تفسير سورة الأحزاب

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَثَلِهِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [١٧ ٢٢]، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ، مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [٥ ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ.
فِي هَذِهِ الْحَرْفِ أَرْبَعُ قِرَاءاتٍ سَبْعِيَّةٍ: قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحْدَهُ: تُظَاهِرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فَهَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (تَظَاهَرُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مَفْتُوحَةٌ مُخَفَّفَةٌ، فَأَلِفٌ فَهَاءٌ مَفْتُوحَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ يُشَدِّدُ الظَّاءَ، وَهُمَا يُخَفِّفَانِهَا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (تَظَّهَّرُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ فَهَاءٌ مَفْتُوحَتَانِ مُشَدَّدَتَانِ بِدُونِ أَلِفٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُظَاهِرُونَ، عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ مُضَارِعُ ظَاهَرَ بِوَزْنِ فَاعَلَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَاهَرَ بِوَزْنِ تَفَاعَلَ حُذِفَتْ فِيهِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» :
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتَدَى قَدْ يُقْتَصَرْ فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنِ الْعِبَرْ
فَالْأَصْلُ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ تَتَظَاهَرُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَاهَرَ أَيْضًا، كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، إِلَّا أَنَّ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أُدْغِمَتْ فِي الظَّاءِ وَلَمْ تُحْذَفْ، وَمَاضِيهِ اظَّاهَرَ كَـ ادَّارَكَ [٢٧ ٦٦]، وَاثَّاقَلْتُمْ [٩ ٣٨]، وَادَّارَأْتُمْ [٢ ٧٢]، بِمَعْنَى تَدَارَكَ، إِلَخْ.
188
وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَهَّرَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ تَتَظَهَّرُونَ بِتَاءَيْنِ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الظَّاءِ، وَمَاضِيهِ: اظَّهَّرْ، نَحْوَ: اطَّيَّرْنَا [٢٧ ٤٧] وَازَّيَّنَتْ [١٠ ٢٤]، بِمَعْنَى: تَطَيَّرْنَا، وَتَزَيَّنَتْ ; كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «طه»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٧ ١١٧]، فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَتَظَاهَرَ مِنْهَا، وَتَظَهَّرَ مِنْهَا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَعْنِي: أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يُطَلِّقُونَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَا تَكُونُ أُمًّا لَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ»، فَبَيَّنَ أَنَّ أَزْوَاجَهُمُ اللَّائِي ظَاهَرُوا مِنْهُنَّ لَسْنَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ هُنَّ النِّسَاءُ الَّاتِي وَلَدْنَهُمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْكَفَّارَةَ اللَّازِمَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٥٨ ٢ - ٤].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ»، مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْإِيضَاحِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ حَرَامٌ حُرْمَةٌ شَدِيدَةٌ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَمَا صَرَّحَ
189
اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ وَزُورٌ فَحُرْمَتُهُ شَدِيدَةٌ كَمَا تَرَى. وَبَيَّنَ كَوْنَهُ كَذِبًا وَزُورًا بِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُنْكَرُ الظِّهَارِ وَزُورُهُ، إِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحًا غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ وَالزُّورَ وَعَفَا عَنْهُ، فَسُبْحَانُهُ مَا أَكْرَمَهُ وَمَا أَحْلَمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ الْعَوْدِ الَّذِي رَتَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَإِزَالَةِ إِشْكَالٍ فِي الْآيَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، وَسَنَذْكُرُ هُنَا كَلَامَنَا الْمَذْكُورَ فِيهِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ.
فَفِي «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ»، مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ بِالْعِتْقِ عَلَى الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ يَلْزَمُ كَوْنَهُ مِنْ قَبْلِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَسِيسِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ قَوْلِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَحَكَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَالْفَرَّاءِ وَفِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَالَ بِهِ شُعْبَةُ: مِنْ أَنَّ مَعْنَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا هُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ، فَيُكَرِّرُونَهُ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلٌ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلِ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا آيَةُ الظِّهَارِ، هَلْ كَرَّرَ زَوْجُهَا صِيغَةَ الظِّهَارِ أَوْ لَا؟ وَتَرَكَ الِاسْتِفْصَالَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَمَنْعَ الْجِمَاعِ قَبْلَهَا، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا تَكْرِيرُ صِيغَةِ الظِّهَارِ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، سَالِمِينَ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَى بَقَاءِ التَّرْتِيبِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
190
وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَرْضَاهُمْ.
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ: مَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ قَوْلَانِ، تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا مُرَجَّحٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَطْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ وَإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ مَعًا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ.
لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ يَعْزِمُونَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ.
وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ الْإِرَادَةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [٥ ٦]، أَيْ: أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [١٦ ٩٨]، أَيْ: أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ الْآيَةَ [١٦ ٩٨].
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الْمُظَاهَرَةِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا ; لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ إِيَّاهَا الزَّمَنَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَحْمَدَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ. أَمَّا الْعَزْمُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْجِمَاعُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ ظَاهَرَ وَجَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا جَوَازُ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْ حُكْمَ مَا إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَأَنَّهُ وُجُوبُ التَّكْفِيرِ قَبْلَ مَسِيسٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَسِيسِ الْأَوَّلِ فَحُرْمَتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَيْهِ فَلَا
191
إِشْكَالَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَالِكٍ، مِنْ أَنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَنَّ الْعَوْدَ الْجِمَاعُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ خِلَافُ الْمُقَرَّرِ فِي فُرُوعِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ; كَمَا ذَكَرْنَا. وَغَالِبُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْعُودِ الرُّجُوعُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، خُصُوصُ الْجِمَاعِ وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَالتَّحْقِيقُ: عَدَمُ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِوَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ، قَائِلًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، نَفْسُ الْجِمَاعِ لَا مُقَدِّمَاتُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا، بِمَعْنَى: فِي، أَيْ: يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا بِمَعْنَى يَرْجِعُونَ فِيهِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَاهِبُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ» الْحَدِيثَ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى: عَنْ، أَيْ: يَعُودُونَ عَمَّا قَالُوا، أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبِلَهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الْعَوْدَ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهَى، فَمَبْدَؤُهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَمُنْتَهَاهُ الْوَطْءُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ فَقَدْ عَادَ بِالنِّيَّةِ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَمَنْ وَطَءَ بِالْفِعْلِ تَحَتَّمَ فِي حَقِّهِ اللُّزُومُ، وَخَالَفَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ، بِمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ عَمَلٌ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا يُوَافِقُ قَوْلَ الظَّاهِرِيَّةِ، الَّذِي قَدَّمْنَا بُطْلَانَهُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا، أَنَّهُ صِيغَةُ الظِّهَارِ، فَيَكُونُ الْعَوْدُ لَهَا تَكْرِيرَهَا مَرَّةً أُخْرَى.
