تنبيه : قال العلماء : هذه السورة أصل٩ في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد١٠ ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى وعونه١١.
٢ في ج و ب و ي: أبي سهيل، وفي غيرهما: ابن سهيل. والصحيح ما أثبتناه عن التهذيب..
٣ في ح عن القرطبي: ثم خر ساجدا..
٤ من ع..
٥ نجائب القرآن ونواجيه: أفاضل سوره. (النهاية)..
٦ راجع ج ١٠ص ٣٤٤..
٧ المرزبة (بالتخفيف) ويقال لها: الإرزبة (بالهمزة والتشديد). المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. (النهاية).
٨ راجع ج ٧ص ٩٦..
٩ في ع: أمثل..
١٠ في ب و ج و ع و ي: وسترى ذلك مبنيا..
١١ من ك..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (٦): آيَةً ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ.
(٢). المرزبة (بالتخفيف) ويقال لها: الإرزبة (بالهمزة والتشديد). المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. (النهاية).
(٣). راجع ج ٧ ص ٩٦.
(٤). في ع: أمثل.
(٥). في ب وج وع وى: وستري ذلك مبينا.
(٦). من ك.
(٢). الأود: العوج.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٥٦ - ٢٥٥ وما بعدها.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٥٦ - ٢٥٥ وما بعدها. [..... ]
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقِيلَ: جَمَعَ" الظُّلُماتِ" وَوَحَّدَ" النُّورَ" لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ:" جَعَلَ" هُنَا زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ" جَعَلَ" فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً | وَالْوَاحِدَ «٤» اثْنَيْنِ لَمَّا هدني الكبر |
(٢). راجع ج ١٢ ص ١١.
(٣). تمام البيت:
فإن زمانكم زمن خميص
يقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم حتى تعتادوا ذلك فإن الزمان ذو مخمصة وجدب.
(٤). ورد البيت في ج ١ ص ٢٢٨ (والأربع اثنين) والصواب ما هنا.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) الْآيَةُ خَبَرٌ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَعَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ الْأَكْثَرِ أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْخَلْقُ نَسْلُهُ وَالْفَرْعُ يُضَافُ إِلَى أَصْلِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ:" خَلَقَكُمْ" بِالْجَمْعِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ طِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا ذَكَرَهُ النحاس. قلت: وبالجملة فلما ذكر عز وجل خَلْقَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ فِيهِ مَا فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» فِي آيَةِ التَّوْحِيدِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«٣» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالرَّحِمِ يَأْخُذُ النُّطْفَةَ فَيَضَعُهَا عَلَى كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةً قَالَ: يَا رَبِّ مَا الرِّزْقُ مَا الْأَثَرُ مَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ: انْظُرْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَنْظُرُ فِي اللَّوْحِ
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٠٢ وما بعدها.
(٣). من ع.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٧٩.
(٤). دجناء (بالمد والقصر). ويروى بالحاء المهملة وهي مضبوطة في (اللسان) و (النهاية) بفتح الدال. وقال صاحب القاموس: (وهي بالضم والكسر).
(٥). الجؤجؤ: الصدر.
(٦). في ع: نبي.
(٧). راجع ج ١٠ ص ٢٨٦. [..... ]
(٨). الطوال (بالضم): المفرط الطول.
(٩). النخلة السحوق الطويلة.
(٢). في ع وى: أشبهها.
(٣). في ع: المشركين.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٩٢.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٣ الى ٥]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) يُقَالُ: مَا عَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي الظَّرْفِ مِنْ" فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ"؟ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا- أَيْ وَهُوَ اللَّهُ الْمُعَظَّمُ أَوِ الْمَعْبُودُ في السموات وَفِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْخَلِيفَةُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَيْ حُكْمُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السموات وَفِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ فِي حَاجَاتِ النَّاسِ وَفِي الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السموات وَهُوَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا يخفى عليه شي، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا «١» مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ اللَّهُ في السموات وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَعْلَمُ مُقَدَّمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَسْلَمُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْإِشْكَالِ وقيل غير هذا. والقاعدة تنزيهه عز وجل عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَشَغْلِ الْأَمْكِنَةِ. (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) أَيْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَالْكَسْبُ الْفِعْلُ لِاجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِفِعْلِ اللَّهِ كَسْبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أَيْ عَلَامَةٍ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهَا. وَ" مِنْ" لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، تَقُولُ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ. (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) " مِنْ" الثانية للتبعيض. و (مُعْرِضِينَ) خَبَرُ" كانُوا". وَالْإِعْرَاضُ تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى توحيد الله عز وجل من خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَدِيمٍ] حَيٍّ [«٢» غَنِيٍّ عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَادِرٍ لَا يعجزه شي عالم لا يخفى عليه شي مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَقَامَهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «٣»، لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ فِي جميع ما أتى به «٤».
(٢). من ك.
(٣). من ع.
(٤). في ع: يأتي.
[سورة الأنعام (٦): آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) " كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا لَا بِقَوْلِهِ" أَلَمْ يَرَوْا" لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَنْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ أَيِ أَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَالْقَرْنُ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ. وَالْجَمْعُ الْقُرُونُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا ذَهَبَ الْقَرْنُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمْ | وَخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب |
(٢). في ك: الصحابة.
إذا سقط السماء بأرض قوم
و" مِدْراراً" بِنَاءٌ دَالٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، كَمِذْكَارٍ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا لِلذُّكُورِ، وَمِئْنَاثٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَلِدُ الْإِنَاثُ، يُقَالُ: دَرَّ اللَّبَنَ يَدِرُّ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ بِكَثْرَةٍ. وَانْتَصَبَ" مِدْراراً" عَلَى الْحَالِ. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ:" وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" «٣»] الزخرف: ٥١] وَالْمَعْنَى: وَسَّعْنَا عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فَكَفَرُوهَا. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أَيْ بِكُفْرِهِمْ فَالذُّنُوبُ سَبَبُ الِانْتِقَامِ وَزَوَالِ النِّعَمِ. (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أَيْ أَوْجَدْنَا، فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.
[سورة الأنعام (٦): آية ٧]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الْآيَةَ. الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا يَا مُحَمَّدُ بِمَرْأًى مِنْهُمْ كَمَا زَعَمُوا وَطَلَبُوا كَلَامًا مَكْتُوبًا" فِي قِرْطاسٍ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كِتَابًا مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا- عَلَى مَعْنَى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِمَعْنَى نُزُولِ الْمَلَكِ بِهِ. وَالْآخَرُ- وَلَوْ نَزَّلْنَا كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ يمسكه الله بين السماء والأرض،
(٢). هو معود الحكماء- معاوية بن مالك- وفي ك: نزل السماء. وهي رواية: وهذا صدر بيت له، وتمامه:
رعيناه إن كانوا غضابا
وسمي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة:
أعود مثلها الحكماء بعدي | إذا ما الحق في الحدثان نابا |
(٣). راجع ج ١٦ ص ٩٨.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٨ الى ١٠]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) اقْتَرَحُوا هَذَا أَيْضًا. وَ" ذَلُولًا" بِمَعْنَى هَلَّا. (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ رَأَوْا الْمَلَكَ عَلَى صُورَتِهِ لَمَاتُوا إِذْ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَتَهُ. مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: لَقَامَتِ السَّاعَةُ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى سُنَّتَهُ بِأَنَّ مَنْ طَلَبَ آيَةً فَأُظْهِرَتْ لَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ أهلكه الله في الحال. أي (لَا يُنْظَرُونَ) أَيْ لَا يُمْهَلُونَ وَلَا يُؤَخَّرُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا) أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَسُّمِ بِالْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، لِأَنَّ كله جِنْسٍ يَأْنَسُ بِجِنْسِهِ وَيَنْفِرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَنَفَرُوا مِنْ مُقَارَبَتِهِ، وَلَمَا أَنِسُوا بِهِ، ولداخلهم
(٢). في ع: وبالغوا في كفرهم.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٢٧.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٢٧.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١١ الى ١٢]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمُسْتَسْخِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ: سَافِرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا وَاسْتَخْبِرُوا لِتَعْرِفُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَرَةِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعِقَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ
(٢). في ع: يلبسون عليهم مثل هذا.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٥٧.
(٢). راجع ج ٩ ص ١٨٦.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٣ الى ١٦]
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أَيْ ثَبَتَ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ إِلَّا الْحَاجَةُ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَصِيرَ أَغْنَانَا «١»، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَنِي. وَ (سَكَنَ) مَعْنَاهُ هَدَأَ وَاسْتَقَرَّ، وَالْمُرَادُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ، فَحُذِفَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. وَقِيلَ: خَصَّ السَّاكِنَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يَعُمُّهُ السُّكُونُ أَكْثَرُ مِمَّا تَعُمُّهُ الْحَرَكَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى مَا خَلَقَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَحَرِّكِهَا وَسَاكِنِهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّكُونِ ضِدَّ الْحَرَكَةِ بَلِ الْمُرَادُ الْخَلْقُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَقْوَالِ. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأصواتهم (الْعَلِيمُ) بأسرارهم.
(٢). الولي: الوثن.
(٣). من ك. [..... ]
[سورة الأنعام (٦): آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الْمَسُّ وَالْكَشْفُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ وَتَوَسُّعٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَنْزِلْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ شِدَّةٌ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا رَافِعَ وَصَارِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُصِبْكَ بِعَافِيَةٍ وَرَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مِنَ الْخَيْرِ وَالضُّرِّ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: (يَا غُلَامُ- أَوْ يَا بُنَيَّ- أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ)؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظُكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ واعمل الله بِالشُّكْرِ وَالْيَقِينِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ (الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ) وَهُوَ حَدِيثٌ صحيح، وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٨ الى ١٩]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ جِذَاعُهُ | فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا |
(٢). راجع ص ٢٤٢ من هذا الجزء.
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ | وَبَيْنَ النَّقَا ءا أنت أَمْ أُمُّ سَالِمٍ |
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٠]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَرَفُوا وَعَانَدُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي (الْبَقَرَةِ) «٦». وَ (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ." يَعْرِفُونَهُ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَيْ يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ يَعْرِفُونَهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى صِحَّةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ." الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ" فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ" فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ".
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٤٢.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٠٥.
(٤). أي في غير القرآن.
(٥). راجع ج ٧ ص ١٢٩.
(٦). راجع ج ٢ ص ١٦٢ وما بعدها.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٣]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) الْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ حِينَ اخْتُبِرُوا بِهَذَا السُّؤَالِ، وَرَأَوُا الْحَقَائِقَ، وَارْتَفَعَتِ الدَّوَاعِي «٢». (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) تَبْرَءُوا مِنَ الشِّرْكِ وَانْتَفَوْا مِنْهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ تَجَاوُزِهِ وَمَغْفِرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، فَإِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ، قَالُوا إِنَّ رَبَّنَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَتَعَالَوْا نَقُولُ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ذُنُوبٍ وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَا إِذْ كَتَمُوا الشِّرْكَ فَاخْتِمُوا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْرِفُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «٣»] النساء: ٤٢]. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفٌ جِدًّا، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَصَصِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِتَانِهِمْ بِشِرْكِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِتْنَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ حِينَ رَأَوْا الْحَقَائِقَ إِلَّا أَنِ انْتَفَوْا مِنَ الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي اللُّغَةِ أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ غَاوِيًا فَإِذَا وَقَعَ
(٢). في هـ وب وج وع: الدعاوى.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٩٨.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٤]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كَذِبُ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، بَلْ ظَنُّوا ذَلِكَ وَظَنُّهُمُ الْخَطَأُ لَا يُعْذِرُهُمْ وَلَا يُزِيلُ اسْمَ الْكَذِبِ عَنْهُمْ، وَكَذِبُ الْمُنَافِقِينَ بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَجَحْدِهِمْ نِفَاقَهُمْ. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ فَانْظُرْ كَيْفَ ضَلَّ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ أَيْ تَلَاشَى وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ مِنْ شَفَاعَةِ آلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ فَارَقَهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، عَنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَزَبَ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ لِدَهْشِهِمْ، وذهول عقولهم.
(٢). (أي فل) قال النووي: (بضم الفاء وسكون اللام) ومعناه يا فلان وهو ترخيم على خلاف القياس وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة بمعنى فلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها. و (تربع) أي تأخذ ربع الغنيمة يريد ألم أجعلك رئيسا مطاعا لان الملك كان يأخذ ربع الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه. وقيل: إن معناه تركتك مستريحا لا تحتاج إلى كلفة وطلب.
(٣). الزيادة عن صحيح مسلم. [..... ]
(٤). الزيادة عن صحيح مسلم.
] البقرة: ٢٧٥]." وَاللَّهِ" [الْوَاوُ] «٤» وَاوُ الْقَسَمِ" رَبِّنا" نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بَدَلٌ. وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّضَرُّعِ، إِلَّا أَنَّهُ فصل بين القسم وجوابه بالمنادي.
(٢). من ب وج وك وع.
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٤٧.
(٤). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ). [أُفْرِدَ] «١» عَلَى اللَّفْظِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ كُفَّارَ مَكَّةَ. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ مُجَازَاةً عَلَى كُفْرِهِمْ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانُوا لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْحَقِّ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْهَمُ. وَالْأَكِنَّةُ الْأَغْطِيَةُ جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلَ الْأَسِنَّةِ وَالسِّنَانِ، وَالْأَعِنَّةِ وَالْعِنَانِ. كَنَنْتُ الشَّيْءَ فِي كِنِّهِ إِذَا صُنْتُهُ فِيهِ. وَأَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ. وَالْكِنَانَةُ مَعْرُوفَةٌ «٢». وَالْكَنَّةُ (بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ) امْرَأَةُ أَبِيكَ، وَيُقَالُ: امْرَأَةُ الِابْنِ أَوِ الْأَخِ، لِأَنَّهَا فِي كِنِّهِ. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أَيْ يَفْهَمُوهُ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ أَنْ يَفْهَمُوهُ، «٣» أَوْ لِئَلَّا يَفْهَمُوهُ «٤». (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عُطِفَ عَلَيْهِ أَيْ ثِقَلًا، يُقَالُ مِنْهُ: وَقِرَتْ أُذُنُهُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) تَوْقَرُ وَقْرًا أَيْ صَمَّتْ، وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ التَّحْرِيكُ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ. وَقَدْ وَقَرَ اللَّهُ أُذُنَهُ يَقِرُهَا وَقْرًا، يُقَالُ: اللَّهُمَّ قِرْ أُذُنَهُ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ: أُذُنٌ مَوْقُورَةٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَعَلَى هَذَا وُقِرَتْ (بِضَمِّ الْوَاوِ). وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (وِقْرًا) بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ مَا سَدَّهَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِوَقْرِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُطِيقُ أَنْ يَحْمِلَ، وَالْوَقْرُ الْحِمْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَخْلَةٌ مُوقِرٌ وَمُوقِرَةٌ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ ثَمَرٍ كَثِيرٍ. وَرَجُلٌ ذُو قِرَةٍ إِذَا كَانَ وَقُورًا بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ مِنْهُ: وَقُرَ الرَّجُلُ (بِضَمِّ الْقَافِ) وَقَارًا، وَوَقَرَ (بِفَتْحِ الْقَافِ) أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها) أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِنَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْقَمَرَ مُنْشَقًّا قَالُوا: سِحْرٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل بردهم الآيات بغير حجة.
(٢). يعني جعبة السهام وقبيلة من مضر وبها سميت أرض الكنانة.
(٣). في ج: يفقهوه.
(٤). في ج: يفقهوه.
تَطَاوَلَ لَيْلِي وَاعْتَرَتْنِي وَسَاوِسِي | لِآتٍ أتى بالترهات الأباطيل |
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) النَّهْيُ الزَّجْرُ، وَالنَّأْيُ الْبُعْدُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ أَيْ يَنْهَوْنَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِأَبِي طَالِبٍ يَنْهَى الْكُفَّارَ عن أذائه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَرَوَى أَهْلُ السِّيَرِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَوْمًا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ قال أبو جهل
(٢). العثكول: العذق وقيل: الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة.
(٣). العباديد والعبابيد بلا واحد من لفظهما: الفرق من الناس والخيل الذاهبون في كل وجه والآكام والطرق البعيدة.
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ | حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا |
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ | وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْكَ عُيُونَا |
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي | فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا |
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتَ بِأَنَّهُ | مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا |
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ | لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ يَقِينَا «١» |
(٢). من ج وك وع وز وهـ. [..... ]
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٢٠.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٩٩.
مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ | وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرَّوَاقِ بَهِيمُ |
مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي | فِيهِ فَبِتُّ كَأَنَّنِي مَحْمُومُ |
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا | عَيْرَانَةٌ «٣» سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ |
إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الذِي | أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ |
أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ | سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ |
وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي | أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ |
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ | قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ |
مَضَتِ الْعَدَاوَةُ فَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا | وَأَتَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ |
فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا | زَلَلِي «٤» فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ |
وَعَلَيْكَ مِنْ سِمَةِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ | نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ |
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ | شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ |
وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ | حَقًّا وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ |
وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى | مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ |
قَرْمٌ «٥» عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ | فرع تمكن في الذرى وأروم |
(٢). من ج وك وب وز وه.
(٣). الناقة ذات السرعة والنشاط. والناقة الصلبة. راجع ج ٥ ص ٢٠٦.
(٤). في ب وج وك وز وه: وارحم.
(٥). السيد العظيم.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٧]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [أَيْ إِذْ] «١» وُقِفُوا غَدًا وَ (إِذْ) قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ (إِذَا) وَ (إِذَا) فِي مَوْضِعِ (إِذْ) وَمَا سَيَكُونُ فَكَأَنَّهُ كَانَ، لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَلِهَذَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي. وَمَعْنَى (إِذْ وُقِفُوا) حُبِسُوا يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا فَوَقَفَ وُقُوفًا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ (إِذْ وَقَفُوا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ مِنَ الْوُقُوفِ." عَلَى النَّارِ" أَيْ هُمْ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ وَهِيَ تَحْتَهُمْ. وَقِيلَ: (عَلَى) بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ وَقَفُوا بِقُرْبِهَا وَهُمْ يُعَايِنُونَهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَمَعُوا، يَعْنِي عَلَى أَبْوَابِهَا. وَيُقَالُ: وَقَفُوا عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ وَالنَّارُ تَحْتَهُمْ. وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُوقَفُونَ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا مَتْنُ إِهَالَةٍ «٢»، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ خُذِي أَصْحَابَكِ وَدَعِي أَصْحَابِي. وَقِيلَ: (وُقِفُوا) دَخَلُوهَا- أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا- فَعَلَى بِمَعْنَى (فِي) أَيْ وُقِفُوا فِي النَّارِ. وَجَوَابٌ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لِيَذْهَبَ الوهم إلى كل شي فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّخْوِيفِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَرَأَيْتَ أَسْوَأَ حَالٍ، أَوْ لَرَأَيْتَ مَنْظَرًا هَائِلًا، أَوْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجَبًا وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا التَّقْدِيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بِالرَّفْعِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ عَطْفًا قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ «٣». ابْنُ عَامِرٍ عَلَى رَفْعِ (نُكَذِّبُ) وَنَصْبِ (وَنَكُونَ) وَكُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، أَيْ لَا تَمَنَّوُا الرد
(٢). الإهالة الشحم المذاب ومتن الإهالة ظهرها إذا سكبت في الإناء، فشبه سكون جهنم قبل أن يصير فيها الكفار بذلك. (اللسان).
(٣). أي بالرفع في كلها كما في ابن عطية.
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٨]
بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
(٢). كذا في الأصول والذي في البحر: وقرا أبي (فلا نكذب بآيات ربنا أبدا).
[سورة الأنعام (٦): آية ٢٩]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦٤. [..... ]
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٩٩.
[سورة الأنعام (٦): آية ٣٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) (وُقِفُوا) أَيْ حُبِسُوا (عَلى رَبِّهِمْ) أَيْ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ. وَقِيلَ: (عَلى) بِمَعْنَى (عِنْدَ) أَيْ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ وَجَزَائِهِ، وَحَيْثُ لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ: وَقَفْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ عِنْدَهُ، وَجَوَابُ" لَوْ" مَحْذُوفٌ لِعِظَمِ شَأْنِ الْوُقُوفِ. (قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ أَيِ أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ كَائِنًا مَوْجُودًا؟! " قالُوا بَلى " وَيُؤَكِّدُونَ اعْتِرَافَهُمْ بِالْقَسَمِ بِقَوْلِهِمْ:" وَرَبِّنا". وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ وَهَذَا الْعَذَابُ حَقًّا؟ فَيَقُولُونَ: (بَلى وَرَبِّنا) إِنَّهُ حَقٌّ." قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ".
