تفسير سورة الأحزاب

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنية، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفاً، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وثلاث وسبعون آية.
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبدالله البصري قالا : قال محمد بن عبد الوهاب العبدي، عن أحمد بن عبدالله بن يونس، عن سلام بن سليم، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ( أبي أُمامة ) عن أُبَي بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه :( من قرأ سورة الأحزاب وعلَّمها أهله وما ملكت يمينه أُعطي الأمان من عذاب القبر ).

[الجزء الثامن]

سورة الأحزاب
مدنية، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وثلاث وسبعون آية.
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: قال محمد بن عبد الوهاب العبدي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سلام بن سليم، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن [أبي أمامة] عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» [١] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآية
نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن [أبي] سفيان السلمي، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطّاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل: إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا يا رسول
(١) تفسير مجمع البيان: ٨/ ١١٥.
5
الله في قتلهم، فقال النبي (عليه السلام) :«إنّي قد أعطيتهم الأمان» [٢]، فقال عمر بن الخطّاب: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبيّ صلّى الله عليه عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ] «١» [٣].
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكّة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة وَالْمُنافِقِينَ عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بالياء. أبو عمرو، وغيره بالتاء.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا
أخبرني ابن فنجويه، عن موسى بن علي [عن الحسن ابن علويه]، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن شيخ من أهل الشام قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن [يمتعهم] باللات والعزّى سنة وقالوا:
لتعلم قريش منزلتنا منك، فهمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك «٢»، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآيات.
قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر جميل [بن معمر] بن حبيب بن عبد الله الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلّا وله قلبان. وكان يقول: إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلّق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك، فقال له أبو معمر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «٣».
وقال الزهري ومقاتل: هذا مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته، وللمتبنّي ولد غيره، يقول:
فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمّه حتى يكون له أمّان، ولا يكون ولد أحد ابن رجلين.
قوله: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ أبو جعفر وأبو عمر وورش اللَّاء بغير مدّ ولا همز، ممدودة مهموزة بلا ياء، نافع غير ورش وأيّوب ويعقوب والأعرج، وأنشد:
(١) أسباب النزول للواحدي: ٢٣٦.
(٢) معاذ للنبي صلّى الله عليه وسلم أن يهمّ بذلك، إما لأنه لا ينطق عن الهوى، وإما لأنه ينافي التوحيد فكيف يرضى بعبادة غير الله تعالى.
(٣) مجمع البيان: ٨/ ١١٧.
6
من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفّلا «١»
وقرأ أهل الكوفة والشام بالمدّ والهمز وإثبات الياء واختاره أبو عبيد للإشباع واختلف فيه، عن ابن كثير وكلّها لغات معروفة تُظاهِرُونَ بفتح التاء وتشديد الظاء شامي. بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم، واختاره أبو عبيد بضمّ التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن.
قال أبو عمرو: هذا منكر لأنّ المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون: هنّ علينا كظهور أمّهاتنا في الحرام كما تقولون، ولكنّها منكم معصية وفيها كفّارة وأزواجكم لكم حلال، وسنذكر القصّة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله.
قوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ يعني من تبنّيتموه أَبْناءَكُمْ
نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ودّ، كان عبدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب في الإسلام، فجعل الفقير أخا للغني ليعود عليه، فلمّا تزوّج النبي صلّى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة، فقالت اليهود والمنافقون: تزوج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات
وقال: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ولا حقيقة له، يعني قولهم: زيد ابن محمّد وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الذين ولدوهم هُوَ أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ إن كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم.
أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال أبو بكر: قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فأنا ممّن لا يعرف أبوه، وأنا من إخوانكم في الدين. قال: قال أبي إنّي لأظنّه لو علم أنّ أباه كان حمارا لانتمى إليه وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه، وقال قتادة: يعني أن تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنّه كذلك وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي، وأنتم تعلمون أنّه ليس بابنه. ومحلّ ما في قوله: ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا على (ما) التي في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ومجازه: ولكن في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من ادّعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليه لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [٤] «٢».
(١) لسان العرب: ١٥/ ٤٤٥، تفسير القرطبي: ٥/ ١٠٨.
(٢) صحيح مسلم: ٤/ ١١٥ بتفاوت، سنن ابن ماجة: ٢/ ٩٠٥، سنن أبي داود: ٢/ ٥٠٢.
7
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى قال: أخبرني أبو صالح، حدّثني الليث، حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- كان ممّن شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم- تبنّى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبنّاه، كما تبنّى رسول الله صلّى عليه زيدا وكان من تبنّى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتّى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦ الى ٨]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
قوله عزّ وجلّ: النَّبِيُّ أَوْلى أحقّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أن يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم.
قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم، وقال مقاتل: يعني طاعة النبي (عليه السلام) أولى من طاعة بعضكم لبعض، وقال ابن زيد: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كما أنت أولى بعبدك، فما قضى فيهم من أمر، جار، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار. وقيل: إنّه (عليه السلام) أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد. وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى، وقال بسام بن عبد الله العراقي: لأنّ أنفسهم تحترس من نار الدّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العقبى.
وروى سفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أب لهم.
وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم. فقال: يا غلام حكّها. قال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق
8
في الأسواق. وقال عكرمة: أخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل: وهو أبوهم.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي قال: أخبرني أبو عامر وشريح قالا: قال [فليح] بن سليمان، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبيّ صلّى الله عليه، قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن هلك «١» وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فإنّي أنا مولاه» [٥] «٢».
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يعني كأمّهاتهم في الحرمة، نظيره قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «٣» أي كالسماوات، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إن طلّق ولا بعد وفاته، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أمّه، ودليل هذا التأويل أنّه لا يحرم على الولد رؤية الأمّ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ، فعلموا أنّهن أمّهات المؤمنين من جهة الحرمة، وتحريم نكاحهنّ عليهم.
روى سفيان، عن خراش، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت امرأة لعائشة: يا أمّاه، فقالت: أنا لست بأمّ لك إنّما أنا أمّ رجالكم.
قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعني في الميراث.
قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات.
وقال الكلبي: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الناس، وكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين آخى رسول الله بينهم وَالْمُهاجِرِينَ فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات
، وقيل: أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة.
ثمّ قال: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يعني: إلّا أن توصوا لذوي قرابتكم من
(١) في المصدر: مات. [.....]
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٣٣٤، وصحيح البخاري: ٣/ ٨٥ ط. اسلامبول ١٤٠١ هـ.
(٣) سورة آل عمران: ١٣٣.
9
المشركين فتجوز الوصية لهم، وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة. وقال ابن زيد ومقاتل: يعني: إلّا أن توصوا لأوليائكم من المهاجرين. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة كانَ ذلِكَ الذي ذكرت من أنّ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وأنّ المشرك لا يرث المسلم فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا. وقال القرظي: في التوراة.
قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ على الوفاء بما حمّلوا، وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدّق بعضهم بعضا. وَمِنْكَ يا محمّد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنّهم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل وأئمّة الأمم.
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
أخبرنا الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن هارون بن محمد بن بكار، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه قال:
«كنت أوّل النّبيّين في الخلق، وآخرهم في البعث» [٦] «١»، قال: وذلك قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
فبدأ به صلّى الله عليه قبلهم. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ١٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الآية، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه أيّام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب، قريش وغطفان
(١) الدر المنثور: ٥/ ١٨٤.
10
ويهود بني قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعني الصبا. قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي بنصر رسول الله صلّى الله عليه، فقالت الشمال: إنّ الحرة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي أرسلت عليهم هي الصبا.
قال رسول الله صلّى الله عليه: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور «١».
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قال المفسّرون: بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، فأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتّى كان سيّد كلّ حيّ يقول: يا بني فلان هلمّ إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النجا النجا أتيتم، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال.
أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرني أبو الحسن السليطي قال: أخبرني المؤمل ابن الحسن، عن الفضل بن محمد الأشعراني «٢» عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقّال، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة، حدّثني محمد بن يسار، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرطي قالا: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنّا نجهد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: يا بن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق في ليلة باردة، لم أجد قبلها ولا بعدها بردا أشدّ منه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل ثمّ التفت إلينا فقال: «من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة» [٧] «٣».
فما قام منّا رجل، ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم وما قام منّا رجل. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنّة؟ فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد، فلمّا لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: يا حذيفة، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقلت: لبّيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإنّ
(١) مسند أحمد: ٢/ ٢٢٨، صحيح البخاري: ٢/ ٢٢.
(٢) في نسخة أصفهان: الشعراني.
(٣) كنز العمال: ١٠/ ٤٤٩، الدر المنثور: ٥/ ١٨٥.
11
جنبيّ لتضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثمّ قال: ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع إليّ.
ثمّ قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي، ثمّ انطلقت أمشي نحوهم كأنّي أمشي في حمّام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحا فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم، ولم تدع شيئا إلّا أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذت سهمي فوضعته في كبد قوسي، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه: لا تحدثنّ حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي.
فلمّا رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال: يا معشر قريش ليأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت؟ قال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هوازن.
فقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإنّي مرتحل ثمّ قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه كأني أمشي في حمّام، فأخبرته الخبر فضحك عليه السلام حتّى بدت أنيابه في سواد الليل قال:
وذهب عنّي الدفء فأدناني النبيّ عليه السلام فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه.
قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريضة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق، فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه بني النضير عن ديارهم.
قال محمد بن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير، عن عروة بن الزبير ومن لا أتّهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن غيرهم من علمائنا، دخل
12
حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمّار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزّموا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكّة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ منهم، قال: فهم الذين أنزل الله فيهم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً «١» فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجمعوا لذلك، واستعدّوا له، ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك، وأجمعوا فيه، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحريث بن عون بن أبي جارية المرّي في بني مرّة، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلمّا سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه، وهو يومئذ حرّ. وقال: يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى أحكموه.
وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا: فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا [بذنب نقمى] إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك، فلمّا سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي: يا كعب افتح
(١) سورة النساء: ٥١. ٥٥.
13
لي، فقال: ويحك يا حيي، إنّك امرؤ ميشوم، إنّي قد عاهدت محمّدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلّمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن غلقت دوني إلّا على حشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال: يا كعب، ويحك جئتك بعزّ الدهر، وبحر طم، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّد ومن معه.
فقال له كعب بن أسد: جئتني والله بذلّ الدهر، بمجهام قد اهراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمّدا وما أنا عليه، ولم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصّتك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقّا فالحنوا إليّ لحنا نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا: من رسول الله؟ وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وكان رجلا فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط «١»
(١) بطوله في تفسير الطبري: ٢١/ ١٥٧. ١٥٩، مورد الآية.
14
ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة: يا رسول الله إنّ بيوتنا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشار هما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال: لا بل لكم والله ما أصنع ذلك، إلّا إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قري أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه: فأنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، ومرّوا على بني كنانة.
فقال: بنو الحارث: يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها ثمّ تيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليري مكانه، فلمّا وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنّك كنت تعاهد الله، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلّا أخذت منه إحداهما. قال: أجل. قال: فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإنّي أدعوك إلى النزال. قال: ولم يا بن أخي؟ فإنّي والله ما أحبّ أن أقتلك.
15
قال علي رضي الله عنه: ولكنّي والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على عليّ فتناولا وتجاولا وقتله عليّ رضي الله عنه.
وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة «١»، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكّة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه عليّ فقتله فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه: لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنه فشأنكم به، فخلّى بينهم وبينه.
قالت عائشة أمّ المؤمنين: كنّا يوم الخندق في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلّها وفي يده حربته وهو يقول:
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل «٢»
فقالت أمّه: الحق يا بني فقد والله أخرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا امّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ ممّا هي، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، قالت: فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل، وزعموا أنّه لم ينقطع من أحد قطع إلّا لم يزل يفيض دما حتى يموت، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلمّا أصابه قال: خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد: غرق الله وجهك في النار، ثمّ قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، فكذّبوه وأخرجوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وروى محمد بن إسحاق بن يسار، عن يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبادة قال: كانت صفية بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت قالت: وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان.
قالت صفية: فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت
(١) وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لمبارزة علي لعمرو بن ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة، وفي لفظ: لضربة علي خير من عبادة الثقلين، راجع مستدرك الصحيحين: ٣/ ٣٢، وكنز العمال: ٦/ ١٥٨، والسيرة الحلبية: ٢/ ٣٤٩.
(٢) البداية والنهاية: ٤/ ١٢٣.
16
ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا، ورسول الله والمسلمون في [نحور] عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا من ورائنا من اليهود، وقد شغل عنّا رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت:
فلمّا قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثمّ أخذت عمودا ثمّ نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتّى قتلته فلمّا فرغت منه، رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قالوا: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزّ وجلّ من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن [أنيف] بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد «١» بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا [كهيئتكم]، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإنّ قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا، وقد بلغني أمر رأيت أنّ حقّا عليّ أن أبلّغكموه نصحا لكم فاكتموا عليّ. قالوا: نفعل.
قال: تعلمون أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم [فنعطيكم] فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟
فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
(١) في تاريخ الطبري (٢/ ٢٤٢) : ريث.
17
إليهم منكم رجلا واحدا، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ قالوا: نفعل، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس، وكان ممّا صنع الله برسوله، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن [ضرستكم] الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّا أن تقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
قال الله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ مالت الْأَبْصارُ وشخصت وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ [من] أنّه سيظهر دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «١».
واختلف القرّاء في قوله: الظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة، قالوا: إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل.
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي
(١) بطوله في تفسير القرطبي: ١٤/ ١٣٥. ١٣٨ مورد الآية، وتاريخ الطبري: ٢/ ٢٤٣.
18
أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رؤوس الآي تمثيلا لها بالقوافي.
قوله عزّ وجلّ: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا وحرّكوا وخوّفوا زِلْزالًا تحريكا شَدِيداً وقرأ عاصم الجحدري (زَلْزالًا) بفتح الزاي وهما مصدران.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني معتب بن قشير وأصحابه وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ وضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه، وقال مقاتل: هم من بني سالم يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعني المدينة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول (عليه السلام) في ناحية منها. لا مُقامَ لَكُمْ قراءة العامّة بفتح الميم، أي لا مكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السّلمي بضم الميم، أي لا إقامة لكم، وهي رواية حفص عن عاصم فَارْجِعُوا إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن عبّاس: قالت اليهود لعبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعوا إلى المدينة فرجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي هي خالية [ضائعة] وهي ممّا يلي العدوّ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق. وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عَوِرَةٌ، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة، والعرب تقول: دار فلان عورة، إذا لم تكن حصينة، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب، قال الشاعر:
متى تلقهم لا تلقى في البيت معورا ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا «١»
قال الله تعالى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة مِنْ أَقْطارِها جوانبها ونواحيها، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطر وأقطار.
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ الشرك لَآتَوْها قراءة أهل الحجاز بقصر الألف، أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا، وقرأ الآخرون بالمدّ، أي لأعطوها. وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء وَما تَلَبَّثُوا بِها وما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلّا قليلا حتى يهلكوا وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ١٤٨.
19
لا يُوَلُّونَ عدوّهم الْأَدْبارَ.
وقال يزيد بن دومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة.
وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا له:
اشترط لربّك ولنفسك ما شئت، فقال النبي (عليه السلام) :«اشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة» [٨] «١» قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم.
وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قوله عزّ وجلّ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ الذي كتب عليكم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً نصرة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٨ الى ٢٧]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
(١) مجمع الزوائد: ٦/ ٤٨. [.....]
20
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ المثبّطين مِنْكُمْ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ تعالوا إِلَيْنا ودعوا محمّدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك.
وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا دفعا وتغديرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك.
قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمّ إلينا، فأقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، ما ترجون من محمّد؟ فو الله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلّا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلّا إيمانا واحتسابا.
وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له [أخوه] : هلمّ إلى هذا فقد [تبع] بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّد أبدا، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأمّه، أما والله لأخبرنّ النبي صلّى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية «١».
قوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وصفهم الله بالجبن والبخل.
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في رؤوسهم من الخوف والجبن كَالَّذِي أي كدوران عين الذي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ عصوكم ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب.
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأمّا
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ١٥٢.
21
عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني الغنيمة أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
قوله: يَحْسَبُونَ يعني هؤلاء المنافقين الْأَحْزابَ يعني قريشا وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب. لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعة وفرقا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ إن يرجعوا إليكم كرّة ثانية.
يَوَدُّوا من الخوف والجبن لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ خارجون إلى البادية فِي الْأَعْرابِ أي معهم يَسْئَلُونَ قراءة العامّة بالتخفيف، وقرأ عاصم الجحدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا.
عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم وما آل إليه أمركم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ يعني هؤلاء المنافقين ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمّد صلّى الله عليه أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان (أُسْوَةٌ) بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عدوة وعدوة ورشوة ورشوة وكسوة وكسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأخرى.
قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فرّق يحيى فرقا.
قال المفسّرون: يعني لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سنّة صالحة أن تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنّوا بسنّته.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في الرخاء والبلاء. ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
ووعد الله تعالى إيّاهم قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «١».
وَما زادَهُمْ ذلك إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.
(١) سورة البقرة: ٢١٤.
22
قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فوفوا به فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضا الموت. قال ذو الرمّة:
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر «١» «٢»
أي مات. قال مقاتل: قَضى نَحْبَهُ يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه.
وقيل: قَضى نَحْبَهُ أي [أجهده] في الوفاء بعهده من قول العرب: نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع [إذا مد] «٣» فلم ينزل. قال جرير:
[بطخفة] جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب «٤»
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة وَما بَدَّلُوا قولهم وعهدهم ونذرهم تَبْدِيلًا.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال:
حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمّي أنس بن النضر- وبه سميت أنس- عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال:
غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالا ليرينّ الله ما أصنع.
قال: فلمّا كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثّلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أخته بثناياه، ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن
(١) هوبر: اسم رجل، والنحب: الخطر.
(٢) لسان العرب: ٥/ ٢٤٨، تاج العروس: ٣/ ٦٠٩
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) طخفة: اسم موضع، والمجالدة: المضاربة.
23
حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه: أوجب طلحة الجنّة.
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنّ طلحة بن عبيد الله يوم أحد كان محتصنا للنبيّ (عليه السلام) في الخيل وقد بهر النبيّ صلّى الله عليه قال: فجاء سهم عابر متوجّها إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: [حس] ثمّ قال:
بسم الله، فقال النبيّ (عليه السلام) :«لو أنّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة» «١».
وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قَضى نَحْبَهُ فلينظر إلى طلحة» [٩] «٢».
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي، عن محمد ابن عبّاد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «من سرّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً نصرا وظفرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالملائكة والريح وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف (عليه السلام) والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه [معتما] بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال:
(١) الطبقات الكبرى: ٣/ ٢١٧.
(٢) مجمع الزوائد ٩/ ١٤٨.
24
نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلّا من طلب القوم، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة [وأنا عامد إلى بني قريظة] فانهض إليهم، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناديا، فأذّن إنّ من كان سامعا مطيعا لا يصلّين العصر إلّا في بني قريظة.
وقدّم رسول الله صلّى الله عليه عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة [على] رسول الله صلّى الله عليه منهم، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه بالطريق وقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال: لم؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلمّا دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال:
هل مرّ بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ذاك جبرائيل بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يصلّين أحدكم العصر إلّا في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنّفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم «١».
قال: وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وَقَذَفَ الله فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاث، فخذوا أيّها شئتم، فقالوا: وما هنّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدّقه فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبي مرسل، وأنّه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا
(١) تفسير الطبري: ٢١/ ١٨١ مورد الآية.
