ﰡ
مَكِّيَّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ):
تأويل الحمد هاهنا وفي أمثاله - واللَّه أعلم - أي: حق الحمد للذي منه وصلت إلى كل أحد نعمة أي: أنها وصلت على أيدي من وصلت إلى كل من وصلت فإن حق الحمد والثناء له في تلك النعمة وإن حمد من دونه؛ إذ منه ذلك، لا من الذي وصلت على يده، وأن الذي وصلت على يديه كالمستعمل له؛ فحق الحمد والثناء له لا من دونه.
أو أن يكون قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي: قولوا: له الحمد والثناء؛ لأنه في جميع ما ذكر الحمد له ألحق به شيئًا: إما قدرته وسلطانه، وإما نعمه التي أنعم على الخلق كقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...) الآية.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا).
وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ونحوه.
ما ذكر الحمد لنفسه والثناء إلا ذكر على أثره ما قدرته وسلطانه.
وأما نعمه، فما كان المذكور على أثره النعمة فهو يستأدي به شكره وحمده.
وإن كان الملحق به القدرة والسلطان فيخرج القول منه مخرج الأمر بالتعظيم له والهيبة والإجلال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) أي: لم يجعله عوجًا، ويجوز زيادة اللام في مثله؛ كقوله: (رَدِفَ لَكُمْ)، وردفكم؛ هذا جائز في اللغة ثم قوله: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) أي: لم يجعله عوجًا، وهو يخرج على وجهين:
والثاني: على زيادة (بل) كأنه قال: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا بل جعله قيمًا)؛ على أحد هذين الوجهين يخرج واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) إذا لم يكن عوجًا كان قيمًا، وإذا كان قيمًا كان غير عوج، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد، كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)، وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات، حرفان مؤديان معنى واحدًا، إلا أنه كرر، لما ذكرنا أن من عادة العرب التكرار، وكذلك ما ذكر: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) البأس: هو الشديد، والشديد هو البأس، هما واحد، فعلى ذلك الأول.
ثم اختلف في قوله (قَيِّمًا) قَالَ بَعْضُهُمْ:
القيم: هو الشاهد، أي: القيم على الكتب المتقدمة، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها، وما نقصوا وما حرفوه، وما غيروه، كقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ...) الآية. وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ). وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا...) الآية. كانوا يحرفون نظمه ورصفه، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه؛ فهذا القرآن شاهد، وقيم في بيان ما فعلوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (قَيِّمًا (٢) أي: ثابتًا قائمًا أبدًا لا يبدل، ولا يغير، ولا ينسخ ولا يزداد، ولا ينقص، وهو على ما وصفه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ...) الآية. وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ...) الآية، وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن، لأنه حق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَيِّمًا)، أي: مستقيمًا، وتأويل المستقيم: المستوي الموافق، أي: يصدق بعضه بعضًا، ويوافق أوله آخره، وآخره أوله، أي: لم يخرج مختلفًا، وهو على ما قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، ولو كان من عند غير اللَّه على ما قال أُولَئِكَ الكفرة، لكان خرج مختلفًا متناقضًا، ينقض أوله
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا):
أي: أنزله على عبده، لينذركم بأسًا شديدًا، أي: لينذر ببأس شديد، والبأس: العذاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ لَدُنْهُ).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنزل على عبده الكتاب من لدنه، أي: من عنده.
والثاني: لينذركم الكفار بأسًا شديدًا ينزل من عنده، واللَّه أعلم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ).
فيه دلالة: أنه قد يكون المؤمنون يستحقون اسم الإيمان، وإن لم يعملوا الصالحات، حيث ذكر المؤمنين، ثم ذكر الأعمال الصالحات، خص المؤمنين بعمل الصالحات، لكن البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عملوا الصالحات؛ لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة اللَّه: إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا، وإن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم، بدَّل سيئاتهم حسنات على ما أخبر: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ...)، هم في مشيئة اللَّه على ما ذكر، وليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا):
لاسوء فيه ولا قبح.
وقوله: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) هو دون قوله: (... لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)، (كَبِيرًا)، في الذكر لكنه صار مثله بقوله: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣) لا يخرجون منه أبدًا، وهم مقيمون فيه.
ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)، أي: لا تأخذهم سآمة ولا ملالة فيه؛ فيريدون التحول منه إلى غير؛ على ما يكون في الشاهد: أنه يسأم المرء ويمل من طعامٍ - وإن كان رفيعًا -
والثاني: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)؛ لأن خوف الخروج والزوال عن النعمة [ينغص النعمة على صاحبها] (١)، وهو ما قال (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)؛ وقال: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ... )
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يعلمون أنه لم يتخذ ولدًا، ولكن يقولون ذلك على العلم منهم كذبًا وزورًا؛ كقوله: (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي: أشرك ما أعلم منه: ليس هو لشريك له، وكقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ) أي: أتنبئون اللَّه بما لا يعلم أنه ليس على ما تقولون.
والثاني: يحتمل قوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، أي: عن جهلهم يقولون ما يقولون من الولد والشريك لا عن علم؛ تقليدًا لآبائهم؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب يعرفون به، ولا كانوا يؤمنون بالرسل، وأسباب العلم هذان: الكتاب والرسل، فما قالوا إنما قالوا عن جهل لا عن علم، وكذلك آباؤهم، فإن كان على هذا، ففيه دلالة أن من قال شيئًا عن جهل فإنه يؤاخذ به حيث قال: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ... (٥)
أي: كبرت وعظمت تلك الكلمة التي قالوها على من عرف اللَّه حق المعرفة حتى كادت السماوات والأرض أن تنشق؛ لعظم ما قالوا في اللَّه كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...) الآية.
وقوله: (إِنْ يَقُولُونَ):
أي: ما يقولون إلا كذبًا، ثم تكلم أهل الأدب في نصب (كَلِمَةً).
قَالَ بَعْضُهُمْ: انتصب على المصدر، أي: كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة؛ كقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
وقال قطرب: هو على الوصف؛ كما يقال: بئس رجلًا، ونعم رجلًا؛ على الوصف به، وذلك جائز في اللغة فعلى ذلك هذا.
وقال الخليل: إنما انتصب، لأنها نعت لاسم مضمر معرفة، وهو بمنزلة قوله: (سَاءَ مَثَلًا)، وإنَّمَا كان نعتا لاسم مضمر؛ لأنه قال: (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوْا
وقد قيل: كبرت المقالة كلمة، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ):
أي: كَبُرَتْ كَلِمَةً: تكلموا بها.
أو يقول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تتكلمونها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)
وقال في آية أخرى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، أخبر أنه فاعل ما ذكر، ولم يقل له، افعل أو لا تفعل في هذا، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)؛ ولهذا قال بعض الناس: إن في قوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ). نهيا عن الحزن عليهم.
وعندنا: ليس يخرج على النهي، ولكن على التسلي والسلوة.
ثم اختلف في قوله: (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا): في الأسف.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الغضب؛ كقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، قال أهل التأويل: (آسَفُونَا) أغضبونا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الحزن، كقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، أي: يا حزني.
ويحتمل أن يكون منه الحزن؛ إشفاقًا عليهم أن تتلف أنفسهم في النار بتركهم الإيمان، أو كانت نفسه تغضب عليهم؛ بتركهم الإجابة، والقول في اللَّه سبحانه على ما قالوا فيه، وكلاهما يجوزان، إذا كان ذلك لله كادت نفسه أن تتلف حزنًا عليهم؛ إشفاقًا منهم، أو كادت تتلف غضبًا عليهم، وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة، للقتل والتلف، ولكن كان يقاتلهم؛ ليسلموا حيث كادت نفسه تتلف؛ إشفاقًا عليهم منه؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل وفي القتل ترك الشفقة، ولكن كان يقاتلهم، ليضطرهم القتال إلى الإسلام، فيسلموا فلا يهلكوا، وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه لهم من وجهين.
أحدهما: ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه، فلعل ذلك يؤذيه، فيلحقهم
والثاني: تعليم منه لأمته: أن كيف يعامل الكفرة وأهل المناكير منهم، يقاتلون في الظاهر، ويضمرون الشفقة لهم في القلب على ما فعل بهم رسول اللَّه، وعاملهم.
وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) سمى القرآن: حديثًا، وهو ما قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، سماه بأسامٍ: قصصًا، وحديثًا، وذكرًا، وروحًا، وأمثاله.
والنهاية في الحزن والغضب للأنبياء، أنفسهم تقوم لهذين، وأما غيرهم من الخلائق، فلا تحتمل أنفسهم إلا لأحدهما إذا كان الحزن؛ ذهب الغضب وإذا جاء الغضب ذهب الحزن؛ فالأنبياء هم المخصوصون بهذا.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧)
اختلف فيما أخبر أنه جعل للأرض زينة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كل ما على وجه الأرض من النبات والشجر والإنسان وغيره هو زينة لها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فإن كان التأويل على هذا فيكون قوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) القيامة، يعني: جميع ما على وجه الأرض فتبقى قاعًا صفصفًا، وذلك إخبار عن القيامة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (زِينَةً لَهَا): هو النبات الذي عليها، وما جعل لهم من الرزق؛ ليبلوهم بما جعل لهم من الأرزاق بالأمر والنهي والعبادات وغيره، لم يجعل ذلك النبات عليها وتلك الأرزاق مجانًا، ولكن ليختبرهم ويبتليهم بأنواع الامتحان، فإذا كان كذلك ففيه دلالة: أن ليس لأحد أن يتناول مما عليها إلا بإذن، ولا يقدم على شيء منها إلا بأمر من أربابها.
وقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: زينة لها: أهلها، جعل ذلك، ليبلوهم، ذكر هاهنا: أنه جعل ما على الأرض؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا.
وقال في آية أخرى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، ثم من الناس من يجمع بين الآيتين، فيقول: جعل الحياة للابتلاء والموت للجزاء؛ فيستدل على ذلك بقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
أخبر: أنه يبلوهم بالزينة والحياة لا بالضيق والموات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)
أي: نبتليهم ونختبرهم أيضًا بذهاب النبات والأنزال وتأويله: أن يبتليهم بالرخاء والسعة وبالضيق والشدة، كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ...) الآية. وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه، فعلى ذلك قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا). واللَّه أعلم.
أي: نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (بَاخِعٌ نَفْسَكَ)، أي: مهلك نفسك.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بَاخِعٌ): بخع نفسه، أي: أخرجها.
وقالا جميعًا: الأسف: الحزن.
وقال غيرهما: الأسف: الغضب أيضًا، دليله قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أي: أغضبونا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعيد: المستوي، ويقال: وجه الأرض، ومنه قيل للتراب: صعيد، لأنه وجه الأرض، والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئًا، يقال: أرض جرز، وأرضون أجراز، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والجرز: التي لا نبت فيها، والصعيد: التراب.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتَ).
وقيل: قد حسبت.
ويحتمل بمعنى: بل حسبت، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، أي: بل يقولون، فعلى ذلك قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ).
وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام، ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الأمر: احسب واعلم: أن أبناء الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا.
أو ما ذكرنا: بل حسبت، وهو كذلك.
أو يقول: لا تحسبن أن أصحاب الكهف والرقيم من آياتنا عجبٌ ليس أعجب منها، بك أتاك آيات أعجب منها بكثير، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في (وَالرَّقِيمِ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالرَّقِيمِ): الكتاب؛ كقوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) أي: مكتوب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالرَّقِيمِ): الوادي الذي فيه كهفهم.
وقيل: (وَالرَّقِيمِ): اللوح الذي كتب فيه أسامي الفتية.
وقيل: (وَالرَّقِيمِ): القرية التي خرجت الفتية منها وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟ لكني سألت كعبًا عنها فزعم أنها القرية التي خرجوا منها.
وقيل: (وَالرَّقِيمِ): الكلب الذي كان معهم.
قالوا أمثال ما ذكرنا، وليس بنا إلى معرفة الكهف والرقيم حاجة، إنما ذلك بلسانهم ولم يسألوا عن الكهف والرقيم، وإنما سألوا عن أصحاب الكهف والرقيم مما ينبغي لهم أن يشتغلوا به.
لكن ذلك فاسد، وما توهموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - محال؛ لأنه كذب لا يجوز أن يكون رسول اللَّه يقول: (أخبركم غدًا) واللَّه لم يأمره بذلك، أو قال ولم يستثن؛ فيحبس الله الوحي عنه، ولا يخبرهم في الوقت الذي قال إنه يخبرهم؛ فيظهر كذبه عندهم بعدما اختاره لرسالته، واصطفاه لموضع وحيه، ثم يكذبه فيما أخبر؛ هذا فاسد محال غير محتمل ما توهموا به على اللَّه وعلى رسوله، قد كان من كفار مكة السعي في منع رسول اللَّه عن تبليغ الرسالة إلى الناس، والحيلولة عن الدعاء إلى ما أمر أن يدعوهم، واستقبال حججه وبراهينه بتمويهاتهم، وقد ذكر في غير قصة وخبر: أنهم سألوا اليهود عنه، وعن نعته: هل تجدون نعته في كتبكم؟ أن لم يكونوا أهل كتاب يعلمون ذلك؛ فاحتاجوا إلى من يعلمهم ويخبرهم عنه، فسألوا يهود المدينة عنه وعن خبره، فقالوا: نجد نعته في كتابنا كما يقولون، فهذا وقت خروجه وأوانه، فقالوا لهم: حدثونا بشيء نسأله لا يعلمه إلا نبي، فقالوا: سلوه عن ثلاث خصال، فإن أجابهن، فهو نبي، وإلا فهو كذاب، اسألوه عن أصحاب الكهف، واسألوه عن ذي القرنين فإنه كان ملكًا، وكان من أمره كذا وكذا، واسألوه عن الروح، فإن أخبركم فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو كذاب، فسألوه، فأخبرهم عن ذلك.
وفي بعض القصة: اسألوه عن الروح، فإن أخبركم عنه، فهو ليس بنبي وإن لم يخبركم، ولكنه وكل أمره إلى اللَّه فهو نبي.
ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا):
يحتمل أن يكون الخطاب وإن كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فالمراد به غيره، على ما خاطبه في غير آي من القرآن والمراد به غيره.
ويحتمل أن الخطاب له والمراد هو، وإن كان هو المخاطب بهذا، فإنه يحتمل قوله: (أَمْ حَسِبْتَ...) إلى آخره وجهين:
أحدهما: يقول: قد حسبت أن أنباءهم وأخبارهم كانت من آياتنا لرسالتك ونبوتك
وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من الله يكون على الإيجاب والإلزام. ثم هو يُخَرَّجُ على وجهين :
أحدهما : على الأمر : احْسَبْ، واعلم أن أنباء ﴿ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ﴾ وما ذكرنا : بل حَسِبَتْ، وهو كذلك.
و( الثاني : على النهي )١ : لا تحسبن ﴿ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ﴾ ليسوا٢ أعجب منها، بل أتاك آيات أعجب منها بكثير، والله أعلم.
ثم اخْتُلِفَ في الرقيم : قال بعضهم : الرقيم الكتاب كقوله :﴿ كتاب مرقوم ﴾( المطففين : ٩و٢٠ ) أي مكتوب.
وقال بعضهم : الرقيم : الوادي الذي فيه كَهْفُهُمْ. وقيل : اللوح الذي كتب فيه أسامي الفتية. وقيل : الرقيم القرية التي خرجت الفتية منها. وكذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ما أدري ما الرقيم ؟ لكني سألت كعبا عنها، فزعم أنها القرية التي خرجوا منها. وقيل : الكلب الذي كان معهم. قالوا : أمثال ما ذكرنا وليس بنا إلى معرفة الكهف والرقيم حاجة ( إنما ذلك بلسانهم، ولم يسألوا عن الكهف والرقيم، وإنما سألوا عن أصحاب الكهف والرقيم )٣ فما ينبغي لهم أن يشتغلوا به.
ثم قال أهل التأويل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قصة أصحاب الكهف والرقيم وأنبائهم، فقال : أخبركم غدا، ولم يَسْتَثْنِ٤، فعاقبه الله فيه أن حبس عنه الوحي كذا وكذا يوما، فنزل قوه تعالى٥ :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ﴾ ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ( الكهف : ٢٣و٢٤ ).
لكن ذلك فاسد. وما توهموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم محال، لأنه كذب لا يجوز أن يكون رسول الله، يقول : أُخْبِرُكُمْ غدا، والله لم يأمره٦ بذلك، أو قال، ولم يستثن، فيحبس الله الوحي عنه، ولا يخبرهم في الوقت الذي قال : إنه يخبرهم، فيظهر كذبه عندهم بعدما اختاره لرسالته، واصطفاه لموضع وحيه، ثم يكذبه في ما أخبر. هذا فاسد محال غير محتمل ما توهموا به على الله وعلى رسوله، لقد٧ كان من كفار مكة السعي في منع/٣١٣-أ/ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبليغ الرسالة إلى الناس
والحيلولة عن الدعاء إلى ما أمر أن يدعوهم واستقبال حججه وبراهينه بتمويهاتهم، وقد ذُكِرَ في غير قِصَّةٍ وَخَبَرٍ أنهم سألوا اليهود عنه وعن بغثة٨ : هل تجدون( بعثه في كتبكم )٩ ؟ إذ لم يكونوا أهل كتاب، يعلمون ذلك، فاحتاجوا إلى من يعلمهم، ويخبرهم عنه١٠، فسألوا يهود المدينة عنه وعن خبره، فقالوا : نجد بعثه١١ في كتابنا كما تقولون. فهذا وقت وخروجه وأوانه.
فقالوا لهم : حدثونا بشيء، لا يعلمه إلا نبي. فقالوا : سلوه عن ثلاث خصال، فإن أجابهن فهو نبي، وإلا فهو كذاب. اسألوه عن أصحاب الكهف، واسألوه عن ذي القرنين فإنه كان ملكا، وكان من أمره كذا وكذا، واسألوه عن الروح. فإن أخبركم فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو كذاب. فسألوه، فأخبرهم عن ذلك. وبعض القصة اسألوه عن الروح، فإن أخبركم عنه فهو ليس بنبي، فإن لم يخبركم، ولكنه وكَّلَ أمره إلى الله، فهو نبي.
ثم قوله :﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ﴾ يحتمل أن يكون الخطاب به، وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره على ما خاطبه به في غير آية من القرآن، والمراد به غيره.
ويحتمل أن ( يكون١٢ ) الخطاب له، والمراد هو. وإن كان هو المخاطب بهذا فإنه يحتمل قوله :﴿ أم حسبت ﴾ إلى آخره وجهين :
أحدهما : يقول : قد حَسِبْتَ أن أنباءهم وأخبارهم كانت من آياتنا لرسالتك ونبوتك عجبا. فيكون الحساب على هذا التأويل في موضع العلم واليقين. كأنه قال : قد عَلِمْتُ أن أنباء أصحاب الكهف وأخبارهم آية عجيبة لرسالتك.
والثاني : إخبار أحوالهم وتَقَبُّلِهِمْ من حال إلى حال. فإن كان على هذا فيكون الحِسْبَانُ في موضع الحِسبَانِ، كأنه قال : قد حَسِبْتَ أن أحوالهم وتَقَلُّبَهُمْ كان من آياتنا عجبا. هذا إن كان الخطاب به لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( والمراد هو. وأما إذا كان
المراد )١٣ : به غيره فإنه يجوز على الحسبان والظن وغيره، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: ليس..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ يعني لم يقل: إن شاء الله..
٥ ساقطة من الأصل و. م..
٦ من م، في الأصل: يأمركم..
٧ في الأصل و. م: قد..
٨ في الأصل و. م: نعته..
٩ في الأصل: نعته في كتبهم، في م: نعته في كتبكم..
١٠ من م، في الأصل: عن..
١١ في الأصل و. م: نعته..
١٢ ساقطة من الأصل و. م..
١٣ في الأصل و. م: وأما إذا كان الخطاب..
والثاني: إخبار عن أحوالهم وتقلبهم من حال إلى حال، فإن كان على هذا، فيكون الحسبان في موضع الحسبان، كأنه قال: قد حسبت أن أحوالهم وتقلبهم كان من آياتنا عجبًا، هذا إذا كان الخطاب به لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأمَّا إذا كان الخطاب به لغيره، فإنه يجوز على الحسبان والظن وغيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) أي: انضم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الكهف: الغار في الجبل.
وقيل: الفضاء.
وقيل: الملجأ.
ولكن قد ذكرنا: أنا لا ندري ما الكهف وما الرقيم؟ ذلك بلسانهم، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، وهم الفتية اسم الأحداث منهم والشبان، لا اسم المشيخة، ثم يكون المماليك والخدم، ويكون الأحرار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً):
قال الحسن: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: جنة، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: يسيرًا، وهو ما ذكر في قوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
فهذا ليس بدعاء، إنما هو تلقين وإلهام منه إياهم، فيكون تفسيرًا للأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: رزقًا؛ لأنهم كانوا يفارقون قومهم؛ لكفرهم؛ ليسلم لهم بينهم الذي هم عليه، وهو الإسلام، وقد عرفوا أنه يسع مفارقة الناس طلبًا لسلامة الدِّين، ولكن لم يعرفوا أنه يسع قوتهم، وما به قوام أنفسهم إلى مكان خال عن ذلك فسألوا ربهم الرزق؛ إشفاقًا على أنفسهم بقولهم: (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: رزقًا (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا: أنهم عرفوا سعة المفارقة للدِّين، ولكن لم يعرفوا سعة ذلك؛ إذا كان فيه خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد والصواب.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)
الضرب على الآذان: هو المحو، محو الأسماع، ويقال: اضرب على حديث كذا: امحه.
ثم يحتمل محو الأسماع وجهين:
أحدهما: محو الأرواح التي بها تحيا الأنفس؛ فيكون كناية عن الموت.
أو يكون محو أرواح الأسماع التي تسمع لا الموت، فلما قال في آية أخرى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)، دل أنه إنما أراد محو أرواح الأسماع، لا محو الأرواح التي بها حياة الأنفس، وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ...) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ... (١٢) من رقودهم؛ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي: لنعلم ما قد علمناه غائبًا شاهدًا؛ إذ كان عالمًا بما يكون منهم، وتأويله: ما ذكرنا: ليعلم الخلق شاهدًا، كما علم هو غائبًا.
أو ليعلم المخطئ منهم من المصيب؛ إذ محال وصفه بالعلم بالمخطئ ولا مخطئ ثم، وبالمصيب ولا مصيب ثمة، فإذا كان كذلك فيكون قوله: ليعلم المخطئ من المصيب، والمصيب من المخطئ إذا كان، وأصله: أنه يعلمه كائنا على ما علم أنه يكون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا).
يضشمل: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مشركيهم ومؤمنيهم.
ومنهم من قال: الملك والفتية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اختلفوا في مكثهم إذ بعثوا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) ولكن لسنا ندري من أي الحزبين، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أنا ذكرنا قول أهل التأويل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) الحق في النبأ: الصدق، والحق في الأحكام: العدل، وفي الأفعال: الصواب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق - هاهنا -: هو القرآن، فيكون قوله (بِالْحَقِّ) أي: في الحق،
وتأويله ما ذكرنا : ليعلم الخلق شاهدا، كما علم هو غائبا، أو ليعلم المخطئ منهم من المصيب، أو محال وصفه بالعلم بالمخطئ ولا مخطئ، ثم وبالمصيب، لا مصيب٢. فإذا كان كذلك قوله :﴿ لنعلم ﴾ المخطئ من المصيب والمصيب من المخطئ، إذا كان. وأصله أنه يعلم كائنا على ما علم أنه يكون.
وقوله تعالى :﴿ لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ﴾ اختلف في قوله٣ ﴿ أي الحزبين ﴾ قال بعضهم : مشركين ومؤمنين. ومنهم من قال : المَلِكُ والفِتْيَةُ.
( ثم اختلفوا في لبثهم )٤ إذ بُعِثوا : قال بعضهم :﴿ لبثنا يوما أو بعض يوم ﴾ ( الكهف : ١٩ ) وقال بعضهم :﴿ ربكم أعلم لما لبثتم ﴾
( الكهف : ١٩ ).
ولكن لسنا ندري من ﴿ أي الحزبين ﴾ ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أنا ذكرنا قول أهل التأويل.
٢ أدرج بعدها في الأصل و. م: ثمة..
٣ في الأصل و. م: يحتمل..
٤ في الأصل و. م: وقال بعضهم هم اختلفوا في ملتهم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).
هذان الحرفان معناهما واحد: الزيادة والربط، كل واحد منهما يؤدي معنى صاحبه زيادة الهدى، أي: ثبتناهم على الهدى.
ويجوز أن يقال: هو التثبيت والربط.
وكذلك يجوز أن يقال على التجديد والابتداء، إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت؛ إذ هو يكون منكرًا جاحدًا للكفر في كل وقت؛ فهو مجدد للإيمان كذلك في كل وقت؛ فإن شئت حملته على الثبات والزيادة على ما كان، وإن شئت على الابتداء والتجدد، وكذلك قوله: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا).
وقال الحسن في قوله: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) أي: من حكم اللَّه أن من اهتدى زاده هدى؛ كقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، لكن هذا لو كان على ما ذكر، لكان لا يجوز أن يكفر إذا اهتدى مرة، لا يزال يزيد له هدى، فإذا لم يكن دل أنه لا يصح ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤)
يحتمل قوله: (إِذْ قَامُوا) بالحجج والبراهين.
ويحتمل: (إِذْ قَامُوا) بالنهوض إلى الكهف، حين انضموا إليه.
أو قاموا لله ولدينه.
أو قاموا من عند أُولَئِكَ الكفرة، فقالوا ما ذكر: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: قالوا: ربنا هو رب السماوات والأرض ورب ما فيهن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا).
يحتمل قوله: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) أي: لن نسميهم آلهة؛ على ما سمى قومهم الأصنام التي عبدوها: آلهة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ قُلْنَا).
من دونه إلهًا، فسموهم: آلهة، على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وقوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا) لا يجوز أن يسمي الأنبياء الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، وهي ليست بآلهة، ولكن قالوا ذلك على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ فعلى ذلك قوله:
(لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)، أي: لن نعبد، فإن كان على العبادة، ففيه إضمار، أي:
ثم قال: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً... (١٥) يعبدونها (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، أي: هلا يأتون على تسميتهم آلهة أو استحقاق العبادة لها بحجة بينة.
