم ظلمة لوضع التكذيب، والسخرية موضع التصديق والتعظيم.
١ ولما أمره بما يقول عند تكذيب قومه أمره بما يفعل حين تكذيبهم فقال: (إذا رأيت)/١٢..
٢ وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وتقليداتهم الفاسدة وبدعهم الكاسدة فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما ينسبون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر/١٢ فتح..
٣ فمفعوله الثاني محذوف/١٢..
٤ بعد التذكر ومصدر وألفه للتأنيث قيل: لم يجيء مصدر على فعلى غير الذكرى/١٢ وجيز..
﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ﴾ : ما عليهم شيء مما يحاسبون عليه أي : من آثام الخائضين إن قعدوا معهم، ﴿ ولكن ذكرى ﴾ أي : لكن عليهم أن يذكروهم، ويمنعوهم، ويعظوهم، ﴿ لعلهم يتقون ﴾ : يجتنبون الخوض كراهة لمساءتهم نقل أنه لما نزل النهي عن مجالستهم قال المسلمون : إذا لم نستطع أن نجلس في الحرم ونطوف فإنهم يخوضون أبدا، فنزلت رخصة لهم في القعود بشرط التذكير، قال كثير من السلف : هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله :( إنكم إذا مثلهم ) ( النساء : ١٤٠ )، وفي رواية قال المسلمون : نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم وحينئذ معنى قوله :( ولكن ذكرى ) أي : ولكن عليكم التجنب وتذكر النهي لعلهم يتقون حين يروا إعراضكم عنهم، وصح عن سعيد ابن جبير : إن معناه ما عليكم أن يخوضوا في آيات الله شيء من حسابهم إذا تجنبتم، وأعرضتم عنهم أي : عليكم الإعراض.
﴿ وذرِ الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ﴾ : أي : استهزءوا بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم، أو معناه جعلوا اللعب كعبادة الأصنام وتحريم١ البحائر وغيرها دينا واجبا أي : أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ﴿ وغرّتهم الحياة الدنيا ﴾ حتى اطمأنوا بها، ﴿ وذكّر به ﴾ : بالقرآن، ﴿ أن تُبسل نفس بما كسبت ﴾ : مخافة أن تسلم إلى الهلكة بسوء عملها، أو تفضح، أو تجس أو تؤاخذ أو تجزى، ﴿ ليس لها من دون الله من وليّ ولا شفيع ﴾ : يدفع العذاب عنها، والجملة إما صفة أو حال، ﴿ وإن تعدل كل عدل ﴾ : وإن تفد النفس كل فداء، ونصبه على المصدر، ﴿ لا يُؤخذ منها ﴾ : فاعله منها لا ضمير العدل ؛ لأنه مصدر وهو ليس بمأخوذ، ﴿ أولئك٢ الذين أُبسلوا ﴾ : سلموا للعذاب، ﴿ بما كسبوا٣ لهم شراب من حميم ﴾ : الماء المغلي، ﴿ وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ﴾٤.
١ وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا/١٢ كبير..
٢ إشارة إلى الذين اتخذوا أو إلى الجنس المدلول عليه بأن تبسل نفس/١٢..
٣ من الخطايا وقبائح الأعمال/١٢..
٤ إشارة إلى أن كفرهم أسوأ ما كسبوا ولما أقام الحجة البالغة على أن المؤثر ليس إلا الله تعالى عقبه سؤال مرتبط فقال: (قل أندعوا)/١٢..
﴿ قل أندعو ﴾ : نعبد، ﴿ من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ﴾ : لا يملك نفعا ولا ضرا، ﴿ ونُردّ على أعقابنا ﴾ : نرجع إلى الشرك، ﴿ بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين ﴾ : كالذي ذهبت به الغيلان مردة الجن، وأضلته، و( كالذي ) حال من ضمير ( نرد ) أي : ننكص مشبهين من أضلته الغيلان ﴿ في الأرض ﴾ : في المهمة١ ﴿ حيران ﴾ : متحيرا، ﴿ له ﴾ : لهذا المستهوى، ﴿ أصحاب ﴾ : رفقاء، والجملة ( كحيران )، ﴿ يدعونه إلى الهدى ﴾ : إلى الطريق المستقيم، ﴿ ائتنا ﴾ أي : قائلين إيتنا، فلا يلتفت إليهم، ويصير مع الغول حتى يلقيه إلى الهلكة، ﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ : فما عداه ضلال وهلكة، ﴿ وأُمرنا ﴾ : عطف على ( إن هدى الله )، ﴿ لنُسلم لرب العالمين ﴾ أي : بأن نسلم، ونخلص له العبادة أو اللام للتعليل أي : أمرنا بذلك لنسلم.
١ أي: البادية/١٢..
﴿ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ﴾، عطف على لنسلم، ﴿ وهو الذي إليه تحشرون١.
١ فيجازيكم وفيه تنبيه بأن ثمرات هذه الأفعال وحسرات تركها يظهر يوم الحشر/١٢ وجيز..
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ : بالعدل والحكمة، ﴿ ويوم يقول كن فيكون ﴾، عطف على السماوات فذكر بدء الخلق وإعادته أو على مفعول اتقوه أو بتقدير واذكر، والمراد يوم القيامة فإن الأمر فيه غير تدريجي، ﴿ قوله الحق ﴾ أي : الصدق الواقع لا محالة مبتدأ وخبر أو ( قوله ) مبتدأ و( الحق ) صفته ( ويوم يقول ) خبره أي : قضاؤه الحكمة والصواب حين يقول للشيء كن فيكون ذلك الشيء يعني ما ظهر من مكوناته شيء إلا عن حكمة وصواب، فلا يكون المراد من يوم القيامة، ﴿ وله الملك يوم يُنفخ في الصور١ إما ظرف لقوله :( له الملك ) كقوله :( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : ١٦ ] وإما بدل من ( يقول ) والصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقيل : جمع صورة أي ينفخ فيها فتحيا، ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي : هو عالم الغيب، ﴿ وهو الحكيم الخبير ﴾.
١ أي: الملك كائن له في هذا اليوم فإن ظهور توحده في الملك في هذا اليوم الذي لا أمر لأحد سواه كما قال (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) والصور قرن يوسع السماوات والأرض/١٢ وجيز، والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإنشاء، وهو لغة أهل اليمن، وكذا قال الجوهري: إن الصور القرن أي: المستطيل، وفيه جميع الأرواح وفيه ثقب بعددها، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبها، ووصلت لجسدها، فتحله الحياة قال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق وقرئ (الصُّوَرِ) جمع صورة والمراد الخلق، وبه قال الحسن ومقاتل قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملا يرد بما في الكتاب والسنة قال الله تعالى (ثم نفخ فيه أخرى) (الزمر: ٦٨)، واخرج أبو داود والترمذي وحسنه النسائي وابن المنذر وابن جبان وابن أبي حاتم والحاكم، وصححه والبيهقي وعبد بن حميد وابن المبارك عن عبد الله بن عمر وقال: سئل النبي –صلى الله عليه وسلم– عن الصور فقال: (قرن ينفخ فيه)، وأجمع عليه أهل السنة والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الأحاديث لا حاجة لنا إلى إيرادها هاهنا/١٢ فتح..
﴿ وإذ قال إبراهيم١ لأبيه آزر ﴾، عطف بيان لأبيه والأصح٢ إنه اسم أبيه وله اسمان ( آزر ) و( تارخ ) أو أحدهما لقبه، ﴿ أتتخذ أصناما آلهة ﴾ : دون الله، ﴿ إني أراك وقومك في ضلال ﴾ : عن الحق، ﴿ مبين ﴾.
١ ولما بين لهم بقوله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أنهم في اتخاذ الأصنام بكمال الجهل أعقبه حكاية إبراهيم في شأن أبيه وقومه لأنه أنسب لرجوع العرب من ضلالتهم إذ هو جد لهم معظم عندهم وإنكار نبينا –صلى الله عليه وسلم– على قومه إنكار إبراهيم عليهم/١٢ وجيز..
٢ عن ابن عباس وغيره/١٢..
﴿ وكذلك نُري إبراهيم ﴾ أي : مثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية ﴿ ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي : ملكها والتاء زائدة للمبالغة١، ﴿ وليكون من الموقنين ﴾ أي : ليستدل، وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون.
١ كالرهبوت والرحموت/١٧..
﴿ فلما جن عليه الليل ﴾ : ستره بظلامه، وهذا تفصيل لإراءته، ﴿ رأى كوكبا ﴾ : هو الزهرة أو المشترى، ﴿ قال هذا ربي ﴾، قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة وهذا النوع أدعى إلى القبول فإن قومه يعبدون الكواكب، وهذا هو الأصح، أو قال ذلك على وجه النظر والاستدلال في أول بلوغه، بل قبله فقد نقل أنه في السرب سبع سنين أو أكثر لخوف والديه من نمرود لأنه يقتل الصبيان، فإن قد أخبر بمولود ذهاب ملكه على يديه، وهو ما رأى في السرب لا سماء ولا أرضا فلما خرج ورأى كوكبا قال هذا ربي، ﴿ فلما أفَل ﴾ : غاب، ﴿ قال لا أحب الآفلين ﴾ : عبادة شيء يتغير عن حال إلى حال فعرفهم جهلهم.
﴿ فلما رأى القمر بازغا ﴾ : طالعا، ﴿ قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين ﴾.
﴿ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ﴾ أي : الشيء الطالع صان ما سماه ربا عن وصمة١ التأنيث، ﴿ ربي هذا أكبر ﴾ جرما، وإضاءة، فأليق بالربوبية، ﴿ فلما أفلت ﴾ : وظهر حدوثه، وأنه مسخر، ﴿ قال يا قوم إني بريء مما٢ تشركون ﴾ : من الأجرام المفتقرة إلى محدث يحدثها، ثم توجه على موجدها الذي دلت هذه الممكنات عليه وقال :﴿ إني وجّهت وجهي ﴾.
١ في حاشية النسخة: عيب/١٢..
٢ ولابد أن موضع الاستدلال الواقف هو فيه –عليه الصلاة والسلام– يكون تحت جبل عال أو جدار فإنه لا يمكن غروب كوكب ويكون بعد طلوع القمر وبعد غروبه طلوع الشمس في ليلة واحدة/١٢ وجيز. [والأمر لا يحتاج إلى كل هذا التكليف من صاحب الحاشية؛ لأنه لا دليل على أن هذه الرؤى قد وقعت له في ليلة واحدة، فقد يكون ذلك في أوقات متعددة، ويكون قد تأملها ثم أدارها في نفسه، ثم احتج بها على قومه وهم يقرّون بها ابتداء لطول مشاهدتهم إياها]
.

﴿ إني وجّهت وجهي ﴾ : أخلصت ديني وأفردت عبادتي، ﴿ للذي فطر السماوات والأرض ﴾ : ابتدعهما على غير مثال سبق، ﴿ حنيفا ﴾ : حال كوني مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ﴿ وما أنا من المشركين ﴾ : لله.
﴿ وحاجّه قومه ﴾ : جادلوه في التوحيد، ﴿ قال أتحاجّوني في الله ﴾ : في وحدانيته، ﴿ وقد هدان ﴾ : إلى التوحيد، وأنا على بينة منه، ﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ أي : معبوداتكم فإنها لا تملك ضرا ولا نفعا وهم يخوفونه١ منها، ﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾، استثناء منقطع، أي : لكن أخاف مشيئة الله، أو متصل تقديره لا أخاف معبوداتكم في وقت قط إلا وقت مشيئته ربي شيئا من مكروه يصيبني من جهتها مثل أن يرجمني بكوكب أو يجعلها قادرة على مضرتي، ﴿ وسع٢ ربي كل شيء٣ علما أفلا تتذكرون ﴾ : فتعتبروا أن ما قلت لكم حق فتتركوا عبادتها.
١ كما قال قوم هود: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) (هود: ٥٤)/١٢ وجيز..
٢ وفي تكرار ربي استلذاذ، وتعريض بأن الله ربه ومولاه ولا مولى لهم، بل الله عدوهم/١٢ وجيز..
٣ منصوب على التمييز فهذا أبلغ من وسع علم ربي كل شيء/١٢ وجيز..
﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ﴾ وهو لا يملك ضرا، ﴿ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ﴾ : الذي هو حقيق بأن يخاف منه، لأنكم أشركتم المصنوع بالصانع، وسويتم بين العاجز والقادر، ﴿ ما لم يُنزّل به عليكم سلطانا ﴾ : شيئا لم ينزل بإشراك ذلك الشيء حجة من كتاب وغيره، ﴿ فأي الفريقين ﴾ : من الموحدين والمشركين، ﴿ أحق بالأمن إن كنتم تعلمون١ : إن لم يكن لكم جهل.
١ إن كنتم غفلاء لستم بمجانين فأخبروني أيّ هذين الفريقين أحق بالأمن، ولما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وقد علم يقينا، لأنه أقرب من إنصافه وإذعانهم كأنه صبرهم حكاما وطلب منهم الإنصاف والصدق/١٢ وجيز..
﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ : لم يخلطوه بشرك١، ﴿ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ : وقد صح أنها لما نزلت قد شق على الصحابة، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه، فقال –عليه الصلاة والسلام- :( ليس كما تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح :( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) ( لقمان : ١٣٠ ) ( إنما هو الشرك )٢، وقد فسره السلف بذلك، والمراد من الخلط النفاق، أو المراد من الإيمان مجرد تصديقه وشركه عدم توحيده، أو المراد الثبات على الإيمان وكثير من الناس يزعمون إيمانهم وهم عنه بمراحل لفساد عقيدتهم بصفة من صفات الله.
١ بشرك تفسير الظلم بالشرك عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قد صح عن البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد والترمذي وغيرهم، وقد صح عن جم غفير من السلف والإنكار منكر من القول هذا ما في الوجيز وفي الفتح، والعجب عن صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وفي زاده علي البيضاوي: وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك بناء على أن خلط إحدى الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما ولا يتصور خلط الإيمان بالشرك لأنهما ضدان لا يجتمعان وهذه الشبهة ترد عليهم بأن يقال: كما أن الإيمان لا يجامع الكفر فكذلك المعصية لا تجامع الإيمان عندكم لكونه اسم لفعل الطاعات واجتناب المعاصي فلا يكون مرتكب الكبيرة مؤمنا عندكم انتهى/١٢..
٢ أخرجه البخاري في (التفسير)/باب: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) (٤٦٢٩) وفي غير موضع في صحيحه ومسلم في (الإيمان)/باب: صدق الإيمان وإخلاصه..
﴿ وتلك ﴾ إشارة إلى ما مر من قوله :( فلما جن ) إلى قوله :( وهم مهتدون )، ﴿ حجتنا آتيناها إبراهيم ﴾ : ألهمناها، ﴿ على قومه ﴾ متعلق ( بحجتنا )، ﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ قرئ بالإضافة، وبلا إضافة ( فمن نشاء ) مفعول ( نرفع ) و( درجات ) إما مصدر أو ظرف أو تمييز إن جوزنا تقديمه، ﴿ إن ربك حكيم ﴾ في الرفع والخفض، ﴿ عليم ﴾، بحال من يرفعه ويخفضه وقابليته.
﴿ ووهبنا١ له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط٢ هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
١ أي: من جملة رفع الدرجات أنا وهبنا له يحتمل عطفه على نرفع وعلى تلك حجتنا..
٢ كذا بالأصل..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:﴿ ووهبنا١ له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط٢ هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
١ أي: من جملة رفع الدرجات أنا وهبنا له يحتمل عطفه على نرفع وعلى تلك حجتنا..
٢ كذا بالأصل..


﴿ وإلياس ﴾ الصحيح أنه غير إدريس، ﴿ كل من الصالحين وإسماعيل واليَسع ويونس ولوطا وكلا فضّلنا على العالمين ﴾ : بالنبوة،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:﴿ ووهبنا١ له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط٢ هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
١ أي: من جملة رفع الدرجات أنا وهبنا له يحتمل عطفه على نرفع وعلى تلك حجتنا..
٢ كذا بالأصل..


﴿ وإلياس ﴾ الصحيح أنه غير إدريس، ﴿ كل من الصالحين وإسماعيل واليَسع ويونس ولوطا وكلا فضّلنا على العالمين ﴾ : بالنبوة،

﴿ ومن آبائهم ﴾ عطف على كلا أي : فضلناهم وبعض آبائهم، ﴿ وذرياتهم ﴾ وفيهم سيد الكونين –عليه السلام– فهم أفضل جميع المخلوقات بأسرها، ﴿ وإخوانهم واجتبيناهم ﴾ : اخترناهم، ﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم١.
١ وأما نكتة خصوصية عدد هؤلاء بهذا الترتيب فعلمها عند الله/١٢ وجيز..
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما هم عليه، ﴿ هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا١ بحسب الفرض أي : هؤلاء الأنبياء مع علو درجتهم ﴿ لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ : بطل عملهم كآحاد الناس.
١ فيه دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيد ورفض الشرك/١٢ وجيز..
﴿ أولئك الذين آتيناهم الكتاب ﴾، يريد جنس الكتاب، ﴿ والحكم ﴾ : العلم والحكمة، ﴿ والنبوّة فإن يكفر بها ﴾ : بالنبوة، أو بهذه الثلاثة، ﴿ هؤلاء ﴾ : أهل مكة، ﴿ فقد وكّلنا بها ﴾ : بمراعاتها، ﴿ قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ وهم المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وعن قتادة هم الأنبياء المذكورون ومن تبعهم.
﴿ أولئك ﴾ أي : الأنبياء المذكورون، ﴿ الذين هدى الله فبهُداهم١ اقتده ﴾ : في التوحيد، والصفات الحميدة، والهاء للوقف، ﴿ قل لا أسألكم عليه ﴾ : على التبليغ أو القرآن، ﴿ أجرا ﴾ : جعلا كما لم يسأل الأنبياء، ﴿ إن هو ﴾ أي : القرآن، ﴿ إلا ذكرى ﴾ : تذكرة وعظة، ﴿ للعالمين٢.
١ عن ابن عباس قال أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بهديهم وكان يسجد في (ص) [أي في سجدة سورة (ص)] أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما ففيه دليل على أنه -صلى الله عليه وسلم- مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص/١٢ فتح [البخاري(٤٦٣٢)]..
٢ ولما عد الأنبياء، ووصفهم بأنهم أصحاب كتاب وحكم ونبوة وأوعد من كفر بهذه الثلاثة عقبه بمن نفى الكتاب عن أسه وأصله فقال: (وما قدروا الله حق قدره)/١٢ وجيز..
﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ : ما عظموه حق تعظيمه، أو ما عرفوه حق معرفته في اللطف والرحمة على عباده، ﴿ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ : إذ كذبوا إرسال الرسل الذي هو من عظائم نعمه، ﴿ قل ﴾ : لهم، ﴿ ما أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾ : نزلت١ في قريش، وهم يسمعون كتاب موسى من اليهود، ويسلمونه، ويقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، أو في طائفة٢ من اليهود حين قالوا ذلك مبالغة في إنكار القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم– فألزموه ما لابد لهم من الإقرار به أو رجل معين من اليهود قال : ما أنزل الله على بشر من شيء حين غضب، ﴿ تجعلونه قراطيس تُبدونها وتُخفون كثيرا ﴾ أي : جملتها بجعلها قطعا قطعا، ويجزئونها جزءا جزءا يبدون ما يحبون ويخفون بعضا لا يشتهون، مثل صفة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وآية الرجم، وقراءة الخطاب يؤيد كلام من يقول : أن الآية في اليهود اللهم إلا أن يقال إن قريشا واليهود والنصارى متشاركون في إنكار القرآن، فلم يبعد أن يكون الكلام بعضه خطابا مع قريش، وبقية مع اليهود، والنصارى كأنهم طائفة واحدة، وأما قراءة الياء أي : الغيبة تكون التفاتا٣ عند من يقول الآية في اليهود، ﴿ وعلّمتم ﴾ : بسبب القرآن، ﴿ ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ : من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي، وإذا كان الخطاب مع اليهود فمعناه علمتم بالقرآن زيادة على التوراة وبيانا لما التبس عليكم، وعلى آبائكم كما قال تعالى ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ( النمل : ٧٦ )، ﴿ قل الله ﴾ : أنزله أجِبْ عنهم ذلك، لأنه متعين وفيه إشعار بأنهم تحيروا في الجواب ﴿ ثم ذرهم في خوضهم ﴾ : دعهم في أباطيلهم، ﴿ يلعبون ﴾ : يعملون ما لا ينفع، وهو حال من مفعول ذر.
١ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما/١٢ وجيز ولقريش صحبة ومحبة مع اليهود/١٢ وجيز..
٢ وهو الظاهر وهو قول بعض السلف/١٢ وجيز..
٣ إهانات لهم/١٢..
﴿ وهذا ﴾ : القرآن، ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ : كثير النفع، ﴿ مصدّق الذي بين يديه ﴾ : من الكتب السماوية، ﴿ ولتُنذر أمّ القرى ﴾ أي : أهل مكة ف ( عطف على ) صريح لفظ مبارك أي : كتاب مبارك كائن للإنذار، ﴿ ومن حولها ﴾ : أهل الشرق والغرب، ﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ : بالقرآن، ﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ﴾، فإن لازم الإيمان بها الخوف، والخوف يجره إلى الإيمان بالقرآن والمداومة بصلاته فإنها عماد الدين.
﴿ ومن١ أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ : كمن ادعى أنه أرسله كاذبا، ﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾، نزلت في مسيلمة الكذاب ادعى النبوة والوحي٢، ﴿ ومن قال سأُنزل مثل ما أنزل٣ الله ﴾ : كما قالوا :( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) ( الأنفال : ٣١ )، ﴿ ولو ترى إذ الظالمون ﴾، جوابه محذوف أي : ولو ترى زمان سكراتهم لرأيت أمرا فظيعا، ﴿ في غمرات الموت ﴾ : شدائده، ﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾، بتعذيبهم لقبض أرواحهم، فقد ورد٤ أن أرواح الكفرة تتفرق في أجسادهم وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى٥ تخرج، ﴿ أخرِجوا أنفسكم ﴾ أي : قائلين ذلك تعنيفا وتغليظا وزجرا وإضرارا لهم، ﴿ اليوم ﴾ : يوم الموت، ﴿ تُجزون عذاب الهون ﴾ : الهوان والذل، ﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ﴾ : كإثبات الشريك والولد، وإدعاء النبوة، ﴿ وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾ : فلا تؤمنون بها، فالهوان لاستكبارهم.
١ ولما كان لمن يدعي الرسالة لنفسه، ولمن ينفيها مضادة كما قالت اليهود وكل منهما كافر بسبب هذا القول عقب أحدهما الآخر فقال: (ومن أظلم) الآية /١٢..
٢ أتى بأو التنويعية مع أنه القائل والمفترى ليدل على أن كل واحد من فعله وقوله يكفي في أنه ظلم/١٢ وجيز..
٣ قال السدي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي، وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أملى عليه سميعا بصيرا عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين أملاها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال -صلى الله عليه وسلم-: اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله بن أبي سرح وقال لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي مثل ما يوحى إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي –صلى الله عليه وسلم– نازل بمر الظهران: هذا ما في لباب التأويل المعروف بالخازن وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض رسائله: وعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد وكان يكذب على النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن ثم تاب وأسلم وبايعه النبي –صلى الله عليه وسلم– على ذلك/١٢..
٤ كما رواه ابن أبي حاتم، وغيره/١٢ وجيز..
٥ وأما أن للكافر اختيار في حبس الروح في البدن وإطلاقه فالعلم عند الله تعالى، وفيه دليل على عدم تجرد الروح/١٢ وجيز..
﴿ ولقد١ جئتمونا فُرادى ﴾ : منفردين عن الشفعاء، والأموال، والأهل، ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾، وقد كنتم تنكرون ذلك حال ثانية أو صفة مصدر جئتمونا أي : مجيئا مثل خلقناكم أو بدل من فرادى، ﴿ وتركتم ما خوّلناكم ﴾ : تفضلنا عليكم من المال، ﴿ وراء ظهوركم ﴾ : تركتموه كليا وليس معكم شيء منه، ﴿ وما نرى معكم شُفعاءكم٢ الذين زعمتم أنهم فيكم ﴾ : في ربوبيتكم واستعبادكم، ﴿ شركاء ﴾ : لله، ﴿ لقد تقطّع بينكم ﴾، على قراءة رفع ( بينكم ) يكون بمعنى الوصل ليس بظرف، أو ليس بلام الظرفية، وعلى قراءة النصب أسند لتقطع إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس أي : تقطع الأمر بينكم، ﴿ وضل عنكم ﴾ : ضاع وبطل، ﴿ ما كنتم تزعمون٣ : تزعمونه شفيعا.
