ﰡ
(مكية [إلا آية ٣٨ ومن آية ٨٣ إلى غاية آية ١٠١ فمدنية] وآياتها ١١٠ [نزلت بعد الغاشية] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد ﷺ من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن معانيه، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه. فإن قلت: بم انتصب قَيِّماً؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب، لأنّ قوله وَلَمْ يَجْعَلْ معطوف على أنزل، فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذى الحال ببعض الصلة، وتقديره: ولم يجعل له عوضا جعله قيما، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الاخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السير والتصفح. وقيل: قيما على سائر الكتب مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع. وقرئ قيما.
«أنذر» متعدّ إلى مفعولين، كقوله نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
فاقتصر على أحدهما، وأصله
والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بالمنذرين من غير ذكر المنذر به، كما ذكر المبشر به في قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً استغناء بتقدّم ذكره.
والأجر الحسن: الجنة ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أى بالولد أو باتخاذه، يعنى أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء، وقد اشتملته «١» آباؤهم من الشيطان وتسويله.
فإن قلت: اتخاذ الله ولدا في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم به من علم «٢» ؟ قلت: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. قرئ: كبرت كلمة، وكلمة: بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية، والنصب أقوى وأبلغ. وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أكبرها كلمة.
وتَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا «٣» من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ كبرت بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت: إلى قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٦]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا
(٢). قال محمود: «إن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل لهم... الخ» قال أحمد: قد مضى له في قوله تعالى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أن ذلك وارد على سبيل التهكم، وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل. ونظيره:
ولا يرى الضب بها ينجحر
وقد قدمت حينئذ أن الكلام وارد على سبيل الحقيقة والأصل، وأن نفى إنزال السلطان تارة يكون لاستحالة إنزاله ووجوده، وتارة يكون، لأنه لم يقع وإن كان ممكنا، والله أعلم.
(٣). قوله «تشورا من إظهاره» أى تباعدا من إظهاره، كأنه عورة. وفي الصحاح «الشوار» الفرج.
ومنه قيل: شور به، كأنه أبدى عورته. (ع)
والأسف: المبالغة في الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧ الى ١١]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١)
ما عَلَى الْأَرْضِ يعنى ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وحسن العمل: الزهد فيها وترك الاغترار بها، ثم زهد في الميل إليها بقوله وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها من هذه الزينة صَعِيداً جُرُزاً يعنى مثل أرض بيضاء لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة: من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق «١» فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال أَمْ حَسِبْتَ يعنى أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة. والكهف: الغار الواسع في الجبل وَالرَّقِيمِ اسم كلهم. قال أمية ابن أبى الصلت:
وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا | وصيدهم والقوم في الكهف همّد «٢» |
(٢). لأمية بن أبى الصلت، والرقيم: كلب أصحاب الكهف. والوصيد: فناء البيت وبابه وعتبته، والبيت يحتملها. والهمد: جمع هامد، أى: راقد. والقوم: عطف على الرقيم. ويقول: ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حال كونه مجاورا لفناء غارهم، وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف: أى الغار.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٢]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
أَيُّ يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه لِنَعْلَمَ فلم يعمل فيه. وقرئ، ليعلم، وهو معلق عنه أيضا، لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد «يعلم» إليه، وفاعل «يعلم» مضمون الجملة، كما أنه مفعول «نعلم» أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين منهم في مدّة لبثهم، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو أى الحزبين المختلفين من غيرهم، وأَحْصى فعل ماض أى أيهم ضبط «١» أَمَداً لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس، ونحو «أعدى من الجرب»، و «أفلس من ابن المذلق» شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن أَمَداً لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل «٢» فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أنى
(٢). عاد كلامه. قال: وأيضا فلو كان للتفضيل لم يخل انتصاب أمدا إما بأفعل... الخ» قال أحمد: ولقائل أن ينصبه على التمييز، كانتصاب العدد تمييزا في قوله تعالى أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ويعضد حمله على أفعل التفضيل وروده في نظير الواقعة واختلاف الأحزاب في مقدار اللبث، وذلك في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فأمثلهم طريقة: هو أحصاهم لما لبثوا عددا. وكلا الوجهين جائز، والله أعلم.
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا «١»
على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت: كيف جعل الله تعالى العلم بإحصائهم المدّة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت: الله عز وجل لم يزل عالما بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيمانا واعتبارا، ويكون لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٥]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا | ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا |
أكر وأحمي للحقيقة منهم | وأضرب منا بالسيوف القوانسا |
إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا | صدور المذاكي والرماح المداعسا |
إذا الخيل حالت عن صريع نكرها | عليهم فما يرجعن إلا عوابسا |
ما يستحق الذب عنه من عرض ومال. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الفارس وأعلى رأس الفرس.
والمذاكي: الخيل العناق العتاق التي أتى عليها بعد قروحها سنة، جمع المذاكي اسم مفعول. والمداعس: الرماح الصم التي يطعن بها. والدعس بالتحريك الأثر، والمداعسة المطاعنة. والمدعس: الرمح الأصم الذي يطعن به.
ويروى: جالت، بدل حالت أى: مالت إلى جول بالجيم أى ناحية. وأما الحول بالحاء فهو التحول. والصريع:
الطريح على الأرض، ونكرها: نرجعها، والعوابس: كالحات الوجوه من الجري في الغبار. وحيا مصبحا، أى:
مأتيا في الصباح مفعول. ومثل الحي: حال، على أن رأى بصرية. أو مفعول ثان، على أنها علمية، وأكر: بدل من حيا، ولا يصح جعله صفة أو مفعول ثان، لأنك لو قلت: ما رأيت مثل زيد رجلا أفضل منه لم يستقم المعنى إلا على البدلية، لأن المماثلة تنافى المفاضلة، إلا أن تكون المماثلة في صفة والمفاضلة في أخرى، فلا مانع منه حينئذ. وأضرب: أفعل تفضيل، بدل من فوارس على ما تقدم، فهو لف ونشر مرتب. وأفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، بل حكى الإجماع على ذلك، فالقوانس نصب بمحذوف، أى: يضرب القوانس أى الرؤوس، لكن قال محمد بن مسعود في كتابه البديع: غلط من قال: إن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، واستشهد بهذا البيت وغيره. وبين مدح الفريقين بقوله: إذا شددنا عليهم مرة قابلونا بالخيل العتاق والرماح الجيدة، فهم شجعان.
وبقوله: إذا مالت خيلنا أو تحولت عن قتيل منا، نرجعها عليهم لأجل الثأر، فما ترجع إلا كوالح، فنحن أشجع منهم. [.....]
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٦]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم وَما يَعْبُدُونَ نصب، عطف على الضمير، يعنى: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا، على ما روى: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل: هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله مِرفَقاً قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به: أى ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبىّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٧]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)
تَتَزاوَرُ أى تمايل، أصله: تتزاور، فخفف بإدغام التاء في الزاى أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ: تزورّ. وتزوارّ: بوزن تحمرّ وتحمارّ، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين تَقْرِضُهُمْ تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف | شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس «١» |
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٨]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَتَحْسَبُهُمْ بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد. والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل: لكثرة تقلبهم
نظرت بجرعاء السبية نظرة | ضحى وسواد العين في الماء شامس |
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف | شمالا وعن أيمانهن الفوارس |
وقال: غير مقناة. ومقنوة. بغير همز: نقيض المضحاة. (ع)
بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها | علىّ ومعروفى بها غير منكر «١» |
لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم. وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضى الله عنه:
ليس لك ذلك، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فقال معاوية، لا أنتهى حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم «٢». وقرئ: لو اطلعت، بضم الواو.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إذكارا بقدرته على الإنامة والبعث
(٢). أخرجه ابن أبى حاتم وعبيد بن محمد وأبو بكر بن أبى شيبة من رواية يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده صحيح.