[سورة الأنعام (٦): آية ٣١]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ) قِيلَ: بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْجَزَاءِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) أَيْ لَقِيَ جَزَاءَهُ، لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ لَا يَرَى اللَّهَ عِنْدَ مثبتي الرؤية، ذهب
فَلَأْيًا بِلَأْيٍ مَا حَمَلْنَا وَلِيدَنَا | عَلَى ظَهْرِ مَحْبُوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهُ |
فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِ «٣»
وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى عَظِيمِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْحَسْرَةِ، أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى عَظِيمِ مَا بِي مِنَ الْحَسْرَةِ، فَوَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى حَقِيقَةً، كَقَوْلِكَ: لَا أرينك ها هنا. فَيَقَعُ النَّهْيُ عَلَى غَيْرِ الْمَنْهِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ.
(٢). من ب، ج، ك، ع.
(٣). شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
قوله تعالى :" حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة " سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى ( بغتة ) فجأة، يقال : بغتهم الأمر بغتهم بغتا وبغتة. وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول : قتلته صبرا، وأنشد١ :
فلأْيًا بلأي ما حملنا ولِيدَنَا | على ظهر محبوكٍ ظماءٍ مفاصلُه |
قوله تعالى :" قالوا يا حسرتنا " وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء. قال سيبويه : كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك، وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا٢ تعالي فهذا وقتك، وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت. ومنه قول الشاعر :
فيا عجبا من رحلها المتحمل٣
وقيل : هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة، أي يا أيها الناس تنبوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك : لا أرينك ههنا. فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.
قوله تعالى :" على ما فرطنا فيها " أي في الساعة، أي في التقدمة لها. عن الحسن. و( فرطنا ) معناه ضيعنا وأصله التقدم، يقال : فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه ( أنا فرطكم على الحوض ). ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه، فقولهم :( فرطنا ) أي قدمنا العجز. وقيل :( فرطنا ) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا. ( فيها ) أي في الدنيا بترك العمل للساعة. وقال الطبري :( الهاء ) راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والآخرة بالدنيا٤، " قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها ؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع. دليله قوله :" فما ربحت تجارتهم " ٥ [ البقرة : ١٦ ]. وقال السدي : على ما ضيعنا أي من عمل الجنة. وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :( يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون :( يا حسرتنا ).
قوله تعالى :" وهم يحملون أوزارهم " أي ذنوبهم جمع وزر. " على ظهورهم " مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا ؛ يقال منه : وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر ومزور ؛ وأصله من الوزر وهو الجبل. ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة ( ارجعن موزورات غير مأجورات ) قال أبو عبيد : والعامة تقول :( مأزورات ) كأنه لا وجه له عنده ؛ لأنه من الوزر. قال أبو عبيد : ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك. ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية : والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها. " ألا ساء ما يزرون " أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه.
٢ من ب، ج، ك، ع..
٣ شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي..
٤ في الأصول: والدنيا بالآخرة..
٥ راجع ج ١ ص ٢١٠..
[سورة الأنعام (٦): آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
(٢). راجع ج ١ ص ٢١٠.
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِمٍ | وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لَا يَكُونُ بِدَائِمِ |
تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْتَ بِالْأَمْسِ لَذَّةً | فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ |
فَاعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ | وَاكْدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ |
فَكَانَ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى | وَكَانَ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانَا «١» |
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى | غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ |
لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْكَ عَيْبٌ | كَانَ «٢» فِي النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِي |
(٢). في هامش ب: عابه الناس.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٢٥٥.
(٤). في ك: تجارة.
لَا تُتْبِعِ الدُّنْيَا وَأَيَّامَهَا | ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِكَ الدَّائِرَةُ |
مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلِهَا | أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَكُ الْآخِرَةُ |
تَسَمَّعْ «١» مِنَ الْأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا | فَإِنَّكَ مِنْهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ |
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ | فَمَا فَاتَ مِنْ شَيْءٍ فَلَيْسَ بِضَائِرِ |
وَلَنْ تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ | وَلَا وَزْنَ زِفٍّ «٢» مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ |
فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ | وَلَا «٣» رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاءً لِكَافِرِ |
(٢). الزف (بالكسر): صغير الريش، وخص بعضهم به ريش النعام، وورد في أدب الدنيا والدين (وزن ذر).
(٣). كذا في الأصول. بل الدنيا جزاء الكافر لقوله عليه الصلاة والسلام" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". [..... ]
(٤). يزجى الأيام يدافعها.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) كُسِرَتْ (إِنَّ) لِدُخُولِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ عِنْدَنَا لَصَادِقٌ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" ثُمَّ آنَسَهُ بِقَوْلِهِ:" وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ" الآية. وقرى" يكذبونك" مخففا ومشددا، قيل: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَحَزَنْتُهُ وَأَحْزَنْتُهُ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ" قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَدْ خُولِفَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي هَذَا. وَرُوِيَ: لَا نُكَذِّبُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" لَا يُكَذِّبُونَكَ". وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ" فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَكَ" مُخَفَّفًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:" فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمِينَ. وَمَعْنَى" يُكَذِّبُونَكَ" عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَنْسُبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَيَرُدُّونَ عَلَيْكَ مَا قُلْتَ. وَمَعْنَى" لَا يُكْذِبُونَكَ" أَيْ لَا يَجِدُونَكَ تَأْتِي بِالْكَذِبِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَذَبْتُهُ وَجَدْتُهُ كَذَّابًا، وَأَبْخَلْتُهُ وَجَدْتُهُ بَخِيلًا، أَيْ لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا إِنْ تَدَبَّرُوا مَا جِئْتَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يُثْبِتُونَ عَلَيْكَ أَنَّكَ كَاذِبٌ، لأنه يقال: أكذبته
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٢٠، ص ٣٦١.
[سورة الأنعام (٦): آية ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أَيْ عَظُمَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) قَدَرْتَ (أَنْ تَبْتَغِيَ) تَطْلُبَ (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَرَبًا تَخْلُصُ مِنْهُ إِلَى مكان آخر، ومنه النافقاء لحجر الْيَرْبُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٥» بَيَانُهُ «٦»، وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. (أَوْ سُلَّماً) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ سَبَبًا إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ، لِأَنَّ السُّلَّمَ الَّذِي يُرْتَقَى عَلَيْهِ سَبَبٌ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَلَا يُعْرَفُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ من تأنيث السلم. قَالَ قَتَادَةُ: السُّلَّمُ الدَّرَجُ. الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ كَأَنَّهُ «٧» يُسَلِّمُكَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٢٢ وص ١٣٩.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٢٢ وص ١٣٩.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٣٠٦.
(٥). راجع ج ١ ص ١٧٨.
(٦). في ك:" بناؤه".
(٧). في ك:" لأنه".
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أَيْ سَمَاعَ إِصْغَاءٍ وَتَفَهُّمٍ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مَا يَسْمَعُونَ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدُ، وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) وَهُمُ الْكُفَّارُ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، أَيْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يَصْغُونَ إِلَى حُجَّةٍ. وَقِيلَ: الْمَوْتَى كُلُّ مَنْ مَاتَ." يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ" أَيْ لِلْحِسَابِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ بَعَثَهُمْ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ بَعَثَهُمْ مِنْ شِرْكِهِمْ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِكَ يَا مُحَمَّدُ- يَعْنِي عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ- فِي حَالِ الْإِلْجَاءِ في الدنيا. قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قَالَ الْحَسَنُ: (لَوْلا) ها هنا بمعنى هلا، وقال الشاعر «١»:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ | بَنِي ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنعا |
وقد سرني ألا تعد مجاشع | من المجد إلا عقر نيب بصوأر |
[سورة الأنعام (٦): آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى الدَّابَّةِ وَالْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» وَأَصْلُهُ الصِّفَةُ، مِنْ دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ إِذَا مَشَى مَشْيًا فِيهِ تَقَارُبُ خَطْوٍ. (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) بِخَفْضِ" طائِرٍ" عَطْفًا عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ (وَلَا طَائِرٌ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الموضع، و (مِنْ) زائدة، التقدير: وما دَابَّةٍ." بِجَناحَيْهِ" تَأْكِيدٌ وَإِزَالَةٌ لِلْإِبْهَامِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طرفي حَاجَتِي، أَيْ أَسْرِعْ، فَذَكَرَ (بِجَناحَيْهِ) لِيَتَمَحَّضَ الْقَوْلُ فِي الطَّيْرِ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مَجَازٌ. وَقِيلَ: إِنَّ اعْتِدَالَ جَسَدِ الطَّائِرِ بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ يُعِينُهُ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَدِلٍ لَكَانَ يَمِيلُ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ الطَّيَرَانَ بِالْجَنَاحَيْنِ وَ" مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ" «٣»] النحل: ٧٩]. وَالْجَنَاحُ أَحَدُ نَاحِيَتَيِ الطَّيْرِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي، وَمِنْهُ جَنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتِ إِلَى نَاحِيَةِ الْأَرْضِ لَاصِقَةً بِهَا فَوَقَفَتْ. وَطَائِرُ الْإِنْسَانِ عَمَلُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" «٤»] الاسراء: ١٣]. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أَيْ هُمْ جَمَاعَاتٌ مِثْلُكُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهُمْ، وَتَكَفَّلَ بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩٦.
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٥١، ص ٢٢٩. [..... ]
(٤). راجع ج ١٠ ص ١٥١، ص ٢٢٩.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٦٤، ص ١٠٨.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٧.
(٤). راجع ص ٦١ من هذا الجزء.
" «٥»] النبأ: ٤٠]. وَقَالَ عَطَاءٌ: فَإِذَا رَأَوْا بَنِي آدَمَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَعِ قُلْنَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنَا مِثْلَكُمْ، فَلَا جَنَّةَ نَرْجُو وَلَا نَارَ نَخَافُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ: (كُنَّ تُرَابًا) فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنْ يَكُونَ تراب. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: هَذَا الْحَشْرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَمَا تَخَلَّلَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَةُ حُجَجٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ عَلَى جِهَةِ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالِاعْتِنَاءِ فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهُ، وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا فِي الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، وَلِلْحَجَرِ لِمَا رَكِبَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلِلْعُودِ لِمَا خَدَشَ الْعُودَ، قَالُوا: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِبَارِ وَالتَّهْوِيلِ، لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا يُعْقَلُ خِطَابُهَا وَلَا ثَوَابُهَا وَلَا عِقَابُهَا، وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمُتَخَيِّلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْتُوهِينَ الْأَغْبِيَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَلَمَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذُوا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَلَمُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تدري فيما انتطحتا؟) قلت:
(٢). الجلحاء: التي لا قرن لها.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢٢٧ وص ١٨٦.
(٤). برقان (بالكسر والضم). (القاموس).
(٥). راجع ج ١٩ ص ٢٢٧ وص ١٨٦.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ عَدِمُوا الِانْتِفَاعَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَكُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا تَهْتَدِي لِمَصَالِحِهَا وَالْكُفَّارُ لَا يَهْتَدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) «١». (فِي الظُّلُماتِ) أَيْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى (صُمٌّ وَبُكْمٌ) فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً دُونَ مَجَازِ اللُّغَةِ. (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ضَلَالَ الْكَافِرِ وَأَرَادَهُ لِيُنَفِّذَ فيه عدله. ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لِيُنَفِّذَ فِيهِ فَضْلَهُ. وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِلُّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْدِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ" وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَتَيْنِ، يُلْقِي حَرَكَةَ الْأُولَى عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَيَأْتِي بِالثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ وَيُعَوِّضُ مِنْهَا أَلِفًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ غَلَطٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْيَاءَ سَاكِنَةٌ وَالْأَلِفَ سَاكِنَةٌ وَلَا يَجْتَمِعُ سَاكِنَانِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمُدُّ الثَّانِيَةَ، وَالْمَدُّ لَا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الأصول، والأصل أن تجعل
[سورة الأنعام (٦): آية ٤٢]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا وَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَكَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَ اتِّصَالِ الْحَالِ بِحَالٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا فِي مُخَالَفَةِ نَبِيِّهِمْ مَسْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَانُوا بِعَرَضٍ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَزَلَ بمن كان قبلهم. ومعنى (بِالْبَأْساءِ) بِالْمَصَائِبِ فِي الْأَمْوَالِ (وَالضَّرَّاءِ) فِي الْأَبَدَانِ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يُوضَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَيُؤَدِّبُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْبَأْسَاءِ والضراء وبما شاء" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ" «١»] الأنبياء: ٢٣]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْتَدَلَّ الْعِبَادُ فِي تَأْدِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَأْسَاءِ فِي تَفْرِيقِ الْأَمْوَالِ، وَالضَّرَّاءِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَبَدَانِ بِالْجُوعِ وَالْعُرْيِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قُلْتُ: هَذِهِ جَهَالَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَجَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلًا لَهَا، هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ لمن شاء من عباده أن يَمْتَحِنُهُمْ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمْتَحِنَ أَنْفُسَنَا وَنُكَافِئَهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا الْمَطِيَّةُ الَّتِي نَبْلُغُ عَلَيْهَا دَارَ الْكَرَامَةِ، وَنَفُوزُ بِهَا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً" «٢»] المؤمنون: ٥١] وَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ" «٣»] البقرة: ٢٦٧]." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" «٤»] البقرة: ١٧٢] فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا خَاطَبَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ وَيَلْبَسُونَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَيَتَجَمَّلُونَ بِهَا، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْمَائِدَةِ) «٥» وَسَيَأْتِي فِي (الْأَعْرَافِ) «٦» مِنْ حُكْمِ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا وَاسْتَدَلُّوا لَمَّا كَانَ فِي امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِالزُّرُوعِ وَالْجَنَّاتِ وَجَمِيعِ الثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ والانعام التي سخرها وأباح لنا
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٢٧. [..... ]
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٢٠.
(٤). راجع ج ٢ ص ٢١٥.
(٥). راجع ص ٢٦٣ وما بعدها من هذا الجزء.
(٦). راجع ج ٧ ص ١٩٥.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٤٣ الى ٤٥]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) (فَلَوْلا) تَحْضِيضٌ، وَهِيَ الَّتِي تَلِّي الْفِعْلَ بِمَعْنَى هَلَّا، وَهَذَا عِتَابٌ عَلَى تَرْكِ الدُّعَاءِ، وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا حِينَ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا تَضَرَّعُوا تَضَرُّعَ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، أَوْ تَضَرَّعُوا حِينَ لَابَسَهُمُ الْعَذَابُ، وَالتَّضَرُّعُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ نَافِعٍ. وَالدُّعَاءُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" «٣»] غافر: ٦٠] وقال:" إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي"] غافر: ٦٠] أي دعائي" سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ"] غافر: ٦٠] وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أَيْ صَلُبَتْ وَغَلُظَتْ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ أَغْوَاهُمْ «٤» بِالْمَعَاصِي وحملهم عليها.
(٢). من ب، ج، ك، ع.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٢٦.
(٤). في ج، ع، ى: أغراهم.
(٢). في ج: في ذلك.
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسًا «١» | قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا |
فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ | فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا |
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٤٦ الى ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ). أَيْ أَذْهَبَ وَانْتَزَعَ. وَوَحَّدَ" سَمْعَكُمْ" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ. (وَخَتَمَ) أَيْ طَبَعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٣».
(٢). دبريا: يروي (بفتح الباء وسكونها) وهو منسوب إلى الدبر آخر الشيء وفتح الباء من تغيرات النسب. (ابن الأثير).
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٥.
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ | وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ |
(٢). راجع ج ٨ ص ١٩٣.
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٩.
(٤). من ع.
[سورة الأنعام (٦): آية ٤٨]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أَيْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. قَالَ الْحَسَنُ: مُبَشِّرِينَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" «٣»] الأعراف: ٩٦]. وَمَعْنَى (مُنْذِرِينَ) مُخَوِّفِينَ عِقَابَ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الْمُرْسَلِينَ لِهَذَا لَا لِمَا يُقْتَرَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). تقدم القول فيه.
[سورة الأنعام (٦): آية ٤٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أَيْ يُصِيبُهُمْ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي يكفرون.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٠]
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
(٢). راجع ج ١٤ ص ٦٢.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٥٣.
قوله تعالى :" إن أتبع إلا ما يوحى إلي " ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع. وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " ٣ وجواز اجتهاد الأنبياء في ( الأنبياء )٤ إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى :" قل هل يستوي الأعمى والبصير " أي الكافر والمؤمن، عن مجاهد وغيره٥. وقيل : الجاهل والعالم. " أفلا تتفكرون " أنهما لا يستويان.
٢ راجع ج ١ ص ٢٨٩ وص ١٨٤..
٣ راجع ج ٧ ص ١٧١..
٤ راجع ج ١١ ص ٣٠٩..
٥ من ب، ج، ك، ع..
[سورة الأنعام (٦): آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ بِهِ) أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٦». وَقِيلَ:" بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَخَصَّ" الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبُ، فَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، لَا أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْحَشْرِ، فَالْمَعْنَى" يَخافُونَ"
(٢). راجع ج ١ ص ٢٨٩ وص ١٨٤.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٧١.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٠٩.
(٥). من ب، ج، ك، ع.
(٦). راجع ج ١ ص ٢٨٩ وص ١٨٤.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ"] الْآيَةَ [«٤». قَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَلَا نَرْضَى بِمُجَالَسَةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ- يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا «٥» - فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ، وَطَلَبُوا أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، فَقَامَ الْفُقَرَاءُ وَجَلَسُوا نَاحِيَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَلِهَذَا أَشَارَ سَعْدٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مَالَ إِلَى ذَلِكَ طَمَعًا فِي إِسْلَامِهِمْ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ أَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَلَا يُنْقِصُ لَهُمْ قَدْرًا، فَمَالَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، فَنَهَاهُ عَمَّا هَمَّ بِهِ مِنَ الطَّرْدِ لَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّرْدَ. رَوَى مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كنا مع النبي صلى الله
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٩٥. [..... ]
(٣). راجع ج ٣ ص ٢٧٣.
(٤). من ج، ب، ك.
(٥). في ب وع وك وج وهـ: حسان.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣١٠.
(٣). من ع.
(٢). العنقزي: ضبط (القاموس). (لب اللباب) بفتح القاف. وقال في التهذيب: هو بكسرها.
(٣). في ج، ك، ى، ع. ويقال: أبو سعد.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٩٠.
(٥). في ك: كفالة.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أَيْ كَمَا فَتَنَّا مَنْ قَبْلَكَ كَذَلِكَ فَتَنَّا هَؤُلَاءِ. وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ. (لِيَقُولُوا) نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالْأَغْنِيَاءَ. (أَهؤُلاءِ) يَعْنِي الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ. (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْمُشْكِلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا هَذِهِ الْآيَةَ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنْكَارًا فَهُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى اخْتُبِرَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْفُقَرَاءِ أَنْ تَكُونَ مَرْتَبَتُهُمْ وَاحِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وَالْجَوَابُ الْآخَرُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتُبِرُوا بِهَذَا فَآلَ عَاقِبَتُهُ إِلَى أَنْ قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ:" فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «٤»] القصص: ٨]. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فِيمَنْ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وقل: الْمَعْنَى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ مَنْ يَشْكُرُ الْإِسْلَامَ إذا هديته إليه.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٠٩.
(٣). في ج، ك، ى، ع، هـ: أبويه. [..... ]
(٤). راجع ج ١٥؟ ص ٢٧٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) السَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى" سَلامٌ عَلَيْكُمْ" سَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِي دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ طَرْدِهِمْ، فَكَانَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ) فَعَلَى هَذَا كَانَ السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَبْلِغْهُمْ مِنَّا السَّلَامُ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَنَفَرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟! فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ) فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهُ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى رِفْعَةِ مَنَازِلِهِمْ وَحُرْمَتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي [مَعْنَى] «١» الْآيَةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا احْتِرَامُ الصَّالِحِينَ وَاجْتِنَابُ مَا يُغْضِبُهُمْ أَوْ يُؤْذِيهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ غَضَبَ اللَّهِ، أَيْ حُلُولَ عِقَابِهِ بِمَنْ آذَى أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] «٢». وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا مِنَ الذُّنُوبِ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ الصِّدْقِ، وَوَعْدِهِ الْحَقِّ، فَخُوطِبَ الْعِبَادُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّهُ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: كَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أَيْ خَطِيئَةً من غير قصد،
(٢). من ك وى.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٥]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) التَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي، وَالْمَعْنَى: وَكَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلَائِلَنَا وَمُحَاجَّتَنَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَنُبَيِّنُ لَكُمْ أَدِلَّتَنَا وَحُجَجَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الباطل.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قِيلَ:" تَدْعُونَ" بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تَدْعُونَهُمْ فِي مُهِمَّاتِ أُمُورِكُمْ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامَ. (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) فِيمَا طَلَبْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْ طَرْدِ مَنْ أَرَدْتُمْ طَرْدَهُ. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أَيْ قَدْ ضَلَلْتُ إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ. (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أَيْ على طريق رشد وهدى.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٨٢.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٥٤.