١ ولما كان من المعلوم أن ليس استكبارهم إلا لمالهم وخولهم وكان استظهارهم بالشفعاء اللات والعزى عقبه بقوله: (ولقد جئتمونا فرادى) الآية/١٢ وجيز..
٢ الذين قلتم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر: ٣)/١٢ فتح..
٣ أنها شفعاءكم/١٢ بيضاوي..
﴿ إن الله فالق١ الحَبّ والنّوى ﴾ يشقهما في الثرى فينبت منها الزرع٢ والشجر، ﴿ يُخرج الحيّ من الميت ﴾ : النبات والحيوان من الحب والنطف، ﴿ ومُخرج الميت ﴾ : الحب والنطف ﴿ من الحيّ ﴾ : النبات والحيوان عطف على فالق الحب فإن ( يخرج الحي من الميت ) كالبيان له ولذا ترك العطف، ومخرج الميت من الحي لا يصلح للبيان ؛ لأن فلق الحب ليس إلا لإخراج الحي، ﴿ ذلكم الله ﴾ أي : فاعل هذه الأشياء هو الله، ﴿ فأنّى تؤفكون ﴾ : تصرفون عنه إلى غيره.
١ ولما تقدم ذكر البعث في قوله: (ولقد جئتمونا) نبه على إمكانه في جنب كمال قدرته بالأمر المشابه للبعث فقال: (إن الله فالق الحب) الآية/١٢ وجيز..
٢ ففيه تنبيه على البعث/١٢..
﴿ فالق١ الإصباح٢ : شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، ﴿ وجعل الليل ﴾، إعمال اسم الفاعل، لأنه بمعنى الدوام التجددي نحو :
( ولقد أمر على اللئيم يسبني )٣
لا بمعنى الثبوت الدائمي ك( مالك يوم الدين ) ( الفاتحة : ٤ )، ﴿ سكَنًا ﴾ : يسكن فيه خلقه، ويستريح، ﴿ والشمس والقمر حسبانا٤ أي : تجريان بحساب معين لا تتجاوزان، أو معناه جعلهما علمى حسبان، لأن حساب الأوقات يعرف بدورهما، ﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور من فلق الصبح، وجعل الليل، والشمس، والقمر، ﴿ تقدير العزيز ﴾ : الذي يفعل ما يريد، ﴿ العليم ﴾ : بما قدر وأراد.
١ ولما ذكر القدرة في الأرضيات توجه إلى قدرة مثلها في السماوات (فالق الإصباح) إلخ/١٢ وجيز..
٢ والإصباح مصدر سمي به الصبح /١٢ وجيز..
٣ صدر بيت من الكامل، وهو لرجل من سلول في الدرر ١/٧٨ وعجزه: (فَمَضَيْتُ ثَمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينْي).
٤ حسبانا هو مصدر حسب بفتح السين أي: العد والحصر، والحسبان بكسر الحاء مصدر حسب بكسر السين أي: الظن والتخمين/١٢ منه..
﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم ﴾ : خلقها لكم، ﴿ لتهتدوا بها في ظلمات١ البر والبحر ﴾ أي : في ظلمات٢ الليل فيهما، ﴿ قد فصّلنا الآيات ﴾ : بيناها مفصلا لا مجملا، ﴿ لقوم يعلمون٣، فإن الجاهل لا ينتفع به.
١ وهذا إحدى منافع النجوم ومنها ما ذكره الله في قوله: (وحفظا من كل شيطان مارد) (الصافات: ٧) وقوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) (الملك: ٥)، وعن عمر بن الخطاب: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا فإنها والله ما خلقت إلا زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها وعن قتادة نحوه وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر مرفوعا: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا/١٢ فتح..
٢ فبإضافة الظلمات إليهما لملابستهما لهما/١٢ منه.
٣ ولما كان جميع تلك الآيات المتوالية للاستدلال على الوحدانية إذا أتم دليلا رجع إلى غيره من آفاقي وأنفسي، ومن هذا قال: (وهو الذي أنشأكم)/١٢ وجيز..
﴿ وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة ﴾ أي : آدم، ﴿ فمستقر ﴾ أي : فلكم مستقر في الأرحام، ﴿ ومُستودع١ : في الأصلاب، أو بالعكس أو في الأرحام، وعلى ظهر الأرض أو في القبر وفي الدنيا أو في الرحم والقبر أو في الجنة أو النار وفي القبر وهما اسما مكان أو مصدران، وفي قراءة كسر القاف الأول اسم فاعل، والثاني اسم المفعول أي : فمنكم قار ومنكم مستودع، ﴿ قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون٢، الفقه : تدقيق النظر، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته بخلاف الاستدلال بالآفاق، ففيه ظهور ولهذا قال في الأول :( لقوم يعلمون ).
١ والحاصل الآن المستقر، والمستودع حالان يتواردان على الإنسان من الظهر إلى الرحم إلى الدنيا إلى القبر إلى المحشر إلى الجنة أو النار، ففي كل رتبة استقرار بالإضافة إلى ما قبلها استيداع بالإضافة إلى ما بعدها واستقر لازم فلا يبنى منه اسم مفعول/١٢ وجيز..
٢ لما كان الاهتداء بالنجوم، واضحا ختمه بيعملون وكون الإنسان من نفس واحدة وتصريفه في أحوال كثيرة أدق ختمه بيفقهون فإن المفهوم من الفقه دقيق النظر/١٢ وجيز..
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ﴾ : من جانبه، ﴿ ماء فأخرجنا به ﴾ : بسبب الماء، ﴿ ثبات كل شيء ﴾ : تنبت، ﴿ فأخرجنا منه ﴾ : من النبات أو الماء، ﴿ خضِرا ﴾ : زرعا وشجرا أخضر، ﴿ نُخرج منه ﴾ : من الخضر، ﴿ حبا متراكبا ﴾ : بعضه على بعض كسنابل البر وغيره، ﴿ ومن النخل من طلعها قِنوان ﴾، الطلع : أول ما يخرج من ثمرها والقنو : العرجون، وهو مبتدأ ( ومن النخل١ ) خبره، ( ومن طلعها ) بدل، ﴿ دانية ﴾ : سهلة المجتنى لقصر النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، أو قريب بعضها من بعض على التفسير الأول ذكر الدانية لأن النعمة فيها أظهر أو دل بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله ( سرابيل تقيكم الحر ) ( النحل : ٨١ ) أي : والبرد، ﴿ وجنات من أعناب ﴾ عطف على ( نبات )، أو على ( خضرا ) ﴿ والزيتون والرمان ﴾ أي : شجريهما بدليل انظروا إلى ثمره، ﴿ مشتبِها٢ وغير متشابه ﴾ أي : متشابها ورقهما، فإن ورقهما قريب غير متشابه ثمرهما، أو بعضه متشابه ببعض آخر منه في الهيئة، واللون والطعم وبعضه غير متشابه، ﴿ انظروا إلى ثمره ﴾ : ثمر كل واحد من ذلك، ﴿ إذا أثمر ﴾ : أخرج ثمره، ﴿ وينعِه ﴾ : وإلى نضجه نظر استدلال بعد أن كان حطبا صار عنبا ورطبا بعد أن كان جافا تفها صار لذيذا، ﴿ إن في ذلكم لآيات ﴾ أي : على كمال قدرته، ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ : يصدقون بالله.
١ والجملة مقطوع عما قبلها في تجريدها من عظم المنة إذا كانت من أعظم قوت العرب، ولها شبه بالحب، وشبه بالعنب في التغذي والتفكر، فناسب أن يكون اعتراضا بين الحب والعنب/١٢ وجيز..
٢ الافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا يقال: اشتبه الشيئان وتشابها واستويا وتساويا، فهو حال من الزيتون لسبقته، أو من الرمان لقربه، وحذف مشتبها وغير متشابه من أحدهما للقرينة وبأن بعض الرمان حامض وأحمر وكبير، وبعضه حلو وأبيض وصغير ففي الرمان في غاية الظهور/١٢ وجيز. .
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ : عبادة غير الله تعالى، عبادة الشيطان هم جعلوا الشيطان شريكا له، أو كما قال الثنوية : الله خالق النور، والشيطان خالق الشرور، ( وشركاء الجن ) مفعول ( جعلوا ) أو ( لله ) ب ( شركاء ) أو حال منه أو ( لله شركاء ) مفعولاه، و( الجن ) منصوب بمقدر، كأنه قيل : من جعلوه شركاء ؟ فقال :( الجن ) ﴿ وخلقهم١، حال بتقدير قد والضمير إما إلى الكفار أي : جعلوا غير خالقهم شريكا لخالقهم، وإما إلى الجن، أي جعلوا المخلوقين شركاء للخالق، ﴿ وخرقوا له بنين وبنات ﴾ : اختلفوا وافتروا، ﴿ بغير علم ﴾ حال من فاعل خرقوا أي : خرقوا عن عمى وجهالة لا عن فكر وروية، ﴿ سبحانه وتعالى عما يصفون ﴾ تعالى عطف على أسبح.
١ والأولى أن ضمير الجمع للجاعلين إذ هم المحدث عنهم يعني جعلوا مخلوقا شريكا لخالقهم، وما هو إلا حماقة/١٢ وجيز..
﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ أي١ : هو مبدعهما ومحدثهما على غير مثال سبق قيل : من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي : هو بديع سماواته، وقيل الإضافة حقيقية بمعنى في أي هو عدم النظير فيهما، ﴿ أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ﴾، والولد إنما يكون بين متجانسين ولا يناسبه شيء فإنه فالق الأشياء وأين الخالق من المخلوق ؟ ! ﴿ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم٢، لم يقل وهو به عليم لأن علمه أشمل من خلقه.
١ ولما كان التوالد من صفات الأجسام ومن هو مبدع تلك الأجسام ومخترع الأجسام ليس بجسم، فلا يكون له ولد (أنى يكون له ولد) الآية/١٢ وجيز..
٢ يعني من كان موصوفا بالخالقية، والعالمية غنى عن العالمين والولد إنما يطالبه المحتاج إليه فنفى الولد بأدلة ثلاثة، ويمكن أن يجعل أربع دلائل/١٢ وجيز..
﴿ ذلكم ﴾ أي : الموصوف بما سبق من الصفات، وهو مبتدأ، ﴿ الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾، أخبار مترادفة١، ﴿ فاعبدوه ﴾ ؛ لأن من له هذه الصفات استحق العبودية، ﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ : متولي أموركم فكلوها إليه.
١ يعني المتصف بالصفات المتقدمة هو الله مالِكُكُم الناظر في مصالحكم، ثم حصر الإلهية فيه وأنه هو وحده متصف بالخلق ثم أمر بعبادته، فقال: (اعبدوه) لأنه هو الحقيق بالعبادة/١٢ وجيز..
﴿ لا تُدركه الأبصار ﴾ أي : في الدنيا أو لا يحيط به الإبصار، فإن الإدراك أخص من الرؤية أو لا يراه أحد على ما هو عليه لا بشر ولا ملك، لكن إذا تجلى بوجه يمكن رؤيته تدركه الأبصار، أو لا يراه جميع الأبصار ؛ بل الكفار عنه محجوبون، ﴿ وهو يدرك الأبصار١ : تحيط علمه بها ويراها، ﴿ وهو اللطيف ﴾ : بأوليائه، ﴿ الخبير ﴾ : بأعمالهم قيل من باب اللف والنشر أي لا تدركه الأبصار، لأنه لطيف لا كثافة٢ فيه بوجه، وهو يدرك الأبصار ؛ لأنه خبير.
