تفسير سورة الأحزاب

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية

سورة الأحزاب
مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية [نزلت بعد آل عمران] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣)
عن زرّ قال: قال لي أبىّ بن كعب رضى الله عنه: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول.
ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم «١». أراد أبىّ رضى الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض «٢». جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم. يا موسى، يا عيسى.
يا داود: كرامة له وتشريفا، وربئا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار،
(١). أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وابن مردويه كلهم من هذا الوجه.
(٢). قلت: بل راويها ثقة غير متهم. قال إبراهيم الحربي في الغريب: حدثنا هرون بن عبد الله أن الرجم أنزل في سورة الأحزاب مكتوبا في خوصة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها» وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة انتهى. وكأن المصنف فهم أن ثبوت هذه الزيادة يقتضى ما تدعيه الروافض:
أن القرآن ذهب منه أشياء. وليس ذلك بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ
ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ. اتق الله: واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ لا تساعدهم على شيء. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبنى قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم. وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم «١» فنزلت. وروى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للنبىّ صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك، فشق ذلك على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم «٢»، فنزلت: أى اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى أنّ أهل مكة دعوا رسول الله ﷺ إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع. فنزلت إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب من الخطإ، والمصلحة من المفسدة حَكِيماً لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ الذي يوحى إليك خبير بِما تَعْمَلُونَ فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ: يعملون، بالياء، أى: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل أمر.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤ الى ٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
(١). لم أجده.
(٢). هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.
519
ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل.
والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك، فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها. عالما ظانا، موقنا شاكا في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان، وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية «١» لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبى صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله ﷺ وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد «٢»، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب، فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما
(١). قال محمود: «أسد ما ذكر فيه من التأويلات أنهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين، فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة، كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات. قال: وهذه الأمور الثلاثة متنافية: أما الأول فلأنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر، وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك. وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام، فنافى أن تكون الزوجة أما. وأما الثالث فلأن النبوة أصالة وعراقة، والدعوة لاصقة عارضة، فهما متنافيان، وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار.
(٢). هكذا ذكره ابن إسحاق وابن أبى خيثمة من طريقه. وزاد في آخره «كان رسول الله ﷺ أكبر منه بعشر سنين فتبناه»
وعن سالم عن أبيه قال «ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى أنزل الله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انتهى. وهذه الزيادة في الصحيحين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «ما كنا ندعو زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ- الآية
520
في رجلىّ، فأكذب الله قوله وقولهم، وضربه مثلا في الظهار والتبني. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الله. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول:
نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في رجل، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار. وقرئ: اللايئ «١»، بياء وهمزة مكسورتين. واللائي. بيا. ساكنة بعد الهمزة: وتظاهرون: من ظاهر. وتظاهرون.
من اظاهر، بمعنى تظاهر. وتظهرون: من أظهر، بمعنى تظهر. وتظهرون: من ظهر، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد. وتظهرون: من ظهر، بلفظ فعل من الظهور. ومعنى ظاهر من امرأته:
قال لها: أنت علىّ كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم، إذا قال لبيك. وأفف الرجل: إذا قال: أف وأخوات لهنّ. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت: كان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية. فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها. وظاهر منها:
حاذر منها، وظهر منها: وحش منها «٢». وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدّى بمن، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه.
فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت علىّ كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت علىّ حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن. ومنه حديث عمر رضى الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه: أراد على ظهره. ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّما عندهم محظورا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر ثم لم يقنع
(١). قوله «وقرئ اللايئ بياء وهمزة مكسورتين» لعل مراد، قراءتان إحداهما بياء مكسورة والأخرى بهمزة مكسورة، لكن الياء ليست ياء صرفة، بل هي همزة مسهلة ينطق بها بين الهمزة والياء والحاصل: أنه قرئ اللائي بياء ساكنة بعد الهمزة. وقرئ اللاء بهمزة مكسورة من غير ياء. وقرئ: اللايى بشبه الياء مكسورة وهي الهمزة التي ينطق بها بين بين. وقرئ: اللاى بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، فهذه أربع قراآت في لفظ اللائي أينما كان في القرآن، كما في شرح الشاطبية. (ع)
(٢). قوله «وحش منها» أى خلا منها أفاده الصحاح. (ع)
521
بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك. فإن قلت: الدعىّ فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يدعى ولدا فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقىّ وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى. قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي ذلِكُمْ النسب هو قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقا. والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها «١» : من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة:
وهو الذي يهدى السبيل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه: ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا لهم آباء تنسبونهم إليهم «فهم» فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخى وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي: يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه ما تَعَمَّدَتْ في محل الجرّ عطفا على ما أخطأتم. ويجوز أن يكون مرتفعا على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى.
أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنىّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام «ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» «٢» وقوله عليه الصلاة والسلام وضع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه «٣» » ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده.
فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب وأصغر سنا من المتبنى ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم
(١). قوله «وفي فصل هذه الجمل ووصلها» أى: فصل ما فصل منها ووصل ما وصل. (ع) [.....]
(٢). أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبى هريرة مرفوعا أتم منه. وأخرجه الطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين من رواية ثابت بن عجلان حدثني عطاء عن عائشة رضى الله عنها.
(٣). أخرجه ابن عدى من رواية حسن بن برقة حدثني أبى عن الحسن عن أبى بكرة رفعه «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ والنسيان والأمر المكرهون عليه» هذه من منكرات جعفر. وأخرجه ابن ماجة وابن حبان من حديث ابن عباس. فأما ابن حبان فقال: عن عطاء عن عبيد بن عمير عنه، بلفظ «إن الله تجاوز» وأما ابن ماجة فقال عن الأوزاعى «إن الله وضع»
522
يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند صاحبيه لا يعتق. وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبدا عتق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد «١».
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ في كل شيء من أمور الدين والدنيا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ولهدا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبدلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله ﷺ وصرفهم عنه، لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم «٢» لئلا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أو هو أولى بهم، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وعن النبي ﷺ «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن هلك وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فإلىّ» «٣» وفي قراءة ابن مسعود: النبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أب لهم. وقال مجاهد: كل نبىّ فهو أبو أمّته. ولذلك صار المؤمنون إخوة لأنّ النبي ﷺ أبوهم في الدين وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن، وتحريم نكاحهن: قال الله تعالى وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات، ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: لسنا أمهات النساء «٤». تعنى أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال، لكونهنّ
(١). قوله «وعن العمد إذا تاب العامد» هذا عند المعتزلة، وقد يغفر بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)
(٢). قوله «فأخذ يحجزهم» في الصحاح «حجزة الإزار» : معقده. وحجزة السراويل: التي فيها التكة. (ع)
(٣). أخرجه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبى عمرة عن أبى هريرة رضى الله عنه بمعناه.
(٤). أخرجه الدارقطني من رواية مضر الأعتق حدثني حرفاء قالت: قلت لعائشة «يا أم. فقالت: لست أم النساء، إنما أنا أم الرجال» وفي الطبقات من طريق مسروق قال «قالت امرأة لعائشة: يا أم. فقالت عائشة إنى لست بأمك إنما أنا أم الرجال».