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٧]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أَيْ دَلَالَةٍ وَيَقِينٍ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا عَلَى هَوًى، وَمِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ وَتُظْهِرُهُ. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ"] النساء: ٨] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ «٤». وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ، أَيْ كَذَّبْتُمْ بِرَبِّي لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَا أَنْشَدَهُ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا محسنا رضي الله عنه:
أأقعد بعد ما رَجَفَتْ عِظَامِي | وَكَانَ الْمَوْتُ أَقْرَبَ مَا يَلِينِي |
أُجَادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ خَصِيمٍ | وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لِدِينِي |
فَأَتْرُكُ مَا عَلِمْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي | وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ |
وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ | يُصَرَّفُ فِي الشَّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ |
وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَنٌ قِوَامُ | يَلُحْنَ بِكُلِّ فَجٍّ أو وجئن «٥» |
وَكَانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ | أَغَرَّ كَغُرَّةِ الفلق المبين |
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣١٣.
(٤). راجع ج ٥ ص ٥٠.
(٥). الوجين: شط الوادي.
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ | بِمِنْهَاجِ ابْنِ آمِنَةَ الْأَمِينِ |
فَأَمَّا مَا عَلِمْتُ فَقَدْ كَفَانِي | وَأَمَّا مَا جَهِلْتُ فَجَنِّبُونِي |
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٩٨. [..... ]
(٣). راجع ج ٩ ص ١١٩.
(٤). قال الفخر الرازي (يقض) بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين كما كتبوا (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (فَما تُغْنِ النُّذُرُ).
[سورة الأنعام (٦): آية ٥٨]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ" أَيْ مِنَ الْعَذَابِ لَأَنْزَلْتُهُ بِكُمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَمْرُ إِلَى آخِرِهِ. وَالِاسْتِعْجَالُ: تَعْجِيلُ طَلَبِ الشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ." وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ" أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تَمَّ الْجُزْءُ السَّادِسُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ السَّابِعُ، وَأَوَّلُهُ قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة الأنعام][سورة الأنعام (٦): آية ٥٩]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ نَزَلَ مَعَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خمس لا يعلمها إلا الله لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" «١» وَمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ، هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَيُقَالُ: مِفْتَاحٌ وَيُجْمَعُ مَفَاتِيحُ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ" مَفَاتِيحُ". وَالْمِفْتَحُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَحُلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كالقفل على البيت أو معقول كَالنَّظَرِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ (. وَهُوَ فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةٌ عَنِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغُيُوبِ كَمَا يُتَوَصَّلُ فِي الشَّاهِدِ بِالْمِفْتَاحِ إِلَى الْمُغَيَّبِ عَنِ الْإِنْسَانِ،
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٦.
(٣). من ك.
(٤). في ك: من رسول.
(٥). النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.
(٦). أي في الحديث القدسي.
(٧). راجع ج ١٧ ص ٢٢٨ فما بعد.
(٢). في إوز: يستروا.
(٣). من ج وك وز.
(٤). زيادة عن صحيح مسلم. [..... ]
(٥). من ج وك وز.
(٦). السراب: الذي يكون نصف النهار لاطئا بالأرض لاصقا بها كأنه ماء جار. والآل: الذي يكون بالضحى كالماء بين السماء والأرض يرفع الشخوص ويزهاها.
(٧). من ج وك وز.
(٨). من ج وك وز.
(٩). التصحيح من ز.
(٢). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٣). هو أحد رجال سند هذا الحديث.
(٤). من ك.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٢٧٨ فما بعد.
[سورة الأنعام (٦): آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أَيْ يُنِيمُكُمْ فَيَقْبِضُ نُفُوسَكُمُ الَّتِي بِهَا تُمَيِّزُونَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْتًا حَقِيقَةً بَلْ هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالنَّوْمِ كَمَا يَقْبِضُهَا بِالْمَوْتِ. وَالتَّوَفِّي اسْتِيفَاءُ الشَّيْءِ. وَتُوُفِّيَ الْمَيِّتُ اسْتَوْفَى عَدَدَ أَيَّامِ عُمُرِهِ، وَالَّذِي يَنَامُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَرَكَاتِهِ فِي الْيَقَظَةِ. وَالْوَفَاةُ الْمَوْتُ. وَأَوْفَيْتُكَ الْمَالَ، وَتَوَفَّيْتُهُ «١»
، وَاسْتَوْفَيْتُهُ إِذَا أَخَذْتُهُ أَجْمَعَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ «٢»:
إِنَّ بَنِي الْأَدْرَدِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدٍ | وَلَا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدِ |
(٢). هو منظور الوبرى.
(٣). راجع ج ٦ ص ٦٦.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) يَعْنِي فَوْقِيَّةَ الْمَكَانَةِ وَالرُّتْبَةِ لَا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْإِرْسَالُ حَقِيقَتُهُ إِطْلَاقُ الشَّيْءِ بِمَا حُمِلَ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَإِرْسَالُ الْمَلَائِكَةِ بِمَا حَمَلُوا مِنَ الْحِفْظِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، كَمَا قَالَ:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ" «١» أَيْ مَلَائِكَةً تَحْفَظُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ وَتَحْفَظُهُمْ مِنَ الْآفَاتِ. وَالْحَفَظَةُ جَمْعُ حَافِظٍ، مِثْلُ الْكَتَبَةِ وَالْكَاتِبِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ، يَكْتُبُ أحدهما الخير والآخر الشر، وإذا مَشَى الْإِنْسَانُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ، وَإِذَا جَلَسَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ" «٢» (الآية) «٣» وَيُقَالُ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَمْسَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: اثْنَانِ بِاللَّيْلِ، وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَالْخَامِسُ لَا يُفَارِقُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ «٤» عَنْهُ):
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعِيشُ «٥» شَقِيًّا | جَاهِلَ الْقَلْبِ غَافِلَ الْيَقَظَهْ |
فَإِذَا كَانَ ذَا وَفَاءٍ وَرَأْيٍ | حَذِرَ الْمَوْتَ وَاتَّقَى الْحَفَظَهْ |
إِنَّمَا النَّاسُ رَاحِلٌ وَمُقِيمٌ | فَالَّذِي بَانَ للمقيم عظه |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٨.
(٣). من ز.
(٤). من ز، ع.
(٥). في ك: سفيها.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٦.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٩٢.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٦٠.
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٧٢.
(٦). راجع ج ١٨ ص ٢٠٦.
(٧). راجع ج ٢ ص ٤٣٥.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أَيْ شَدَائِدِهِمَا، يُقَالُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا كَانَ شَدِيدًا، فَإِنْ عَظَّمَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا | إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْنَعَا |
وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتِ الْكَرْبُ عَنْهُ | بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي |
(٢). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ٦٥]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
أَيِ الْقَادِرُ عَلَى إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْكَرْبِ، قَادِرٌ على تعذيبكم. ومعنى (مِنْ فَوْقِكُمْ) الرجم والحجارة وَالطُّوفَانُ وَالصَّيْحَةُ وَالرِّيحُ، كَمَا فَعَلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ نُوحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الْخَسْفُ وَالرَّجْفَةُ، كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ. وَقِيلَ:" مِنْ فَوْقِكُمْ" يَعْنِي الْأُمَرَاءَ الظَّلَمَةَ،" أَوْ- مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ" يَعْنِي السَّفَلَةَ وَعَبِيدَ السُّوءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ" أَوْ يَلْبِسَكُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يُجَلِّلُكُمُ الْعَذَابُ وَيَعُمُّكُمْ بِهِ، وَهَذَا مِنَ اللُّبْسِ بِضَمِّ الْأَوَّلِ، وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ مِنَ اللَّبْسِ. وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ وَالْإِعْرَابُ يُبَيِّنُهُ. أَيْ يَلْبِسُ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ وَحَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ" «١» وَهَذَا اللَّبْسُ بِأَنْ يَخْلِطَ أَمْرَهُمْ فَيَجْعَلَهُمْ مُخْتَلِفِي الْأَهْوَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى" يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً" يُقَوِّي عَدُوَّكُمْ حَتَّى يُخَالِطَكُمْ وَإِذَا خَالَطَكُمْ فَقَدْ لَبِسَكُمْ." شِيَعاً" مَعْنَاهُ فِرَقًا. وَقِيلَ يَجْعَلُكُمْ فِرَقًا يُقَاتِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَذَلِكَ بِتَخْلِيطِ أَمْرِهِمْ وَافْتِرَاقِ أُمَرَائِهِمْ «٢» عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا. وهو معنى (قوله) «٣» (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أَيْ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. وَقِيلَ هِيَ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي أَهْلِ الصَّلَاةِ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ الْمُشَاهَدُ فِي الْوُجُودِ، فَقَدْ لَبِسَنَا الْعَدُوُّ فِي دِيَارِنَا وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا، مَعَ الْفِتْنَةِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْنَا بِقَتْلِ بَعْضِنَا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض.
(٢). في ك: أهوائهم.
(٣). في ك: أهوائهم.
(٢). أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" وَكَذَّبَتْ". بِالتَّاءِ. (وَهُوَ الْحَقُّ) أَيِ الْقَصَصُ الْحَقُّ. (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) قَالَ الْحَسَنُ: لَسْتُ بِحَافِظٍ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا، إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَقَدْ بَلَّغْتُ، نَظِيرُهُ" وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" «٢» أَيْ أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إِيمَانُهُمْ. (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) لِكُلِّ خبر حقيقة، أي لكل شي وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ. وَقِيلَ: أَيْ لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ. الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. (قَالَ) «٣» السُّدِّيُّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَافِعَةٌ مِنْ وَجَعِ الضِّرْسِ إِذَا كُتِبَتْ عَلَى كاغد ووضع على السن.
(٢). راجع ج ٩ ص ٨٦.
(٣). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ٦٨]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (٦٨) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وَالْخِطَابُ مُجَرَّدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ. وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ سَمَاعُ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُهُمْ وَإِيَّاهُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحد، لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَشُقُّ «١» عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ، فَأُمِرَ أَنْ يُنَابِذَهُمْ بِالْقِيَامِ عَنْهُمْ إِذَا اسْتَهْزَءُوا وَخَاضُوا لِيَتَأَدَّبُوا بِذَلِكَ وَيَدَعُوا الْخَوْضَ وَالِاسْتِهْزَاءَ. وَالْخَوْضُ أَصْلُهُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدُ فِي غَمَرَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَجَاهِلُ، تَشْبِيهًا بِغَمَرَاتِ الْمَاءِ فَاسْتُعِيرَ مِنَ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الخلط. وكل شي خُضْتَهُ فَقَدْ خَلَطْتَهُ، وَمِنْهُ خَاضَ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ خَلَطَهُ. فَأَدَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «٢») بِهَذِهِ الْآيَةِ، (لِأَنَّهُ) «٣» كَانَ يَقْعُدُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعِظُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ فيستهزءون بِالْقُرْآنِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ إِعْرَاضَ مُنْكِرٍ. وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَلِمَ مِنَ الْآخَرِ مُنْكَرًا وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ إِعْرَاضَ مُنْكِرٍ وَلَا يُقْبِلَ عَلَيْهِ. وَرَوَى شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا" قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى فَإِذَا ذَكَرَ قَامَ. وَرَوَى وَرْقَاءٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ الْحَقِّ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ هُمْ حُجَجٌ وَأَتْبَاعَهُمْ لَهُمْ أَنْ يُخَالِطُوا الْفَاسِقِينَ وَيُصَوِّبُوا آرَاءَهُمْ تَقِيَّةً «٤». وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «٥») أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتٍ، فَإِنَّهُمُ الذين يخوضون
(٢). من ك وز.
(٣). من ك.
(٤). التقية والتقاة بمعنى واحده. يريد أنهم يتقون بعضهم بعضا ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذلك.
(٥). من، ع، ز.
إِمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ فِي مُنَاوَأَةٍ | يَوْمًا فَقَدْ كُنْتَ تَسْتَعْلِي وَتَنْتَصِرُ |
قَالَتْ سُلَيْمَى أَتَسْرِي الْيَوْمَ أَمْ تَقِلِ | وَقَدْ يُنَسِّيكَ بَعْضَ الْحَاجَةِ الكسل «٣» |
تنسني إذا قمت سربالي «٤»
(٢). في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. إلخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر. [..... ]
(٣). الشاهد في ينسيك بالشد مع عدم النون الشديدة إلا أنه بدون إما.
(٤). والبيت بتمامه كما في اللسان:
ومثلك بيضاء العوارض طفلة | لعوب تنسى أذا قمت سربالي |
[سورة الأنعام (٦): آية ٦٩]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٧٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٠]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
أَيْ لَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بهم فإنهم أهل تعنت إن كُنْتَ مَأْمُورًا بِوَعْظِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَنْسُوخٌ، نَسَخَهُ" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «٢». وَمَعْنَى" لَعِباً وَلَهْواً" أَيِ اسْتِهْزَاءً بِالدِّينِ الَّذِي دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: اسْتَهْزَءُوا بِالدِّينِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. وَالِاسْتِهْزَاءُ لَيْسَ مُسَوَّغًا فِي دِينٍ. وَقِيلَ:" لَعِباً وَلَهْواً" بَاطِلًا وَفَرَحًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣» هَذَا. وَجَاءَ اللَّعِبُ مُقَدَّمًا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، وقد نظمت.
(٢). راجع ج ٨ ص ٧١.
(٣). راجع ج ٦ ص ٤١٣ فما بعده.
إِذَا أَتَى لَعِبٌ وَلَهْوٌ «١» | وَكَمْ مِنْ مَوْضِعٍ هُوَ فِي الْقُرْآنِ |
فَحَرْفٌ فِي الْحَدِيدِ وَفِي الْقِتَالِ | وَفِي الْأَنْعَامِ مِنْهَا مَوْضِعَانِ |
وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ | بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ |
وَنَحْنُ رَهَنَّا بِالْأُفَاقَةِ «٤» عَامِرًا | بِمَا كَانَ فِي الدَّرْدَاءِ رَهْنًا فَأُبْسِلَا |
(٢). كذا في ك. والذي في اللسان وشرح القاموس: السجفيه. والذي في الجواهري وفي اوب وج وز: السحيفه بالحاء المهملة بدل الجحيم.
(٣). من ج، ع، ك، ز.
(٤). الإفاقة (ككناسة): موضع في أرض الحزن قرب الكوفه. أو هو ماء لبنى يربوع، ويوم الإفاقة من أيام العرب.
(٥). راجع ج ٣ ص ٢٨٣ وص ٢٧٣ وج ٤ ص ١٠٩.
(٦). راجع ج ١ ص ٣٧٨ وص ٣٨٠.
(٧). راجع ج ١٢ ص ٢٥. [..... ]
أَجَارَتُكُمْ بَسْلٌ عَلَيْنَا مُحَرَّمٌ | وَجَارَتُنَا حِلٌّ لكم وحليلها |
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
قَوْلُهُ تعالى: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا) أَيْ ما لا ينفعنا إن دعونا «٤». (وَلا يَضُرُّنا) إِنْ تَرَكْنَاهُ، يُرِيدُ الْأَصْنَامَ. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) أَيْ نَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَى. وَوَاحِدُ الْأَعْقَابِ عَقِبٌ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَتَصْغِيرُهُ عُقَيْبَةٌ. يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ عَلَى عَقِبَيْهِ، إِذَا أَدْبَرَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِمَنْ رُدَّ عَنْ حَاجَتِهِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا: قَدْ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ تُعُقِّبَ بِالشَّرِّ بَعْدَ الْخَيْرِ. وَأَصْلُهُ من العاقبة والعقبى وهما ما كان
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢.
(٣). هو الأعشى ميمون.
(٤). في ك: رجونا.
تَخْطُو عَلَى بَرْدِيَّتَيْنِ غَذَاهُمَا... غَدِقٌ بِسَاحَةِ حَائِرٍ يَعْبُوبِ «٤»
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِثْلُ عَابِدِ الصَّنَمِ مِثْلَ مَنْ دَعَاهُ الْغُولُ فَيَتَّبِعُهُ فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي مَضَلَّةٍ وَمَهْلَكَةٍ، فَهُوَ حَائِرٌ فِي تِلْكَ الْمَهَامِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون، وهو معنى قوله: (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) فَيَأْبَى. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أُمُّهُ أُمُّ رُومَانِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ غُنْمٍ الْكِنَانِيَّةُ، فَهُوَ شَقِيقُ عَائِشَةَ. وَشَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بكر بدرا واحدا مع قومه وهو وكافر، وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ لِيُبَارِزَهُ فَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٢). لم نجد هذا المصدر في كتب اللغة. وفي تفسير الفخر الرازي:"... وزاد الفراء حيرانا وحيرونة.
(٣). من ك.
(٤). العيوب: الطويل.
لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ | نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ |
(٢). راجع ج ٢ ص ٨٩.
(٣). أصغى: أمال.
(٤). الليت (بكسر اللام): صفحة العنق.
(٥). أي يطينه ويصلحه. [..... ]
(٦). راجع ج ١٥ ص ١٧٧.
(٧). راجع ج ١٣ ص ٢٣٩.
لبيك «٣» يَزِيدُ ضَارِعٍ لِخُصُومَةٍ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ" عَالِمِ" بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ (الَّتِي) «٤» فِي" لَهُ".
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٤]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)
أَشْبَهْنَ مِنْ بَقَرِ الْخَلْصَاءِ أَعْيُنَهَا | وَهُنَّ أَحْسَنُ مِنْ صِيرَانِهَا صِوَرَا |
إذا لاح الصور ذَكَرْتُ لَيْلَى | وَأَذْكُرُهَا إِذَا نَفَحَ الصِّوَارُ |
(٢). من ج وك وع. راجع ج ١٨ ص ٣٠٢.
(٣). هذا صدر بيت للحارث ابن نهيك، وتمامه كما في كتاب سيبويه:
ومخبط مما تطيح الطوائح
وصف أنه كان مقيما لحجة المظلوم ناصرا له. والمختبط: الطالب المعروف. وتطيح: تذهب وتهلك.
(٤). من ج وك.
(٢). من ج وك وع.
(٣). الهم (بكسر الهاء): الشيخ الفاني. وفي ك: الهرم، وكذا قال الفراء.
(٤). لعل هذا هو الصحيح كما في لغة الفينيقيين إزربعل: سادن الصنم بعل.
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٥]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُلْكَ، وَزِيدَتِ الْوَاوُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ. وَمِثْلُهُ الرَّغَبُوتُ وَالرَّهَبُوتُ وَالْجَبَرُوتُ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَالِ «٢» الْعَدَوِيُّ" مَلْكُوتَ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ حَذْفُ الْفَتْحَةِ لخفتها، ولعلها لغة. و" نُرِي" بِمَعْنَى أَرَيْنَا، (فَهُوَ) «٣» بِمَعْنَى الْمُضِيِّ. فَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَجَائِبِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ عِصْيَانِ بَنِي آدَمَ، فَكَانَ يَدْعُو عَلَى مَنْ يَرَاهُ يَعْصِي فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا إِبْرَاهِيمُ أَمْسِكْ عَنْ عِبَادِي، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِي الصَّبُورَ. رَوَى مَعْنَاهُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: كَشَفَ اللَّهُ له عن السماوات والأرض حتى
(٢). أبو السمال قعنب بن أبى قعنب العدوى البصري. كذا في طبقات إلقاء والتاج. له قرءاة شاذة عن العامة وفي الميزان: أبو السماك معتب بن هلال العدوى البصري له حروف شاذة لا يعتمد على نقله ولا يوثق به. وفي ب وج: ابن السماك.
(٣). من ك وج وع.
أَيْ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أريناه ذلك، أي الملكوت.
(٢). السرب (بالتحريك): حفير أو بيت تحت الأرض.
(٣). من ك. ((
(٤). في ك: ومن رب نمرود.
(٥). في ج وز: كتاب حسن نظيف مما يفترى.
(٦). راجع ج ٣ ص ٢٨٣.
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٦]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أَيْ سَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ، وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنَّةُ وَالْجُنَّةُ وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجِنُّ كُلُّهُ بِمَعْنَى السِّتْرِ. وَجَنَانُ اللَّيْلِ ادْلِهْمَامُهُ وَسِتْرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
وَلَوْلَا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا | بِذِي الرَّمْثِ وَالْأَرْطَى «٢» عِيَاضِ بْنِ نَاشِبِ |
(٢). الرمث (بالكسر): مرعى من مراعى الإبل، واسم واد لبنى أسد. والأرطى (جمع أرطاة): شجر ينبت بالرمل.
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ | فَقُلْتُ وأنكرت الوجوه هم هم |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٩١.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٩٧.
(٤). في ك: آفلا.
(٥). راجع ج ١٢ ص ٢٥٥.
(٦). راجع ج ١١ ص ٢٨٧.