١ أي: هو لا تدركه حاسة النظر في الدنيا لأن الإرادة الأزلية أنقضت أنها لا تراه في الدنيا وأما أمور الآخرة فعلى خلاف ما في الدنيا تأمل فيما ورد عن أمر الصراط وأحوال الجنة وأهل النار والأحاديث الصريحة في شأن رؤية الله تعالى للمؤمنين في الجنة واردة، وهو يدرك جميع الحواس النظرية، فهو خالقها وصاحب الحاسة لا يرى حاسة نفسه، وكلا الأمرين معا صفة مدح، والتغير من جانب الرائي لا من جانب الرب سبحانه، ولا عليك أن تجعل تلك الصفة دليلا آخر لنفي الولد والصاحبة فإن التوالد لا بد له من خلطة وتماس، والصفات الذاتية لا تتغير/١٢ وجيز. وقد ثبت الرؤية في القيامة بالأحاديث المتواترة تواتر لا ك فيه، ولا شبهة ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلا عظيما وأيضا قد تقدر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار وهي أبصار الكفار هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية الخاصة والآية من سلب العموم لا من عموم السلب والأول يخلفه الجزئية، والتقدير لا تدركه كل الأبصار، بل بعضها، وهي أبصار المؤمنين، وقد أطال الواحد المتكلم الحافظ ابن قيم في حادي الأرواح في إثبات الرؤية ورد المنكرين لها بما لا مزيد عليه/١٢ فتتح..
٢ بالأصل كثافته، والأصح ما ذكرناه. ص ٢٠٤..
﴿ قد جاءكم بصائر١ من ربكم ﴾ : البصيرة للقلب كالبصر للجسد أي : جاءتكم بالوحي الآيات البينات، والحجج القرآنية التي هي للقلوب كالبصائر، ﴿ فمن أبصر ﴾ : يرى تلك الآيات وآمن بها، ﴿ فلنفسه ﴾ أبصر، وله نفعه، ﴿ ومن عمِي ﴾، فلا يؤمن بها، ﴿ فعليها ﴾ : فعلى نفسه عمى، وعليها ضره، ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ : أحفظ أعمالكم فأجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ، وهذا وراد على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
١ وهذا كلام استئناف وارد على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال في آخره: (وما أنا عليكم بحفيظ) ووصف البصائر بالمجيء تفخيما لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال: جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس/١٢ فتح..
﴿ وكذلك نُصرّف الآيات ﴾ : مثل ذلك التبيين نبينها ونكررها، ﴿ وليقولوا درست ﴾، معلله محذوف أي : وليقولوا درست نصرفها، والدرس القراءة، والتعلم أي : ليقول المشركون درست، وتعلمت من اليهود، ثم تزعم أنه من عند الله عليك يعني لشقاوة بعض كما قال تعالى :( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) ( البقرة : ٢٦ )، فيكون اللام على أصله أو اللام لام العاقبة، وقرئ ( دارست ) أي : دارست أهل الكتاب وقارءتهم، وقرئ ( درست ) أي : قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين، ﴿ ولنُبيّنه ﴾، الضمير للقرآن أو الآيات باعتبار أنها قرآن أي : كررناه لنبينه، ﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي : لهداية المؤمنين، وحاصله تصريف الآيات لشقاوة بعض وسعادة بعض آخر.
﴿ اتّبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ : بالعمل به، ﴿ لا إله إلا هو ﴾ حال مؤكدة من ربك أي : منفردا بالألوهية، ﴿ وأعرض عن المشركين ﴾ : لا تجادلهم، واحتمل أذاهم حتى ينصرك الله فإن لله حكمة في إضلالهم.
﴿ ولو شاء الله ﴾ : توحيدهم، ﴿ ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ : رقيبا تحفظ أعمالهم وتجازيهم أو تحفظ من عذاب الله، ﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ : تقوم بأمرهم.
﴿ ولا تسُبّوا الذين يدعون ﴾ : يعبدون، ﴿ من دون الله ﴾ أي : أصنامهم، ﴿ فيسُبّوا١ الله عدْواً ﴾ : ظلما، ﴿ بغير علم ﴾ : على جهالة بالله يعني سب آلهتهم وإن كان حقا لكن فيه مفسدة عظيمة، نزلت حين قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك أو كان المسلمون يسبون آلهتهم وهم يسبون الله عدوا، ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك التزيين، ﴿ زيّنا لكل أمة ﴾ : من أمم الكفار، ﴿ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فيُنبّئهم بما كانوا يعملون ﴾ : بالمجازاة.
١ وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرمة ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان وجبا عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس وإذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق وبغضا لاتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة، وجعل المخالفة لها والتجري على أهلها وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سيد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (ملعون من سب والديه قالوا: يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)/١٢ فتح البيان في مقاصد القرآن المأخوذ من فتح القدير للشوكاني/١٢ [البخاري (٥٩٧٣)، ومسلم (١/٢٧٦) ط الشعب ولفظه (إن من أكبر الكبائر...) الحديث]..
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ : أوكدها أي : أقسموا قسما غليظا ﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ : كما لموسى وعيسى، ﴿ ليُؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله ﴾ : لا عندي حتى آتيكم بها ﴿ وما يُشعركم ﴾ ابتداء كلام وليس في حيز ( قل ) و( ما ) استفهام إنكار ﴿ أنها إذا جاءت ﴾ : تلك الآية التي طلبوها، ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : لا تدرون أنهم لا يؤمنون والله يعلم ذلك، ولا ينزلها وقيل : لا مزيدة، وقيل : فيه حذف تقديره : ما يدريكم أنهم لا يؤمنون، أو يؤمنون وقيل : أن بمعنى لعل، ومن قرأ إنها بكسر الهمزة على أن الكلام قد تم قبله بمعنى وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بما علم منهم فقال ذلك، والخطاب للمؤمنين أو للمشركين، ويؤيده قراءة التاء في ( لا تؤمنون ) نزلت حين قالوا : والله لئن تجعل لنا الصفا ذهبا لنتبعنك أجمعين.
﴿ ونُقلّب أفئدتهم ﴾ : عن الحق لو أنزلنا ما اقترحوا من الآيات فلا يفقهونه عطف على ( لا يؤمنون ) أو جملة على حيالها، ﴿ وأبصارهم ﴾ : فلا يبصرونه، ولا يؤمنون بها، ﴿ كما لم يُؤمنوا به ﴾ : بما أنزل من الآيات، ﴿ أول مرة ﴾ : من انشقاق القمر وغيره، أو المراد كما لم يؤمنوا بما أنزلنا على موسى، وعيسى لقوله :( أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) ( القصص : ٤٨ )، وعن بعض السلف نقلبهما فلا يؤمنون لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا، ﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ : في كفرهم، وضلالهم متحيرين.
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ ﴾ : فرأوهم عيانا، ﴿ وكلّمهم الموتى ﴾ : فشهدوا لك، ﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلا ﴾ : مع قبيل بمعنى كفيل، أو بمعنى جماعات، أو هو مصدر بمعنى المقابلة، وهو حال من ( كل )، ﴿ ما كانوا ليؤمنوا ﴾ : في حال، ﴿ إلا أن يشاء١ الله ﴾ : أي : إلا حال مشيئته، فيبدل طبعهم لتمرنهم في الكفر وسبق القضاء بشقاوتهم، ﴿ ولكن أكثرهم يجهلون٢ : أنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون جهد أيمانهم قيل : أو إن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول آية طمعا في إيمانهم.
١ يعني أن الأسباب لا دخل لها في إيمانهم بخلاف بعض الكفرة فإنه لا حاجة إلى تبديل طبائعهم، بل إذ جاءهم سبب، وضم إليه مشيئة الله تعالى لآمنوا فإن هذا العالم عالم الأسباب/١٢ وجيز..
٢ ولما علم مما سبق أنهم له –صلى الله عليه وسلم- أعداء لا تزول عداوتهم أعقبه ما يسلي فؤاده، فقال: (وكذلك جعلنا) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي١ عدُوًّا ﴾ أي : كما جعلنا لك عدوًّا جعلنا لكل نبي عدوًّا، ﴿ شياطين ﴾ : مردة، ﴿ الإنس والجن ﴾ بدل٢ من عدوًّا، أو أحد مفعولي ( جعلنا لكل نبي ) ظرف ( عدوًّا )، ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض ﴾ : يوسوس ويلقي بعضهم بعضا، ﴿ زُخرف القول ﴾ : أباطيله المزينة يغرونهم، ﴿ غرورا ﴾ أو للغرور، يعني أن مردة الجن يوحون مردة الإنس، ويغرونهم بالإضلال، وهذا٣ هو الأصح، وقال بعضهم : معناه الشيطان الموكل بالجن يوحي، ويعلم الشيطان الموكل بالإنس أباطيل القول في إضلال المسلمين وبالعكس، ﴿ ولو شاء ربك ﴾ : ألا يكون لهم عدو، ﴿ ما فعلوه ﴾ أي : إيحاء الزخارف ﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ : ولا تغتم أنت منهم.
١ لست منفردا بذلك/١٢..
٢ والبدل جمع، والمبدل مفرد دل على أن المراد الجنس وإتيانه بصورة المفرد للإشعار بأنهم كيد واحد على ما سواهم/١٢ وجيز..
٣ وهو قول جميع السلف، ويدل عليه الحديث الصحيح/١٢..
﴿ ولتصغى ﴾ أي : ولتميل، ﴿ إليه ﴾ : إلى زخرف القول، ﴿ أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾، عطف على ( غرورا ) إن جعلته مفعولا له، وإلا فهو متعلق بمحذوف أي : وجعلنا لكل نبي عدوا لتصغى، أو تقديره : جعلنا ذلك لمصالح لا تحصى ولتصغى، ﴿ وليرضَوه ﴾ : ليحبوه، ﴿ وليقترفوا ﴾ : ليكتسبوا، ﴿ ما هم مقترفون١ : من الآثام.
١ من الآثام، وهذا الترتيب في غاية الفصاحة أولا ذكر الخداع فالميل فالرضاء فالاقتراف وكل مسبب عما قبله، ولما كان من عادة قريش في المخالفات التحاكم إلى كهانهم وهم شياطين الإنس الذين قال الله تعالى فيهم: (يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التحاكم في أمر نبوته نهى الله تعالى عن التحاكم إلى غيره فقال: (أفغير دين الله أبتغي حكما) إلخ/١٢ وجيز..
﴿ أفغير الله أبتغي حَكَما ﴾ أي : قل أغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، و( حكما ) حال من غير الله، ﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ﴾ : القرآن، ﴿ مفصّلا ﴾ : بين وميز الحق والباطل، ﴿ والذين آتيناهم الكتاب ﴾ : من اليهود والنصارى، ﴿ يعلمون أنه مُنزّل من ربك بالحق ﴾، لأن وصفه مذكور في كتبهم، ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ في أنه من عند الله، وهذا من باب التحريض، والتهييج، قال تعالى :( وإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب ) الآية ( يونس : ٩٤ )، وقد جاءت في الحديث أنه عليه السلام قال حين نزوله :( لا أشك ولا أسأل )١ أو المراد نهي الأمة، وقيل : معناه لا تكن من الشاكين في أنهم يعلمون ذلك.
١ أخرج ابن جرير الطبري في (تفسيره) (١١/١١٦) عن قتادة رضي الله عنه. وذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٣/٥٧١) ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه..
﴿ وتمّت١ كلمة ربك٢ : بلغت الغاية، وعداته وأقضيته، ﴿ صدقا ﴾ : فيما وعد، ﴿ وعدلا ﴾ : فيما حكم وهو إما حال أو تمييز، ﴿ لا مبدّل لكلماته ﴾ : لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لوعده، ﴿ وهو السميع ﴾ : لأقوالهم، ﴿ العليم ﴾ : لما في صدورهم
١ ولما كان من أول سورة إلى هنا في بيان التوحيد والنبوة والطعن على المخالف ومن هنا إلى آخر السورة في بيان الأحكام، والقصص ناسب قوله: (وتمت كلمة ربك)/١٢ وجيز..
٢ قوله: (وتمت كلمة ربك) الآية قال شيخ الإسلام: السلف وأئمة السنة وكثير من أهل الكلام يقولون إن الكلام صفة ذات وفعل وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل حي وصف بالكلام فكلامه لا بد أن يقوم بنفسه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته قال الإمام أحمد وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته، وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء كما قال تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى) (طه: ١١) فناداه حين أتاها، ولم يناده قبل ذلك وقال تعالى: {فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها ولم ينادهما قبل ذلك وكذلك قوله تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا) (الأعراف: ١١)، بعد أن خلق آدم وصوره ولم يأمرهم قبل ذلك وكذا قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران: ٥٩) فأخبر أنه قال له كن بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين، وعليه يدل كلام السلف قاطبة، والكتاب والسنة مملوآن منه. انتهى مختصرا ملتقطا/١٢..