ثم حرف (هلا) يستعمل في الماضي، ويستعمل في المستقبل، فإن كان على الماضي فهو على الإنكار، أي: لم يكن؛ وإن كان على المستقبل فهو على السؤال، أي: ائتوا بحجة بينة على أنها آلهة، كما أتوا هم: أن اللَّه هو الإله الحق، وأنه خالق السماوات والأرض، ورب ما فيهما.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) أي: أنمناهم، والأمد: هو الغاية، (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: ألهمناهم الصبر، وثبتنا قلوبهم.
وقوله: (شَطَطًا)، أي: غلوا، يقال: أشط عليَّ؛ إذا غلا في القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
أي: لا أحد أظلم ممن جعل مع اللَّه آلهة، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ... (١٦) وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله) فتأويل الآية على القراءة الظاهرة: وما يعبدون إلا اللَّه، أي: وإن اعتزلتموهم، والذين لا يعبدون إلا اللَّه، فلا تعتزلوا عبادته؛ لأنه كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون اللَّه أيضا ويرونه معبودًا؛ فكأنهم قالوا: وإذ اعتزلتموهم والذين يعبدون إلا اللَّه فلا تعتزلوه، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لقومه حيث قال: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦). الآية، استثنى عبادة رب العالمين من بين عبادة من يعبدون من دونه؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون اللَّه ويرونه معبودًا، إلا أن بعضهم لا يرون أنفسهم بلغت مرتبة عبادة اللَّه، فيعبدون الأصنام؛ رجاء أن تشفع لهم عنده، أو تقرب عبادتهم إلى الله زلفى وأمثاله.
وجائز أن يكون قوله: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ): على التقديم والتأخير، أي: وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف؛ لأنهم كانوا لا يعبدون إلا اللَّه يعني: أصحاب الكهف.
وتأويل قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذ اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون من دون اللَّه.
ويحتمل أن يكون هذا منهم ليس على القول والنطق؛ ولكن ألقى في قلوبهم وقذف: أنهم إذ فارقوا قومهم وباينوا يأوون إلى الكهف وينشر لكم ربكم من رحمته.
وقال الحسن: إن في قومهم من قد آمن سواهم؛ فقالوا: إنكم إذا باينتم وفارقتم فأووا إلى الكهف، فلا تقعدوا معهم فلعلهم يلحقونكم ويطلبون لقاءكم، فلا تقعدوا معهم. ويشبه أن يكون قوله:
(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)، لما عزموا أن يفارقوا قومهم اعترض لهم الشيطان، فقال: إنكم تفارقون قومكم إلى مكان، وليس معكم شراب ولا طعام؛ فتهلكون أنفسكم؛ فدفعوا وساوسه؛ بقوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
ثم قوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: يخلق لكم ربكم، كقوله: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا) بالراء، أي: كيف نخلقها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَنْشُرْ لَكُمْ)، أي: يبسط، والنشر: هو البسط.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: (مِنْ رَحْمَتِهِ): يحتمل الرزق، ويحتمل كل شيء به يدفع الهلاك عن أنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
أي: ما ترفقون به وتنتفعون به، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ، وهو من الرفق، والمرفق - أيضًا - مثله؛ لأنه: ينتفع أبه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مِرْفَقًا): ما يرتفق به.
وقال أبو عبيدة: المِرْفق: ما ارتفقت به، فأما في اليدين فهو مَرْفِق، والله أعلم.
أحدهما )١ على القراءة الظاهرة ﴿ وما يعبدون إلا الله ﴾ أي وإن اعتزلتموهم والذين لا يعبدون إلا الله فلا تعتزلوا عبادته لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون الله أيضا، ويرونه معبودا. فكأنهم قالوا : وإذ اعتزلتموهم والذين ( ما )٢ يعبدون الله فلا تعتزلوهم٣. وهو كقول إبراهيم عليه السلام لقومه حين٤ ﴿ قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ﴾ { انتم وآباؤكم الأقدمون ) ( الشعراء : ٧٥و٧٦ ) استثنى عبادة رب العالمين من بين عبادة ما٥ يعبدون من دونه، إذ كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم عنده، أو تقرب عبادتهم إلى الله زلفى وأمثاله.
وجائز أن يكون قوله :{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا
الله } على التقديم و التأخير ؛ أي وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف لأنهم كانوا لا يعبدون هم في الحقيقة إلا الله، يعني أصحاب الكهف.
والثاني : ما ذكرنا : وإذ اعتزلتموهم، و ما يعبدون في الحقيقة إلا الله، وإن كانوا في الظاهر يعبدون غير الله.
وتأويل قراءة عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه إذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون من دون الله.
ويحتمل أن يكون هذا منهم ليس على القول والنطق، ولكن ألقي في قلوبهم وقذف، أنهم إذ فارقوا قومهم، وباينوهم٦ ﴿ فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ﴾.
وقال الحسن : إن في قومهم من قد آمن سواهم، فقالوا : إنكم باينتم،
وفارقتم ( قومكم )٧ ﴿ فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ﴾ فلا تُعُدُّوا٨ منهم، فلعلهم يلحقونكم، ويطلبون لقاءكم، فلا يعدوا٩ منهم.
ويشبه أن يكون قوله :﴿ فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ﴾ لما عزموا أن يفارقوا قومهم اعتزلتم الشيطان، فقال : إنكم تفارقون قومكم إلى مكان، وليس معكم شراب ولا طعام، فتهلكون أنفسكم، فدفعوا وساوسه بقوله صلى الله عليه وسلم ﴿ ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ﴾.
ثم قوله :﴿ ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ﴾قال بعضهم : يخلق لكم ربكم كقوله :﴿ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ﴾ بالراء ( ننشرها )١٠ ( البقرة : ٢٥٩ ) أي كيف نخلقها، وقال بعضهم :﴿ ينشر لكم ﴾ أي يبسط، والنشر هو البسط.
وقوله تعالى :﴿ من رحمته ﴾ يحتمل الرزق، ويحتمل كل شيء يدفع الهلاك عن أنفسهم.
وقوله تعالى :﴿ ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ﴾ أي ما ترفقون به، وتنتفعون، وهو قول أبي عوسجة، وهو من الرفق ( والمرفق )١١ أيضا مثله، لأنه ينتفع ( به )١٢.
وقال القتبي :﴿ ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ﴾ ما يُرْتَفَقُ به وقال أبو عبيدة : المرفق ما ارتفقت به. فأما في اليدين فهو مِرْفَقُ، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و. م..
٣ في الأصل و. م: تعتزلوه..
٤ في الأصل و. م: حيث..
٥ في الأصل و م: من.
٦ في الأصل: وباينوا..
٧ ساقطة من الأصل و. م..
٨ في الأصل و. م: تعبدوا..
٩ في الأصل و. م: يعبدوا..
١٠ ساقطة من الأصل و. م، وهي قراءة عاصم وأبان وابن عباس، وقراءة الجمهور﴿ننشزها﴾بالزاي. انظر معجم القراءات القرآنية ح١/٢٠٠..
١١ من م، ساقطة من الأصل..
١٢ ساقطة من الأصل و. م..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ).
قيل: تميل عن كهفهم.
(ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ).
كانت لا تصيبهم لا عند طلوعها ولا عند غروبها؛ لأن الكهف كان مستقبل بنات النعش، وكل شيء يكون مستقبل بنات النعش لا تصيبه الشمس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان ثمة حجاب وستر يحجب الشمس عن أن تقع عليهم، لكن هذا لا يصلح؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعلهم ذلك آية من آياته، وكرامة من كراماته؛ فليس فيما لا يقع عليهم الشمس بحجاب أو ستر كبير آية ومنَّة؛ إنما الآية فيما تقع الشمس عليهم، ثم يدفع عنهم ضررها وأذاها؛ فإذا كانوا بحيث لا تصيبهم الشمس - فأذاها وضررها -أيضًا- لا يصيبهم؛ فليس في ذلك كبير آية وحكمة؛ إذ ليس فيما لا يصيب الشمس ضرر أو أذى، ولكن يذكر لطفه؛ حيث منع ضرر الشمس وأذاها عنهم مع إصابة الشمس إياهم ووقوعها عليهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) يمينهم، أو يمين القبلة، وكذلك (ذَاتَ الشِّمَالِ): شمال أُولَئِكَ، أو شمال القبلة، فأما يمين الجبل والغار، على
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: الفجوة: الظل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفجوة: الفضاء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي سعة المكان: يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن لطفه ومننه: أنه قد حشرهم إلى غار كانوا يسعون فيه حتى يتقلبوا فيه، والغار الذي يكون في الجبال لا هكذا يكون؛ بل يكون ضيقًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ).
هذا يرد قول من ينكر جري الآيات على يدي غير الأنبياء؛ لأنه جعل في أصحاب الكهف عددًا من الآيات: كلها خارجة عن احتمال وسع الخلق وعادتهم؛ لمفارقتهم قومهم لسلامة دينهم.
أحدها: ما أخبر أنه ضرب على آذانهم، وأنامهم نومًا خارجًا عن طبع الخلق وعادتهم، وهو ثلاثمائة سنة، ثم بعثهم ليتساءلوا بينهم، على ما أخبر، عَزَّ وَجَلَّ.
والثاني: لم تبل ثيابهم في مثل تلك المدة ومثل المكان، ولم تتغير؛ ألا ترى أنهم قالوا حين بعثوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ)، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة، لم يستقلوا ولا استقصروا كل هذا يومًا أو بعض يوم؛ ألا ترى أنهم فزعوا إلى الطعام، ولم يفزعوا إلى الثياب؛ حيث قالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة - لكان فزعهم إلى الثياب كهو إلى الطعام، وهو أولى.
والثالث: ما أخبر: من تزاور الشمس إذا طلعت ذات اليمين، وقرضها إياهم ذات الشمال.
والرابع: دفع الحر والبرد عنهم؛ إذ من طبعهما الإهلاك والفساد إذا اشتدا وكثرا.
والخامس: ما ذكر من تقليبه إياهم ذات اليمين وذات الشمال، وحفظه إياهم عن أن تفسدهم الأرض وتأكلهم؛ إذ من طبع الأرض ذلك عند امتداد الوقت.
والسادس: ما ذكر في الآية من الهول والهيبة إذا دخل عليهم واطلع؛ حيث قال: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا): خوفًا مما ترى فيهم من الأهوال: هذا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكيف لمن دونه؟!.
والثامن: إبقاؤهم أحياء أكثر من ثلاثمائة سنة بلا غذاء، والأنفس لا تبقى بلا غذاء بدون ذلك؛ وذلك باللطف، وأمثال هذا كثير مما يكثر عدها وإحصاؤها.
كله من آيات عظيمة خارجة عن وسع البشر وعادتهم؛ فذلك لهم باختيارهم دين الله من بين قومهم، وبمفارقتهم إياهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ إذ الغلبة فيهم يومئذ الكفر، فأكرمهم اللَّه بذلك بالكرامات التي ذكرنا؛ فلا ننكر أن يعطي اللَّه أحدًا من أوليائه قطع مسيرة أيام بيوم أو بساعة، أو المشي على الماء، ونحو ذلك، ليس بمستبعد ولا مستنكر.
وقول أهل التأويل: إنهم كانوا كذا، والكلب كذا، وأساميهم كذا، وعددهم كذا، ونحوه؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر الصدق وقول الحق، وقد نهى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يستفتي فيهم منهم أحدًا حيث قال: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) وما ذكر هَؤُلَاءِ كله من الاستفتاء الذي نهى رسوله عن ذلك.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تزَاوَرُ) أي: تميل، وتزور مثله.
(تَقْرِضُهُمْ)، أي: تدعهم على شمالها، أي: أن الشمس لا تصيبهم طالعة ولا غاربة عند طلوعها وغروبها، ويقال: قرضته: تركته، أقرضه قرضًا، ويقال: قرضت موضع كذا، أي: جاوزته وتركته خلفي، ويقال: قرضه، أي: قطعه بمقراض، وتزاور يتزاور، أي: عدل ومال (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ): أي سعة، وفجوات جمع.
ويحتمل قوله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أي: ذلك النبأ وما ذكر من قصة أصحاب الكهف من آيات قدرة اللَّه، أو من حجج اللَّه على إثبات رسالة رسوله ونبوته.
أو من آيات كراماته للفتية ولمن اختار دين اللَّه وآثره على غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا).
قد ذكرناه في غير موضع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ ت (تَزَاوَرُ) و (تَقْرِضُهُمْ) كلاهما واحد، وهو أن تميل عن كهفهم فتدعهم ذات اليمين، (وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي: تدعهم ذات الشمال.
وقوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: زائفة من الكهف، قال أبو معاذ: الزائفة: قدر ما يصلح.
وقال مقاتل: (رَشَدًا)، أي: مخرجا.
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا): قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: غذاء تأكلونه، وهو ما ذكرنا كل ما يترفق به، ويقال: مخرجا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: لأنهم كانوا مفتحي الأعين والأبصار كاليقظان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وتحسبهم أيقاظا؛ لأنهم كانوا يتقلبون في رقودهم اليمين والشمال كما يتقلب اليقظان يمينا وشمالا.
وقال بعض أهل التأويل: إنما كان يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها؛ لئلا يفسدوا ولا يتلاشوا، وإن كان اللَّه قادرًا أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب وإن كان ذلك مما يفعله من لا يملك دفع الأذى إلا بما ذكرنا، فأما من كان قادرًا بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع فغير محتمل.
وهو: على التعليم منه إياهم: أن كيف يتقى الأذى؟ وكيف يدفع الضرر؟ فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)؛ لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد ولا يختار للنوم مثله، فقال: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) ولما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف، كأنهم أيقاظ وهم رقود، واللَّه أعلم.
ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ وهم رقود؟ وإذا لم يبين اللَّه ذلك فلا نفسر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) هو ما ذكرنا أنهم: قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب، وذكر التقليب جائز أن يكون؛ لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها.
وقوله: (ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) وإذ لا يفهم من ذات الشيء غير ذلك الشيء أو شيء آخر سواه؛ لأنه ذكر ذات اليمين فهو اليمين والشمال نفسه لا غير؛ فعلى ذلك في قولنا: عالم بذاته، لا يفهم غير علمه، أي: عالم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الوصيد: هو فناء الباب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوصيد: هو عتبة الباب.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الوصيد: الفناء، ويقال: عتبة الباب، وهذا أعجب إِلَيَّ؛ لأنهم يقولون: أوصد بابك، أي: أغلقه. ومنها (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة، وأصله: أن تلصق الباب إلى العتبة إذا أغلقته.
فإن كان الوصيد هو عتبة الباب، ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار، وفيه أيضًا أنه أبقى الكلب ثلاثمائة سنة على ما أبقاهم، وإن لم يكن من جوهرهم بلطفه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا).
قال بعض أهل التأويل: وذلك أن شعورهم قد طالت وأظفارهم قد امتدت وعظمت، فكانوا بحال يرغب عنهم ويهاب.
لكن هذا لا يحتمل؛ لأنهم قالوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم، لم يكونوا ليقولوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)؛ إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال، لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت؛ دل ذلك أن ذلك الخوف والهيبة لا لذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لأنهم كانوا في مكان الريبة فيما لا يؤوي إلى مثله إلا لخوف ريبة أو طلب ريبة لا يأويه إلا لهذين: هارب من شر، أو طالب شر على آخر؛ على ما ذكرنا: أن من أقام في مهاب ومكان مخوف يهاب منه ويخاف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) أي: كما أنبأكم من أنبائهم وقصصهم أو كما ضرب على آذانهم وأنامهم سنين كذلك يبعثهم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) بعثهم؛ لما علم ما يكون منهم، وهو التساؤل، وهكذا جميع ما يخلق وينشئ، إنما يخلق وينشئ؛ لما يعلم أنه يكون منهم؛ كقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا...) الآية، ذرأهم؛ لما علم أنه يكون منهم، وهو عمل أهل جهنم، وكذلك قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) من علم أنه يعبده ويعمل له عمل أهل الجنة خلقه لذلك، هكذا كل ما يخلق، لما يعلم أنه يكون منه؛ إذ يخرج الفعل لذلك مخرج العجز والجهل بالعواقب، فإذا كان اللَّه عالمًا بما كان ويكون، ويتعالى عن أن يكون فعله عبثا - لم يجز أن يخلق شيئًا لغير ما علم أنه يكون، وهكذا في الشاهد من عمل عملا أو فعل فعلا لغير ما علم أنه يكون - فهو عابث أو جاهل بعواقبه، وباللَّه العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
وتأويله ما ذكر: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا).
وقوله: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا ذلك، لما لم يروا في أنفسهم آثارًا وأعلاما تدل على طول المكث والمقام فيه، ثم لما تذكروا أحوالهم، وما يرى النائم في نومه من العجائب وأشياء كثيرة، عرفوا أن ذلك القدر من الأشياء ومثل ذلك من العجائب التي رأوا لا يحتمل أن يكون في يوم أو بعض يوم، فعند ذلك وكلوا الأمر إلى اللَّه، فقالوا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ).
وأما الذي أماته مائة عام لما بعثه قطع القول في ذلك، ولم يكل الأمر إلى اللَّه حيث
وأما النائم فإنه يرى في نومه أشياء فيعرف أنه لا يكون في وقت قصير؛ لذلك وكلوا الأمر إلى اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ).
فيه أنهم لما فارقوا ومعهم زاد وهو الورِق، أمر بعضهم بعضا: أن يبعث بالورق، ليأتيهم بالطعام، وفيه أنه أضاف الورق إليهم، ولا شك أنه كان له فيه نصيب حيث قال: (بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ)، وفيه دلالة جواز المناهدة في الأسفار وغيرها؛ إذ كان ذلك الورِق بينهم، وفيه دلالة جواز الوكالة، وأنها ليست بمبدعة، ولكن كانت في القرون الماضية وهي متوارثة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَزْكَى طَعَامًا) أي: أحل طعاما؛ لأن بعض أهل تلك المدينة يذبحون للأصنام وباسم الأوثان التي كانوا يعبدونها، فأمروا بأن يأتيهم بحلال يحل لهم أكله والتناول منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْكَى): أرخص وأكثر؛ لأنهم في مكان لا يدرون متى يخرجون منه، فطلبوا الأكثر؛ لشدة حاجتهم إليه ويكفي لوقت مقامهم ونحوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْكَى طَعَامًا) أي: أطيب وأجود؛ لأن الطيب أزيد للعقول وأصلح للأنفس وأنفع؛ ولذلك جعل اللَّه أرزاق البشر ما هو أطيب وألين؛ لما يزيد ذلك في العقول والفهم، وجعل لغيرهم من الدواب كل خشن خبيث، لما ليس لهم عقول يحتاج إلى ما يزيد لها فيها، وأصل الزكاء: النماء والزيادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا).
يحتمل قوله: (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي: ليرفق بهم؛ لئلا يشعروا أنه من أُولَئِكَ الذين فارقوهم لدينهم.
أو أمره بالتلطف، أي: بالسماحة والسهولة في الشراء؛ لما جاء في الخبر: " رحم الله
(وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) أنه فلان بن فلان وأنه من قوم كذا فيعرفون أنه من أصحاب الكهف.
أو لا يشعرن بمكانكم أحدا، من الناس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)
يحتمل: يقتلوكم أو ما أرادوا بكم.
(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)، أي: في دينهم الكفر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).
أي: ما دمتم في ملتهم ودينهم، هذا كأنهم لم يعرفوا التَّقِيَّة، وإلا لو أعطوهم بلسانهم ولم يعطوهم بقلوبهم، لكانوا قد أفلحوا.
أو عرفوا التَّقِيَّة إلا أنه لم يكن للقرون الماضية التقية، ولم يؤذن لهم فيها.
أو هي رخصة رخص لهم، والأفضل ألا يعطي ذلك ولا يظهر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١)
اختلف في قوله: (وَكَذَلِكَ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: كما أخرج المبعوث بشراء الطعام من الكهف مع الورق المتقدم ضربها، فكان ذلك بسبب إعلام أهل المدينة عن الفتية (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)، أي: أطلعنا عليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما أعلم عن أنباء الفتية وأصحاب الكهف وقصصهم من أولها إلى آخرها، (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: أطلعنا عليهم، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: كما ضرب على آذانهم ليعلموا أن ما وعد لهم الرسل عن اللَّه حق.
ثم اختلف في إطلاعهم عليهم:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أطلع اللَّه الملك الذي هربوا منه وأهل المدينة بعدما أنامهم، لكن حيل بينهم وبين أُولَئِكَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أطلعهم قبل أن ينيمهم، فحيل بينهم وبينهم، فسدوا باب الكهف، فبقوا هنالك، ثم أنامهم بعد ذلك ما ذكر، فهلك ذلك الملك، وانقرض تلك القرون، ثم ولي ملك آخر مسلم صالح، ثم أطلع ذلك الملك عليهم، وأمثال ذلك قد قالوا، فلا ندري
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
يشبه أن يكون الرسل من قبل كانوا يخبرون قومهم أن نفرًا يهربون من ملكهم؛ إشفاقًا على دينهم، ويلتجئون إلى الكهف فينامون كذا وكذا سنة، ثم يبعثون، فأكذبهم قومهم بما أخبروا قومهم من أنبائهم، فقال: (أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) أن ما وعد الرسل وأخبروهم من نبأ أصحاب الكهف حق.
والثاني: يحتمل أن يكونوا ينكرون البعث والساعة، والرسل يخبرون أنهم يبعثون، فأطلع على أُولَئِكَ؛ ليعلموا أن البعث والقيامة حق؛ لأن الأعجوبة في إبقاء أنفس أصحاب الكهف في نومهم ثلاثمائة سنة أو أكثر بلا غذاء يغتذون، ولا طعام يطعمون، ولا شيء تقوم به الأنفس - إن لم تكن أكثر وأعظم من إحياء الموتى وجمع العظام الناخرة البالية لا تكون دونه؛ لما لم يروا الأنفس لا تبقى أياما بلا غذاء فضلا أن تبقى سنين كثيرة ثلاثمائة أو أكثر، فبعث هَؤُلَاءِ؛ ليعلم من أنكر البعث أن من قدر على إبقاء الأنفس مدة مديدة طويلة بلا غذاء تغتذي به لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الموت.
أو أن يكون ما ذكرنا بدءًا: أن الرسل السالفة كأنهم أخبروا قومهم عن قصة أصحاب الكهف فكذبوهم، فأطلع اللَّه نبأهم وخبرهم؛ ليعلم أُولَئِكَ أن الذي أخبرهم الرسل حق وصدق، واللَّه أعلم.
ثم إن هذه الأنباء والقصص المتقدمة ذكرت في القرآن حجة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودلالة في إثبات رسالته، فلا يجوز أن يقطع القول في شيء لم يبين فيه ولم يوضح ولم يفسر؛ لما يخاف فيه الكذب على اللَّه، ولا الزيادة فيها والنقصان على ما ذكر فيه؛ لما لعلها تخرج مخالفة لما ذكر في كتبهم؛ فلا يكون له فيها حجة ولا دلالة.
فَإِنْ قِيلَ: كيف علموا أن ما أخبرهم الرسل حق إذا كانوا لا ينكرون أن وعد اللَّه حق، ولكن يظنون أن ما وعدهم الرسل ويخبرونهم إنما هو اختراع منهم لا وعد من اللَّه وخبر عن اللَّه؟
قيل: علموا أن ذلك حق بوجوه:
أحدها: ما رأوا من الدراهم التي كانت في يدي المبعوث بشراء الطعام من الضرب المتقدم، وإن كان يجوز أن تكون تلك الدراهم من كنز أصاب ذلك الرجل لا من دراهم
وقال بعضهم : كما أعلم عن أنباء الفتية وأصحاب الكهف وقصصهم من أولها إلى آخرها ﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ﴾ أي أطلعنا عليهم، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله :﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ﴾ أي كما ضرب على آذانهم ( وأنامهم مدة طويلة )١ ﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ﴾ ليعلموا أن ما وعد لهم الرسل عن الله حق.
ثم اختلف في إطلاعهم عليهم : قال بعضهم : أطلع الله الملك الذي هربوا منه أهل المدينة بعدما أنامهم، لكن حيل بينهم وبين أولئك.
وقال بعضهم : أطلعهم قبل أن يُنِيَمَهُم، فَحِيل بينهم وبينهم، فسدوا باب الكهف، فبقوا هنالك، ثم أنامهم بعد ذلك ما ذكر، فهلك ذلك الملك، وانقرضت تلك القرون، ثم وُلِّيَ ملك آخر مسلم صالح، ثم أطلع ذلك الملك عليهم.
وأمثال ذلك قد قالوا، فلا ندري كيف كانت القصة ؟ وفي ظاهر الآية أنه اطلع عليهم بعد ما أنامهم، وبعثهم. وليس فيه بيان أنه
من أطلع عليهم ؟ الملك الأول أو الثاني : أو القوم أو غيرهم ؟ ولا يجوز أن يقطع فيه القول : إنه فلان لأن هذه الأنباء ذكرت٢ في القرآن حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قُطِعَ القول على شيء، أو زيد، أو نقص عما كان في كتبهم خرجت من أن تكون حجة له.
وقوله تعالى :﴿ ليعلموا أن وعد الله حق ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما٣ : يشبه أن يكون الرسل من قبل كانوا يخبرون قومهم أن نفرا يهربون من ملكهم إشفاقا على دينهم، ويلتجئون إلى الكهف، فينامون كذا وكذا٤ سنة، ثم يبعثون. فأكذبهم قومهم بما أخبروا قومهم من أنبائهم، فقال :﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ﴾ أن ما وعد الرسل، وأخبرهم من نبإ أصحاب الكهف حق.
والثاني : يحتمل أن يكونوا ينكرون البعث والساعة، والرسل يخبرون أنهم يبعثون، فأطلع على أولئك ليعلموا أن البعث والقيامة حق، لأن الأعجوبة في إبقاء أنفاس أصحاب الكهف في نومهم ثلاث مائة سنة أو ستة أو أكثر بلا غذاء يغتذون ولا طعام يطعمون ولا شيء تقوم به الأنفس إن لم تكن أكثر وأعظم من إحياء الموتى وجمع العظام الناخرة البالية فلا٥ تكون دونه لما لم يروا الأنفس تبقى أياما بلا غذاء فضلا أن تبقى سنين كثيرة مائة سنة أو أكثر. فبعث هؤلاء ليعلم من أنكر البعث ( أن )٦ من قدر على إبقاء الأنفس مدة مديدة طويلة بلا غذاء تغتذي قادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الموت.