(٧). هو أبو خراش. رفوته سكنه من الرعب. [..... ]
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا | بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ |
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٧]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أَيْ طَالِعًا. يُقَالُ: بَزَغَ الْقَمَرُ إِذَا ابْتَدَأَ فِي الطُّلُوعِ، وَالْبَزْغُ الشَّقُّ، كَأَنَّهُ يَشُقُّ بِنُورِهِ الظُّلْمَةَ، وَمِنْهُ بَزَغَ الْبَيْطَارُ الدَّابَّةَ إِذَا أَسَالَ دَمَهَا. (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) أَيْ لَمْ يُثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ. وَقَدْ كَانَ مقتديا فَيَكُونُ جَرَى هَذَا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، أَوْ سَأَلَ التَّثْبِيتَ لِإِمْكَانِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ كَمَا قَالَ شعيب: وما كان لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ «٤». وَفِي التَّنْزِيلِ" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ" أَيْ ثبتنا على الهداية. وقد تقدم «٥».
[سورة الأنعام (٦): آية ٧٨]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ العين. بزغ يبزغ إِذَا طَلَعَ. وَأَفَلَ يَأْفِلُ أُفُولًا إِذَا غَابَ. وَقَالَ:" هَذَا" وَالشَّمْسُ مُؤَنَّثَةٌ، لِقَوْلِهِ" فَلَمَّا أَفَلَتْ" فَقِيلَ: إِنَّ تَأْنِيثَ الشَّمْسِ لِتَفْخِيمِهَا وَعِظَمِهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ. وَإِنَّمَا قَالَ:" هَذَا رَبِّي" على معنى: هذا الطالع ربي
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٠٨.
(٣). راجع ج ١٦ ص ١٥١.
(٤). راجع ص ٢٥٠ من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ١ ص ١٤٦.
قامت تبكِّيه على قبره | من لي من بعدك يا عامر |
تركتني في الدار ذا غربة | قد ذلَّ من ليس له ناصر١ |
قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ | مَنْ لِي مِنْ بَعْدِكَ يَا عَامِرُ |
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ | قد ذل من ليس له ناصر «١» |
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أَيْ قَصَدْتُ بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي لله عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ. وَذَكَرَ الْوَجْهَ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مَا يَعْرِفُ بِهِ (الْإِنْسَانُ) «٢» صَاحِبَهُ." حَنِيفاً" مَائِلًا إِلَى الْحَقِّ. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اسْمُ" مَا" وَخَبَرُهَا. وَإِذَا وَقَفْتَ قُلْتَ:" أَنَا" زِدْتَ الْأَلِفَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ:" أَنَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ:" أَنَهْ". ثَلَاثُ لُغَاتٍ. وَفِي الْوَصْلِ أَيْضًا ثَلَاثُ لُغَاتٍ: أَنْ تُحْذَفَ الْأَلِفُ فِي الْإِدْرَاجِ، لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي «٣»
وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ بَنِي قَيْسٍ وَرَبِيعَةَ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَصْلِ: آنَ فَعَلْتُ، مِثْلَ عَانَ فعلت، حكاه الكسائي عن بعض قضاعة.
[سورة الأنعام (٦): آية ٨٠]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
(٢). من ك.
(٣). هذا صدر بيت، وعجزه كما في اللسان مادة أنن:
جميعا قد تذريت السناما
تراه كالثَّغَام يُعَلُّ مِسْكًا | يسوء الفالياتِ إذا فَلَيْنِي١ |
٢ من ك..
٣ راجع ج ٢ ص ٨٤..
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يعل مسكا | يسوء الفاليات إذا فليني «١» |
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ٢ ص ٨٤.
[سورة الأنعام (٦): آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) (تِلْكَ) «٤» إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ حَتَّى خَاصَمَهُمْ وَغَلَبَهُمْ بالحجة. وقال مجاهد: هي قول:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ". وَقِيلَ: حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ «٥» أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِسَبِّكَ إِيَّاهَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْهَا إِذْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَيَغْضَبُ الْكَبِيرُ فَيَخْبِلَكُمْ؟. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أَيْ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمُلْكِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" دَرَجَاتٍ" بِالتَّنْوِينِ. وَمِثْلُهُ فِي" يُوسُفَ «٦» " أَوْقَعُوا الْفِعْلَ عَلَى" مَنْ" لِأَنَّهُ الْمَرْفُوعُ فِي الْحَقِيقَةِ، التَّقْدِيرُ: وَنَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ إِلَى دَرَجَاتٍ. ثُمَّ حُذِفَتْ إِلَى. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ تَنْوِينٍ على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع
(٢). من ب وج وك.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٦٢. [..... ]
(٤). من ك.
(٥). في ك: إنا نخاف.
(٦). راجع ج ٩ ص ٢٣٥.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أَيْ جَزَاءً لَهُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ فِي الدِّينِ وَبَذْلِ النَّفْسِ فِيهِ." (كُلًّا هَدَيْنا) " أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ. وَ" كُلًّا" نُصِبَ بِ" هَدَيْنا" (وَنُوحاً) نُصِبَ بِ" هَدَيْنا" الثَّانِي. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أَيْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالْقُشَيْرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا. وَالْأَوَّلُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ (هَذِهِ «٢») الذُّرِّيَّةِ يُونُسُ وَلُوطٌ وَمَا كَانَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ لُوطٌ ابْنَ أَخِيهِ. وَقِيلَ: ابْنُ أُخْتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا مُضَافُونَ إِلَى ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تَلْحَقْهُ وِلَادَةٌ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، لِأَنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا" نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «٣» ". وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ. وَعُدَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ الْبِنْتِ. فَأَوْلَادُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذُرِّيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسم الولد وهي:
(٢). من ك وب وع.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٣٧.
(٢). راجع ج ٤ ص ١٠٤.
(٣). راجع ج ٥ ص ٥٤ وص ١٥ ج ٦.
(٤). راجع ج ٨ ص ١.
(٥). راجع ج ٥ ص ٥٤ وص ١٥ ج ٦.
وجدنا اليزيد بْنَ الْوَلِيدِ مُبَارَكًا | شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ كَاهِلُهُ «١» |
فَيُسْتَخْرَجُ الْيَرْبُوعُ مِنْ نَافِقَائِهِ | وَمِنْ بَيْتِهِ بِالشِّيخَةِ الْيَتَقَصَّعُ «٢» |
(٢). البيت لذي الخرق الطهوي: كما في شرح القاموس. الفقه (كالهمزه) والنافقاء: حجر الضب واليربوع. وقيل موضوع يرققه اليربوع من حجره فإذا أتى من قبل القاصعاء. (وهو حجره) ضرب النافقاء برأسه فخرج والشيخة: رملة بيضاء ببلاد أسد حنظلة. يروى: حجره. وفى الأصول: ذو الشيخة.
(٣). من ك. [..... ]
(٤). من ك.
(٥). من ع ول.
(٦). أي من ذرية نوح.
(٧). من ع.
(٨). راجع ص ٢٤٣ من هذا الجزء.
الأولى - قوله تعالى :" ووهبنا له إسحاق ويعقوب " أي جزاء له على الاحتجاج في الذين وبذل النفس فيه. " كلا هدينا " أي كل واحد منهم مهتد. و " كلا " نصب ب " هدينا " " ونوحا " نصب ب " هدينا " الثاني. " ومن ذريته " أي ذرية إبراهيم. وقيل : من ذرية نوح، قاله الفراء، واختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من هذه١ الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل : ابن أخته. وقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم ؛ لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا :" نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق٢ " [ البقرة : ١٣٣ ]. وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد.
الثانية – قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة ؛ لأنهم ليسو بمحرمين. وقال الشافعي : القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم٣ ولا غيره. وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول : لقرابتي وعقبي كقول : لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في " آل عمران " ٤. والحجة لهما قول سبحانه :" يوصيكم الله في أولادكم٥ " [ النساء : ١١ ] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى :" وللرسول ولذي القربى٦ " [ الأنفال : ٤١ ] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار : وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي ( إن ابني هذا سيد ). ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك ؛ لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة، والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى :" ومن ذريته داود " إلى قوله " من الصالحين " فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته.
قد تقدم في سورة ( النساء )٧ بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك : كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال : كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة " والياس " بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم " واليسع " بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما " والليسع ". وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ " واليسع " قال : لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس : وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول : اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ " الليسع " وقال : لا يوجد ليسع. وقال النحاس : وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي : من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام ؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر : اسمين لرجلين ؛ لأنهما معرفتان علمان. فأما " ليسع " نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي ؛ لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي : من قرأ " اليسع " بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله :
وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا | شديدا بأعباء الخلافة كاهلُه٨ |
وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله :
فيستخرج اليربوع من نافقائِه | ومن بيته بالشِّيخة اليَتَقَصَّعُ٩ |
٢ راجع ج ٢ ص ١٣٧..
٣ في ك: ابن العمة..
٤ راجع ج ٤ ص ١٠٤..
٥ راجع ج ٥ ص ٥٤ وص ١٥ ج ٦..
٦ راجع ج ٨ ص ١..
٧ راجع ج ٥ ص ٥٤ وص ١٥ ج ٦..
٨ البيت لابن ميادة..
٩ البيت لذي الخرق الطهوي، كما في شرح القاموس. النفقة (كالهمزة) والنافقاء: حجر الضب واليربوع. وقيل: موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أتى من قبل القاصعاء. (وهو جحره) ضرب النافقاء برأسه فخرج. والشيخة: رملة بيضاء ببلاد أسد وحنظلة. ويروى: جحره. وفي الأصول: ذو الشيخة..
١٠ من ك..
١١ من ك..
١٢ من ك..
١٣ من ع و ل..
١٤ أي من ذرية نوح..
١٥ من ع..
١٦ راجع ص ٢٤٣ من هذا الجزء..
[سورة الأنعام (٦): آية ٨٧]
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) " مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ هَدْينَا بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَّصْنَاهُمْ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى اخْتَرْنَاهُمْ، مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ. فَالِاجْتِبَاءُ ضَمُّ الَّذِي تَجْتَبِيهِ إِلَى خَاصَّتِكَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَجَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَبًّا، مَقْصُورٌ. وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ. قَالَ:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ «١»
وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الاصطفاء والهداية «٢».
[سورة الأنعام (٦): آية ٨٨]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) أَيْ لَوْ عَبَدُوا غَيْرِي لَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَلَكِنِّي عَصَمْتُهُمْ. وَالْحُبُوطُ الْبُطْلَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي البقرة «٣».
[سورة الأنعام (٦): آية ٨٩]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ" وَالْحُكْمَ" الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أَيْ بِآيَاتِنَا. هَؤُلَاءِ أَيْ كُفَّارُ عَصْرِكَ يَا مُحَمَّدُ. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ وَكَّلْنَا بِالْإِيمَانِ بها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) يريد
نفى الذم عن آل المحلق جفنة
الجفنة: القصة. والفهق: الامتلاء.
(٢). راجع ج ١ ص ١٤٦ وج ٢ ص ١٣٣ - ٣٢ ١.
(٣). راجع ج ٣ ص ٤٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٠]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الِاقْتِدَاءُ طَلَبُ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ فِي فِعْلِهِ. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وفيل: مَعْنَى" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" التَّوْحِيدُ وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا عُدِمَ فِيهِ النَّصُّ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أُخْتَ الربيع «٢» أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ" فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" سُبْحَانَ الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله (. قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا. قَالَ: فَمَا زَالَتْ «٣» حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إن من عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ (. فَأَحَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قول:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «٤» " الْآيَةَ. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهَا وَأَحَالَ عَلَيْهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا وُجِدَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: وهو الذي تقتضيه أصول مالك
(٢). الربيع: بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة بعدها عين مهملة. أما أم الربيع فهي بفتح الراء وكسر الموحدة وتخفيف الياء. راجع شرح النوري على صحيح مسلم باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها فقيه كلام طويل عن هذه القصة.
(٣). في ك وز. فما زالوا.
(٤). راجع ج ٦ ص ١٩١.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
(٢). من ك.
(٣). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهذا كِتابٌ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (أَنْزَلْناهُ) صِفَةٌ (مُبارَكٌ) أَيْ بُورِكَ فِيهِ، وَالْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى الحال. كذا (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ يُوَافِقُهَا فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وإثبات التوحيد. (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يريد المكة- وقد تقدم معنى تسميتها بذلك «٣» - وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَارِ." وَمَنْ حَوْلَها" يَعْنِي جَمِيعَ الْآفَاقِ. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يُرِيدُ أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل قوله: (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) إيمان مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام ولا بكتابه غير معتد به.
(٢). من ك، ز.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٣٨.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ. (مِمَّنِ افْتَرى) أَيِ اخْتَلَقَ. (عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نَزَلَتْ فِي رَحْمَانِ الْيَمَامَةِ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَسَجَاحَ زَوْجِ مُسَيْلِمَةَ، كُلُّهُمْ تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا في مسيلمة، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِقْهِ وَالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ السُّنَنِ فَيَقُولُ: وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا، أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا، فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنَ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا مِنَ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكُلِّيَّاتِ وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ، إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوصِ. وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ «١»، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِالْخَضِرِ، وَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ، عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُومِ. وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ، يُقْتَلُ قَائِلُهُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَلَا جَوَابٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ هَدُّ الْأَحْكَامِ وَإِثْبَاتُ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى فِي" الْكَهْفِ «٢» " مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٨ فما بعد.
(٢). أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان.
وَحَانَ لِتَالِكَ الْغُمَرِ انحسار
وغمرات الموت شدائده (والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْأَصْلُ بَاسِطُونَ. قِيلَ: بِالْعَذَابِ وَمَطَارِقِ الْحَدِيدِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «٥» "
(٢). في ك: والصافات.
(٣). من ك وز.
(٤). في ك: غمزة.
(٥). راجع ج ٨ ص ٢٨. [..... ]
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) هَذِهِ عبارة عن الحشر و" فُرادى " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ تَأْنِيثٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" فُرَادًا" بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ فُرَادٌ. وَحَكَى أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى" فُرَادَ" بِلَا تَنْوِينٍ، قَالَ: مِثْلُ ثُلَاثٍ ورباع. و" فرادى" جَمْعُ فَرْدَانَ كَسُكَارَى جَمْعِ سَكْرَانَ، وَكُسَالَى جَمْعِ كَسْلَانَ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ" فَرْدٌ" بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَ" فَرِدٌ" بِكَسْرِهَا، وَ" فَرَدٌ" بِفَتْحِهَا، وَ" فَرِيدٌ". وَالْمَعْنَى: جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا نَاصِرٍ مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبُكُمْ فِي الْغَيِّ، وَلَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «١» " فَرْدَى" مِثْلَ سَكْرَى وَكَسْلَى بِغَيْرِ أَلِفٍ. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أَيْ مُنْفَرِدِينَ كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم
(٢). في ك، ع، ب: النعم.
(٣). راجع ١٥ ص ٣٣٩.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٤.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) عَدَّ مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ ما يعجز عن أدنى شي مِنْهُ آلِهَتُهُمْ. وَالْفَلْقُ: الشَّقُّ، أَيْ يَشُقُّ النَّوَاةَ الْمَيِّتَةَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا وَرَقًا أَخْضَرَ، وَكَذَلِكَ الْحَبَّةُ. وخرج مِنَ الْوَرَقِ الْأَخْضَرِ نَوَاةً مَيِّتَةً وَحَبَّةً، وَهَذَا مَعْنَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى فَالِقٌ خَالِقٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُنِيَ بِالْفَلْقِ الشَّقُّ الَّذِي فِي الْحَبِّ وَفِي النَّوَى. وَالنَّوَى جَمْعُ نَوَاةٍ. وَيَجْرِي فِي كُلِّ ما له كَالْمِشْمِشِ «١» وَالْخَوْخِ. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) يُخْرِجُ الْبَشَرَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَالنُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْبَشَرِ الْحَيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «٢». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ «٣» إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ. (ذلِكُمُ اللَّهُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فَمِنْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَا تَرَوْنَ من قدرة الله جل وعز.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فالِقُ الْإِصْباحِ" نَعْتٌ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ. وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النهار، وكذلك الإصباح، أي
(٢). راجع ج ٤ ص ٥٦.
(٣). في ك: النسم.
قلت : فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه " وجاعل الليل ساكنا ". وأهل المدينة " وجاعل الليل سكنا " أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول :" اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك ). فإن قيل : كيف قال ( وأمتعني بسمعي وبصري ) وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما ( واجعله الوارث مني ) وذلك يفنى مع البدن ؟ قيل له : في الكلام تجوز، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل : إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر ؛ لقوله عليه السلام فيهما :( هما السمع والبصر ). وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى " حسبانا " أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز :" والشمس والقمر حسبانا " أي بحساب. الأخفش : حسبان جمع حساب، مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب : حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة، والحساب الاسم. وقال غيره : جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص، فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل :" حسبانا " أي ضياء. والحسبان : النار في لغة، وقد قال الله تعالى :" ويرسل عليها حسبانا من السماء " ١ [ الكهف : ٤٠ ]. قال ابن عباس : نارا. والحسبانة : الوسادة الصغيرة.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ «٢») بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَفِي النُّجُومِ مَنَافِعُ جَمَّةٌ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «٣» "." وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «٤» ". و" جَعَلَ" هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِبَارِ. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
خصهم لأنهم المنتفعون «٥» بها.
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يُرِيدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ «٦». (فَمُسْتَقَرٌّ) قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَالنَّخَعِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، إِلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ فيمن كَسَرَ الْقَافَ فَمِنْهَا" مُسْتَقِرُّ" وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى لَهَا" مُسْتَقَرٌّ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَلَهَا مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي تَمُوتُ فِيهَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْفَتْحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي الْقَبْرِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، والمستودع
(٢). في ك: من كمال قدرته.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٦٤.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٢١٠.
(٥). في ك: بذلك.
(٦). راجع ج ٦ ص ٣٨٧. [..... ]
قلت : وفي التنزيل " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " [ البقرة : ٣٦ ] والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب، وقد تقدم في ( البقرة )٢. " قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون " قال قتادة :" فصلنا " بينا وقررنا. والله أعلم٣.
٢ راجع ج ١ ص ٣٢١..
٣ من ك..
[سورة الأنعام (٦): آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأَوْلَى- قَوْلُهُ: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً) أَيِ الْمَطَرُ. (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ النَّبَاتِ. وَقِيلَ: رِزْقُ كُلِّ حَيَوَانٍ. (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ أَخْضَرَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرِنِيهَا نَمِرَةً أُرِكْهَا «٣» مطرة. والخضر «٤» رطب
(٢). من ك.
(٣). الهاء في أرنيها للسحابة والثمر من السحاب الذي فيه آثار كآثار النمر. وقيل: صغار متدان بعضها من بعض. وواحدتها نمرة ومطرة: بمعنى ماطرة. أي إذا رأيت دليل الشيء علمت ما يتبعه. يضرب لأمر يتيقن وقوعه إذا لاحت مخايله وتباشيره. (عن فرائد اللئالي ج ١ ص ٢٥٢ طبع بيروت).
(٤). الخضر: المادة الخضراء في النبات وهي مادة الحياة. وهى من أسرار قدرة الباري سبحانه.
طَوِيلَةَ الْأَقْنَاءِ وَالْأَثَاكِلِ «٢»
غَيْرُهُ:" أَقْنَاءُ" جَمْعُ الْقِلَّةِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: قَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ" قَنْوَانٌ" بِفَتْحِ الْقَافِ، وَرُوِيَ عَنْهُ ضَمُّهَا. فَعَلَى الْفَتْحِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ غَيْرُ مُكَسَّرٍ، بِمَنْزِلَةِ رَكْبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ، لِأَنَّ فِعْلَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ، وَضَمُّ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ وَهُوَ الْعِذْقُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) وَهِيَ الْكِبَاسَةُ، وَهِيَ عُنْقُودُ النَّخْلَةِ. وَالْعِذْقُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) النَّخْلَةُ نَفْسُهَا. وَقِيلَ: الْقِنْوَانُ الْجُمَّارُ." دَانِيَةٌ" قَرِيبَةٌ، يَنَالُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْهَا دَانِيَةٌ وَمِنْهَا بَعِيدَةٌ، فَحُذِفَ، وَمِثْلُهُ" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «٣» الْحَرَّ" وَخَصَّ الدَّانِيَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مِنَ الْغَرَضِ فِي الْآيَةِ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ وَالِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ، وَالِامْتِنَانُ فِيمَا يَقْرُبُ مُتَنَاوَلُهُ أكثر.
(٢). الأثاكل: جمع الإثكال والأثكول (لغة في العثكال والعشكول) وهو العذق الذي تكون فيه الشماريخ. وهذا عجز بيت. وصدره كما في الإنسان:
قد أبصرت سعدى بها كتائلى
والكتائل جمع كتيلة وهي النخلة الطويلة.
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٥٩.
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمْ | أَوْ مِثْلَ أُسْرَةِ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارِ «٢» |
(٢). البيت لجرير، يخاطب الفرزدق فيفخر عليه بسادات قيس لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس عيلان، وبنو سيار من فزارة من ذبيان من قيس. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٣٤.