25
مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإن أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا أن نصيب من محمّد وأصحابه غرّة، قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال:
ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف- وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه، ثمّ إنّ الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة وقالت أمّ سلمة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه من السّحر يضحك فقلت: ممّ ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنّك؟
قال: تيب على أبي لبابة، فقالت: ألا أبشّره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت قال:
فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فسار إليه الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتّى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلمّا مرّ عليه خارجا إلى الصبح أطلقه.
قال: ثمّ إنّ ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة، فلمّا رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وقال: لا أغدر بمحمّد أبدا، فقال محمّد بن مسلمة حين عرفه: اللهمّ لا تحرمني
26
عشرات الكرام، ثمّ خلّى سبيله، فخرج على وجهه، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه بالمدينة تلك الليلة، ثمّ ذهب فلا يدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله صلّى الله عليه شأنه فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه.
وبعض الناس يزعم أنّه أوثق برمّة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه، فأصبحت رمّته ملقاة لا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلّى الله عليه تلك المقالة والله أعلم.
فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ قالوا: بلى.
قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ» [١٠] «١». وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين، يقال لها (رفيدة) في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» [١١] «٢».
فلمّا حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون:
يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذاك لتحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال: قد أتى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه قال: قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه. فقاموا إليه فقالوا:
يا أبا عمرو إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولّاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نعم.
قال سعد: فإنّي أحكم فيهم، أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري،
(١) البداية والنهاية: ٤/ ١٣٩.
(٢) تفسير الطبري: ٢١/ ١٨١.
27
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثمّ استنزلوا فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجّار، ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقا ثمّ بعث إليهم فضرب أعناقهم، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقيل: قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما ترى أن يصنع بنا؟ فقال كعب: في كلّ موطن لا تعقلون! ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع وأنّ من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل. فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله عليه وأتي بحيي بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة [أنملة أنملة] لئلّا يسلبها، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنّه من يخذل الله يخذل، ثمّ أقبل على الناس، فقال: أيّها الناس، إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه فقال هبل «١» بن حواس [الثعلبي] «٢» :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل
يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يغبي العز كل مقلقل «٣»
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يقتل من نساء بني قريظة إلّا امرأة واحدة، قالت: والله إنّها لعندي تتحدّث معي وتضحك ظهرا، ورسول الله صلّى الله عليه يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك ما لك؟
قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته. قال: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى كذا عجبا منها طيب نفس، وكثرة ضحك، وقد عرفت أنّها تقتل.
قال الواقدي: واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت قد قتلت خلّاد بن سويد، رمت عليه رحا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بها وضربت عنقها بخلّاد بن سويد، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أنّ الزبير بن باطا القرظي- وكان يكنى أبا عبد الرحمن- كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجرّ ناصيته، ثمّ خلّى سبيله، وجاءه يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
(١) في تفسير الطبري (٢١/ ١٨٥) جبل بن جوال.
(٢) هكذا يظهر في الأصل ولعله: الثعلبي.
(٣) البداية والنهاية: ٤/ ١٤٣. [.....]
28
فقال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم، قال: ثمّ أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه فقال: يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه: «هو لك».
فأتاه فقال له: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهله وولده؟ فقال: «هم لك».
فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله فقال: يا رسول الله ماله. فقال: هو لك، فأتاه فقال: إنّ رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك. فقال أي ثابت: ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا قتلوا، قال: وإنّي اسألك بيدي عندك يا ثابت إلّا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبّة، فقدّمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبّة، فقال: يلقاهم والله في نار جهنّم خالدا فيها مخلّدا أبدا، فقال ثابت بن قيس في ذلك:
وفت ذمّتي إني كريم وإنّني صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منّة عليّ فلما شد كوعاه بالأسر
أتيت رسول الله كي ما أفكّه وكان رسول الله بحرا لنا يجري «١»
قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه قد أمر بقتل من أسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس أمّ المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وكانت قد صلّت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء- رفاعة بن سموأل القرظي وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي هب لي رفاعة بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها [فاستحيته] «٢» قالوا: ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللفارس سهم «٣»، وللرّاجل ممّن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستّة وثلاثون فرسا،
(١) تاريخ الطبري: ٢/ ٢٥٢.
. (٢) هكذا في الأصل.
(٣) سيرة ابن هشام: ٣/ ٢٥٥، وعيون الأثر لابن سيد الناس: ٢/ ٥٧.
29
وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنّة في المغازي، ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه حتى توفّي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه يحرص أن يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخفّ عليّ وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلّا اليهودية، فعزلها رسول الله صلّى الله عليه ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إنّ هذا لثعلبة بن شعبة يبشّرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسّره ذلك.
فلمّا انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ، وذلك أنّه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك، اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد.
قالت عائشة: فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فو الذي نفس محمّد بيده إنّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإنّي لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «١».
قال علقمة: [أي أمّه] «٢» كيف كان يصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنّه كان إذا اشتدّ وجده فإنّما هو آخذ بلحيته، قال محمّد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلّا ستّة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلّاد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط «٣».
ولمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه من الخندق وقريظة قال: الآن نغزوهم- يعني قريشا- ولا يغزوننا، فكان كذلك حتّى فتح الله على رسوله مكّة
، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ
(١) سورة الفتح: ٢٩.
(٢) يريد: عائشة.
(٣) انظر: تاريخ الطبري: ٢/ ٢٥٢.
30
أي حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل لقرن البقر صيصية، ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وقال الشاعر:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد «١» وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني خيبر. قتادة: كنّا نحدّث أنّها مكّة. قال الحسن: فارس والروم.
عكرمة: كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ متعة الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فأطعتنهما فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
قال المفسّرون: كان أزواج النبي صلّى الله عليه سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه، فأتى النبي (عليه السلام) فجعل يتكلّم ويرفع صوته حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلّم به رسول الله صلّى الله عليه لعلّه ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة، فصككتها صكّة فقال: ذلك أجلسني عنكم.
فأتى عمر حفصة فقال: لا تسألي رسول الله شيئا ما كانت لك من حاجة فإليّ، قال: ثمّ تتبّع نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يكلّمهنّ، فقال لعائشة: أيعزّك أنّك امرأة حسناء وأنّ زوجك يحبّك لتنتهن أو لينزلن فيكنّ القرآن، قال: فقالت له أمّ سلمة: يا بن الخطّاب أو ما بقي لك إلّا أن تدخل بين رسول الله وبين نسائه؟! من يسأل المرأة إلّا زوجها؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات.
وكانت تحت رسول الله صلّى الله عليه يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي
(١) كتاب العين: ٧/ ١٧٦.
31
بكر، وحفصة بنت عمر، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، فلمّا نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه بعائشة، وكانت أحبّهنّ إليه، فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وتابعنها على ذلك.
قال قتادة: فلمّا اخترن الله ورسوله، شكرهنّ الله على ذلك، وقصره عليهن وقال: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبد الرزّاق عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه فقلت: يا رسول الله، إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنّك قد دخلت عليّ من تسع وعشرين أعدّهن، فقال: إنّ الشهر تسع وعشرون، ثمّ قال: يا عائشة إنّي ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ثمّ قرأ عليّ هذه الآية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتى بلغ أَجْراً عَظِيماً.
قالت عائشة: قد علم والله إنّ أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: في هذا أستامر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قال معمر: فحدّثني أيّوب أنّ عائشة قالت: لا تخبر أزواجك انّي اخترتك، فقال النبي صلّى الله عليه: إنّما بعثني الله مبلّغا ولم يبعثني متعنّتا.
وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون عن [أحمد بن محمّد بن الحسن] «١» عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن [أبي] «٢» سلمة أنّ عائشة قالت: لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إنّي مخبرك خبرا فلا عليك أن لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك، ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتّى بلغ أَجْراً عَظِيماً.
فقلت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قالت: ثمّ فعل أزواج النبيّ صلّى الله عليه مثل ما فعلت.
قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ قرأ الجحدري بالتاء. غيره بالياء. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بمعصية ظاهرة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضِعْفَيْنِ وقرأ ابن عامر وابن كثير:
نضعّف بالنون وكسر العين مشدّدا من غير ألف (الْعَذابَ) نصبا.
(١) في نسخة أصفهان: ابن الشرقي.
(٢) في نسخة أصفهان: ابن.
32
وقرأ أبو عمرو ويعقوب يضعّف بالياء وفتح العين مشدّدا الْعَذابُ رفعا. قال أبو عمرو: إنّما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله: ضِعْفَيْنِ وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من الْعَذابُ وهما لغتان مثل باعد وبعد.
وقال أبو عمرو وأبو عبيدة: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله، ومضاعفته جعلته أمثاله.
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً قوله: وَمَنْ يَقْنُتْ يطع.
قال قتادة: كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة [وقراءة العامة تقنت بالتاء] «١» وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (يعمل) (يؤتها) بالياء. غيرهم بالتاء.
قال الفراء: إنّما قال (يَأْتِ) (ويَقْنُتْ) لأنّ من أداة تقوم مقام الاسم يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «٢». وقال:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «٣»، وقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ «٤». وقال الفرزدق في الاثنين:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني تكن مثل من يا ذئب يصطحبان «٥»
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي غير هن من النساء.
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً يعني الجنّة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن عمران بن هارون، عن أحمد بن منيع، عن يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أبي رافع قال: كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب، فإذا بلغ: يا نِساءَ النَّبِيِّ رفع بها صوته، فقيل له، فقال: أذكّرهنّ العهد.
واختلف العلماء في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود: إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه، وإن اختارت نفسها [طلّقت] «٦» وإلى هذا ذهب مالك.
وقال الشافعي: إن نوى الطلاق في التخيير كان طلاقا وإلّا فلا. واحتجّ من لم يجعل التخيير بنفسه طلاقا، بقوله: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا،
وبقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعدّه طلاقا.