محرّمات عليهم كتحريم أمّهاتهم. والدليل على ذلك: أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات. كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام «١» وعزّ أهله، وجعل التوارث بحق القرابة فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح. أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية. أو في آية المواريث. أو فيما فرض الله كقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يجوز أن يكون بيانا لأولى الأرحام، أى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أى: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
فإن قلت: مم استثنى أَنْ تَفْعَلُوا؟ قلت: من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول:
القريب أولى من الأجنبى إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية. والمراد بفعل المعروف: التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى، لأنه في معنى: تسدوا وتزلوا «٢» والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعا. وتفسير الكتاب: ما مر آنفا، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
وَاذكر حين أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ جميعا مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم وَمِنْكَ خصوصا وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى وإنما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى عَنْ صِدْقِهِمْ عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين. أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم، لأن من قال للصادق: صدقت، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم. وتأويل مسألة الرسل: تبكيت الكافرين بهم، كقوله أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
(١). قوله «دجا الإسلام» في الصحاح: دجا الإسلام، أى: قوى وألبس كل شيء. (ع)
(٢). قوله «لأنه في معنى تسدوا وتزلوا» في الصحاح: أزلت إليه نعمة، أى: أسديتها. وفي الحديث:
«من أزلت إليه نعمة فليشكرها» اه. (ع)
فإن قلت: لم قدم رسول الله ﷺ على نوح فمن بعده «١» قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم «٢»، فلما كان محمد ﷺ أفضل هؤلاء المفضلين: قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه. فإن قلت:
فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية، وهي قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثم قدم على غيره. قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ؟ قلت: على أخذنا من النبيين، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو على ما دل عليه لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
(١). قال محمود: «قدم النبي ﷺ على نوح لأنهم ذكروا تخصيصا بعد التعميم تفضيلا لهم فقدم أفضل المخصوصين» قال أحمد: وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه على ومنهم أحمد المتخير
فأخر ذكر النبي ﷺ ليختم به تشريفا له، وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام على نوح ومن بعده في الذكر: أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك، ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام: جرى ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم، والله أعلم.
(٢). قوله «هم مشاهيرهم وذراريهم» لعله «دراريهم» بالدال المهملة، والدراري: الكواكب العظام، كما أفاده الصحاح. (ع)
525
اذْكُرُوا ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله ﷺ «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور «١» وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا: بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «٢» وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله ﷺ بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «٣» واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر «٤» تَعْمَلُونَ قرئ بالتاء والياء مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا.
وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد: ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا خطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام،
(١). متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(٢). قوله «فأخصرتهم» في الصحاح «الخصر» بالتحريك: البرد. وقد خصر الرجل: إذا آلمه البرد في أطرافه اه، فأخصرتهم: أوقعتهم في الخصر أى البرد. (ع)
(٣). قوله «فرفعوا في الآطام» أى الحصون، وهو جمع أطم كعنق. (ع)
(٤). أخرجه ابن إسحاق في المغازي. ومن طريقه الطبري عن زيد بن رومان عن عروة عن عبد الله بن أبى بكر ومحمد بن كعب وغيرهم من علمائنا، فذكر القصة بطولها وأتم مما هاهنا. وهو في السيرة لابن هشام من قول إسحاق. [.....]
526
والضعاف القلوب: الذين هم على حرف، والمنافقون: الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. وعن الحسن: ظنوا ظنونا مختلفة: ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون، وظنّ المؤمنون أنهم يبتلون. وقرئ: الظنون، بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة، كما زادها في القافية من قال:
أقلّى الّلوم عاذل والعتابا «١»
وكذلك الرسولا والسبيلا. وقرئ بزيادتها في الوصل أيضا، إجراء له مجرى الوقف. قال أبو عبيد: وهنّ كلهنّ في الإمام بألف. وعن أبى عمرو إشمام زاى زلزلوا. وقرئ زلزالا بالفتح. والمعنى: أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
إِلَّا غُرُوراً قيل قائله: معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا «٢»، ما هذا إلا وعد غرور طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظى ومن وافقه على رأيه. وعن السدى عبد الله بن أبىّ وأصحابه. ويثرب: اسم
(١).
أقلى اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
إذا غضبت على بنو تميم وجدت الناس كلهم غضابا
لجرير، وزاد الألف في القافية للإطلاق، وبنو تميم ينشدون مثل ذلك بتنوين الترنم بدل حرف الإطلاق. قال الزمخشري: إذا وصل المنشد ولم يقف، وظاهر كلام النحويين: أنه إنما يجيء في الوقف. وعاذل: منادى، مرخم عاذلة. يقول: اتركي ملامى وعتابى، وإن فعلت صوابا فاعترفى به، ويروى بكسر التاء، فالمعنى: أن لومك خطأ فإذا أردت الصواب فقولي: لقد أصاب، وجعل غضب بنى تميم غضب كل الناس، لأن ما عداهم تبع. أو كالمعدوم.
ويروى: إذا غضبت عليك، والخطاب لكل سامع.
(٢). قوله «فرقا» أى خوفا. (ع)
المدينة. وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها لا مُقامَ لَكُمْ قرئ بضم الميم وفتحها، أى لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون فَارْجِعُوا إلى المدينة: أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا، وإلا فليست يثرب لكم بمكان. قرئ: عورة، بسكون الواو وكسرها، فالعورة: الخلل، والعورة: ذات العورة، يقال: عور المكان عورا إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق.
ويجوز أن تكون عَوْرَةٌ تخفيف: عورة، اعتذروا أنّ بيوتهم معرّضة للعدو ممكنة للسراق، لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة. وقيل: بيوتهم، من قولك: دخلت على فلان داره مِنْ أَقْطارِها من جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفا منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها. وانثالت «١» على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة الْفِتْنَةَ أى الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لأتوها: لجاؤها وفعلوها. وقرئ: لآتوها: لأعطوها وَما تَلَبَّثُوا بِها وما ألبثوا إعطاءها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا، فإن الله يهلكهم. والمعنى: أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله ﷺ والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤهم هولا ورعبا، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا «٢» عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام. وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)
عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله ﷺ ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. وعن محمد بن إسحاق عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعد ما نزل فيهم ما نزل مَسْؤُلًا مطلوبا مقتضى حتى يوفى به لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل. وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم
(١). قوله «وانثالت» في الصحاح: انثال عليه الناس من كل وجه، أى: انصبوا. (ع)
(٢). قوله «لو كبسوا» في الصحاح: كبسوا دار فلان: أغاروا عليها فجأة. (ع)
بالتأخير: لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا. وعن بعض المروانية: أنه مرّ بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٧]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)
فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:
متقلّدا سيفا ورمحا «١»
أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)
الْمُعَوِّقِينَ المثبطين عن رسول الله ﷺ وهم المنافقون: كانوا يقولون لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «٢»، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم وهَلُمَّ إِلَيْنا أى قربوا
(١).
ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
«يا ليت زوجك قد غدا» أى: ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.