﴿ وإن١ تطع أكثر من في الأرض ﴾ : فإن أكثرهم على الضلال، ﴿ يُضلّوك عن سبيل الله ﴾ : الموصل إليه، ﴿ إن يتّبعون إلا الظن ﴾ : فإن دينهم ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة، ﴿ وإن هم لا يخرُصون ﴾ : يكذبون على الله.
١ ولما قال: (وتمت كلمة ربك) علم منه أنه المستمسك وأنه العروة الوثقى فالجدير ألا تدعه في شيء وفي حال ولهذا عطف عليه قوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض) الآية/١٢ وجيز..
﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ﴾ أي : بمن يضل، ﴿ وهو أعلم١ بالمهتدين ﴾ : أعلم بالفريقين.
١ لما قال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) أخبر أنه أعلم بالفريقين من الضال والمهتدي، فلا تطع أحدا إلا ربا وكلمته (فكلوا مما) الآية/١٢ وجيز..
﴿ فكلوا مما ذُكر اسم الله١ عليه ﴾ : أي : على ذبحه لا مما مات حتف أنفه، ولا مما ذكر عليه اسم غيره، ﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾ فإن الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله لا ما أحله٢ الظن، والهوى.
١ يعني لما نهيناك عن اتباع الغير فلا تأكل مما ذكر عند الذبح اسم غير الله تعالى عليه ولا مما مات حتف أنفه فإن ذلك من شرع المشركين/١٢ وجيز..
٢ فإنهم اعترضوا على الدين بأن ما قتله الإنسان والصقر والكلب يحكم بحله، وما قتله الله تعالى من الميتة من ذوات الأربع لا يحلله/١٢ وجيز..
﴿ وما لكم ﴾ : أيُّ غرض لكم، ﴿ ألا تأكلوا مما ذُكر عليه اسم الله ﴾ أي : منه وحده وتأكلوا من غيره، ﴿ وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم ﴾ : في ( حرمت عليكم الميتة ) الآية ( المائدة : ٣ )، ﴿ إلا ما اضطُررتم إليه ﴾ ( ما ) موصولة والاستثناء من ضمير حرم، أو ( ما ) مصدرية في معنى المدة أي : الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، ﴿ وإن كثيرا ليُضلّون ﴾ : بتحليل الحرام وتحريم الحلال، ﴿ بأهوائهم ﴾ : بتشهيهم، ﴿ بغير علم ﴾ : غير متعلقين بدليل، ﴿ إن ربك هو أعلم بالمعتدين١ : المتجاوزين الحق إلى الباطل.
١ ولما عتب عليهم في التجاوز عما ذكر اسم الله عليه وهذا من أمور قد يظهر وقد لا يظهر عقبه بقوله: (وذروا ظاهر الإثم) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾ : معصية العلن والسر، ﴿ إن الذين يكسبون الإثم سيُجزون بما كانوا يقترفون١ : يكسبون.
١ وكان من عادة المشركين في الزنا أنهم يدخلون بيتا مظلما مغلقين أبوابه، مستترين بمثل لحاف قائلين: لا يرانا رب السماء/١٢ وجيز..
﴿ ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ الضمير ل ( ما ) أو للأكل، وعند بعض السلف إن ذبيحة تركت التسمية عليها عمدا أو سهوا حرام، والآية دليلهم وعند بعض التسمية مستحبة، وقالوا : الآية فيما ذبح لغير الله، وقيل : الواو في ( وإنه لفسق ) حالية، والفسق : ما أهل لغير الله بدليل قوله :( أو فسقا أهل لغير الله به )، وقال بعض منهم المراد من الآية الميتة، وعند كثير من السلف : إن ترك التسمية نسيانا لا يضر١ أما عمدا، فالذبيحة حرام، ﴿ وإن الشياطين ليُوحون ﴾ : يوسوسون، ﴿ إلى أوليائهم ﴾ : من الكفار، ﴿ ليجادلوكم ﴾ : يقولون تزعمون أن ما قتلت أنت وأصحابك، والصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام، وهو يؤيد التأويل بالميتة، ﴿ وإن أطعتموهم ﴾ : في استحلال ما حرم، ﴿ إنكم لمشركون ﴾ : فإن اتباع غير الله في الدين إشراك وكفر.
١ وهو المشهور عن مالك، وعليه أبو حنيفة، وأحمد وقيل: عليه الإجماع وعند بعض أن الرجوع هنا إلى الآية التي هي حرمت عليكم الميتة كما مر في قوله: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) دال على أن الحرام ما أهل لغير الله لا ما لم يذكر فيه اسم الله وقوله: (أو فسقا أهل لغير الله به) مشعر عليه/١٢ وجيز..
﴿ أو من كان ميتا ﴾ : بالكفر والجهل، ﴿ فأحييناه ﴾ : بالعلم والإيمان، ﴿ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ﴾ : يهتدي كيف يسلك١ وكيف ينصرف والنور القرآن أو الإسلام، ﴿ كمن مثله ﴾ : صفته، ﴿ في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ : بقي على الضلالة لا يفارقها مجال حال من المستكن في الظرف وحاصله أنه كمن إذا وصف يقال له ( في الظلمات ليس بخارج )، ف ( في الظلمات ليس بخارج ) خبر مثله على سبيل الحكاية، والجملة صلة من، ﴿ كذلك ﴾ : كما زين للمؤمنين الإيمان، ﴿ زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون٢ قيل : الآية نزلت في حمزة وأبي جهل، أو في عمر وأبي جهل، أو في عمار بن ياسر وأبي جهل.
١ في الأصل: يسالك، وما ذكرناه هو المناسب لاسيما أن العبارة في تفسير ابن كثير ٢/١٧٣: (أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به...)..
٢ ولما مر أن لكل نبي عدوًّا وهم شياطين الإنس والجن وقد قر في الأذهان أن عدو عظيم القدر لا يكون إلا عظيما مثله ليحكي عنه مكره من فعله، وقوله وعلم أن هذا ليس خاصا بنبينا –صلى الله عليه وسلم–، بل لكل نبي عدوا أراد أن يبين أن لكل قرية حال كحال قرية نبينا أم القرى، فقال (وكذلك جعلنا في كل قرية)/الآية ١٢ وجيز..
﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ﴾ أي : كما صيرنا فساق مكة أكابرها صيرنا مجرمي كل قرية رؤساءها، ومترفيها ( وأكابر مجرميها ) بالإضافة هي المفعول الأول والثاني ( في كل قرية ) أو ( ليمكروا فيها ) مفعولاه قيل : جاز أن يكون ( أكابر ) مضافا إلى مجرميها مفعوله الأول، و( ليمكروا ) مفعوله الثاني، ﴿ ليمكروا فيها ﴾ : بصد الناس عن الهدى، ﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم ﴾ : فإن وباله يحيط بهم، ﴿ وما يشعرون ﴾ : ذلك.
﴿ وإذا جاءتهم آية ﴾ : دالة على صدق محمد -عليه الصلاة والسلام-، ﴿ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسل الله ﴾ أي : حتى تأتينا الملائكة بتصديقك كما يأتي إلى الرسل، ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ : استئناف يرد عليهم أنهم ليسوا بأهل الوحي والرسالة أي : أعلم بالمكان الذي فيه يضعها، ﴿ سيصيب الذين أجرموا١ صَغارٌ ﴾ : ذل وحقارة، ﴿ عند الله ﴾ : يوم القيامة، ﴿ وعذاب شديد بما كانوا يمكرون٢ : بسبب مكرهم.
١ من الأكابر والأصاغر/١٢..
٢ ولما ذكر أنه لا يصطفي إلا من يصلح للاصطفاء، ولا يطرد إلا من يليق بالطرد بين وعين حال المصطفى، والمطرود، فقال: (فمن يرد الله) الآية/١٢ وجيز..
﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ﴾ : يوسع قلبه، ﴿ للإسلام ﴾ : للتوحيد وفي الحديث١ تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال : نور يُُقذف في القلب ) قالوا : هل لذلك من أمارة ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله "، ﴿ ومن يرد ﴾ : الله، ﴿ أن يضله يجعل صدره ضيّقا حَرَجًا ﴾ : فلا يبقى فيه منفذ للخير، ومكان حرج أي : ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الرعية، ﴿ كأنما يصّعّد في السماء ﴾ : أي : مثله في امتناع قبول الإيمان مثل صعود السماء، فإنه ممتنع غير مستطاع أو معناه كأنما يتصاعد إلى السماء هربا من الإيمان، وتباعدا عنه، ﴿ كذلك ﴾ : كما ضيق الله صدره، ﴿ يجعل الله الرّجس ﴾ : يسلط الشيطان أو العذاب، ﴿ على الذين لا يؤمنون ﴾ أي : عليهم لعدم إيمانهم.
١ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم/١٢ وجيز، وقد روى بطرق يقوي بعضها بعضا، والمتصل يقوي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين/١٢ فتح [أخرجه ابن جرير في (تفسيره) (٨/٢٠) من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- والحديث ضعفه الشيخ الألباني في (الضعيفة) (ح٩٦٥) وقد اطل الكلام عليه فراجعه]..
﴿ وهذا ﴾ : الذي أنت عليه يا محمد، ﴿ صراط ربك ﴾ : الطريق الذي ارتضاه، ﴿ مستقيما ﴾ : لا عوج فيه حال، وعامله معنى الإشارة ﴿ قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ﴾ : لهم فهم ووعي.
﴿ لهم دار السلام ﴾ : الجنة ؛ لأن فيه سلامة عن الآفات أو السلام من أسماء الله، ﴿ عند ربهم ﴾ : في ضمانه أو يوم القيامة، ﴿ وهو وليّهم ﴾ : ناصرهم، ﴿ بما كانوا يعملون١ : بسبب أعمالهم.
١ اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين تعالى أنه معد مهيئ لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم فقال: (لهم دار السلام عند ربهم)، وفي هذه الآية تشريفات النوع الأول. قوله: (لهم دار السلام)، وهذا يوجب الحصر فمعناه لهم دار السلام لا لغيرهم. النوع الثاني قوله: (عند ربهم) يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى. النوع الثالث: من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله: (وهو وليهم): والولي معناه القريب فقوله: (عند ربهم) يدل على قربهم من الله، وقوله (وهو وليهم) يدل على قرب الله منهم، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، وأيضا فقوله: (وهو وليم): يفيد الحصر، أي: لا ولي لهم إلا هو، وكيف هذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المقدر والمدبر ليس إلا هو وأن المسعد والمشقى ليس إلا هو وأنه لا مبدئ الكائنات والممكنات إلا هو فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، وما كان أنسهم إلا به وما كان خضوعهم إلا له، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال تعالى: (وهو وليهم) وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين، والدنيا ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات، ودفع الآفات والبليات، ثم قال: (بما كانوا يعملون) وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء من العمل فإن العمل لا بد منه/١٢ مفاتيح الغيب المشهور بالكبير للإمام الرازي. .
﴿ ويوم يحشرهم جميعا ﴾ أي : اذكر يوم نحشر الثقلين قائلين :﴿ يا معشر الجن ﴾ أي : الشياطين :﴿ قد استكثرتم من الناس ﴾ أي : من إغوائهم١ أي : أضللتم كثيرا، ﴿ وقال أولياؤهم ﴾ : محبوهم ومطيعوهم، ﴿ من الإنس ﴾ : مجيبين لله عن ذلك، ﴿ ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾ : بعضهم مطاع وبعضهم مطيع، أو كان في الجاهلية إذا نزلوا مفازة قالوا : أعوذ بكبير هذا الوادي، فيفتخر كبير الجن بتعوذ الإنس بهم، ويقولون : نحن سيد الإنس والجن، وهذا هو الاستمتاع، ﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا ﴾ : أي : القيامة والبعث، وهذا اعتراف بطاعة الشيطان وتكذيب البعث، وتحسر على حالهم، ﴿ قال ﴾ : الله، ﴿ النار مثواكم ﴾ : منزلكم، ﴿ خالدين فيها ﴾، حال، والعامل معنى الإضافة، ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أي : هم مخلدون٢ جميع الأوقات إلا مدة حياتهم في الدنيا والبرزخ أو المراد الانتقال من النار إلى أنواع أُخر من العذاب كالزمهرير، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه٣ لا ينزلهم جنة ولا نارا، ﴿ إن ربك حكيم ﴾ : في أفعاله، ﴿ عليم ﴾ : بأعمال خلقه.