بورقكم، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير: بورقكم، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف. وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضى الله عنها- لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه-: أوثق عليك نفقتك «٣». وما حكى عن بعض صعاليك العلماء»
أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شدّ الهميان، والتوكل على الرحمن أَيُّها أىّ أهلها، فحذف الأهل كما في قوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، أَزْكى طَعاماً أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف والنيقة «٥» فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
(٢). أخرجه أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن طرفة. عن عرفجة. وفي رواية بعضهم «أن عرفجة».
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عنها بذلك.
(٤). قوله «عن بعض صعاليك العلماء» أى فقرائهم. (ع)
(٥). قوله «والنيقة» أى: الإتقان. (ع)
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ وكما أنمناهم وبعثناهم، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهو البعث، لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. وإِذْ يَتَنازَعُونَ متعلق بأعثرنا. أى: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث، فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح، ليرتفع الخلاف، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت فَقالُوا حين توفى الله أصحاب الكهف ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أى على يأب كهفهم. لئلا يتطرّق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله ﷺ بالحظيرة قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم لَنَتَّخِذَنَّ على باب الكهف مَسْجِداً يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم أى: يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم، فقالوا: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. روى أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها، وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله فقال:
ما تريدون منى، أنا أحبّ أحباء الله، فناموا وأنا أحرسكم. وقيل: مرّوا براع معه كلب فتبعهم «١»
اتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث، ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدا. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلام المتنازعين، كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله ﷺ من أهل الكتاب.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
سَيَقُولُونَ الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله ﷺ من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله ﷺ عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارا بما سيجرى بينهم من اختلافهم في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عباس رضى الله عنه: أنا من أولئك القليل. وروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب وكان نسطوريا:
كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين.
وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله ﷺ عن لسان جبريل عليه السلام. وعن علىّ رضى الله عنه: هم سبعة نفر أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا: هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره.
واسم كلبهم: قطمير. فإن قلت: لم جاء بسين الاستقبال في الأوّل دون الآخرين؟ قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له رَجْماً بِالْغَيْبِ رميا بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أى يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنه قيل: ظنا بالغيب، لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجّم «١»
أى المظنون. وقرئ: ثلاتّ رابعهم، بإدغام الثاء في تاء التأنيث. وثَلاثَةٌ خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلاثة. وكذلك خَمْسَةٌ وسَبْعَةٌ ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ جملة من مبتدإ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأوّلين «٢» ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حال عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر. ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم | وما هو عنها بالحديث المرجم |
(٢). قال محمود: إن قلت «لم دخلت الواو في الجملة الأخيرة... الخ» ؟ قال أحمد: وهو الصواب، لا كمن يقول: إنها واو الثمانية فان ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بخلاف أبواب النار، فانه قال فيها فُتِحَتْ أَبْوابُها قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة.
وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو، وربما عدوا من ذلك وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو الثامن من قوله التَّائِبُونَ وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة، لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف، لما بينهما من التناسب والربط.
ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما، كقوله يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وكقوله وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وربما عد بعضهم من ذلك الواو في قوله ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً لأنه وجدها مع الثامن، وهذا غلط فاحش، فان هذه واو التقسيم، ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا، لم يسند الكلام، فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أى فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد الغد خاصة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ متعلق بالنهى لا بقوله: إنى فاعل، لأنه لو قال: إنى فاعل كذا إلا أنّ يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون «١» فعله، وذلك مما لا مدخل فيه للنهى، وتعلقه بالنهى على وجهين، أحدهما: ولا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه. والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله، أى: إلا بمشيئة الله، وهو في موضع الحال، يعنى: إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا:
وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وذى القرنين. فسألوه فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش وَاذْكُرْ رَبَّكَ أى مشيئة ربك وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك. والمعنى:
إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر «٢». وعن ابن عباس رضى الله عنه:
ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة. وعن طاوس: هو على ثنياه «٣» ما دام في مجلسه. وعن الحسن نحوه. وعن عطاء: يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضى الله عنه في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه: فقال أبو حنيفة: هذا يرجع عليك، إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضى عنه. ويجوز أن يكون المعنى:
واذكر «٤» ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل: واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل: واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسى، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وهذا إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف. ومعناه: لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبىّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلّ، والظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربك.
وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربى أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسى أقرب منه رَشَداً وأدنى خيرا ومنفعة. ولعل النسيان كان خيرة، كقوله أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها.
(٢). عاد كلامه. قال: «وقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أى كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها، فتداركها بالذكر.
وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم تحنث إلى قوله: وعند عامة الفقهاء... الخ» قال أحمد: أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها، والله أعلم
(٣). قوله «هو على ثنياه» في الصحاح «الثنيا» بالضم: الاسم من الاستثناء. (ع)
(٤). قال محمود: «ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا التأويل بقوله تعالى أول القصة أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً فافتتح ذكر القصة بتقليل شأنها وإنكار عده من عجائب آيات الله، ثم ختمها بأمره عليه الصلاة والسلام بطلب ما هو أرشد وأدخل في الآية والله أعلم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ يريد لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة، وهو بيان لما أجمل في قوله فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ومعنى قوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدّة لبثهم، والحق ما أخبرك الله به. وعن قتادة: أنه حكاية لكلام أهل الكتاب. وقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ رد عليهم. وقال في حرف عبد الله:
وقالوا لبثوا. وسنين: عطف بيان لثلثمائة. وقرئ: ثلاثمائة سنين، بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا وفي قراءة أبىّ: ثلاثمائة سنة. تِسْعاً تسع سنين، لأن ما قبله يدل عليه. وقرأ الحسن: تسعا بالفتح، ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفى فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به. وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يذرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر ما لَهُمْ الضمير لأهل السموات والأرض مِنْ وَلِيٍّ من متول لأمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه أَحَداً منهم. وقرأ الحسن: ولا تشرك، بالتاء والجزم على النهى.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٧]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فقيل له وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكلمات ربك، أى: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، إنما يقدر على ذلك هو وحده وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ. وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
فصبرت عارفة لذلك حرّة | ترسو إذا نفس الجبان تطلّع «١» |
بالغدوة، وبالغداة أجود، لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال، وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال:
...... والزّيد زيد المعارك «٢»
ونحوه قليل في كلامهم. يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم. عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيدا. وإنما عدى بعن، لتضمين عدا معنى نبا وعلا، في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه:
إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أى غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ.
ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أى ولا تضموها إليها أكلين لها. وقرئ: ولا تعد عينيك، ولا تعدّ عينيك، من أعداه وعدّاه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو. ومنه قوله:
فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له «٣»
(٢).
وقد كان منهم حاجب وابن أمه | أبو جندل والزيد زيد المعارك |
يقول: وقد كان من هؤلاء القوم حاجب بن لقيط بن زرارة وابن أمه، أى أخوه أبو جندل والمسمى يزيد، المعد للحروب. وفيه إشارة إلى أنه يعرف بذلك فيما بين الناس.
(٣).