(٢). قوله «ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس» أى قليلون يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل، والالتهام:
الابتلاع، كذا في الصحاح. (ع)
529
أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز: يسؤون فيه بين الواحد والجماعة. وأمّا تميم فيقولون:
هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعدّ مثل احضر وقرب قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ إِلَّا قَلِيلًا إلا إتيانا قليلا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطرّوا إليه، كقوله ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولو إذا بك، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير- وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليه. ونصب أَشِحَّةً على الحال أو على الذمّ. وقرئ: أشحة، بالرفع. وصلقوكم بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا. فإن قلت: ما معنى قوله وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف يَحْسَبُونَ أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرّة ثانية، تمنوا لخوفهم مما منوا «١» به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال- لم يقاتلوا إلا تعلة «٢» رياء وسمعة. وقرئ: بدّى، على فعّل جمع باد كغاز وغزّى. وفي رواية صاحب الإقليد: بدىّ، بوزن عدىّ. ويساءلون، أى: يتساءلون. ومعناه. يقول بعضهم لبعض:
ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه: كان عليكم أن تواسوا رسول الله ﷺ بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في
(١). قوله «مما منوا به» أى ابتلوا به. (ع)
(٢). قوله «إلا تعلة» في الصحاح: علله بالشيء، أى: لهاه به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يتجزأ به عن اللبن. يقال: فلان يعلل نفسه بتعلة. (ع)
530
الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب «١». حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢١]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١)
فإن قلت: فما حقيقة قوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقرئ: أسوة، «٢» بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أى: قدوة، وهو الموتسى، أى: المقتدى به، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أى: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع. وهي المواساة بنفسه لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من لكم، كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ يرجو الله واليوم الآخر: من قولك رجوت زيدا وفضله، أى: فضل زيد. أو يرجو أيام الله. واليوم الآخر خصوصا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٢]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال النبي ﷺ لأصحابه: إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا، أى:
في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك «٣». وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء إِيماناً بالله وبمواعيده وَتَسْلِيماً لقضاياه وأقداره،
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
(١). قوله «في مرحى الحرب» أى مكان إدارة رحاها. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وقرئ أسوة بالضم» يفيد أن قراءة الكسر هي المشهورة. (ع)
(٣). لم أجده
531
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ﷺ ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى الله عنهم فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعنى حمزة ومصعبا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» «١» فإن قلت: ما قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت، لأنّ كل حى لا بدّ له من أن يموت. فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أى:
نذره. وقوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يحتمل موته شهيدا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ؟
قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني، إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: صدقنى سنّ بكره. فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل، فلا يخلو ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوبا وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله ﷺ يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله ﷺ «أوجب طلحة «٢» وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب: جعل
(١). أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم من طريق الصلت بن دينار عن أبى نصرة عن جابر. والصلت ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق أولاد طلحة عن طلحة.
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية حرير بن حازم عن عروة في قوله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا- الآية» منهم طلحة بن عبيد الله فذكره. وقد روى مفرقا من غير هذا الوجه. فقضيته أن يده أصيبت. أخرجها البخاري من رواية قيس بن أبى حازم «رأيت بد طلحة شلاء، وفي بها رسول الله ﷺ يوم أحد» والنسائي من طريق عمارة بن غزية عن أبى الزبير عن جابر قال «لما كان يوم أحد كان رسول الله ﷺ في ناحية في اثنى عشر رجلا من الأنصار. فذكر القصة مطولة قوله أوجب طلحة» أخرجها الترمذي وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى والبزار من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه به.
532
المنافقون، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إذا تابوا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الأحزاب بِغَيْظِهِمْ مغيظين، كقوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ. لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصية ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى:
صيصية، ولشوكة الديك، وهي مخلبه التي في ساقه، لأنه يتحصن بها. روى أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال:
ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله ﷺ يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس: أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلى العصر إلا في بنى قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمى؟
فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي ﷺ وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «١» ثم استزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير «٢». وقرئ: الرعب، بسكون
(١). قوله «من فوق سبعة أرقعة» في الصحاح «الرقيع» سماء الدنيا. وكذلك سائر السماوات. وفي الحديث «من فوق سبعة أرقع» على لفظ التذكير، كأنه ذهب إلى السقف. (ع) [.....]
(٢). هو في سيرة ابن هشام في غزوة بنى قريظة عن ابن إسحاق إلى القدر الأخير فأسنده ابن إسحاق عن عاصم ابن عمر عن عبد الرحمن أن عمر بن سعد بن معاذ عن علقمة بن وقاص الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره. وروى أبو نعيم في الدلائل من طريق معاذ بن رفاعة عن أبى الزبير عن جابر رضى الله عنه قال «لما رابطهم رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يغسل رأسه»
533
العين وضمها. وتأسرون، بضم السين. وروى أن النبي ﷺ جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضى الله عنه:
أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله «١» وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها عن الحسن رضى الله عنه: فارس والروم.
وعن قتادة رضى الله عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضى الله عنه: هي خيبر. وعن عكرمة:
كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)
أردن شيئا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله ﷺ فنزلت، فبدأ بعائشة رضى الله عنها- وكانت أحبهنّ إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك، فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «٢». روى أنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ، فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة «٣». وروى أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا «٤». فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لا بد من ذكر النفس في
(١). أخرجه الواقدي من رواية حارثة بن زيد عن أم العلاء قالت «لما غنم رسول الله ﷺ بنى النضير- الحديث» ومن طريق المسور بن رفاعة قال قال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت من بنى النضير الخ؟»
(٢). أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة عن الحسن نحو هذا
(٣). متفق عليه من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عائشة: وزاد ثم فعل أزواج النبي ﷺ مثل ما فعلت»
(٤). أخرجه سالم من رواية أبى الزبير عن جابر في قصة التخيير. وفي آخره «وأسألك أن تخيير امرأة من نسائك. فانه لا تسألنى امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» وفي الصحيحين من رواية معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس- فذكر القصة مطولا. وفي آخره عند مسلم قال معمر فأخبرنا أيوب أن عائشة قالت له لا تخبر نساءك أنى اخترتك. قال: إن الله أرسلنى مبلغا ولم يرسلني متعنتا».
قول الخير أو المخيرة- وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى الله عنها: خيرنا رسول الله ﷺ فاخترناه ولم يعده طلاقا «١». وروى: أفكان طلاقا. وعن علىّ رضى الله عنه. إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء. أصل تعال: أن يقوله من في المكان المرتفع، لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى تعالين: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ، كما تقول: أقبل. يخاصمني، وذهب يكلمني. وقام يهددنى أُمَتِّعْكُنَّ أعطكنّ متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضى الله عنه: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية. حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: المتعة حق مفروض. وعن الحسن رضى الله عنه: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا تنقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: أمتعكنّ وأسرحكنّ بالرفع؟ قلت:
وجهه الاستئناف سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار طلاقا بالسنة مِنْكُنَّ للبيان لا للتبعيض.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)
الفاحشة: السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهرة فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل هي عصيانهن رسول الله ﷺ ونشوزهنّ، وطلبهن منه
(١). متفق عليه باللفظين.
ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل: الزنا، والله عاصم رسوله من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي ﷺ ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابا يتبع كون الفعل قبيحا، فمتى ازداد قبحا. ازداد عقابه شدّة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم: أشدّ منه للعاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إيذان بأن كونهن نساء النبي ﷺ ليس بمغن عنهن شيئا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه. قرئ: يأت، بالتاء والياء. مبينة: بفتح الياء وكسرها، من بين بمعنى تبين. يضاعف، ويضعف: على البناء للمفعول. ويضاعف، ونضعف: بالياء والنون.