(٢). في شواذ ابن خالويه:" يا نعمة" ابن محيص.
(٣). من ج وهـ وز وك.
الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا (هُوَ «٢» مَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ. وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ، وَهِيَ الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يُدْخَلَ فِي فَمِهِ عُودٌ قَدْ دُهِنَ زَيْتًا، فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ الْبِلَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْيَنْعُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ جَوَازُ بَيْعِ التَّمْرِ وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا وَيَأْمَنُ مِنَ الْعَاهَةِ، هُوَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَادَةِ وَأَحْكَمَهُ مِنَ العلم والقدرة. ذكر المعلى ابن أَسَدٍ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ عَسَلِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا صَبَاحًا رُفِعَتِ الْعَاهَةُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ). وَالثُّرَيَّا النَّجْمُ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَطُلُوعُهَا صَبَاحًا لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً تَمْضِي مِنْ شَهْرِ أَيَّارَ، وَهُوَ شَهْرُ مَايُو. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنُ الْأَصْفَرُ مِنَ الْأَحْمَرِ. السَّابِعَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ «٣» الْجَوَائِحَ فِي الثِّمَارِ بِهَذِهِ الْآثَارِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: طُلُوعُ الثُّرَيَّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ أَعْدُهُ، وَالْأَصْلُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَاعَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَبَضَهُ كَانَتِ الْمُصِيبَةُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَوْ كُنْتُ قَائِلًا بِوَضْعِ الجوائح لو ضعتها فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى وَضْعِهَا، لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَضَعُوهَا عَنِ الْمُبْتَاعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ اعْتَبَرُوا أَنْ تَبْلُغَ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ فَصَاعِدًا، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ أَلْغَوْهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا، إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَةٌ مِنْ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْقَلِيلُ مِنْ طِيبِهَا وَأَنْ يَلْحَقَهَا في اليسير منها
(٢). من ب وج وك وز ر ل.
(٣). في ز: أسقط بعض الجوائح.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ" هَذَا ذِكْرُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ، أَيْ فِيهِمْ مَنِ اعْتَقَدَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ. قال النحاس:" الْجِنَّ" مفعول أول، و" شُرَكاءَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ، مِثْلَ" وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «٣» "." وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً «٤» ". وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" الْجِنَّ" بَدَلًا مِنْ شُرَكَاءَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي" لِلَّهِ". وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ رَفْعَ" الْجِنِّ" بِمَعْنَى هُمُ الْجِنُّ." وَخَلَقَهُمْ" كَذَا قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ «٥»، أَيْ خَلَقَ الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْجِنَّ الشُّرَكَاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَهُوَ خَلَقَهُمْ" بِزِيَادَةِ هُوَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" وَخَلْقَهُمْ" بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَالَ: أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقَهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. الآية ونزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٢٣.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٦٩.
(٥). في ب وج وز وك: الجمهور.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠١]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُبْدِعُهُمَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يكون له ولد. و" بَدِيعُ" خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ أَيْ هُوَ بَدِيعٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ خَفْضَهُ عَلَى النَّعْتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَصْبَهُ بِمَعْنَى بَدِيعًا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَذَا خَطَأٌ عند البصريين لأنه لما مضى «٣».
(٢). في ج ك: من فعلهم.
(٣). اسم الفاعل يعمل عمل فعله إن كان صلة لأل مطلقا فإن لم يكن صلة لأل عمل بشرطين عند البصريين: أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال. وأجاز الكسائي عمله إذا كان للماضي.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٢]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ) " ذلِكُمُ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ." اللَّهُ رَبُّكُمْ" عَلَى الْبَدَلِ." خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" رَبُّكُمْ" الْخَبَرَ، وَ" خالِقُ" خَبَرًا ثَانِيًا، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُوَ خَالِقٌ. وَأَجَازَ الكسائي والقراء فيه النصب.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٣]
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَمِنْهَا الْإِدْرَاكُ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَالتَّحْدِيدِ، كَمَا تُدْرَكُ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالرُّؤْيَةُ ثَابِتَةٌ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا يُبْلَغُ كُنْهُ حَقِيقَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْرَكْتُ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثُ فِي الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" فِي الدُّنْيَا، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، لِإِخْبَارِ اللَّهِ بِهَا فِي قَوْلِهِ:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ «٣» ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ" وَقَالَ السُّدِّيُّ. وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ لِدَلَالَةِ التَّنْزِيلِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" يُونُسَ «٤» ". وَقِيلَ:" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" لَا تُحِيطُ به وهو يحيط بها،
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٠٥.
(٣). راجع ج ١٩ ص ١٠٥.
(٤). راجع ج ٨ ص ٣٣٠. [..... ]
(٢). أبو عائشة: كنية الامام مسروق.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢٣٩.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٩٢.
(٥). من ك.
(٦). راجع ج ١٦ ص ٧ وص ٥٢.
(٧). راجع ج ٦ ص ٢٤٢.
(٨). راجع ج ١٣ ص ٢٢٥.
(٢). كذا في كل الأصول، وهو منصوب على الاختصاص.
(٣). من ع.
(٤). راجع ص ٢٧٨ من هذا الجزء.
٢ راجع ج ٨ ص ٣٣٠..
٣ راجع ج ١٦ ص ٧ و ص ٥٢..
٤ أبو عائشة: كنية الإمام مسروق..
٥ راجع ج ١٩ ص ٢٣٩..
٦ راجع ج ١٧ ص ٩٢..
٧ من ك..
٨ راجع ج ١٦ ص ٧ و ص ٥٢..
٩ راجع ج٦ ص ٢٤٢..
١٠ راجع ج ١٣ ص ٢٢٥..
١١ راجع ج ١٧ ص ٩٢..
١٢ كذا في كل الأصول، وهو منصوب على الاختصاص..
١٣ من ع..
١٤ راجع ص ٢٧٨ من هذا الجزء..
١٥ راجع ج ١٦ ص ١٦..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٤]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ آيَاتٌ وَبَرَاهِينُ يُبْصَرُ بِهَا وَيُسْتَدَلُّ، جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الدَّلَالَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
جَاءُوا بصائرهم على أكتافهم... وبصيرتي يعدو بها عتد وَآيُ «٢»
يَعْنِي بِالْبَصِيرَةِ الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الظَّاهِرَةَ. وَوَصَفَ الدَّلَالَةَ بِالْمَجِيءِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهَا، إِذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ حُضُورُهُ لِلنَّفْسِ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَتِ الْعَافِيَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الْمَرَضُ، وَأَقْبَلَ السُّعُودُ وَأَدْبَرَ النُّحُوسُ (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) الْإِبْصَارُ: هُوَ الْإِدْرَاكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، أَيْ فَمَنِ اسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَنَفْسَهُ نفع. (وَمَنْ عَمِيَ) لَمْ يَسْتَدِلَّ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى، فَعَلَى نَفْسِهِ يعود
(٢). الذي في كتب اللغة:" راحوا... إلخ" وأن هذا البيت للأسعر الجعفي. يقول: إنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم أي لم يثأروا به وأنا طلب ثارى. والعتد (بفتح التاء وكسرها): الفرس التام الخلق السريع الوثبة معد للجري ليس فيه اضطراب ولا رخاوة. والوآى (بفتح الواو والمد): الفرس السريع المقتدر الخلق. [..... ]
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ" الْكَافُ (فِي «١» كَذَلِكَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ مِثْلَ مَا تَلَوْنَا عَلَيْكَ. أَيْ كَمَا صَرَّفْنَا الْآيَاتِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّنْبِيهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نُصَرِّفُ فِي غَيْرِهَا." وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُضْمَرٍ، أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ. وَقِيلَ: أَيْ" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" صَرَّفْنَاهَا، فَهِيَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا كَمَا تَقُولُ كَتَبَ فُلَانٌ هَذَا الْكِتَابَ لِحَتْفِهِ، أَيْ آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَذَا لَمَّا صُرِّفَتِ الْآيَاتُ آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَنْ قَالُوا: دَرَسْتَ وَتَعَلَّمْتَ مِنْ جَبْرٍ وَيَسَارٍ، وَكَانَا غُلَامَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي الْمَعْنَى قَوْلٌ آخَرُ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى" نُصَرِّفُ الْآياتِ" نَأْتِي بِهَا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ عَلَيْنَا، فَيَذْكُرُونَ «٢» الْأَوَّلَ بِالْآخَرِ. فَهَذَا حَقِيقَةٌ، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مَجَازٌ. وَفِي" دَرَسْتَ" سَبْعُ قِرَاءَاتٍ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ" دَارَسْتَ" بِالْأَلِفِ بَيْنَ الدَّالِ وَالرَّاءِ، كَفَاعَلْتَ. وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَهْلِ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى" دَارَسْتَ" تَالَيْتَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" درست" بفتح السين وإسكان التاء غَيْرِ أَلِفٍ، كَخَرَجَتْ. وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" دَرَسْتَ" كَخَرَجْتَ. فَعَلَى الْأُولَى: دَارَسْتَ أَهْلَ الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ:" وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «٣» " أي أعان اليهود النبي
(٢). في ك: فيلحقون.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٣.
"." إِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «٢» ". وَقِيلَ: الْمَعْنَى دَارَسْتَنَا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى دَرَسْتَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَاخْتَارَهُ، وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهُ مَجَازٌ، كَمَا قَالَ:
فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهُ «٣»
وَمَنْ قَرَأَ" دَرَسَتْ" فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي قِرَاءَتِهِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِئَلَّا يَقُولُوا انْقَطَعَتْ وَامَّحَتْ، وَلَيْسَ يَأْتِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِهَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ" دُرِسَتْ" أَيْ قُرِئَتْ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ" دَارَسَتْ". وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ، قَالَ: لِأَنَّ الْآيَاتِ لَا تُدَارِسُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقِرَاءَةُ بِهَذَا تَجُوزُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَاتِمٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ دَارَسَتْ أُمَّتُكَ، أَيْ دَارَسَتْكَ أُمَّتُكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، مثل قول:" حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ
«٤» ". وَحَكَى الْأَخْفَشُ" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" وَهُوَ بِمَعْنَى" دَرَسْتَ" إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغُ. وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قُرِئَ" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْأَمْرِ. وَفِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ، أَيْ فَلْيَقُولُوا بِمَا شَاءُوا فَإِنَّ الْحَقَّ بَيِّنٌ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً «٥» " فَأَمَّا مَنْ كَسَرَ اللَّامَ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ لَامُ كَيْ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا يَرْجِعُ اشْتِقَاقُهَا إِلَى شي واحد، إلى التليين والتذليل. و" دَرَسْتَ" مِنْ دَرَسَ يَدْرُسُ دِرَاسَةً، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْغَيْرِ. وَقِيلَ: دَرَسْتُهُ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ، وَأَصْلُهُ دَرَسَ الطَّعَامَ أَيْ دَاسَهُ. وَالدِّيَاسُ الدِّرَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا أَيْ أَخَلَقْتُهُ. وَقَدْ دَرَسَ الثَّوْبُ دَرْسًا أَيْ أَخْلَقَ. وَيَرْجِعُ هَذَا إِلَى التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لِكَثْرَةِ دِرَاسَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ. وَدَارَسْتُ الْكُتُبَ وَتَدَارَسْتُهَا وَادَّارَسْتُهَا أَيْ دَرَسْتُهَا. وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ دَرْسًا وَدِرَاسَةً. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال:
(٢). راجع ج ١٠ ص ٩٥.
(٣). هذا عجز بيت وصدره كما في المغني (حرف اللام):
فإن يكن الموت أفناهم
(٤). راجع ج ١٥ ص ١٩٥.
(٥). راجع ج ٨ ص ٢١٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٦]
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" يَعْنِي الْقُرْآنَ، أَيْ لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ وَخَاطِرَكَ بِهِمْ، بَلِ اشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ." لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" منسوخ.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٧]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) نَصَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ بِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ إِبْطَالٌ لِمَذْهَبِ القدرية. كمتقدم. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أَيْ لَا يُمْكِنُكَ حِفْظُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ قَيِّمٌ بِأُمُورِهِمْ فِي مَصَالِحِهِمْ لِدِينِهِمْ أو دنياهم، حتى تلطف لَهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا يَجِبُ لَهُمْ، فَلَسْتَ بِحَفِيظٍ فِي ذَلِكَ وَلَا وَكِيلٍ فِي هَذَا، إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغٌ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بالقتال.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٢٥.
الأولى - قوله تعالى :" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله " نهي. " فيسبوا الله " جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم ؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس : قالت كفار قريش لأبي طالب : إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه ؛ فنزلت الآية.
الثانية - قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب " الذين " على معتقد الكفرة فيها.
الثالثة - في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي : إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.
الرابعة - قوله تعالى :" عدوا " أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا " عدوا " بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع، كما قال :" فإنهم عدو لي إلا رب العالمين١ " [ الشعراء : ٧٧ ]. وقال تعالى :" هم العدو٢ " وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.
الخامسة - قوله تعالى :" كذلك زينا لكل أمة عملهم " أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر، وهو كقوله :" كذلك يضل الله من يشاء ويهدي٣ من يشاء " [ المدثر : ٣١ ]. وفي هذا رد على القدرية.
٢ راجع ج ١٨ ص ١٢٥..
٣ راجع ج ١٠ ص ١٧٢..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَقْسَمُوا" أَيْ حَلَفُوا. وَجَهْدُ الْيَمِينِ أَشَدُّهَا، وَهُوَ بِاللَّهِ فَقَوْلُهُ:" جَهْدَ أَيْمانِهِمْ" أَيْ غَايَةُ أَيْمَانِهِمُ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمُهُمْ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهَا قُدْرَتُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٢» ". وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِآبَائِهِمْ وَبِالْأَصْنَامِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ جَهْدَ الْيَمِينِ إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ." جَهْدَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ" أَقْسَمُوا" عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَالْجَهْدُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ): الْمَشَقَّةُ يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ بِجَهْدٍ. وَالْجُهْدُ (بِضَمِّهَا): الطَّاقَةُ يُقَالُ: هَذَا جُهْدِي، أَيْ طَاقَتِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمَا واحدا، ويحتج بقول" وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ «٣» ". وقرى" جُهْدَهُمْ" بِالْفَتْحِ، عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ. وَسَبَبُ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا بِأَنَّ مُوسَى ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَائِتِنَا بِبَعْضِ هَذِهِ الآيات حتى نصدقك. فقال: (أي شي تُحِبُّونَ)؟ قَالُوا: اجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَوَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتَهُ لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: (إِنْ شئت أصبح (الصفا «٤» ذهبا، ولين أَرْسَلَ اللَّهُ آيَةً وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَهَا لَيُعَذِّبَنَّهُمْ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٢٣.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢١٥.
(٤). من ك. [..... ]
(٢). في ك، ز: ألزمناه كفارتين.
(٣). في ك: فحمل.
(٤). من ز.
قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهْ | أَنَّ تُغَدِّي الْقَوْمَ مِنْ شِوَائِهْ |
أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي | إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ |
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي | أَرَى مَا ترين أو بخيلا مخلدا |
(٢). الصحيح أنه حاتم طى. كما في الصحاح للجوهري، وديوانه. ويروى: لعلني: فلا شاهد.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَلَا سِيَّمَا وَفِيهَا" وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ". قِيلَ: الْمَعْنَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَنْظَارَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى لَهَبِ النَّارِ وَحَرِّ الْجَمْرِ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا." وَنَذَرُهُمْ" فِي الدُّنْيَا، أَيْ نُمْهِلُهُمْ وَلَا نُعَاقِبُهُمْ، فَبَعْضُ الْآيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا. وَنَظِيرُهَا" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ «٤» " فَهَذَا فِي الْآخِرَةِ." عامِلَةٌ ناصِبَةٌ" فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: وَنُقَلِّبُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لَوْ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَمَّا دَعَوْتَهُمْ وَأَظْهَرْتِ الْمُعْجِزَةَ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ". وَالْمَعْنَى: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنُوا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَةُ فَرَأَوْهَا بِأَبْصَارِهِمْ وَعَرَفُوهَا بِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَانَ ذَلِكَ بِتَقْلِيبِ اللَّهِ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ. كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَدَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ الَّتِي عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهَا مِثْلَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَةَ هَؤُلَاءِ كيلا
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٤٠.
(٣). راجع ص ١٦٥، وص ٣٩٠ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ٢٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فَرَأَوْهُمْ عِيَانًا. (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ. (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) سَأَلُوهُ مِنَ الْآيَاتِ. قِبَلًا مُقَابَلَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ. وَقِيلَ: مُعَايَنَةً، لَمَّا آمَنُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: يكون" قُبُلًا" بمعنى ناحية، كما نقول: لِي قِبَلَ فُلَانٍ مَالٌ، فَقِبَلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" قُبُلًا" بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، وَمَعْنَاهُ ضُمَنَاءُ، فَيَكُونُ جَمْعَ قَبِيلٍ بِمَعْنَى كَفِيلٍ، نَحْوَ رَغِيفٍ وَرُغُفٍ، كَمَا قَالَ:" أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «٢» "، أَيْ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بِمَعْنَى قَبِيلٍ قَبِيلٍ، أي جماعة جماعة، وقال مُجَاهِدٌ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ" قُبُلًا" أَيْ مُقَابَلَةً، وَمِنْهُ" إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «٣» ". وَمِنْهُ قُبُلُ الرَّجُلِ وَدُبُرُهُ لَمَّا كَانَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ وَرَائِهِ. وَمِنْهُ قُبُلُ الْحَيْضِ. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا وَمُقَابَلَةً وَقَبَلًا وَقِبُلًا، كُلُّهُ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ، فَيَكُونُ الضَّمُّ كَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" قُبْلًا" حَذَفَ الضَّمَّةَ مِنَ الْبَاءِ لِثِقَلِهَا. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ يَكُونُ فِيهِ نُطْقُ مَا لَا يُنْطَقُ، وَفِي كَفَالَةِ مَا يَعْقِلُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَجْنَاسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْهُودٍ. وَالْحَشْرُ الْجَمْعُ. مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ اسْتِثْنَاءٍ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ لَكِنْ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ لهم. وقيل:
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٢٧.
(٣). راجع ج ٩ ص ١٧٢.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٢]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ) يُعَزِّي نَبِيَّهُ وَيُسَلِّيهِ، أَيْ كَمَا ابْتَلَيْنَاكَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلَكَ (عَدُوًّا) أي أعداء. ثم نعتهم فقال (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) حَكَى سِيبَوَيْهِ جَعَلَ بِمَعْنَى وَصَفَ." عَدُوًّا" مَفْعُولٌ أَوَّلُ." لِكُلِّ نَبِيٍّ" فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي." شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ" بَدَلٌ مِنْ عَدُوٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" شَياطِينَ" مَفْعُولًا أَوَّلَ،" عَدُوًّا" مَفْعُولًا ثَانِيًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَدُوًّا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:" شَيَاطِينَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" بِتَقْدِيمِ الْجِنِّ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) عِبَارَةٌ عَمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ شَيَاطِينُ الْجِنِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ. وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خِفْيَةً، وَجَعَلَ تَمْوِيهَهُمْ زُخْرُفًا لِتَزْيِينِهِمْ إِيَّاهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الذهب زخرفا. وكل شي حَسَنٍ مُمَوَّهٍ فَهُوَ زُخْرُفٌ. وَالْمُزَخْرَفُ الْمُزَيَّنُ. وَزَخَارِفُ الْمَاءِ طَرَائِقُهُ. وَ" غُرُوراً" نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى" يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْغُرُورُ الْبَاطِلُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" قَالَ: مَعَ كُلِّ جِنِّيٍّ شَيْطَانٌ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسِيٍّ شَيْطَانٌ، فَيَلْقَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ أَضْلَلْتُ صَاحِبِي بِكَذَا فَأَضِلَّ صَاحِبَكَ بِمِثْلِهِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا وَحْيُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ
إِنَّ النِّسَاءَ رَيَاحِينُ خُلِقْنَ لَكُمْ | وَكُلُّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِينِ |
إِنَّ النِّسَاءَ شَيَاطِينُ خُلِقْنَ لَنَا | نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٥٩.
(٣). من ك، ع، ج. والذي يعرف أن البيت لأحد أدباء البصرة رأى من النساء فأجبه حالهن فقال: إن النساء شياطين. البيت فأجابته إحداهن: إن النساء رياحين. البيت.
(٤). من ب.
(٥). يلاحظ أن الفعل في" وَذَرِ الَّذِينَ" وذرهم أمر، ولا يتجه بهما قول المؤلف. فلعل في الكلام سهوا، والعصمة لله.