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له | وأتم القتود على عيرانة أحد |
ونماه ينموه نموا أيضا، لكن الواوي قليل. والقتود: جمع أقتاد، جمع قتد: وهي عيدان الرحل بلا أداة.
والعيرانة: الشبيهة بالعير في سرعة السير. والأجد: الصلبة الموثقة الخلق. يقول: انصرف عما ترى من آثار الديار، أو عما تظن رجوعه، لأنه لا تدارك له أو لا رجوع له، وارفع عيدان الرحل على ناقة سريعة صلبة، كناية عن أمره بالسفر، لأن شد الرحال لا يكون إلا له.
أو وجدناه غافلا عنه، كقولك: أجبنته وأفحمته «٤» وأبخلته، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها «٥» بغير سمة، أى: لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة «٦» بقوله وَاتَّبَعَ هَواهُ وقرئ: أغفلنا قلبه، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين، من أغفلته إذا وجدته غافلا فُرُطاً متقدّما للحق والصواب «٧» نابذا له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدّم للخيل.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
(٢). قال محمود: «معناه جعلنا قلبه غافلا عن الذكر... الخ» قال أحمد: هو يشمر للهرب من الحق، وهو أن المراد خلقنا له، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه، فان حمل «أغفل» على بابه صرفه إلى الخذلان، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة، ولا يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم.
(٣). قوله «غافلا عن الذكر بالخذلان» يتحاشى بذلك عن خلق الغفلة في قلبه، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، وأهل السنة على خلاف ذلك كما أشار إليه بقوله: توهم المجبرة. ثم إن اتباعه هواه لا ينافي خلق الله الغفلة في قلبه، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن الغفلة. (ع)
(٤). قوله «كقولك أجبنته وأفحمته» في الصحاح «أفحمته» وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(٥). عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى، وغرضه منه الخلاص مما قدمناه، لأنه وإن أبى خلق الله الغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الايمان، وإنما غرضنا التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر وهو عندنا ممكن، فوجب الاعتصام به، والله الموفق.
(٦). عاد كلامه. قال: «وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: واتبع هواه» قال أحمد: قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له، وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره، ولا تنافى بين الاضافتين، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية توجه، فلا محيص له عنها بوجه.
(٧). قوله «متقدما للحق والصواب» أى سابق له ومجاوز له، وفي الصحاح: أمر فرط، أى مجاوز فيه الحد.
ومنه قوله تعالى وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.
...... فأعتبوا بالصّيلم «٣»
وفيه تهكم. والمهل: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردىّ الزيت يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو كعكر الزيت «٤»، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه بِئْسَ الشَّرابُ ذلك وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً متكا من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء، إلا أن يكون من قوله:
إنىّ أرقت فبتّ اللّيل مرتفقا | كأنّ عينى فيها الصّاب مذبوح «٥» |
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
(٢). قوله «يطيف بهم» الذي يفيده الصحاح: طاف يطوف حول الشيء: دار حوله، وطاف يطيف بالشيء:
جاءه وأ لم به، فتدبر. (ع)
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ١٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٤). أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد. عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد.
واستغربه. وقال: لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد وتعقب قوله: بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث.
(٥). لأبى ذؤيب الهذلي. ويروى بدل الشطر الأول: مقام الخلى وبت الليل مشتجرا. والارتفاق: الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد. والاشتجار: وضع اليد تحت الشجر وهو ما بين اللحيين والاتكاء عليها، وهي هيئة المتحزن المتحسر. والأرق، السهر. والصاب: نبت مر كالحنظل. والمذبوح: المشقوق. وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع.
وتنكير أَساوِرَ لإبهام أمرها في الحسن. وجمع بين السندس: وهو ما رقّ من الديباج، وبين الإستبرق: وهو الغليظ منه، جمعا بين النوعين. وخص الاتكاء، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أى ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين وكانا أخوين في بنى إسرائيل: أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل:
هما المذكوران في سورة والصافات في قوله قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف، فقال المؤمن: اللهم إن أخى اشترى أرضا بألف دينار، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف، فتصدّق به. ثم بنى أخوه دارا بألف، فقال: اللهم إنى أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدّق به. ثم تزوّج أخوه امرأة بألف، فقال: اللهم إنى جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إنى اشتريت منك الولدان المخلدين بألف، فتصدّق به ثم أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه، فتعرّض له، فطرده ووبخه على التصدّق بماله. وقيل:
هما مثل لأخوين من بنى مخزوم: مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد جَنَّتَيْنِ مِنْ
بستانين من كروم وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجعلنا النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين «١» في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة. يقال: حفوه، إذا أطافوا به: وحففته بهم. أى جعلتهم حافين حوله، وهو متعدّ إلى مفعول واحد «فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه، وغشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً جعلناها أرضا جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بما وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو السيح بالنهر الجاري فيها.
والأكل: الثمر. وقرئ بضم الكاف وَلَمْ تَظْلِمْ ولم تنقص. وآتت: حمل على اللفظ، لأنّ كِلْتَا لفظه لفظ مفرد، ولو قيل: آتتا على المعنى، لجاز. وقرئ: وفجرنا، على التخفيف. وقرأ عبد الله: كل الجنتين آتى أكله بردّ الضمير على كل وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أى أنواع من المال، من ثمر ماله «٢» إذا كثر. وعن مجاهد: الذهب والفضة، أى: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة «٣» من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكنا من عمارة الأرض كيف شاء وَأَعَزُّ نَفَراً يعنى أنصارا وحشما. وقيل: أولادا ذكورا، لأنهم ينفرون معه دون الإناث. يحاوره: يراجعه الكلام، من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
يعنى قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه. فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو معجب بما أوتى مفتخر به كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. إخباره عن نفسه
(٢). قوله «من تمر ماله» الذي في الصحاح: أن الثمر جمع ثمار، ككتب وكتاب. وأن الثمر أيضا: المال المثمر، ويخقف ويثقل. وأثمر الرجل: إذا كثر ماله، وثمر الله ماله، أى: كثره. وعبارة الخازن: وكان له ثمر. قرئ بالفتح جمع ثمرة، وقرئ بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما. وفي النسفي: له ثمر، وأحيط بثمره بفتح الميم والثاء وبضم الثاء وسكون الميم، وبضمهما. (ع)
(٣). قوله «الأموال الدثرة» الكثيرة. أفاده الصحاح. (ع)
وانتصابه على التمييز، أى: منقلب تلك، خير من منقلب هذه، لأنها فانية وتلك باقية.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٣٧]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧)
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أى خلق أصلك، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له سَوَّاكَ عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث، كما يكون المكذب بالرسول ﷺ كافرا
[سورة الكهف (١٨) : آية ٣٨]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل:
وترميننى بالطّرف أى أنت مذنب | وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى «١» |
قلت: لقوله أَكَفَرْتَ قال لأخيه: أنت كافر بالله، لكنى مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب، لكن عمرا حاضر.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
ما شاءَ اللَّهُ يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدإ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله. أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أى شيء شاء الله كان. ونظيرها في حذف الجواب لَوْ في قوله وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ والمعنى:
هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها، وقلت لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى. وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب، فيدخل من شاء. وكان إذا دخله ردّد هذه الآية حتى يخرج. من قرأ أَقَلَّ بالنصب فقد جعل أنا فصلا، ومن رفع جعله مبتدأ وأقلّ خبره، والجملة مفعولا.
ثانيا لترنى. وفي قوله وَوَلَداً نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله وَأَعَزُّ نَفَراً والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى، فيرزقنى لإيمانى جنة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أى: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسبانا مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق صَعِيداً زَلَقاً أرضا بيضاء يزلق عليها لملامتها زلقا.