أو أن يكون ما ذكرنا بدءا أن الرسل السالفة كأنهم أخبروا قومهم عن قصة أصحاب الكهف، فكذبوهم، فأطلع الله نبأهم وخبرهم ليعلم أولئك أن الذي أخبرهم الرسل حق وصدق، والله أعلم.
ثم إن هذه الأنباء والقصص المتقدمة ذكرت في القرآن حجة لرسول الله ودلالة في إثبات رسالته. فلا يجوز أن يُقطع القول في شيء لن يبين فيه، ولم يوضح، ولم يفسر، لما يخاف فيه الكذب على الله أو٧ الزيادة والنقصان على ما ذكر فيه لما لعلها تخرج مخالفة لما ذكرت في كتبهم، فلا تكون له حجة ولا دلالة.
فإن قيل : كيف يعلموا أن ما أخبرهم الرسل ويخبرونهم إنما هو اختراع منهم، لا وعد من الله وخبر عنه ؟ قيل : علموا أن ذلك حق بوجوه.
أحدها : ما رأوا من الدراهم التي كانت في يدي المبعوث بشراء الطعام من الضرب المتقدم، وإن كان يجوز أن تكون تلك الدراهم/٣١٥-أ/من كنز أصاب ذلك الرجل لا من دراهم أصحاب الكهف. فإذا صدقوا ذلك الرجل في ما أخبر أنها من دراهم أصحاب الكهف، فتصديق الرسل أولى، وخبرهم أحق أن يصدق.
والثاني : علموا لما رأوا انه أنامهم مدة طويلة خارجة عن العدة، وحفظهم من كل ضرر٨وأذى وفساد، وأبقاهم من غير طعام ولا شراب على علم منهم أن الأنفس لا تبقى، ولا تقوم بغير طعام ولا شراب بدون تلك المدة بكثير فضلا أن تبقى إلى مثل تلك المدة. فعلموا إن مََنْ قَدَرَ على حفظ ما ذكرنا وإبقائهم لقادر على البعث والإحياء ولا يعجز٩عن شيء يريد كونه، وأنه فعال لما يريد.
والثالث : علموا أن ذلك حق لما رأوا أنه أنامهم وقتا طويلا وحفظهم من جميع الآفات ثم بعثهم وأحياهم وأنه لم ينيمهم ولم يبعثهم إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد، فعلى ذلك إحياء الخلق وإماتتهم، ليس إلا لعاقبة تتأمل وحكمة والله أعلم١٠.
وقوله تعالى :﴿ إذ يتنازعون بينهم أمرهم ﴾ لسنا ندري في ماذا تنازعوا في أمرهم في ما بينهم.
وقوله تعالى :﴿ فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ﴾ يحتمل أنه١١ تنازعوا ف( ي السبب الذي به التجئوا إلى الكهف.
ويشبه أن يكون تنازعهم في البناء الذي ذكر في المسجد وغيره، ويحتمل في عددهم ونحوه.
ولكن لا نقطع القول فيه إذ وكلوا١٢ أمرهم إلى الله حين قالوا :﴿ ربهم أعلم بهم ﴾.
وقوله تعالى :{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم
مسجدا } يحتمل بناء المسجد عليهم إكراما لهم وإعظاما ليذكروهم في ذلك المكان على قرب منهم على ما ظهر عندهم من إكرام الله إياهم ( ويحتمل أن يتخذوا أنفسهم مسجدا للعبادة )١٣ ليعبدوا الله على قرب منهم لينالوا من بركتهم ( ونحو ذلك )١٤، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: ذكر..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ من م، في الأصل: كذا..
٥ الفاء ساقطة من الأصل و م..
٦ ساقطة من الأصل و. م..
٧ في الأصل و. م: ولا..
٨ من م، في الأصل: ضرب..
٩ في الأصل و. م: يعجزه..
١٠ من م، في الأصل: فعلى ذلك..
١١ في الأصل و. م: أو..
١٢ في الأصل و. م: وكل..
١٣ في الأصل و. م: أو يتخذان مسجدا للعبادة أنفسهم..
١٤ في الأصل و. م: ونحوه..
والثاني: علموا لما رأوا أنه أنامهم مدة طويلة خارجة عن العادة، وحفظهم من كل ضرر وأذى وفساد، وأبقاهم من غير طعام ولا شراب، على علم منهم أن الأنفس لا تبقى ولا تقوم بغير طعام ولا شراب بدون تلك المدة بكثير، فضلا أن تبقى إلى مثل تلك المدة؛ فعلموا أن من قدر على حفظ ما ذكرنا وإبقائهم، لقادر على البعث والإحياء ولا يعجز عن شيء يريد كونه، وأنه فعال لما يريد.
والثالث: علموا أن ذلك حق؛ لما رأوا أنه أنامهم وقتًا طويلا، وحفظهم عن جميع الآفات، ثم بعثهم وأحياهم - أنه لم ينمهم ولم يبعثهم إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد؛ فعلى ذلك إحياء الخلق وإماتتهم ليس إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ):
لسنا تدري في ماذا تنازعوا في أمرهم فيما بإهم:
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)، أو تنازعوا في السبب الذي به التجئوا إلى الكهف؟
ويشبه أن يكون تنازعهم في البناء الذي ذكر في المسجد وغيره، ويحتمل في عددهم ونحوه، ولكن لا نقطع القول فيه؛ إذ وكل أمرهم إلى اللَّه جث قال. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)، ثم قوله: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) يحتمل بناء المسجد عليهم إكرامًا لهم وإعظامًا؛ ليذكروهم في ذلك المكان على قرب منهم، على ما ظهر عندهم من إكرام اللَّه إياهم.
أو يتخذون مسجدًا لعبادة أنفسهم، ليعبدوا اللَّه على قرب منهم؛ ليسألوا من بركتهم ونحوه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا
قَالَ بَعْضُهُمْ: عددهم كان سبعة والثامن الكلب؛ لأنه ذكر في الثالث والخامس (رَجْمًا بِالْغَيْبِ)، أي: قذفًا بالغيب وظنا، وقيل: ترجمة بالغيب، أي: بلا علم ولم يذكر في قوله: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: " أنا من القليل الذين استثناهم اللَّه، وكانوا سبعة والثامن الكلب "، لعل ابن عَبَّاسٍ قال: " أنا من القليل " ظنا واستدلالا بالذي ذكر، أو كان سماعا سمع من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك.
وقال الحسن وأبو بكر وغيرهما: إن اللَّه تعالى قال: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)، ثم استثنى قليلا من عباده، فلا نعلم بأن أُولَئِكَ القليل من الملائكة أو من البشر أو منهم؟ فلا ندري من هم؟ ولا كم عددهم؟ وبه نقول نحن، وهو ما قال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) نهى رسوله أن يستفتي منهم أحدًا؛ لما يحتمل أن يكون ذلك غير مبين في كتبهم، فلا يطلع رسوله خوف التكذيب.
ثم اختلف في وقتهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان فيما بين عيسى ومُحَمَّد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك كان قبل بعث موسى، وهو قول الحسن وأبي بكر وهَؤُلَاءِ، وهذا أشبه؛ لأنهم إنما سألوا عنهم أهل التوراة وهم اليهود، فلا يحتمل أن يكون بعد عيسى وهم لا يؤمنون بالإنجيل.
وقول أهل التأويل: كان أساميهم وعددهم كذا، ليس لنا إلى معوفة أساميهم وعددهم، حاجة، ولو كانت لتولى اللَّه بيان ذلك في الكتب.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: ظنا بالغيب، أي: يقولون بالظن.
وقيل: قذفًا بالغيب على غير استيقان، وهما واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا) إلى قوله: (إِلَّا أَن يَشَآءَ اللَّهُ) يحتمل الخطاب بهذا لكل الناس، ليس أحد أولى به من غيره؛ فيخرج ذلك مخرج التعليم لهم في ترك المراء مع الكفرة إلا مراء ظاهرًا، وكذلك في ترك الاستفتاء، وكذلك علمهم
ويحتمل أيضًا أن يكون الخطاب به لرسول اللَّه، لكن ليس لأنه قد كان منه ما ذكر من المراء والاستفتاء والوعد بغير ثنيا، ولكن خاطب به رسول اللَّه ليتأدب غيره من الناس بذلك الأدب، وهو كما خاطبه بقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ونحوه من الخطاب الذي خاطبه به، فخاطبه به لا لأنه كان منه ذلك أو كان فيه ما ذكر، ولكن لما ذكرنا من الوجوه فيما تقدم.
ثم اختلف في قوله: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في أمر أصحاب الكهف، أي: لا تمار فيهم ولا تستفت فيهم منهم إلا قدر ما كان في كتبهم، فإنك لو ماريتهم بما ليس في كتابهم كذبوك، ولكن قدر ما في كتبهم؛ هذا كان على المسألة، فإن كان على غير المسألة في غير أمر أصحاب الكهف على ابتداء المحاجة والحجاج فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: لا تمار فيهم إلا بما هو أظهر ويعرفون ذلك ظاهرًا، من نحو ما يعرفون أن الأصنام التي عبدوها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، ونحو ذلك مما يعرفون أنها كذلك.
والثاني: لا تحاجهم بلطائف الحكمة ودقائقها، ولكن بشيء محسوس ظاهر من الآية، لا بما يلطف ويدق، على ما يحاجهم الأنبياء بآيات حسيات.
وفي قوله: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) دلالة ألا يسع النظر في كتاب الفلاسفة إلا على جهة العرض لما فيها على كتاب اللَّه فيؤخذ بما يوافقه ويترك الباقي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٢٤)
لو كان فهم الخطاب على ظاهر ما خرج، لكان في قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) نهى عن العدة بالثنيا، فإذ لم يفهم هذا، ولكن فهموا: لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن تقول إن شاء اللَّه، على إضمار القول؛ دل أن الخطاب ليس يحمل على ظاهر المخرج، ولكن على ما توجبه الحكمة والدليل.
ثم نهى أن يعد عدة ولا يستثني فيها، وقاس بعض الناس الأيمان على العدات فيقول: إذا حلف، فإنه يلزمه أن يستثني فيها، وذلك فاسد؛ لأن الأيمان تخرج على تعظيم الرب وإجلاله، فلا يجوز أن يؤمر بالثنيا فيها؛ لأن الثنيا نقض ذلك التعظيم،
وفي قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) دلالة الا يكون شيء إلا بمشيئة اللَّه حيث ندبه إلى الثنيا، ثم إذا خرج على غير ما وعد لم يلحقه الخلف في الوعد؛ دل أنه قد شاء ذلك، وأنه إذا لم يشأ شيئًا لم يكن؛ لأنه لو كان شيئًا لم يشأ هو، أو شاء شيئًا فلم يكن - لم يكن لقوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) معنى إذا كان ما لم يشأ هو، ولم يكن ما هو شاء؛ دل أن ما شاء هو كان، وما لم يشأ لم يكن.
وفيه أنه قد شاء كل طاعة وخير من العبد، فلو لم يشأ ما ليس بطاعة، لكان لايستثني، وقد علم أنه قد شاء ذلك، فدل ثنياه على أنه قد يشاء ما ليس بطاعة إذا علم أنه يختار ذلك، وذلك على المعتزلة.
فَإِنْ قِيلَ: إنما أمر بالثنيا في العدة؛ لما لعله سيموت قبل أن يفعل ما وعد، أو تذهب عنه القدرة فيعجز عما وعد.
قيل: إن الأوهام لا ترجع إلى ذلك، بل الإمكان مشررط فيه وإن لم يذكر؛ نحو ما لا يؤمر الإنسان بالطيران؛ لعدم الإمكان فيه موجودا فهو كالمشروط وإن لم يذكر، فعلى ذلك في العدات والأيمان وغيرها.
وكذلك ما روي :( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :٣ ) ( إذا حلفتم فاحلفوا بالله ) بنحوه مسلم١٦٤٦/٣ ( ولا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت ) ( مسلم١٦٤٨ ) نهى عن الحلف بغير الله لما في الحلف به تعظيم لذلك الشيء. وأما العدة فإنما هي إضافة الفعل إلى نفسه، وهو لا يملك حقيقته٤ لذلك أمر أن يلحق الثنيا فيه لئلا يلحقه الخُلْفُ في الوعد، إذ لم يفعل وعد. وعلى ذلك ذُكِرَ من الأنبياء أنهم إذا وعدوا اسْتَثْنَوْا فيه كقول موسى :﴿ ستجدني إن شاء الله صابرا ﴾ الآية( الكهف : ٦٩ ) ثم إذا لم يصبر لم يعاتبه بترك الصبر، ولو كان خُلْفًا لعاتبه٥ كما عاتب صاحب موسى ( موسى حين٦ ) ﴿ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾ ( الكهف : ٧٢ ).
وقد ظهر من الأنبياء والرسل الأيمان والأقسام٧، ثم لم يُذْكَر عن أحد منهم الثنيا في ذلك. دل أن الثُّنْيَا في ذلك. دل أن الثنيا في العِدات لازمة وفي الأيمان لا.
وفي قوله :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ﴾ ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ دلالة أن يكون شيء إلا بمشيئة الله حين٨ ندبه إلى الثنيا. ثم إذا خرج على غير ما وعد، يلحقه٩ الخُلْفُ في الوعد، دلَّ أنه قد شاء ذلك، وأنه إذا لم يشأ شيئا لم يكن، لأنه لو كان ( الحادث شيئا لم يشأه )١٠ هو، أو شاء شيئا، فلم يكن، لم يكون لقوله :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ معنى إذا كان لم يشأ هو، ولم يكن ما هو شاء. دل ( أن ما )١١ شاء هو كان، وما لم يشأ لم يكن /٣١٠- ب/.
وفيه أنه قد شاء كل طاعة وخير من العبد. فلو لم يشأ ما ليس بطاعة لكان لا يستثني. وقد علم أنه قد شاء ذلك. فدلت ثُنْيَاه على أنه قد يشاء ما ليس بطاعة إذا علم أنه يختار ذلك، وذلك ( نقض )١٢ على المعتزلة.
فإن قيل : إنما أمر بالثنيا في العدة لما لعله سيموت قبل أن يفعل ما وعد، أو تذهب عنه القدرة، فيعجز عما وعد، قيل إن الأوهام لا ترجع إلى ذلك، بل الإمكان مشروط فيه، وإن لم يذكر. فعلى ذلك في العدات والأيمان وغيرها.
وجائز أن يكون المراد بهذا الخطاب غير النبي، وهو الأشبه، لما لا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يَعِدُ عِدَةً، ولا يذكر الثنيا لما لا يعرف ألا يكون شيء إلا بمشيئة الله وإرادته.
وأما غير النبي فجائز إلا يعرف ذلك. لذلك كان غيره أولى بما١٣ يخرج منه على التعريف لهم أو للتعليم١٤.
وقوله تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما ﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي إذا ذكرته بعد ما نسيته فاذكره كقوله ﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم لظالمين ﴾ ( الأنعام : ٦٨ ) فعلى ذلك هذا.
والثاني ﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي ( اذكر )١٥ الثنيا في آخر الكلام ﴿ إذا نسيت ﴾ ( في أوله )١٦ أعني الثنيا. إذ المستحب أن يستثني في أول كلامه على التَّبَرُكِ كقوله ﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ ( البقرة : ٧٠ ) استثنوا أولا ثم وعدوا. فهو المستحب. فكأنه قال :﴿ واذكر ربك ﴾ الثنيا في آخر كلامك ﴿ إذا نسيت ﴾ في أوله وهو الثنيا.
وهذا يرد على أصحاب الظاهر، لأن ظاهر الكتاب أن يخاطبهم بذكره إذا نسوا، ولا يجوز أن يخاطب أحد١٧ في حال نسيانه. فإذا لم يُفْهَمُ من هذا، هذا دل أنه لا يفهم على ما خرج ظاهره، ولكن على ما يصح، ويوجب الحكمة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ﴾ قال بعضهم : إن ﴿ وقل عسى أن يهدين ربي ﴾ الآية هي أوضح على دلالة رسالتي وآخذ مما تسألونني من أمر أصحاب الكهف ؛ لأنهم كانوا١٨ يسألونه عن خبرهم، فيستدلون على رسالته وصدقه، ويقول :﴿ قل إنني هداني ربي ﴾ الآية { الأنعام : ١٦١ ) على دلالة رسالتي ( التي هي )١٩ أوضح مما تسألونني وآخذ للقلوب، إذ كانت له آيات حسيات على رسالته.
وقال الحسن : قوله ﴿ وقل عسى ﴾ عسى من الله واجب ؛ أي قد هداني ربي الرشد والصواب. وأما غيره من أهل التأويل فيقولون٢٠ : إنه وعد لأولئك أن يخبرهم إذا عما يسألون، وقال :﴿ عسى أن ﴾ يرشدني ربي لأسرع من هذا الميعاد الذي وعدت، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: إن عدة ولا..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل و. م: حقيقة..
٥ في الأصل و. م: لعاقبه..
٦ في الأصل و م: حيث.
٧ في الأصل و م: والقسم..
٨ ؟؟؟؟.
٩ أدرج ما قبلها في الأصل و م: لم..
١٠ في الأصل و م: شيئا لم يشاء..
١١ في الأصل: أنه إن، في م أنه..
١٢ ساقطة من الأصل و. م..
١٣ في الأصل و. م: به..
١٤ في الأصل و. م: العلم..
١٥ ساقطة من الأصل و. م..
١٦ في الأصل و. م: وله..
١٧ في الأصل و. م: أحدا..
١٨ في الأصل و. م: قالوا..
١٩ ساقطة من الأصل و. م..
٢٠ الفاء ساقطة من الأصل و. م..
وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ):
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي: إذا ذكرته بعدما نسيت فاذكره؛ كقوله: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فعلى ذلك هذا.
والثاني: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، أي: الثنيا في آخر الكلام إذا نسيت أوله - أعني: الثنيا - إذ المستحب أن يستثني في أول كلامه على التبرك؛ كقوله: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)، استثنوا أولا ثم وعدوا، فهو المستحب، فكأنه قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ): الثنيا في آخر كلامك (إِذَا نَسِيتَ) في أوله وهو الثنيا، وهذا يرد على أصحاب الظاهر؛ لأن ظاهر الكتاب أن يخاطبهم بذكره إذا نسوا، ولا يجوز أن يخاطب أحدًا في حال نسيانه، فإذ لم يفهم من هذا هذا، دل أنه لا يفهم على ما خرج ظاهره، ولكن على ما يصح ويوجب الحكمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قل: عسى أن يهديني ربي لآية هي أوضح على دلالة رسالتي وآخذ مما تسألونني من أمر أصحاب الكهف؛ لأنهم كانوا: يسألونه عن خبرهم فيستدلون على رسالته وصدقه؛ فيقول: قد هداني ربي لآية على دلالة رسالتي أوضح مما تسألونني وآخذ للقلوب؛ إذ كانت له آيات حسيات على رسالته.
وقال الحسن: قوله: (وَقُلْ عَسَى) وعسى من اللَّه واجب، أي: قد هداني ربي الرشد والصواب، وأما غيره من أهل التأويل يقولون: إنه وعد لأُولَئِكَ أن يخبرهم غدا عما يسألونه، وقال: عسى أن يرشدني ربي لأسرع من هذا الميعاد الذي وعدت، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قول أُولَئِكَ الذين قالوا: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ...) الآية، مع قوله: إنهم لبثوا في كهفهم ما ذكرنا، فأمره أن يقول لهم: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا...) الآية.
فَإِنْ قِيلَ في قوله: (ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ): ألا قال: ثلاثمائة سنة، كما يقال: ثلاثمائة رجل وثلاثمائة درهم ونحوه؟
قال بعض أهل الأدب: إنه لم يضف ثلاثمائة إلى سنين، ولكنه أراد إتمام الكلام بقوله: (ثَلَاثَ مِائَةٍ)؛ لذلك نون فيها، ثم أخبر ما تلك الثلاثمائة؟ فقال: سنين على القطع من الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)
هو ما ذكرنا: أنه جعل علم مدة لبثهم في كهفهم إلى اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
يحتمل هذا وجوهًا ثلاثة:
أحدها: له علم ما غاب عن أهل السماوات وأهل الأرض؛ كقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ).
والثاني: له علم ما غيب وأسر أهل السماوات والأرض بعضهم من بعض.
والثالث: له علم غيب ما شاهد أهل السماوات وأهل الأرض؛ لأن فيما شاهدوا من الأشياء وعاينوها غيبًا وسرية لم يعلموه، من نحو الشمس شاهدوها وعرفوا أنها شمس، ولكن لم يعلموا ما فيها من المعنى الذي به صلاح الأشياء ومنافعها، وكذلك القمر، وإنما شاهدوا هذه الأشياء، ولكن لم يعرفوا المعنى الذي به صارت نافعة للأشياء ومصلحتها، وكذلك السمع والبصر والعقل ونحوه من الحواس، عرفوا هذه الحواس على ظواهرها ولكن لا يعرفون المعنى الذي به يسمعون ويبصرون ويفهمون، فيقول: له علم ما غاب عنكم من هذه الأشياء التي شاهدتموها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ).
هذا كلام يتكلم على النهاية والغاية والإبلاع من الوصف، ويقال: أكرم به من فلان،
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
يحتمل: لا يشرك في ألوهيته وربوبيته أحدًا.
ويحتمل: ولا يشرك في حكمه، أي: الحكم له ليس لأحد دونه حكم، إنما عليهم طلب حكم اللَّه فيما يحكمون.
أو لا يشرك في تقديره وتدبيره الذي يدبر في خلقه أحدًا.
ويحتمل: ولا يشرك في قسمته التي يقسم بين الخلق أحدًا، (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ)، أي: فيما جاءت به الرسل ودعت الخلق إليه.
* * *
قوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ).
يحتمل: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): اللوح المحفوظ، أي: بلغ ما أوحي إليك من اللوح الذي عند اللَّه من متلو وغير متلو؛ كقوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وهو جميع ما أنزل إليه من المتلو وغير المتلو.
ويحتمل: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): الكتاب الذي أنزل عليه، وهو القرآن، أي: اتل عليهم ذلك الكتاب، فإن كان هذا ففيه أن القرآن مما يتقرب بتلاوته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا مبدل لسنته؛ إذ سنته في المكذبين الإهلاك، والمصدقين النجاة، هذا سنته وإن أمكن تعجيلها وتأخيرها، فأما نفس سنته فهي لا تبدل ولا تحول؛ كقوله: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)، و (تَبْدِيلًا).
وقال الحسن في قوله: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): ما وعد وأوعد لهم في الدنيا، فذلك في الآخرة لا يبدل ولا يحول؛ إذ وعد للمؤمنين الجنة، وللكافرين العذاب، فذلك لا يبدل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) وهي القرآن لا يتبدل، ولا يغير، ولا يزداد، ولا ينقص؛ كقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) لحججه وبراهينه التي جعل لدينه وأقام له ذلك، يلزم الإسلام ودينه، إلا من قصر عليه في العبادة، أو كان المقام عليه الحجة معاندًا مكابرًا.
وأما من لم يكن هذين المعنيين يسلم لا محالة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا).
هذا الخطاب وإن كان في الظاهر لرسول اللَّه، فهو يخرج مخرج التنبيه على ما ذكرنا في غير آي من القرآن.
وقوله: (مُلْتَحَدًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: مدخلا؛ ولذلك سمي اللحد: لحدًا؛ لما يدخل
وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)
يحتمل: واصبر نفسك بالغداة والعشي مع الذين يدعون ربهم، فيكون فيه الأمر بالجلوس لهم بالغدوات والعشيات؛ للتذكير وتعليم العلم، على ما تعارف الناس الجلوس للناس لذلك في هذين الوقتين؛ إذ ذانك الوقتان خاليان عن الأشغال التي تشغلهم عن ذلك ذكر، الغداة والعشي لما لم يجعل عليهم بعد صلاة الغداة صلاة، وكذلك بعد العصر؛ للذكر الذي ذكرنا وتعليم ما يحتاجون في ليلهم ونهارهم.
أو أن يكون ذلك كناية عن صلاة الفجر والعصر؛ لما جاء لهما من فضل وعيد لم يجئ في غيرهما من الصلوات؛ نحو ما ذكر: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وما روي في العصر من الوعيد: " من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله "، ونحوه أمر بصبر نفسه على حفظ هذين؛ لما ذكرنا مع من ذكر.
أو أن يكون لا على إرادة غداة أو عشي، ولكن بالكون مع أتباعه في كل وقت والصبر معهم.
وقال أهل التأويل: ذكر هذا؛ لأن رؤساء كفار مكة سألوه أن يطرد أتباعه من عنده ويتخذ لهم مجلسًا، فنزل قوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ...) الآية وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ...) الآية.
وقالوا في قوله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) في أصحاب الكهف، يقول: وأخبرهم ما سألوك مما أوحينا إليك من أخبار أصحاب الكهف ولا تزيد ولا تنقص عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ).
قيل: لا تتعد عنهم إلى غيرهم.
وقيل: لا تصرف ولا ترفع عينيك عنهم تجاوؤهم إلى غيرهم.
(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: إن كان على تأويل أهل التأويل أنهم سألوه أن يتخذ لهم مجلسًا دون أُولَئِكَ، فيكون تأويل قوله: (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: تريد أُولَئِكَ الذين يطلبون منك مجلسًا على حدة يريدون بذلك وينة الحياة الدنيا لا يريدون بذلك وجه اللَّه.
والثاني: لو فعلت ما سألوك كان فعل ذلك كفعل من يريد زينة الحياة الدنيا؛ لأن المجلس الذي يحضره الأشراف والرؤساء إنما يراد به زينة الحياة الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا).
تأويل الآية على قولنا ظاهر، نحن نقول على ما نطق ظاهر الآية: من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، أي: من خلقنا ظلمة الكفر بكفرهم في قلوبهم، أو خذلناهم بكفرهم الذي فعلوا.
وأما المعتزلة فإنهم قد تحيروا فيه وتاهوا وأكثروا التأويلات فيها، حتى أن منهم من صرف القراءة عن وجهها فقال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلَنَا) بنصب اللام، و (قَلْبُهُ) برفع الباء، معناء: أن من أغفل قلبه عن ذكرنا على قول المعتزلة، على صرف الفعل إلى القلب، وكذلك قالوا في قوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)؛ ليصح على مذهبهم ويستقيم.