وقرئ: تقنت، وتعمل: بالتاء والياء. ونؤتها: بالياء والنون. والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله ﷺ بحسن الخلق، وطيب المعاشرة والقناعة، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٢]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «١» يريد بين
(١). قال محمود: «معناه لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله: ولم يفرقوا بين أحد منهم» قال أحمد: إنما بعثه على جعل التفضيل بين نساء النبي عليه الصلاة والسلام وبين جماعات النساء لا آحادهن: أن يطابق بين المتفاضلين، لأن الأول جماعة، وقد كان مستغنيا عن ذلك بحمل الكلام على واحدة، ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء، أى: كواحدة من النساء، ويلزم من تفضيل كل واحدة منهن على كل واحدة من آحاد النساء تفضيل جماعتهن على كل جماعة، ولا يلزم ذلك في العكس، فتأمله والله أعلم وجاء التفضيل هاهنا كمجيئه في قوله تعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وقوله وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في تقديم الأفضل عند التفضيل، وقد مضت في ذلك نكتة حسنة، والله الموفق.
جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين إِنِ اتَّقَيْتُنَّ إن أردتن التقوى، وإن كنتن «١» متقيات فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجبن بقولكن خاضعا، أى: لينا خنثا مثل كلام المربيات والمومسات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أى ريبة وفجور. وقرئ بالجزم، عطفا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول. ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول، أى: فيطمع القول المريب قَوْلًا مَعْرُوفاً بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٣]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَقَرْنَ بكسر القاف، من وقر يقر وقارا. أو من قرّ يقرّ، حذفت الأولى من رائى:
أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، وقرن: بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان:
وجها آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع. ومنه. القارة، لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش «٢» : اجتمعوا فكونوا قارة. والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام: كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روى: أنّ رسول الله ﷺ قال لأبى الدرداء رضى الله عنه «إن فيك جاهلية» قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال «بل جاهلية كفر» «٣»
(١). قوله «وإن كنتن متقيات» لعله «أو إن» كعبارة النسفي. (ع)
(٢). قوله «إلى قول عضل والديش» في الصحاح «عضل» : قبيلة، وهو عضل بن الهون بن خزيمة أخو الديش، وهما القارة. وفيه أيضا «الديش بن الهون بن خزيمة» وربما قالوه بفتح الدال، وهو أحد القارة، والآخر عضل ابن الهون، يقال لهما جميعا: القارة. (ع)
(٣). لم أجده عن أبى الدرداء، وإنما هو في الصحيحين عن أبى ذر. ولم يقل جاهلية كفر... إلى آخره.
أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاما في جميع الطاعات، لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات: من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن، لئلا يقارف أهل بيت رسول الله ﷺ المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات، فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء. أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أنّ نساء النبي ﷺ من أهل بيته.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٤]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
ثم ذكرهن أنّ بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات تدل على صدق النبوّة، لأنه معجزة بنظمه. وهو حكمة وعلوم وشرائع إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم.
أو علم من يصلح لنبوّته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته. أو حيث جعل الكلام الواحد جامعا بين الغرضين.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
يروى أنّ أزواج النبي ﷺ قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة «١». وقيل: السائلة أم سلمة «٢».
(١). أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية ابن ظبيان عن ابن عباس: «قال النساء: يا رسول الله، ما لنا لا نذكر في القرآن... الحديث».
(٢). أخرجه النسائي من رواية شريك عن محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أم سلمة قالت «يا رسول الله مالى أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرن. فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وأخرجه الطبراني والطبري من وجه آخر عن محمد بن عمر. ورواه أحمد وابن راهويه والنسائي من رواية عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن ابن شيبة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد عن أم سلمة وروى الترمذي عن أم عمارة نحوه.
وروى أنه لما نزل في نساء النبي ﷺ ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ «١» فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله. والمؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به.
والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر:
الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله ولا يخل بالنوافل. وقيل:
من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين. ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين.
والذاكر الله كثيرا: من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما. وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول الله ﷺ «من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» «٢» والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف، لأنّ الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أى فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت: العطف الأوّل نحو قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٦]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)
خطب رسول الله ﷺ زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد الله، فنزلت، فقال: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر «٣». وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أوّل من
(١). أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «دخل نساء من المؤمنات على نساء النبي ﷺ فقلن: قد ذكرنا الله في القرآن- الحديث» وأخرجه ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن قتادة.
(٢). أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من رواية الأغر عن أبى سعيد وأبى هريرة مرفوعا. [.....]
(٣). لم أجده موصولا. وأوله في الدارقطني من رواية الكميت بن زيد الأسدى الشاعر عن مذكور بن زيد الأسدى مولى زينب بنت جحش عن زينب بنت جحش «قالت: خطبنى عدة من قريش. فأرسلت أختى حمنة تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها: أين هي من بعلها؟ كتاب الله- الحديث وإسناده ضعيف.
وليس فيه ذكر مقدار المهر. نعم أخرجه ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان مقطوعا.
هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي ﷺ فقال: قد قبلت، وزوّجها زيدا.
فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجنا عبده «١» والمعنى وما صح لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى رسول الله أو لأنّ قضاء رسول الله هو قضاء الله أَمْراً من الأمور: أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم ولكنهما وقعا تحت النفي، فعما كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ: يكون، بالتاء والياء. والْخِيَرَةُ ما يتخير.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٧]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧)
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك الله فيه، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش رضى الله عنها، وذلك أن رسول الله ﷺ أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك: أرابك منها شيء؟ قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب علىّ زينب. قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر
(١). أخرجه الثعلبي بهذا بغير سند وروى الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من قوله ذلك.
540
إليها، حين علمت أنّ رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى إنّ رسول الله ﷺ يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن «١» زَوَّجْناكَها فتزوجها رسول الله ﷺ ودخل بها، وما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار. فإن قلت: ما أراد بقوله وَاتَّقِ اللَّهَ؟ قلت: أراد: واتق الله فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم، لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها.
وقيل: مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها وسينكحها، لأن الله قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى الله عنها: لو كتم رسول الله ﷺ شيئا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية «٢». فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته، لأن الله يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة، كما جاء في حديث إرادة رسول الله ﷺ قتل عبد الله بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلىّ فأقتله، فقال: إن الأنبياء لا تومض، «٣» ظاهرهم وباطنهم واحد «٤». فإن قلت:
(١). ذكره الثعلبي بغير سند. وأخرج الطبري معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله، وفي الصحيحين عن أنس قصة زينب وزيد مختصرة. وليس فيه مما في أوله.
(٢). متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(٣). قوله «لا تومض» في الصحاح: أو مضت المرأة، إذا سارقت النظر. (ع)
(٤). لم أجده، وفي الدلائل للبيهقي من رواية الحسن بن بشر عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال «أمن رسول الله ﷺ الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس- فذكر الحديث قال «ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد إذا رآه فأتى به عثمان فشفع له، فجعل الأنصارى يتردد ويكره أن يقدم عليه. فبايعه النبي ﷺ ثم قال للأنصارى: قد انتظرتك. قال: يا رسول الله أفلا أرمضت إلى؟ قال: إنه ليس للنبي أن يومض» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة مرسلا. وروى عبد الرزاق من طريق مقسم مولى ابن عباس قال «لما كانت المدة بين رسول الله ﷺ وبين قريش- فذكر الحديث بطوله وفيه «وأمن الناس إلا أربعة. وفيه فجاء عثمان بابن أبى سرح. فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاء فبايعه فقال لقد أعرضت عنه ليقتله بعضكم فقال رجل من الأنصار هلا أومضت إلينا يا رسول الله؟ قال:
إن النبي لا يومض»
وهذا مرسل أيضا وأخرجه أبو داود وغيره من حديث سعد بن أبى وقاص نحو الأول، لكن في آخره «ثم أقبل على أصحابه فقال: أفما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله؟
قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.
