تفسير سورة الهمزة

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ

سُورَةُ الْهُمَزَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، اختلفوا في معنى الهمزة واللمزة:
فقَالَ بَعْضُهُمْ: معناهما واحد، وهو الدفع والطعن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهمزة: هو الذي يؤذي جليسه بلسانه، واللمزة: الذي يؤذي بعينيه وغير ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهمزة: الذي يطعنه عند حضرته، واللمزة: الذي يطعنه عند غيبته، وهذا إنما يسمى به من يعتاد ذلك الفعل.
وأهل اللغة وضعوا هذا المثال، وهو " فُعَل " لمن يعتاد ذلك الفعل ويحترفه.
قال أهل التأويل: إن الآية في الكفار؛ لكن بعضهم قالوا: نزلت في الأخنس بن شريق.
وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة.
ولقائل أن يقول: إن الآية نزلت في الكفار، وكذلك كثير من الآي من نحو قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، ونحوها، ومعلوم أنه وجد منهم هذا الفعل أو عدم، استوجبوا ما ذكر من العقوبات وأشد، مع أن الذي فيه من الكفر أقبح من هذين الفعلين، فكيف وقع تعييرهم بذلك؟!.
والجواب عن هذا وأمثاله من نحو قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، وقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)، فهم وإن أقاموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، لم تزل عنهم عقوبة النار.
والجواب عنه: أن الإيمان لم يحسن لاسمه، ولا قبح الكفر لنفس اسم الكفر؛ لأنه ليس أحد ممن يذهب مذهبا ويدين دينا إلا وهو يكفر بشيء ويؤمن بشيء؛ لأن المسلم
مؤمن باللَّه - تعالى - كافر بالطاغوت، والكافر يكفر بالرحمن ويؤمن بالطاغوت ويعبده؛ فثبت أن الإيمان ليس يحسن لنفس اسم الإيمان، ولا قبح الكفر؛ لعين اسم الكفر ولكن الإيمان باللَّه - تعالى - إنما حسن من حيث أوجبت الحكمة الإيمان به، وقبح الكفر؛ لأن الحكمة أوجبت ترك الكفر باللَّه تعالى، فالإيمان حسن؛ لما فيه من المعنى، والكفر قبح، لما فيه من معنى الكفر، وهذان الفعلان قبيحان في أنفسهما، لا بغيرهما؛ فكان التعيير الذي يقع بهذين الفعلين أكثر وأبلغ منه في تعييرهم بالكفر؛ لذلك عيرهم اللَّه - تعالى - بهذين الفعلين.
ووجه آخر: أن هذا يخرج مخرج الموعظة لأمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يهمز به ويسخر منه؛ لما يأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ولا يحمله ما كانوا يتعاطونه على ترك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ لئلا يمتنع أحد من أمته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يخشى أن يسخر به أو يستهزأ.
والثالث: أن يكون هذا على وجه المكافأة والانتقام لما كانوا يفعلون بنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الزجر والردع عن ذلك؛ إذ العقلاء يمتنعون عن الأفعال القبيحة؛ فعلى هذه الوجوه يحتمل معنى تعييرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) قرئ على التخفيف (جَمَعَ) من الجمع؛ أي: جمع ماله عنده ولم يفرقه وعدده وذكره -أي: حفظ عدده، وذكره على الدوام- لئلا ينقصه، وصفه بالبخل والشح.
ومن قرأه بالتشديد، فمعناه: أنه جمعه وادخره بممر الزمان، لم يجمع ذلك في أيام قصيرة.
والأصل (جمعه) بالتخفيف، لكن شدده لما فيه من زيادة الجمع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) يتوجه وجهين:
أحدهما: أن يكون على الحقيقة أنه قدر عند نفسه أنه يبقى لبقاء الأموال له؛ لما يرى بقاءه من حيث الظاهر بها؛ فتقرر عنده أن ما آتاه اللَّه - تعالى - من الأموال هو رزقه؛ فيعيش إلى أن يستوفي جميع رزقه؛ فيجمعه، ويدخره؛ لكي يزيد في عمره.
والوجه الثاني: أن يكون على الظن والحسبان، كأنه يقول: جمع مالا وعدده جمع من
الآية٣ : وقوله تعالى :﴿ أيحسب أن ماله أخلده ﴾ يتوجه بوجهين :
أحدهما : أن يكون على الحقيقة أنه ( قدره عند )١ نفسه أنه يبقى لبقاء الأموال له لما يرى بقاءه من حيث الظاهر بها، فتقرر عنده أن ما آتاه الله تعالى من الأموال، هو رزقه، فيعيش إلى أن يستوفي جميع رزقه، فيجمعه، ويدخره لكي يزيد في عمره.