(١) وهكذا ورد في نسخة أصفهان: وقراءة العامة بالياء إلّا ما روي عن ابن عامر ويعقوب أنّهما قرءا: تقنت بالتاء.
(٢) سورة يونس: ٤٣.
(٣) سورة يونس: ٤٢.
(٤) سورة الأحزاب: ٣١.
(٥) لسان العرب: ١٣/ ٤١٩. [.....]
(٦) في نسخة أصفهان: فثلاث.
33
قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله فأطعتنه. قال الفرّاء: لم يقل كواحدة، لأنّ الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث. قال الله تعالى:
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «١» وقال: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «٢».
فَلا تَخْضَعْنَ تلنّ بِالْقَوْلِ للرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وضعف إيمان وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً صحيحا جميلا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٣]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف. غيرهم بالكسر، فمن فتح القاف فمعناه واقررن، أي الزمن بيوتكنّ، من قولك قررت في المكان، أقرّ قرارا. وقررت أقرّ لغتان فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلت.
قال الله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «٣» ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «٤» والأصل ظللت فحذفت إحدى اللّامين، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول: قررت أقرّ قرارا.
وقال أبو عبيدة: وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله: فَظَلْتُمْ ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد: عدن ومن الوصل صلن، أي كنّ أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم: وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش عن أبي الضحى قال: حدّثني من سمع عائشة تقرأ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فتبكي حتّى تبلّ خمارها.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد قال: نبئت أنّه قيل لسودة زوج النبي (عليه السلام) :
ما لك لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنّ أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتّى أموت.
(١) سورة البقرة: ٢٨٥.
(٢) سورة الحاقة: ٤٧.
(٣) سورة الواقعة: ٦٥.
(٤) سورة طه: ٩٧.
34
قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. قوله: وَلا تَبَرَّجْنَ قال مجاهد وقتادة: التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى واختلفوا فيها. قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمّد (عليهما السلام). أبو العالية: هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصا من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه.
الكلبي: الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم (عليه السلام)، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ فتلبسه ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار، والناس حينئذ كلّهم كفّار.
الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان. فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال: إنّ الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس (عليهما السلام)، وكانت ألف سنة، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإنّ إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، واتّخذ إبليس شيئا مثل الذي يزمر فيه الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوه يستمعون إليه، واتّخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ، وإنّ رجلا من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحوّلوا إليهم فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهنّ. فهو قول الله عزّ وجلّ: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ.
وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الإثم الذي نهى الله النساء عنه. قاله مقاتل. وقال قتادة: يعني السوء. وقال ابن زيد: يعني الشيطان.
أَهْلَ الْبَيْتِ يعني يا أهل بيت محمّد وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الجاهلية. وقال مجاهد (الرِّجْسَ) الشكّ (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من الشرك.
واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه أَهْلَ الْبَيْتِ فقال قوم: عنى به أزواج النبي (عليه السلام) خاصّة، وإنّما ذكّر الخطاب لأنّ رسول الله صلّى الله عليه كان فيهم وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غلب المذكّر.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن جعفر، عن الحسن بن علي بن عفّان قال: أخبرني أبو يحيى، عن صالح بن موسى عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: أنزلت
35
هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه. قال: وتلا عبد الله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «١».
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة. وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمّد بن جرير قال: أخبرني [ابن] «٢» حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة، عن عكرمة في قول الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال:
ليس الذي تذهبون إليه، إنّما هو في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم خاصّة.
قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق. وإلى هذا ذهب مقاتل قال: يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل. «٣»
(١) سورة الأحزاب: ٣٤.
(٢) في نسخة أصفهان: أبو.
(٣) (أقوال المفسّرين والعلماء باختصاصها بأصحاب الكساء) قال أبو بكر النقّاش في تفسيره: أجمع أكثر أهل التّفسير أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم (جواهر العقدين: ١٩٨ الباب الأول، وتفسير آية المودّة:
١١٢).
وقال سيدي محمّد بن أحمد بنيس في شرح همزيّة البوصيري: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أكثر المفسّرين أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم (لوامع أنوار الكوكب الدرّي: ٢/ ٨٦).
وقال العلّامة سيدي محمّد جسوس في شرح الشمائل: «... ثمّ جاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معهم، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال:
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) »
وفي ذلك إشارة إلى أنّهم المراد بأهل البيت في الآية» (شرح الشمائل المحمدية: ١/ ١٠٧ ذيل باب ما جاء في لباس رسول الله).
وقال السمهودي: وقالت فرقة، منهم الكلبيّ: هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصّة، للأحاديث المتقدمة (جواهر العقدين: ١٩٨ الباب الأول).
وقال الطّحاوي في مشكل الآثار بعد ذكر أحاديث الكساء: فدلّ ما روينا في هذه الآثار ممّا كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمّ سلمة ممّا ذكرنا فيها، لم يرد أنّها كانت
36
ممّا أريد به ممّا في الآية المتلوّة في هذا الباب، وأنّ المراد بما فيها هم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين دون ما سواهم (مشكل الآثار: ١/ ٢٣٠ ح ٧٨٢ باب ١٠٦ ما روي عن النبيّ في الآية).
وقال بعد ذكر أحاديث تلاوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم الآية على باب فاطمة: في هذا أيضا دليل على أنّ هذه فيهم (مشكل الآثار: ١/ ٢٣١ ح ٧٨٥ باب ١٠٦ ما روي عن النبيّ في الآية).
وقال الفخر الرازي: وأنا أقول: آل محمّد صلّى الله عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل.
أيضا اختلف النّاس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم امّته، فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟
فمختلف فيه، وروى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية [المودّة] قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «عليّ وفاطمة وابناهما»، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم ويدلّ عليه وجوه..) إلخ (تفسير الفخر الرازي: ٢٧/ ١٦٦ مورد آية المودّة (٢٣) من سورة الشورى).
وقال في موضع آخر: واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بنت النبيّ وملازمته للنبيّ صلّى الله عليه وسلم (تفسير الفخر الرازي: ٢٥/ ٢٠٩).
وقال أبو بكر الحضرمي في رشفة الصادي: (والذي قال به الجماهير من العلماء، وقطع به أكابر الأئمّة، وقامت به البراهين وتظافرت به الأدلّة أنّ أهل البيت المرادين في الآية هم سيّدنا عليّ وفاطمة وابناهما... وما كان تخصيصهم بذلك منه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا عن أمر إلهيّ ووحي سماويّ... والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وبما أوردته منها يعلم قطعا أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم عليّ وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم، ولا التفات إلى ما ذكره صاحب روح البيان من أنّ تخصيص الخمسة المذكورين عليهم السلام بكونهم أهل البيت من أقوال الشيعة، لأنّ ذلك محض تهوّر يقتضي بالعجب، وبما سبق من الأحاديث وما في كتب أهل السنّة السنيّة يسفر الصبح لذي عينين. إلى أن يقول. وقد أجمعت الأمّة على ذلك فلا حاجة
37
لإطالة الاستدلال له) (رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبيّ الهادي: ١٣. ١٤. ١٦ ط. مصر و ٢٣ و ٤٠ ط. بيروت. الباب الأول. ذكر تفضيلهم بما أنزل الله في حقّهم من الآيات).
وقال ابن حجر: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣] أكثر المفسّرين على أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (الصواعق المحرقة: ١٤٣ ط. مصر، وط. بيروت: ٢٢٠ الباب الحادي عشر، في الآيات الواردة فيهم، الآية الاولى).
وقال في موضع آخر بعد تصحيح الصلاة على الآل:.. فالمراد بأهل البيت فيها وفي كلّ ما جاء في فضلهم أو فضل الآل أو ذوي القربى جميع آله صلّى الله عليه وسلم وهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وبه يعلم أنّه صلّى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه (مراده الروايات التي حذفت الآل كما في الصحيحين، والروايات التي أثبتت الآل) فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظه الآخر، ثمّ عطف الأزواج والذرّيّة على الآل في كثير من الروايات يقتضي أنّهما ليسا من الآل، وهو واضح في الأزواج بناء على الأصحّ في الآل أنّهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وأمّا الذرّيّة فمن الآل على سائر الأقوال، فذكرهم بعد الآل للإشارة إلى عظيم شرفهم (الصواعق المحرقة:
١٤٦ ط. مصر و ٢٢٤. ٢٢٥ ط. بيروت، باب ١١، الآيات النازلة فيهم. الآية الثانية).
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأمّا قوله في الرواية الاخرى: «نساؤه من أهل البيت ولكن أهل بيته من حرم الصدقة».
قال: وفي الرواية الاخرى: «فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا».
فهاتان الروايتان ظاهر هما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال:
«نساؤه لسن من أهل بيته»، فتتأول الرواية الاولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يسكنونه ويعولهم... ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة (صحيح مسلم بشرح النووي: ١٥/ ١٧٥ ح ٦١٧٥ كتاب الفضائل. فضائل عليّ).
وقال السمهودي: وحكى النووي في شرح المهذّب وجها آخر لأصحابنا: أنّهم عترته الذين ينسبون إليه صلّى الله عليه وسلم قال: وهم أولاد فاطمة ونسلهم أبدا، حكاه الأزهري وآخرون عنه. انتهى.
وحكاه بعضهم بزيادة أدخل الأزواج (جواهر العقدين: ٢١١ الباب الأول، وبهامشه:
شرح المهذب: ٣/ ٤٤٨).
وقال الإمام مجد الدين الفيروزآبادي: المسألة العاشرة: هل يدخل في مثل هذا الخطاب (الصلاة على النبيّ) النّساء؟ ذهب جمهور الأصوليين أنّهنّ لا يدخلن، ونصّ عليه
38
الشافعي، وانتقد عليه، وخطىء المنتقد (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر: ٣٢ الباب الأول).
وقال الملّا عليّ القاري: الأصحّ أنّ فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلّا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنّهم يفضّلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان لقربهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهم العترة الطاهرة والذرّيّة الطيّبة الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا (شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة: ٢١٠ مسألة في تفضيل أولاد الصحابة).