وغَوْراً كلاهما وصف بالمصدر.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣)وَأُحِيطَ به عبارة عن إهلاكه. وأصله من أحاط به العدوّ، لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ومثله قولهم:
أتى عليه، إذا أهلكه، من أتى عليهم العدوّ: إذا جاءهم مستعليا عليهم. وتقليب الكفين: كناية عن الندم والتحسر، لأنّ النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن، كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عدّى تعديته بعلى، كأنه قيل: فأصبح يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أى أنفق في عمارتها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يعنى أنّ كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم. قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها يا لَيْتَنِي تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان. وقرئ: وَلَمْ تَكُنْ بالياء والتاء، وحمل يَنْصُرُونَهُ على المعنى دون اللفظ، كقوله فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ. فإن قلت: ما معنى قوله يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قلت: معناه يقدرون على نصرته من دون الله، أى: هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل وَما كانَ مُنْتَصِراً وما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام الله.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٤]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
الْوَلايَةُ بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما. والمعنى هنالك، أى: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه، تقريرا لقوله وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أو: هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطرّ. يعنى أنّ قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم، ويشفى صدورهم من أعدائهم، يعنى: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وصدّق قوله فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ ويعضده قوله خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أى لأوليائه. وقيل هُنالِكَ إشارة إلى الآخرة أى في تلك الدار
وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. وقرئ عُقْباً بضم القاف وسكونها، وعقبى على فعلى، وكلها بمعنى العاقبة.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا. وقيل: نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روى ورف «٢» رفيفا، وكان حق اللفظ على هذا التفسير:
فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه.
والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة. وقرئ: تذروه الريح. وعن ابن عباس: تذريه الرياح، من أذرى: شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفا «٣» ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا. وقيل هي الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله خَيْرٌ ثَواباً أى ما يتعلق بها من
(٢). قوله «ورف رفيفا «في الصحاح: رف لونه رفا ورفيفا: برق وتلألأ. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه. (ع)
(٣). قوله «بحال النبات يكون أخضر وارفا» في الصحاح: ورف النبت، أى: اهتز من نضارته، فهو وارف، أى: ناضر رفاف شديد الخضرة. (ع)
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
قرئ: تسير، من سيرت- ونسير، من سيرنا. وتسير، من سارت، أى: تسير في الجو. أو يذهب بها، بأن تجعل هباء منبثا. وقرئ: وترى الأرض على البناء للمفعول بارِزَةً ليس عليها ما يسترها مما كان عليها وَحَشَرْناهُمْ وجمعناهم إلى الموقف. وقرئ: فلم نغادر، بالنون والياء، يقال:
غادره وأغدره إذا تركه. ومنه الغدر. ترك الوفاء. والغدير: ما غادره السيل. وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان فًّا
مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداقَدْ جِئْتُمُونا
أى قلنا لهم: لقد جئتمونا. وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير. ويجوز أن ينصب بإضمار اذكر. والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم وَّلَ مَرَّةٍ
وقيل جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أوّلا، كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى. فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك وْعِداً
وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٩]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
الْكِتابُ للجنس وهو صحف الأعمال يا وَيْلَتَنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً هنة صغيرة ولا كبيرة، وهي عبارة عن الإحاطة، يعنى: لا يترك شيئا من المعاصي إلا أحصاه، أى: أحصاها كلها كما تقول: ما أعطانى قليلا ولا كثيرا، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار. ويجوز أن يريد: وإما كان عندهم صغائر وكبائر. وقيل: لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة. وعن ابن عباس:
الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس، والكبيرة الزنا.
وعن الفضيل: كان إذا قرأها قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر إِلَّا أَحْصاها
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١)
كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف «٢» جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ والفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه، لأنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله، لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم. فما أبعد البون بين ما تعمده الله، وبين قول من ضادّه وزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة، فعصى، فلعن ومسخ شيطانا، ثم ورّكه «٣» على ابن عباس. ومعنى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عما أمره به ربه من السجود. قال:
فواسقا عن قصدها جوائرا «٤»
أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله اسْجُدُوا لِآدَمَ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ الهمزة للإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه تتخذونه وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وتستبدلونهم بى، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته ما أَشْهَدْتُهُمْ وقرئ: ما أشهدناهم، يعنى: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما كانوا يكونون شركاء
(٢). قال محمود: «قوله تعالى كان من الجن مستأنف تعليل لفسوقه... الخ» قال أحمد: والحق معه في هذا الفعل غير أن قوله «تعمده الله تعالى» لفظة لا تروق ولا تليق، فان التعمد إنما يوصف به عرفا من يفعل في بعض الأحيان خطأ وفي بعضها تعمدا، فاجتنابها في حق الله تعالى واجب، والله الموفق.
(٣). قوله «ثم ورّكه» أى اتهمه به. (ع) [.....]
(٤). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١١٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
يَقُولُ بالياء والنون. وإضافة الشركاء إليه على زعمهم: توبيخا لهم وأراد الجن.
والموبق: المهلك، من وبق يبق وبوقا، ووبق يوبق وبقا: إذا هلك. وأو بقه غيره. ويجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد، يعنى: وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا. وعن الحسن مَوْبِقاً عداوة. والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاك، كقوله: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا. وقال الفراء: البين الوصل أى:
وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. ويجوز أن يريد الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم، وبالموبق: البرزخ البعيد، أى: وجعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان فَظَنُّوا فأيقنوا مُواقِعُوها مخالطوها واقعون فيها مَصْرِفاً معدلا. قال.
أزهير هل عن شيبة من مصرف «٢»
(٢).
أزهير هل عن شيبة من مصرف | أم لا خلود لباذل متكلف |
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحدا بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب جَدَلًا على التمييز، يعنى: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)
أَنْ الأولى نصب. والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره وَما مَنَعَ النَّاسَ الإيمان والاستغفار إِلَّا انتظار أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهي الإهلاك أَوْ انتظار أن يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يعنى عذاب الآخرة قُبُلًا عيانا. وقرئ «قبلا» أنواعا: «١» جمع قبيل. و «قبلا» بفتحين: مستقبلا.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٦]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)
لِيُدْحِضُوا ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن، موطئها وَما أُنْذِرُوا يجوز أن تكون ما موصولة، ويكون الراجع من الصلة محذوفا، أى:
وما أنذروه من العذاب. أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم. وقرئ: هزأ، بالسكون، أى: اتخذوها موضع استهزاء. وجدالهم: قولهم للرسل ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وما أشبه ذلك.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٧]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
بِآياتِ رَبِّهِ بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكرا في قوله أَنْ يَفْقَهُوهُ.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٨]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
الْغَفُورُ البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله ﷺ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا منجى ولا ملجأ. يقال:
«وأل» إذا نجا، و «وأل إليه» إذا لجأ إليه.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٥٩]
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
وَتِلْكَ الْقُرى يريد قرى الأوّلين من ثمود وقوم لوط وغيرهم: أشار لهم إليها ليعتبروا.
تِلْكَ مبتدأ، والْقُرى صفة، لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، وأَهْلَكْناهُمْ خبر. ويجوز أن يكون تِلْكَ الْقُرى نصبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. والمعنى:
وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا مثل ظلم أهل مكة وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر. والمهلك:
الإهلاك ووقته. وقرئ لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم، واللام مفتوحة أو مكسورة، أى: لهلاكهم أو وقت هلاكهم. والموعد: وقت، أو مصدر.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
وقيل: هو يوشع ابن نون. وإنما قيل: فتاه، لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. فإن قلت: لا أَبْرَحُ إن كان بمعنى لا أزول- من برح المكان- فقد دل على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بد من الخبر. قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر، لأنّ الحال والكلام معا يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون.
المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام، وهو ملتقى بحرى فارس والروم مما يلي المشرق. وقيل: طنجة. وقيل: إفريقية. ومن بدع التفاسير: أن البحرين موسى والخضر، لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ مَجْمَعَ بكسر الميم، وهي في الشذوذ من يفعل، كالمشرق والمطلع من يفعل أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أو أسير زمانا طويلا.
والحقب ثمانون سنة. وروى أنه لما ظهر موسى على مصر مع بنى إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه. فقالوا له: قد علمنا هذا، فأى الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذى القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إنّ موسى سأل ربه: أىّ عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأىّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأىّ عبادك
أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرنى، فذهبا يمشيان، فرقد موسى، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوبه، فسلم عليه موسى، فقال:
وأنى بأرضنا السلام، فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى، أنا على علم علمنّيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمى وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر نَسِيا حُوتَهُما أى نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة. وقيل:
نسى يوشع أن يقدّمه، ونسى موسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل:
إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، ونام موسى، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت. وروى: أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء سَرَباً أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق، وحصل منه في مثل السرب «١» معجزة لموسى أو للخضر فَلَمَّا جاوَزا الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه.
ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وقيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر، وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك، فتذكر الحوت وطلبه. وقوله مِنْ سَفَرِنا هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. فإن قلت: كيف نسى يوشع ذلك، ومثله لا ينسى «٢» لكونه أمارة لهما على الطلبة التي
وانسرب الثعلب في جحره. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت كيف نسى يوشع ذلك ومثله لا ينسى... الخ» ؟ قال أحمد: وقد ورد في الحديث:
أن موسى عليه السلام لم ينصب ولم يقل لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له، فلعل الحكمة في إنساء الله تعالى ليوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات: أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة، وموقع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته بونابينا، والله أعلم. وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إذا قص عليهم القصة، فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلا وآجلا، والله أعلم.
ما كانت إلا شق سمكة- وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمرّ به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب، حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضرى بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، واستأنسا بإخوانه فأعان الإلف «١» على قلة الاهتمام أَرَأَيْتَ بمعنى أخبرنى. فإن قلت:
ما وجه التئام هذا الكلام؟ فإن كل واحد من أَرَأَيْتَ وإِذْ أَوَيْنا وفَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى عليه السلام الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإنى نسيت الحوت، فحذف ذلك. وقيل:
هي الصخرة التي دون نهر الزيت. وأَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أَنْسانِيهُ أى: وما أنسانى ذكره إلا الشيطان. وفي قراءة عبد الله: أن أذكركه. وعَجَباً ثانى مفعولي اتخذ، مثل سَرَباً يعنى: واتخذ سبيله سبيلا عجبا، وهو كونه شبيه السرب. أو قال: عجبا في آخر كلامه، تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين، وقوله وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن عَجَباً حكاية لتعجب موسى عليه السلام، وليس بذاك ذلِكَ إشارة إلى اتخاذه سبيلا، أى: ذلك الذي كنا نطلب، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام. وقرئ نَبْغِ بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبى عمرو، وأمّا الوقف، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لخط المصحف فَارْتَدَّا فرجعا في أدراجهما «٢» قَصَصاً يقصان قصصا، أى: يتبعان آثارهما اتباعا. أو فارتدّا مقتصين رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي الوحى والنبوة مِنْ لَدُنَّا مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٦٦]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦)
رُشْداً قرئ بفتحتين، وبضمة وسكون، أى: علما ذا رشد، أرشد به في دينى. فإن قلت:
أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه- كما قيل- موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران
(٢). قوله «فرجعا في أدراجهما» الدرج: الطريق، والجمع الأدراج. ومنه قولهم: رجعت أدراجى، أى:
رجعت في الطريق الذي جئت منه، كذا في الصحاح. (ع)
لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبىّ مثله: وإنما بغض منه أن يأخذه ممن دونه. وعن سعيد ابن جبير أنه قال لابن عباس: إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى، وأنّ موسى هو موسى بن ميشا، فقال: كذب عدوّ الله «١».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)
نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، «٢» كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكير. والرجل الصالح- فكيف إذا كان نبيا- لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار. وخُبْراً تمييز، أى: لم يحط به خبرك بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٦٩]
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
وَلا أَعْصِي في محل النصب، عطف على صابِراً أى: ستجدني صابرا وغير عاص.
أولا في محل، عطفا على ستجدني. رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله، علما منه بشدّة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، برىّ من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لا بد لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٠]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
(٢). قال محمود: «نفى الاستطاعة على وجه التأكيد... الخ» قال أحمد: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق: أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها، ولم يقل لتغرقنا، فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول نفسي نفسي، لا يلوى على مال ولا ولد، وتلك حالة الغرق، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢)
فَانْطَلَقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فلما ركبا قال أهلها: هما من اللصوص، وأمروهما بالخروج، فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه ويقول أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وقرئ: لتغرّق، بالتشديد. وليغرق أهلها.
من غرق وأهلها مرفوع جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت شيئا عظيما، من أمر الأمر: إذا عظم، قال:
داهية دهياء إدّا إمرا «٢»
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٣]
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
بِما نَسِيتُ بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني: أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسي. أو أخرج الكلام في معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان، يوهمه أنه قد نسى ليبسط عذره في الإنكار، وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذب، مع التوصل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختى، وإنى سقيم. أو أراد بالنسيان: الترك، أى: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرّة. يقال: رهقه إذا غشيه، وأرهقه إياه. أى: ولا تغشني عُسْراً من أمرى، وهو اتباعه إياه، يعنى: ولا تعسر علىّ متابعتك، ويسرها علىّ بالإغضاء وترك المناقشة. وقرئ: عسرا، بضمتين.
(٢).
لقد لقى الأقوام منى نكرا | داهية دهياء إدا إمرا |
ويجوز أن الكلام من قبيل التجريد.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)فَقَتَلَهُ قيل: كان قتله قتل عنقه. قيل: ضرب برأسه الحائط، وعن سعيد بن جبير:
أضجعه ثم ذبحه بالسكين. فإن قلت: لم قيل حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها بغير فاء؟ وحَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفا عليه، والجزاء قالَ أَقَتَلْتَ. فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لقاء الغلام. وقرئ: زاكية، وزكية، وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت، وإما لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث بِغَيْرِ نَفْسٍ يعنى لم تقتل نفسا فيقتص منها. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه: كيف جاز قتله، وقد نهى رسول الله ﷺ عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل «١» نُكْراً وقرئ بضمتين وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. وقيل:
معناه جئت شيئا أنكر من الأوّل، لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا سبيل إلى تداركه. فإن قلت: ما معنى زيادة لَكَ؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٦]
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
بَعْدَها بعد هذه الكرة أو المسألة فَلا تُصاحِبْنِي فلا تقاربنى، وإن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وقرى «فلا تصحبنى» فلا تكن صاحبي. وقرئ «فلا تصحبنى» أى فلا تصحبنى إياك ولا تجعلني صاحبك مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قد أعذرت. وقرئ: لدنى، بتخفيف النون. ولدني، بسكون الدال وكسر النون، كقولهم في عضد: عضد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رحم الله أخى موسى استحيا فقال «٢» ذلك، وقال: رحمة الله علينا وعلى أخى موسى، لو لبث
(٢). أخرجه ابن مردويه من رواية داود بن أبى هند عن عبد الله بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر القصة. وفيها «رحمة الله علينا وعلى موسى استحيا عند ذلك. فقال إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي- الآية».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٧]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)
أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية. وقيل: الأبلة، وهي أبعد أرض الله من السماء أَنْ يُضَيِّفُوهُما وقرئ: يضيفوهما. يقال: ضافه إذا كان له ضيفا. وحقيقته: مال إليه، من ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره، من الازورار. وأضافه وضيفه: أنزله وجعله ضيفه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما «٢». وقيل شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهمّ والعزم لذلك. قال الراعي:
في مهمه قلقت به هاماتها | قلق الفئوس إذا أردن نصولا «٣» |
يريد الرّمح صدر أبى براء | ويعدل عن دماء بنى عقيل «٤» |
إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل | لزمان يهمّ بالإحسان «٥» |
(٢). أخرجه النسائي من رواية إسرائيل عن ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبى عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما. قال «كانوا أهل قرية لئاما» وهو في مسلم بلفظ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ لئاما.