ومنهم من قال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)، أي: لا تطع من وجدنا قلبه غافلا، وقال: ذلك مستقيم في اللغة؛ يقال: قاتلناهم فما أجبَنَاهم، أي: ما وجدناهم جبناء، ويقال: فسألناهم فما أبخلناهم، أي: ما وجدناهم بخلاء، ونحوه من الكلام، وهو تأويل الجبائي فيما أظن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)، أي: من خلينا بينه وبين ما يفعل وهو كما يقال لمن خلى عبده حتى أفسد كثيرًا من الناس يقال: سلطت عبدك على الناس، وهو لم يسلطه عليهم، لكنه يقال له؛ لما قدر على منعه عن ذلك والحيلولة بينه وبين ما فعل
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف ذلك إلى نفسه للأسباب التي أعطاهم من السعة والغناء والشرف في الدنيا، فتلك الأسباب التي أعطاهم هي التي حملتهم على ذلك؛ فأضيف إليه ذلك لذلك، وهو ما قال: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) وهو تأويل أبي بكر الأصم.
وقال الحسن: (أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ) أي: خذلناهم وطبعنا على قلوبهم، وهو يقول: إن للكفر حدا إذا بلغ ذلك الحد يخذله ويطبع على قلبه؛ فلا يؤمن أبدًا.
فيقال: خذله في أول حال الكفر أو بعد ذلك بأوقات وزمان.
فإن قال: في أول حال كفره فهو قولنا.
وإن قال: لا في أول حاله، ولكن بعد زمان، فهو كافر موفق ومؤمن مخذول على قوله، فنعوذ باللَّه مما قال.
ثم الجواب للأول ما ذكرنا من صرف التنزيل عن وجهه وظاهره، فلو جاز لهم ذلك لجاز، لغيرهم صرف جميع الآيات عن ظاهر التنزيل، وذلك بعيد محال.
وأما تأويل الجبائي، أي: ما وجدناهم كذا، فإنما يسوغ له هذا إذا كان جميع حروف (أفعل) يخرج على ما يقوله في اللغة، فأما أن يقال في بعض، فإن ذلك غير مستقيم.
وبعد فإنه لو كان كما ذكر لكان يقول: (ولا تطع من أغفلته عن ذكرنا)، أي: وجدته غافلا عن ذكرنا؛ لأنه نهى عن أن يطيع من وجده غافلا، فهو لا يعلم من وجده الله غافلا، إنما يعلم من وجده بنفسه غافلا.
فأما إذا كان ما ذكرنا لم يكن للنهي عما ذكر معنى؛ فدل أن تأويله فاسد وخيال، وأن إضافته إليه لمعنى يكون من اللَّه.
وأما جواب جعفر بن حرب أنه على التخلية والتسليط، فهو إنما يقال: سلطت عبدك على كذا على الذم لا على المدح؛ فلا يجوز أن يقال ذلك في اللَّه على الذم ويضاف إليه أيضًا ذلك.
وكذلك يقال لأبي بكر حيث قال: إنما أضاف ذلك إليه للأسباب التي ذكر أنه أعطاهم، يقال له: ذلك يضاف على الذم: إنك أعطيت كذا حتى فعل كذا، فأما أن يقال على المدح فلا؛ فيبطل قوله وتأويله؛ فدل إضافة ذلك إلى نفسه أنه كان منه في ذلك معنى يستقيم إضافته إليه، وهو ما ذكرنا من خلق الظلمة في قلوبهم بكفرهم الذي اختاروا
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (فُرُطًا) أي: ضياعًا وهلاكًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فُرُطًا) أي: خسرانا وخسارًا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من التفريط.
وقال غيره: أفرط في القول كما قال: (إنا رءوس من مضر إن نسلم يسلم الناس بعدنا) على ما ذكر في بعض القصة.
وقال أبو عبيدة: فرطًا، أي: ندمًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)
كأنه على الإضمار، أي: قل: قد جئتكم بالحق من ربكم.
أو يقول: قل لهم: قد تعلمون أني قد جئتكم من الآيات والحجج على ما أدعوكم إليه ما لا يحتمل بليتي ويخرج عن وسعي وطاقتي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
ثم يحتمل هذا وجوهًا:
أحدها: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ فإنه إنما يعمل لنفسه ليس يعمل لأحد سواه؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ...) الآية؛ فعلى ذلك يقول، واللَّه أعلم.
والثاني: يقول: إني بلغت الرسالة إليكم فلا أكرهكم أنا على الإسلام ولا أحد سواي، فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإنه إنما يؤمن باختياره ومشيئته، ومن كفر فإنما يكفر باختاره ومشيئته لا يكره على ذلك.
والثالث: أن الإيمان والكفر قد يين اللَّه لهما العواقب ما عاقبة من اختار الإيمان وما عاقبة من اختار الكفر، وهو ما قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا...) إلى آخر ما ذكر، وقال للمؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ...) الآية. يقول: قد بين لكل واحد منهما عاقبة، فمن شاء اكتسب لنفسه في العاقبة الجنان وما فيها من النعيم، ومن شاء اكتسب ما ذكر في العاقبة من النار وأنواع العذاب، فذلك كله يخرج على الوعيد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: على إرادة حقيقة السرادق.
والثاني؛ على التمثيل، أي: يحيط بهم النار فلا يقدرون على الخروج منها على ما يمنع السرادق من الخروج في الدنيا ودفع الحر والبرد، فإن كان على حقيقة السرادق فهو - واللَّه أعلم - على ما جعل اللَّه لهم من أنواع ما كانوا يتفاخرون في الدنيا من اللباس والطعام والشراب وغير ذلك يجعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار، وهو ما ذكر: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)، وما قال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) والشراب ما ذكر من الصديد والغسلين، وغير ذلك من النوع الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويمنعهم عن الإيمان جعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار وبه يعاقبهم، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يتفاخرون به في الدنيا بالسرادق إذا خرجوا في السفر، فيعاقبهم اللَّه في النار بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ).
يحتمل استغاثتهم هو ما ذكر في الآية (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، فيغاثون (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ)، ويحتمل: أن يطلبوا في النار الماء بعدما طعموا فيها منها فيغاثون بالمهل.
ثم المهل: قال عامتهم: المهل: هو دردي الزيت أو العصير، لكنهم اختلفوا في معنى التشبيه به:
قَالَ بَعْضُهُمْ: يشبهه به لغلظه؛ لأن الشيء الغليظ يكون ألصق وآخذ من غيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبهه به لسواده.
وقال الحسن وأبو بكر: تشبيهه به؛ لكثرة تلونه من الحمرة والصفرة والسواد ونحوه لشدته، وهو ما ذكر: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)، شبهه كالمهل لتلونه؛ لشدة ذلك اليوم وهوله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ذلك الشراب، (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) أي: ساءت النار مرتفقا، اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: المرتفق: المتكأ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مجلسًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بئس المنزل النار قرناؤهم فيها الكفار والشياطين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير كأنه قال: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم قال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ...) إلى آخر ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على التقديم والتأخير، ولكن على ما ذكر أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم بين ما لهم فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ... ) إلى آخر ما ذكر.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السرادق: البناء الذي يبنى من الكرابيس يشبه الدار والحجرة، (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، أي: متكأ ومنزلا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط، قال: وهو الدخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو الثلاث الشعب، و (كَالْمُهْلِ) دردي الزيت، ويقال: ما أذيب من النحاس والرصاص، (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، أي: مجلسا وأصل الارتفاق: الاتكاء على المرفق.
وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ (٣١)
يذكر ثواب المؤمنين الذين تركوا شهواتهم في الدنيا لها.
(وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ).
قالوا: الإستبرق: الديباج الغليظ، والسندس: وهو الرقيق والغليظ منه لا يلبس، لكنه كأنه جمع بين ما يلبس وبين ما يبسط، فذكر اللبس لما يلبس، كما يقال: أطعمت فلانًا طعامًا وشرابًا والشراب لا يطعم.
وقوله تعالى :﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ قال بعضهم : الأرائك السرر في الحجال، والأريكة السرير في الحجلة. و قال بعضهم : الأرائك السرر عليها حجال. وقال أبو عوسجة : الأرائك ( جمع الأريكة، وهي )١ الوسادة ﴿ وحسنت مرتفقا ﴾ قيل : منزلا.
وأصل هذا أنه وعد لهم في الآخرة ما كانت أنفسهم ترغب فيه في الدنيا ليتركوا ذلك في الدنيا للموعود في الآخرة. وكذلك حذرهم في الآخرة بأشياء تنفر ( منها )٢ أنفسهم وطباعهم في الدنيا ليحذروا ما يستوجبون الموعود في الآخرة، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و. م..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْأَرَائِكِ): السرر في الحجال، والأريكة: السرير في الحجلة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْأَرَائِكِ: السرر عليها حجال.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْأَرَائِكِ: الوسادة.
(وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) قيل: منزلا.
وأصل هذا: أنه وعد لهم في الآخرة ما كانت أنفسهم ترغب فيه في الدنيا ليتركوا ذلك في الدنيا للموعود في الآخرة، وكذلك حذرهم في الآخرة بأشياء تنفر أمنها، أنفسهم وطباعهم في الدنيا؛ ليحذروا ما يستوجبون الموعود في الآخرة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ...) إلى آخر ما ذكر.
جائز أن يكون هذا المثل كان في الأمم المتقدمة وكتبهم، سئل رسول اللَّه عن ذلك ليعلم وليتبين لهم صدقه بأنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما يدعي على ما سئل هو عن قصة ذي
أو أن يكون قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ...) إلى آخره، أي: اضرب لهم مثلك ومثلهم مثل رجلين، فيكون مثلك ومثلهم مثل ما ذكر من رجلين... إلى آخره.
أو أن يكون قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ...) أي: اضرب للمعتبرين والمتوسمين مثل رجلين، كل رجلين هذا سبيلهما، يرغب أحدهما في الدنيا وزينتها ويطلبها لا يرى غيرها، والآخر يرغب في الزهد فيها وترك الطلب لها والرغبة في الآخرة، فإن كان على هذا أو ما ذكرنا من ضرب مثله ومثل أُولَئِكَ، فهو على الابتداء، فيخرج على الاعتبار والتفكر فيما ذكر تنبيها وإيقاظًا، وإن كان على السؤال عما كان فهو ليس على الاعتبار، ولكن على الإنباء أنه رسول، ففيه آية لرسالته ونبوته.
ثم قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)، أي: بين الجنتين، (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا... (٣٣) أي: حملها، ولم يقل: (آتَتْ أُكُلَهَا)، خرج على اسم واحد وإن كان في المعنى على التثنية، وذلك جائز في اللغة؛ كقولك: كلتا المرأتين صالحة، وكلانا صالح، وفيه قول الشاعر:
كلانا شاعر من حي صدق... ولكن الرحى نقلوا الثفالي
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص من ثمرها شيئًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) أي: أجرينا بينهما مياها جارية.
وقوله: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ... (٣٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأ: (ثُمُرٌ) بالرفع فهو كل ما كان يملك من الجنان وغيرها، ومن قرأ بالنصب فهو على الثمر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الثمر بالنصب فهو الثمر، والثمر بالرفع فهو جميع الثمار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) يكلمه أو يجيبه أو ينازعه ويناظره: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) لا يحتمل أن يكون هذا الخطاب منه على الابتداء؛ لأنه لا يصلح على الابتداء؛ فيشبه أن يكون كان من صاحبه له وعيد وتخويف، فعند ذلك قال له
ومن قرأ بالنصب فهو على الثمر. وقال بعضهم : الثمر بالنصب هو٢ الثمر، والثمر بالرفع هو٣ جميع الثمار، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فقال لصاحبه وهو يحاوره ﴾ يكلمه، أو يجيبه، أو ينازعه، ويناظره ﴿ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ﴾ لا يحتمل أن يكون هذا الخطاب منه على الابتداء، فيشبه أن يكون كان من صاحبه له وعيد وتخويف. فعند ذلك قال له ما ذكر. أو أن يكون قال : يعطيني ربي في الآخرة مثل ذلك أو خيرا منها. فقال له عند ذلك :﴿ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ﴾ أي قد تفضل علي في الدنيا، وفضلني عليك، فيفضلني أيضا في الآخرة عليك حين٤ قال :﴿ لأجدن خيرا منها منقلبا ﴾ ( الكهف : ٣٦ )أي ( إن )٥ كان ما تزعم صدقا أنَّا نُبْعَثُ، ونُرَدُّ إلى الله، وإلاَّ على الابتداء لا يصح.
٢ في الأصل و. م: فهو..
٣ في الأصل و. م: فهو..
٤ في الأصل و. م: حيث..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
أو أن يكون قال: يعطيني ربي في الآخرة مثل ذلك أو خيرًا منها، فقال له عند ذلك: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي: قد تفضل علي في الدنيا وفضلني عليك فيفضلني أيضًا في الآخرة عليك، حيث قال: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) إن كان ما تزعم صدقا أنا نبعث ونرد إلى اللَّه وإلا على الابتداء لا يصلح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥)
يحتمل: أي: ظالم نفسه، ويحتمل: أن يكون قوله: (لنَفْسِهِ): بدنه، وهو ظالم
المعنى الذي يكون في النفمص به يستعملها فيما تستعمل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا أَظُنُّ)، أي: ما أثق وما أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الظن؛ لأن صاحبه كان يناظره فيه، فاضطرب في فنائها وقيام الساعة فشك فيه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) ما دامت نفسه، أو كأنه لم يشاهد الهلاك، ولم ينظر إليه؛ فقال ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦) أي: لو رددت إلى ربي - على ما تزعم - الأجدن، خيرا منها منقلبا إن كنت صادقًا.
وقوله: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧)
أي: خلق أصلك من تراب، وخلقك من نطفة، ثم سواك رجلا، أي: صححك وقومك رجلا.
جائز أن يكون محاجته إياه في هذه، لإنكاره البعث، أي: كفرت وأنكرت قدرة الله على البعث والإعادة، وهو خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، فأنت إذا مت وهلكت تصير ترابًا أو ماء، فإذا قدر على خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من ماء فإنه لقادر على إعادتك وبعثك بعد ما صرت ترابًا أو ماء.
أو يكون محاجته في إنكاره حكمة اللَّه؛ فيقول: خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، ثم سواك رجلا وصححك؛ فإن لم يبعثك ويعدك كان خلقك وخلق أصلك بما ذكر عبثًا غير حكمة؛ إذ من بني بناء ثم نقضه على غير قصد الانتفاع به كان في بنائه عابثًا في الابتداء تائها سفيها غير حكيم؛ فعلى ذلك: خلقك وخلق أصلك من غير إعادة من بعد يكون سفهًا على غير حكمة، وهو ما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا...) الآية
جائز أن تكون مُحَاجَّتُهُ إياهُ في هذه لإنكاره البعث ؛ أي أكفرت، وأنكرت قدرة الله على البعث والإعادة، وهو خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة ؟ فأنت إذا مِتَّ، وهلكت، تصير ترابا أو ماء. فإذا قدر على خلق أصلك من تراب وخلق نفسك من ماء ( فهو قادر )١ على إعادتك وبعثك بعد ما صرت ترابا أو ماء.
أو تكون محاجته في إنكار حكمة الله، فيقول : خَلَقَ أصْلَكَ من تراب، وخلق نفسك من نطفة، ثم سواك، وصَحَّحَكَ. فإذا لم يبعثك، ويُعِدْكَ٢، كان ( خَلْقُ أَصْلِِِكَ وخَلْقُكَ )٣ بما ذكرنا عبثا غير حكمة ؛ إذ مَنْ بَنَى بناءا ثم نقضه على غير الانتفاع به كان في بنائه في الابتداء عابثا تائها سفيها غير حكيم. فعلى ذلك خلقك وخلق أصلك من غير إعادة من بعد ( موتك يكون سفها )٤ على غير حكمة. وهو ما قال :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ﴾ الآية ( المؤمنون : ١١٥ ) صَيَّرَ خلقهم على غير رجوع إليه عبثا.
أو تكون محاجته في تسفيهه إياه في عبادته غير الله، يقول : أكفرت نعم٥ الذي خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة ثم سواك صحيحا، فصرفت نعمة إلى غيره وعبدت غيره.
على هذه الوجوه الثلاثة تحتمل٦ مُحَاجَّتُه إياه ؛ إما في إنكار قدرته على٧ بعثه و إعادته و ( إما في إنكاره الحكمة في البعث وإما في )٨ إنكاره نعمه وصرفه الشكر إلى غيره، والله أعلم.
٢ أدرج بعدها في الأصل و. م: و..
٣ في م: خلقك وخلق أصلك..
٤ في الأصل و. م: يكون سفيها..
٥ في الأصل و: نعمه..
٦ في الأصل و م: وتحتمل..
٧ في الأصل و م: في..
٨ من م، في الأصل: أو..
أو يكون محاجته في تسفيهه إياه في عبادته غير اللَّه، يقول: أكفرت نعمة الذي خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، ثم سواك صحيحًا، فصرفت شكر نعمه إلى غيره، وعبدت غيره على هذه الوجوه الثلاثة.
ويحتمل محاجته إياه إما في إنكار قدرته في بعثه وإعادته، أو إنكاره الحكمة في البعث، أو في إنكاره نعمه وصرفه الشكر إلى غيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨)
كأنه قال: لكن الذي خلق أصلك من تراب، وخلق أصلك من نطفة هو ربي، ولا أشرك بربي أحدًا.
وقال الخليل: (لَكِنَّا) إنما هو على تأويل: لكني أنا أقول هو اللَّه ربي؛ كقوله: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) إنهم حين ألقوا الألف من (أنا) أثبتوها بعد النون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ... (٣٩) نظرت إلى ما أنعم اللَّه عليك وقمت بشكره دون أن اشتغلت بازدرائي، ونظرت إلى قلة ذات حالي ويدي، واشتغلت بالافتخار على، وكذلدُ قال: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا).
ثم ذكر طمعه ورجاءه على ربه وخوفه؛ حيث قال: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠)
ويرسل على جنتك حسبانا من السماء.
قال أهل التأويل: الحسبان: العذاب، إلا أن أبا بكر الأصم قال: عذابا على حساب ما عملوا، وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين أهلكهما؛ حيث قال: (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ...)، إلى قوله: (ذَلِكَ جَرينَاهُم...) الآية.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (حُسْبَانًا) أي: عذابًا زاده على حساب ما عملوا، وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين له، والحسبان: الصغار من النبل، والحسبانة واحدة، والحسبان جمع، والأول عذاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ (صَعِيدًا زَلَقًا): الذي ليس عليه نبت، و (زَلَقًا)، أي: تسوية.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعيد: الأملس المستوي، والزلق: الذي يزول عنه الأقدام.
وكذلك قال ( في قوله )٣ ﴿ إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ﴾.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
فقال أهل التأويل : الحسبان العذاب. إلا أن أبا بكر الأصم قال : عذابا على حساب ما عملوا ؛ وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين أهلكهما حين٣ قال :﴿ ذواتي أكل ﴾ إلى قوله :﴿ ذلك جزيناهم ﴾ الآية ( سبإ : ١٦و١٧ ).
وقال أبو عوسجة :﴿ حُسبانا ﴾ أي عذابا، والحسبان الصغار من النَّبْلَ، والحُسْبَانَةُ واحدُها٤، والحُسْبَانُ جَمْعُ، والأول العذاب.
وقوله تعالى :﴿ فتصبح صعيدا زلقا ﴾ قال أبو عوسجة :﴿ صعيدا زلقا ﴾ الذي ليس عليه نَبْتُ، و﴿ زلقا ﴾ أي مستويا٥.
وقال القتبي : الصعيد الأملس المستوي، والزَّلِقُ الذي تَزِلُّ عنه الأقدام.
٢ في الأصل و. م: أو..
٣ في الأصل و. م: حيث..
٤ في الأصل و. م: واحدة..
٥ في الأصل و. م: تسوية..
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا) من السماء، أي عذابًا، فتصير (صَعِيدًا زَلَقًا) أملس لا نبات عليها، أو يذهب بمائها؛ فتهلك بذهاب الماء؛ إذ هلاك البساتين يكون بذهاب الماء مرة، وبالعذاب النازل عليها ثانيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لن تستطيع له طلبا، أي: تصير بحال لا تستطيع له طلبا، أو لن تستطيع له وجودًا.
وقال في قوله: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ)، بالنصب؛ لأن الكلام مبني على قوله: (إِنْ تَرَنِ)، وجعل (أَنَا) صلة، وأمَّا قوله: (أَنَا أَكْثَرُ) فوصف (أنَا) بـ (أَنَا أَكْثَرُ)؛ فارتفع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)
أي: أهلك بثمره.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا).
هكذا عادة الناس: أنهم إذا أصابهم خسران أو مصيبة، يقلبون كفهم بعضهم على بعض؛ على الندم والحسرة على ما فات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
قيل: ساقطة على عروشها.
ويحتمل (خَاوِيَةٌ): ذاهبة البركة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا).
إن كان هذا القول في الدنيا؛ فذلك منه توبة؛ لأن التوبة هي الندامة على ما كان منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول منه في الآخرة، فإن كان في الآخرة فإنه لا ينفعه ذلك، والله أعلم، وهكذا كل كافر يؤمن في الآخرة، لكن لا ينفعه.
وقوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣)
هذا - واللَّه أعلم - مقابل ما قال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي: لم يغنه عن عذاب اللَّه ما ذكر من النصر، ولا قدر أن يقوم بنفسه منتصرًا بالمال الذي ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُنَالِكَ... (٤٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: عند ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وهي خاوية على عروشها ﴾ قيل : ساقطة على عروشها. ويحتمل خاوية : ذاهبة بركتها٢.
وقوله تعالى :﴿ يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ﴾ إن كان هذا القول في الدنيا فذلك منه توبة، لأن التوبة، هي الندامة على ما كان منه. وقال بعضهم : هذا القول منه في الآخرة، فإن كان في الآخرة فإنه لا ينفعه ذلك، والله أعلم. وهكذا كل كافر يؤمن في الآخرة ( لا ينفعه ذلك )٣
٢ في الأصل و. م : البركة..
٣ في الأصل و. م : لكن لا ينفع..
قرأ بعضهم ﴿ الولاية لله ﴾ بالفتح. كذلك ذُكِرَ في حرف ابن مسعود : هنالك الولاية لله الغفور وهو الحق بالرفع، وفي حرف حَفْصَةَ : وهنالك المُلْكُ والولاية لله الغفور ذي الرحمة.
وقرأ بعضهم : الولاية ﴿ لله الحق ﴾ ( بالكسر، أي الملك لله الحق )١. والولاية بالنصب من الموالاة.
قال ابن عباس رضي الله عنه : لا يبقى أحد إلا تولى الله، وآمن به، وعلم أنه حق، والولاية بالكسر من الإمارة والملك على ما ذكر في حرف حفصة.
وفي حَرْفِ أُبَيٍّ :﴿ هنالك الولاية لله ﴾ الحق ( أي الولاية لله )٢ /٣١٧- ب/ وهو الحق. يقرأ ﴿ هنالك الولاية لله الحق ﴾ بالخفض. ويقرأ ﴿ هنالك الولاية ﴾ الحق٣ لله.
وذكر هذا المثل لرسول الله، والله أعلم، لأن فيه دلالة رسالته وحجة توحيد الله وقدرته وسلطانه.
وقوله تعالى :﴿ هو خير ثوابا وخير عقبا ﴾ أي ثواب هذا المؤمن منها أفضل ثوابا في الآخرة وأفضل عاقبة من عقبى ذلك الكافر.
قال ابن عباس : قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثلا رجلين ﴾ ( الكهف : ٣٢ ) يعني لأهل مكة ﴿ مثلا رجلين ﴾ أخوين٤ من بني مخزوم : أحدهما مسلم، والآخر كافر، وهما الرجلان اللذان ذكرهما الله في سورة الصافات ﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ﴾ إلى قوله ﴿ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ﴾( الآيات : ٥١و٥٥ ) تصدق المسلم منهما بماله ( وطلب الآخرة )٥ وطلب الآخر به الدنيا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ( أنه )٦ قال : كانا٧ أخوين، ورثا عن أبيهما مالا، فاقتسماه. فأما أحدهما فالتمس٨ بماله الدنيا وزينتها، وأما الآخر فتصدق٩ به، وطلب الآخرة حتى لم يبق له شيء. إلى هذا يذهب هؤلاء، والله أعلم.
٢ في الأصل و م: يقرأ الولاية لله..
٣ أنظر معجم القراءات القرآنية ح ٣/٣٧٠.
٤ من م، في الأصل: آخرين..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ ساقطة من الأصل و. م..
٧ في الأصل و. م: كان..
٨ الفاء ساقطة من الأصل و. م..
٩ الفاء ساقطة من الأصل و. م..
قرأ بعضهم (الْوَلَايَةُ لِلَّهِ) بالفتح، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (هنالك الوَلاية لله الغفور وهو الحق): بالرفع، وفي حرف حفصة: (هنالك الملك والولاية لله الغفور ذي الرحمة).
وقرأ بعضهم: (لِلََّهِ الْحَقُّ)، أي: الولاية الحق لله، و (الْوَلَايَةُ) بالنصب من الموالاة.
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يبقى أحد إلا تولى اللَّه وآمن به وعلم أنه حق، والولاية بالكسر من الإمارة والملك على ما ذكر في حرف حفصة.
وفي حرف أبيّ (هنالك الولايةُ لله الحق لله) يقرأ: الولايةُ لله وهو الحقُّ، ويقرأ: هُنَالِكَ الولايةُ لِلَّهِ الْحَق، بالخفض، ويقرأ: هنالك الولايةُ الحقُّ لله.
وذكر هذا المثل لرسول اللَّه - واللَّه أعلم - لأن فيه دلالة رسالته، وحجة توحيد الله وقدرته وسلطانه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)، أي: ثواب هذا المؤمن منها أفضل ثوابًا في الآخرة وأفضل عاقبة من عقبى ذلك الكافر.
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ): يعني: لأهل مكة (مَثَلًا رَجُلَيْنِ): أخوين من بني مخزوم:
أحدهما مسلم والآخر كافر، وهما الرجلان اللذان ذكرهما اللَّه في سورة الصافات: (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ...)، إلى قوله: (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ): تصدق المسلم منهما بماله وطلب الآخرة، وطلب الآخر به الدنيا.