192
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَعْنَى لِمَا قَالُوا: أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ وُجُودُ نَظِيرِهِ فِي الْقُرْآنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [١٩ ٨٠]، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فِي قَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [١٩ ٧٧]، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَنْ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى، حَتَّى يُكَفِّرَ، هُوَ التَّحْقِيقُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْمَسِيسِ ; كَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ. وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَتَانِ ; كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ; كَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي، أَوْ أُخْتِي، أَوْ جَدَّتِي، أَوْ عَمَّتِي، أَوْ أُمِّي مِنَ الرِّضَاعِ، أَوْ أُخْتِي مِنَ الرِّضَاعِ، أَوْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ آخَرَ غَيْرَ الظَّهْرِ، كَأَنْ يَقُولُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَرَأْسِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي إِلَخْ، أَوْ بَطْنِ مَنْ ذَكَرَ، أَوْ فَرْجِهَا، أَوْ فَخْذِهَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ ظِهَارٌ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ; لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَا هِيَ فِي تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ كَأُمِّهِ، فَمَعْنَى الظِّهَارِ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ جَدِيدُ قَوْلَيِّ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ الظِّهَارُ إِلَّا بِأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ، لِأَنَّهَا أُمٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِالْأُمِّ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَلَنَا أَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ فَأَشْبَهْنَ الْأُمَّ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ فِيهَا: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَجَرَى مَجْرَاهُ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا، إِذَا كَانَتْ مِثْلَهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ سِوَى الْأَقَارِبِ، كَالْإِمْهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَحَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ اللَّاتِي دُخِلَ بِأُمِّهِنَّ فَهُوَ ظِهَارٌ أَيْضًا، وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ
193
مَا تَقَدَّمَ، وَيَزِيدُ فِي الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ دُخُولُهَا فِي عُمُومِ الْأُمَّهَاتِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي النَّصِّ، وَسَائِرُهُنَّ فِي مَعْنَاهَا، فَثَبَتَ فِيهِنَّ حُكْمُهَا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي»، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
فَرْعَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا، كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ، وَعَمَّتِهَا وَكَالْأَجْنَبِيَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ ظِهَارٌ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمُحَرَّمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي التَّحْرِيمِ ; لَأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إِذَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، يَكُونُ ظِهَارًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمٌ، فَيَكُونُ ظِهَارًا.
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا امْرَأَتَهُ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ ظَهْرِ الْأُمِّ إِلَّا إِنْ كَانَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا كَالْأُمِّ، وَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُهَا غَيْرَ مُؤَبَّدٍ كَانَ التَّشْبِيهُ بِهَا لَيْسَ بِظِهَارٍ، كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ حَائِضٍ، أَوْ مُحْرِمَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ يَكْفِي فِي الظِّهَارِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، قَالُوا: وَأَمَّا الْحَائِضُ، فَيُبَاحُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْفَرَجِ، وَالْمُحْرِمَةُ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَمْسُهَا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ، وَلَيْسَ فِي وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَدٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي»، مَعَ تَصَرُّفٍ يَسِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى.
وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحْرَمِ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ: فَبِهَذَا أَقُولُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَانَ طَلَاقًا. قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي وَأَجْرَاهَا عَلَى الْأُصُولِ، هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَلَوْ كَانَتِ الَّتِي شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِهَا غَيْرَ مُؤَبَّدَةِ
194
التَّحْرِيمِ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الظِّهَارِ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِوَاسِطَةِ تَشْبِيهِهَا بِمُحَرَّمَةٍ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِتَشْبِيهِهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ فِي الْحَالِ، وَلَوْ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ حَاصِلٌ بِذَلِكَ فِي قَصْدِ الرَّجُلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ مَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوِ ابْنِي أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الرِّجَالِ، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَمَالِ زَيْدٍ، وَهَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: فِيهِ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ مَالَهُ.
وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ الرَّجُلِ، لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَمْ أَرَهُ يَلْزَمُ فِيهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِامْرَأَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، أَشْبَهَ التَّشْبِيهَ بِمَالِ غَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّشْبِيهِ بِظَهْرِ الرَّجُلِ. وَعَزَاهُ فِي «الْمُغْنِي» لِابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ ظِهَارًا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ جَرَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ فِيهَا لِأَهْلِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَهِيَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، عَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوَّلًا إِنْ كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْعِيَّةً حُمِلَ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، ثُمَّ اللُّغَوِيَّةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ قَبْلَ الْعُرْفِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْعُرْفِيَّةَ، وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا لَا تُقَدَّمُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاسْتِوَاءِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ بِنِيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:
كَذَاكَ تَرِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يُحْتَمَلْ
وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ
فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ
وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسُ مَا مَضَى وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي مَثَلًا لَا يَنْصَرِفُ
195
فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالْوَطْءِ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ ; لِأَنَّ الْعُرْفَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِمْتَاعٌ بِالذُّكُورِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ ظِهَارٌ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَمُطْلَقُ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِمَحْرَمٍ وَلَوْ ذَكَرًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَيَكُونُ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ لَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَكَظَهْرِ الْبَهِيمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ حَرَامٌ ثُمَّ دَخَلَتْهَا، فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ نَحْوُ عِشْرِينَ قَوْلًا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ الظِّهَارِ هَذِهِ عَلَى أَنْ أَقْيَسَ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبَهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ ظِهَارٌ، تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مَعْنَاهُ: أَنْتِ عَلِيَّ حَرَامٌ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَا يَخْفَى أَنْ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى، كَمَا تَرَى.
وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْبَتِّيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: التَّحْرِيمُ ظِهَارٌ، اهـ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ بَعْدَ هَذَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْقَوْلُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [٦٦ ٢]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٦٦ ١]، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ الْآيَةَ [٦٦ ١].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مِنِّي أَوْ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ ظِهَارٌ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلِ أُمِّي، وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الظِّهَارَ ; لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعَانِيَ أُخْرَى غَيْرَ الظِّهَارِ، مَعَ كَوْنِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا مَشْهُورًا، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي». وَإِنْ نَوَى بِهِ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْهِ وَالتَّوْقِيرِ، أَوْ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكِبَرِ أَوِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي».
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَدْ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ صَرِيحٌ فِي
196
الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَتَانِ، أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ حَتَّى يَنْوِيَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَرَامَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْرِيمِ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَعَيَّنُ لَا عُرْفًا، وَلَا لُغَةً، إِلَّا لِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الظِّهَارَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَوَجْهُ الْأَوَّلِ يَعْنِي الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ ظِهَارٌ أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِجُمْلَةِ أُمِّهِ، فَكَانَ مُشَبِّهًا لَهَا بِظَهْرِهَا، فَيَثْبُتُ الظِّهَارُ ; كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِهِ مُنْفَرِدًا.
وَالَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الظِّهَارِ مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْحَلِفِ، فَيَقُولُ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ حَالَ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ فَهُوَ ظِهَارٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَلِفِ فَالْحَلِفُ يُرَادُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ شَيْءٍ أَوِ الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهَا مِثْلَ أُمِّهِ فِي صِفَتِهَا أَوْ كَرَامَتِهَا لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الظِّهَارَ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَاهَا، وَيُوجِبُ اجْتِنَابَهَا وَهُوَ الظِّهَارُ، وَإِنْ عُدِمَ هَذَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِ الظِّهَارِ احْتِمَالًا كَثِيرًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ الظِّهَارُ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي»، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا انْقَلَبَ إِلَيْهِ حَرَامٌ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَذَلِكَ لِدُخُولِ الزَّوْجَةِ فِي عُمُومِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ، اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَهَذَا عَلَى أَقْيَسِ الْأَقْوَالِ وَهُوَ كَوْنُ التَّحْرِيمِ ظِهَارًا، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ حَرَامٌ عَلَيَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الظِّهَارُ، مَعَ لُزُومِ مَا يَلْزَمُ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ مَالٍ، وَهُوَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدِ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ.