(٣). للراعي يصف الإبل بأنها في مهمه: أى مفازة، قلقت: أى تحركت فيه هاماتها: أى رءوسها. قلق الفئوس: أى كتحرك الفئوس جمع فأس وهي آلة الحفر، إذا أردن: أى الفئوس، نصولا: أى قربن منه، فالارل مجاز مرسل، ونصولها: خروج الحديدة من المقبض. والنصول في كل شيء: الخروج، والانصال: الإخراج، ولقد شبه رءوس الإبل مع أعناقها بالفئوس.
(٤). الارادة هنا مجاز عن التوجه. ويجوز أن الاسناد مجاز، لأن المريد صاحب الرمح. والأوجه أنه شبه الرمح بإنسان على طريق المكنية، وإسناد الارادة والعدول إليه تخييل، أى: يريد أن يشرب من صدر أبى براء، لا من دماء هؤلاء.
(٥). لحسان بن ثابت، ولففت الشيء: طويته وأدرجته، من باب رد. والشمل. المتفرق، ويطلق على المجتمع من الأمور. وجمل: اسم محبوبته. ويروى: بسعدى. يقول: إن الدهر الذي يجمع شملى بمحبوبتى لدهريهم بالإحسان ويريده، وهم من باب رد أيضا، أى: دهر يريد الإحسان لا الاساءة كعادة الدهر، فشبه الزمان بإنسان يصح منه إرادة الإحسان على طريق المكنية، والهم تخييل. ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلى كاسناد اللف، وهما في الحقيقة لله.
إذا قالت الأنساع للبطن الحق «١»
تقول سنّى للنّواة طنّى
لا ينطق الّلهو حتّي ينطق العود «٢»
وشكا إلىّ بعبرة وتحمحم «٣»
فإن يك ظنّى صادقا وهو صادقي «٤»
(٢).
فاستنطق العود قد طال السكوت به | لا ينطق اللهو حتى ينطق العود |
(٣).
فازور من وقع القنا بلبانه | وشكا إلى بعبرة وتحمحم |
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى | ولكان لو علم الكلام مكلمي |
وفسره بقوله: ولكان مكلما لي لو علم الكلام، وذلك مبالغة في شدة الحرب.
(٤).
لهفي على القوم الذين تجمعوا | بذي السيد لم يلقوا عليا ولا عمرا |
فان يك ظنى صادقا وهو صادقي | بشملة يحبسهم بها محبسا وعرا |
تمرّد مارد وعزّ الأبلق «١»
ولبعضهم:
يأبى على أجفانه إغفاءه | همّ إذا انقاد الهموم تمرّدا» |
أبت الرّوادف والثّدىّ لقمصها | مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا «٣» |
وانقض: إذا أسرع سقوطه، من انقضاض الطائر وهو يفعلّ، مطاوع قضضته. وقيل: افعلّ
وقد قالت الزبا لحصن سموأل | تمرد مارد وعز الأبلق |
(٢). للزمخشري. والهم: ما يهتم به، وهو فاعل. والاغفاء. النوم الخفيف، وهو مفعول، وذلك مجاز عن تسبب الهم في منع النوم. وانقياد الهموم: مجاز عن سكونها، وتمرد الهم مجاز عن تزايده وكثرة خطوره بالبال.
أو شبه الهموم بحيوانات يصح منها الانقياد والتمرد على طريق المكنية، والتمرد ضد الانقياد، وهما تخييل.
(٣).
أبت الروادف والثدي لقمصها | مس البطون وأن تمس ظهورا |
وإذا الرياح مع العشى تناوحت | نيهن حاسدة وهجن غيورا |
والأقرب أنه مجاز مرسل، والمراد به مطلق المنع، والكلام بعد ذلك كناية عن نهود ثدييها وكبر رد فيها وضمور خصريها. وفيه لف ونشر غير مرتب، لأن مس البطون يرجع للثدي، ومس الظهور يرجع للروادف. وعبر بالجمع عن غيره مجازا. أو اعتبر الأجزاء، فالتجوز في مفرد الجمع. والثدي بالتشديد: جمع ثدي بالتخفيف.
والقمص: جمع قميص. وتناوح الجبلان. تقابلا، فالمراد بالتناوح: التقابل، بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها، فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره، فتنبه الحاسدة لها، ويهيج الغيور لكراهة ذلك من الرياح. وهاج الشيء: هام، وهاجه: هيمه، وهيجه: هيمه. وما هنا من الوسط. ويجوز أنه شبه على طريق المكنية. أو شبه أصواتها اللينة بالتناوح على طريق التصريحية، ثم جعل ذلك كناية عن تقابلها لأنها إنما يكون لها أصوات إذا تقابلت فاضطربت، ومع: بمعنى في.
......... منقاص ومنكثب «١»
بالصاد غير معجمة فَأَقامَهُ قيل: أقامه بيده. وقيل: مسحه بيده فقام واستوى. وقيل:
أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وقيل كان طول الجدار في السماء مائة ذراع، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وطلبت على عملك جعلا حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرئ: لتخذت، والتاء في تخذ، أصل كما في تبع، واتخذ افتعل منه، كاتبع من تبع، وليس من الأخذ في شيء.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٨]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصوّر فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة إلى غير الأخ ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث، أى: هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل: هذا فراق بيني وبينك. وقد قرأ به ابن أبى عبلة، فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٩]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
لِمَساكِينَ قيل كانت لعشرة إخوة، خمسة منهم زمنى، وخمسة يعملون في البحر وَراءَهُمْ أمامهم، كقوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ وقيل: خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره، فأعلم الله به الخضر وهو «جلندى» «٢». فإن قلت: قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه | من هائل الرمل منقاص ومنكثب |
يحفر الكناس بقرينه، ليستتر من المطر، ويهدمه المتساقط المجتمع من الرمل الرخو الهايل. [.....]