(٦)." وَدَّعَكَ" بالتخفيف قراءة رويت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. غَيْرُ سبعية.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٣]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) تَصْغَى تَمِيلُ، يُقَالُ: صَغَوْتُ أَصْغُو صَغْوًا وَصُغُوًّا، وَصَغَيْتُ أَصْغَى، وَصَغَيْتُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا. يُقَالُ مِنْهُ: صَغِيَ يَصْغَى صَغًى وَصُغْيًا، وَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ إِصْغَاءً بِمَعْنًى قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ «١» | زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ |
صَغْوُهُ مَعَكَ وَصِغْوُهُ، وَصَغَاهُ مَعَكَ، أَيْ مَيْلُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ) يَعْنِي لِلْهِرَّةِ. وَأَكْرِمُوا فُلَانًا فِي صَاغِيَتِهِ، أَيْ فِي قَرَابَتِهِ الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْدَهُ. وَأَصْغَتِ النَّاقَةُ إِذَا أَمَالَتْ رَأْسَهَا إِلَى الرَّجُلِ كَأَنَّهَا تَسْتَمِعُ شَيْئًا حِينَ يَشُدُّ عَلَيْهَا الرَّحْلَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُوَرِ جَانِحَةً | حَتَّى إِذَا مَا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَا تَثِبُ «٤» |
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٨٨.
(٣). من ب، ز، ك.
(٤). الكور (بالضم): رحل الناقة بأداته وهو كالسرج وآلته للفرس قال ابن سيده: وكثير من الناس يفتح الكاف وهو خطأ وجانحة: مائلة لاصقة. والغرز: سير كالركاب توضيح فيه الرجل عند الركاب. صف ناقته بالفطانة وسرعة الحركة.
أَعْيَا اقْتِرَافُ الْكَذِبِ الْمَقْرُوفِ | تَقْوَى التَّقِيِّ وَعِفَّةُ الْعَفِيفِ «١» |
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) " غَيْرَ" نُصِبَ بِ" أَبْتَغِي"." حَكَماً" نَصْبٌ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَطْلُبُ لَكُمْ حَاكِمًا وَهُوَ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْآيَاتِ بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ، أَيِ الْمُبِيَّنُ. ثُمَّ قِيلَ: الْحَكَمُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّسْمِيَةَ بِحَكَمٍ إِلَّا مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، لِأَنَّهَا صِفَةُ تَعْظِيمٍ فِي مَدْحٍ. وَالْحَاكِمُ صِفَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَدْ يُسَمَّى بِهَا مَنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَسَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وعبد الله بن سلا. (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أَيِ الْقُرْآنَ. (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَحَقٌّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أَيْ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الَّذِينَ آتينا الْكِتَابَ وَهُمْ رُؤَسَاءُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أَيِ الْكُفَّارَ. (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) " إِنْ" بِمَعْنَى مَا، وَكَذَلِكَ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ يَحْدِسُونَ وَيُقَدِّرُونَ، وَمِنْهُ الْخَرْصُ، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى قَصْدَ الْمِرَانِ فِينَا كَأَنَّهُ | تَذَرُّعُ خِرْصَانَ بِأَيْدِي الشَّوَاطِبِ «٢» |
(٢). البيت لقيس بن الخطيم. والقصد (بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصده): القطعة مما يكسر والمران: نبات الرماح. أو الرماح الصلبة اللدنة. والتذرع: تقدير الشيء بذراع اليد والخرصان: القضبان من الجريد. والشواطب (جمع الشاطبة) وهى المرأة التي تقشر العسيب ثم تلقيه إلى المنقية فأخذ كل ما عليه بسكينها حتى تتركه رقيقا ثم تلقيه المنقية إلى الشاطبة ثانيه فتشطبه على ذراعها وتترعه. وقوله:" فينا كأنه عبارة الأصول. والذي في اللسان" تلقى كأنه" وفى ديوانه: تهوى كأنها".
تَحَالَفَتْ طَيْئُ مِنْ دُونِنَا حِلْفًا | وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنَّا لَهُمْ خُذُلًا «٢» |
اللَّهُ «٣» أَعْلَمُ أَنَّ جَفْنَتَهُ | تَغْدُو غَدَاةَ الرِّيحِ أَوْ تَسْرِي |
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٨]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) نَزَلَتْ بِسَبَبِ أُنَاسٍ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَنَزَلَتْ" فَكُلُوا" إِلَى قَوْلِهِ" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ عَطَاءٌ «٥»: هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أَيْ بِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ آخِذِينَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَتَضَمَّنُ وَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بها والانقياد لها.
(٢). في الأصول: فخالفت وخولا بالواو بدل الذال. والتصويب عن تفسير الطبري. والخذل: جمع خذول. [..... ]
(٣). في ب وج ك وز وى: القوم.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٠٠.
(٥). في ك: قتادة.
[سورة الأنعام (٦): آية ١١٩]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ): الْمَعْنَى ما المانع لمن أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بأيديكم. (وَقَدْ فَصَّلَ) أَيْ بَيَّنَ لَكُمُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَأُزِيلَ عَنْكُمُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ. فَ" مَا" اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ التقرير. وتقدير الكلام: وأى شي لكم في ألا تأكلوا." فأن" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَلَّا يُقَدَّرَ حَرْفُ جَرٍّ، وَيَكُونُ النَّاصِبُ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ" مَا لَكُمْ" تَقْدِيرُهُ أَيْ مَا يَمْنَعُكُمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) يُرِيدُ مِنْ جَمِيعِ مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي «١» الْبَقَرَةِ. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ" وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ" بِفَتْحِ الْفِعْلَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالضَّمِّ فِيهِمَا، وَالْكُوفِيُّونَ" فَصَّلَ" بِالْفَتْحِ" حُرِّمَ" بِالضَّمِّ. وَقَرَأَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ" فَصَلَ" بِالتَّخْفِيفِ. وَمَعْنَاهُ أَبَانَ وَظَهَرَ، كَمَا قُرِئَ" الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «٢» " أَيِ اسْتَبَانَتْ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ:" فَصَّلَ" أَيْ بَيَّنَ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ" مِنْ قَوْلُهُ:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ «٣» " الْآيَةَ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ" الْأَنْعَامَ" مَكِّيَّةٌ وَالْمَائِدَةَ مَدَنِيَّةٌ فَكَيْفَ يُحِيلُ بِالْبَيَانِ عَلَى مَا لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَصَّلَ بِمَعْنَى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ «٤») وقرا الكوفيون" يضلون" من أضل (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ) علم يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا: مَا ذَبَحَ اللَّهُ بِسِكِّينِهِ خَيْرٌ مِمَّا ذَبَحْتُمْ بِسَكَاكِينِكُمْ" بِغَيْرِ عِلْمٍ" أَيْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْلَمُونَهُ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ، إِذِ الْحِكْمَةُ فِيهِ إِخْرَاجُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنَ الدَّمِ بِخِلَافِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَلِذَلِكَ شَرَعَ الذَّكَاةَ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ الذَّبْحُ فِيهِ سَبَبًا لِجَذْبِ كُلِّ دَمٍ فِي الْحَيَوَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَاللَّهُ أعلم.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢.
(٣). راجع ج ٦ ص ٤٧.
(٤). قراءة نافع.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٠]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مَا كَانَ عَمَلًا بِالْبَدَنِ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَبَاطِنَهُ مَا عَقَدَ بِالْقَلْبِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَأَحْسَنَ، كَمَا قَالَ:" ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا". وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ. حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَائِدَةِ «١». وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل فِي الْبَاطِنِ. وَمَا قَدَّمْنَا جَامِعٌ لِكُلِّ إِثْمٍ (وموجب لكل أمر «٢».
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢١]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى أَبُو دَاوُدَ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" قَالَ: خَاصَمَهُمُ «٣» الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُوهُ وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا، فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَتَنْشَأُ هُنَا مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يُقْصَرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيمَا يَذْكُرُهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً مِنْ صِيَغِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ. أَمَّا ما ذكره
(٢). من ك.
(٣). أي خاصم المؤمنين المشركين.
«١» ". وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا عَلَيْهِ مِنَ الذَّبْحِ، وَعِنْدَ إِرْسَالِ الصَّيْدِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ، وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) ٢ (:- الثَّالِثَةُ- الْقَوْلُ) ٢ (الْأَوَّلُ-: إِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أَكَلَا جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلَا، وقال فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعِيسَى وَأَصْبَغَ، وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا إِذَا كَانَ نَاسِيًا. الثَّانِي: إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا يَأْكُلُهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي عِيَاضٍ وَأَبِي رَافِعٍ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَةَ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُرِكَتِ التسمية عليها عمدا أو نسيانا. و (روي «٢» عَنْ رَبِيعَةَ أَيْضًا. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: التَّسْمِيَةُ سُنَّةٌ، فَإِذَا تَرَكَهَا الذَّابِحُ نَاسِيًا أُكِلَتِ الذَّبِيحَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. الثَّالِثُ: إِنْ تَرَكَهَا عامدا أو ساهيا «٣» حرم أكلها، قال مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَنَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْخَطْمِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. الرَّابِعُ: إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا كُرِهَ أَكْلُهَا، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ وَالشَّيْخُ أبو بكر من علمائنا.
(٢). من ك.
(٣). في ك: ناسيا.
(٢). من ك.
(٣). من ك.
(٤). في ك: يعطلها.
الأولى - روى أبو داود قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله عز وجل :" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " إلى آخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى :" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " قال : خاصمهم١ المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم : لا تأكلوا، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي :
الثانية - أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا ؟ فقال علماؤنا : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه، إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لَحِقَ بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول :" لا تأكلوا " ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول :" وما أهل به لغير الله " ٢ [ البقرة : ١٧٣ ]. وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي [ المسألة ] :٣
الثالثة : القول٤ الأول : إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا، وقاله في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، واختاره النحاس وقال : هذا أحسن ؛ لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا. الثاني : إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال : تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. وروي٥ عن ربيعة أيضا. قال عبدالوهاب : التسمية سنة، فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه.
الثالث : إن تركها عامدا أو ساهيا٦ حرم أكلها، قاله محمد بن سيرين وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وعبدالله بن عمر ونافع وعبدالله بن زيد الخطمي والشعبي، وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية.
الرابع : إن تركها عامدا كره أكلها، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.
الخامس : قال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. أدلة٧ قال الله تعالى :" فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " [ الأنعام : ١١٨ ] وقال :" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول :" لا تأكلوا " نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة ؛ لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا ؛ وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه، فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول : قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكرٍ بلساني، فذلك يجزئه ؛ لأنه ذكر الله جل جلال وعظمه. أو يقول : إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة، فهذا أيضا يجزئه. أو يقول : لا أسمي، وأي قدر للتسمية، فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي : وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين حيث قال : ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح :( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ). فإن قيل : المراد بذكر اسم الله بالقلب ؛ لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب : اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا : الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، واشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك : هل يسمي الله تعالى إذا توضأ ؟ فقال : أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله :( اسم الله على قلب كل مؤمن ) فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة ؛ لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا : يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سموا الله عليه وكلوا ". أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله. وتأول بأن قال في آخره : وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ". قال أبو عمر : وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى :" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " نزل في سورة " الأنعام " بمكة. ومعنى " وإنه لفسق " أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق : الخروج. وقد تقدم٨.
الرابعة - قوله تعالى :" وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله :" وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله " ولا تأكلوا مما لو يذكر اسم الله عليه " قال عكرمة : عني بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبدالله بن كثير : بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبدالله بن الزبير أنه قيل له : إن المختار يقول : يوحى إلي فقال : صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله٩ :" ليجادلوكم ". يريد قولهم١٠ : ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة : دفع القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل : هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل : هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها١١، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل.
الخامسة - قوله تعالى :" وإن أطعتموهم " أي في تحليل الميتة " إنكم لمشركون ". فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا، فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي : إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد، فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص ؛ فافهموه. وقد مضى في " المائدة " ١٢.
٢ راجع ج ٢ ص ٢١٦..
٣ من ك..
٤ من ك..
٥ من ك..
٦ في ك: ناسيا..
٧ من ب و ج و ك و ع و ي..
٨ راجع ج ١ ص ٢٤٤..
٩ من ك..
١٠ من ك..
١١ في ك: يعطلها..
١٢ راجع ج ٦ ص ٢٥٤ و ص ٣٠١..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَرَوَى الْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ" أَوَمَنْ كانَ" بِإِسْكَانِ الْوَاوِ. قال النحاس: يحوز أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيِ انْظُرُوا وَتَدَبَّرُوا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا." أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ" قِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ مَيْتًا حِينَ كَانَ نُطْفَةً فَأَحْيَيْنَاهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، حَكَاهُ ابن بحر. وقال ابن عباس: أو من كَانَ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ. نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ:" فَأَحْيَيْناهُ" عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «٢»." كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ «٣». وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَقِيلَ: كَانَ مَيْتًا بِالْجَهْلِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْعِلْمِ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِبَعْضِ شُعَرَاءِ (الْبَصْرَةِ «٤»:
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ | فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ |
وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ | فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ |
(٢). من ع.
(٣). من ع.
(٤). من ج وك وى وع وز. وفي اوب: العرب.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٢٤٢ وص ٢٤٥.
(٦). راجع ج ٦ ص ٣٠٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) الْمَعْنَى: وَكَمَا زَيَّنَّا لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قرية." مُجْرِمِيها" مفعول أول لجعل" أَكابِرَ" مفعول ثاني عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَجَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ. وَالْأَكَابِرُ جَمْعُ الْأَكْبَرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ الْعُظَمَاءَ»
. وَقِيلَ: الرُّؤَسَاءُ وَالْعُظَمَاءُ. وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الْفَتْلُ، فَالْمَاكِرُ يَفْتِلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ أَيْ يَصْرِفُ عَنْهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُجْلِسُونَ عَلَى كُلِّ عَقَبَةٍ أَرْبَعَةً يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِأَنْبِيَائِهِمْ. (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أَيْ وَبَالُ مَكْرِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ. وَهُوَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْجَزَاءُ عَلَى مَكْرِ الْمَاكِرِينَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. (وَما يَشْعُرُونَ) فِي الْحَالِ، لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ أَنَّ وَبَالَ مَكْرِهِمْ عَائِدٌ إليهم.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ" بَيَّنَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ جَهْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نَكُونَ أَنْبِيَاءَ، فَنُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى من الآيات، ونظيره
(٢). في الأصول العلماء والنصوب من الطبري عن مجاهد.
٢ قراءة نافع..
٣ في اللسان: نبتها صغير لم يطل..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٥]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
(٢). قراءة. [..... ]
(٣). في اللسان: نبتها صغير لم يطل.
كَمْ قَدْ أَكَلْتَ كَبِدًا وَإِنْفَحَهْ | ثُمَّ ادَّخَرْتَ إِلَيْهِ مُشَرَّحَهْ |
(٢). في ك: عين.
(٣). الأولى أن يكون حرجا: المتزايد في الضيق فيكون أخص من الأول.
(٤). الشجر الملتف.
فَإِمَّا تَرَيْنِي فِي رِحَالَةِ جَابِرٍ | عَلَى حَرَجٍ كَالْقَرِّ تَخْفُقُ أَكْفَانِي «١» |
يَتْبَعْنَ قُلَّةَ رَأْسِهِ وَكَأَنَّهُ | حَرَجٌ عَلَى نَعْشٍ لَهُنَّ مُخَيَّمُ «٢» |
(٢). وصف نعامة يتبعها رئالها وهو يبسط جناحيه ويجعلها تحته.
(٣). تفوق شرابه: شربه شيئا بعد شي.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٦]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أَيْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ وَالْمُؤْمِنُونَ دِينُ رَبِّكَ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أَيْ بَيَّنَّاهَا (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٧]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُمْ) أَيْ لِلْمُتَذَكِّرِينَ. (دارُ السَّلامِ) أَيِ الْجَنَّةُ، فَالْجَنَّةُ دَارُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أن يكون المدار السَّلَامَةِ، أَيِ الَّتِي يُسْلَمُ فِيهَا مِنَ الْآفَاتِ. ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ مَضْمُونَةٌ لَهُمْ عِنْدَهُ يُوَصِّلُهُمْ إِلَيْهَا بِفَضْلِهِ. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أَيْ نَاصِرُهُمْ وَمُعِينُهُمْ.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
يَعْنِي الْمَوْتَ وَالْقَبْرَ، وَوَافَيْنَا نَادِمِينَ. (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) أَيْ مَوْضِعُ مُقَامِكُمْ. وَالْمَثْوَى الْمُقَامُ. (خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَرْجِعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ ومقدار مدتهم في الحساب، فالاستثناء قطع. وَقِيلَ: يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْذِيبِكُمْ بِغَيْرِ النَّارِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الِاسْتِثْنَاءُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ. فَ" مَا" عَلَى هَذَا بِمَعْنَى مَنْ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْوَقْفَ فِيمَنْ لَمْ يَمُتْ، إِذْ قَدْ يُسْلِمُ. وَقِيلَ:" إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ" مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي فِي" هُودٍ". قول:" فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ" وَهُنَاكَ يَأْتِي مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ «٤» اللَّهُ. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ أي في عقوبتهم وفي جميع أفعال عليم بمقدار مجازاتهم.
(٢). في ك: بزعيم.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٨.
(٤). راجع ج ٩ ص ٩٩.
٢ في ك: بزعيم..
٣ راجع ج ١٩ ص ٨..
٤ راجع ج ٩ ص ٩٩..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً" الْمَعْنَى وَكَمَا فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ مِمَّا وَصَفْتُهُ لَكُمْ مِنِ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ أَجْعَلُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ غَدًا. وَمَعْنَى" نُوَلِّي" عَلَى هَذَا نَجْعَلُ وَلِيًّا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نُسَلِّطُ ظَلَمَةَ الْجِنِّ عَلَى ظَلَمَةِ الْإِنْسِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: نُسَلِّطُ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى بَعْضٍ فَيُهْلِكُهُ وَيُذِلُّهُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ إِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ظَالِمًا آخَرَ. وَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ جَمِيعُ مَنْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ «١» أَوْ يَظْلِمُ الرَّعِيَّةَ، أَوِ التَّاجِرُ يَظْلِمُ النَّاسَ فِي تِجَارَتِهِ أَوِ السَّارِقُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِذَا رَأَيْتَ ظَالِمًا يَنْتَقِمُ مِنْ ظَالِمٍ فَقِفْ، وَانْظُرْ فِيهِ مُتَعَجِّبًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا رَضِيَ الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سَخِطَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ وَلَّى أَمْرَهُمْ شِرَارَهُمْ. وَفِي الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ). وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَكِلُ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِيمَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا نَكِلُهُمْ غَدًا إِلَى رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَيْ كَمَا نَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى «٢» " نَكِلْهُ إِلَى مَا وَكَلَ إِلَيْهِ نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَفْسِيرُهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا «٣» وَلَّى أَمْرَهُمْ شِرَارَهُمْ. يَدُلُّ عليه قول تَعَالَى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «٤» ".
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٠]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ)
أَيْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نَقُولُ (لَهُمْ «٥») أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ فَحُذِفَ، فَيَعْتَرِفُونَ بما فيه افتضاحهم. ومعنى"نْكُمْ
" في الخلق والتكليف والمخاطبة.
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٨٥.
(٣). في ك.: سوءا.
(٤). راجع ج ٦١ ص ٣٠.
(٥). من ك.
" وَإِنْ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ وَغَلَبَ الْإِنْسُ فِي الْخِطَابِ كَمَا يُغَلَّبُ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُسُلُ الْجِنِّ هُمُ الَّذِينَ بَلَّغُوا قَوْمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْوَحْيِ، كَمَا قَالَ:" وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «١» ". وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: أَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا أَرْسَلَ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ، وَالنُّذُرُ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ قَرَأَ" إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «٢» ". وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَحْقَافِ «٣» ". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ «٤»: كَانَتِ الرُّسُلُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُونَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، بَلْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ) الْحَدِيثَ. عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَحْقَافِ «٥» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الرُّسُلُ تُبْعَثُ إِلَى الْإِنْسِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ذكره أبو الليث السمر قندي. وَقِيلَ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ: اسْتَمَعُوا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ، كَالْحَالِ مَعَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَيُقَالُ لَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى إِرْسَالِهِمْ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٦» " أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ، فَمَعْنَى"نْكُمْ
" أَيْ مِنْ أَحَدِكُمْ. وَكَانَ هَذَا جَائِزًا، لِأَنَّ ذِكْرَهُمَا سَبَقَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا صَيَّرَ الرُّسُلَ فِي مَخْرَجِ اللَّفْظِ مِنَ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الثَّقَلَيْنِ قَدْ ضَمَّتْهُمَا عَرْصَةُ الْقِيَامَةِ، وَالْحِسَابُ عَلَيْهِمْ دُونَ الْخَلْقِ، فَلَمَّا صَارُوا فِي تِلْكَ الْعَرْصَةِ فِي حِسَابٍ وَاحِدٍ فِي شَأْنِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ خُوطِبُوا يَوْمَئِذٍ بِمُخَاطَبَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ بَدْءَ خَلْقِهِمْ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْجِنَّ أَصْلُهُمْ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَصْلُنَا مِنْ تُرَابٍ، وَخَلْقُهُمْ غَيْرُ خَلْقِنَا، فَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وكافر.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢١٠.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢١٠.