وقال السمهودي بعد ذكر الأحاديث في إقامة النبيّ آله مقام نفسه وذكر آية المباهلة وأنّها فيهم: وهؤلاء هم أهل الكساء، فهم المراد من الآيتين (المباهلة والتطهير) (جواهر العقدين:
٢٠٤ الباب الأول).
وقال الحمزاوي: واستدلّ القائل على عدم العموم بما روي من طرق صحيحة: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين..» وذكر أحاديث الكساء، إلى أن قال: ويحتمل أنّ التّخصيص بالكساء لهؤلاء الأربع لأمر إلهيّ يدلّ له حديث أمّ سلمة، قالت: «فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي» (مشارق الأنوار للحمزاوي:
١١٣ الفصل الخامس من الباب الثالث. فضل أهل البيت).
وقال القسطلاني: ان الراجح أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعي واختاره الجمهور ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحل لنا الصدقة، وقيل المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته.
ثمّ ذكر بعد ذلك كلام ابن عطيّة فقال: الجمهور على أنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وحجتهم (عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ) بالميم (المواهب اللدنية: ٢/ ٥١٧. ٥٢٩ الفصل الثاني من المقصد السابع).
وقال أبو منصور ابن عساكر الشافعي: بعد ذكر قول أمّ سلمة: «وأهل البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين» هذا حديث صحيح... والآية نزلت خاصّة في هؤلاء المذكورين (كتاب الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: ١٠٦ ح ٣٦ ذكر ما ورد في فضلهنّ جميعا).
وقال ابن بلبان (المتوفى ٧٣٩ هـ) في ترتيب صحيح ابن حبّان: ذكر الخبر المصرّح بأنّ هؤلاء الأربع الذين تقدّم ذكرنا لهم هم أهل بيت المصطفى صلّى الله عليه وسلم، ثمّ ذكر حديث نزول الآية فيهم عن واثلة (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان: ٩/ ٦١ ح ٦٩٣٧ كتاب المناقب، ويأتي الحديث بتمامه).
39
وقال ابن الصبّاغ من فصوله: أهل البيت على ما ذكر المفسّرون في تفسير آية المباهلة، وعلى ما روي عن أمّ سلمة: هم النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (مقدّمة المؤلف: ٢٢).
وقال الحاكم النيشابوري بعد حديث الكساء والصلاة على الآل وأنّه فيهم: إنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعا هم (المستدرك: ٣/ ١٤٨ كتاب المعرفة. ذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام)).
وقال الحافظ الكنجي: الصحيح أنّ أهل البيت عليّ وفاطمة والحسنان (كفاية الطالب:
٥٤ الباب الأول).
وقال القندوزي في ينابيعه: أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم ويطهّركم (ينابيع المودّة: ١/ ٢٩٤ ط. اسلامبول ١٣٠١ هـ و ٣٥٢ ط. النجف، باب ٥٩ الفصل الرابع).
وقال محبّ الدّين الطبري: باب في بيان أنّ فاطمة والحسن والحسين هم أهل البيت المشار إليهم في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وتجليله صلّى الله عليه وسلم إيّاهم بكساء ودعائه لهم (ذخائر العقبى: ٢١).
وقال السخاوي في القول البديع في بيان صيغة الصلاة في التشهّد: فالمرجع أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، وذكر أنّه اختيار الجمهور ونصّ الشافعي، وأنّ مذهب أحمد أنّهم أهل البيت، وقيل: المراد أزواجه وذرّيّته... (عن هامش الصواعق المحرقة لعبد الوهاب عبد اللطيف: ١٤٦ ط. مصر ١٣٨٥ هـ).
وقال القاسمي: ولكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد:
أحدهما أنّهنّ لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم (تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل: ١٣/ ٤٨٥٤ مورد الآية ط. مصر عيسى الحلبي).
وقال الآلوسي: وأنت تعلم أنّ ظاهر ما صحّ من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم خليفتين. وفي رواية. ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». يقتضي أنّ النّساء المطهّرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثّقلين (تفسير روح المعاني: ١٢/ ٢٤ مورد الآية).
وقال الشاعر الحسن بن عليّ بن جابر الهبل في ديوانه: آل النّبيّ هم أتباع ملّته من مؤمني رهطه الأدنون في النّسب هذا مقال ابن إدريس الذي روت ال أعلام عنه فمل عن منهج الكذب وعندنا أنّهم أبناء فاطمة وهو الصحيح بلا شكّ ولا ريب. (جناية الأكوع: ٢٨) وقال
40
الحافظ البدخشاني: وآل العباء عبارة عن هؤلاء لأنّه صحّ عن عائشة وأمّ سلمة وغيرهما بروايات كثيرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم جلّل هؤلاء الأربعة بكساء كان عليه، ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
وقال توفيق أبو علم: فالرأي عندي أنّ أهل البيت هم أهل الكساء: عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن خرج من سلالة الزهراء وأبي الحسنين رضي الله عنهم أجمعين (أهل البيت: ٩٢ ذيل الباب الأول، و: ٨. المقدّمة).
وقال في موضع الردّ على عبد العزيز البخاري: أمّا قوله: إنّ آية التطهير المقصود منها الأزواج، فقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أنّ المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة لا الأزواج (أهل البيت: ٣٥ الباب الأول).
وقال: وأمّا ما يتمسك به الفريق الأعم والأكبر من المفسّرين فيتجلى فيما روي عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة» (أهل البيت: ١٣. الباب الأول).
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول في الردّ على من قال أنّها مختصة بالنّساء: ويجاب عن هذا بأنّه قد ورد بالدليل الصحيح أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول: ٨٣ البحث الثامن من المقصد الثالث، وأهل البيت لتوفيق أبو علم: ٣٦. الباب الأول).
وقال أحمد بن محمّد الشامي: وقد أجمعت امّهات كتب السنّة وجميع كتب الشيعة على أنّ المراد بأهل البيت في آية التطهير النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لأنّهم الذين فسرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المراد بأهل البيت في الآية، وكلّ قول يخالف قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بعيد أو قريب مضروب به عرض الحائط، وتفسير الرسول صلّى الله عليه وسلم أولى من تفسير غيره إذ لا أحد أعرف منه بمراد ربّه (جناية الأكوع: ١٢٥ الفصل السادس).
وقال الشيخ الشبلنجي: هذا ويشهد للقول بأنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم حين أراد المباهلة، هو ووفد نجران كما ذكره المفسّرون (نور الأبصار:
١٢٢ ط. الهند و ٢٢٣ ط. قم، الباب الثاني. مناقب الحسن والحسين).
وقال الشيخ السندي في كتابه (دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب) : وهذا التحقيق في تفسير (أهل البيت) يعيّن المراد منهم في آية التطهير مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أنّ المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلّد في دفترنا يجب على طالب الحقّ الرجوع إليه (عنه
41
وقال آخرون: عنى به رسول الله صلّى الله عليه عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي، عن محمّد بن جرير، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري، عن مسدل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» [١٢] «١».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نمير، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدّثني من سمع أمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عمر بن الخطّاب، عن عبد الله بن الفضل، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، حدّثني ابن عمّ لي
عبقات الأنوار: ١/ ٣٥٠ ط. قم، و ٩١١ ط. أصبهان. قسم حديث الثّقلين).
وقال الرفاعي: وقيل عليّ وفاطمة وابناهما، وهو المعتمد الذي عليه جمهور العلماء (المشرع الروي: ١/ ١٧).
وقال الدكتور عبّاس العقاد: واختلف المفسرون فيمن هم أهل البيت:
أمّا الفخر الرازي في تفسيره (٦/ ٧٨٣)، والزمخشري في كشافه، والقرطبي في تفسيره، وفتح القدير للشوكاني، والطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور (٥/ ١٦٩)، وابن حجر العسقلاني في الإصابة (٤/ ٤٠٧)، والحاكم في المستدرك، والذّهبي في تلخيصه (٣/ ١٤٦)، والإمام أحمد في الجزء الثالث صفحة: ٢٥٩ فقد قالوا جميعا: إنّ أهل البيت هم عليّ والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم. وأخذ بذكر الأدلة. (فاطمة الزهراء للعقاد: ٧٠ ط. مصر دار المعارف الطبعة الثالثة.). [.....]
(١) مجمع الزوائد: ٩/ ١٦٧.
42
من بني الحرث بن تيم الله يقال له: (مجمع)، قال: دخلت مع أمّي على عائشة، فسألتها امّي، فقالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرا من الله سبحانه، فسألتها عن علي، فقالت: تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا جمع رسول الله صلّى الله عليه بثوب عليهم ثمّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قالت: فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحّي فإنّك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمّد عن أبي حبيش المقرئ قال: أخبرني أبو القاسم المقرئ قال:
أخبرني أبو زرعة، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أخبرني ابن أبي فديك حدّثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيّار عن أبيه، قال: لمّا نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرّتين، فقال زينب «١» : أنا يا رسول الله، فقال:
أدعي لي عليّا وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل حسنا عن يمناه وحسينا عن يسراه وعليّا وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساء خيبريّا. ثمّ قال: اللهم لكلّ نبيّ أهل، وهؤلاء أهلي، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية.
فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه: «مكانك فإنّك إلى خير إن شاء الله» [١٣] «٢».
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبد الله بن الفضل قال: أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمّد بن مصعب عن الأوزاعي، عن عبد الله بن أبي عمّار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّا فشتموه فشتمته، فلمّا قاموا قال لي: أشتمت هذا الرجل؟ قلت: قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم.
فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت: توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه فجلست فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه أو قال كساءه، ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثمّ قال:
اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.
(١) كما هو ملاحظ أن القائلة تارة أم سلمة وأخرى زينب وفي بعض الروايات عائشة وقد فسّر ذلك العلماء- منهم ابن حجر والسمهوري- أن الآية نزلة عدة مرات في بيت فاطمة وأمّ سلمة وزينب وعائشة، وقد فصلت ذلك مع ما يتعلق بالآية في كتاب طهارة آل محمد صلّى الله عليه وسلم.