وعن ابن مسعود قال: كانا أخوين ورثا من أبيهما مالا فاقتسماه، فأما أحدهما التمس بماله الدنيا وزينتها، وأمَّا الآخر تصدق به وطلب الآخرة حتى لم يبق له شيء إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب هذا لمشركي العرب؛ لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها؛ لأنها لا تبيد أبدًا، فيقول: إن الذي يعاينون من فناء ما ذكر من النبات وغيره وهلاكه - هو جزء منها؛ فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك؛ فعلى ذلك الكل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وجه ضرب هذا المثل، وهو أن أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا الانتفاع بها والاستمتاع بها، كما طمع الزراع الظفر بذلك الزرع، والوصول إلى الانتفاع به، ثم حيل بينهم وبين الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبنيها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات - للتزيين والتحسين لأهلها والتعجيب لهم؛ لأنها تتزين وتحسن لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها ويتزين لهم ثم يفسد ويصير مواتا؛ فعلى ذلك الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ...) الآية: هكذا وما فيها كله مشوب بالآفات والفساد.
في هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة.
أحدها: العظة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين، والحجة على المعاندين والمكابرين: في إنكارهم حدث العالم ومحدثه، وإنكارهم فناء العالم، وإنكارهم البعث.
أما حدث العالم؛ لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد؛ فعلى ذلك الكل، وأراهم أيضًا فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر، ثم حدث مثلها، فإذا ظهر هذا في بعض منها؛ فكذلك الكل؛ فإذا ظهر حدوثه وفناؤه لابد من قاصد يحدثها.
وفيه دلالة البعث بما أراهم أنه يجدد ويحدث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيره والعود على ما كان بعد فنائه؛ فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء، وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من أن شياء.
وبعد، فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء وفناءه للهلاك خاصّة من غير مقصود وعاقبة - عبث ليس بحكمة، فلو لم يكن بعث ولا إعادة لم يكن في خلقه إياهم حكمة؛ لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصة.
وفي قوله: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ...) الآية دلالة علمه وتدبيره وقدرته؛ لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ماء يختلط به نبات الأرض، والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به
والتدبير هو ما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل أن ذلك كان بواحد عليم مدبر قادر بذاته.
وأن من قدر على ما ذكر من الإحداث والإفناء - قادر على الإعادة والبعث، والله الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا).
قيل: كسيرًا مكسورًا.
(تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).
هو مفتعل من (قدرت).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦) كأن هذا ذكر على مقصود الناس: أن من كان قصده في الدنيا: كثرة المال والبنين، فهو زينة الحياة الدنيا، وهو الفاني والذاهب على ما ذكر، ومن كان مقصوده في هذه الدنيا الخيرات والآخرة - فهي الباقيات أبدًا.
ثم اختلف في (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قوله: سُبْحَانَ اللَّهِ، والحمد لله، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ واللَّهُ أَكْبَرُ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه؛ وعلى ذلك روى في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلا وإنَّ سُبحَانَ اللَّه والحَمدُ لله، ولا إِلَهَ إِلا اللَّه، واللَّه أَكْبَرُ هُن البَاقِيَاتُ الصالِحَاتُ ".
وفي بعض الأخبار أنه قال لأصحابه: " خُذُوا جُنَّتَكُمْ "، قَالُوا مِنْ عَدُوٍّ حَصَرَنَا؟ قَالَ: " خُذُوا جُنَّتَكُم مِنَ النَّارِ؛ فَقُولُوا: سُبحَانَ اللَّه، والحمدُ لله وَلا إِلَهَ إِلا اللَّه، واللَّه أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوةَ إِلا باللَّه؛ فَإِنَهُن الْمُقَدماتُ الْمُؤَخراتُ البَاقِياتُ الصالِحَاتُ ".
وفي بعض الأخبار لأبي الدرداء: " خُذْهُنَّ قَبل أَنْ يُحَال بَينكَ وبينهنَّ؛ فإنهن الباقياتُ
فإن ثبتت هذه الأخبار فهي الأصل لا يجوز غيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وغيره، فأيهما كان، ففيه معنى الآخر، وإن كل واحد منهما يجمع جميع أنواع الخيرات والعبادات في الحقيقة؛ لأن " سُبْحَانَ اللَّهِ " هو تنزيه الرب عن كل آفة وعيب، و " الحمد لله " هو الثناء له بكل نعمة وصلت منه إلى الخلق، وجعله مستحقا للحمد والثناء له دون من سواه، وإن " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ": هو لا معبود سواه، وألا يستحق العبادة غيره، و " الله أكبر ": هو الإجلال عن كل ما قيل فيه ونفي كل معاني الخلق عنه، و " لا حول ولا قوة إلا باللَّه ": هو التبرى، وقطع الطمع عمن دونه وتفويض الأمور بكليتها إليه والتسليم له؛ فكل حرف من هذه الحروف يجمع في الحقيقة كل أنواع العبادات والخيرات لما ذكرنا، وكذلك الصلوات -أيضًا- تجمع كل أنواع العبادات؛ لأنه يستعمل كل جارحة من جوارحه فيها في كل حال منها؛ فهي تجمع جميع العبادات.
والأصل في قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أنها كل الخيرات والطاعات؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر ووصف الحق بالبقاء والثبات في غير آي من القرآن، ووصف الباطل بالبطلان والتلاشي والذهاب؛ من ذلك قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ...) الآية، وقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً...) الآية، وأمثاله؛ فعلى ذلك قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي باقية.
(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).
أي: خير ما يأملون.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) أي: يابسًا باليًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ ومنه سمي الرجل: هاشما.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ، أي: تنسفه؛ كقوله: (فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا).
وعن ابن عَبَّاسٍ قال (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا)، أي: خير ما يثاب الناس عليه (وَخَيْرٌ أَمَلًا)، أي: خير ما يأمل الناس عن أعمالهم يوم القيامة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً).
يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه حيث سار أثبت شيء رأوا في الدنيا، وتكسر أصلب شيء رأوا في الدنيا، وهو الجبال؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه.
وقال في آية أخرى: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)، وقال في آية أخرى: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)، وقال في آية أخرى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) وقال في آية أخرى: (هَبَاءً مَنْثُورًا)، وأمثاله يذكرهم عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه؛ حيث صار أثبت شيء في الدنيا وأشده - على الوصف الذي ذكره، وبدون هذه الأهوال والأفزاع التي ذكر - لا تقوم أنفس البشر في الدنيا؛ فقيامها لمثل هذه الأهوال التي ذكر أحرى ألا تقوم؛ ألا ترى أن موسى - عليه السلام - كان أشد الناس وأقوى البشر، ثم لم تقم نفسه؛ لاندكاك الجبل حتى صعق إلا أن اللَّه حكم أن لا هلاك يومئذ بعدما أحياهم، وإلا كانت أنفسهم لا تقوم بدون ما ذكر من الأهوال.
ثم ما ذكر من أحوال الجبال يكون ذلك في اختلاف الأحوال والأوقات: يكون في ابتداء ذلك اليوم ما ذكر أنها تسير وأنهم يرونها جامدة، وهي ليست بجامدة، ثم تصير كثيبًا مهيلا، ثم تصير كالعهن المنقوش في وقت، ثم تصير هباء منثورًا ثكون على الأحوال التي ذكر، على اختلاف الأحوال والأوقات، على قدر الشدة والهول، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل قوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)؛ لشدة ذلك اليوم تتراءى كأنها جامدة، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وقد يتراءى في الشاهد مثله؛
والثاني: تتراءى، أي: لازدحام الجبل واجتماعها، وقد يتراءى في الشاهد: السائر كالجامد والساكن؛ للكثرة والازدحام؛ نحو عسكر عظيم يسير يراه الناظر إليه كأنه ساكن لا يسير؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل أن يكون هذه الأهوال التي ذكر لأهل الكفر والعصاة منهم، وأما أهل الإيمان والإحسان يكونون في أمن وعاقبة من تلك الأهوال؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً).
أي: ظاهرة ليس عليها بناء ولا شجر ولا جبال ولا حجر ولا شيء تصير مستوية - على ما ذكرنا - (قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧).
ويحتمل قوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، أي: يكون أهلها بارزين له؛ كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
أي: نجمعهم جميعًا؛ كقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: عرضوا على ربك جميعًا.
ثم يحتمل قوله: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ) للحساب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعرضون على مقامهم، أي: يعرض كل فريق على مقامه، أي: يبعث؛ كقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١).
ويحتمل معنى العرض عليه في ذلك اليوم، وإن كانوا في جميع الأحوال والأوقات في الدنيا والآخرة معروضين عليه عالم بأحوالهم؛ لما يقرون له جميعًا يومئذ منكرهم ومقوهم - بالعرض والقيامة، كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، والأمر في جميع الأوقات لله، وكذلك هم بارزون له في جميع الأحوال، لكنّه خص ذلك اليوم بالإضافة إليه بما يقرون له جميعًا في ذلك اليوم بالألوهية له والملك، ويعرفون حقيقته؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
يحتمل هذا وجوهًا:
الأول يحتمل لقد جئتمونا بالإجابة والإقرار لنا كما أجاب خلقتكم في أول خلقنا
والثاني: لقد جئتمونا كما قلنا في الدنيا: إنكم تبعثون، وتحشرون، وتقوم لكم الساعة.
والثالث: ما قاله أهل التأويل: لقد جئتمونا فرادى بلا أنصار ينصرونكم، ولا أعوان يعينونكم على ما كنتم في الابتداء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما خرجتم من بطون أمهاتكم عراة وحفاة ليس معكم مال يمانعكم ولا أنصار تناصركم، وهو ما قال: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ...).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا).
هذا يدل أن تلك الأهوال التي ذكر إنما تكون للعصاة، ومن أنكر البعث؛ حيث قال: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) يعني: القيامة. وهذا يدل أن الأهوال والأفزاع التي ذكر في الآية الأولى تكون للعصاة والفسقة من خلقه دون المؤمنين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)
قيل: الحساب، ويحتمل: الكتاب الذي كتبته الملائكة، وضع ذلك الكتاب في أيديهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ).
أي: خائفين وجلين وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما نظروا في الكتاب فرأوا من أعمالهم الخبيثة فيه عند ذلك خافوا مما فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً).
من الأعمال السيئة.
(إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: حفظها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الحسنات والسيثات إلا أحصاها.
ويحتمل قوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً)، أي: لا يترك شيئًا مما يجزى به الإنسان وما لا يجزى به (إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: حفظها.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا)، في الدنيا، (حَاضِرًا)، في الآخرة، محفوطا غير فائت عنه شيء ولا غائب منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما هو قول الملك يقول لهم ذلك، كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، أي: حفيظ، واللَّه أعلم.
أي: يجزى كلا على قدر عمله، لا يزيد على قدر عمله ولا ينقص عنه، أي: لا ينقص المؤمن من حسناته، والكافر لا يترك له سيئة، الظلم: هو في الشاهد وضع الشيء غير موضعه.
يقول: لا يظلم رتك أحدًا، أي: لا يكون بما يجزى كلا على علمه ظالمًا واضعًا شيئًا غير موضعه.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)
وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).
ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: قصة آدم وإبليس في غير موضع من القرآن على الزيادة والنقصان؛ وإنَّمَا ذكر كذلك وكرر لما كذلك كان في الكتب المتقدمة مكررًا معادًا؛ فذكر في القرآن على ما كان في تلك الكتب؛ ليكون ذلك آية لرسالة مُحَمَّد حيث علموا أنه كان لا يعرف الكتب المتقدمة.
أو أن ما كرره لحاجات كانت لهم ولفوائد تكون في التكرار؛ ليكون لهم عظة وتنبيهًا في كل وقت وكل حال، وقد يكزر الشيء ويعاد على التذكير والتنبيه، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: سمي من الجن؛ لأنه كان من الجان الذين يعملون في الجنان؛ فنسب إليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن من الملائكة قبيلة يقال لها: الجن، فكان إبليس منها؛ فنسب إليها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، أي: صار من الجن، وكذلك قالوا: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي: صار من الكافرين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، أي: كان في علم اللَّه في الأزل أنه يكون من الجن، وكان في علم اللَّه في الأزل أنه يكون من الكافرين وقت عصيانه ربه وإبائه السجود لآدم. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
قيل: عتا وعصى، وأصل الفسق: الخروج، أي: خرج عن أمر ربه، وكذلك قال الْقُتَبِيّ: ففسق، أي: خرج عن طاعته، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه أراد بقوله: (مِنْ دُونِي) نفسه؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أربابا وآلهة من دوني وهم لكم عدو، وليسوا بآلهة ولا أرباب؛ فكيف يجوز أن يتخذ العدو ربا وإلها؟!
والثاني: أنه أراد بقوله: (أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)، أي: من دون أوليائي؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أولياء من دون أوليائي، وهم لكم عدو، أي: كيف تتخذون الأعداء أولياء، وتتركون من هم لكم أولياء ولا تخخذونهم أولياء؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، أي: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن عبدوا إبليس وأطاعوه؛ فبئس ذلك لهم بدلا.
أو أن يكون قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا): ما اتخذوا أعداءهم أولياء بدلا عن أوليائه أو بدلا عن ألوهيته وربوبيته.
وقوله: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)
ومنهم من قال: لاتخاذهم إبليس وذريته أولياء وأربابا، وهو صلة ما قال: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ...) الآية، وفيه وجوه من التأويل: يقول: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)، أي: ما استحضرتهم خلق أنفسهم؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الوقت، ولا خلق السماوات والأرض؛ لأنه خلقهما ولم يكونوا - أيضًا - شيئًا.
أو (مَا أَشْهَدْتُهُمْ) ما أعلمتهم تدبير خلق السماوات والأرض، ولا تدبير خلق أنفسهم؛ فكيف قالوا ما قالوا في اللَّه من الدعاوى؟!
والثالث: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ) أي: ما استعنت بهم في خلق السماوات والأرض، ولا في خلق أنفسهم؛ فكيف أشركوا في ألوهيتي وربوبيتي، وما استعنت بهم في ذلك. واللَّه أعلم.
وقد استدل كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن خلق الشيء هو غير ذلك المثميء لأنه قال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)، وقد شهدوا السماوات والأرض، وشهدوا أنفسهم حتى قال لهم: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، ثم أخبر أنه لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم؛ دل أن خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم - غير السماوات والأرض وغير أنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا): عن الإيمان والهدى أعوانا لديني.
والثاني: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) عبادي بنصر ديني، أو بعون أوليائي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) الذين أضلوا بني آدم عونا فيما خلقت من خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم، وهو إبليس وذريته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢)
قال (شُرَكَائِيَ)؛ على زعمهم، وإلا: لم يكن لله شركاء.
(فَدَعَوْهُمْ).
يعني: دعوا الأصنام التي عبدوها.
(فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ).
قال أبو بكر الأصم: لم يجيبوهم في وقت، وقد أجابوهم في وقت آخر، وهو ما قالوا: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)، ولكن قوله: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)؛ لما كانوا يعبدونها في الدنيا، وإنَّمَا كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا لهم شفعاء وأنصارا؛ كقولهم (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، فيكون قوله: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ): ما طمعوا هم بعبادتهم الأصنام: من الشفاعة، والنصرة، ودفع ما حل بهم عنهم، والمنع عن عذاب اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا).
أي: بين أُولَئِكَ وبين الأصنام، (مَوْبِقًا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: مهلكا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموبق: الذي يفرق بينهم وبين آلهتهم في جهنم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نهر فيها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلنا وصلهم في الدنيا الذي كان بين المشركين وبين الأصنام مَوْبِقًا، أي: مهلكا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا... (٥٣)
أي: علموا وأيقنوا أنهم داخلوها.
أي: لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم: قال أبو عبيدة: (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، أي: معدلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) قد ذكرناه وبيناه في غير موضع، وقوله: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: مِن ص مَثَلى، أي: من كل صفة؛ كقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) أي: الصفات العليا.
والثاني؛ المثل: هو الشبيه؛ كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
فإن كان التأويل: الشبيه؛ فكأنه يقول - واللَّه أعلم - (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا)، أي: بينا (فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.
وإن كان تأويل المثل: الصفة، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة: يعرفون بها ما لهم وما عليهم، وما يأتون وما يتقون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
قال أهل الشأويل: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ) يعني: الكافر (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: جدالا؛ كقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ).
ويشبه أن يكون قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت؛ حيث قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا...) الآية، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.
وقد ظهر في جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج، من ذلك قوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ...) الآية، وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ)، وأمثال هذا؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.
وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدِّين على الوصف الذي ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى).
أي: لم يمنع الناس أن يؤمنوا إلا التعنت والعناد؛ لأنه قد أكثر عليهم من الحجج والآيات ما لم يعاندوا ولا كابروا؛ لالتزامهم الإيمان بها والتصديق، لكن الذي منعهم عن الإيمان ما ذكرنا من عنادهم وتعنتهم.
(إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
وسنة الأولين: الاستئصال والإهلاك؛ فيقول: لا يؤمنون إلا في ذلك، والإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت؛ كقوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا).
وقوله: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا)
أي: عيانا وجهرًا.
قال أبو عبيدة: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا)، أي: مقابلة، وقبلا: استئنافا.
وقال مجاهد: (قُبُلًا): فجاة، وقال: قبيلا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قُبُلًا)، أي: مواجهة، وكذلك قبيلا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (قُبُلًا)، أي: مقابلة وعيانا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦)
أي: لم نرسلهم إلا بما يوجب لهم البشارة والنذارة إنما أرسلوا للأمر والنهي ليأمروا الناس بالطاعة - طاعة اللَّه - وينهوهم عن معاصيه؛ لهذا أرسلوا، فالبشارة لمن اتبع أمرهم وانتهى ما نهوا عنه، والنذارة لمن ارتكب ما نهوا عنه؛ فيكون البشارة للمتبعين لهم في أمرهم والنذارة للمرتكبين المنهي، واللَّه أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ويجادل الذين كفروا بالباطل ﴾ يحتمل قوله :﴿ ويجادل الذي كفروا بالباطل ﴾ وما نسبوه إلى السحر والكهانة والإفك وغيره. به يجادلونه، وهو باطل. أو أن يكونوا عرفوا أن ما يجادلونهم به، ويحاجونهم باطل وأن ما يدعوهم الرسول إلى الله حق وصدق ونور. لكن يعاندونه، ويجادلونه، وعندهم أنهم٣ على باطل كقوله :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ الآية ( التوبة : ٣٢ ) عرفوا أنه نور لكنهم عاندوه في المجادلة والمحاجة بالباطل والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ليدحضوا به لحق ﴾ أي ليبطلوا به الحق.
وقوله تعالى :﴿ واتخذوا آياتي وما أنذرو هزوا ﴾ قال بعضهم : آياته : الشمس والقمر وغيرهما٤ ﴿ وما أنذروا ﴾( وما أنذر به )٥ الرسل، وهو القرآن.
وقل بعضهم :﴿ واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ﴾ القرآن والحجج التي أقامها، وما أمروا به غير القرآن، وهي٦ المواعيد، هزوا. وقال صاحب٧ هذا التأويل : تأويل الأول باطل، لا يصح لأنه قال على إثره ﴿ ومن أظلم ممن ذُكِّرَ بآيات ربه فأعرض عنها ﴾ يقول : هذا يدل أنه أراد بالآيات ما ذكرنا من الحجج والبراهين لا ما ذكر.
وجائز أنهم إذا لم يعلموا بآياته، ولم يستعملوها، نسبهم إلى الهُزُوِ بها والسخرية، وإن لم يهزؤوا بها وهو كما٨ سماهم عميا وبكما وصما، لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولم يستعملوها في ما جعلت له، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك. فإذا كان، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم تحتمل مجادلتهم إياهم ما قالوا : هذا سحر وكهانة، وإنه إفك وشعر، ونحوه. أو أن تكون مجادلتهم قولهم ﴿ أبعث لله بشرا رسولا ﴾ ( لإسراء : ٩٤ ) ﴿ إن أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ ( إبراهيم : ١٠ ) وأشباه ذلك من المجادلات التي كانت منهم، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: ما..
٣ ساقطة من م..
٤ في الأصل و. م: وغيره..
٥ في الأصل به، في م: ما أنذر به..
٦ الواو ساقطة من الأصل و. م..
٧ ساقطة من الأصل و. م..
٨ في الأصل و. م: ما..
ويحتمل قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ): ما نسبوه إلى السحر والكهانة والإفك وغيره، به يجادلونه؛ وهو باطل.
أو أن يكونوا عرفوا أن ما يجادلونهم به ويحاجونهم باطل، وأن ما يدعوهم إليه الرسول حق وصدق ونور، لكن يعاندونه ويجادلونه، وعندهم أنهم على باطل، كقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ...) الآية: عرفوا أنه نور لكنهم عاندوه في المجادلة والمحاجة بالباطل، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).
أي: ليبطلوا به الحق.
وقوله: (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: آياته: الشمس والقمر وغيره، (وَمَا أُنْذِرُوا): ما أنذر به الرسل، هو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا): القرآن والحجج التي أقامها وما أمروا به غير القرآن، هي المواعيد - هزوا.
وقال أصحاب هذا التأويل: تأويل الأول باطل لا يصح، لأنه قال على أثره: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا)، يقول: هذا يدل أنه أراد بالآيات ما ذكرنا من الحجج والبراهين، لا ما ذكر.
وجائز أنهم إذا لم يعملوا بآياته ولم يستعملوها نسبهم إلى الهزء بها والسخرية، وإن لم يهزءوا بها، وهو ما سماهم: عميا وبكما وصما؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولم يستعملوها فيما جعلت له، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ فإذا كان فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل مجادلتهم إياهم: ما قالوا: هذا سحر، وكهانة، وإنه إفك، وشعر، ونحوه.
أو أن يكون مجادلتهم قولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقولهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، وأشباه ذلك من المجادلات التي كانت بينهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)
يحتمل قوله: (ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ)، أي: وعظ بالآيات التي نزلت بمكة بمكذبي الرسل من الأمم الماضية؛ فيكون تأويله، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ بِآيَاتِ رَبِّهِ فأعرض عنها ما لو اتعظ بما وعظ كان به نجاته.
أو أن يكون تذكيره بآيات ربه، وهو ما أقام من حججه وبراهينه على توحيده ورسالة الرسول، فلم يقبلها ولم يصدقها، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن لم يتعظ بما ذكر من
وقوله: (فَأَعْرَضَ عَنْهَا): يحتمل الإعراض في الآية، أي: لم يقبلها، ولم يكترث إليها، ولم ينظر فيها، أو أعرض عنها بعد ما عرفها أنها آيات وحجج؛ تعنتًا وعنادًا.
وقوله: (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ).
يحتمل؛ أي: نسي من الخيانة والشرك.
أو أن يكون قوله: (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) موصولا بالأول، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ، وجعل له سبيل للتخلص والنجاة مما قدمت يداه، فلم يتعظ به؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).
إن الكفر مظلم إذا أتى به إنسان يستر على نور القلب وعلى نور كل جارحة منه، والإيمان منير ينير القلب، وينير كل جارحة منه وعضو، وهو ما ذكرنا في غير موضع: أن الإنسان إنما يبصر بنورين ظاهرين: بنور نفسه، وبنور ذلك الشيء، فإذا ذهب أحدهما، ذهب الانتفاع بالآخر، والإيمان ما ذكرنا: أنه منير، وفي القلب نور، فإذا اجتمع النوران معًا - فعند ذلك انتفع به، فجعل يفقه ويعقل الشيء بنور القلب وبنور الإيمان، وكذلك كل جارحة منه، الأذن والبصر واللسان، جعل يبصر الحق به، ويعتبر به، ويستمع الحق والصواب.
والكفر مظلم يمنع ويستر على نور الجوارح؛ فجعل لا يبصر، ولا يعتبر، ولا يستمع، ولا يتكلم بالحق، وهو ما ذكرنا: أن الإنسان إنما يبصر الشيء بنور العين وبنور الهواء؛ فإذا ذهب أحدهما صار لا يبصر شيئا؛ فعلى ذلك ما ذكرنا.
وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه لا يخلو الكفر من أن يكون مظلمًا قبيحًا ذميمًا بنفسه أو باللَّه تعالى.
فَإِنْ قِيلَ: صار كذلك.
قيل: لئن جاز ذا جاز حدوث الأشياء بنفسها؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشيء مظلمًا قبيحًا ذميمًا بنفسه وبين أن تكون الأشياء بأنفسها على ما كانت، فإن بطل كونه بنفسه مظلمًا قبيحًا ثبت أن اللَّه هو الذي جعله مظلمًا قبيحًا، وهو ما نقول نحن: إن اللَّه خلق فعل الكفر من الكافر مظلمًا قبيحًا، وخلق فعل الإيمان من المؤمن منيرًا حسنًا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا).
هذا في قوم مخصوصين علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، وإلا لا يحتمل في جميع الكفار؛ إذ من الكفار من قد آمن.
وقال الحسن: هو في القوم الذين جعل على قلوبهم الغطاء والطبع، إذ من قوله: إن للكفر حدا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه؛ فلا يؤمن أبدًا.
وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)
يحتمل على وجهين:
أحدهما: (الْغَفُورُ) حيث ستر عليهم ولم يعاقبهم وقت عصيانهم، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يقبل توبتهم إذا تابوا.
والثاني: (الْغَفُورُ) إذا استغفروا أو تابوا، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يرحمهم ويتجاوز عنهم ما سبق لهم من الذنوب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) في الدنيا.
(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ):
قال الحسن: جعل اللَّه لكل أمة يهلكون - لهلاكهم - موعدًا وأجلا كقوله: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)، وقال في آية أخرى: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)، وجعل موعد هذه الأمة الساعة؛ وهو قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ).
قال بعض أهل العلم: أهلك اللَّه كل أمة كذبت رسولها؛ لتتعظ الأمة التي تأتي بعدها، وجعل هلاك أمة مُحَمَّد بالساعة؛ لأنه ليس بعدها أمة تتعظ به.
وقول: (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا).
قيل: ملجأ.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: لا وئلت نفسك، أي: لا نجت، ويقال: وأل فلان إلى كذا، أي: لجأ.
وقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)
فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يجعلون المهلَك هالكًا قبل أجله، وقد أخبر لمهلكهم موعدًا لا يتقدم ولا يتأخر طرفة عين.