541
كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ولا يستهجن النبىّ ﷺ التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن، وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟
ولم يعصم نبيه ﷺ عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله ﷺ بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول الله ﷺ يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ولو أبرز رسول الله ﷺ مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة، «١» فهذا من ذاك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول الله ﷺ متعلقة بها، ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله ﷺ أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمّهات المسلمين. إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً فبالحرى أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات
(١). قوله «ولكان بعض المقالة» لعله: القالة. (ع)
542
في مواطن الحق، حتى يقتدى به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرا. فإن قلت: الواو في وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ ما هي؟ قلت: واو الحال، أى: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشيا قالة الناس وتخشى الناس، حقيقا في ذلك بأن تخشى الله، أو واو العطف، كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك. أمسك، وإخفاء خلافه، وخشية الناس. والله أحق أن تخشاه، حتى لا تفعل مثل ذلك.
إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها وقراءة أهل البيت: زوّجتكها. وقيل لجعفر بن محمد رضى الله عنهما: أليس تقرأ علىّ غير ذلك، فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن علىّ على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي ﷺ إلا كذلك وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه، مفعولا مكونا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله ﷺ زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء «١» أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. ويجوز أن يراد بأمر الله: المكون، لأنه مفعول بكن، وهو أمر الله.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)
فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا. ومنه فروض العسكر لرزقاتهم سُنَّةَ اللَّهِ اسم موضوع موضع المصدر- كقولهم: تربا، وجندلا-:
مؤكد لقوله تعالى ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ كأنه قيل: سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة وسبعمائة فِي الَّذِينَ خَلَوْا في الأنبياء الذين مضوا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ يحتمل
(١). قوله «ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء» لعله في عدم إجراء، ويمكن أن المراد: الحرج الذي يكون في الاجراء والتسوية لو حصل ذلك الاجراء. (ع)
وجوه الاعراب: الجرّ، على الوصف للأنبياء. والرفع والنصب، على المدح على هم الذين يبلغون. أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: رسالة الله. قدرا مقدورا: قضاء مقضيا، وحكما محكوما؟؟؟، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا الله: تعريض بعد التصريح في قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. حَسِيباً كافيا للمخاوف، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون حقّ الخشية من مثله.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٠]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أى لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول أبو أمّته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم. ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وَكان خاتَمَ النَّبِيِّينَ يعنى أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبيا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى أنه قال في إبراهيم حين توفى. لو عاش لكان نبيا «١». فإن قلت: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله مِنْ رِجالِكُمْ من وجهين، أحدهما: أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ، وهما أيضا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده، لقوله تعالى وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما «٢» على الأربعين والآخر على الخمسين. قرئ. ولكن رسول الله بالنصب، عطفا على أَبا أَحَدٍ وبالرفع على: ولكن هو رسول الله. ولكنّ، بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكنّ رسول الله من عرفتموه، أى: لم يعش له ولد ذكر. وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم. وتقوّيه قراءة ابن مسعود: ولكنّ نبيا ختم النبيين. فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه
(١). أخرجه ابن ماجة من طريق مقسم عن ابن عباس في أثناء حديث. وللبخاري من حديث ابن أبى أوفى «ولو قضى أن يكون بعد محمد نبى لعاش ابنه، ولكن لا نبى بعده».
(٢). قوله «نيف أحدهما» أى: زاد. والنيف- بالتشديد والتخفيف-: الزيادة، كذا في الصحاح. (ع)
لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعة محمد، مصليا إلى قبلته، كأنه بعض أمّته.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢)
اذْكُرُوا اللَّهَ أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك بُكْرَةً وَأَصِيلًا أى في كافة الأوقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذكر الله على فم كل مسلم «١». وروى في قلب كل مسلم. وعن قتادة: قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم، وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان، أعنى اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة، والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات، فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين، لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤفا. كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم: صلى الله عليك، أى ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
(١). لم أجده بهذا اللفظ. وروى الدارقطني والبيهقي وابن عدى من حديث أبى هريرة قال «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى؟ قال: اسم الله على فم كل مسلم» وفيه مروان بن سالم.
وهو ضعيف جدا.
إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف «١»، فما تصنع بقوله: وَمَلائِكَتُهُ وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك الله، أى أحياك وأبقاك، وحييتك، أى:
دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك الله، وعمرتك، وسقاك الله، وسقيتك، وعليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أى ادعوا الله بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف: حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة لِيُخْرِجَكُمْ من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر رضى الله عنه: ما خصك يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزلت تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أى: يحيون يوم لقائه بسلام، فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ والأجر الكريم: الجنة.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)
شاهِداً على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أى: مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة، كمسئلة الكتاب:
مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أى: مقدرا به الصيد غدا، فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله بِإِذْنِهِ؟ قلت: لم يرد
(١). قال محمود: «إن جعلت يصلى بمعنى يرحم فما بال عطف الملائكة عليه، فأجاب بأنهم لما كانوا يدعون الله بالرحمة ويستجيب دعاءهم بذلك، جعلوا كأنهم فاعلون الرحمة، كما تقول: حياك الله، بمعنى أحياك، ثم تقول حييته، بمعنى دعوت الله له بالحياة، والمقصد بذلك جعل الحياة محققة له، كأنك قلت: دعوت له بالحياء فاستجيبت الدعوة» قال أحمد: كثيرا ما يفر الزمخشري من اعتقاد إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد، وقد التزمه هاهنا، ولكن جعل الصلاة من الله حقيقة، ومن الملائكة مجازا، لأنه حملها على الرحمة. وأما غيره فحملها على الدعاء، وجعلها من الملائكة حقيقة، ومن الله مجازا، والله أعلم.
به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارا للتسهيل والتيسير، لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلا لما تعذر من ذلك، وضع موضعه، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل: بإذنه، للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله الله ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذون له في الإنفاق، أى: غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقا عليه داخلا في حكم التعذر. جلى به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليا سراجا منيرا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف أَرْسَلْناكَ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٧]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)
الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب. ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أنّ لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة الله، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٨]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه. أو التهييج أَذاهُمْ يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول. يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي منسوخة بآية السيف وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوّضا إليه، ولقائل أن يقول: وصفه الله بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له، قابل الشاهد بقوله: وبشر المؤمنين، لأنه يكون شاهدا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر- والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى الله
بتيسيره بقوله وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأنّ من توكل على الله يسر عليه كل عسير، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا، لأن من أناره الله برهانا على جميع خلقه، كان جديرا بأن يكتفى به عن جميع خلقه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له، من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما، لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابه «١»
سمى الماء بأسنمة الآبال، لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشى والإتيان. فإن قلت: لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به: أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب.
وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة ثم في قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم: بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها: فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟
(١).