(٢). قوله «وهو جلندى» : في الخازن: وكان اسمه الجلندى الأزدى، وكان كافرا. وقيل: كان اسمه حرد ابن برد. (ع)
النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظنى مقيم. وقيل في قراءة أبىّ وعبد الله: كل سفينة صالحة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
وقرأ الجحدري: وكان أبواه مؤمنان، على أن «كان» فيه ضمير الشأن فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغيانا عليهما، وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرا وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أيعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان وإنما خشي الخضر منه ذلك، لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره. وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبىّ: فخاف ربك. والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله فَخَشِينا حكاية لقول الله تعالى، بمعنى: فكرهنا، كقوله لِأَهَبَ لَكِ
. وقرئ: يبدّلهما، بالتشديد. والزكاة: الطهارة والنقاء من الذنوب. والرحم: الرحمة والعطف. وروى أنه ولدت لهما جارية تزوّجها نبىّ، فولدت نبيا هدى الله على يديه أمّة من الأمم. وقيل: ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما. قيل:
مال مدفون من ذهب وفضة «١». وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله «٢». وقيل: صحف فيها علم. والظاهر لإطلاقه: أنه مال.
وعن قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا، وحرّمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا: أراد قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً اعتداد بصلاح أبيهما وحفظ لحقه فيهما. وعن جعفر بن محمد الصادق: كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء. وعن الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما. قال: فأبى وجدّى خير منه: فقال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون رَحْمَةً مفعول له. أو مصدر منصوب بأراد ربك، لأنه في معنى رحمهما وَما فَعَلْتُهُ وما فعلت ما رأيت عَنْ أَمْرِي عن اجتهادي ورأيى، وإنما فعلته بأمر الله.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨)
(٢). أخرجه البزار من رواية ابن حجيرة عن أبى ذر مرفوعا بهذا، وأتم منه. وقال لا نعلمه عن أبى ذر إلا بهذا الاسناد. وروى الدارقطني في غرائب مالك من طريق محمد بن صالح بن فيروز عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال «سئل ابن عباس عن الكنز. فذكره- وقال: هذا باطل عن مالك. وروى ابن عدى. ومن رواية أبين ابن سفيان والطبراني في الدعاء. من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن أبى حازم عن ابن عباس نحوه وعن على مثل لفظ المصنف أخرجه البيهقي في الشعب من رواية جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عنه. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن على مرفوعا. ورواه ابن شاهين في الجنائز. والواحدي من رواية محمد بن مروان السدى الصغير:
عن أيان عن أنس مرفوعا أيضا. وأبان والسدى الصغير متروكان.
ليس بملك ولا نبىّ، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمى ذا القرنين وفيكم مثله. قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا «٢» يعنى جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان، أى ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب: لأنه ملك الروم وفارس. وروى: الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين.
ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره. والسائلون: هم اليهود سألوه على جهة الامتحان. وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه، والخطاب في عَلَيْكُمْ لأحد الفريقين مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أى من أسباب كل شيء، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه سَبَباً طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق، فأتبع سببا، وأراد بلوغ السدّين فاتبع سببا. وقرئ: فأتبع. قرئ: حمئة، من حمئت البئر إذا صار فيها الحمأة. وحامية بمعنى حارّة. وعن أبى ذرّ: كنت رديف رسول الله ﷺ على جمل، فرأى الشمس حين غابت فقال. «يا أبا ذرّ، أتدري أين تغرب هذه؟
فقلت: الله ورسوله أعلم «٣». قال: فإنها تغرب في عين حامية، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة
(٢). لم أجده مرفوعا وإنما رواه الدارقطني في المؤتلف. من رواية عبد العزيز بن عمران. عن سليمان بن أسيد عن الزهري قال: إنما سمى ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها.
(٣). كذا في نسخ الكشاف على جمل. والذي في كتب الحديث «على حمار» ولم يصرح فيه بالارداف. عن أبى داود والحاكم من طريق الحكم بن عيينة عن إبراهيم التيمي عن أبيه. عن أبى ذر رضى الله عنه قال «كنت مع رسول الله ﷺ وهو على حمار. والشمس عند غروبها فقال: هل تدرى أين تغرب هذه؟ قلت:
الله ورسوله أعلم. قال فإنها تغرب في عين حامية» زاد الحاكم غير مهموزة. ورواه ابن أبى شيبة. وأحمد وأبو يعلى والبزار وزاد «وتنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش، فإذا كان خروجها أذن الله لها وإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها، فيقول. اطلعى من حيث غربت. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» وقال تفرد به سفيان بن حسين عن الحاكم. ورواه الجماعة عن إبراهيم التيمي. وهو في الصحيحين دون قوله «تغرب في عين حامية» وأوله «كنت مع النبي ﷺ جالسا» الحديث.
فرأى مغيب الشّمس عند مآبها | في عين ذى خلب وثاط حرمد «١» |
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا تدين له الملوك وتسجد |
بلغ المغارب والمشارق يبتغى | أسباب أمر من حكيم مرشد |
فرأى مغار الشمس عند مآبها | في عين ذى خلب وثأط حرمد |
وفي عين: متعلق بغار. أو بمحذوف، أى: رآها تغرب في عين. ويجوز أنه حال من المغار، لأن العين أوسع منه، أى في عين ماء ذى طين أسود مختلط بماء، وهذا موافق لظاهر الآية. وأولها أبو على الجبائي بأن ذلك على سبيل التخييل، كما أن من لم ير الشاطئ الغربي من البحر المتسع يرى الشمس تغرب فيه، وفي الحقيقة تغرب في ظلمة وراء الأبيض، لأن الأرض كروية.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
وقرئ: مطلع، بفتح اللام وهو مصدر. والمعنى: بلغ مكان مطلع الشمس، كقوله:
كأنّ مجرّ الرّامسات ذيولها «١»
يريد: كأن آثار مجرّ الرامسات عَلى قَوْمٍ قيل: هم الزنج. والستر: الأبنية، وعن كعب:
أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوها. فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. وعن بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى، ومعى صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة «٢» فغشى علىّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وقيل: الستر اللباس. وعن مجاهد:
من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض كَذلِكَ أى أمر ذى القرنين كذلك، أى كما وصفناه تعظيما لأمره وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً تكثيرا لذلك. وقيل: لم نجعل لهم من دونها سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من
كأن مجر الرامسات ذيولها | عليه قضيم نمقته الصوانع |
(٢). قوله «إذ سمعنا كهيئة الصلصلة» في الصحاح «الصلة» واحدة الصلال، وهي القطع من الأمطار المتفرقة يقع منها الشيء بعد الشيء، وصلصلة اللجام: صوته إذا ضوعف. (ع)
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣)
بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما. قرئ: بالضم والفتح.
وقيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح، لأنّ السد بالضم فعل بمعنى مفعول، أى: هو مما فعله الله تعالى وخلقه. والسدّ- بالفتح-: مصدر حدث يحدثه الناس. وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به مبلوغ، كما انجرّ على الإضافة في قوله هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وكما ارتفع في قوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق مِنْ دُونِهِما قَوْماً هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم البكم. وقرئ: يفقهون، أى: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لأنّ لغتهم غريبة مجهولة.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٩٤]
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقرئا: مهموزين. وقرأ رؤبة: آجوج ومأجوج، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم «١» مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يلقون منهم قتلا وأذى شديدا. وعن النبىّ ﷺ في صفتهم: لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح «٢». وقيل: هم على صنفين، طوال مفرط والطول،
(٢). أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط وابن مردويه. والثعلبي وغيرهم من رواية يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، عن شقيق. عن حذيفة قال «سألت النبي ﷺ عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج أمة. ومأجوج أمة. كل أمة أربعة آلاف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح» قال ابن عدى: هذا موضوع. ومحمد بن إسحاق هذا ليس هو صاحب المغازي. وإنما هو العكاش وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه فلم يصب فان له طريقا أخرى ففي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود مرفوعا «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفا» وفي النسائي عن عمرو بن أوس عن أبيه رفعه «أن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا. ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا. وفي المستدرك عن عبد الله ابن عمرو رفعه «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولن يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا»
النول والنوال. وقرئ: سدا، وسدا بالفتح والضم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار، خير مما تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة بى إليه، كما قال سليمان صلوات الله عليه فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ قرئ بالإدغام وبفكه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل، وبالآلات رَدْماً حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السدّ، من قولهم: ثوب مردم، رقاع فوق رقاع. قيل: حفر الأساس «١» حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد، بينهما الحطب «٢» والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وقرئ: سوّى، وسووى.