١ ففيه حذف مضاف كذا قدره ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن/١٢ منه..
٢ قال ابن عباس، ونعم ما قال: الله أعلم بثنياه وكذا قال قتادة وغيره اعترفوا بالعجز عن الفهم والتعيين وأحالوا العلم إلى الله في الاستثناء وعندي أن القول ما قالت حذام/١٢ وجيز..
٣ وعلى هذا النقل يكون ما بمعنى من/١٢ منه..
﴿ وكذلك ﴾ : كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، ﴿ نُولّي١ بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ﴾ : نسلط بعضهم على بعض، كما ورد ( من أعان ظالما سلط الله عليه )٢ أو نتبع بعضهم بعضا في النار أو نكل بعضهم إلى بعض فيغويهم أو نجعل الكافر ولي الكافر أينما كان.
١ أي: نسلط بعضهم على بعض جزاء على ظلمهم، ولهذا دلت الآية على أن الرعية إذا كانت ظالمة فالله يسلط عليهم ظالما مثلهم/١٢ وجيز..
٢ ذكره العجلوني في (كشف الخفاء) (٢٣٨٠) وقال في (المقاصد): رواه ابن عساكر في (تاريخه) عن ابن مسعود رفعه، وفيه ابن زكريا العدوي متهم بالوضع..
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ١ مِنْكُمْ ﴾ هو الله سبحانه يقرع الكافرين يوم القيامة بهذا السؤال وهو استفهام تقرير، والأصح بل الصحيح أن الرسل من الإنس والجن تبع لهم قالوا نظيره ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( الرحمن : ٢٢ ) وهما لا يخرجان من العذب كما سنذكر إن شاء الله تعالى، ﴿ يقُصّون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ : يوم القيامة، ﴿ قالوا ﴾ : جوابا، ﴿ شهدنا على أنفسنا ﴾ : أنهم قد بلغوا ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم قال تعالى :﴿ وغرّتهم الحياة الدنيا ﴾ : فأعرضوا عن رسلنا ولم يرفعوا إليهم رأسا، ﴿ وشهدوا على أنفسهم ﴾ : يوم القيامة، ﴿ أنهم كانوا كافرين ﴾ : في الدنيا.
١ قيل لرسل الإنس رسل إلى الجن منهم لإنذارهم فهو المراد/١٢ وجيز..
﴿ ذلك ﴾ : أي : إرسال الرسل، ﴿ أن لم يكن ربك ﴾ خبر ذلك، وأن إما مصدرية أو مخففة، واللام محذوف أي : لأن، أو تقديره الأمر ذلك لأن لم يكن إلخ، ﴿ مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون١ : أي : لانتفاء كون ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلمهم وأهلها غافلون لم ينبهوا برسول كما قال تعالى :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( الإسراء : ١٥ ) أو ( بظلم ) حال من ( ربك )، وحاصله أنه لا يهلكهم دون التنبيه بالرسل والآيات فإنه ظلم والله غير ظلام للعبيد.
١ وحاصله انه لا يهلكهم بدون التنبيه فإنه ظلم، والله تعالى ليس بظلام للعبيد، وليس في هذا اعتزال، فإن الظلم لغة واصطلاحا: وضع الشيء في غير موضعه/١٢..
﴿ ولكل ﴾ : من المكلفين، ﴿ درجات ﴾ : مراتب، ﴿ مما عملوا ﴾ : من أعمالهم، ﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ : فيخفى عليه خافية.
﴿ وربك الغني ﴾ : عن خلقه من جميع الجهات، ﴿ ذو الرحمة ﴾ : بهم فلا يعجل بالعقوبة، ﴿ إن يشأ يُذهبكم ﴾ : إذا عصيتم، ﴿ ويستخلف من بعدكم من يشاء ﴾ : قوما آخرين يعملون بطاعته، ﴿ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ﴾ : أي : هو قادر على ذلك كما أذهب القرن الأول وأتى بالذي بعده.
﴿ إن ما توعدون ﴾ : من أمر المعاد، ﴿ لآتٍ ﴾ : كائن البتة، ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ : الله في قدرته.
﴿ قل يا قوم اعملوا على١ مكانتكم ﴾ : على تمكنكم من أمركم أو على جهتكم، وحالكم التي أنتم عليها، ﴿ إني عامل ﴾ : على ما أنا عليه أي : اثبتوا على الكفر فإني ثابت على الإسلام، وهو أمر تهديد شديد، ﴿ فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾ : أي : سوف تعلمون أينا له العاقبة المحمودة، والجنة أو المراد من عاقبة الدار أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، و( من ) استفهامية مبتدأ خبره تكون، وفعل العلم علق عنها أو موصولة فهو مفعول ( تعلمون ) على أنه متعد إلى مفعول واحد بمعنى يعرفون، ﴿ إنه ﴾ : إن الشأن، ﴿ لا يفلح الظالمون٢ : لا يسعد من كفر.
١ مصدر مكن فالميم أصلية أو من الكون يعني على تمكنكم من الأمر/١٢ وجيز..
٢ ولما ذكر للمشركين عبادة الأصنام أثبت لهم نوعا آخر من جهالاتهم ما دل على قلة عقلهم مما يتعجب منه من له أدنى تدبر فقال: (وجعلوا) إلخ/١٢ وجيز..
﴿ وجعلوا ﴾ أي : مشركو العرب، ﴿ لله ما ذرأ ﴾ : خلق، ﴿ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ١ : كانوا يجعلون من أموالهم نصيبا لله ومصرفه الضيفان، ونصيبا لآلهتهم ومصرفه خدم أصنامهم فإن سقط شيء من الثمر مثلا من نصيب الوثن فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن هلك أو انتقص منه شيء أخذوا بدله مما جعلوا لله، وإن سقط شيء من نصيب الله في نصيب الأوثان خلوه أو مات شيء منه لم يبالوا به، وقالوا : الله غني، وهذا معنى قوله :( فما كان لشركائهم ) الآية، وفي قوله :( مما ذرأ ) إشارة إلى جهلهم بأنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا، ثم جعلوا له النصيب الأوفر، وقوله :( بزعمهم ) إشارة إلى أن هذا مخترعهم ليس من أمر الله، ولا يصل إليه، ﴿ ساء ما يحكمون٢ : حكمهم هذا.
١ ونظير هذا في زماننا جعل كثير من عابدي القبور قسطا من أموالهم نذرا للموتى ويحتاطون فيه ما لا يحتاطون في حق الله تعالى ويهتمون فيه ما لا يهتمون في قسط الله المفروض كما يجعلون شيئا من الزرع، ويعينونه بأسمائهم بأن هذا نذر فلان وقسطه، ويقلدون بعض أنعامهم، ويشتهرونه بأسمائهم، ويصرفون على سدنة قبورهم ومجاوريهم وينحرونها على قبورهم فهذا بعينه الذي كان يفعله المشركون الذين حكى الله تعالى عنهم (وجعلوا لله مما ذرأ) الآية (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون) (النحل: ٥٦)، فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين، حذو القذة بالقذة فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقدوه إلا في الله تعالى هكذا قال السيد الأمير اليماني صاحب سبل السلام شرح بلوغ المرام في كتابه (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)/١٢..
٢ والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب وأن يصير ذلك سببا لتحقيرهم في أعين العقلاء وألا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة/١٢ كبير..
﴿ وكذلك ﴾ : مثل هذا الفعل القبيح، ﴿ زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾، فإن الشياطين وهم آلهتهم أمروهم وزينوا لهم وأد أولادهم، ومن قرأ زين بالمجهول ورفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إليها، والفصل بينهما يدل على أن هذا الفصل جائز فصيح، والمطعون من طعن فيه، ﴿ ليُردُوهم ﴾ : ليهلكوهم بالإغواء، ﴿ وليلبِسوا عليهم دينهم ﴾ : ليدخلوا الشك في دينهم، فكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان، وقيل : دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه، ﴿ ولو شاء الله ما فعلوه ﴾ أي : المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين، ﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ : ما يختلقون من الكذب على الله.
﴿ وقالوا هذه ﴾ : إشارة إلى ما جعل للآلهة، ﴿ أنعام وحرث حِجر١ : حرام، ﴿ لا يطعمها إلا من نشاء ﴾ : من رجال خدم الأوثان، ﴿ بزعمهم ﴾ : لا حرمة من الله، ﴿ وأنعام حُرّمت ظهورها ﴾ : كالسائبة والبحيرة والحام، ﴿ وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ : يذبحوها باسم الأصنام لا باسم الله، أو لا يحجون على ظهورها، والمعنى أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا : هذه حجر، وهذه محرمة الظهور، وهذه لا يذكر عليها اسم الله ﴿ افتراء عليه ﴾، نصبه على أن قالوا بمعنى افتروا أو حال أي : مفترين أو مفعول له، ﴿ سيجزيهم بما كانوا يفترون ﴾ : بسبب افترائهم.
١ الحجر فعل بمعنى كالذبح أو الطحن/١٢ منه. يستوي فيه الواحد والكثير/١٢ وجيز..
﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أي : أجنة البحائر والسوائب، ﴿ خالصة لذكورنا ومُحرّم على أزواجنا ﴾ : نسائنا خاصة للذكور دون الإناث إن ولد حيا، ﴿ وإن يكن ميتة فهم ﴾ : الذكور والإناث، ﴿ فيه شركاء ﴾، وتأنيث خالصة، وتذكير محرم لمعنى ما فإنه الأجنة ولفظه أو التاء للمبالغة، ﴿ سيجزيهم ﴾ : الله، ﴿ وصفهم ﴾ أي : جزاء وصفهم الكذب على الله قيل : تقديره على وصفهم :﴿ إنه حكيم ﴾ : في فعله، ﴿ عليم ﴾ : بأعمال خلقه.
﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم ﴾ : بناتهم١ بالوأد، ﴿ سفَهًا ﴾ : للسفه أو سفهاء، ﴿ بغير علم ﴾ : جاهلين، ﴿ وحرّموا ما رزقهم الله ﴾ : من البحائر ونحوها، ﴿ افتراء على الله ﴾ : يحتمل المصدر، والحال والمفعول له، ﴿ قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ﴾.
١ بالوأد فإنهم قالوا: البنات تأكل رزقنا، ولا تنفعنا فإثبات الخسران لهم في غاية الحسن، فإنه ضد ما قصدوه/١٢..
﴿ وهو١ الذي أنشأ ﴾ : أبدع، ﴿ جنات ﴾ : بساتين من الكروم، ﴿ معروشات ﴾ : مرفوعات على ما يحملها، ﴿ وغير معروشات٢ قيل : الأول ما غرسه الناس، والثاني ما نبت في البراري، ﴿ والنخل والزرع مختلفا أكله ﴾ أي : أكل كل واحد منهما يعني ثمره في الكيفية، والهيئة و( مختلفا ) حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، ﴿ والزيتون والرمان متشابها ﴾ : في المنظر، ﴿ وغير متشابه ﴾ : في الطعم قيل : بعض أفرادهما يتشابه في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها، ﴿ كلوا من ثمره ﴾ : ثمر كل واحد، ﴿ إذا أثمر ﴾ : وإن لم ينضج، ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ : هذا شيء كان واجبا قبل وجوب٣ الزكاة، وعن بعض السلف أنه٤ الزكاة قيل فيه دليل على رخصة الأكل قبل أداء الزكاة، ﴿ ولا تسرفوا ﴾ : في التصدق أو في الأكل والتصدق أو في البخل فلا تعطوا حق الله، ﴿ إنه لا يحب المسرفين ﴾ : لا يرتضي فعلهم.
١ ولما أخبر عنهم أنهم حرموا من حرثهم وأنعامهم أخذ يمتن عليهم بهذين أي: الثمار والأنعام ويعيرهم بفعلهم، ويبين لهم طريق التصرف، فقال: (وهو الذي انشأ جنات معروشات) الآية/١٢ وجيز..