أقبل كالمستن من ربابه كأنما الوابل في مصابه
أسنمة الآبال في سحابه
يصف مطرا بالكثرة والثروة. ويقال: استن الفرس، إذا قمص ولعب، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما تارة ورجليه أخرى على التعاقب. وقمص البحر بالسفينة: إذا حركها، فرفع مقدمها تارة ومؤخرها أخرى، فالمستن:
اسم فاعل منه، واستعير للسحاب: إذ أقبل يتحرك وفيه المطر. والرباب: السحاب الأبيض المتلاصق. وضمير «أقبل» و «ربابه» للمطر. والوابل: إظهار في مقام الإضمار، للدلالة على الكثرة. وفي مصابه: حال له. وأسنمة الآبال: مبتدأ. وفي سحابه: خبر، والجملة خبر الوائل، وأطلق الأسنمة على الماء لأنه سبب سمنها، والمصاب:
مصدر على زنة المفعول. الوابل: المطر الشديد الوقع. والأسنمة: جمع سنام. والآبال- بمد الهمزة-: جمع الإبل
قلت، نعم عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك. كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ: تعتدونها، مخففا، أى: تعتدون فيها «كقوله:
ويوم شهدناه «١»

والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا. فإن قلت: ما هذا التمتيع أواجب أم مندوب إليه؟ قلت إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها، فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة. وبعض على الوجوب سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار ولا منع واجب.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
أُجُورَهُنَّ مهورهنّ، لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلا. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ومِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ واللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزا، وله أن
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٠٨ فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
549
يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره، وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب. والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة:
ما سبى من أهل الحرب. وأما من كان له عهد فالمسبى منهم سبى خبثة، ويدل عليه قوله تعالى مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام «١»، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله ﷺ من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانى بنت أبى طالب: خطبنى رسول الله ﷺ فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحلّ له، لأنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء «٢». وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك، فعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يكن عند رسول الله ﷺ أحد منهنّ بالهبة. وقيل الموهوبات أربع:
ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم- رضى الله عنهن. قرئ إِنْ وَهَبَتْ على الشرط. وقرأ الحسن رضى الله عنه إِنْ بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرا محذوفا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، بمعنى وقت دوامه جالسا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير أن. فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة: إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت:
للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة: لأنّ رسول الله ﷺ وأمّته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول الله ﷺ بمعنى الهبة ولفظها جميعا لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعى
(١). قوله «كما أن رزق الله يجب إطلاقه على الحلال» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيطلقونه على القسمين. (ع)
(٢). أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق والطبري والطبراني وابن أبى حاتم كلهم من رواية السدى عن أبى صالح عنها
550
للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وقال أبو بكر الرازي: لا يصح، لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان خالِصَةً مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله، أى: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج والقاعد، والعافية والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله ﷺ على سبيل التوكيد لها قوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بعد قوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وهي جملة اعتراضية، وقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متصل بخالصة لك من دون المؤمنين، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أى حدّ وصفة يجب أن يفرض عليهم ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله ﷺ بما اختصه به ففعل ومعنى لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ لئلا يكون عليك ضيق في دينك:
حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك: حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: خالصة، بالرفع، أى: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للواقع في الحرج إذا تاب رَحِيماً بالتوسعة على عباده. روى أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهنّ شهرا، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت «١». وروى أن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله إنى أرى ربك يسارع في هواك «٢» تُرْجِي بهمز وغير همز: تؤخر وَتُؤْوِي تضمّ، يعنى: تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء. أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء.
(١). هذا ملفق من أحاديث. فأوله عند مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر قال «دخل أبو بكر على النبي ﷺ والناس على الباب جلوس... الحديث» وفيه قول أبى بكر وعمر قال «فضحك رسول الله ﷺ وقال: هن حولي كما ترى يسألننى النفقة- فذكر الحديث- وفيه: فأنزل الله آية التخيير» وقوله «وهجرهن شهرا» هذا هو من حديث عائشة في الصحيحين. وقوله «تأشفقن أن يطلقهن- إلى آخره» أخرجه ابن أبى شيبة من رواية رزين أن النبي ﷺ أراد أن يفارق نساءه فقلن له: اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا» وهذا مرسل. وروى ابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن مجاهد قال كان للنبي ﷺ تسع نسوة وخشين أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا. فنزلت تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية
(٢). متفق عليه من حديث هشام عن أبيه عن عائشة في أثناء حديث ووهم الحاكم فاستدركه
551
أولا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت. أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوّج من شئت. وعن الحسن رضى الله عنه: كان النبي ﷺ إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. روى أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضى الله عنهن أرجى خمسا وآوى أربعا «١». وروى أنه كان يسوّى مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك «٢» ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا، لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء. وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى. وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه- اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا وقرّت العيون، وسلت القلوب وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبر الله من ذلك وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على تواطئ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله ﷺ وما فيه طيب نفسه. وقرئ: تقرّ أعينهنّ، بضم التاء ونصب الأعين. وتقرّ أعينهن، على البناء للمفعول وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر، كُلُّهُنَّ تأكيد لنون يرضين، وقرأ ابن مسعود: ويرضين كلهن. بما آتيتهنّ. على التقديم. وقرأ: كلهن، تأكيدا ل «هن» في آتَيْتَهُنَّ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٢]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
لا يَحِلُّ وقرئ بالتذكير، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى
(١). أخرجه ابن أبى شيبة عن جرير وعبد الرزاق عن معمر كلاهما عن منصور عن أبى رزين وهذا مرسل.
(٢). أما كونه كان يسوى فمن حديث عائشة رضى الله عنها «كان يقسم فيعدل» وأما قصة سودة فروى الترمذي عن ابن عباس «أن سودة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل» وفي الطيراني من رواية ابن أبى الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «ما كان رسول الله ﷺ يفضل بعضنا على بعض في القسم. وكان قل يوم إلا وهو يطيف بنا ويدنو من كل واحدة منا من غير مسيس حتى ينتهى إلى التي هي يومها فيبيت عندها، ولقد قالت له سودة بنت زمعة وقد أراد أن يفارقها: يومى منك وتصيبى لعائشة. فقبل ذلك منها، وفيها نزلت وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية».
552
وَقالَ نِسْوَةٌ كان مع الفصل أجوز مِنْ بَعْدُ من بعد التسع، لأنّ التسع نصاب رسول الله ﷺ من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهنّ أو بعضهن، أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر النبىّ ﷺ عليهنّ، وهي التسع «١» اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر. حفصة بنت عمر. أمّ حبيبة بنت أبى سفيان. سودة بنت زمعة. أمّ سلمة بنت أبى أمية. صفية بنت حيي الخيبرية. ميمونة بنت الحرث الهلالية. زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى الله عنهن «٢». من في مِنْ أَزْواجٍ لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل معناه: لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى أنّ عيينة بن حصن دخل على النبىّ ﷺ وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة، أين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أمّ المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قد حرّم ذلك. فلما خرج قالت عائشة رضى الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه- على ما ترين- لسيد قومه «٣». وعن عائشة رضى الله عنها:
ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل له النساء، يعنى: أنّ الآية قد نسخت «٤»،
(١). قوله «وهي التسع» لعله «وهن». (ع)
(٢). هذا مجمع عليه كما قال الواقدي وغيره، لكن اختلف في ريحانة وروى ابن أبى خيثمة عن الزهري وعن قتادة وقال أبو عبيد: صح عندنا وثبت أن رسول الله ﷺ تزوج خديجة فلم يتزوج عليها حتى ماتت، ثم تزوج سودة، ثم عائشة، ثم أم سلمة. ثم حفصة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية، ثم أم حبيبة، ثم صفية ثم ميمونة، ثم فاطمة بنت سريج، ثم زينب بنت خزيمة، ثم هند بنت يزيد، ثم اسماء بنت النعمان، ثم هيلة بنت قيس أخت الأشعث. ثم أسماء بنت سبأ» وقال الواحدي: والمجمع عليه أنه تزوج أربع عشرة: التسع التي مات عنهن وتزوج أيضا خديجة وزينب بنت خزيمة وريحانة ومتن عنده، وتزوج أيضا فاطمة بنت الضحاك وأسماء بنت النعمان ولم يدخل بهما.