والوجه الثاني : أن يكون على الظن والحسبان، كأنه يقول :﴿ جمع مالا وعدده ﴾ جمع من يظن أن ماله يزيد في عمره.
فإن كان على التأويل الأول فقوله :﴿ كلا ﴾ رد عليه، أي ليس كما قدره عند نفسه، وإن كان على التأويل الثاني فعلى إيجاب عقوبة مبتدأة.
وقيل : عدده : أي أكثر عدده، وقال الحسن : عدده أي صنفه، فجعل ماله أصنافا، وجعل أنواعا من الإبل والغنم والبقر والدور والعقار والمنقول وغيرها، وقيل : عدده : أي استعده، وأعده، وهيأه.
١ في الأصل وم: قدر عنده.
يظن أن ماله يزيد في عمره.
فإن كان على التأويل الأول فقوله: (كَلَّا (٤) رد عليه؛ أي: ليس كما قدره عند نفسه.
وإن كان على التأويل الثاني، فعلى إيجاب عقوبة مبتدأة.
وقيل: (وَعَدَّدَهُ) أي: أكثر عدده.
وقال الحسن: عدده، أي: صنفه؛ فجعل ماله أصنافا، وأنواعا من الإبل، والغنم والبقر والدور، والعقار، والمنقول، وغيرها.
وقيل: (وَعَدَّدَهُ)، أي: استعده، وأعده، وهيأه.
وقوله: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ):
قيل: باب من أبواب النار.
وقيل: هي صفة النار.
والحطمة: هو الكسر؛ فكأنه قال: النار التي يعذب بها الكفرة، وتكسر عظامهم وتحطمهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧):
قيل: إن النار تأتي على جلودهم وعروقهم ولحومهم وعظامهم حتى تأكلها، وتكسر العظام، فتطلع على أفئدتهم؛ فحينئذٍ يتبدلون جلودًا غيرها؛ ليذوقوا العذاب.
وقيل: إنما تحرق النار منهم كل شيء سوى الفؤاد؛ لأن الفؤاد إذا احترق، لم يتألم بعد ذلك، ولم يشعر بالعذاب، والمراد من الإحراق إلحاق الألم والضرر بهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩) قرئ: (عُمُدٍ): برفع العين والميم، وقرئ بالنصب فيهما.
وذكر عن الفراء أنه قال: العَمَد والعُمُد: جماعات للعمود، والعماد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العَمَد: جمع العَمَدَة؛ نحو: بقرة، وبقر.
وقال الكلبي: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ)، أي: النار عليهم مطبقة؛ يقول: طبقها ممددة في عمد من نار ممددة عليهم من فوقهم، والعمد كعمد أهل الدنيا، غير أنها من نار تمد عليهم، واللَّه أعلم، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الآيتان ٦و٧ : وقوله تعالى :﴿ نار الله الموقدة ﴾ ﴿ التي تطلع على الأفئدة ﴾ قيل : إن النار تأتي على جلودهم وعروقهم ولحومهم وعظامهم حتى تأكلها، وتكسر العظام، فتطلع على أفئدتهم، فحينئذ يتبدلون جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
وقيل : إنما تحرق النار منهم كل شيء سوى الفؤاد ؛ لأن الفؤاد إذا احترق لم يتألم بعد ذلك، ولم يشعر بالعذاب. والمراد من الإحراق إلحاق الألم والضرر بهم.
الآيتان٨و٩ : وقوله تعالى :﴿ إنها عليهم مؤصدة ﴾ ﴿ في عمد ممددة ﴾ قرئ عمد١ برفع العين والميم، وقرئ بالنصب فيهما. وذكر عن الفراء أنه قال : العمد والعمد جماعات العمود والعماد.
وقال بعضهم : العمد جمع العمدة، نحو بقرة وبقر. وقال الكلبي :﴿ إنها عليهم مؤصدة ﴾ ﴿ في عمد ممددة ﴾ أي النار عليهم مطبقة، يقول : أطبقتها٢ممددة في عمد من نار ممددة عليهم من فوقهم. والعمد كعمد أهل الدنيا، غير أنها من نار تمد عليهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين ( والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين )٣.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ج٨ / ٢٣٥.
٢ في الأصل وم: طبقها..
٣ ساقطة من م.
Icon