(٢) مسند أحمد: ٦/ ٣٠٤، سنن الترمذي: ٥/ ٣٦١.
43
وقيل: هم بنو هاشم.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمّد بن عمران قال: حدّثنا أبو كريب قال: أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين، قلنا لزيد بن أرقم ومن أهل بيته؟ قال: الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عبّاس وآل عقيل وآل جعفر.
وأخبرني أبو عبد الله، قال: أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال: أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
وأخبرني أبو عبد الله، حدّثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمّد بن إبراهيم ابن زياد الرازي، عن الحرث بن عبد الله الخازن، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية ابن الربعي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ «١» فأنا خير أصحاب اليمين».
ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «٢» فأنا من السابقين [وأنا من خير السابقين] ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله:
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ «٣» الآية، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.
ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [١٤] «٤».
(١) - سورة الواقعة: ٢٧.
(٢) - مجمع الزوائد: ٨/ ٢١٥، كنز العمال: ٢/ ٤٤، الدر المنثور: ٥/ ١٩٩.
(٣) سورة الواقعة: ٧- ١٠.
(٤) سورة الحجرات: ١٣.
44

[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٤ الى ٣٨]

وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ السنّة، عن قتادة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وذلك
أنّ أزواج النبي صلّى الله عليه قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنّا نخاف أن لا تقبل منّا طاعة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال مقاتل: قالت أمّ سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلّى الله عليه: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه؟ نخشى أن لا يكون فيهنّ خير ولا لله فيهنّ حاجة، فنزلت هذه الآية.
روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أمّ سلمة زوج النبي (عليه السلام) تقول: قلت للنبي (عليه السلام) : يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟
قلت: فلم يرعني ذات يوم ظهرا إلّا بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ... إلى قوله: وَأَجْراً عَظِيماً.
وقال مقاتل بن حيان: بلغني أنّ أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء رسول الله صلّى الله عليه فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟
قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه فقالت: يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار، قال رسول الله صلّى الله عليه: وممّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «١» عن إبراهيم بن سعيد، عن عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن علي بن الأرقم، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة
(١) هو أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي صاحب التفسير، الملقب بالبستاني.
45
قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعا ركعتين كتبا من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو، عن حنظلة التميمي، عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه فقال: قل يا محمّد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ستّ خصال، كتب من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنّة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه.
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. قال عطاء بن أبي رباح: من فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ومن أقرّ بأنّ الله ربّه، وأنّ محمّدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ومن صلّى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله:
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله:
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
قوله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية.
نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرّة بن غنم بن دودان الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمّة النبي صلّى الله عليه وسلم، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى زيدا في الجاهلية من عكاظ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبنّاه، فكان زيد عربيّا في الجاهلية مولى في الإسلام.
فلمّا خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب رضيت، [ورأت] أنّه يخطبها على نفسه فلمّا علمت أنّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت: أنا أتمّ نساء قريش وابنة عمّتك، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي، وكذلك قال أخوها عبد الله، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكانت فيها حدة فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ يعني عبد الله بن جحش وزينب أخته
46
إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
قرأ أهل الكوفة وأيّوب بالياء واختاره أبو عبيد قال:
للحائل بين التأنيث والفعل، وكذلك روى هاشم عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء «١».
لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي الاختيار وقراءة العامّة (الْخِيَرَةُ) بكسر الخاء وفتح الياء، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً
فلمّا نزلت هذه الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا، فدخل بها، وساق إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل من هاجر من النساء، ف وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: قد قبلت، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنّما أردنا رسول الله صلّى الله عليه فزوّجنا عبده
فأنزل الله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية.
وذلك
أنّ زينب مكثت عند زيد حينا، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتى زيدا ذات يوم لحاجة، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنّها وقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلّب القلوب! وانصرف.
فلمّا جاء زيد، ذكرت ذلك له ففطن زيد، كرهت إليه في الوقت، فألقي في نفس زيد كراهتها، فأراد فراقها، فأتى رسول الله صلّى الله عليه فقال: إنّي أريد أن أفارق صاحبتي.
قال: ما لك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنّها تتعظّم عليّ بشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي (عليه السلام) : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، ثمّ إنّ زيدا طلّقها بعد ذلك، فلمّا انقضت عدّتها، قال رسول الله صلّى الله عليه لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك. أئت زينب فاخطبها عليّ.
قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمّر عجينها، فلمّا رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك، ففرحت بذلك وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها وأنزل القرآن زَوَّجْناكَها فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار
، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمّة النبي صلّى الله عليه.
(١) تفسير الطبري: ٢٢/ ١٦ مورد الآية.
47
وَاتَّقِ اللَّهَ فيها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أن لو فارقها تزوّجتها.
قال ابن عبّاس: حبّها. وقال قتادة: ودّ أنّه لو طلّقها. وَتَخْشَى النَّاسَ قال ابن عبّاس والحسن: تستحيهم، وقيل: وتخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلّقها. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول اله صلّى الله عليه آية هي أشدّ عليه من هذه الآية.
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال: أخبرني أبو العبّاس الفضل بن عقيل النيسابوري، عن محمد بن سليمان قال: أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لو كتم النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيئا ممّا أوحي إليه لكتم هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران، حدّثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني، عن سفيان بن عيينة قال: سمعناه من علي بن زيد بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال: سألني علي بن الحسين: ما يقول الحسن في قوله عزّ وجلّ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (وَتَخْشَى النَّاسَ) وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ؟
فقلت يقول: لما جاء زيد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنّي أريد أن أطلّق زينب، فأعجبه ذلك، قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ قال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله عزّ وجلّ قد أعلمه أنّها ستكون من أزواجه فإنّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد قال: إنّي أريد أن أطلّق زينب، فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. يقول: فلم قلت: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك.
وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أنّ الله عزّ وجلّ حكم واعلم إبداء ما أخفى، والله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، ثمّ لم نجده عزّ وجلّ أظهر من شأنه غير التزويج بقوله: زَوَّجْناكَها.
فلو كان أضمر رسول الله صلّى الله عليه محبّتها، أو أراد طلاقها، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أن يظهره، فدلّ ذلك على أنّه (عليه السلام) إنّما عوتب على قوله:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ مع علمه بأنّها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم.
وهذا قول حسن مرضي قوي، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبيّ صلّى الله عليه، لأنّ العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم.
قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها فكانت زينب تفخر على نساء النبي (عليه السلام) فتقول: أنا أكرمكنّ وليّا، وأكرمكنّ سفيرا، زوجكن أقاربكن وزوّجني الله عزّ وجلّ.
48
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العبّاس الدغولي قال: أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيد الله بن قهراذ جميعا، عن جعفر [بن محمّد] بن عون، عن المعلى بن عرفان عن محمّد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة، وقالت زينب:
أنا التي نزل تزوّجي من السماء، فقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت زينب: وما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالت: كلمة المؤمنين.
وأنبأني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير، عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ (عليه السلام) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ «١» بهن: جدّي وجدّك واحد، وإنّي أنكحنيك الله في السماء، وإنّ السفير لجبرائيل «٢».
قوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوه إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن. قال الحسن: كانت العرب تظنّ أنّ حرمة المتبنى مشبّكة كاشتباك الرحم، فميّز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أنّ حلائل الأدعياء غير محرّمة عليهم لذلك قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «٣» فقيّد وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كائنا لا محالة، وقد قضى في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه.
قوله: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ أحل الله لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي كسنّة الله، نصب بنزع حرف الخافض، وقيل: فعل سنّة الله، وقيل: على الإغراء، أي ابتغوا سنّة الله في الأنبياء الماضين، أي لا يؤاخذهم بما أحلّ لهم.
وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود (عليه السلام)، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها، وقيل: الإشارة بالسنة إلى النكاح، وإنّه من سنّة الأنبياء وقيل: إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان (عليه السلام).
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ماضيا كائنا. وقال ابن عبّاس: وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده.
(١) دلّ يدل: تغنج وتلوي، جرأة مع تلطف.
(٢) تفسير ابن كثير: ٣/ ٥٠٠ مورد الآية، وتفسير الطبري: ٢٢/ ١٩.
(٣) سورة النساء: ٢٣.
49

[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٩ الى ٥٥]

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ محلّ الذين خفض على النعت على الَّذِينَ خَلَوْا...
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها، يعني زيدا، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم.
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبد الرحمن عن سفيان، عن
50
الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ «١».
واختلف القرّاء في قوله خاتَمَ النَّبِيِّينَ فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النّبيين. كقوله: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال ابن عبّاس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلّا جعل لها حدّا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلّا مغلوبا على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ «٢» وقال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والقسم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «٣»، عن عمرو بن عثمان، عن أبي، عن أبي لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون
وَسَبِّحُوهُ وصلّوا له بُكْرَةً يعني صلاة الصبح وَأَصِيلًا يعني صلاة العصر عن قتادة.
وقال ابن عبّاس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، فعبّر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى:
أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء.
وقيل: (يُصَلِّي) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار والدعاء لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.
(١) مسند الحميدي: ١/ ٢٥٤، السنن الكبرى للنسائي: ٦/ ٤٨٩ بتفاوت.
(٢) سورة النساء: ١٠٣. [.....]
(٣) صاحب التفسير أبو عمرو.
51
قال أنس بن مالك: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الآية، قال أبو بكر:
ما خصّك الله بشرف إلّا وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تَحِيَّتُهُمْ أي تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرون الله عزّ وجلّ سَلامٌ أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات.
أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال:
تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشّرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى ملك الموت كناية عن غير مذكور.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً وهو الجنّة.
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به أهل الدين.
قال جابر بن عبد الله: لمّا نزلت إِنَّا فَتَحْنا «١» الآيات، قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ اصبر عليهم ولا تكافئهم.