(٣). أخرجه البزار من حديث أبى هريرة بهذا وأتم منه وفيه إسحاق بن عبد الله القروي وهو متروك. وله شاهد من حديث جرير أخرجه الطبراني، وآخر عن عائشة أخرجه ابن سعد.
(٤). أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق والنسائي وأبو يعلى والطبري والبزار وابن حبان والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها بالحديث دون التفسير وأخرجه ابن أبى حاتم وابن سعد من حديث أم سلمة رضى لله عنها.
553
ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف وَلَوْ أَعْجَبَكَ في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في تَبَدَّلَ لا من المفعول الذي هو مِنْ أَزْواجٍ لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضا إعجابك بهنّ. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ، واستثنى ممن حرم عليه: الإماء رَقِيباً حافظا مهيمنا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم. وغَيْرَ ناظِرِينَ حال من لا تَدْخُلُوا وقع الاستثناء على الوقت والحال معا. كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي ﷺ إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه:
لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام، إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي ﷺ إلا أن يؤذن له إذنا خاصا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة أنه قرأ: غير ناظرين، مجرورا صفة لطعام، وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وإنى الطعام: إدراكه.
يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى. ومنه قوله بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ بالغ إناه. وقيل إِناهُ:
وقته، أى: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله. وروى أن رسول الله ﷺ أو لم على زينب بتمر وسويق وشاة، وأمر أنسا أن يدعو بالناس، فترادفوا أفواجا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال:
ارفعوا طعامكم وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا: فقام رسول الله صلى الله
554
عليه وسلم ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له، ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله ﷺ شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع «١» ونزلت: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به. أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور معطوف على ناظرين. وقيل:
هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لا بد في قوله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من تقدير المضاف، أى: من إخراجكم، بدليل قوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعنى أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قيل لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وعن عائشة رضى الله عنها: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فإذا طعمتم فانتشروا «٢». وقرئ:
لا يستحى، بياء واحدة. الضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن مَتاعاً حاجة فَسْئَلُوهُنَّ المتاع. قيل: إن عمر رضى الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، «٣» فنزلت. وروى أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد «٤» فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى الله عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا
(١). متفق عليه من حديث أنس وله طرق عندهما وألفاظ.
(٢). أخرجه الثعلبي من طريق العلاء سمعت عائشة بهذا. قلت: كذا بخط المخرج. وهو غلط واضح جدا.
فان العلاء إنما يروى عن ابن عائشة صاحب النوادر ولم يدرك أصحاب أصحابه عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فضلا عنها ولعله كان في الأصل ابن عائشة فسقط ابن
(٣). متفق عليه من حديثين هذا أحدهما. أخرجه النسائي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني في الصغير من طريق مجاهد عن عائشة قالت «كنت آكل مع النبي ﷺ حيسا في قصعة فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه أصبعى، فقال عمر: أواه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب» ورواه ابن أبى شيبة والطبري من طريق مجاهد مرسلا وصوبه الدارقطني في العلل والثاني أخرجه النسائي أيضا من طريق أنس عن عمر رضى الله عنه قال «قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب وأصله في الصحيح.
(٤). أخرجه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي قال «مر عمر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم»
فذكره [.....]
555
إلا يسيرا حتى نزلت. وقيل: إنّ رسول الله ﷺ كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي ﷺ ذلك، «١» فنزلت آية الحجاب.
وذكر أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم الله أن ذلك محرم «٢» وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم إيذاء رسول الله ﷺ ولا نكاح أزواجه من بعده. وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيا وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا، «٣» فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها، تصورا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة، فصين رسول الله ﷺ عما يلاحظ ذلك.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٤]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من نكاحهن على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ يعلم ذلك فيعاقبكم به، وإنما جاء به على أثر ذلك عاما لكل باد وخاف، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٥]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
(١). وهو في حديث النسائي الذي قدمناه أولا.
(٢). أخرجه ابن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن ابن أبى عون عن ابن بكر بن حزام في هذه الآية نزلت في طلحة قال: إذا توفى رسول الله ﷺ تزوجت عائشة» وقال عبد الرزق أخبرنا معمر عن قتادة أن رجلا قال «لو قد مات محمد لأتزوجن عائشة رضى الله عنها» فأنزل الله تعالى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية» وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية داود عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال «نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم- الحديث» من طريق السدى أن الذي عزم على ذلك عائشة رضى الله عنها.
(٣). قوله «لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا» في الصحاح: فلان مستهتر بالشراب، أى: مولع به، لا يبالى ما قيل فيه. (ع)
روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب، فنزلت لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ أى لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبا.
قال الله تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وإسماعيل عم يعقوب. وقيل. كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد. فقيل وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه وفيما استثنى منه ما قدرتن. واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات، ليفضل سركن علنكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه شَهِيداً لا يتفاوت في علمه الأحوال.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٦]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
قرئ: وملائكته بالرفع، عطفا على محل إن واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين. أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا أى قولوا الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول الله ﷺ واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها. فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل علىّ فدخل النار فأبعده «١» الله» ويروى أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله وكل بى ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته
(١). أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي ﷺ صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين قال: إن جبريل أتانى فذكر الحديث وفيه «ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله» وفي الباب عن مالك بن الحويرث عند ابن حبان والطبراني. وعن ابن عباس في الطبراني وكذلك عن جابر بن سمرة وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وعن بريدة عند إسحاق بن راهويه وعن عمار بن ياسر عند البزار وعن جابر بن عبد الله عند البيهقي في الشعب.
557
لذينك الملكين: آمين» «١» ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط. الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار «٢». فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطا. وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك- يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وقوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقوله ﷺ «اللهم صل على آل أبى أوفى» «٣» ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك: وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى الله على النبي وآله، فلا كلام فيها. وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأن ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم «٤»
(١). أخرجه الطبراني وابن مردويه والثعلبي من حديث الحسن بن على. وفيه الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك.
(٢). ومنها حديث أبى هريرة رفعه «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي وابن حبان، وفي الباب عن كعب بن عجزة أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب. وعن جابر في الأدب المفرد للبخاري، وفي الطبراني الأوسط. وعن عبد الله بن الحارث بن جزء في كتاب فضل الصلاة على النبي ﷺ لابن أبى عاصم ومنها حديث على رضى الله عنه «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي من طريق عمارة بن غزية عن عبد الله بن على بن حسين عن أبيه عن حسين بن على عن على رضى الله عنه، وأخرجه النسائي وابن حبان من هذا الوجه بغير ذكر على. وأخرجه الحاكم من هذا الوجه فقال عن عبد الله بن على بن الحسين عن أبى هريرة ومنها حديث أنس رفعه «من ذكرت عنده فليصل على فمن صلى على مرة صلى الله عليه عشرا» أخرجه النسائي. ومنها حديث ابن عباس- رفعه- «من نسى الصلاة علىّ خطئ طريق الجنه» أخرجه ابن ماجة. وله طريق أخرى عن الحسين بن على عند الطبراني. وأخرى عند البيهقي في القضايا من المعرفة عن أبى هريرة وأخرى عند ابن إسحاق وابن يعلى عن أبى ذر بلفظ «إن أضل الناس من ذكرت عنده فلم يصل على، ومنها حديث عمر رضى الله عنه قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم» أخرجه الترمذي والبيهقي في الشعب عن على نحوه ومنها حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه- رفعه «من صلى على صلت عليه الملائكة ما صلى على، فليقل من ذلك أو ليكثر، أخرجه ابن ماجة، والأحاديث في فضل الصلاة على النبي ﷺ كثيرة جدا.
