ﰡ
[تفسير سورة الهمزة]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" الْهُمَزَةِ" مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ تِسْعُ آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الهمزة (١٠٤): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١)قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" الْوَيْلِ" فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٢»، وَمَعْنَاهُ الْخِزْيُ وَالْعَذَابُ وَالْهَلَكَةُ. وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ «٣» بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ، فَعَلَى هَذَا هُمَا بِمَعْنًى. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ [. وَعَنِ ابْنِ عباس أن الهمزة: القتات، وَاللُّمَزَةَ: الْعَيَّابُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُ وَيَطْعَنُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُهُ مِنْ خَلْفِهِ إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ بِذُلِّ نَفْسٍ... بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ «٤»
(٢). راجع ج ٢ ص ٧ طبعه ثانية.
(٣). في بعض نسخ الأصل (المفرقون).
(٤). رواية البيت كما في ديوانه:
مجللة تعممه شنارا... مضرمة تأجج كالشواظ
كهمزة ضيغم يحمى عربنا... شديد مغارز الأضلاع خاظي
[..... ]
تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا | وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ |
إِذَا لَقِيْتُكَ عَنْ سُخْطٍ تُكَاشِرُنِي | وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الْهَامِزَ اللمزة |
وَمَنْ هَمَزْنَا رَأْسَهُ تَهَشَّمَا
وَقِيلَ: أَصْلُ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ: الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ. لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ لَمْزًا: إِذَا ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ. وَكَذَلِكَ هَمَزَهُ: أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. قَالَ الرَّاجِزُ:
وَمَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَرْكَعَا | عَلَى استه زوبعة أو زوبعا |
[سورة الهمزة (١٠٤): آية ٢]
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢)
أَيْ أَعَدَّهُ- زَعَمَ- لِنَوَائِبِ الدَّهْرِ، مِثْلُ كَرُمَ وَأَكْرَمَ. وَقِيلَ: أَحْصَى عَدَدَهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ أَعَدَّ مَالَهُ لِمَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ. وَقِيلَ: أَيْ فَاخَرَ بِعَدَدِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ الذَّمُّ عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ عَنْ سَبِيلِ الطَّاعَةِ. كَمَا قَالَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ «٢» [ق: ٢٥]، وقال: وجَمَعَ فَأَوْعى «٣» [المعارج: ١٨]. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ جَمَعَ مُخَفَّفُ الْمِيمِ. وَشَدَّدَهَا ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ: وَعَدَّدَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ جَمَعَ مُخَفَّفًا، (وَعَدَدَهُ) مُخَفَّفًا أَيْضًا، فَأَظْهَرُوا التَّضْعِيفَ، لِأَنَّ أَصْلَهُ عَدَّهُ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ بِدَالَيْنِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ، لَمَّا أَبْرَزُوا التَّضْعِيفَ خففوه. قال:
مهلا «٤» أمامة قد جريت مِنْ خُلُقِي | إِنِّي أَجُودُ لِأَقْوَامٍ وَإِنْ ضَنِنُوا |
(٢). آية ٢٥ سورة ق، وآية ١٢ سورة ن.
(٣). آية ١٨ سورة المعارج.
(٤). في اللسان وكتاب سيبويه: (مهلا أعاذل). وقد نسياه لقعنب بن أم صاحب.
[سورة الهمزة (١٠٤): الآيات ٣ الى ٧]
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْسَبُ) أَيْ يَظُنُّ (أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أَيْ يُبْقِيهِ حَيًّا لَا يَمُوتُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ يَزِيدُ فِي عُمْرِهِ. وَقِيلَ: أَحْيَاهُ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. يُقَالُ: هَلَكَ وَاللَّهِ فُلَانٌ وَدَخَلَ النَّارَ، أَيْ يَدْخُلُ. (كَلَّا) رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ الْكَافِرُ، أَيْ لَا يَخْلُدُ وَلَا يَبْقَى لَهُ مَالٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي كَلَّا مُسْتَوْفًى «١». وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ كَلَّا فَإِنَّهُ يَقُولُ كَذَبْتَ. (لَيُنْبَذَنَّ) أَيْ لَيُطْرَحَنَّ وَلَيُلْقَيَنَّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمُجَاهِدٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَيُنْبَذَانِ بِالتَّثْنِيَةِ، أَيْ هُوَ وَمَالُهُ. وعن الحسن أيضا" لينبدنه" عَلَى مَعْنَى لَيُنْبَذَنَّ مَالُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا بِالنُّونِ" لَنَنْبِذَنَّهُ" عَلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبِذُ صَاحِبَ الْمَالِ. وَعَنْهُ أَيْضًا (لَيُنْبَذُنَّ) بِضَمِّ الذَّالِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْهُمَزَةُ وَاللُّمَزَةُ وَالْمَالُ وَجَامِعُهُ. (فِي الْحُطَمَةِ) وَهِيَ نَارُ اللَّهِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكْسِرُ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا وَتُحَطِّمُهُ وَتُهَشِّمُهُ. قَالَ الرَّاجِزُ:
إِنَّا حَطَمْنَا بِالْقَضِيبِ مُصْعَبَا | يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ لِيَغْضَبَا |
[طه: ٧٤] فَهُمْ إِذًا أَحْيَاءٌ فِي مَعْنَى الْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيْ تَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ بِمَا اسْتَبَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: اطَّلَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى «٢» [المعارج: ١٧]. وَقَالَ تَعَالَى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً «٣» [الفرقان: ١٢]. فَوَصَفَهَا بِهَذَا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُوصَفَ بِالْعِلْمِ.
[سورة الهمزة (١٠٤): الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)
أَيْ مطبقة، قال الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْبَلَدِ" الْقَوْلُ «٤» فِيهِ. وَقِيلَ: مُغْلَقَةٌ، بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. يَقُولُونَ: آصَدْتُ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتُهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَمِنْهُ قول عبيد الله ابن قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا | مُصْفَقًا مُوصَدًا «٥» عَلَيْهِ الْحِجَابُ |
(٢). آية ١٧ سورة المعارج.
(٣). آية ١٢ سورة الفرقان.
(٤). راجع ص ٧٢ من هذا الجزء.
(٥). صفق الباب واصفقه: أغلقه.
(٢). آية ٢ سورة الرعد.