وفي قوله: (قَدَّمَتْ يَدَاهُ): ذكر تقديم اليد، وإن لم يكن لليد صنع في ذلك؛ لما في العرف الظاهر: أنه إنما يقدم ويؤخر باليد، وكذلك ما ذكر من الكسب: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)؛ لأنه في الشاهد إنما يكتسب باليد ونحوه، فهو يرد على
وفي قوله :﴿ ما قدمت يداه ﴾ ( الكهف : ٥٧ ) ذِكْرُ َتَقَدُّمِ اليد، وإن لم يكن لليد صنع في ذلك لما في العرف الظاهر إنما يُتَقَدَّم، ويُؤَخَّرُ باليد، وكذلك ما ذكر من الكسب ﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾ ( الشورى : ٣٠ ) لأن في الشاهد إنما يُكتسب باليد، ونحوه. فهو يَرُدُّ على أصحاب ( الظواهر )١ أن الخطاب على مخرج الظاهر حين٢ لم يُفهم من ذكر اليد نفسها، ولكن فُهِمَ غير اليد.
٢ في الأصل و. م: حيث..
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠)
وقوله - وجل -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ...) الآية.
قال أهل التأويل: (لَا أَبْرَحُ)، أي: لا أزال حتى أبلغ كذا، فإن كان على هذا فهو ظاهر، وإلا: حرف البراح، يعرف البراح عن المكان، أي: لا أبرح المكان حتى أبلغ مجمع البحرين، وهو كأنه على الإضمار، أي: لا أبرح أسير معك حتى أبلغ كذا، كأنه سبق من فمَاه: أنه يسير إلى ذلك المكان دونه؛ على ما يقول الخادم لمولاه إذا أراد أن يسير لحاجة: أنا أسير، وأنا أذهب - فعند ذلك قال له موسى: (لَا أَبْرَحُ)، أي: لا أفارقك، وأسير معك.
(حَتَّى أَبْلُغَ).
ما ذكر، أي: أمرت بذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: فتى؛ لأنه كان خادمه يخدمه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: فتى؛ لأنه كان يتبعه ولصحبه؛ ليتعلم منه العلم.
وقوله: (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ).
أي: ملتقى البحرين.
وقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).
قيل: زمانا ودهرًا، وقيل: الحقب: ثمانون سنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التمثيل: على ما يبعد.
وقيل: سبعون سنة، ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١)
أضاف النسيان إليهما، وإن كان الذي نسيه هو فتاه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف النسيان إليهما على الترك؛ لأنهما فارقا ذلك المكان وتركا الحوت فيه، وإنما أضاف النسيان إليهما؛ لما تركاه جميعًا فيه وفارقاه، وإن كان الفتى هو الذي نسيه دون موسى فقد نسى موسى أن يستخبره عنه؛ فقد كان منهما جميعًا النسيان: من الفتى الإخبار والتذكير، ومن موسى: الاستخبار عن حاله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف ذلك إليهما؛ لما نسيا مكان الرجل الذي أمر موسى أن يأتيه ويقتبس منه العلم، فهو على الجهل يخرج على هذا التأويل، أي: جهلا مكانه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: سَرَبًا، أي: دخل في البحر كما يدخل في السرب، والسرب: هو داخل الأرض يقال بالفارسية: سمج.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: سَرَبًا، أي: مذهبا ومسلكا.
وقول أهل التأويل: إن الحوت كان مشويًّا فأحياه اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان طريًّا.
ولكن ليس لنا إلى معرفة الحوت أنه كان مشويَّا أو طريًّا حاجة، وهو قادر على أن يحييه مشويًّا أو طريًّا في أي حال كان، واللَّه أعلم.
وقوله - عزت جل -: (فَلَمَّا جَاوَزَا... (٦٢)
يعني: مكانه.
(قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).
فيه دلالة: أن لا بأس للرجل إذا أصابته مشقة وجهد أن يذكر أصابني كذا، وللمريض يقول: بي من المرض كذا، ولا يخرج ذلك مخرج الشكوى والجزع عن اللَّه؛ حيث قال موسى: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا): تعبًا وجهدًا.
وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣)
٢ في الأصل و. م: حيث..
وكذلك يقول٢ في قوله تعالى في قصة آدم :﴿ فنسي ﴾ ( طه : ١١٥ ) أي ضيع أمره، وتركه. ونحوه من المحال لأنه٣ لا يحتمل أن يترك ذكره٤ عمدا. والشيطان إنما يسعى بالحيلولة في مثل هذا في أمر الدين وفي النعم إذا كثرت، واتسعت على إنسان، فيسعى في مثله.
وقوله تعالى :﴿ واتخذ سبيله في البحر عجبا ﴾ قال بعضهم : عجب موسى من الفتى أن كيف ينسى أن يذكره، وقد احتاج إلى أن يتحمل مؤنة عظيمة في حمله، وقال بعضهم : عجب موسى منه حين يبس له الماء وأثره فيه، والله أعلم، ثم ذكر موسى بخبر الحوت، وما صنع، فقال :﴿ ذلك ما كنا نبغ ﴾ أني نطلب من حاجاتنا من الظفر بذلك الرجل، يقول ذلك لفتاه.
ثم في الآية وجوب من الغرائب.
أحدهما : أن يلزم الإنسان طلب العلم واقتباسه ؛ إذ كان به وبالناس حاجة إليه، وإن بعدت الشقة، ونأى الموضع حين٥ قال موسى :﴿ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا ﴾ ( الكهف : ٦٠ ).
والثاني٦ : أن لا بأس لاثنين أن يسافرا ؛ إذ لا كل واحد واثنين يكونان شيطانين على ما ذكر في بعض الأخبار أن الواحد شيطان، والاثنين شيطانان، ولكن واحدا٧ دون واحد، واثنين دون اثنين.
والثالث٨ : أنه لا يسافر إلا بالزاد، إذ٩ تزود موسى والفتى بالحوت١٠ الذي ذكر حين خرجا إلى حيث أمر موسى أن يخرج في مجمع البحرين.
فأما أهل التأويل فإنهم قالوا جميعا : إنه أُمِرَ موسى أن يأتي الخضر ليتعلم منه العلم، ولكن ليس في القرآن ذكر للخضر، إنما فيه ذكر عبد من عباده حين١١ قال :﴿ فوجدا عبدا من عبادنا ﴾ ( الكهف : ٦٥ ).
والرابع١٢ : أن الثنيا إنما يلزم في كل فعل مستقبل مما يشك فيه، ويرتاب. فأما ما كان سبيل معرفته الوحي واليقين فإنه لا يستثني فيه : حين١٣ قال موسى لفتاه :﴿ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ﴾ ( الكهف : ٦٠ ) قال ذلك من غير ثنيا لأنه عز و جل ( أمره )١٤ أن يأتيه. ولا يحتمل أن يؤمر بالإتيان في مكان، ثم هو يشك أنه لعله لا يأتيه. لذلك قطع القول فيه.
وكذلك قول ذلك العبد الصالح لموسى :﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾( الكهف : ٦٧ ) قطع القول فيه من غير ثنيا لأنه علم بالوحي أنه لا يصبر على ما يرى منه.
وأما موسى فإنه قد استثنى في ما وعد أنه يصبر لأنه أضاف إلى حادث من الأوقات على الشك منه أن يصبر، أو لا يصبر، وعلى الارتياب على اليقين. فقال :﴿ ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ﴾ ( الكهف : ٦٩ ) مما ذكرنا.
والخامس١٥ : أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم، ويتعلم منه، فرأى منه مناكير ومظالم تلزمه أن يفارقه١٦، ولا يتعلم ( منه العلم )١٧ كصنيع موسى بصاحبه لما رأى من خرق السفينة وقتل الغلام وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر، وإن كان ما فعل، هو فعل الأمر، كره موسى صحبته، وندم على ذلك أشد الندامة، حتى جعله على علم من ذلك كله.
فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه، ولا يأخذ من علمه، والله أعلم.
وفي قوله تعالى :﴿ ستجدني إن شاء الله صابرا ﴾ دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام، لأن موسى ابتدأ به. وكذلك قوله :﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ ( البقرة : ٧٠ ) فإذا تركه في أول كلامه، أو نسي، يستثني في آخره، فيعمل عمله في دفع الخُلف في الوعد والكذب. وعلى هذا تَأَوَّلَ بعض الناس قوله :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ ( الكهف : ٢٣ ) أي استثن في آخره إذا نسيت في أول كلامك، والله أعلم.
ثم هذه القصص والأنباء التي ذُكِرَت لرسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سؤال كان منهم على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص، أو على غير سؤال. ولكن كانت في كتبهم، فذكرت١٨ له ليُعْلَم أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي أمر موسى عليه السلام على طلب العلم من عند ذلك الرجل وبعثه إليه.
قال بعضهم : ذلك أن موسى، قام خطيبا في قومه، فخطب خطبة، لم يخطب قط مثلها، فأعجبه ذلك، فوقع عنده أن ليس أحد أعلم منه، فأخبر أن في مجمع البحرين رجلا أعلم منك، فأمر بالمصير إليه والتعلم منه.
وقال بعضهم : لا، ولكن موسى قد أعطي التوراة، وفيها علوم كثيرة، فظن انه ليس أحد أعلم منه، فأخبر أن في مجمع البحرين عبدا من عبادنا أعلم منك، فأمر بالمصير إليه والتعلم منه.
فإن كان على ما ذكر أهل التأويل من السبب، فيُخَرَّجُ الأمر بالمصير إليه والتعلم منه مُخرج العقوبة له والعتاب لما خطر بباله، ووقع في وهمه ما وقع.
وجائز أن يكون الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه ابتداء محنة من الله تعالى إياه بتعلم العلم من غير سبب كان ( من )١٩ موسى على ما يؤمر المرء بتعلم العلم ابتداء من غير سبب محنة من الله يمتحنه بها، نحو ما أمر موسى بالمصير إلى طور سيناء، وأُعطِي هنالك التوراة في الألواح على غير سبب كان منه. ولكن ابتداء محنة يمتحنه بها٢٠. فعلى ذلك يحتمل أمره له بالمصير إلى ما أمر والتعلم منه ابتداء/٣٢٠-أ/محنة، امتحنه بها.
وقول أهل التأويل : إن صاحب موسى الذي أمر موسى بالمصير إليه والتعلم منه الخُضْرُ، وفتاه الذي كان يصحبه، ويتبعه، يُوشَعُ بن نون. فذلك لا يعلم إلى بالسمع والخبر عمن يوحي إليه، فيعلمه بالوحي.
وأما من أخبر ذلك، وقاله لا عن وحي فلا يعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. إنما الحاجة إلى ما أودع فيه من أنواع الحكمة والعلوم.
وأما ما ذكروا أنه فلان، وأنه كان في موضع كذا في البحر، وأن موسى قال ( له )٢١ كذا، وهو قال لموسى كذا، فإن سبيل معرفة ذلك السمع. فإن ثبت السمع فيه، وإلا لم يجب أن يُذْكَرَ فيه أكثر مما ذكر في الكتاب لأن هذه الأنباء والقصص التي ذكرت في القرآن إنما ذُكِرَتْ لتكون آية لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فلو قيل فيها ما لم يُذْكَر في كتبهم من الزيادة والنقصان لكان ذلك سببا لإكذابه لا تصديقه على ما يدعو٢٢ من الرسالة.
٢ الضمير يعود على الحسن..
٣ في الأصل و م ولكن..
٤ في الأصل و م: أن يذكر له..
٥ في الأصل و. م: حيث..
٦ في الأصل و. م: وفيه..
٧ في الأصل و. م: واحد..
٨ في الأصل و. م: وفيه..
٩ في الأصل و. م: حيث..
١٠ في الأصل و. م: والحوت..
١١ في الأصل و. م: حيث..
١٢ في الأصل و. م: وفيه..
١٣ في الأصل و. م: حيث..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ في الأصل و. م: وفيه..
١٦ من م، في الأصل: يقال قة..
١٧ من م، ساقطة من الأصل..
١٨ في الأصل و. م: فذكر..
١٩ ساقطة من الأصل و. م..
٢٠ في الأصل و. م: به..
٢١ ساقطة من الأصل..
٢٢ في الأصل و. م: يدعي..
قال الحسن: لم يكن نسيه؛ ولكن تركه متعمدًا مضيعًا، وإنما أضاف إلى الشيطان؛ يقول: إن الشيطان حملني حتى تركت ذكره لك، وكذلك يقول في قوله في قصة آدم: (فَنسَيَ)، أي: ضيع أمره وتركه، ونحوه من المحال، ولكن لا يحتمل أن يترك أن يذكر له عمدًا، والشيطان مما يسعى بالحيلولة في مثل هذا: في أمر الذين، وفي النعم إذا كثرت واتسعت على إنسان؛ فيسعى بالإنساء في مثله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: عجب موسى من الفتى أن كيف نسي أن يذكره، وقد احتاج إلى أن يتحمل مؤنة عظيمة في حمله؟!
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عجب موسى منه حين يبس له الماء وأثره فيه، واللَّه أعلم.
ثم ذكر موسى بخبر الحوت، وما صنع فقال.
(ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤)
أي: نطلب من حاجتنا من الظفر بذلك الرجل، يقول ذلك لفتاه.
ثم في الآية وجوه من الفوائد:
أحدها: أن يلزم الإنسان طلب العلم واقتباسه؛ إذ كان به وبالناس حاجة إليه، وإن بعدت الشقة ونأى الموضع؛ حيث قال موسى: (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).
وفيه: أن لا بأس لاثنين أن يسافرا ولا كل واحد واثنين يكونان شيطانين، على ما ذكر في بعض الأخبار: " إِنَّ الوَاحِدَ شَيطَان، والاثْنَينِ شَيْطَانَانِ "، ولكن واحدًا دون واحد، واثنين دون اثنين.
وفيه: أنه لا يسافر إلا بالزاد؛ حيث تزود موسى والفتى الحوت الذي ذكر حين خرجا إلى حيث أمر موسى أن يخرج في مجمع البحرين: فأما أهل التأويل فإنهم قالوا جميعًا: إنه أمر موسى أن يأتي الخضر؛ ليتعلم منه العلم، ولكن ليس في القرآن ذكر الخضر؛ إنما فيه ذكر عبد من عباده؛ حيث قال: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا).
وفيه: أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم ويتعلم منه، فرأى منه مناكير ومظالم - يلزمه أن يفارقه، ولا يتعلم منه العلم؛ كصنيع موسى بصاحبه؛ لما رأى؛ من خرق السفينة، وقتل الغلام، وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر، وإن كان ما فعل هو فعل الأمر كره موسى صحبته، وندم على ذلك أشد الندامة حتى جعله على علم من ذلك كله، فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه ولا يأخذ من علمه، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام؛ لأن موسى ابتدأ به، وكذلك قوله: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) فإذا تركه في أول كلامه أو نسي يستثنى في آخره؛ فيعمل عمله في دفع الخلف في الوعد والكذب، وعلى هذا تأول بعض الناس قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي: استثن في آخره إذا نسيت في أول كلامك، واللَّه أعلم.
ثم هذه القصص والأنباء التي ذكرت لرسول اللَّه على أثر سؤال كان منهم، على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص، أو على غير سؤال، ولكن كانت في كتبهم؛ فذكرها له ليعلم أنه إنما عرف باللَّه تعالى.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي أمر موسى على طلب العلم من عند ذلك الرجل وبعثه عليه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن موسى قام خطيبًا في قومه، فخطب خطبة لم يخطب قط
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن موسى قد أعطي التوراة، وفيها علوم كثيرة؛ فظن أنه ليس أحد أعلم منه؛ فأخبر: أن في مجمع البحرين عبدًا من عبادنا أعلم منك؛ فأمر بالمصير إليه. والتعلم منه؛ فإن كان على ما ذكر أهل التأويل من السبب فيخرج الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه مخرج العقوبة له والعتاب لما خطر بباله ووقع في وهمه ما وقع.
وجائز أن يكون الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه ابتداء؛ محنة من اللَّه - تعالى - إياه بتعلم العلم من غير سبب كان من موسى على ما يؤمر المرء بتعلم العلم ابتداء من غير سبب؛ محنة من اللَّه يمتحنه بها؛ نحو ما أمر موسى بالمصير إلى طور سيناء، وأعطي هنالك التوراة في الألواح على غير سبب كان منه، ولكن ابتداء محنة يمتحنه بها؛ فعلى ذلك يحتمل أمره له بالمصير إلى ما أمر والتعلم منه ابتداء محنة يمتحنه بها.
وقول أهل التأويل: إن صاحب موسى الذي أمر موسى بالمصير إليه والتعلم منه - الخضر، وفتاه الذي كان يصحبه ويتبعه يوشع بن نون، فذلك لا يعلم إلا بالسمع والخبر عمن يوحى إليه؛ فيعلمه بالوحي، وأمَّا من أخبر بذلك وقاله لا عن وحي - فلا يعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع فيه من أنواع الحكمة والعلوم، وأما ما ذكروا أنه فلان، وأنه كان في موضع كذا في البحر، وأن موسى قال له كذا، وهو قال لموسى كذا - فإن سبيل معرفة ذلك السمع، فإن ثبت السمع فيه، وإلا: لم يجب أن يذكر فيه أكثر مما ذكر في الكتاب؛ لأن هذه الأنباء والقصص التي ذكرت في القرآن إنما ذكرت؛ لتكون آية لرسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلو قيل فيها ما لم يذكر في كتبهم من الزيادة والنقصان - لكان ذلك سببًا لإكذابه لا تصديقه على ما يدعي من الرسالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).
أي: فقد الحوت هو ما كنا نبغي أنه كان ذلك علما لوجود مكان ذلك الرَّجل.
وقوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: رجعا عودهما على بدئهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: رجعا يقصان طريقهما وآثارهما الذي مشيا فيه يطلبان المكان
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقتفيا أثر الحوت في الماء، لكن الأول أشبه؛ لأن في الآية ذكر آثارهما لا ذكر أثر الحوت.
وقوله: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥)
يحتمل قوله: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) النبوة؛ حيث قال لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا): لا يحتمل أن يقول له هذا إلا على علم وحي، وحيث قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي): أخبر أنه لم يفعل ما فعل عن أمر نفسه، ولكن أمر اللَّه، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) كل خير وبركة أعطاها اللَّه إياه.
أو أن يكون رحمة القلب والشفقة التي كانت منه على أهل السفينة؛ بخرقها، وقتل ذلك الغلام الذي قتله؛ إشفاقًا منه على والديه أو على الناس، وإقامة الجدار الذي كاد أن ينقض فأقامه، وأمثاله.
وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا): هو ظاهر.
وقوله: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)
في قوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) دلالة أنه كان على سفر، ولم يكن مقيمًا في ذلك المكان، ومن يتعلم من آخر علمًا فإنه يتبعه حيث يذهب هو في حوائجه لا يؤمر بالمقام حيث يقيم المتعلم؛ لأنه قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ).
وقوله: (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
يحتمل: أي: أرشدني إلى ما علمت، أو تعلمني مما علمت من الرشد والصواب.
وقوله - تعالى -: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧)
بما ترى مني من الأمور ما يخرج في الظاهر مخرج المناكير.
أو يقول: إنك نبي ورسول، والرسول إذا رأى منكرا في الظاهر لا يسع له ترك الإنكار عليه والتغيير، وأنت لا تصبر على ما ترى مني؛ لما لم تعرف سببه؛ ألا ترى أنه وسع له الإنكار عليه والتغيير؛ حيث قال له: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨).
أي: ما لم تعلم علمًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩)
يحتمل أن الثنيا منه على الأمرين جميعًا على الصبر الذي وعد، وعلى قوله: (وَلَا
وقوله تعالى :﴿ هل أتبعك على أن تعلمن ﴾ يحتمل أي أرشدني إلى ما عُلِّمْتُ أو تُعَلِّمَني مما عُلِّمْتَ من الرشد والصواب.
٢ في الأصل و م: المتعلم..
وأما قوله :﴿ ستجدني إن شاء الله صابرا ﴾ إنما هو فعل أضافه إلى نفسه، فلا بد من أن يستثني فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ... (٧٠) ما تنكره نفسك وتكرهه، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أني لماذا فعلت ما فعلت؟.
* * *
قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا).
هذا الكلام يخرج على وجهين:
يخرج على الإنكار عليه، أي: خرقتها؛ لتغرق أهلها، أو لتعيبها، أو لماذا هذا الخرق؟ استفهام لولا قوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
فإنى ن على الأول على الإنكار عليه والرد - فقوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا): ظاهر، أي: جئت شيئا عظيمًا شديدًا.
وإن كان على الاستفهام، فهو على الإضمار؛ كأنه قال: أخرقتها لتغرق أهلها؟! فلئن خرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئًا إِمْرًا عظيمًا شديدًا؛ وإن كان التأويل على الإنكار - فهو كما يقال لمن يبني بناء ثم يترك الإنفاق عليه في عمارته: بنيت لتخرب أو لتهدم، وكما يقال لمن زرع زرعًا، ثم ترك سقيه: زرعت لتفسده، ونحوه، وإن كان لم يبن لذلك، ولم يزرع لما ذكر، ولكن لما كذلك يصير في العاقبة إذا ترك سقيه أو عمارة ما
( أحدهما )١ : على الإنكار عليه، أي أخرقتها لتغرق أهلها ؟ أو لتعيبها ؟
( والثاني : على الاستفهام، أي أخرقتها لتغرق أهلها ؟ أو لتعيبها ؟ )٢ أو لماذا ؟
وظاهر٣ هذا الحرف استفهام لولا قوله :﴿ لقد جئت شيئا إمرا ﴾.
فإن كان على الأول على الإنكار عليه والرد فقوله :﴿ لقد جئت شيئا إمرا ﴾ ظاهرا، أي جئت شيئا عظيما٤ شديدا.
( وإن كان على الاستفهام فهو على الإضمار، كأنه قال : أخرقتها لتُغرق أهلها فلئن خرقتها لتغرق أهلها فلقد جئت شيئا إمرا )٥.
وإن كان التأويل على الإنكار فهو كما يقال لمن يبني بناء، ثم يترك الإنفاق عليه في عمارته : بَنَيْتَ لِتُخَرِبَ، أو لتهدم، وكما يقال لمن زرع زرعا، ثم ترك سقيه : زرعت لتفسده، ونحوه، وإن كان لم يبين( سببا )٦ لذلك، ولم يزرع لما ذكر، ولكن لما كذلك يصير في العاقبة إذا ترك سقيه أو عمارة ما بنى.
فإن قيل : كيف قال له موسى ﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ وبعد ( ذلك )٧ لم يعلم أن ذلك الخرق مُغرق أهلها، وقد يجوز أن يكون غير مغرق. قيل : إنما أخبر عما يؤول الأمر في العاقبة، والظاهر من الخرق أن يغرق في ( آخر الأمر )٨ وهو كما ذكرنا من أمر البناء والزرع : بَنَيْتَ لتُخرب، وزعت لتفسد، وإن لم يكن بناؤه وزراعته لذلك.
فعلى ذلك قول موسى لصاحبه، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ ساقطة من م..
٤ أدرج قبلها في الأصل: إمرا أي..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ ساقطة من الأصل و م..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: الآخرة..
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال له موسى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا)، وبعد لم يعلم أن ذلك الخرق مغرق أهلها، وقد يجوز أن يكون غير مغرق؟!
قيل: إنما أخبر عما يئول الأمر في العاقبة، والظاهر من الخرق أن يغرق في الآخرة، وهو كما ذكرنا من أمر البناء والزرع: بنيت لتخرب، وزرعت لتفسد، وإن لم يكن بناؤه وزراعته لذلك، فعلى ذلك قول موسى لصاحبه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢)
هذه الآية أترد، على المعتزلة؛ لأنه قال له: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا): دل أنه كان يحتاج إلى استطاعة تقارن الفعل لا تتقدم الفعل فيكون بها الفعل، وإلا قد كانت له أسباب لو لم يؤثر غيرها لاستطاع الصبر معه؛ دل أن استطاعة الفعل لا تتقدم على الفعل، ولكن تقارنه.
وقال الحسن: إنما يقال هذا؛ للاستثقال كما يقول الرجل لآخر: لا أستطيع أن أنظر إليك بغضا، وهو ناظر إليه، لكن يقال ذلك على الاستثقال والبغض ليس على حقيقة نفي الاستطاعة؛ فعلى ذلك الأول، فيقال له هو كما يقال: لا أستطيع أن أنظر إليك نظر الرحمة، فهو وإن كان ناظرًا إليه لما ذكر - فهو غير ناظر إليه نظر رحمة وشفقة؛ فهما سواء وهو ما يقوله، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ... (٧٣)
يحتمل هذا الكلام وجوهًا:
أحدها: على التعريض من الكلام، أي: لا تؤاخذني بما لو نسيت؛ كقول إبراهيم حيث قال: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي..)، ونحوه، أي: سأسقم.
والثاني: على حقيقة النسيان؛ نسي قوله: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) بعدها؛ لما رأى من المناكير في الظاهر، وهكذا كانت عادة الأنبياء أنهم إذا رأوا منكرا لا يملكون أنفسهم حزنًا وغضبا على ما رأوا فلا ينكر أن يكون نسي ما قال له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على التضييع والترك، فهو يخرج على الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تكلفني من أمري ما يعسر عليَّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإرهاق: هو الشدة والتعب.
أحدهما : على التعريض من الكلام ؛ أي لا تؤاخذني بما لو نسيت كقول إبراهيم حين١ قال :﴿ فنظر نظرة في النجوم ﴾ ﴿ فقال إني سقيم ﴾( الصافات : ٨٨و٨٩ ) أي٢ سأسقم.
و الثاني : على حقيقة النسيان نسي لقوله٣ :﴿ فلا تسألني عن شيء ﴾( الكهف : ٧٠ ) بعدها مما رأى من المناكير في الظاهر. هكذا كانت عادة الأنبياء أنهم إذا رأوا منكرا لا يملكون أنفسهم حزنا و غضبا على ما رأوا، فلا يُنكر أن يكون نسي ما قال له.
( والثالث : ما )٤ قال بعضهم : على التَّضييع و الله اعلم، فهو يخرج على الأول، و الله أعلم.
و قوله تعالى :﴿ ولا ترهقني من أمري عسرا ﴾ قال بعضهم : لا تكلفني من أمري ما يعسر علي. و قال بعضهم : الإرهاق هو الشدة و التعب. وقال بعضهم :﴿ و لا ترهقني ﴾ أي لا تَفْتِنِّي ﴿ عسرا ﴾.
٢ ادرج قبلها في الأصل و م: ونحوه..
٣ في الأصل و م: قوله..