(٤). في ك: قال مقاتل: وهو معنى إلخ.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٢١٠.
(٦). راجع ج ١٧ ص ١٦١.
قلت : وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ) الحديث. على ما يأتي بيانه في " الأحقاف ". وقال ابن عباس : كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس، ذكره أبو الليث السمرقندي. وقيل : كان قوم من الجن : استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم، كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم. وفي التنزيل :" يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان٦ " [ الرحمن : ٢٢ ] أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى " منكم " أي من أحدكم. وكان هذا جائزا ؛ لأن ذكرهما سبق. وقيل : إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع ؛ لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة ؛ لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر. وعدونا إبليس عدوهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء : شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة " الجن " من قوله :" وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون " [ الجن : ١٤ ]. " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا " ٧ [ الجن : ١١ ] على ما يأتي بيانه هناك. " يقصون " في موضع رفع نعت لرسل. " قالوا شهدنا على أنفسنا " أي شهدنا أنهم بلغوا. " وغرتهم الحياة الدنيا " قيل : هذا خطاب من الله للمؤمنين، أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا. " وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " أي اعترفوا بكفرهم. قال مقاتل : هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون٨.
٢ راجع ج ١٦ ص ٢١٠..
٣ راجع ج ١٦ ص ٢١٠..
٤ راجع ج ١٦ ص ٢١٠..
٥ في ك: قال مقاتل: وهو معنى الخ..
٦ راجع ج ١٧ ص ١٦١..
٧ راجع ج ١٩ ص ١٤..
٨ من ك..
" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لِرُسُلٍ. (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) أَيْ شَهِدْنَا أَنَّهُمْ بَلَّغُوا. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهَا تَدُومُ، وَخَافُوا زَوَالَهَا عَنْهُمْ إِنْ آمَنُوا. (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أَيِ اعْتَرَفُوا بِكُفْرِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ «٢».
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣١]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. و" إِنَّ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ إِنَّمَا فَعَلْنَا هَذَا بِهِمْ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أُهْلِكُ الْقُرَى بِظُلْمِهِمْ، أَيْ بِشِرْكِهِمْ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ. وَقِيلَ: لَمْ أَكُنْ أُهْلِكُ الْقُرَى بِشِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِثْلُ" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «٣» ". وَلَوْ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيدُ. وَقَدْ قَالَ عِيسَى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «٤» " وَقَدْ تَقَدَّمَ «٥». وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ" ذلِكَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى: فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يهلك القرى بظلم.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٢]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أَيْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ" ثُمَّ قَالَ:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ". وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ، وَالْعَاصِيَ مِنْهُمْ فِي النَّارِ، كَالْإِنْسِ سَوَاءً. وَهُوَ أصح
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٥٧.
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٧٧. [..... ]
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٩٦.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٣]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) أَيْ عَنْ خَلْقِهِ وَعَنْ أَعْمَالِهِمْ. (ذُو الرَّحْمَةِ) أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) بِالْإِمَاتَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِالْعَذَابِ. (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ)
أَيْ خَلْقًا آخَرَ أَمْثَلَ مِنْكُمْ وَأَطْوَعَ. (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ يَسْتَخْلِفُ مِنْ بعدكم ما يشاء استخلافا مئل مَا أَنْشَأَكُمْ، وَنَظِيرُهُ" إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ»
"." وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «٢» ". فَالْمَعْنَى يُبَدِّلُ غَيْرُكُمْ مَكَانَكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ مِنْ دِينَارِكَ ثَوْبًا.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٤]
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ" أَوْعَدْتُ" فِي الشَّرِّ، وَالْمَصْدَرُ الْإِيعَادُ. وَالْمُرَادُ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ" وَعَدْتُ" عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّاعَةَ الَّتِي فِي مَجِيئِهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَغُلِّبَ الْخَيْرُ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ. (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أَيْ فَائِتِينَ، يُقَالُ: أَعْجَزَنِي فُلَانٌ، أَيْ فَاتَنِي وغلبني.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٥]
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٥٧.
٢ راجع ج ١٠ ص ٣٦٤..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَيُقَالُ: ذَرَأَ يَذْرَأُ ذَرْءًا، أَيْ خَلَقَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ «٣»، وَهُوَ وَجَعَلُوا لِأَصْنَامِهِمْ نَصِيبًا، دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَكَانَ هذا مما زينه الشيطان وسؤله لهم، (حتى «٤» صرفوا من ماله طَائِفَةً إِلَى اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَطَائِفَةً إِلَى أَصْنَامِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. جَعَلُوا لِلَّهِ جُزْءًا وَلِشُرَكَائِهِمْ جُزْءًا، فَإِذَا ذَهَبَ مَا لِشُرَكَائِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَعَلَى سَدَنَتِهَا عُوِّضُوا مِنْهُ مَا لِلَّهِ، وَإِذَا ذَهَبَ مَا لله بالإنفاق عَلَى الضِّيفَانِ وَالْمَسَاكِينِ لَمْ يُعَوَّضُوا مِنْهُ شَيْئًا، وقالوا:
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٦٤.
(٣). في ك: إضمار.
(٤). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٧٢.
لبيك يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ
أَيْ يُبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ «١» " التَّقْدِيرُ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ" قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ «٢» " بِمَعْنَى قَتَلَهُمُ النَّارُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَهْلِ الشَّامِ فَلَا يَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا فِي شِعْرٍ، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ لَا يَفْصِلُ، فَأَمَّا بِالْأَسْمَاءِ غَيْرِ الظُّرُوفِ فَلَحْنٌ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا ضَعْفٌ لِلتَّفْرِيقِ «٣» بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا التَّفْرِيقِ فِي الشِّعْرِ مَعَ الظُّرُوفِ لِاتِّسَاعِهِمْ فِيهَا وَهُوَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ فِي الشِّعْرِ بَعِيدٌ، فَإِجَازَتُهُ فِي الْقِرَاءَةِ «٤» أَبْعَدُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ هَذِهِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَزَجَجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ | زَجَّ الْقُلُوصِ أَبِي مَزَادَةَ «٥» |
تَمُرُّ عَلَى مَا تَسْتَمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ | غلائل عبد القيس منها صدورها |
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٨٤.
(٣). في ك: لأنه لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه.
(٤). في ك، ز: القرآن.
(٥). ذكر الأخفش هذا البيت ولم يعزه إلى أحد. والزج ها هنا الطعن، والمزجة بكسر الميم: رمح قصير كالمزاريق. والقلوص بفتح القاف: الفتية من النوق يخير أنه زج امرأته كما زج أبو مزادة القلوص. وأبو كنيه رجل. راجل شرح الشواهد الكبرى للعينى في باب الإضافة. [..... ]
كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفٍّ يَوْمًا | يَهُودِيٌّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ «١» |
كَأَنَّ أَصْوَاتَ مِنْ إِيغَالِهِنَّ بِنَا | أَوَاخِرُ الْمَيْسِ أَصْوَاتُ الْفَرَارِيجِ «٢» |
لما رأت ساتيدما اسْتَعْبَرَتْ | لِلَّهِ دَرُّ الْيَوْمَ مَنْ لَامَهَا «٣» |
(٢). البيت لذي الرمة. والشاهد فيه إضافه الأصوات إلى أواخر الميس مع فصله بالمجرور ضرورة. والميس: شجر تعمل منه الرحال. والإيغال: سرعة السير. يقول: كأن أصوات أواخر الميس من شده سير الإبل بنا واضطراب رحالها عليها أصوات الفراريج عن شرح الشواهد.
(٣). البيت لعمر بن قميئة. والشاهد فيه إضافة الدر إلى من مع جواز الفصل بالظرف ضرورة إذا لم يمكنه إضافة الدار إليه. وصف امرأة نظرت إلى ساتيدما وهو جبل بعينه بعيد من ديارها، فذكرت به بلادها فاستعبرت شوقا إليها (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(٤). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٨]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
ذَكَرَ (تَعَالَى) نوعا آخر جَهَالَتِهِمْ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ" حُجُرٌ" بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ" حَجْرٌ" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا" حُجْرٌ" بِضَمِّ الْحَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ هَارُونَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَضُمُّ الْحَاءَ فِي" حِجْرٍ" فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ:" بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً «٢» " فَإِنَّهُ كَانَ يَكْسِرُهَا ها هنا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ" وَحَرْثٌ حِرْجٌ" الرَّاءُ قَبْلَ الْجِيمِ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِثْلُ جَبَذَ وَجَذَبَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ- وَهُوَ أَصَحُّ- أَنَّهُ مِنَ الْحِرْجِ، فَإِنَّ الْحِرْجَ (بِكَسْرِ الْحَاءِ) لُغَةٌ فِي الْحَرَجِ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) وَهُوَ الضِّيقُ وَالْإِثْمُ، فَيَكُونُ معناه الحرام. ومنفلان يَتَحَرَّجُ أَيْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ الدُّخُولَ فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرَامِ. وَالْحِجْرُ: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحَرَامِ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ. وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِمَنْعِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ. وَفُلَانٌ فِي حِجْرِ الْقَاضِي أَيْ مَنْعِهِ. حَجَرْتُ عَلَى الصَّبِيِّ حَجْرًا. وَالْحِجْرُ الْعَقْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ «٣» " وَالْحِجْرِ الْفَرَسُ الْأُنْثَى. وَالْحِجْرُ الْقَرَابَةُ. قَالَ:
يُرِيدُونَ أَنْ يُقْصُوهُ عَنِّي وَإِنَّهُ | لَذُو حَسَبٍ دَانٍ إِلَيَّ وَذُو حِجْرٍ |
(٢). راجع ج ١٣ ص ٥٨.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٤٢.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٣٩]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جَهْلِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّبَنُ، جَعَلُوهُ حَلَالًا لِلذُّكُورِ وَحَرَامًا عَلَى الْإِنَاثِ. وَقِيلَ: الْأَجِنَّةُ، قَالُوا: إِنَّهَا لِذُكُورِنَا. ثُمَّ إِنْ مَاتَ منها شي أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالْهَاءُ فِي" خالِصَةٌ" لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْخُلُوصِ، وَمِثْلُهُ رَجُلٌ عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ، عَنِ الكسائي والأخفش. و" خالِصَةٌ" بِالرَّفْعِ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ" مَا". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَأْنِيثُهَا لِتَأْنِيثِ الْأَنْعَامِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ قَوْمٍ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا فِي بُطُونِهَا لَيْسَ مِنْهَا، فَلَا يُشْبِهُ (قَوْلَهُ) «٢» " يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «٣» " لِأَنَّ بَعْضَ السَّيَّارَةِ سَيَّارَةٌ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ (قَالَ «٤» الْفَرَّاءُ: فَإِنَّ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ أَنْعَامٌ مِثْلُهَا، فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِهَا، أَيِ الْأَنْعَامُ الَّتِي فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا. وَقِيلَ: أَيْ جَمَاعَةُ مَا فِي الْبُطُونِ. وَقِيلَ: إِنَّ" مَا" تَرْجِعُ إِلَى الْأَلْبَانِ أَوِ الْأَجِنَّةِ، فَجَاءَ التَّأْنِيثُ على المعنى والتذكير على اللفظ.
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ٩ ص ١٣٣.
(٤). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
أَخْبَرَ بخسرانهم لو أدهم الْبَنَاتِ وَتَحْرِيمِهِمُ الْبَحِيرَةَ وَغَيْرَهَا بِعُقُولِهِمْ، فَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا خَوْفَ الْإِمْلَاقِ، وَحَجَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَخْشَوُا الْإِمْلَاقَ، فَأَبَانَ ذَلِكَ عَنْ تَنَاقُضِ رَأْيِهِمْ. قُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقْتُلُ وَلَدَهُ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ سَفَهًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْهُمْ فِي قَتْلِهِمْ، وَهُمْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ، وَكَانُوا
(٢). من ك وع.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤١]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
(٢). في ك: أي شي.
(٣). في ب: فكنت.
الشَّرُّ مُنْتَشِرٌ يَلْقَاكَ عَنْ عُرُضٍ | وَالصَّالِحَاتُ عَلَيْهَا مُغْلَقًا بَابُ |
" أي إليهما. وقد تقدم هذا المعنى.
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٦.
(٣). كذا في الأصول والمتبادر أن العبارة: أو أنه أنشأها إلخ فيكون هذا جوابا ثان كما يستفاد من العبارة الآتية والخامس.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٠٩.
(٢). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فإنها مكية.
(٢). في ع: وإذا عزمت على كلية فأخرج لهم زكاته.
(٣). راجع ج ٨ ص ١٤٤.
(٤). راجع ج ١ ص ٣٤٣.
(٥). النضح: سقى الزرع وغيره بالسانيه وهى الناقة يستقي عليها.
(٦). في ك: الشعف: هو قشر الغاف. [..... ]
(٧). الذريرة: قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به.
(٨). يعنى الحبوب الستة أي والذرة والسلت فإنه لا خلاف بينهم في زكاتها.
(٢). من ك.
(٣). الفرسك: الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر أو ما ينفلق عن نواة.
(٤). في ك: محتملاتها.
(٥). راجع ج ٦ ص ٢٤٢.
(٢). المقاثي. (جمع مقثأة بفتح الثاء وضمها): موضع القثاء.
(٣). كذا في ج وك وز: وفي أو ب: أينعت.
(٤). من ك.
(٢). الإجاص: شجر معروف واحدته إجاصة. ثمره حلو لذيذ.
(٣). في ك: والأولى ما قاله بمصر. [..... ]
(٤). في ك: والفقهاء جميعا.
(٢). ستأتي معاني الخرص في المسألة التاسعة.
(٣). في ك وز وى: وكان.
(٢). الحائط البستان.
(٣). من ك.
(٤). في ك: ابن الزبير.
لِلْعَرَايَا وَالصِّلَةِ وَنَحْوِهَا. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ لَحِقَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ الْخَرْصِ وَقَبْلَ الْجَذَاذِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ خَمْسَةُ أوسق فصاعدا.
(٢). العرايا (واحدة عرية) وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا. والإعراء أن يجعل له ثمرة عامها.
(٢). في المصباح: الرطل بالبغدادي اثنا عشر أوقية والأوقية أستار وثلثا أستار والأستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم والدرهم ستة دوانق والدوانق ثمان حبات وخمسا حبة. وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالا. وهى مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
(٣). من ب وز وك.
(٢). من ك. وفى أو ب: نخيلها.
(٢). السواني: جمع سانية وهى الناقة التي يستقى عليها.
(٣). لم نجد في النسائي هذه الزيادة والله أعلم.
(٤). راجع ج ٣ ص ٣٢١.
(٥). بقيته: حتى تبلغ خمسة أوسق الحديث.
وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَالْخَيْلُ تَخْبِطُهُمْ | أَسْرَفْتُمُ فَأَجَبْنَا أَنَّنَا سَرَفُ |
هُمْ مَنَعُوا ذِمَارِي يَوْمَ جَاءَتْ | كَتَائِبُ مُسْرِفٍ وَبَنِي «٢» اللَّكِيعَهْ |
هُمْ مَنَعُوا ذِمَارِي يَوْمَ جَاءَتْ | كَتَائِبُ مُسْرِفٍ وَبَنِي «٤» اللَّكِيعَهْ |
(٢). بظاهر المدينة المنورة في عهد يزيد بن معاوية.
(٣). بظاهر المدينة المنورة في عهد يزيد بن معاوية.
(٤). في اللسان: بنو اللكيعة. معطوف على فاعل جاءت. في س ر ف. وفي ل ك ع بنى.
(٥). في ك: ما يصرف.
أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةً | مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفٌ |
إن امرأ سوف الفؤاد يرى | عسلا بماء سحابة شتمي |
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) عَطْفٌ (عَلَى مَا «٢» تَقَدَّمَ). أَيْ وَأَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا مِنَ الْأَنْعَامِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْأَنْعَامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ الْأَنْعَامَ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي فِي" النَّحْلِ «٣» " بَيَانُهُ. الثَّانِي- أَنَّ الْأَنْعَامَ الْإِبِلُ وَحْدَهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا بَقَرٌ وَغَنَمٌ فهي أنعام أيضا. الثالث- وهو أصحها قال أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْأَنْعَامُ كُلُّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى صحة هذا قول تَعَالَى:" أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «٤» " وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْحَمُولَةُ مَا أَطَاقَ الْحَمْلَ وَالْعَمَلَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ قِيلَ: يَخْتَصُّ اللَّفْظُ بِالْإِبِلِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا احْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَيَّ مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ بَعِيرٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ عليه الأحمال أو لم تكن.
(٢). من ك.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٦٨. [..... ]
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٣.
مَا رَاعَنِي إِلَّا حَمُولَةُ أَهْلِهَا | وَسْطَ الدِّيَارِ تَسُفُّ حَبَّ الْحِمْحِمِ «١» |
أَوْرَثَنِي حَمُولَةً وَفَرْشًا | أَمُشُّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشًّا «٢» |
وَحَوَيْنَا الْفَرْشَ مِنْ أَنْعَامِكُمْ | وَالْحُمُولَاتِ وَرَبَّاتِ الْحَجَلِ |
(٢). مش الناقة يمشها مشا: حلبها.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٤٣ الى ١٤٤]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءالذكرين حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) " ثَمانِيَةَ" مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَأَنْشَأَ" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ"، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" حَمُولَةً وَفَرْشاً". وَقَالَ الْأَخْفَشُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: يَكُونُ مَنْصُوبًا بِ" كُلُوا"، أَيْ كُلُوا لَحْمَ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" مَا" عَلَى الْمَوْضِعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِمَعْنَى كُلُوا الْمُبَاحَ" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ". وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ قَالُوا:" مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا" فَنَبَّهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ، لِئَلَّا يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالزَّوْجُ خِلَافُ الْفَرْدِ، يُقَالُ: زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ. كَمَا يُقَالُ: خَسًا أَوْ زكا، شفع «١» أو وتر. فقول:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" يَعْنِي ثَمَانِيَةَ أَفْرَادٍ. وَكُلُّ فَرْدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ يَحْتَاجُ إِلَى آخَرَ يُسَمَّى زَوْجًا، فَيُقَالُ لِلذَّكَرِ زَوْجٌ وَلِلْأُنْثَى زَوْجٌ. وَيَقَعُ لَفْظُ الزَّوْجِ لِلْوَاحِدِ وَلِلِاثْنَيْنِ، يُقَالُ هُمَا زَوْجَانِ، وَهُمَا زَوْجٌ، كَمَا يُقَالُ: هُمَا سِيَّانِ وَهُمَا سَوَاءٌ. وَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُ زَوْجَيْ حَمَامٍ. وَأَنْتَ تَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَالضَّأْنُ: ذَوَاتُ الصُّوفِ مِنَ الْغَنَمِ، وَهِيَ جَمْعُ ضَائِنٍ. وَالْأُنْثَى ضَائِنَةٌ، وَالْجَمْعُ ضوائن. وقيل: هو جمع
وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ | مَعِيزَهُمْ حَنَانِكَ ذَا الْحَنَانِ |
يَكِلْنَ كَيْلًا لَيْسَ بِالْمَمْحُوقِ | إِذْ رَضِيَ الْمَعَّازُ بِاللَّعُوقِ |
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ
الثَّالِثَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْآيَةُ احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الْبَحِيرَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا. وَقَوْلُهُمْ:" مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا". فَدَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُنَاظِرَهُمْ، وَيُبَيِّنَ لَهُمْ فَسَادَ قَوْلِهِمْ. وَفِيهَا إِثْبَاتُ الْقَوْلِ بِالنَّظَرِ وَالْقِيَاسِ. وَفِيهَا دَلِيلٌ بِأَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا ورد عليه النص بطل القول به.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٥]
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَرَّمَ. وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا مَا تُحَرِّمُونَهُ بِشَهْوَتِكُمْ. وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُحَرَّمٌ غَيْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ" الْمَائِدَةِ" بِالْمَدِينَةِ. وَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ «٣» وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وكل ذي مخلب من الطير.
(٢). من ك، ع.
(٣). الموقوذة: الشاة المضروبة حتى تموت ولم تذك. والمتردية: التي تقع من جبل، أو تطيح في بئر، أو تسقط من موضع مشرف فتموت.
" وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا نَاسِخٌ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، فَلَا مُحَرَّمَ إِلَّا مَا فِيهَا، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ. قلت: وهذا ما رأيته قال غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ سُورَةَ" الْأَنْعَامِ" مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" الثلاث الآيات، وقد
(٢). أي تحريمه.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٢٤.
(٤). راجع ج ٣ ص ٣٩١.
(٥). من ك.
(٦). راجع ج ٦ ص ٤٧. [..... ]
(٢). من ك.