(٣). متفق عليه. وقد تقدم في سورة براءة
(٤). تقدم في يوسف
558

[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيه وجهان، أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه:
من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوّة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله ﷺ من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازا فيهما جميعا. وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله ﷺ لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة. والثاني: أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في أذى الله: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول الله ﷺ فيما حكى عن ربه «شتمني ابن آدم ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني. فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدا. وأما أذاه فقوله: إن الله لا يعيدني بعد أن بدأنى» وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله «١»، وقيل في أذى رسول الله ﷺ قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي، وأطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا.
وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه. ومعنى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية واستحقاق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا رضى الله عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى الله عنها. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات.
وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف «٢» وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمّة، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل.
(١). أخرجه الطبري من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. ومن حديث ابن عباس رضى الله عنهما نحوه.
(٢). «فكيف» عبارة النسفي: فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات. (ع)
وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد:
مجلبب من سواد اللّيل جلبابا «١»
ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يرخينها عليهنّ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ. يقال:
إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهنّ في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرّضوا للحرّه بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أى أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى مِنْ في مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهنّ من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين.
وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهنّ، أراد بالانضمام معنى الإدناء وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط مع التوبة «٢»، لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
(١).
أهلا بضيف أنى ما استفتح البابا مجلبب من سواد الليل جلبابا
لأبى زبيد. وأهلا: مفعول لمحذوف وجوبا، أى: أتيت أهلا. وبضيف: متعلق بمحذوف، أى. أرحب بضيف:
ويجوز تعلقه بأهلا، لأن فيه معنى الترحيب. وما: مصدرية، أى: مدة استقامة الباب. والمراد منه التعميم، أى: في أى وقت يطلب فتح الباب: وصفه بالآتى في سواد الليل، مبالغة في التمدح بالكرم. ويجوز؟؟؟ أن الضيف محبوبته، فيكون الليل استزلها؟؟؟. وشبه استتار ضيفه بظلام الليل يلبس اللباس، والتجوز في الجلببة أو في الجلباب على طريق التصريحية، ويجوز لأن ما نافية، وعلى هذا فيصح أن يكون خطابا لملك الموت، حيث دخل ولم يطلب فتح الباب، وإن كان الضيف والحبيب قد يفعلان ذلك أيضا
(٢). قوله «لما سلف لعنهن من التفريط مع التوبة» هذا عند المعتزلة. أو بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)
560
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَالْمُرْجِفُونَ ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا، إذا أخبر به على غير حقيقة، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء:
لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم «١»، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إِلَّا زمنا قَلِيلًا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم «٢»، فسمى ذلك إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز مَلْعُونِينَ نصب على الشتم أو الحال، أى: لا يجاورونك إلا ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مرّ في قوله إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا يصح أن ينتصب عن أُخِذُوا لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في قَلِيلًا وهو منصوب على الحال أيضا. ومعناه. لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع لا يجاورونك؟ قلت:
لا يجاورونك عطف على لنغرينك، لأنه يجوز أن يجاب به القسم. ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. فإن قلت: أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابا آخر للقسم معطوفا على الأوّل، وإنما عطف بثم، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه سُنَّةَ اللَّهِ في موضع مصدر مؤكد، أى: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل: يعنى كما قتل أهل بدر وأسروا.
(١). قوله «الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم» في الصحاح، يقال: له عندي ما ساءه وناءه، أى أثقله، وما يسوؤه وينوؤه، وقال بعضهم أراد ساءه وناءه وإنما قال ناءه وهو لا يتعدى لأجل ساءه، ليزدوج الكلام. (ع)
(٢). قال محمود: «المراد بقوله تعالى إِلَّا قَلِيلًا ريثما يلتقطون عيالاتهم وأنفسهم لا غير» قال أحمد: وفيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي، يمهل ربّما؟؟؟ ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان، حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد، والله أعلم. [.....]
561

[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٣]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣)
كان المشركون يسألون رسول الله ﷺ عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول الله ﷺ بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، وإسكانا للممتحنين قَرِيباً شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
السعير: النار المسعورة الشديدة الإيقاد.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٦]
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦)
وقرئ: تقلب، على البناء للمفعول. وتقلب، بمعنى تتقلب. ونقلب، أى: نقلب نحن.
وتقلب، على أن الفعل للسعير «١». ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها. أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف يَقُولُونَ أو محذوف. وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان يَقُولُونَ حالا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
وقرئ: سادتنا وساداتنا: وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضلّ السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت: جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ: كثيرا، تكثيرا لإعداد اللعائن. وكبيرا، ليدل على أشد اللعن وأعظمه ضِعْفَيْنِ ضعفا لضلاله وضعفا لإضلاله: يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك.
(١). قوله «على أن الفعل للسعير، يعنى: وجوههم، بالنصب. (ع)

[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٩]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩)
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل: في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها، وقيل: اتهامهم إياه بقتل هرون، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيب «١» في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم الله على أنه بريء منه وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة. وكان عبد الله وجيها. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله، كقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله مِمَّا قالُوا معناه: من قولهم، أو من مقولهم، لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فكيف تصح البراءة منه؟ قلت المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه، وهو الأمر المعيب. ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة «٢»، والقالة بمعنى القول؟
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٠ الى ٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا
(١). قوله «وقيل قرفوه بعيب» في الصحاح: قرفت الرجل، أى: عبته، ويقال: هو يقرف بكذا، أى:
ترمى برؤيتهم. (ع)
(٢). قوله «ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة» في الصحاح: صار هذا الأمر سبة عليه- بالضم، أى: عارا (ع)
563
فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعث على أن يسد قولهم «١» في كل باب لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وعلق بالطاعة الفوز العظيم، أتبعه قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان، أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها- وهو ما يتأتى من الجمادات- وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها- حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وأما الإنسان فلم تكن حاله- فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد:
أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل:
أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه وترفضّ عند المحفظات الكتائف «٢»
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه،
(١). قوله «على ان يسد قولهم» في الصحاح: سد قوله يسدّ- بالكسر-: أى صار سديدا. (ع)
(٢). للقطامى. وقبل: لذي الرمة. وحس له حسا: رق له وعطف. والحس أيضا: العقل والتدبير والنظر في العواقب، والارفضاض من الترشرش والتناثر، وأحفظه إحفاظا: أغضبه، فالمحفظات: المغضبات. والكتائف:
جمع كتيفة، وهي الضغينة والحقد. يقول: أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة، بل يبذلها لك. أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأنى، بل يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك، لأنها تغضبه أيضا.
564
فمعنى: فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه: أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس «١» بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟
لقال: أسوى العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله- في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما- بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب.
وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات: مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في لِيُعَذِّبَ لام التعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ: ويتوب الله «٢». ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر، والله أعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر «٣» ».
(١). قوله «ثم خاس بضمانه فيها» في الصحاح: خاس به يخيس ويخوس، أى: غدر به يقال: خاص بالعهد، إذ نكث. (ع)
(٢). قوله «ويتوب» أى بالرفع، كما في النسفي. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
565
Icon