٤ في الأصل و م: و..
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)
يحتمل هذا الكلام -أيضًا- وجهين:
على الإنكار، والرد عليه.
والثاني: على الاستفهام والسؤال على ما ذكرنا في الأول: أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس؟ أو بحق؟ أو لماذا؟
أو على الإنكار والرد على ما رأى في الظاهر قتل نفس ولم يعرف الوجه الذي به يجب القتل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا).
هو على ما ذكرنا على الإنكار ظاهر، وعلى الاستفهام والسؤال على الإضمار: أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس فلئن فعلت لقد جئث شيئًا نكرًا، أي: منكرا:
ثم اختلف في قوله: (نُكْرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُكْرًا): أكبر من قوله: (إمْرًا) لأن فيه مباشرة القتل وإهلاك النفس بغير نفس؛ فهو أكبر وليس في نفس الخرق إهلاك، وإنما هو سبب الإهلاك، وقد يجوز ألا يهلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إمْرًا) أكبر من قوله: (نُكْرًا)؛ لأن فيه إهلاك جماعة، وهاهنا إهلاك واحد، فهو دون الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥)
ما ذكرنا في الأول.
وقوله: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦)
في ترك المصاحبة عذر؛ لما قلت لي: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ولم أصبر.
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧)
سمى: قرية، وهي كانت مدينة؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)؛ دل أنها كانت مدينة، والعرب قد تسمي المدينة: قرية.
وقوله: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ).
قال الحسن: كان ذلك ألجدار بهيئة عند الناظر أنه يسقط.
وقال أبو بكر الأصم: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الإرادة: صفة كل فاعل له حقيقة الفعل، أو
وقوله تعالى :﴿ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ﴾ قال الحسن : كان الجدار كهيئة عند الناظر أنه يسقط.
وقال أبو بكر الأصم :﴿ يريد أن ينقض ﴾ الإرادة صفة كل فاعل له حقيقة الفعل، أو ليس له حقيقة الفعل بعد أن يضاف إليه الفعل. ألا ترى أنه ( يقال عن الجدار )١ سقط، وإن كان، في الحقيقة ( لم )٢ يسقط ؟.
وعندنا أنه إنما يقال ذلك لقرب الحال وعند الإشراف على الهلاك والسقوط. ألا ترى أن الرجل يقول : إني٣ أردت أن أموت، وأردت أن أهلك، وأردت أن أسقط، وهو لا يريد الموت ولا السقوط، ولكنه يذكر ذلك لإشرافه على الهلاك وقرب الحال إليه ليس على حقيقة الإرادة ؟ فعلى ذلك قوله :﴿ يريد أن ينقض ﴾ أي أشرف، وقَرُبَ، على حال السقوط، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ﴾ هذا القول من موسى يحتمل وجهين :
أحدهما :﴿ قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ﴾ لشدة حاجته إلى الطعام لئلا تقع لهما حاجة إلى أهل تلك المدينة ؛ إذ قال وقع لهما إليهم حاجة حين٤ قال :﴿ استطعما أهلها ﴾ مرة، فلم يُطْعِموها، فأراد أن يأخذ على ذلك أجرا لئلا تقع لهما حاجة إليهم ثانيا.
والثاني : قال له ذلك : لما لم ير أهل تلك البلدة أهلا ليصنع إليهم المعروف، لما رأى منهم من البخل والضنة في الإطعام، حين٥ استطعماهم، فلم يطعموهما منهم، وضِنَّةً، والله أعلم.
وذُكِرَ في بعض القصة أن الجدار الذي أقامه صاحب موسى، كان طوله خمس مائة ذراع، وقامته مئتي ذراع، وعرضه أربعين ذراعا، أو نحوه. وتحته طريق القوم. لكن لا حاجة إلى معرفة ذلك، إنما الحاجة إلى ما فيه من أنواع الحكمة والفوائد.
٢ ساقطة من الأصل و. م..
٣ في الأصل و. م: إن..
٤ في الأصل و. م: حيث..
٥ في الأصل و. م: حيث..
وعندنا أنه: إنما يقال ذلك لقرب الحال، وعند الإشراف على الهلاك والسقوط؛ ألا ترى أن الرجل يقول: إن أردت أن أموت، وأردت أن أهلك، وأردت أن أسقط، وهو لا يريد الموت ولا السقوط؛ ولكنه يذكر ذلك لإشرافه على الهلاك وقرب الحال إليه، ليس على حقيقة الإرادة؛ فعلى ذلك قوله: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)، أي: شرف وقرب على حال السقوط، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
هذا القول من موسى يحتمل وجهين:
أحدهما: قال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)؛ لشدة حاجته إلى الطعام؛ لئلا يقع لهما حاجة إلى أهل تلك البلدة؛ إذ قد وقع لهما إليهم حاجة؛ حيث قال: استطعما من أهلها مرة فلم يطعموهما؛ فأراد أن يأخذ على ذلك أجرًا؛ لئلا يقع لهما حاجة إليهم ثانيًا.
والثاني: قال له ذلك، لما لم ير أهل تلك البلدة أهلا ليصنع إليهم المعروف؛ لما رأى فيهم من البخل والضنة في الطعام؛ حيث استطعماهم فلم يطعموهما؛ بخلا منهم وضنة، واللَّه أعلم.
وذكر في بعض القصة أن الجدار الذي أقامه صاحب موسى كان طوله خمسمائة ذراع، وقامته مائتي ذراع، وعرضه أربعين ذراعًا، أو نحوه تحته طريق القوم، لكن لا حاجة لنا إلى معرفة ذلك؛ إنما الحاجة إلى ما فيه من أنواع الحكمة والفوائد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)
أي: سأنبئك بيان ما قلت لك: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ثم بين وفسره له؛ فقال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)
أي: أجعله، معيبة.
وقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ):
ذكر في بعض الحروف: (وكان أمامهم ملك).
(يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
فعلى ذلك التأويل فيه (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، أي: أجعلها معيبة، لئلا يأخذها ذلك الملك غصبا؛ إذ كان لا يأخذ إلا سفينة صالحة صحيحة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الغلام كبيرًا بالغًا، والعرب قد تسمي الرجل البالغ الذي لم يلتح بعد - أولم تستو لحيته - غلامًا؛ لقربه بوقت البلوغ، ولذلك قال له موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ)، والصغير مما لا يقتل إذا قتل نفسا بغير حق؛ فلو كان صغيرًا لم يكن لقول موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) معنى، وهو كما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " إنَّ أَيْمَانَكُم تحقنُ دِماءكم " إذا ظهر منهم الدَّم وكقوله: " لولا الأَيْمَانُ لَكَان لي وَلَهَا شَأنٌ " إذا ظهر منها الزنا، فعلى ذلك قوله: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ): لو كانت محتملة القتل بالنفس، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في سبب قتل ذلك الغلام:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قتله؛ لكفره، كان كافرا، وكذلك في حرف أبي بن كعب: (وأمَّا الغلام فكان كافرًا)؛ ألا ترى أنه قال: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا): دل هذا أته كان بالغًا كافرًا؛ إذ لو لم يكن كافرًا لم يلحق والديه منه الطغيان والكفر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما قتله؛ لأنه كان لصًّا قاطع طريق؛ يقطع الطريق على الناس ويأخذ أموالهم.
وعلى قول من يقول: إنه كان صغيرًا، قتله؛ لأنه علم أنه لو بلغ كان كافرًا، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك السبب الذي قتله - حاجة، ولا أنه كان صغيرا أو كبيرا؛ لأنه أخبر أنه إنما قتله بأمر اللَّه لا من تلقاء نفسه؛ حيث قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، ولكن إنما فعلته بأمر اللَّه، ولله أن يأمر عبدًا من عباده بقتل الصغير على ما له أن يميته وعلى ما يأمر ملك الموت بقبض أرواح الخلق؛ فعلى ذلك له أن يميته على يدي آخر، وأن يقبض روحه؛ إذ له الخلق والأمر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا).
ليس هو الخوف، ولكن العلم، أي: علمنا أنه يرهقهما طغيانًا وكفرا، وكذلك ذكر في
فعلى ذلك تأويل فيه :﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ أي أجعلها معيبة لئلا يأخذها ذلك الملك غصبا ؛ إذ كان لا يأخذ إلا ( كل )٢ سفينة صالحة صحيحة، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و. م..
وهو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه قال :)٤ ( إن إيمانكم يحقن دماءكم ) ( أي إيمانكم يحقن دماءكم )٥ إذ ظهر منهم الدم. وكقوله :( لولا الإيمان لكان لي ولها شأن )( البخاري : ٤٧٤٧ ) إذا ظهر منها الزنا. فعلى ذلك قوله :﴿ أقتلت نفسا زكية بغير نفس ﴾ لو كانت محتملة القتل بالنفس، والله أعلم.
ثم اختلف في سبب قتل الغلام. قال بعضهم : قتله لكفره ؛ كان كافرا، وكذلك ذُكر في حرف أُبَيٍّ بْنِ كَعْبِ : وأما الغلام فكان كافرا. ألا ترى أنه قال :﴿ فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ﴾ دل هذا أنه بالغا كافرا، إذ لو لم يكن كافرا لم يلحق والديه منه الطغيان والكفر.
وقال بعضهم : إنما قتله لأنه كان لِصًّا قاطع الطريق ( يقطع الطريق )٦
وعلى قول من يقول : إنه كان صغيرا قتله لأنه علم أنه لو بلغ ( بلغ )٧ كافرا، والله أعلم بذلك. وليس لنا إلى معرفة ذلك السبب الذي قتله حاجة، ولا أنه كان صغيرا أو كبيرا لأنه أخبر أنه إنما قتله بأمر الله لا من تلقاء نفسه حين قال :﴿ وما فعلته عن أمري ﴾ ( الكهف : ٨٢ ) ولكن إنما فعلته بأمر الله، لله أن يأمر عبدا من عباده بقتل الصغير على ما له أن يميته وعلى ما يأمر ملك الموت بقبض أرواح الخلق. فعلى ذلك له أن يميته على يدي آخر، وأن يقبض روحه ؛ إذ له الخلق والأمر.
وقوله تعالى :{ فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) ؛ ليس، هو الخوف، ولكن : العلم ؛ أي علمنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا. وكذلك ذكر في حرف أُبَيٍّ.
فإن قيل : كيف احتج على قتله وإهلاكه بما علم أنه يلحق أبويه منه الطغيان والكفر، وقد ترك إبليس وجنوده يعيشون إلى آخر الدهر على علم منه أنهم يحملون الناس على الطغيان والكفر، ويرهقونهم بأنواع المعاصي والفواحش، وكذلك هؤلاء الظلمة الذين لا يكون منهم إلا كل شر وجور على الناس من تركهم على علم منه بما يكون منهم. فما معنى الاحتجاج في قتله وإهلاكه بما ذكر من إرهاق ( الوالدين بالطغيان والكفر )٨ ؟.
قيل : لهذا جوابان :
أحدهما٩ : أن الله عز وجل قد يمتحن البشر بمعان وعلل وأشياء، تحملهم تلك المعاني والأشياء على الرغبة والحنث في ما امتحنهم، وإن كان له الامتحان لا على تلك المعاني والعلل نحو ما امتحنهم بأنواع العبادات والطاعات بثواب وجزاء ذكر لهم فيها لو فعلوا، وإن كان الامتحان بذلك على غير ثواب ولا جزاء. وكذلك العقوبات وغير ذلك من المحن. فعلى ذلك الأولى.
والثاني : ذكر هذا ليُطَيِّبَ به أنفسهم إحسانا منه إليهم وإنعاما عليهم ؛ إذ له أن يميتهم صغارا وكبارا. وعلى ذلك يُخَرَّجُ قوله :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده ﴾ ( الشورى : ٢٧ ) وقد وسع على كثير من الخلق. وكذلك قوله :﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ﴾ الآية ( الزخرف : ٣٣ ) وقد جعل للكثير من الخلق ذلك هذا لما له أن يفعل ذلك للكل. فمن يفعل ذلك يفعل إحسانا منه وإفضالا، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: كذلك..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل: حيث قال..
٥ من م، ساقطة من الأصل. إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني أنفسهم وأموالهم إلا بحقها). (البخاري ٢٥).
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في م: كان، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل و. م: الطغيان والكفر بالوالدين..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
فَإِنْ قِيلَ: كيف احتج على قتله وإهلاكه بما علم أنه يلحق أبويه منه الطغيان والكفر، وقد ترك، إبليس وجنوده يعيشون إلى آخر الدهر، على علم منه أنهم يحملون الناس على الطغيان والكفر، ويرهقونهم أنواع المعاصي والفواحش؟! وكذلك هَؤُلَاءِ الظلمة الذين لا يكون منهم إلا كل شر وجور على الناس ثم تركهم على علم منه بما يكون منهم؟! فما معنى الاحتجاج في قتله وإهلاكه بما ذكر من إرهاق الطغيان والكفر بالوالدين؟!
قيل: لهذا جوابان:
أحدهما: أن اللَّه - تعالى - قد يمتحن البشر بمعان وعلل وأشياء، تحملهم تلك المعاني والأشياء على الرغبة والحث فيما امتحنهم، وإن كان له الامتحان لا على تلك المعاني والعلل، نحو ما امتحنهم بأنواع العبادات والطاعات بثواب وجزاء ذكر لهم فيها لو فعلوا، وإن كان له الامتحان بذلك على غير ثواب ولا جزاء، وكذلك العقوبات وغير ذلك من المحن؛ فعلى ذلك الأول.
والثاني: ذكر هذا لتطيب به أنفسهم؛ إحسانا منه إليهم، وإنعامًا عليهم؛ إذ له أن يميتهم صغارًا وكبارًا، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ...) الآية. وقد وسع على كثير من الخلق، وكذلك قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...) الآية، وقد جعل لكثير من الخلق ذلك، لكن هذا لما له أن يفعل ذلك للكل، فمن لم يفعل ذلك له إنما لم يفعل إحسانًا منه وإفضالا؛ فعلى ذلك الأول إنما ذكر ما ذكر إحسانًا منه وإفضالا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)
قَالَ بَعْضُهُمْ (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً)، أي: صلاحًا، (وَأَقْرَبَ رُحْمًا): أي: أوصل رحما وأبر لوالديه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً)، أي: عملا، (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، أي: أحسن منه برًّا لوالديه.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رُحْمًا)، من الرحم والقرابة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (رُحْمًا)، أي: رحمة وعطفا.
وذكر أنهما قد أعطيا خيرًا منه، أي: خيرًا من القتيل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ
اختلف في ذلك الكنز:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الكنز مالا كنزه أبوهما.
قال ابن عَبَّاسٍ: حفظ؛ لصلاح أبيهما، ما ذكر منهما صلاح.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الكنز مصحفا فيها علم.
قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل على أن يكون علمًا؛ لأن العلم مما يعلمه العلماء ويشترك الناس فيه؛ فلا يحتمل أن يحفظ ذلك لهما دون الناس؛ فإن ثبت وحفظ ما روي في الخبر فهو مال وعلم.
وروي عن ابن مالك قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كَانَ تَحْتَ الجِدَارِ الذِي قال اللَّه فِي كِتَابِهِ (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) ولَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبتُ لِمَنْ أيْقَنَ بِالمَوتِ كيفَ يفرح وَعَجِبتُ لمن أَيْقَنَ بالقدر كيفَ يحزَنُ؟! وعَجِبت لمن أَيْقَنَ بِزَوَالِ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيهَا؟! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّد رسول اللَّه " فإن حفظ هذا عن رسول اللَّه ففيه مال وعلم؛ لأن اللوح من الذهب مما يكثر ويعظم قدره، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
أي: نعمة من ربك وإحسانًا عليهما؛ إذ كان له ألا يحفظ ذلك لهما، ولا يوصله إليهما على ما لم يعط لكثير من اليتامى والمساكين شيئًا من ذلك، لكن ذلك منه إليهما فضل وإنعام ورحمة عليهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
هو ما ذكرنا أنه أخبر عن أمر اللَّه فعل ما فعل، لا عن أمر نفسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
أي: تأويل ما قلت لك في بدء الأمر: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ثم لا يحتمل أن
وقول أهل التأويل: اسم الغلام الذي قتله صاحب موسى " خشنوذ " أو لا أدري ماذا؟ ووالداه: اسمهما كذا، لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة أساميهم حاجة، وكذا اسم الغلامين اليتيمين صاحبي الجدار: أصرم وصريم، ولا أدري ماذا؟ ولا حاجة بنا إلى ذلك.
وقولهم: كان صاحب موسى خضرا، وأنه إنما سمي: خضرًا؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت؛ فذلك -أيضًا- مما لا يعلم إلا بالخبر عن الوحي - وحي السماء - فلا نقول فيه إلا قدر ما ذكره الكتاب؛ فإنه يخرج ذكره مخرج الشهادة على اللَّه من غير حصول النفع لنا في ذلك عمل أو غيره، وليس في الكتاب إلا ذكر عبد من عبادنا، وذكر الغلام، وذكر الفتى، وذكر غلامين يتيمين في المدينة، وأمثاله يقال ما فيه ولا يزاد على ذلك؛ مخافة الشهادة على اللَّه بالكذب، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا).
في الآية دلالة أن الآية نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يسأل هو عن خبر ذي القرنين؛ لأنه قال (وَيَسْأَلُونَكَ)، ولم يقل: " سألوك "، والخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني يدل على ذلك، أيضًا؛ لأنه روى أن نفرًا من أهل الكتاب جاءوا بالصحف والكتب، فقالوا لي: استأذن
وأما أهل التأويل قالوا جميعًا: إنه سئل قبل أن ينزل عليه خبره، ثم نزل من بعد السؤال، واللَّه أعلم.
ثم اختلف فيه:
قال الحسن: كان نبيَّا، دليله: ما قال: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)؛ قال: هذا تحكيم من اللَّه إياه فيما ذكر، ولا يولي الحكم إلا من كان نبيًّا.
وأما علي بن أبي طالب فإنه سُئل عن ذلك: كان نبيا أو ملكًا؟ فقال: لا واحد منهما.
وقال غير هَؤُلَاءِ: إنه كان ملكا؛ يدل على ذلك الخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن خبره وبنائه، قال: فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كان غلامًا من الروم أعطي ملكا فسار حتى بلغ كذا... "، على ما ذكر في الخبر، والأشبه أن يكون أنه كان ملكا؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)
أي: ملكنا له الأرض له جملة، ذكر تمكين الأرض له جملة يصنع فيها ما يشاء، لم يخص له ناحية منها دون ناحية، وليس كقوله: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا...) الآية. وكقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ): هاهنا خص مكانا لهم دون مكان، وأما في ذي القرنين ذكر التمكين له في الأرض، لم يخص ناحية منها دون ناحية؛ فهو أن ملكه ومكنه الأرض كلها.
وقول الحسن: إنه حكمه وولى له الحكم - فهذا لا يدل أنه كان نبيًّا؛ لأن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو في ذلك الزمان؛ ألا ترى إلى قوله: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو والقتال في ذلك مع العدو فعلى ذلك هنا.
٢ انظر معجم القراءات القرآنية ج٤/٩..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا).
اختلف في ذلك:
قَالَ بَعْضُهُمْ: علم المنازل: أي: منازل الأرض ومعالمها وآثارها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العلم والقوة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعطاه السبب الذي به صلاح ما مكن له، وملك له مما يقع له الحاجة إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك السبب كان أنعامًا: كان عليها يحمل الخشب، فيتخذ منه سفينة إن استقبله بحر، فيعبر بها، ثم ينقضها ويحمل الخشب على الأنعام ويعبر البر على الدواب، فذلك السبب الذي ذكر.
وأصله: أنه ذكر أنه أتاه السبب الذي به صلاح ما مكن له وملك عليه، ولم يبين ما ذلك السبب؛ فلا ندري ما أراد بذلك؟ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦)
كانه أراد وطلب أن يعرف أنها أين تغرب؟ حيث قال: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)، وفيه لغتان: (حامية) و (حَمِئَةٍ)، قالوا من قرأها: (حامية) أراد: في عين حارة، ومن قرأ (حَمِئَةٍ) - مهموزة بغير ألف - أراد الحمأة: وهي الطينة السوداء، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا كفارا ومؤمنين الفريقان جميعًا، فقال في الكفار: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ)، وهو القتل، وقال في المؤمنين: (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): ليس على التخيير؛ ولكن على الحكم في كل فريق على حدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا كلهم كفارا؛ فيكون تأويل قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ): إذا لم يجيبوك، (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): إذا أجابوك وآمنوا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى (٨٨)
هذا أنه حكم بذلك بتعليم نبي أو ملك كان معه، أو حكم بذلك؛ لما كان عرف أن سنة اللَّه في الكفار القتل والإهلاك، وفي المؤمنين الترك والإحسان، أو ألهم إلهامًا
وقوله تعالى :﴿ وسنقول له من أمرنا يسرا ﴾ أي عارفا. وقال بعضهم :﴿ يسرا ﴾ معروفا وقال بعضهم : اليسر هو اسم كل خير وبركة، والله أعلم بذلك.
وقوله تعالى :﴿ وسنقول له من أمرنا يسرا ﴾ أي عارفا. وقال بعضهم :﴿ يسرا ﴾ معروفا وقال بعضهم : اليسر هو اسم كل خير وبركة، والله أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
قال الحسن: (يُسْرًا)، أي: عارفًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُسْرًا): معروفًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اليسر): هو اسم كل خير وبركة، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) أي: بلاغا لحاجته.
وقال غيره ما ذكرنا من السبب الذي به ملك طريق المغرب والمشرق وبه بلغ ما بلغ، واللَّه أعلم.
ثم اختلفوا فيم سمي ذا القرنين:
قَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه دعا قومه إلى توحيد اللَّه والإيمان به؛ فضربوه على قرنه الأيمن، ثم غاب ما شاء اللَّه، وفي بعض الأخبار مات، ثم حضر فدعاهم ثانيًا فضربوه على قرنه الأيسر؛ فبقي عليه لذلك أثر؛ فسمي لذلك ذا القرنين، لا أن كان له قرن كقرن الثور.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه كان له ذؤابتان، أعني: ضفيرتان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس: مغربها ومطلعها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ سمي: ذا القرنين؛ لأنه عاش حياة قرنين، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ... (٩٠) بالسبب الذي ذكر أنه أعطاه كما بلغ مغرب الشمس، (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا).
قال الحسن: إن تلك الأرض تميد وتميع، لا تقر ولا تسكن، لا تحتمل البناء والحجر؛ فإذا طلعت الشمس طلعت عليهم، لما لم يكن لهم بناء ولا ستر تهوروا في البحار فإذا ارتفعت عنهم خرجوا.
وقال ابن عَبَّاسٍ: إن الشمس إذا طلعت كانت حرارتها أشد عند طلوعها من غروبها؛
وقال ابن عباس : إن الشمس إذا طلعت كانت حرارتها أشد عند طلوعها من غروبها، فتحرق كل شيء حتى لا تُبقي لهم ثوبا٣ ولا بناء ولا خشبا٤ ولا غيره إلا أحرقته.
٢ الواو ساقطة من الأصل و. م..
٣ في الأصل و. م: ثوب..
٤ في الأصل و. م: خشب..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)
اختلف في قوله: (كَذَلِكَ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَذَلِكَ)، أي: كذلك أخبرنا رسول اللَّه من نبأ ذي القرنين، وخبره على ما كان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك أعطينا له من السبب حتى بلغ مطلع الشمس كما بلغ مغربها بالسبب الذي ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك قيل له في المطلع من قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، كما قيل له في المغرب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)، (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، أي: عن علم سأتلو عليكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الابتداء، ليس على الربط والصلة على الأول، أي: قد أحطنا علمنا بما لديه.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢)
ما ذكرنا في بلوغه مغربها ومطلعها، أي: أعطينا له من السبب حتى بلغ بين السدَّين في بعض القراءات (السَّدَّيْنِ (٩٣) بالنصب، فإن كان بين اللغتين فرق؛ فيشبه أن يكون (السُّدَّيْنِ) بالرفع: الجبلين اللذين كانا هنالك، و (السَّدَّيْنِ) بالنصب: هو بناء ذي القرنين، وإن لم يحتمل الفرق - فهو ما بني هو أو مكان في الخليقة.
ثم اختلف في ذلك السذ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنفذ الذي كان بين طرفي الجبل الذي كان محيطا بالأرض، يدخل فيه يأجوج ومأجوج إلى هذه الأرض؛ فسد ذو القرنين ذلك المنفذ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن كانا جبلين: أحدهما: ستر بين يأجوج، والثاني: بين مأجوج؛ فسد ذلك، واللَّه أعلم كيف كان؟
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا).
قال الحسن: كانوا يفقهون ما به صلاح معاشهم، وما به بقاؤهم، ولكن كانوا لا يفقهون الهدى من الضلال، والخير من الشر، ونحوه.
أحدهما : ستر٤ بين يأجوج.
والثاني : بين مأجوج فسد ( ذو القرنين )٥ ذلك، والله أعلم كيف كان ؟.
وقوله تعالى :﴿ وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ﴾ قال الحسن : كانوا يفقهون ما به صلاح معاشهم وما به بقاؤهم. ولكن كانوا لا يفقهون الهدى من الضلال والخير من الشر ونحوه.
٢ في الأصل و. م: بالنصب، انظر معجم القراءات القرآنية ح٤/١٣..
٣ في الأصل و. م: مكانا..
٤ في الأصل و. م: سترا..
٥ ساقطة من الأصل و. م..
أحدهما : ستر٤ بين يأجوج.
والثاني : بين مأجوج فسد ( ذو القرنين )٥ ذلك، والله أعلم كيف كان ؟.
وقوله تعالى :﴿ وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ﴾ قال الحسن : كانوا يفقهون ما به صلاح معاشهم وما به بقاؤهم. ولكن كانوا لا يفقهون الهدى من الضلال والخير من الشر ونحوه.
٢ في الأصل و. م: بالنصب، انظر معجم القراءات القرآنية ح٤/١٣..
٣ في الأصل و. م: مكانا..
٤ في الأصل و. م: سترا..
٥ ساقطة من الأصل و. م..