٢ فيه أن العنب هو رأس الفواكه من شجرة البساتين/١٢ وجيز..
٣ من قال: إن الآية مكية لا بد له أن يقول إن الواجب غير الزكاة، ومن قال: إن الآية مدنية، فعنده الواجب الزكاة فإنها فرضت في المدينة/١٢ منه..
٤ وعلى هذا ظاهر القرآن ما عليه مالك: إن في كل حب وثمرة زكاة واشترط أن يكون خمس أوسق، وفيه رخصة الأكل قبل أداء الزكاة والحصاد/١٢ وجيز..
﴿ ومن الأنعام ﴾ عطف على جنات أي : أنشأ من الأنعام، ﴿ حمولة ﴾ : ما يحمل الأثقال، ﴿ وفرشا ﴾ : ما يفرش المنسوج من شعره أو الصغار منها ولدنوها من الأرض كأنها فرش أو ما يفرش للذبح، ﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾ : من الثمار، والزروع، والأنعام، ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ : طرائقه وأوامره كما اتبعها المشركون افتراء على الله، ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ : ظاهر العداوة.
﴿ ثمانية أزواج ﴾ : بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا أو الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ﴿ من الضأن ﴾ : زوجين، ﴿ اثنين ﴾ : الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية إن جوزنا البدل من البدل، وإلا فمن الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشا، ﴿ ومن المعز اثنين ﴾ : التيس، والعنز، ﴿ قل ﴾ : يا محمد، ﴿ الذكرين١ : من الضأن والمعز، ﴿ حرّم ﴾ : الله عليكم أيها المشركون، ﴿ أم الأنثيين ﴾ : منهما، ﴿ أما ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين٢ أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى كما قالوا ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة ) الآية ( الأنعام : ١٣٩ )، ﴿ نبّئوني بعلم ﴾ : دليل على حرمته، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ : في دعوى التحريم.
١ المعنى أن الله حرم من الأجناس الأربعة ذكرا أو أنثى أو ما يحمل إناثها ردا عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها/١٢ منه..
٢ والمقصود إنكار الفعل لكنها ورد في صورة إنكار المفعول ليطابق ما ادعوا من التفصيل والترديد، فيكون إنكار الفعل بطريق برهاني، لأن الفعل لا بد له من متعلق فإذا انتفى جميع متعلقاته على التفصيل لزم انتفاء الفعل/١٢ منه..
﴿ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء ﴾ بل أكنتم حاضرين :﴿ إذ وصّاكم الله بهذا ﴾ : حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله وهذا من باب التهكم، ﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليُضل الناس بغير علم ﴾ : متلبسا بغير دليل، ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾، وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي فإنه أول من غير دين إسماعيل.
﴿ قل لا أجد فيما أوحي إليّ ﴾ : طعاما، ﴿ مُحرّما على طاعمٍ يطعمه ﴾ : يعني أن التحليل والتحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى، ولا يعلم بالوحي أن شيئا من الطعام حرام في وقت، ﴿ إلا ﴾ : في وقت، ﴿ أن يكون ﴾ : الطعام، ﴿ ميتة أو دما مسفوحا١ : مصبوبا سائلا لا كالكبد والطحال، ومن قرأ برفع ميتة فعنده كان تامة و( دما ) عطف على أن يكون أي : إلا وجود ميتة، ﴿ أو لحم خنزير ﴾ : لحمه أو الخنزير، ﴿ رجس ﴾ : حرام، ﴿ أو فسقا٢ عطف على لحم خنزير ﴿ أهلّ لغير الله به ﴾ صفة له موضحة، ﴿ فمن اضطر ﴾ : إلى كل شيء من ذلك، ﴿ غير باغ ﴾ : على مضطر مثله، ﴿ ولا عاد ﴾ : قدر الضرورة وقد مر معناهما في البقرة، ﴿ فإن ربك غفور رحيم٣ : لا يؤاخذه، والآية دالة على أن ما أوحي في حرمته إلى تلك الغاية هو ذلك، وهذا لا ينافي التحريم في أشياء أخر بعد هذا.
١ وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال، فإنهما حلال؛ لأنهما دمان جامدان وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم، لأنه غير سائل قال عمران بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يرى فيه حمرة الدم، فقال: لا بأس بذلك إنما نهي عن الدم المسفوح، وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود، هذا ما في كتاب التأويل المعروف بالخازن وكذا في المعالم/١٢..
٢ سمي فسقا لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود إذا كان كاملا فيهما فإن أجل العبادات المالية إراقة الدم تقربا إلى الله، قد جمع الله بينها وبين الصلاة في قوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (الأنعام: ١٦٢)، والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه في قوله: (فصل لربك وانحر) (الكوثر: ٢)، فكما أن الصلاة أعظم العبادات البدنية وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع في غيرها من سائر العبادات كما عرفه أرباب القلوب الحية وأصحاب الهمم العالية كذلك النحر من أجل العبادات المالية وما يجتمع له في نحره من إيثار لله وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر حتى نحر بيده ثلاثا وستين بدنة وكان ينحر في الأعياد وغيرها في قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) لطيفة دالة على أن ربك مستحق لذلك وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له وفي إن شانئك هو الأبتر، تعريض بحال الأبتر، الشانئ الذي صلاته ونسكه لغير الله كما في الحديث (ملعون من ذبح لغير الله) هذا ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لسورة الكوثر وقد مر هذا البحث في البقرة، والمائدة فتذكر/١٢..
٣ ولما ذكر أن التحريم ليس إلا من الله تعالى، وبين خطأ قريش كأن قائلا قال: أليس تحريم بعض الأشياء من قبل إسرائيل كما قالت اليهود كذبهم الله تعالى فقال: (وعلى الذين هادوا حرمنا) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ﴾ : أي : حرمنا على اليهود ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعامة والبط، أو كل ذي حافر، وقيل : كل ذي مخلب من الطير، ﴿ ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما ﴾ أي : حرمنا جميع شحومهما، ﴿ إلا ما حملت ظهورهما ﴾ : ما علق بالظهر من الشحوم ﴿ أو الحوايا ﴾ : ما اشتمل على الأمعاء، ﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾ : أي : ما اختلط من الشحوم بالعظام فإنه حلال و أو هاهنا كأو في قولهم جالس١ الحسن أو ابن سيرين، وما بقي على الحرمة الثروب٢ وشحوم الكلى، ﴿ ذلك ﴾ : التحريم والتضييق، ﴿ جزيناهم ببغيهم ﴾ : بسبب ظلمهم ومخالفتهم أوامرنا، ﴿ وإنا لصادقون ﴾ : فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم كما زعموا أن إسرائيل حرمه.
١ فإنه للإباحة، وهو أبلغ من الواو فإنه يدل على التساوي في الحكم كأنه قال كل من الثلاثة مستقل بحكم الحلية/١٢ وجيز..
٢ الثروب جمع الثرب ومعناه الشحم الرقيق الذي على الكرش والأمعاء/١٢..
﴿ فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ﴾ : فيمهلكم، ﴿ ولا يُردّ بأسه ﴾ : عذابه إذا نزل، ﴿ عن القوم المجرمين ﴾ : فلا تغتروا١ بالإمهال.
١ فبيت الظالم خراب، ولو بعد حين، والقوم المجرمون عام ومنهم المكذب/١٢ وجيز..
﴿ سيقول الذين١ أشركوا لو شاء الله ﴾ : خلاف ذلك، ﴿ ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء ﴾ : فإن ما لم يشأ لم يكن، وما شاء فهو مرضي مأمور به فأرادوا بذلك أن ما هم عليه مرضي عند الله مأمور به، ﴿ كذلك كذّب الذين من قبلهم ﴾ : أي : بهذه الشبهة الداحضة كذب الأمم السالفة أنبياءهم، ﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ : فعلموا أنهم على دين مبغوض غير مرضي أراد الله لهم خزيهم وسوء شكيمتهم٢، ﴿ قل هل عندكم من علم ﴾ : يدل على رضى الله عنكم فيما أنتم عليه، ﴿ فتُخرجوه لنا ﴾ : تظهروه لنا، ﴿ إن تتّبعون إلا الظن ﴾ : في ذلك لا العلم، ﴿ وإن أنتم إلا تخرصون٣ : تكذبون على الله فإنه منع الشرك، وغضب على المشركين مع أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لا يزاحمه أحد تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
١ ولما بطل احتجاج المشركين في تحريم ما زعموا حرمته وثبت الرد عليهم عدلوا إلى أمر حق مغالطة، وإلحاد أو علم الله تعالى ذلك قبل وقوعه فأخبر به وردهم وقال: (سيقول الذين) الآية./١٢..
٢ والشكيمة الأنفة، ومن اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس يقال: فلان شديد الشكيمة إذا كان أنفا أبيا، في مَثَل: ذو شكيمة لا ينقاد/١٢ صراح..
٣ فالحاصل أنهم اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضي والمشيئة كما اعتقدت المعتزلة فاحتجوا على حقية الإشراك، وينادي على ذلك قوله: (كذلك كذب): فإنه لو كان المراد أن ذلك بمشيئة الله تعالى لقال: (كذلك كذب) بالتخفيف لا بالتشديد، وهذه الآية عند من له أذن واعية تصيح على المعتزلة بالويل والثبور لكن في آذانهم وقر، ومن لم يهده الله فلا هادي له/١٢ وجيز..
﴿ قل فللّه الحجة البالغة ﴾ : التي بلغت غاية المتانة وهي الكتاب والرسول والبيان، ﴿ فلو شاء الله لهداكم أجمعين ﴾ لكن شاء هداية قوم، وضلال آخرين، والمعنى وإذ قد ظهر ألا حجة لكم فلله الحجة لكن لا يهدي الله الكل إليها لعدم مشيئته، وله في ذلك حكم، ومصالح لا يهتدي إليها إلا من هداه الله.
﴿ قل هلُمّ شهداءكم ﴾ : أحضروهم، اسم فعل متعد ويكون لازما، ﴿ الذين يشهدون أن الله حرّم هذا ﴾ : وهم قدوتهم ليلزمهم الحجة، ﴿ فإن شهدوا ﴾ : عنادا، ﴿ فلا تشهد معهم ﴾ : لا تصدقهم فيه وبين فسادهم، ﴿ ولا تتّبع أهواء الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ أي : لا تتبعهم فإنهم يكذبون بآياتنا، ﴿ والذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ : كعبدة الأوثان، ﴿ وهم بربهم يعدلون ﴾ : يجعلون له عديلا سبحانه !
﴿ قل تعالوا أتل ﴾ : أقرأ، ﴿ ما حرّم ربكم عليكم ﴾ : حقا لا ظنا ولا تخرصا متعلق ب ( حرم ) أو ( اتل )، ﴿ ألا تشركوا به ﴾ :( أن ) مفسرة يعني أي : لا تشركوا، ولا للنهي، ﴿ شيئا ﴾، مصدر أو مفعول به، ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي : أحسنوا بهم، وضع أحسنوا موضع ألا تسيئوا للدلالة على أن عدم الإساءة في شأنهما غير كاف، ﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ﴾ : من أجل فقر، ﴿ نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾، بدل من الفواحش أي : العلانية والسر فإن المشركين لا يستقبحون الزنا سرا، ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله ﴾ : بجهة من الجهات، ﴿ إلا بالحق ﴾ : القود، والارتداد والرجم، ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى المذكور، ﴿ وصّاكم به ﴾ : بحفظه، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ : عنه أمره ونهيه أو ترشدون.
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ : أي : إلا بطريقة هي أحسن الطرق كحفظه وتثميره، ﴿ حتى يبلغ أشدّه ﴾ : حتى يصير بالغا فادفعوا إليه جمع شده١، ﴿ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ﴾ : بالعدل أي : لا تبخسوهما، ﴿ لا نكلّف نفسا إلا وسعها ﴾ : إلا ما يسعها ولا تعجز عنه فإن أخطأ بعد بذل جهده فلا حرج، ﴿ وإذا قلتم ﴾ : تكلمتم في شيء، ﴿ فاعدلوا ﴾ : في القول لا تجوروا فيه، ﴿ ولو كان ﴾ : المقول له أو عليه، ﴿ ذا قربى ﴾ : من قرابتكم، ﴿ وبعهد الله أوفوا ﴾ : وبوصيته أوفوا فاعملوا بكتابه لا تنكثوه، ﴿ ذلكم وصّاكم به لعلكم تذّكّرون٢ : تتعظون به.