وعن رسول الله ﷺ أنّ رجلا أخبره به فقال: كيف رأيته؟ قال كالبرد «٣» المحبر
(٢). قوله «بينهما الحطب» لعله: بينها. (ع) [.....]
(٣). أخرجه الطبري من رواية سعيد بن أبى عروبة عن قتادة. قال «ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال انعته لي قال، كالبرد المحبر. طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته» ورواه ابن أبى عمر عن سفيان بن عيينة عن سعيد عن قتادة عن رجل من أهل المدينة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم» رأيت الردم فذكر نحوه، ورواه الطبراني في مسند الشاميين. وابن مردويه عنه من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبى بكرة الثقفي «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، لكن قال. طريقة حمراء من نحاس: وطريقة سوداء من حديد» وأخرج البزار من وجه آخر عن يوسف بن أبى مريم الحنفي. قال «بينما أنا قاعد مع أبى بكرة إذ جاء رجل فسلم عليه. فقال له أبو بكرة من أنت «قال تعلم رجلا أتى النبي ﷺ فأخبره أنه رأى الردم. فقال له أبو بكرة: وأنت هو؟ قال: نعم. قال: اجلس حدثنا. قال: انطلقت حتى أتيت أرضا ليس لهم إلا الحديد يعلمونه. فذكر القصة والحديث. وقال: لا نعلم له رواية عن النبي ﷺ غير أبى بكرة.
آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وقرئ: قال ائتوني، أى جيئوني فَمَا اسْطاعُوا بحذف التاء للخفة، لأنّ التاء قريبة المخرج من الطاء. وقرئ: فما اصطاعوا بقلب السين صادا. وأما من قرأ بإدغام التاء في الطاء، فملاق بين ساكنين على غير الحدّ أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه، أى: لا حيلة لهم فيه من صعود، لارتفاعه وانملاسه، ولا نقب لصلابته وثخانته.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٩٨]
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
هذا إشارة إلى السد، أى: هذا السد نعمة من الله ورَحْمَةٌ على عباده. أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يعنى فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتى جعل السد دَكَّاءَ أى مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك. ومنه: الجمل الأدك: المنبسط السنام. وقرئ: دكاء، بالمد: أى أرضا مستوية وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا آخر حكاية قول ذى القرنين.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٩٩]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩)
وَتَرَكْنا وجعلنا بَعْضَهُمْ بعض الخلق يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أى يضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى. ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج، وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. وروى: يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر، ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم «١» فيدخل في آذانهم فيموتون.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٢]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ هو الملائكة، يعنى: أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكى عنهم سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ. وقرأ ابن مسعود: أفظن الذين كفروا. وقراءة على رضى الله عنه أفحسب الذين كفروا، أى: أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر. أو على الفعل والفاعل، لأنّ اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل، كقولك: أقائم الزيدان. والمعنى أنّ ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
وهي قراءة محكمة جيدة. النزل: ما يقام للنزيل وهو الضيف، ونحوه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٦]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
ضَلَّ سَعْيُهُمْ ضاع وبطل وهم الرهبان. عن على رضى الله عنه، كقوله عامِلَةٌ ناصِبَةٌ وعن مجاهد: أهل الكتاب. وعن على رضى الله عنه: أنّ ابن الكوّا سأله عنهم؟ فقال: منهم أهل حروراء. وعن أبى سعيد الخدري: يأتى ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان، لأنّ الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين. وقرئ: فلا يقيم، بالياء. فإن قلت: الذين ضل سعيهم في أى محل هو؟ قلت:
أصميت الصيد إذا رميته فقتلته، فقوله: أصميت، لعله بمعنى أهلكت بالمرة بحيث لا يمكن أن تسمع. (ع)
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
الحول: التحوّل. يقال: حال من مكانه حولا، كقولك: عادني حبها عودا، يعنى:
لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم. وهذه غاية الوصف، لأن الإنسان في الدنيا في أى نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه. ويجوز أن يراد نفى التحوّل وتأكيد الخلود.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٩]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)
المداد: اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مدادا لها، والمراد بالبحر الجنس لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الكلمات وَلَوْ جِئْنا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا.
والكلمات غير نافدة. ومَدَداً تمييز، كقولك: لي مثله رجلا. والمدد مثل المداد، وهو ما يمدّ به. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بمثله مدادا. وقرأ الأعرج: مددا، بكسر الميم جمع مدّة، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به. وقرئ: ينفد بالياء. وقيل: قال حيىّ بن أخطب:
في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فنزلت، يعنى: أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١١٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول.
وقد فسرنا اللقاء. أو: أفمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهى عن الإشراك بالعبادة:
«إن الله لا يقبل ما شورك «١» فيه» وروى أنه قال: «لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية» «٢» وذلك إذا قصد أن يقتدى به. وعنه صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال «الرياء» «٣» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء «٤» » وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ» «٥» والله أعلم.
(٢). أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان- وأبو يعلى. والبزار عن أبى هريرة. قال قال رجل «يا رسول الله، إنى أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني. قال لك أجران. أجر السرّ. وأجر العلانية» أخرجوه كلهم من حديث ابن سنان سعيد بن سنان عن حرب بن أبى ثابت عن أبى صالح عنه. قال الترمذي رواه الأعمش عن حبيب عن أبى صالح مرسلا. وقال ابن أبى حاتم قال أبى الصحيح عندي مرسل، رواه يوسف بن أسباط عن الثوري عن حبيب.
عن أبى صالح عن أبى ذر وأخرجه أبو نعيم في الحلية. وقال: لم يقل أحد عن أبى ذر إلا ابن أسباط. ورواه يحيى بن يمان عن الثوري فقال عن ابن مسعود. أخرجه الطبراني، قال أبو نعيم. ورواه قبيصة عن الثوري فقال عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه.
(٣). أخرجه ابن مردويه من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بهذا ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي. وأبو قاسم الطلحي في الترغيب. وفي الباب عن محمود بن لبيد. ورفعه «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء» أخرجه أحمد والدارقطني. في غرائب مالك والبيهقي. في الشعب من رواية عمرو بن أبى عمرو بن قتادة عنه. وعن شداد بن أوس قال «كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر» أخرجه الطبراني وابن مردويه. وفي إسناده ابن لهيعة.
(٤). أخرجه أحمد والنسائي من حديث معاذ بن أنس. وفي إسناده ابن لهيعة. أخرجه الطبراني من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن زياد بن فايد وهم من الضعفاء.
(٥). أخرجه إسحاق والبزار من رواية النضر بن شميل. حدثنا أبو فررة الأسدى رجل من أهل البادية. سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رفعه «من قرأ في ليلته فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. الآية كان له نور من عدن إلى مكة حشوه الملائكة» ورواه الثعلبي من هذا الوجه. «وزاد يصلون عليه ويستغفرون له» ورواه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب باللفظ الأول وقد سبق سنده في آل عمران.