نسختها آية القتال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «٢» وقيل: هو أمر ندب،
(١) سورة الفتح: ١.
(٢) سورة البقرة: ٢٣٧.
52
فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب وَسَرِّحُوهُنَّ وخلّوا سبيلهن سَراحاً جَمِيلًا بالمعروف، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصّ أو عمّ خلافا لأهل الكوفة.
أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إنّي قلت: يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب فتزوّجها، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يره شيئا.
والدليل عليه ما
أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة، عن الربيع بن سليمان، عن أيّوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل نكاح» [١٥] «١».
قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مثل صفية وجويرية ومارية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من نساء عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من نساء بني زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: واللّاتي هاجرن، بواو.
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أمّ هاني قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ... إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت: فلم أحلّ له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ بغير مهر. وقرأ العامة إِنْ بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فله ذلك خالِصَةً خاصّة لك، مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلّا النبيّ (عليه السلام)، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما
روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها
ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء.
وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنّ النكاح ينعقد
(١) سنن ابن ماجة: ١/ ٦٦٠، مستدرك الحاكم: ٢/ ٢٠٥.
53
والمهر يلزم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة. وقالوا: كان اختصاص النبي (عليه السلام) في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما.
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه كذلك؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده (عليه السلام) امرأة إلّا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنّما قال الله تعالى إِنْ وَهَبَتْ على طريق الشرط والجزاء.
وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار.
قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل: أمّ شريك بنت جابر من بني أسد.
قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ يعني أوجبنا على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ قال مجاهد:
يعني أربعا لا يتجاوزونها.
قتادة: هو أن لا نكاح إلّا بوليّ وشاهدين وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الولائد والإماء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ في نكاحهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخّر وَتُؤْوِي وتضمّ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ واختلف المفسّرون في معنى الآية،
فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أمّهات المؤمنين على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وطلب بعضهنّ زيادة النفقة، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه شهرا حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عزّ وجلّ أن يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة، وأن يخلّي سبيل من اختارت الدّنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنّهنّ أمّهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا، وعلى أنّه يؤوي إليه من يشاء ويرجي منهنّ من يشاء فيرضين به، قسم لهنّ أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه (عليه السلام).
فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلّى الله عليه مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلّا امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة.
وروى منصور عن أبي رزين قال: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممّن أرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأمّ حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممّن
54
آوى إليه عائشة وحفصة وأمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضّل بعضهنّ على بعض، فأرجأ خمسا وآوى أربعا.
وقال مجاهد: يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد.
وقال ابن عبّاس: تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك.
قال: وكان النبي (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يتركها.
وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللّاتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللّاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إنّ ربّك ليسارع لك في هواك.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت وأردت إصابته مِمَّنْ عَزَلْتَ فأصبتها وجامعتها بعد العزل فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها، فله أن يردّ إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلا له على سائر الرّجال وتخفيفا عنه. وقال ابن عبّاس: يقول: إنّ من فات من نسائك اللّاتي عندك أجرا وخلّيت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أن تزداد على عدد نسائك اللّاتي عندك.
ذلِكَ الذي ذكرت أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنّ ذلك من الله وبأمره، وأنّ الرخصة جاءت من قبله وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ من التفضيل والإيثار والتسوية كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً.
قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللّاتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قصره عليهنّ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحلّ لك من النساء إلّا اللّاتي أحللناها لك وهو قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ... «١» ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها.
(١) سورة الأحزاب: ٥٠.
55
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه أكان يحلّ له أن يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك وما يحرّم ذلك عليه؟ قلت: قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنّما أحلّ الله له ضربا من النساء فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ... ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
وقال أبو صالح: أمر أن لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرام عليك، ولا ينبغي أن يكنّ من أمّهات المؤمنين.
وقال أبو رزين: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ يعني الإماء بالنكاح. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السبايا والإماء الكوافر.
وقال الضحّاك: يعني ولا تبدّل بأزواجك اللّاتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن، فحرّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده، إذ جعلهنّ أمّهات المؤمنين، وحرّمهن على غيره حين اخترنه، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ له ذلك إن شاء. يدلّ عليه
ما أخبرناه عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء.
وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعني تبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلّا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ... قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه: «يا عيينة فأين الاستئذان؟» قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثمّ قال: من
56
هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أمّ المؤمنين». قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك»، فلمّا خرج، قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا أحمق مطاع وإنّه على ما ترين لسيّد قومه» [١٦].
قال ابن عبّاس في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها، وقد جاءت الأخبار بإجازة ذلك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أنّ المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوّج بامرأة، فقال النبيّ (عليه السلام) :«فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما» [١٧] «١».
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجّاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت:
أتفعل هذا؟ قال: نعم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها» [١٨].
وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنّ رجلا أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى الله عليه: «أنظر إليها فإنّ في أعين نساء الأنصار شيئا» [١٩] «٢».
قال الحميدي:
يعني الصّغر. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حفيظا.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ... قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب.
قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أمّي أمّ سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
(١) سنن الدارمي: ٢/ ١٣٤.
(٢) سنن النسائي: ٦/ ٧٧، مسند أحمد: ٢/ ١٢٨٦.
57
فقلت: يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقا نحو حجرة عائشة فقال: «السلام عليكم أهل البيت» [٢٠]، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ، فدعون له ربّه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت، وكان النبيّ (عليه السلام) شديد الحياء، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلمّا رأوا النبي صلّى الله عليه وسلم ولّى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله (عليه السلام) إلى بيته وضرب بيني وبينه سترا، ونزلت هذه الآية.
وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أمّ سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها فأكلوا، ثمّ أطالوا الحديث، فتأذّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلّا أن تدعوا إِلى طَعامٍ فيؤذن لكم فتأكلوه غَيْرَ ناظِرِينَ منظرين إِناهُ إدراكه ووقت نضجه
، وفيه لغتان أنى وإنى بكسر الألف وفتحها، مثل ألّى وإلّى ومعا ومعا، والجمع إناء، مثل آلاء وأمعاء، والفعل منه أنى يأنى إنى بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة:
وأنيت العشا إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأنا «١»
وقال الشيباني:
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام «٢»
وفيه لغة أخرى: آن يئين أينا.
قال ابن عبّاس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتأذّى بهم، فنزلت هذه الآية.
وغَيْرَ نصب على الحلال وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا فتفرّقوا واخرجوا من منزله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ ولا غير مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه.
حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا قال: أخبرني أبو موسى عمران بن
(١) كتاب العين: ٨/ ٤٠٢، والصحاح: ٦/ ٢٢٧٣.
(٢) إصلاح المنطق: ١٣٣، الصحاح: ٣/ ١١٠٥.
58
موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد «١» الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا [أدب] أدّب الله به الثقلاء «٢».
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن محمد يقول:
سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا.
قوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثا فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضا فاحتبس فقضى حاجته، ثمّ جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني سترا قال: فحدّثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب.
وأنبأني عبد الله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب.
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أنّ عائشة قالت: كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب.
وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مرّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ: احتجبن، فإنّ لكنّ على النساء فضلا، كما انّ لزوجكنّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى أنزل الله آية الحجاب.
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء
(١) هكذا في الأصل ولعلّه: الوزان.
(٢) تفسير القرطبي: ١٤/ ٢٢٤.
59
النبي صلّى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يا بن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ.
وقيل في سبب نزول الحجاب ما
أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن، فجئت يوما لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أن لا يدخل علينا إلّا بإذن.
قوله: وَما كانَ لَكُمْ يعني وما ينبغي وما يصلح لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً نزلت في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه ولم يحجبها، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال: فاطمأنّ أبو بكر وسكن.
وروى معمر عن الزهري: أنّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلا وولدت له، وذلك قبل أن يحرّم على الناس أزواج النبي (عليه السلام).
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ....
قال ابن عبّاس: لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن أيضا نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ....
وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن.
وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم.
وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.
60

[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٦ الى ٦٨]

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠)
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عبّاس: وَمَلائِكَتُهُ بالرفع عطفا على محلّ قوله: اللَّهَ قبل دخول إنّ، نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى «١» وقد مضت هذه المثلة. يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ أي يثنون ويترحّمون عليه ويدعون له. وقال ابن عبّاس: يتبرّكون. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ترحّموا عليه وادعو له وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وحيّوه بتحية الإسلام.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن المطري، عن علي بن حرب، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل، عن إسماعيل بن محمد الصفّار، عن الحسين بن عروة، عن هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، وحدّثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني كعب بن عجرة قال: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ... قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قل: اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [٢١] «٢».
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، عن مكي بن عبدان، عن عمّار بن رجاء عن ابن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن مهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري قال:
قلنا: يا رسول الله هذا السلام قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟
(١) سورة المائدة: ٦٩.
(٢) مسند أحمد: ١/ ١٦٢، سنن الدارمي: ١/ ٣٠٩.
61
قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» [٢٢] «١».
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال:
فيما قرأت على ابن نافع، وحدّثني مطرف، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حرم، عن أبيه، عن عمرو بن سليمان الزرقي، أخبرني أبو حميد الساعدي أنّهم قالوا:
يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [٢٣] «٢».
وبإسناده عن مالك عن نعيم، عن عبد الله بن المجمر، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن [سعد] «٣» : أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فكيف نصلّي عليك؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله، ثمّ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» [٢٤] «٤».
وأخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن، عن داود ابن سليمان، عن عبد بن حميد قال: أخبرني أبو نعيم عن المسعودي، عن عون، عن أبي فاختة، عن الأسود قال: قال عبد الله: إذا صلّيتم على النبي صلّى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه، قالوا: فعلّمنا، قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والآخرون، اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد.
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحكم بن عبد الله بن الخطّاب، عن أمّ الحسن،
(١) مسند أحمد: ٣/ ٤٧، وصحيح البخاري: ٧/ ١٥٧. [.....]
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٤٢٤.
(٣) في نسخة أصفهان: عبد الله.