(٣). حديث أبى ثعلبة: أنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ".
(٢). في ك: بل نقول ثبت إلخ.
أَكَلْنَا الرُّبَى «١» يَا أُمَّ عَمْرٍو وَمَنْ يَكُنْ | غَرِيبًا لَدَيْكُمْ يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ |
(٢). الوبر (بالتسكين): دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء من دواب الصحراء حسنه العينين شديدة الحياء تكون بالغور.
(٣). الورل: دابه على خلقه النصب إلا أنه أعظم منه، يكون في الرمال والصحارى.
(٤). العظاية: دويبة كسام أبرص.
(٢). راجع ص ٢٦٨ فما بعد من هذا الجزء. [..... ]
(٣). قال النووي: معنى استنفجنا: أئرنا ونفرنا. ومر الظهران (بفتح الميم والظلة): موضع قريب من مكة.
(٤). فلغبوا: أي أعيوا وعجزوا عن أخذها.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٦]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ حَرَّمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى (هَادُوا «٣». وَهَذَا التَّحْرِيمُ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيفُ بَلْوَى وَعُقُوبَةٍ. فَأَوَّلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ كُلُّ ذِي ظُفُرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" ظُفْرٍ" بِإِسْكَانِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَالِ" ظِفْرٍ" بِكَسْرِ الظَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ كسر
(٢). في ج. وفي ز: يتلوه.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٣٢.
جَعَلْنَ حَوَايَا وَاقْتَعَدْنَ قَعَائِدًا | وَخَفَّفْنَ مِنْ حَوْكِ الْعِرَاقِ الْمُنَمَّقِ |
(٢). من ك.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٧]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٨]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ. (قَالُوا «١») (لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) يُرِيدُ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ. أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْغَيْبِ عَمَّا سَيَقُولُونَهُ «٢»، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مُتَمَسَّكٌ لَهُمْ لَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَتَيَقَّنُوا بَاطِلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرْسَلَ إِلَى آبَائِنَا رَسُولًا فَنَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ (لَهُمْ «٣») فَيَنْتَهُوا فَأَتْبَعْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَرَدَّ اللَّهُ عليهم ذلك فقال: (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أَيْ أَعِنْدكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَذَا؟: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) فِي هَذَا الْقَوْلِ. (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) لِتُوهِمُوا ضَعَفَتَكُمْ أَنَّ لَكُمْ حُجَّةً. (وَقَوْلُهُ «٤») " وَلا آباؤُنا" عَطْفٌ عَلَى النُّونِ فِي" أَشْرَكْنا". وَلَمْ يَقُلْ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا، لأن قول" وَلا" قَامَ مَقَامَ تَوْكِيدِ الْمُضْمَرِ، وَلِهَذَا حَسُنَ أن يقال: ما قمت ولا زيد.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٤٩]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ" أَيِ الَّتِي تَقْطَعُ عُذْرَ الْمَحْجُوجِ، وَتُزِيلُ الشَّكَّ عَمَّنْ نَظَرَ فِيهَا. فَحُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى هَذَا تَبْيِينُهُ أَنَّهُ الْوَاحِدُ، وَإِرْسَالُهُ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَبَيَّنَ التَّوْحِيدَ بِالنَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَيَّدَ الرُّسُلَ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَزِمَ أَمْرُهُ كُلَّ مُكَلَّفٍ. فَأَمَّا عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ
(٢). من ك.
(٣). من ك.
(٤). من ك.
٢ راجع ص ٦٠ و ٦٦ من هذا الجزء..
٣ راجع ص ٦٠ و ٦٦ من هذا الجزء..
٤ راجع ج ١٠ ص ٨١..
[سورة الأنعام (٦): آية ١٥٠]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا حَرَّمْتُمْ. وَ" هَلُمَّ" كَلِمَةُ دَعْوَةٍ إِلَى شي، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، إِلَّا فِي لُغَةِ نَجْدٍ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَلُمَّا هَلُمُّوا هَلُمِّي، يَأْتُونَ بِالْعَلَامَةِ كَمَا تَكُونُ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ. وَعَلَى لُغَةِ (أَهْلِ»
) الْحِجَازِ جَاءَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا «٦» " يَقُولُ: هَلُمَّ أَيِ احْضَرْ أَوِ ادْنُ. وَهَلُمَّ الطَّعَامَ، أَيْ هَاتِ الطَّعَامَ. والمعنى ها هنا: هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ، وَفُتِحَتِ الْمِيمُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: رُدَّ يَا هَذَا، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّهَا وَلَا كَسْرُهَا. وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْخَلِيلِ" هَا" ضُمَّتْ إِلَيْهَا" لَمْ" ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ. الْأَصْلُ" هَلْ" زِيدَتْ عَلَيْهَا" لَمْ". وَقِيلَ: هِيَ عَلَى لَفْظِهَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى هَاتِ. وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ لِلْخَلِيلِ: أَصْلُهَا هَلْ أَؤُمُّ، أَيْ هَلْ أَقْصِدُكَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ
(٢). راجع ص ٦٠ و٦٦. من هذا الجزء.
(٣). راجع ص ٦٠ و٦٦. من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٨١.
(٥). من ك.
(٦). راجع ج ١٤ ص ١٥١.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) أَيْ تَقَدَّمُوا وَاقْرَءُوا حَقًّا يَقِينًا كَمَا أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي، لَا ظَنًّا وَلَا كَذِبًا كَمَا زَعَمْتُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ" أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً" يُقَالُ لِلرَّجُلِ: تَعَالَ، أَيْ تَقَدَّمْ، وَلِلْمَرْأَةِ تَعَالَيْ، وَلِلِاثْنَيْنِ وَالِاثْنَتَيْنِ تَعَالَيَا، وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ تَعَالَوْا، وَلِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَعَالَيْنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ «٣» ". وجعلوا التقدم ضربا من التعالي
(٢). من ب وك.
(٣). راجع ج ١٤ ص ١٧٠.
(٢). راجع ج ٤ ص ٣٠٤.
(٣). قال في التقريب: (الربيع بن خيثم) بضم المعجمة وفتح المثلثة، ولكن في الخلاصة: بفتح المعجمة والمثلثة بينها تحتانية ساكنة. تهذيب.
(٤). تقدم عن كعب أيضا أول السورة أن أول الأنعام مفتتح التوراة.
(٢). في ك: من الوأد. [..... ]
(٣). من ع.
(٤). من ك.
(٥). في ك: ولا بإذنها.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٨٩.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ١٧٨.
(٤). راجع ج ٨ ص ٧١.
(٥). أي فادفعوا الآخر بالقتل إذا لم يمكن دفعه بدونه.
(٦). راجع ص ٧٤ وص ٢٤٣. من هذا الجزء.
(٧). راجع ج ٦ ص ١٤٧.
(٨). من ك.
(٩). راجع ج ١٦ ص ٣١٥.
إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ المحرمات. والكاف والميم للخطاب، ولاحظ لَهُمَا مِنَ الْإِعْرَابِ. (وَصَّاكُمْ بِهِ)
الْوَصِيَّةُ الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ الْمَقْدُورُ. وَالْكَافُ وَالْمِيمُ مَحَلُّهُ النَّصْبُ، لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَوْضُوعٌ لِلْمُخَاطَبَةِ. وَفِي وَصَّى ضَمِيرُ فَاعِلٍ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ. وَرَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُونِي! فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ حَصَانَةٍ «٢» فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ) فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا قَتَلْتُ أَحَدًا فَأَقِيدُ نَفْسِي بِهِ «٣»، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسول، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ! الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
أَيْ بِمَا فيه صلاحه وتثميره «٤»، وذلك بحفظ أصول وَتَثْمِيرِ فُرُوعِهِ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ جَامِعٌ قَالَ مُجَاهِدٌ:" وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
" بِالتِّجَارَةِ فِيهِ، ولا تشتري مِنْهُ وَلَا تَسْتَقْرِضْ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
يَعْنِي قُوَّتَهُ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالتَّجْرِبَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْأَشُدَّ وقعت هنا مطلقة
(٢). في ب وج وك: إحصانه. [..... ]
(٣). في ك: منه.
(٤). في ج: تدبيره.
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٍ أَشُدِّي | وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ «٤» |
عَهْدِي به النهار كأنما | خضب اللبان ورأسه بالعظلم «٥» |
(٢). الاهتبال: اغتنام الفرضة وابتغاءها وتكسبها: أي الاشتغال بشأن اليتيم أولى.
(٣). في ك: المذهب وفى ز: الذهب. يريد بدار الضرب: بغداد. والمعدن.: معدن الشريعة ومنجمها المدينة المنورة.
(٤). رجل منجد (بالدال والذال): جرب الأمور وعرفها وأحكمها. ومداورة الشئون: مداوتة الأمور ومعالجتها.
(٥). اللبان (بفتح اللام): الصدر. وفي ع:" البنان" وهى رواية. والعظلم (بكسر العين واللام وسكون الظاء): صبغ أحمر وقيل: هو الوسمة د، شجر له ورق يختضب به.
آخَرُ:
تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ | طَوِيلَةٌ أَنْقَاءُ الْيَدَيْنِ سَحُوقُ «٢» |
). أَيْ بِالِاعْتِدَالِ فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. (لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
أَيْ طَاقَتُهَا فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ من التحفظ والتحرر. وَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَقِيلَ: الْكَيْلُ بِمَعْنَى الْمِكْيَالِ. يُقَالُ: هَذَا كَذَا وَكَذَا كَيْلًا، وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْمِيزَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَضِيقُ نَفْسُهُ عَنْ أَنْ تَطِيبَ لِلْغَيْرِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ أَمَرَ الْمُعْطِيَ بِإِيفَاءِ رَبِّ الْحَقِّ حَقَّهُ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الزِّيَادَةَ، لِمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ ضِيقِ نَفْسِهِ بِهَا. وَأَمَرَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْهُ، لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ ضِيقِ نَفْسِهِ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَلَا فَشَا الزنى في قوم الأكثر فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا قُطِعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ، وَلَا خَتَرَ «٣» قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ «٤». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْأَعَاجِمِ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الكيل والميزان «٥».
(٢). السحوق: المرأة الطويلة.
(٣). الختر: الغدر. وفى ك: غدر.
(٤). رواه الطبراني حديثا عن ابن عباس.
(٥). من ك.
يَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ وَالشَّهَادَاتِ. وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مِثْلِ قَرَابَاتِكُمْ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ «١». (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)
عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا عَهِدَهُ اللَّهُ إِلَى عباده. ومحتمل أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ مَا انْعَقَدَ بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ. وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْعَهْدُ إِلَى اللَّهِ مِنْ حيث أمر بحفظه والوفاء بِهِ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
تَتَّعِظُونَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ عَطْفَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى وَأَمَرَ حَذَّرَ هُنَا عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِ، فَأَمَرَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ." وَأَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَاتْلُ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي. عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا، أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي. وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي، كَمَا قَالَ:" وَأَنَّ الْمَساجِدَ «٢» لِلَّهِ" وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَإِنَّ هَذَا" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ «٣» صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ" وَأَنْ هَذَا" بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُخَفَّفَةُ مِثْلُ الْمُشَدَّدَةِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ وَأَنَّهُ هَذَا. فَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ «٤» ". وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ." مُسْتَقِيمًا" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ الَّذِي طَرَقَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَعَهُ وَنِهَايَتُهُ الْجَنَّةُ. وَتَشَعَّبَتْ مِنْهُ طُرُقٌ فَمَنْ سَلَكَ الْجَادَّةَ نَجَا، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ تَمِيلُ. رَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن زيد حدثنا عاصم بن بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ (هذه سبل على كل سبيل
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٩. [..... ]
(٣). من ب ج ز ك.
(٤). راجع ج ٩ ص ٢٥٩.
(٢). عرف الراغب البدعة بقوله: البدعة في المذهب إيراد قوله لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة.
(٣). العتيق: القديم الأول.
(٤). راجع ص ١٤٩. من هذا الجزء.
(٢). الأنف (ككتف): المأنوف وهو الذي عقر الخشاش أنفه، فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذي به. وقيل: الأنف الذلول.
(٣). من ك وز.
(٤). في ك: بين.
(٥). في ك وع: ناولوهم.
(٢). عن ك وسنن الدارمي.
(٣). كذا في الأصول. والذي في سنن الدارمي. المطبوعة والمخطوطة:... " ما أسرع هلكتكم. هؤلاء صحابه نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون وهذه ثيابه لم تبل آنيته ولم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى مله هي أهدى من مله محمد أو مفتتحى باب.. ". إلخ في نخ ط دمشق: أو مفتتحوا. على هامش المطبوع:" أو مفتتح" بغير ياء. راجع ج ١ ص ٦٨ ط الشام. [..... ]
(٢). راجع ج ٤ ص ١٥٩.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٥٤ الى ١٥٥]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
قول تَعَالَى: (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مَفْعُولَانِ. (تَماماً) مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مَصْدَرٌ. (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. فَمَنْ رَفَعَ- وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ- فَعَلَى تَقْدِيرِ: تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِيهِ بُعْدٌ مِنْ أَجْلِ حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ الْعَائِدِ عَلَى الَّذِي. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ" مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا". وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ ماضي دَاخِلٌ فِي الصِّلَةِ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَجَازَ الكسائي والفراء
(٢). راجع ج ٥ ص ٤١٧.
(٣). في ك: مجالسه.
(٤). كذا في ك. وفي ب وج وز وى: قيل لهم. قالوا.
(٥). كذا في ك. وفي ب وج وز وى: قيل لهم. قالوا.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
[سورة الأنعام (٦): آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ) مَعْنَاهُ أَقَمْتُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَمَاذَا يَنْتَظِرُونَ. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَمَرَ رَبُّكَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ يذكر المضاف إليه والمراد به المضاف، كقول تعالى:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «٢» يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَقَوْلُهُ:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «٣» " أَيْ حُبُّ الْعِجْلِ. كَذَلِكَ هُنَا: يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ، أَيْ عُقُوبَةُ رَبِّكَ وَعَذَابُ ربك. ويقال: هذ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله. وقد تقدم القول
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٤٥.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣١.
صَفًّا" وَلَيْسَ مَجِيئُهُ تَعَالَى حَرَكَةً وَلَا انْتِقَالًا وَلَا زَوَالًا، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْجَائِي جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ أَهْلِ السنة أنهم يقولون: يجئ وَيَنْزِلُ وَيَأْتِي. وَلَا يُكَيِّفُونَ، لِأَنَّهُ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «٢» " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالُ وَدَابَّةُ الْأَرْضِ (. وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:) إن بالمغرب باب مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ (. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالدَّارِمِيُّ «٣» وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ «٤»: قِبَلَ الشَّامِ، خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.) مَفْتُوحًا) يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ. قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَكَذَّبَ بِهَذَا كُلِّهِ الْخَوَارِجُ «٥» وَالْمُعْتَزِلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ «٦»: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنْهُ، وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَجَمَ وَأَنَّا قَدْ رَجَمْنَا بَعْدَهُمَا، وَسَيَكُونُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ، وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ من النار بعد ما امتحشوا «٧». ذكر أَبُو عُمَرَ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧.
(٣). من ك. [..... ]
(٤). سفيان: أحد رجال سند هذا الحديث.
(٥). إن أراد الإباضية كزعمه فإن الرجم عندهم حكم ثابت إلى يوم القيامة لكن من السنه كما صح في مسند الربيع عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، لا من القرآن. ولم يزالوا يرجمون في إمامتهم، ولا أنكروا طلوع الشمس من مغربها ولا خروج الدجال.
(٦). كذا في الأصول إلا في ك: يقول. والذي في الدر المنثور"... خطبنا عمر فقال.
(٧). امتحشوا: احترقوا. والمحش: احترق الجلد وظهور العظم. ويروى:" امتحشوا على ما لم يسم فاعله.
(٢). في ز: يجاب. وفى ب ك: يحار.
(٣). من ز ك.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٩٤ وص ٢٢٥.
(٥). راجع ج ١٩ ص ٩٤ وص ٢٢٥.
(٦). من ز ك.
(٧). في ز: على ما.
(٢). كذا في اول. وفى ب وج وك وى: متفق. وفى ز: متفق عليه.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٣٤. [..... ]
(٤). راجع ج ١١ ص ٥٥.
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ | سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ «٧» |
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ | أَعَالِيَهَا مَرُّ الرياح النواسم «٨» |
(٢). في ك: إيمانه ولا توبته ولا عمل.
(٣). من ك.
(٤). من ك.
(٥). في ك: ابن مسعود.
(٦). راجع ج ٩ ص ١٣١.
(٧). وصف مقتل الزبير بن العوام صَاحِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انصراف يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة.
(٨). البيت لذي الرمة. وصف نساء، فيقول: إذا مشين اهتززن في مشين وتثنين فكأنهن رماح نصب فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت.
فَقَدْ عَذَرْتِنَا فِي صَحَابَتِهِ الْعُذْرَ
فَفِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ أَنَّثَ الْعُذْرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَةِ." قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" بكم العذاب.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَارَقُوا «٣») بِالْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، مِنَ الْمُفَارَقَةِ وَالْفِرَاقِ. عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا دِينَهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا فَرَّقُوهُ وَلَكِنْ فَارَقُوهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، إِلَّا النَّخَعِيَّ فَإِنَّهُ قَرَأَ" فَرَقُوا" مُخَفَّفًا، أَيْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَقَدْ وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «٤» ". وَقَالَ:" وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ «٥» ". وَقِيلَ: عَنَى الْمُشْرِكِينَ، عَبَدَ بَعْضُهُمُ الصَّنَمَ وَبَعْضُهُمُ الْمَلَائِكَةَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَقَدْ فَرَّقَ دِينَهُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ" هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ، وَأَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَى بقية بن الوليد
(٢). البيت لحاتم وهو في ديوانه واللسان:
أماوي قد ضال التجنب والهجر | وقد عذرتني في طلابكم العذر. |
(٤). راجع ج ٢٠ ص ١٤٣.
(٥). راجع ج ٦ ص ٥. [..... ]
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا | فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي «١» |
[سورة الأنعام (٦): آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) ابْتِدَاءٌ، وَهُوَ شَرْطٌ، وَالْجَوَابُ (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا، فَحُذِفَتِ الْحَسَنَاتُ وَأُقِيمَتِ الْأَمْثَالُ الَّتِي هِيَ صِفَتُهَا مَقَامَهَا، جَمْعُ مِثْلٍ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: عِنْدِي عَشَرَةٌ نَسَّابَاتٌ، أَيْ عِنْدِي عَشَرَةُ رِجَالٍ نَسَّابَاتٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَسُنَ التَّأْنِيثُ فِي" عَشْرُ أَمْثالِها" لَمَّا كَانَ الْأَمْثَالُ مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمُؤَنَّثِ إِذَا كَانَ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى يَحْسُنُ فِيهِ ذَلِكَ، نحو" يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ".
(٢). في ز: البلاغ.
[سورة الأنعام (٦): الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٧٩.
(٣). راجع ج ٣ ص ٢٤٠ و٣٠٥.
(٢). في ك: والكسائي. لكن في البحر وقرا باقى السبعة: قيما كسيد.
(٣). راجع ج ١ ص ١٦٨.
(٤). من ك.
سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لهواهم «١»
وقد تقدم. الثانية- قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" إِلَى قَوْلِهِ:" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِهَذَا الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ:" وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ."" إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"- إِلَى قَوْلِهِ-" وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (. قُلْتُ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ:) وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ. أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ (. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: بَلَغَنَا عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ: مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) الشَّرُّ لَيْسَ مِمَّا
فتخرموا ولكل جنب مصرع
(٢). في ك وز وب: استفتح.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مَالِكُهُ. رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى دِينِنَا، واعبد آلهتنا، وأترك ما أنت
(٢). الحديث في كشف الخفا:" كنت أول البنين" الحديث وفية مبحث قيم. ج ٢ ص ١٢٩. [..... ]
(٢). محله بالكوفة يشبه أن تكون سوقا.
(٣). في ج: في صحته ثبوت.
(٤). في ك: للشارين.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٣ وص ٣٤٢.
(٣). في قولهم: وسادة.
(٤). من ز.
(٥). راجع ج ٦ ص ٤١٣ وص ٣٤٢.
(٦). راجع ص ٣٩١ من هذا الجزء.
(٧). راجع ج ٩ ص ٢٩١.
(٨). طل دمه: ذهب هدرا.
(٩). في ك: المرء.
[سورة الأنعام (٦): آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ" خَلائِفَ" جَمْعُ خَلِيفَةٍ، كَكَرَائِمَ جَمْعُ كَرِيمَةٍ. وَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ مَنْ مَضَى فَهُوَ خَلِيفَةٌ. أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَفًا لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
تُصِيبُهُمْ وَتُخْطِئُنِي الْمَنَايَا | وَأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ |
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٣٠. وص ١٢.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٩٦.
(٤). في ك: المظلين.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٣٣٠. وص ١٢.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٨٣.
(٣). في ز: لمواقعة.
(٤). من ك.