وقال هو: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) فهم ذو القرنين منهم، وفهموا منه أيضًا ما ذكرنا؛ فدل ذلك أنهم كانوا يفقهون بلسان غيرهم، وفي الآية دلالة أنهم لا يفقهون شيئًا قليلا من القول، وإن كانوا لا يفقهون كثيرا؛ لأنه يقول: (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ)؛ فهو يتكلم على العرف لا على النفي رأشا، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا): جعلا وأجرا؛ (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... (٩٥)
على تأويل الحسن يكون قوله: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من النبوة (خَيْرٌ)؛ لأنه يقول: إنه كان نبيا؛ حيث قال له: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ).
وعلى قول غيره يكون (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي): من الملك والسبب الذي أعطاني، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها (خَيْرٌ) مما تذكرون.
وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أي بما أتقوى به، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، أي: سدَّا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) أي: قطع الحديد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سألهم الحديد؛ لأن المكان مكان الحديد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحديد كان ألين لهم وأطوع من اللَّبِنِ أو القطر، ولكن لا يعلم ذلك إلا بالسمع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).
أي: بلغ ذلك السد رأس الصدفين، وهما جبلان، وسوى بهما، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
أي: أصب عليه قطرا، قيل: نحاسًا، وقيل: رصاصا، ذكر أنه كان يبسط الحديد صدرا، ثم يبسط الحطب فوقه صدرًا، ثم حديدا فوق الحطب، حتى بلغ رأس الجبلين، وسوى بهما على هذا السبيل، ثم أذيب القطر، فصب فيه، فجعل القطر يحرق الحطب، ويذيب الحديد؛ حتى دخل القطر مكان الحطب، وصار مكانه؛ فالتزق القطر بالحديد، على هذا ذكر أنه بنى ذلك السد.
وقال الحسن: كأنه القطر له كالملاط لنا، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلالة أنهم لا يفقهون شيئا قليلا من القول، وإن كانوا لا يفقهون كثيرا، لأنه يقول :﴿ لا يكادون يفقهون قولا ﴾ فهو يتكلم على القرب لا على النفي رأسا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل له خرجا ﴾١ جُعلا وأجرا ﴿ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ﴾ ﴿ قال ما مكني فيه ربي خير ﴾ على تأويل، يكون قوله :﴿ ما مكني فيه ربي ﴾ من النبوة ﴿ خير ﴾ لأنه يقول : إنه كان نبيا حين٢ قال ﴿ إنا مكنا له في الأرض ﴾ الآية( الكهف : ٨٤ ).
وعلى قول غيره يكون ﴿ ما مكني فيه ربي ﴾ من الملك والسبب الذي أعطاني، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها ﴿ خير ﴾ مما تذكرون }.
وقوله تعالى :﴿ فأعينوني بقوة ﴾ أي بما أتقوى به ﴿ أجعل بينكم وبينهم ردما ﴾ أي سدا.
٢ ؟؟؟؟.
وقوله تعالى :﴿ حتى إذا ساوى بين الصدفين ﴾ أي بلغ السد رأس الصدفين، وهما جبلان، وسوى بينهما١، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ﴾ أي أصب عليه قطرا : قيل نحاسا، وقيل : رصاصا. ذُكر أنه كان يبسط الحديد صدرا، ثم يبسط الحطب فوقه صدرا، ثم حديدا فوق الحطب حتى بلغ رأس الجبلين، وسوى بينهما٢ على هذا السبيل. ثم أذيب القطر، فَصُبَّ فيه، فجعل القطر يحرق الحطب، ويذيب الحديد حتى دخل القطر مكان الحطب، وصار مكانه، فالتزق القطر بالحديد. على هذا ذُكر أنه بنى ذلك السد.
وقال الحسن : كان القطر له كالملاط لنا، والله أعلم.
٢ في الأصل و. م: بهما..
أي: يعلوه، يعني: على ذلك السد وما استطاعوا له نقبا في أسفله، ولا يزاد على المذكور في الكتاب في هذه الأنباء، والقصص، خوفا للشهادة على اللَّه، والكذب عليه، ولكن نذكر مقدار ما ذكر في الكتاب، لا نزيد على ذلك، وفي الكتاب القدر الَّذِي ذكرنا، واللَّه أعلم.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال للجبل: السد و (زُبَرَ): قطع، والقطر: النحاس، وقوله: (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي: يعلوه. يقال: ظهر فلان السطح إذا علاه، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: (السَّدَّيْنِ): ناحيتي الجبل، والردم: السد، و (الصَّدَفَيْنِ): هو مثل السذين، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)، أي: أصب عليه نحاسًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) يحتمل أنه السذ الذي بني وحال بينهم وبين لاجوج ومأجوج، فذلك منه رحمة، أي: برحمته كانت تلك الحيلولة، أو كان ذلك نعمة من اللَّه، والرحمة هي النعمة، أي: هذا السد بينكم وبينهم نعمة من ربي عليكم.
ثم فيه وجهان:
أحدهما: ذكر أن ذلك كان برحمة من اللَّه إذا فرغ منه، وقد كان في الابتداء حين سالوه أن يجعل لهم السذ أضاف الفعل إلى نفسه حيث قال: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) دل ذلك أن ما فعل برحمة منه وفضل، وأن له في ذلك صنعًا.
والثاني: فيه أن له أن يفعل بالخلق ما ليس هو بأصلح لهم في الدِّين؛ لأنه لا يخلو إما أن كان الأول لهم أصلح في الدِّين، ثم فعل الثاني، فلا يكون الثاني أصلح لهم في الدِّين، وإذا كان الأصلح لهم في الدِّين الثاني فالأول لم يكن، ثم ذكر أن ذلك رحمة منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي)، أي: فإذا جاء الذي به كان وعد ربي وهو الموعود؛ ولأن الوعد لا يجيء فكأنه قال: موعود رتي، وهو خروج يأجوج ومأجوج، أو فتح ذلك السد (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي: كسرا أو هدفا على ما ذكرنا، و (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي: هدمه وسواه بالأرض.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (جَعَلَهُ دَكَّاءَ)، أي: ألصقه بالأرض.
(يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي: يجول بعضهم في بعض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) هذا وعد والأول موعود.
أحدهما : ذكر أن ذلك كان برحمة من الله، إذا فرغ منه، وقد كان في الابتداء حين سألوه أن يجعل لهم السد أضاف الفعل إلى نفسه حين٥ قال :﴿ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ﴾ فدل ذلك أن ما فعل برحمة منه وفضل، وأن له في ذلك صنعا.
والثاني : فيه أن له أن يفعل بالخلق ما ليس هو بأصلح لهم في الدين، لأنه لا يخلوا : إما أن كان الأول لهم أصلح في الدين، ثم فعل الثاني :( فلا يكون الثاني : أصلح لهم في الدين، وإما٦ أن كان الأصلح )٧ لهم في الدين الثاني : فالأول لم يكن. ثم ذكر أن ذلك رحمة منه.
وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ أي ﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ وهو الموعود، لأن الوعد لا يجيء ؛ فكأنه قال : موعود ربي، وهو خرج يأجوج ومأجوج، أو فتح ذلك السد ﴿ جعله دكاء ﴾ أي كسرا أو هدما على ما ذكرنا. ( وقوله )٨ ﴿ جعله دكاء ﴾ أي هدمه، وسواه بالأرض.
وقال القتبي :﴿ جعله دكاء ﴾ أي ألصقه بالأرض.
وقوله تعالى :﴿ وكان وعد ربي حقا ﴾ هذا وعد، والأول موعود.
٢ أدرج بعدها في الأصل و م: فذلك..
٣ في الأصل و م: أو..
٤ الواو ساقطة من الأصل و م..
٥ في الأصل و م: حيث..
٦ في م: أو..
٧ من م، في الأصل: أصلح..
٨ ساقطة من الأصل و م..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي: يجول بعضهم في بعض.
ثم يحتمل قوله: (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، عند السد الذي بناه ذو القرنين، يموجون عنده في فتح ذلك السد، أو يذكر هذا لكثرثهم وازدحامهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) ظاهره على الماضي، والمراد منه: المستقبل، أي: ينفخ في الصور فيجمعهم جمعًا، ومثل هذا كثير في القرآن يذكر الماضي بحرف المستقبل، والمستقبل بحرف الماضي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)
يحتمل: أن يكون عرضها عليهم قبل أن يدخلوا فيها، كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ).
ويشبه أن يكون العرض كناية عن التعذيب بها بعد ما أدخلوا فيها كقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي... (١٠١) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر وتحجب نور القلب، ونور كل حاسّة من حواسه من السمع والبصر والفؤاد وغيره؛ إذ لكل حاسة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها ألا تبصر ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعًا: نور الظاهر، ونور السرية والباطن.
فالكفر يستر ويغطي ذلك النور، فجعل لا يبصر الحق ولا ينظر العبر، ولا يتفكر ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر.
وللإيمان نور وضياء، يبصر به، ويسمع، ويرفع له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق، ويعرف به حسن كل حسن وقبح كل قبيح، فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهدى، فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر ولا يرى شيئًا؛ فعلى ذلك إنما يعرف الشيء، ويظهر له حقيقته بنورين: بنور القلب وبنور الحواس، فإذا غطى ظلمة الكفر نور القلب، صار لا يبصر شيئًا، ولا يعتبر، ولا يسمع، ولا ينطق بالحق، والإيمان
ويشبه أن يكون العرض كناية عن التعذيب بها ما أدخلوا فيها كقوله :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ﴾ ( غافر : ٤٦ ).
فالكفر يستر، ويغطي ذلك النور ( فيجعل صاحبه ) ١ لا يبصر الحق، ولا ينظر العبر، ولا يتفكر، ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر.
وللإيمان نور وضياء يبصر ( صاحبه ) ٢ به، ويسمع، ويرفع٣ له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق، ويعرف به حسن ( كل حسن ) ٤ وقبح كل قبيح. فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهواء. فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر، ولا يرى شيئا. فعلى ذلك إنما يعرف الشيء، وتظهر له حقيقته بنورين بنور القلب وبنور الحواس. فإذا غطت ظلمة الكفر نور القلب صار لا يبصر شيئا، ولا يعتبر، ولا يسمع، ولا ينطق بالحق. والإيمان يُنَوِّرُ ذلك ( القلب، ويضيئه، فيجعله ) ٥ يبصر كل شيء، ويتجلى له الحق من الباطل، ويعرف٦ الآيات من التمويهات، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعا ﴾ فيه وجهان من الدلالة :
أحدهما : أنه نفى عنهم استطاعة السمع، وقد كان لهم السمع. فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل، لا يتقدم، ولا يتأخر ( حين٧ قال :﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعا ﴾ وكذلك قول صاحب موسى حين٨ قال له ﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾ ( الكهف : ٦٨ و٧٢ و٧٥ ) في ( ثلاثة ) ٩ مواضع، فدل ما نفى عنه الفعل إنما تقارن عنه الفعل، لا تحتمل التقدم والتأخر ) ١٠.
والثاني : فيه دلالة أن هنالك استطاعة، هم يستفيدون بما وعد الله، ويستوجبون به، فضيعوها باشتغالهم بغيرها حين١١ عوتبوا، واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم. فلو لم يكن ( ذلك منهم ) ١٢ لم يكن للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا، ووبخوا معنى.
قال قوم : إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم. وقد يقال مثله على المجاز للاستثقال دون الحقيقة، يقول الرجل لآخر : ما أستطيع أن أنظر إليك لكذا، وهو ناظر إليه. لكن قد ذكرنا أنه على الوجه الذي قال : لا أستطيع أن أنظر إليك، وهو ناظر إليه، غير مستطيع النظر إليه، وهو نظر رحمة وشفقة.
وقال بعضهم : هو على الطبع، وهو قول الحسن. وقال بعضهم : إنما نفى ذلك عنهم ( لما لم ينتفعوا به كما نفى عنهم ) ١٣ السمع والبصر والنطق لما لم ينتفعوا به، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس. فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها، ليس على أنها ليست قبل هكذا. نفى عنهم ذلك لما عموا، وصموا عن ذلك، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ من م، في الأصل: ويبصر..
٤ ساقطة من الأصل و م..
٥ في الأصل و م: ويضيء فجعل..
٦ في الأصل و م: وعرفوا..
٧ في الأصل: حيث..
٨ في الأصل: حيث..
٩ ساقطة من الأصل..
١٠ ساقطة من م..
١١ في الأصل و م: حيث..
١٢ ساقطة من الأصل و م..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)، فيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: أنه نفى عنهم استطاعة السمع، وقد كان لهم السمع؛ فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل، لا تتقدم ولا تتأخر.
والثاني: فيه دلالة أن هنالك استطاعة، هم يستفيدون بها وعد اللَّه ويستوجبونه؛ فضتعوها باشتغالهم بغيرها حيث عوتبوا واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم. فلو لم يكن كذلك لم يكن للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا ووبخوا معنى.
قال قوم: إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم.
وقد يقال مثله على المجاز؛ للاستثقال دون الحقيقة، يقول الرجل لآخر: ما أستطيع أن أنظر إليك لكذا، وهو ناظر إليه، لكن قد ذكرنا: أنه على الوجه الذي قال: لا أستطيع أن أنظر إليك وهو ناظر إليه، غير مستطيع النظر إليه وهو نظر رحمة وشفقة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الطبع، وهو قول الحسن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما نفى ذلك عنهم؛ لما لم ينتفعوا به، كما نفى عنهم السمع والبصر والنطق؛ لما لم ينتفعوا به، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس، فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها، ليس على أنها ليست قبل، هكذا نفى عنهم ذلك لما عموا وصموا عن ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)
قيل فيه بوجوه:
الأول: قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: أفحسب الذين عبدوا في الدنيا الملائكة والرسل واتخذوهم من دوني أولياء أن يكونوا لهم أولياء في الآخرة، ويتولون شفاعتهم يشفعون لهم وينصرون، كلا لن يصيروا لهم أولياء، كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
والثاني: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي) المخلصين (مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) ويتولونهم، أي: لا يقدرون على أن يتخذوا أولياء من دوني، وقد كانوا يدعون المؤمنين إلى دينهم، والتولي لهم، وهو ما قال: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ).
والثالث: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن ما عبدوا واتخذوا (مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) أني أمرتهم
ومن قرأ: (أَفَحَسْبُ) على الجزم فهو على إسقاط ألف الاستفهام، يعني: فحسب الذين كفروا، فهو يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: فحسب الذين كفروا واتخذوا عبادي من دوني أولياء ما أعتدنا لهم من جهنم، كقوله: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا...) الآية.
والثاني: أحسب الذين كفروا ما اتخذوا من دوني أولياء، أي: أما كفاهم ذلك وما حان لأن يرجعوا إلى عبادتي وألوهيتي، وقد أقمت لهم الآيات والحجج على ذلك.
والثالث: حسب لهم من الذل ما اتخذوا من دوني أولياء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلًا هو النزول وهو من النزول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنزل والإنزال، أي: يأكلون فيها النار؛ يكون مأكلهم ومشربهم من النار.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: النزل ما يقدم للضيف ولأهل العسكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يشبه أن يكون هذا خرج على مقابلة قول كان من رؤساء الكفرة وجواب لهم، وهو أن الرؤساء منهم كانوا يوسعون الدنيا على بعض أتباعهم ويحسنون إليهم، ثم صار أُولَئِكَ الأتباع أتباعًا لرسول اللَّه ودخلوا في دينه فضاقت عليهم الدنيا، وذهبت المنافع التي كانت لهم منهم، فعيرهم بذلك أُولَئِكَ الكفرة، ووبخوهم على ما اختاروا من الدِّين أنه لو كان حقا لاتسع عليهم في الدنيا كما اتسع علينا وعليهم ما داموا على ديننا، أو كلامًا نحو هذا، فأجابهم اللَّه بذلك، فقال: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا...) الآية.
ويحتمل: أن يكون على الابتداء في أهل الصوامع منهم والرهبان الذين اعتزلوا النساء، وحبسوا أنفسهم لعبادة الأصنام والأوثان، وجهدوها فيها، وحملوا على أنفسهم الشدائد والمشقة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ أخسرهم أعمالًا وأضلهم سعيًا من الذين طلبوا الدنيا والرياسة فيها، ولم يفعلوا ما فعل هَؤُلَاءِ وإن كانوا في الكفر سواء.
والأخسر: هو الوصف بالخسران والنهاية والغاية، وجائز أن يستعمل (أفعل) في
ويحتمل أن يكون على الابتداء في أهل الصوامع منهم والرهبان الذين اعتزلوا النساء، وحبسوا أنفسهم لعبادة الأصنام والأوثان، وجهدوا١ هم فيها، وحملوا على أنفسهم الشدائد والمشقة. فأخبر الله عز و جل أن هؤلاء أخسر أعمالا وأضل٢ سعيا من الذين طلبوا الدنيا والرئاسة فيها، ولم يفعلوا ما فعل هؤلاء، وإن كانوا في الكفر سواء. والأخسر هو الوصف بالخسران على٣ النهاية والغاية.
وجائز أن يستعمل أفعل في موضع فاعل٤. هذا في اللغة غير ممتنع، فيكون تأوليه :﴿ قل هل ننبئكم ﴾ بالخاسرين ﴿ أعمالا ﴾ كقوله :﴿ الله أكبر ﴾ ( التوبة : ٧٢ وغافر : ١٠ ) أي كبير.
وقوله تعالى :﴿ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما :﴿ ضل ﴾ أي ذلوا لعبادتهم التي عبدوا : تلك الأوثان والأصنام، وخذلوا أنفسهم بذلك. وعلى ذلك يخرج قوله :﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾ ( التوبة : ٦٩ ) ( أي ) ٥ أذلوا أنفسهم بعبادتهم الأصنام.
والثاني :﴿ ضل سعيهم ﴾ الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة لأنهم قالوا ﴿ ما نعذبهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) وقالوا٦ :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس : ١٨ ) ونحوه.
فَضَّلَ ما أملوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا٧، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وهم يحسبون ﴾ بعبادتهم الأصنام التي عبدوها ﴿ أنهم يحسنون ﴾ بما أنفقوا على أولئك، ووسعوا ﴿ صنعا ﴾ أي خيرا أو معروفا ؛ أي ليس ( ذلك بصنع، ولا ) ٨ خير.
وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا، وإن جهلوا الحق. وهكذا قولنا : إن من فعل فعلا، وهو جاهل، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب والتعلم حين قال :﴿ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾.
٢ في الأصل و م: وأضلهم..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: فعل..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: و..
٧ أدرج بعدها في الأصل و م: والآخرة..
٨ في الأصل و م: لهم ذلك بصنع لا..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (١٠٤) يحتمل وجهين:
أحدهما: (ضَلَّ): أي: ذلوا لعبادتهم التي عبدوا تلك الأوثان والأصنام، وخذلوا أنفسهم بذلك، وعلى ذلك يخرج قوله: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). أذلوا أنفسهم في الدنيا بعبادتهم الأصنام.
والثاني: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة؛ لأنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ونحوه، فَضلَّ ما أمَّلوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) وهم يحسبون بعبادتهم الأصنام التي عبدوها أنهم يحسنون بما أنفقوا على أُولَئِكَ ووسعوا أنهم يحسنون صنعًا، أي: خيرًا أو معروفا، أي: ليس لهم ذلك بصنع للخير، وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا، وإن جهلوا الحق، وهكذا قولنا: إن من فعل فعلًا وهو جاهل، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب أو بالتعلم، حيث هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ثم أخبر من هم؟ فقال:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ | (١٠٥) حججه وبراهينه. |
وقوله: (وَلِقَائِهِ) البعث أو المصير إليه، وهو مذكور أيضًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).
أي: لا نقيم لهم وزنًا، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -:
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، فإذا لم تربح لهم كانت حسرات عليهم.
وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) هذا يدل أن قوله: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، قد يقام عليهم الوزن.
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن جزائهم؛ فقال: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)
ثم ذكر للمؤمنين من الثواب والجزاء بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، واختاروا فيها مقابل ما ذكر للكفرة؛ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا).
كأن الجنان التي وعد للمؤمين أربعة: جنات النعيم، وجنات المأوى، وجنات عدن، وجنات الفردوس، ثم كان في كل واحدة منها - أعني الجنان - فيها معنى الأخرى؛ لأنه قال: (جَنَّاتُ الْمَأْوَى)، وهو ما يؤوى إليه، و (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ظاهر، و (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، من المقام أو غيره، و (الْفِرْدَوْسِ) سميت فردوسًا؛ لأنها تكون ملتفة محفوفة بالأشجار، ففي كل واحدة منها ذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُزُلًا) وقيل: منزلًا من النزول.
وقيل: من النزل وهو من الأنزال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) أي: تحولًا، أخبر أنهم لا يملون ولا يسأمون عن نعيمها، كما يمل أهل الدنيا عن نعيمها ويسأمون؛ لأن المسرور بها يمل عن نعمة، ويرغب في أخرى، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون فيها، ولا يسأمون، ولهم فيها ما يشتهون، ولهم فيها ما يتخيرون.
وروي أن ابن عَبَّاسٍ سأل كعبًا عن الفردوس؛ فقال: هي جنات الأعناب بالسريانية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا أنها سميت: فردوسًا، لكثرة أشجارها والتفافها.
وروي عن عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة من فوقها يكون الفردوس، منها يتفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم اللَّه الجنة فاسألوه الفردوس ".
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) أي: تحولًا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من
وروي أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس، فقال : هي جنات الأعناب بالسريانية. وقال بعضهم ما ذكرنا أنها سميت ( بذلك ) ١ لكثرة أشجراها والتفافها.
وروي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض : الفردوس أعلاها درجة، من فوقها يكون العرش٢، منها تتفجر أنهار الجنة الأربعة. فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ) ( البخاري ٢٧٩٠. ).
وقال القتبي :﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ أي تحولا. وكذلك قال أبو عوسجة : هو من التحول. وقال :﴿ نزلا ﴾ قال هذا من الطعام والشراب، وجمع النزل النزال، وجمع الفردوس الفراديس. وقال القتبي : النزل ما يقدم للضيف، والله أعلم.
٢ في الأصل و م: الفردوس. انظر سنن ابن ماجه ح٢/٤٣٦ رقم الحديث/٣٤٩٦..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)
يشبه أن يكون هذا خرج مقابل قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)، وجوابًا لما ذكر فيه تبيانًا لكل شيء، وتفصيل كل شيء، فقالوا: كيف يحتمل هذا المقدار أن يكون فيه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء؟ فقال - عَزَّ وَجَلَّ - عند ذلك جوابًا لقولهم: إنه لو بسط ما أودع فيه من نحو المعاني والحكمة، وشرح ذلك فكتب بما ذكر لبلغ القدر الذي ذكر وازداد.
وقال الحسن: قوله: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) أي: لخلق ربي، أي: لو قال ما خلق وأملى: أني خلقت كذا، وخلقت كذا، فيكتب جميع ما خلق، لبلغ القدر الذي ذكر. ويرجع تأويله إلى ما خلق من أصناف الخلق وأجناس الأشخاص.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: (لِكَلِمَاتِ رَبِّي) لبيان ما خلق ربي، فهو يرجع إلى الأول، وقال: فائدة ما ذكر هو أن يعرفوا أن خلائقه وما أنشأ، لَمِمَّا يخرج عن الوقوع في الأوهام، فالذي أنشأ ذلك وخلقه أحرى أن يكون خارجًا عن الوقوع في الأوهام والتصور فيها.
والثاني: يعرفوا قدرته وسلطانه، وإحاطة علمه بالخلائق، وما أنشأ فيعلموا: أن من قدر على هذا فهو على البعث الذي أنكروا أقدر، ومن أحاط علمه بما ذكر فهو على الإحاطة بأفعالهم وأقوالهم أعلم وأعرف؛ ليكونوا على الحذر أبدًا في كل وقت.
ثم يحتمل قوله: (لِكَلِمَاتِ رَبِّي) حججه وآياته التي أقامها على وحدانيته وربوبيته، أي: لو كتب ذلك لبلغ ذلك الذي ذكر.
وإن كان المراد من الكلمات: القرآن، فالتأويل ما ذكرنا بدءا: أنه كان خرج على الجواب والمقابلة لقول كان منهم، وهو ما قاله الحسن وأبو بكر إن كان كلماته خلقه أو البيان عن خلقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا):
وفيه دلالة أن ليس لما خلق اللَّه من العلوم نهاية ولا غاية يدركها الخلائق، ولكن يؤخذ من كل جنس شيء، فيعمل به.
وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم، والمقصود منه العلم نفسه، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا يبلغِ ذلك البشر، فدل أنه كما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)
أمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم، ثم يكون لذلك الأمر وإخباره إياهم أنه بشر مثلهم، وجوه من المعنى:
أحدها: أنهم كانوا يسألونه آيات خارجة عن وسع البشر وطوقهم، فأمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم، لا يقدر على ما يسألونه من الآيات التي تخرج عن وسع البشر وطوقهم، وليس لأحد التحكم على اللَّه، والتخير عليه في شيء، إنما ذلك إلى اللَّه إن شاء أنزل وإن شاء لم ينزل، وأنا لا أملك شيئًا من ذلك.
والثاني: ذكر هذا ليعرفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يحتمل وسع البشر أن يأتوا بمثلها، أنه إنما أتى بذلك من عند اللَّه لا من ذات نفسه؛ إذ علموا أن وسع البشر لا يحتمل ذلك، فلما أتاهم بذلك إنما أتى بها من عند اللَّه وأنه رسول على ما يقول.
والثالث: أمره أن يقول لهم هذا: إنه بشر مثلهم؛ لئلا يحملهم فرط حبِّهم على أن يتخذوه إلهًا ربًّا على ما اتخذ قوم عيسى عيسى إلهًا ربًّا؛ لفرط حبِّهم إياه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) فإن كانت الآية في مشركي العرب - فهم ينكرون البعث ولا يرجونه لكنه يكون ذكر لقاء ربه لهم؛ لأنهم عرفوا في أنفسهم قديم إحسان اللَّه إليهم ونعمه عليهم، فأمروا أن يعملوا العمل الصالح ليستديموا بذلك الإحسان الذي كان من اللَّه إليهم، فيحملهم العمل على التوحيد باللَّه والإقرار بالبعث.
وإن كانت الآية في المؤمنين، فيكون تأويله؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، أي: ثواب ربه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) ليثاب عليه؛ إذ الثواب إنما يكون للعمل الصالح دون غيره، وفيه ما ذكرنا أن المقصود من العلم العمل الصالح، والعلم مما ليس له نهاية فالأمر بطلب ما لا نهاية له ليس لنفسه ولكن للعمل به، واللَّه أعلم.
* * *