(٤) مسند أحمد: ٥/ ٢٧٤، وسنن الدارمي: ١/ ٣١٠.
62
عن أبيها قالوا: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال النبي (عليه السلام) : هذا من العلم المكنون، ولو أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله تعالى وكّل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان، لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ يعني بمعصيتهم إيّاه ومخالفتهم أمره. وقال عكرمة:
هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عزّ وجلّ،
وفي بعض الأخبار يقول الله جلّ جلاله: ومن أظلم ممّن أراد أن يخلق مثل خلقي فليخلق حبّة أو ذرّة
، وقال (عليه السلام) : لعن الله المصوّرين «١».
وقال ابن عبّاس: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأمّا اليهود فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ. وقالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وثالِثُ ثَلاثَةٍ. وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
قال قتادة: في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربّهم، وقيل:
معنى يُؤْذُونَ اللَّهَ يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال أهل المعاني: يؤذون أولياء الله مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢»
وقول رسول الله صلّى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أحد: هذا جبل يحبّنا ونحبّه
، فحذف الأهل، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاه.
وَرَسُولَهُ قال ابن عبّاس: حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له: شاعِرٌ وساحِرٌ ومُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
وروى العوفي عنه: أنّها نزلت في الذين طعنوا على النبي (عليه السلام) في نكاحه صفيّة بنت حيي بن أخطب
، وقيل: بترك سنّته ومخالفة شريعته.
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
قال الحسن وقتادة: إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه، أحبّ الله فأحبّه، وغضب لربّه فغضب الله له، وإنّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه. وقال مجاهد: يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا.
وقال مقاتل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنّ ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه.
وقيل: في شأن عائشة.
وقال الضحّاك والسدي والكلبي: نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرّزن بالليل لقضاء حوائجهنّ، فيرون
(١) صحيح البخاري: ٦/ ١٨٨، والدر المنثور ١/ ٣٦٧.
(٢) سورة يوسف: ٨٢.
63
المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتّبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلّا الإماء، ولم يكن يومئذ تعرف الحرّة من الأمة ولأنّ زيّهن كان واحدا، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار الحرّة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه. فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ... ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنّهنّ حرائر فلا يتعرّض لهنّ ولا يؤذين.
قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من ترك السنن رَحِيماً بهنّ إذ سترهنّ وصانهنّ. قال ابن عبّاس وعبيدة: أمر الله النساء المؤمنات أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. قال أنس: مرّت جارية بعمر بن الخطّاب متقنّعة فعلاها بالدرّة وقال: يا لكاع أتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع.
قوله عزّ وجلّ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور، يعني الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، وذلك أنّ ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قتلوا وهزموا، وكانوا يقولون: قد أتاكم العدوّ ونحوها.
وقال الكلبي: كانوا يحبّون أن يفشوا الأخبار، وأَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا...
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنولعنّك ونحرشنّك بهم، ونسلطنّك عليهم. ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لا يساكنونك في المدينة إلّا قليلا حتّى يخرجوا منها مَلْعُونِينَ مطرودين، نصب على الحال، وقيل: على الذم أَيْنَما ثُقِفُوا أصيبوا ووجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. قال قتادة:
ذكر لنا أنّ المنافقين أرادوا أن يظهروا لما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه.
وأنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني عن عبد الله بن جعفر النساوي، عن محمد بن أيّوب عن عبد الله بن يونس، عن عمرو بن شهر، عن أبان، عن أنس قال: كان بين رجل وبين أبي بكر شيء، فنال الرجل من أبي بكر، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى غمر الدّم وجهه، فقال: «ويحكم، ذروا أصحابي وأصهاري، احفظوني فيهم لأنّ عليهم حافظا من الله عزّ وجلّ، ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله منه، ومن تخلّى الله منه يوشك أن يأخذه» [٢٥].
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.
سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنّة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً. إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
64
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
قوله: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظهرا لبطن حين يسحبون عليها. وقراءة العامّة بضمّ التاء وفتح اللام على المجهول. وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلّب. وقرأ عيسى بن عمر (نقلب) بضم النون وكسر اللّام. وُجُوهُهُمْ نصبا.
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم (ساداتنا) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي عذابنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ يحيى بن وثاب وعاصم كَبِيراً بالباء وهي قراءة أصحاب عبد الله.
وقرأ الباقون بالثاء، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ثمّ قالا: إنّا اخترنا الثاء لقوله: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «١» وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «٢» فهذا يشهد للكثرة.
وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضا يقول: سمعت محمد بن أبي السري يقول: رأيت في المنام كأنّي في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني وهو يقول: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وأنا أقول كثيرا فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان في وسط المسجد منارة لها باب، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقصدها فقلت:
هذا النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، استغفر لي، فأمسك عنّي فجئت عن يمينه فقلت: يا رسول الله، استغفر لي فأعرض عنّي، فقمت في صدره فقلت: يا رسول الله حدّثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: أنّك ما سئلت شيئا قط فقلت: لا، فتبسّم، ثمّ قال: «اللهمّ اغفر له»، فقلت: يا رسول الله، إنّي وهذا نتكلّم في قوله: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وهو يقول: كَبِيراً وأنا أقول: «كثيرا»، قال: فدخل المنارة وهو يقول: كثيرا إلى أن غاب صوته عنّي. [٢٦]، يعني بالثاء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
(١) سورة البقرة: ١٥٩.
(٢) سورة البقرة: ١٦١.
65
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ فطهّره الله سبحانه مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً كريما مقبولا ذا جاه، واختلفوا فيما آذوا به موسى.
فأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرني أبو حامد بن الشرفي، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر المطيري قال: أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، عن عبد الرزاق، عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى (عليه السلام) يغتسل وحده، فقالوا:
والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر «١»
، فذهب مرّة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففرّ الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا» [٢٧] «٢».
قال أبو هريرة: إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى (عليه السلام).
وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستيرا لا يكاد يري من جلده شيئا يستحيي منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستر هذا الستر إلّا من عيب بجلده، إمّا برص وإمّا برص وإمّا أدرة، فأراد الله أن يبرئه ممّا قالوا: وإنّ موسى خلا يوما وحده، فوضع ثوبه على حجر ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بعد الحجر بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، وجعل يقول:
ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدلهم صورة، وإنّ الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضربا، وقال الملأ: قاتل الله أفّاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برّأه الله منها»
[٢٨] «٣».
وقال قوم: كان إيذاؤهم إيّاه ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون.
أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أنّ المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري، حدّثني علي بن مسلم الطوسي، عن عبّاد عن سفيان بن حصين، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى... قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدّ حبّا لنا منك وألين لنا منك، فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على
(١) آدر: مصدره الادرة: رجل آدر يعني عفل وهي نفخة في الخصية.
(٢) صحيح البخاري: ١/ ٧٣، وصحيح مسلم: ٧/ ٩٩.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٥١٥، والمصنف لابن أبي شيبة: ٧/ ٤٥٥.
66
بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنّه مات، فبرّأه الله من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله إلّا الرّخم فجعله الله أصمّ أبكم.
وقال أبو العالية: هو أنّ قارون استأجر مومسة لتقذف موسى (عليه السلام) بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله منه وبرّأ موسى من ذلك وأهلك هارون.
وقد مضت هذه القصّة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي حقّا قصدا. ابن عبّاس: صوابا.
قتادة ومقاتل: عدلا. المؤرخ: مستقيما. عكرمة: هو قول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. ابن حيان: يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديدا ولا تنسبوا رسول الله صلّى الله عليه إلى ما لا يحمل. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً.
قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قيل: كان العرض على أعيان هذه الأشياء، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ. وقيل: عرضها على من فيها من الملائكة.
وقيل: عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها، وهذا كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١» [أي أهلها].
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، وكان العرض تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ واختلفوا في الأمانة، فقال أكثر المفسّرين: هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال، إن أدّوها أثابهم وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا:
لا، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.
فقال الله تعالى لآدم: إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا ربّ وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال: بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى: أمّا إذا تحمّلت فسأعينك فاجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا، فإذا خشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرّمت عليك.
قالوا: فما لبث آدم إلّا مقدارا ما بين الظهر والعصر حتى أخرج من الجنّة. وقال مجاهد:
الأمانة الفرائض وحدود الدين. وأبو العالية: هي ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم وغيره: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال: أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة
(١) سورة يوسف: ٨٢.
67
وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه:
خمس من جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس- وكان يقول:
[وأيم] الله لا يفعل ذلك إلّا مؤمن- وأدّى الأمانة.
قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ «١» قال: الغسل من الجنابة. قال: الله عزّ وجلّ لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره «٢».
وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة ائتمنت على فرجها.
وقال عبد الله بن عمر بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانة استودعتكها. فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهد، فحق على كل مؤمن ألّا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، وقال السدي بإسناده:
هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانته إياه في قتل أخيه- وذكر القصة إلى أن قال-:
قال الله عز وجل لآدم: يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتا؟ قال: اللهم لا.
قال: فإن لي بيتا بمكة فأته. فقال آدم للسماء: «احفظي ولدي بالأمانة» [٢٩]، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم (عليه السلام)، فرجع وقد قتل قابيل هابيل، فذلك قوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله.
وقال الآخرون: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعني آدم. ثم اختلفت عباراتهم في معنى (الظلوم) و (الجهول) فقال ابن عباس والضحاك: ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا غرّا بأمر الله وما احتمل من الأمانة. قتادة: ظَلُوماً للأمانة جَهُولًا عن حقها. الكلبي: ظَلُوماً حين عصى ربه، جَهُولًا لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة. الحسين بن الفضل: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا عند الملائكة لا عند الله.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
(١) في المصدر: قيل: يا نبي الله
(٢) تفسير الطبري: ٢٢/ ٦٨ مورد الآية، وكنز العمال: ١٥/ ٨٨٧ ح ٤٣٥١٣، ومجمع الزوائد: ١/ ٤٧.
68
Icon