١ وقيل جمع لا واحد له من لفظه، وقيل مفرد لا جمع له/١٢ وجيز..
٢ لما كانت الخمسة المذكورة أولا من الأمور الظاهرة ختمت بقوله: (لعلكم تتقون) وهذه الأربعة خفية لابد فيها من الاجتهاد والذكر المكرر ختمت بقوله: (لعلكم تذكرون)/١٢ وجيز..
﴿ وأنّ هذا ﴾ : إشارة إلى ما في الآيتين، وقيل إلى ما في السورة، ﴿ صراطي ﴾ : ديني، ﴿ مستقيما ﴾ : لا عوج فيه، ﴿ فاتّبعوه ﴾ : عطف على لا تشركوا ( وأن هذا صراطي ) إلخ علة الاتباع أي : لأن ( هذا ) إلخ، والجمع بين حرف العطف الواو والفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع، وربك فكبر، وقيل عطف على لعلكم تذكرون أي وصاكم به لأن هذا ديني المستقيم، ﴿ ولا تتّبعوا السُّبُل ﴾ أي : الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، ﴿ فتفرّق بكم ﴾ الباء للتعدية، ﴿ عن سبيله ﴾ : الذي هو اتباع الحق، ﴿ ذلكم ﴾ : الاتباع، ﴿ وصّاكم به لعلكم تتّقون١ : الضلال.
١ أخرج أحمد وابن حميد وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا بيده ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيما) ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: (وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذه الآية، وقال ابن مسعود: من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- فليقرأ هؤلاء الآيات. أخرجه الترمذي وحسنه/١٢ فتح..
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾، عطف على ذلكم وصاكم وثم١ للتراخي للإخبار، ﴿ تماما ﴾ : كاملا جامعا لما يحتاج إليه، ﴿ على الذي أحسن ﴾ : أي : جزاء على إحسانه في الطاعة وتبليغ الرسالة أو تماما بمعنى كرامة، ونعمة أي : حال كون الكتاب نعمة على من أحسن القيام به أي : على المحسنين أو معنى تماما زيادة أي : حال كون الكتاب زيادة على ما أحسنه من العلم أي : على علمه، ﴿ وتفصيلا ﴾ : بيانا مفصلا، ﴿ لكل شيء ﴾ : يحتاج إليه عطف على تماما، فهو حال، وقيل نصبهما بالعلية أو بالمصدر، ﴿ وهدى ورحمة لعلهم ﴾ : بني إسرائيل، ﴿ بلقاء ربهم يؤمنون ﴾ : لكي يؤمنوا بالبعث.
١ لأن الإيتاء قبله بدهر طويل كأنه قال هذه وصية قديمة بلسان الأنبياء جددناها/١٢ وجيز..
﴿ وهذا ﴾ أي : القرآن، ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ : كثير النفع، ﴿ فاتّبعوه واتقوا ﴾ : مخالفته، ﴿ لعلكم تُرحمون ﴾ : بواسطة العمل به.
﴿ أن تقولوا ﴾ : علة لأنزلناه أي : كراهة أن تقولوا، ﴿ إنما أُنزل الكتاب على طائفتين١ : اليهود، والنصارى، ﴿ من قبلنا وإن كنا ﴾ : أي : وإنه كنا، ﴿ عن دراستهم ﴾ : قراءتهم، ﴿ لغافلين ﴾ : ما نفهم ما يقولون فإنه ليس بلساننا.
١ وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على أحكام، وفيه دليل على أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب إذ لو كانوا منهم لكانوا ثلاث طوائف قاله ابن الكمال/١٢ فتح..
﴿ أو تقولوا ﴾، عطف على ما تقولوا، ﴿ لو أنّا أُنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة١ من ربكم ﴾ أي : إن صدقتم٢ فيما قلتم فقد جاءتكم حجة واضحة فيها بيان الحلال والحرام، ﴿ وهدى ورحمة ﴾ : لمن عمل به، ﴿ فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله ﴾ : بعد ما تمكن من معرفته، ﴿ وصدف عنها ﴾ : أعرض أو صد الناس عنها، ﴿ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾ : بسبب إعراضهم أو صدهم.
١ فهذا كتابكم بلسانكم/١٢ وجيز..
٢ دلت الفاء الفصيحة على حذف الشرط نحو (فقد جئنا خراسانا)/١٢ منه..
﴿ هل ينظرون ﴾ : أهل مكة أي : ما ينتظرون، ﴿ إلا أن تأتيهم الملائكة ﴾ : لقبض أرواحهم، وهم إن كانوا غير منتظرين لذلك لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بهم، ﴿ أو يأتي١ ربك ﴾ : المراد يوم القيامة، ﴿ أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ : كطلوع الشمس من المغرب، ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك ﴾ : التي تضطرهم إلى الإيمان، ﴿ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ﴾ صفة نفسا، ﴿ أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ : عطف على آمنت أي : لا ينفع الكافر إيمانه في ذلك الحيز ولا الفاسق الذي ما كسب خيرا في إيمانه توبته، فحاصله أنه من باب اللف التقديري أي : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في الإيمان إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه أي : لا ينفعهم تلهفهم على ترك الإيمان بالكتاب، ولا على ترك العمل٢ بما فيه، ﴿ قل انتظروا ﴾ : إتيان أحد هذه الثلاث، ﴿ إنا منتظرون ﴾ : له، وعيد شديد.
١ وزاد المصنف في الوجيز لفصل القضاء بين خلقه وإتيانه تعالى نؤمن به ولا نعرف كيفه انتهى.
أقول كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (البقرة: ٢٠٩)، (وجاء ربك والملك صفا صفا) (الفجر: ٢٢)، (إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) (النحل: ٣٣)، وأي أمر أصرح منه في القرآن، وروى الطبري في تفسيره على ما نقله عنه الخازن بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من الغمام طاقات يأتي الله عز وجل فيه محفوفا) وذلك قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة وقضي الأمر) (البقرة: ٢١)، قال عكرمة: والملائكة حوله انتهى، فهذا من صفات الله تعالى يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها، وعدم علمنا بكيفيتها بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته فلا نكذب بما علمناه بما لم نعلمه وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة وأنشد بعضهم في المعنى:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاته شيء عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها وأخبارها للظاهر المتقارب
ونركب للتسليم سفنا فإنها لتسليم دين المرء خير المراكب
.

٢ وعلى ما قررنا لا يتم استدلال المعتزلة بالآية على أن مجرد الإيمان بدون يكون فيه كسب خير ليس بنافع، ويوافق على ما قلنا الآيات والأحاديث الشاهدة بأن مجرد الإيمان ينفع ويورث النجاة من النار، ولو بعد حين ويلائم مقصود الآية/حيث وردت تحسرا لمن أخلف ما وعد من الرسوخ في الهداية عند إنزال الكتب حيث كذبوا به وصدفوا عنه/١٢ منه..
﴿ إن١ الذين فرّقوا دينهم ﴾ : اليهود والنصارى أخذوا بعض ما أمروا وتركوا بعضه، أو أهل الشبهات والبدع من هذه الأمة، ﴿ وكانوا شِيعا ﴾ : فرقا بعضهم يكفر بعضا، وقد ورد ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة )، ﴿ لست منهم في شيء ﴾ : لست من عقابهم في شيء، ومن قال : إنه نهى عن التعرض لهم، فعنده الآية منسوخة وإذا كان المراد هذه الأمة فيحتمل أن يكون معناه أنت بريء منهم، ﴿ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبّئهم بما كانوا يفعلون٢ : بالعقاب.
١ ولما ذكر أن الإيمان يوم ظهور بعض آيات القيامة من غير سبق الإيمان عليه غير نافع توجه القلب إلى أن إيمان أهل الكتاب الذي كانوا عليه هل هو نافع، فقال: (إن الذين فرقوا) إلخ/١٢ وجيز..
٢ ظاهر هذا الكلام مشعر بأنهم من أهل الضلال، وعاقبتهم العقاب بالعدل لا بالظلم/١٢ وجيز..
﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ أي : عشر حسنات أمثالها فضلا من الله، وهذا أقل ما وعد لا ينقص منه، ﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها ﴾ أي : إلا جزاء مثلها لا يضاعف، ﴿ وهم لا يُظلمون١ : بنقص الثواب، وزيادة العقاب.
١ أمره بالمبالغة في إعلان دينه ونبذ ما سواه/١٢..
﴿ قل إنني هداني ربي ﴾ : بالوحي١، ﴿ إلى صراط مستقيم دينا ﴾ أعني دينا أو بدل من محل ( صراط ) إذ معناه وهداني صراطا :﴿ قيما ﴾ : مصدر بمعنى القيام أي : قائما ثابتا لا زوال له كرجل عدل، ﴿ ملّة إبراهيم ﴾، عطف بيان لدينا لما في الإضافة من زيادة التوضيح، ﴿ حنيفا ﴾ : مائلا عن غير الصواب حال عن إبراهيم فإنه بمنزلة الحال من المضاف الذي هو معمول الفعل، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ : كما يقول المشركون.
١ لما بين أمر الفرق، وفصل حالهم وأظهر مآلهم ذكر فذلكة السورة ناظرا إلى ما مر من قوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) فقال: (قل إنني هداني ربي) إلخ/١٢..
﴿ قل إن صلاتي ونُسكي ﴾ : الذبح١ في الحج والعمرة وقيل :
عبادة كلها، ﴿ ومحياي ومماتي ﴾ أي : حياتي وموتي، ﴿ لله رب العالمين ﴾ : أي : ملك له، وهو خالقه فأنا خالص في العبادة لا أشرك أو ما أنا عليه في حياتي ومماتي من الإيمان والطاعة خالص له.
١ قال المصنف في الوجيز: ولا بأس إن قصدت العموم فإن ذبح قريش كانت باسم أصنامهم قال الله تعالى: (فصل لربك وانحر) (الكوثر: ٢)/١٢ وجيز. وفي التفسير الكبير وأما قوله: (ونسكي) فقيل: المراد بالنسك الذبيحة بعينها يقول: (من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه) وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: (فصل لربك وانحر)/١٢..
﴿ لا شريك١ له وبذلك ﴾ : القول والطريق، ﴿ أُمرت وأنا أول المسلمين ﴾ : من هذه الأمة.
١ واحد أحد فرد ليس لشيء قابلية شركه/١٢ وجيز..
﴿ قل أغير الله أبغي ربًّا ﴾ : غير الله حال من ربا والهمزة للإنكار، ﴿ وهو رب كل شيء ﴾، حال في موقع العلة، ﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ فإثم الجاني عليه لا على غيره، ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى، وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم قائلين :( اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ) ( العنكبوت : ١٢ )، ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ : يوم القيامة، ﴿ فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ فتعلموا١ أننا على الحق أو أنتم.
١ فتعلموا المحق من المبطل ختم السورة بهذه الآية الآتية الدالة على أن هذه الأمة ختم الأمم ختامه مسك لا تقوم القيامة إلا عليهم، ولا نبي بعده ففيها منة وبشارة وإشارة إلى قرب القيامة، ووقت الجزاء، والعلم بالمحق والمبطل فقال: (وهو الذي)/١٢ وجيز..
﴿ وهو الذي جعلكم ﴾ : يا أمة محمد، ﴿ خلائف الأرض١ : خلفاء الأمم السالفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه في الأرض، وقيل : يخلف بعضكم بعضا أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها فالخطاب عام، ﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ﴾ : بالغنى والرزق منصوب على التمييز أو بدل من بعضكم أو بنزع الخافض أي : بدرجات، ﴿ ليبلوكم ﴾ : ليختبركم، ﴿ في ما آتاكم ﴾ : يمتحن الغني في غناه، ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره، ﴿ إن ربك سريع العقاب ﴾ : بمن عصاه، وخالف رسله وكل ما هو آت قريب، ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ : لمن والاه واتبع رسله.
والحمد لله حق حمده. .
١ فإن نبيهم خاتم الأنبياء كأمته خلفت سائر الأمم ولا يجيء بعدها أمة تخلفها/١٢ وجيز..
Icon