197
وَهَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ فِي «الْمُغْنِي» عَنْ أَحْمَدَ وَنَصَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَرَامٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا مُطْلَقًا، وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ، وَلَوْ نَوَاهُ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ صَرِيحَةٌ فِي الظِّهَارِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي، أَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ كَانَ بَائِنًا بَانَتْ بِهِ، وَلَا يَقَعُ ظِهَارٌ بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي ; لِأَنَّ تَلَفُّظَهُ بِذَلِكَ وَقَعَ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَهُوَ كَالظِّهَارِ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَنَوَى بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي، الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا ; لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الظِّهَارُ وَالطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الظِّهَارَ، فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا، لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوَّلًا، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: كَظَهْرِ أُمِّي، صِفَةً لَهُ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى الظِّهَارِ. وَنَقَلَ فِي «الْمُغْنِي» هَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا عَنِ الْقَاضِي وَقَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا لَوْ قَدَّمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ، فَالْأَظْهَرُ وُقُوعُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ; لِأَنَّ الظِّهَارَ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ حُكْمَهُ، فَلَا يَمْنَعُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ شَبَّهَ أَيَّ عُضْوٍ مِنَ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أَوْ بِأَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِحُصُولِ مَعْنَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ عُضْوُ الْأُمِّ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَرَأْسِهَا وَيَدِهَا أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ كَفَرْجِهَا وَفَخْذِهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا حَتَّى يُشَبِّهَ جُمْلَةَ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَا يَمَسُّ عُضْوًا مُعَيَّنًا مِنْهَا لَمْ يَسِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَكَذَلِكَ الْمُظَاهَرَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ شَبَّهَهَا بِمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمِّ كَالْفَخْذِ وَالْفَرْجِ فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ شَبَّهَهَا بِمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، كَالْيَدِ وَالرَّأْسِ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالتَّشْبِيهِ بِعُضْوِ زَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الظِّهَارُ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهُ ظِهَارٌ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ حَاصِلٌ بِهِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى صَرِيحِ الظِّهَارِ، فَقَوْلُهُمْ: وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى حَلِفِهِ بِاللَّهِ لَا يَمَسُّ عُضْوًا
198
مُعَيَّنًا مِنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ يَحْصُلُ بِبَعْضٍ، وَالْحَلِفُ عَنْ بَعْضٍ لَا يَسْرِي إِلَى بَعْضٍ آخَرَ، كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَا يَحْصُلُ الظِّهَارُ بِالتَّشْبِيهِ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّ التَّلَذُّذَ بِهِ حَرَامٌ، وَالتَّلَذُّذُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَالتَّشْبِيهُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَالظِّهَارُ هُوَ نَفْسُ التَّحْرِيمِ بِوَاسِطَةِ التَّشْبِيهِ بِعُضْوِ الْأُمِّ الْمُحَرَّمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الظِّهَارَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: شَعْرُكِ، أَوْ رِيقُكِ، أَوْ كَلَامُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَلَذَّذُ بِهَا الْأَزْوَاجُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ»، وَكَذَلِكَ الرِّيقُ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمُصُّهُ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهَا: سُعَالُكِ أَوْ بُصَاقُكِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ السُّعَالَ وَالْبُصَاقَ وَمَا يُجْرِي مَجْرَاهُمَا، كَالدَّمْعِ لَيْسَ مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهِ عَادَةً، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأُمِّ وَلَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمَمْلُوكَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْ عَطَاءٍ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ.
وَاحْتَجَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمَةَ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا، بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، يَخْتَصُّ بِالْأَزْوَاجِ دُونَ الْإِمَاءِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الظِّهَارَ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَةُ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنُقِلَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ مَحَلُّهُ، وَمَحَلُّ الطَّلَاقِ الْأَزْوَاجُ دُونَ الْإِمَاءِ.
199
وَمِنْهَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَمَةِ تَحْرِيمٌ لِمُبَاحٍ مِنْ مَالِهِ، فَكَانَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَتَحْرِيمِ سَائِرِ مَالِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَالِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ».
قَالُوا: وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ جَارِيَتَهُ مَارِيَةَ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ظِهَارٌ بَلْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [٦٦ ١]، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [٦٦ ٢].
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ، بِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالُوا: وَإِمَاؤُهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّ تَمَتُّعَهُمْ بِإِمَائِهِمْ مِنْ تَمَتُّعِهِمْ بِنِسَائِهِمْ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمَةَ يُبَاحُ وَطْؤُهَا، كَالزَّوْجَةِ فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ، نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُرْبَ الْعَسَلِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، لَا فِي تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ.
وَحُجَّةُ الْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحُجَّةُ عَطَاءٍ كِلْتَاهُمَا وَاضِحَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: بِصِحَّةِ الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ عَلَيْنَا ; لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَلْزَمُ، فَكَيْفَ يَبْطُلُ فِيهَا صَرِيحُ التَّحْرِيمِ وَتَصِحُّ كِنَايَتُهُ؟ وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُحَلَّلَاتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبِضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعِقْدِ، فَصَحَّ فِي الْأَمَةِ أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى، اهـ مِنْهُ، بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: لَا يَبْعُدُ بِمُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَالْمُقَرَّرِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ مَارِيَةَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِهِ الْعَسَلَ الَّذِي كَانَ شَرِبَهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَقِصَّةُ ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ ثَبَتَ بِسَنَدٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ غَيْرِ
200
الْأَوَّلِ، وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا مَعًا، فَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ، كَنُزُولِ آيَةِ اللَّعَّانِ فِي عُوَيْمِرٍ وَهِلَالٍ مَعًا.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ جَارِيَتَهُ، وَإِذَا عَلِمْتَ بِذَلِكَ نُزُولَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ، فِي تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا، وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا مِنْهَا، وَأَنَّهُ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ; كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ جَارِيَتَهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، بَعْدَ تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِغْفَارُ فَقَطْ، فَقَدِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، قَالَ مَعَ ذَلِكَ: «وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَيْهَا»، وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ الَّتِي نَزَلَ فِي شَأْنِهَا: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وَلَمْ تَنْزِلْ فِي مُطْلَقِ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ، وَالْيَمِينُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ، قَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ، لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ، اهـ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ كُلَيْبٍ رَوَاهُ فِي مَسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَسَاقَ السَّنَدَ الْمَذْكُورَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَتْنُ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالْيَمِينُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ وَالزَّوْجَةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ آيَةَ لِمَ تُحَرِّمُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَآيَةَ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْآيَةَ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي «الْمُجَادَلَةِ» ; لِأَنَّ مَعْنَى: يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ هُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مَعْنَاهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ «التَّحْرِيمِ» عَلَى حُكْمِ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ، وَآيَةُ «الْمُجَادَلَةِ» عَلَى حُكْمِ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا حُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ،
201
كَمَا تَرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَالَ: إِنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ كَحُكْمِ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ الْمَنْصُوصِ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ»، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ تَدُلُّ بِفَحْوَاهَا عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ ظِهَارٌ ; لِأَنَّ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي»، وَ «أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ» مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي تَحْرِيمِهَا بِظِهَارٍ، أَوْ بِصَرِيحِ التَّحْرِيمِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوِ الِاسْتِغْفَارُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ عِشْرُونَ قَوْلًا، وَسَنَذْكُرُهَا هُنَا بِاخْتِصَارٍ وَنُبَيِّنُ مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لَغْوٌ بَاطِلٌ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَدَاوُدُ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، اخْتَارَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ. وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ: لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ نَعْلِي. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ حَرَّمْتُ مَاءَ النَّهْرِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ مَنْهَالٍ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ حَرَامًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [٩٤ ٧ - ٨]، وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ، فَاذْهَبْ فَالْعَبْ، اهـ مِنْهُ.
وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [١٦ ١١٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [٥ ٨٧]، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [٦ ١٥٠]، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا.
202
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَضَى فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّلَاثِ فِي عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ مَسَسْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَكَ لَأَرْجُمَنَّكَ. وَقَالَ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» : وَرُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: الثَّابِتُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَذَكَرَ فِي «الزَّادِ» أَيْضًا: أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ نَقَلَ عَنْ عَلِيٍّ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِثَلَاثٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالثَّلَاثِ، فَكَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حَرَامًا عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا، قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ طَلَاقًا بَلْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ.
وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَهُ إِنَّمَا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَحْرِيمِهِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ. قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ، إِنَّمَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَ السَّبَبِ الَّذِي يُحَرَّمُ بِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ فَوَجَبَ الْوَقْفُ لِلِاشْتِبَاهِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمِينٌ. قَالَ فِي «الْإِعْلَامِ» : وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ، اهـ.
وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا عَنِ النَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ التَّحْرِيمَ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِهِ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ
203
نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا هُوَ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ، وَحَكَاهُ النَّخَعِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِمَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ نِيَّتَهُ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: مِثْلُ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ: مِثْلُ هَذَا أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إِعْمَالًا لِلَّفْظِ التَّحْرِيمِ، هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ»، وَلَمْ يَعْزُهُ لِأَحَدٍ.
وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
الْقَوْلُ التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَشْبِيهَ الْمَرْأَةِ بِأُمِّهِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ ظِهَارًا وَجَعَلَهُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ يَجْعَلُهُ مُظَاهِرًا، فَإِذَا صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا كَانَ أَوْلَى بِالظِّهَارِ، وَهَذَا أَقْيَسُ الْأَقْوَالِ وَأَفْقَهُهَا. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُكَلَّفِ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مُبَاشَرَةَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، فَالسَّبَبُ إِلَى الْعَبْدِ وَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالزُّورَ، وَقَدْ كَذَبَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ، وَلَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَغْلَظَ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ.
الْقَوْلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ تَطْلِيقَ التَّحْرِيمِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِالثَّلَاثِ، بَلْ يَصْدُقُ بِأَقَلِّهِ وَالْوَاحِدَةُ مُتَيَقَّنَةٌ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا الْيَقِينُ فَهُوَ نَظِيرُ التَّحْرِيمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
الْقَوْلُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي فِيمَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ نِيَّتُهُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَيَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا مُجَرَّدًا كَانَ امْتِنَاعًا مِنْهَا بِالتَّحْرِيمِ كَامْتِنَاعِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي
204
الْمَوْضِعَيْنِ، اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ.
قَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»، بَلْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ نَفْسُهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، لِاقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ لِلْبَيْنُونَةِ، وَهِيَ صُغْرَى وَكُبْرَى، وَالصُّغْرَى هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ، فَاعْتُبِرَتْ دُونَ الْكُبْرَى. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إِنْ نَوَى الْكَذِبَ دِينَ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ بَلْ كَانَ مُؤْلِيًا، وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا عِنْدَهُ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهْ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: أَعْنِي بِهَا الظِّهَارَ، لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، انْتَهَى مِنْ «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ».
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الْقَيِّمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ. وَفِي «الْفَتْحِ» عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهِيَ يَمِينٌ وَيَصِيرُ مُؤْلِيًا، اهـ.
الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَنَافِعٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ يَقِينًا، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَيَخْرُجُ الْمَذْكُورُ عَنْ حُكْمِ التَّحِلَّةِ الَّتِي قَصَدَ ذِكْرَهَا لِأَجْلِهِ، اهـ مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، نَازِلٌ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ
205
شُمُولِ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، لِقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ. وَالْجَزْمُ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ نَظَرٍ، لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ نَازِلٌ فِي حَلِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ لِمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لَا فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ أَشَرْنَا لِلرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً غُلِّظَتْ كَفَّارَتُهَا بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ، وَوَجْهُ تَغْلِيظِهَا تَضَمُّنُهَا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ. وَقَوْلُ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ وَإِنْ أَرَادَ الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي إِخْبَارِهِ مُعْتَدٍ فِي إِقْسَامِهِ، فَغُلِّظَتْ كَفَّارَتُهُ بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ ; كَمَا غُلِّظَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِهِ أَوْ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ، أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ، ثُمَّ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنَ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَهَا. وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَثَلَاثٌ. وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَجَبَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرَّمُ بِوَاحِدَةٍ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا لَا تُحَرَّمُ إِلَّا بِالثَّلَاثِ.
وَبَعْدُ: فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا، وَهُوَ مَشْهُورُهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِكُلِّ حَالٍ نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا، اخْتَارَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي مَبْسُوطِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مُطْلَقًا، حَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، انْتَهَى مِنْ «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ».
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اثْنَانِ، وَهُمَا الْقَوْلُ بِالثَّلَاثِ وَبِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ، وَقَدْ جَرَى الْعَمَلُ فِي مَدِينَةِ فَاسَ بِلُزُومِ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ نَاظِمُ عَمَلِ فَاسَ:
206
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ كَانَ تَحْرِيمًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا تَقَدُّمُ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَكَانَ مَا نَوَاهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ فَلِأَصْحَابِهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ، وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ كِنَايَةٌ، قَالُوا: إِنَّ أَصْلَ الْآيَةِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْأَمَةِ، قَالُوا: فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهَا الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ. فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقَالُ لَهُ عَيِّنْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَصْلُحُ لِلظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا، قَالُوا: وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا أَنْكَرَهُ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيْكَ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي لَا نِيَّتُكَ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ نِيَّتُكَ مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، كَانَتِ النِّيَّةُ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا الْمُحَلَّفِ ; لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ إِلَيْهِ الْإِيقَاعُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِمُطْلَقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ، فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهُ يَمِينٌ بِمُطْلَقِهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ، فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ ظِهَارٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا طَلَاقًا ; كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ، بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ صَرِيحَانِ فِي الظِّهَارِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ، فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: يَكُونُ ظِهَارًا ; كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ التَّحْرِيمَ، إِذِ التَّحْرِيمُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ طَلَاقٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ، فَهَلْ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ وَعَلَى رِوَايَتَيْنِ مَأْخَذْهُمَا هَلِ اللَّامُ عَلَى الْجِنْسِ أَوِ الْعُمُومِ، وَهَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ حَلِفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْقَعَهُ كَانَ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَكَانَ أَوْلَى بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِمَّنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مِنَ الْأَيْمَانِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا
207
مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ، أَوْ أَحُجَّ، أَوْ أَصُومَ، لَزِمَهُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ، فَهُوَ يَمِينٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَفَرَ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَانَ يَمِينًا. وَطَرْدُ هَذَا بَلْ نَظِيرُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا، فَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ يَمِينًا، وَطَرْدُ هَذَا أَيْضًا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ يَمِينًا، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَّرِدَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمِيزَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي مَعَ كَثْرَتِهَا وَانْتِشَارِهَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْجَزًا أَوْ مُعَلَّقًا ; لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ يَجِبُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ أَكَثُرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» : فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَلَّا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ، اهـ.
ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنَ امْرَأَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَقَالَا: إِنْ نَكَحَهَا فَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ، اهـ.
وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ يَقَعُ بِوُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي تَحْرِيمِهَا كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوِ الِاسْتِغْفَارَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، هَلْ يَصِحُّ مِنْهُمَا ظِهَارٌ؟ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهُمْ عِنْدِي فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ مِنْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبٍ «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
208
وَطَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَحَلِفٌ بِهِ لِعُرْفِ الْإِقْلِيمِ
وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرْ مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرْ
وَعَلَيْهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لَا يَتَنَاوَلُهُ ; لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ، لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ، فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ ظِهَارِ الْعَبْدِ، وَانْحِصَارُ كَفَّارَتِهِ فِي الصَّوْمِ ; لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ يُكَفِّرُهُ اللَّهُ بِالْعِتْقِ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الْعِتْقُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الْإِطْعَامُ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لِكُفْرِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ، كَأَنْ يَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَصِحُّ الظِّهَارُ الْمُؤَقَّتُ، وَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَالَ الظِّهَارُ وَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا بِالْوَطْءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُهُ الْأَخِيرُ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ مُطْلَقًا، وَهَذَا لَمْ يُطْلَقْ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِذَا ظَاهَرَ فِي وَقْتٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ بَرَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ التَّوْقِيتُ وَيَكُونُ ظِهَارًا مُطْلَقًا ; لِأَنَّ هَذَا لَفْظٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ لَمْ يَتَوَقَّتْ، كَالطَّلَاقِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ يَصِحُّ وَيَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَبَعْضُ طُرُقِهِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَإِنْ أَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ بَعْضَ طُرُقِهِ بِالْإِرْسَالِ ; لِأَنَّ حَدِيثًا صَحَّحَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَعْنِيُّ قَالَا: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ ابْنُ
209
الْعَلَاءِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ الْبَيَاضِيُّ، قَالَ: كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنِ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَابَعُ بِي حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدِمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ... الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ رَقَبَةً، فَأَمَرَهُ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ، فَأَمَرَهُ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَذَكَرَ كَذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ قَوْمِهِ بَنِي زُرَيْقٍ مِنَ التَّمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَسَقًا مِنْهَا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَيَسْتَعِينُ بِالْبَاقِي، وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ظِهَارًا مُؤَقَّتًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَامَعَ فِي نَفْسِ الشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَهُ وَقْتًا لِظِهَارِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ يَصِحُّ، وَيَلْزَمُ وَلَوْ كَانَ تَوْقِيتُهُ لَا يَصِحُّ لَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يَتَأَبَّدُ وَيَسْقُطُ حُكْمُ التَّوْقِيتِ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ سَلْمَانَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ، جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانَ... الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، يُقَالُ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ، وَيُقَالُ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، اهـ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي أَخْرَجَ بِهَا التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي أَخْرَجَهُ بِهَا، وَكِلْتَاهُمَا تُقَوِّي الْأُخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْنَادَ التِّرْمِذِيِّ هَذَا لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمُبَارَكِ الْمَذْكُورَ فِيهِ كَانَ لَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ كِتَابَانِ أَحَدُهُمَا سَمَاعٌ، وَالْآخَرُ إِرْسَالٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ الْكُوفِيِّينَ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَضُرُّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ فِيهِ وَهُوَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ بَصْرِيٌّ لَا كُوفِيٌّ، وَلَمَّا سَاقَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْمَذْكُورَ، قَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِالِانْقِطَاعِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يُدْرِكْ سَلَمَةَ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ التِّرْمِذِيَّ لَيْسَ فِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَلَا ابْنُ
210
إِسْحَاقَ، فَالظَّاهِرُ صَلَاحِيَةُ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا يَرْفَعُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ إِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسِيسُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالْعَوْدِ، فَلَا يَعُودُ إِلَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ، وَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا يَظْهَرُ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الظِّهَارِ بَائِنًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالثَّلَاثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ لِسُقُوطِهَا بِالْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى، كَمَا أَسْقَطَهَا صَاحِبُ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ بِالْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُولُ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَكْفِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَعُرْوَةَ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةٌ ; لِأَنَّهُ وُجِدَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهَا بِهِ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَوَاهُ عَنْهُمَا الْأَثْرَمُ، وَلَا يُعَرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَلِمَةٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهَا الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَوْجَبَتْ كَفَارَّةً وَاحِدَةً كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفَارَقَ مَا إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا بِكَلِمَاتٍ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَقْتَضِي كَفَّارَةً تَرْفَعُهَا وَتُكَفِّرُ إِثْمَهَا، وَهَاهُنَا الْكَلِمَةُ وَاحِدَةٌ، فَالْكَفَّارَةُ وَاحِدَةٌ تَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَتَمْحُو إِثْمَهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ. انْتَهَى مِنْهُ.
211
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَقْيَسُ الْقَوْلَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَحْوَطُهُمَا التَّكْفِيرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَأَمَّا إِنْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بِأَنْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِانْفِرَادِهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالْأَظْهَرُ تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي كَفَّارَةً.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذَا. قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَرَبِيعَةَ، وَقَبِيصَةَ، وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهَا كَالْحَدِّ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ الطَّلَاقُ. وَلَنَا بِهَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إِحْدَاهَا بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَا تُكَفِّرُهَا كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَتَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْمَحَالِّ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْقَتْلِ، وَيُفَارِقُ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَرَّرَ الظِّهَارُ مِنْ زَوْجَتِهِ الْوَاحِدَةِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ كَرَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِي، وَإِنْ كَانَ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ظَاهَرَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِظِهَارِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ هِيَ الَّتِي أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [٥٨ ٣ - ٤].
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ، فَلَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا ذِمِّيًّا مَثَلًا أَجْزَأَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي».
وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ،
212
وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْإِيمَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مَا تَنَاوَلَهُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، قَالُوا: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي». وَاحْتَجَّ لِأَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الْآيَةَ [٤ ٩٢]، بِقَوْلِنَا فِيهِ وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ: أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَتَّحِدَ حُكْمُهُمَا وَسَبَبُهُمَا مَعًا كَتَحْرِيرِ الدَّمِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَيَّدَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [٦ ١٤٥]، وَأَطْلَقَهُ عَنِ الْقَيْدِ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» وَ «الْبَقَرَةِ» وَ «الْمَائِدَةِ». قَالَ فِي «النَّحْلِ» : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [٢ ١١٥]، وَقَالَ فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [٢ ١٧٣]، وَقَالَ فِي «الْمَائِدَةِ» : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الْآيَةَ [٦ ٣]. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ مَعًا، وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِالْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْلُو الْقِدْرَ مِنْ أَثَرِ تَقْطِيعِ اللَّحْمِ بَأْسًا ; لِأَنَّهُ دَمٌ غَيْرُ مَسْفُوحٍ، قَالُوا: وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ ثُمَّ يَحْذِفُونَ اتِّكَالًا عَلَى الْمُثْبَتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخُطَيْمِ الْأَنْصَارِيِّ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلَفُ
فَحَذَفَ رَاضُونَ لِدَلَالَةِ رَاضٍ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ ضَابِئِ بْنِ الْحَارِثِ الْبَرْجَمِيِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وَالْأَصْلُ: فَإِنِّي غَرِيبٌ وَقَيَّارٌ أَيْضًا غَرِيبٌ، فَحَذَفَ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ لِدَلَالَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا. وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ:
213
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي
يَعْنِي: كُنْتُ بَرِيئًا مِنْهُ، وَكَانَ وَالِدِي بَرِيئًا مِنْهُ أَيْضًا. وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَقَدْ زَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ بِأَنِّي وَمَا كَذَبُوا كَبِيرُ السِّنِّ فَانِي
يَعْنِي: زَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنِّي فَانٍ وَمَا كَذَبُوا.. إِلَخْ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ، لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ أَظْهَرُهَا. وَقِيلَ: بِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا وَأَبْعَدُهَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنْ يَتَّحِدَ الْحُكْمُ، وَيَخْتَلِفَ السَّبَبُ، كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي آيَةِ الْمُقَيَّدِ وَآيَةِ الْمُطْلَقِ وَاحِدٌ، وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي كَفَّارَةٍ، وَلَكِنَّ السَّبَبَ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْمُقَيَّدِ قَتْلٌ خَطَأٌ، وَسَبَبُ الْمُطْلَقِ ظِهَارٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلِذَا شَرَطُوا الْإِيمَانَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ حَمْلًا لِهَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، قَالُوا: وَيَعْتَضِدُ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ عَنْهَا، هَلْ هِيَ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ لَا؟ وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ. قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
وَنَزِّلْنَ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: عَكْسُ هَذِهِ، وَهِيَ الِاتِّحَادُ فِي السَّبَبِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ فِيهَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِصَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِطْعَامِهِ، فَسَبَبُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الظِّهَارُ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَكْفِيرٌ بِصَوْمٍ، وَالْآخِرَ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ، وَأَحَدُهُمَا مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ. وَالثَّانِي مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ، فَلَا يُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ. وَالْقَائِلُونَ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، مَثَّلُوا لِذَلِكَ بِإِطْعَامِ الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، مَعَ أَنَّ عِتْقَهُ وَصَوْمَهُ قَدْ قُيِّدَا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَيُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْإِطْعَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَمَثَّلَ لَهُ اللُّخَمِيُّ بِالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَيْثُ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [٥ ٨٩]، مَعَ إِطْلَاقِ الْكِسْوَةِ عَنِ الْقَيْدِ بِذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [٥ ٨٩] فَيُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيُشْتَرَطُ فِي
214
الْكِسْوَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تَكْسُونَ أَهْلِيكُمْ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ مَعًا، وَلَا حَمْلَ فِي هَذِهِ إِجْمَاعًا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ وَاحِدًا. أَمَّا إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى كِلَيْهِمَا لِتَنَافِي قَيْدَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْأَقْرَبِ لَهُ مِنْهُمَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لَهُ، فَلَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ إِذْ لَا تَرْجِيحَ بِلَا مُرَجَّحٍ، وَمِثَالُ كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ، مَعَ أَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [٥٨ ٤]، وَصَوْمَ التَّمَتُّعِ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [٢ ١٩٦]، وَالْيَمِينُ أَقْرَبُ إِلَى الظِّهَارِ مِنَ التَّمَتُّعِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صَوْمِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ صَوْمُ كَفَّارَةٍ بِخِلَافِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَيُقَيَّدُ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالتَّتَابُعِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَلَا يُقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الَّذِي فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: [فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ] لَمْ تَثْبُتْ ; لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِ مُتَتَابِعَاتٍ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمِثَالُ كَوْنِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ: صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [٢ ١٨٥]، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتَابُعٍ وَلَا تَفْرِيقٍ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ صَوْمَ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ، وَصَوْمَ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَى صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنَ الْآخَرِ، فَلَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَبْقَى عَلَى الِاخْتِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَابَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى مِنْ «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، مَعَ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ لِلْإِيضَاحِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ أَوْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ جَوَّزَ كُلَّ رَقَبَةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ، وَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً بِكُلِّ الْعُيُوبِ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، قَالَ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ مَعِيبَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَيِّدِ الرَّقَبَةَ بِشَيْءٍ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ الْقَوِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ الْعُيُوبِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
215
تَمْلِيكُ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الْأَعْمَى ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلَ فِي أَكْثَرِ الصَّنَائِعِ، وَلَا الْمَقْعَدُ، وَلَا الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ الْبَطْشِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ مَعَ فَقْدِهِمَا، وَالرِّجْلَانِ آلَةُ الْمَشْيِ فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ تَلَفِهِمَا، وَالشَّلَلُ كَالْقَطْعِ فِي هَذَا.
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا ; لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ: ذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالْعَمَلِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي». ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَبِهِ تَعْلَمُ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ مِثْلِ الْعُيُوبِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَلَا أَشَلُّهُمَا، وَلَا مَقْطُوعُ إِبْهَامِ الْيَدِ أَوْ سَبَّابَتِهَا أَوِ الْوُسْطَى ; لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدِ يَذْهَبُ بِذَهَابِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدَيْنِ يَزُولُ أَكْثَرُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ قُطِعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يَدٍ جَازَ ; لِأَنَّ نَفْعَ الْكَفَّيْنِ بَاقٍ وَقَطْعُ أَنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ كَقَطْعِ جَمِيعِهَا، فَإِنَّ نَفْعَهَا يَذْهَبُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أُنْمُلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ لَمْ يُمْنَعْ ; لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَا تَذْهَبُ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ كَالْأَصَابِعِ الْقِصَارِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ كُلُّهَا غَيْرَ الْإِبْهَامِ قَدْ قُطِعَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْمُلَةٌ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ قُطِعَ مِنَ الْإِصْبَعِ أُنْمُلَتَانِ فَهُوَ كَقَطْعِهَا ; لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَتِهَا، وَهَذَا جَمِيعُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَيْ: وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ وَيَدُهُ جَمِيعًا مِنْ خِلَافٍ أَجْزَأَتْ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ بَاقِيَةٌ، فَأَجْزَأَتْ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْأَعْوَرِ، فَأَمَّا إِنْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ، أَيْ: مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَذْهَبُ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ، وَيَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ إِجْزَاؤُهَا كَمَا لَوْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ. وَيُخَالِفُ الْعَوَرُ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالضَّرَرِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ شَمُّهُ أَوْ قُطِعَتْ أُذُنَاهُ مَعًا أَجْزَأَ مَعَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ. وَلَا يُجْزِئُ الْأَعْرَجُ إِذَا كَانَ عَرَجًا كَثِيرًا فَاحِشًا ; لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ كَقَطْعِ الرِّجْلِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وُيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالْإِجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ، فَأَشْبَهَ الْعَمَى، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ
216
الْمَنَافِعَ، وَالْعَوَرُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ; وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ فَأَشْبَهَ قَطْعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، وَيُفَارِقُ الْعَمَى فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا وَيَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الصَّنَائِعِ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ وَيُفَارِقُ قَطْعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِحْدَاهُمَا مَا يَعْمَلُ بِهِمَا، وَالْأَعْوَرُ يُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا يُدْرِكُ بِهِمَا.
وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا مُجَرَّدُ الْعَوَرِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ انْخِسَافُ الْعَيْنِ وَذَهَابُ الْعُضْوِ الْمُسْتَطَابِ ; وَلِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ يَمْنَعُ فِيهَا قَطْعُ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ، وَالْعِتْقُ لَا يَمْنَعُ فِيهِ إِلَّا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، وَيُجْزِئُ الْمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ. وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ: لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهَا الدِّيَةُ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ قَطْعَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَنَقْصِ السَّمْعِ، بِخِلَافِ الْيَدَيْنِ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأَنْفِ لِذَلِكَ، وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ إِذَا فَهِمَ بِالْإِشَارَةِ، وَالْأَخْرَسُ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ وَفَهِمَ الْإِشَارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ذَاهِبَةٌ، فَأَشْبَهَ زَائِلَ الْعَقْلِ، وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْخَرَسَ نَقْصٌ كَثِيرٌ يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ إِشَارَتَهُ، فَيَتَضَرَّرُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ فِيهِ وَذَهَابِ مَنْفَعَتَيِ الْجِنْسِ، وَوَجْهُ الْإِجْزَاءِ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْإِفْهَامِ، وَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ فَيُجْزِئُ ; لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ وَلَا بِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ كَالْحُمَّى وَمَا أَشْبَهَهَا أَجْزَأَ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِ.
وَأَمَّا نِضْوُ الْخَلْقِ يَعْنِي النَّحِيفَ الْمَهْزُولَ خِلْقَةً، فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْعَمَلِ أَجْزَأَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُجْزِئُ الْأَحْمَقُ وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ الْأَشْيَاءَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيَرَى الْخَطَأَ صَوَابًا. وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ مَنْ يَخْنُقُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْكَبِيرُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ ; لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، فَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهِ، كَالسَّالِمِ مِنَ الْعُيُوبِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي»، مَعَ حَذْفٍ يَسِيرٍ لَا يَضُرُّ بِالْمَعْنَى.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْجَانِي وَالْمَرْهُونِ وَعِتْقُ الْمُفْلِسِ عَبْدَهُ، إِذَا
217
قُلْنَا بِصِحَّةِ عِتْقِهِمْ، وَعِتْقُ الْمُدَبِّرِ وَالْخَصِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا ; لِكَمَالِ الْعِتْقِ فِيهِمْ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمَغْصُوبَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَلَا غَائِبَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ ; لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ فَلَا تُعْلَمُ صِحَّةُ عِتْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ أَجْزَأَ عِتْقُهُ ; لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ.
وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْحَمْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ، وَلَا يُتَيَقَّنُ أَيْضًا وُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ. وَلَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا غَيْرُ كَامِلٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا.
وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْبَتِّيُّ: يُجْزِئُ عِتْقُهَا ; لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ مَكَاتِبٍ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، انْتَهَى مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي». وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ غَالِبَ مَا فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ، وَاشْتِرَاطُ سَلَامَتِهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عِتْقُ جَنِينٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ عَتَقَ مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْإِصْبَعَيْنِ، أَوِ الْأَصَابِعِ، أَوِ الْإِبْهَامِ، أَوِ الْأُذُنَيْنِ، أَوْ أَشَلُّ، أَوْ أَجْذَمُ، أَوْ أَبْرَصُ، أَوْ أَصَمُّ، أَوْ مَجْنُونٌ وَإِنْ أَفَاقَ أَحْيَانًا، وَلَا أَخْرَسُ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا مَفْلُوجٌ، وَلَا يَابِسُ الشِّقِّ، وَلَا غَائِبٌ مُنْقَطِعٌ خَبَرُهُ، وَلَا الْمَرِيضُ مَرَضًا يُشْرِفُ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا الْهَرِمُ هَرَمًا شَدِيدًا، وَلَا الْأَعْرَجُ عَرَجًا شَدِيدًا، وَلَا رَقِيقٌ مُشْتَرًى بِشَرْطِ الْعِتْقِ لِمَا يُوضَعُ مِنْ ثَمَنِهِ فِي مُقَابَلَةِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَلَا مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ كَأَبِيهِ، وَلَا عَبْدٌ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَلَوْ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، فَفِيهِ لَهُمْ تَأْوِيلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ.
وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ، وَلَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، ثُمَّ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ لَمْ يُجْزِهْ عَنْ ظِهَارِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ عِتْقَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ سِرَايَةِ الْمُعْتَقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى نِصْفَهُ الْآخَرَ فَأَعْتَقَهُ تَكْمِيلًا لِرَقَبَةِ الظِّهَارِ، لَمْ يُجْزِهْ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ لِتَبْعِيضِ الْعِتْقِ إِنْ كَانَتْ مُعْسِرًا وَقْتَ عِتْقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ عِتْقَ النِّصْفِ الْبَاقِي يَلْزَمُهُ بِالْحُكْمِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ عِتْقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ،
218
وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَ رِقَابٍ عَنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ لَمْ يُجْزِهْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ رَقَبَةٌ كَامِلَةٌ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
وَيُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عِتْقُ الْمَغْصُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا خَفِيفًا، وَالْأَعْرَجِ عَرَجًا خَفِيفًا، وَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُمْ قَطْعُ أَنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أُذُنٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ الْأَعْوَرُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْخَصِيُّ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ عِتْقُ الْمَرْهُونِ وَالْجَانِي إِنِ افْتَدَيَا، انْتَهَى.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُ الْإِيمَانَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمْ يُجْزِئْ عِنْدَهُ الْأَعْمَى وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ مَعًا أَوِ الرِّجْلَيْنِ مَعًا، وَلَا مَقْطُوعُ إِبْهَامَيِ الْيَدَيْنِ، وَلَا الْأَخْرَسُ، وَلَا الْمَجْنُونُ، وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ، وَلَا الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ إِنْ أَدَّى شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا شَيْئًا أَجْزَأَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ قَرِيبُهُ الَّذِي يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ إِنْ نَوَى بِشِرَائِهِ إِعْتَاقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ حَرَّرَ بَاقِيَهُ عَنْهَا أَجَزَّأَهُ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُ الْأَصَمُّ، وَالْأَعْوَرُ، وَمَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ خِلَافٍ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُ الْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ، اهـ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَكْثَرَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِجْزَاءِ، وَغَيْرِ الْمَانِعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» نَاقِلًا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَمْنَعُ وَمَا لَا يَمْنَعُ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَاكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ خَشْيَةَ كَثْرَةِ الْإِطَالَةِ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْعَجْزِ عَنِ الرَّقَبَةِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ حَاجَتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَقَبَةٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ هَرِمًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى عَجْزِهِ عَنْ خِدْمَةِ نَفْسِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَخْدِمُ نَفْسَهُ عَادَةً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ، وَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ نَظَرًا لِحَاجَتِهِ إِلَى الرَّقَبَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْ: وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ،
219
وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَتَى وَجَدَ رَقَبَةً لَزِمَهُ إِعْتَاقُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصِّيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الصِّيَامِ أَلَّا يَجِدَ رَقَبَةً بِقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [٥٨ ٤]، وَهَذَا وَاجِدٌ وَإِنْ وَجَدَ ثَمَنَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ ; لِأَنَّ وُجْدَانَ ثَمَنِهَا كَوُجْدَانِهَا. وَلَنَا أَنَّ مَا اسْتَغْرَقَتْهُ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الصِّيَامِ، كَمَنْ وَجَدَ مَاءً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّقَبَةَ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا حَاجَةً قَوِيَّةً ; كَكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ هَرِمًا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ خِدْمَتِهَا، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يُمْكِنُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ مِنْهُ، لَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَتُعْتَبَرُ الرَّقَبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ، وَأَنَّ الْمَدَارَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَمْنَعُهُ اسْتِحْقَاقُ الزَّكَاةِ مِنَ الْيَسَارِ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ فَاضِلَةً عَنْ ذَلِكَ، لَزِمَ إِعْتَاقُهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَالْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [٢٢ ٧٨]، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: إِنْ كَانَ الْمُظَاهِرُ حِينَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ غَنِيًّا إِلَّا أَنَّ مَالَهُ غَائِبٌ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْحُضُورِ قَرِيبًا، لَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ لِشِرَاءِ الرَّقَبَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا جَازَ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّ الْمَسِيسَ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَمَنْعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَوْجَتِهِ زَمَنًا طَوِيلًا إِضْرَارٌ بِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.
الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ الرَّقَبَةَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً يَشْتَرِيهَا فَلَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصِّيَامِ ; لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ الْآيَةَ [٥٨ ٤]، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً بِثَمَنِ مِثْلِهَا، فَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ: هَلْ يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهَا بِأَكْثَرِ مِنْ مِثْلِ الْمِثْلِ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ؟ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ تُجْحِفُ بِمَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ السَّابِعُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ شَهْرَيِّ الظِّهَارِ يَجِبُ تَتَابُعُهُ، أَيْ:
220
مُوَالَاةُ صِيَامِ أَيَّامِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّ مَنْ قَطَعَ تَتَابُعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ التَّتَابُعُ إِلَى نِيَّةٍ؟ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحُدُهَا: لَا يَفْتَقِرُ لِنِيَّةٍ ; لِأَنَّهُ تَتَابُعٌ وَاجِبٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ لِنِيَّةٍ تَخُصُّهُ، كَالْمُتَابَعَةِ بَيْنَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ لِنِيَّةِ التَّتَابُعِ وَتُجَدَّدُ النِّيَّةُ كُلَّ لَيْلَةٍ ; لِأَنَّ ضَمَّ الْعِبَادَةِ إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى إِذَا كَانَ شَرْطًا وَجَبَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: تَكْفِي نِيَّةُ التَّتَابُعِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَهَذَا أَقْرَبُهَا ; لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ جَمِيعًا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا نَوَى هَذَا الصَّوْمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ فَاللَّازِمُ أَنْ يَنْوِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ الْمَنْصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ، وَهَذَا يَكْفِيهِ عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى نِيَّةِ التَّتَابُعِ مُطْلَقًا. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كَأَحْمَدَ، وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ.
الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَطْعُ تُتَابُعِ الصَّوْمِ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْ كَانَ قَطْعُ التَّتَابُعِ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ التَّتَابُعِ، وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا صَامَ قَبْلَ حُصُولِ الْعُذْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالُوا: لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذَا الْفَرْعِ أَنَّ قَطْعَ تَتَابُعِ صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِلَا إِفْطَارٍ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ إِنْ كَانَ لِسَبَبٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ، كَالْمَرَضِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّهُ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ ; لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ ٢٨٦]، وَيَقُولُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤ ١٦]، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنِ الْإِفْطَارِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
221
التَّتَابُعَ كَالْإِفْطَارِ لِلسَّفَرِ فِي أَثْنَاءِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ صَوْمِهِ الْكَفَّارَةَ مِنْ شَعْبَانَ، لَأَنَّ شَهْرَهُ الثَّانِيَ رَمَضَانُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ صَوْمُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا لَوِ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي مُدَّةٍ يَدْخُلُ فِيهَا يَوْمُ النَّحْرِ أَوْ يَوْمُ الْفِطْرِ أَوْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ التَّتَابُعَ يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ قَطْعِهِ بِمَا ذُكِرَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَأْخِيرِ السَّفَرِ عَنِ الصَّوْمِ كَعَكْسِهِ، وَلِقُدْرَتِهِ أَيْضًا عَلَى الصَّوْمِ فِي مُدَّةٍ لَا يَتَخَلَّلُهَا رَمَضَانُ، وَلَا الْعِيدَانُ، وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَإِذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ بِإِفْطَارٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ، فَكَوْنُهُ يَسْتَأْنِفُ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ ظَاهِرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [٥٨ ٤]، وَقَدْ تَرَكَ التَّتَابُعَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ.
الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ عَلَى النِّسَاءِ صَوْمٌ يَجِبُ تَتَابُعُهُ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيُعْذَرْنَ فِي كُلِّ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُنَّ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ كَالْحَيْضِ، وَالْمَرَضِ دُونَ غَيْرِهِ كَالْإِفْطَارِ لِلسِّفْرِ وَالنِّفَاسِ ; لِأَنَّ النِّفَاسَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَمَّا الْحَيْضُ فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي صَوْمِ شَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ عَادَةً فِي كُلِّ شَهْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَرْعُ التَّاسِعُ: فِي حُكْمِ مَا لَوْ جَامَعَ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا لَيْلًا، فِي أَثْنَاءِ صِيَامِ شَهْرَيِّ الْكَفَّارَةِ، وَفِي هَذَا الْفَرْعِ تَفْصِيلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ عَمْدًا انَقْطَعَ تَتَابُعُ صَوْمِهِ إِجْمَاعًا، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ هِيَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا فِي نَهَارِ الصَّوْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جِمَاعُهُ لَيْلًا فِي زَمَنِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي جَامَعَهَا زَوْجَةً أُخْرَى غَيْرَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ ; لِأَنَّ وَطْءَ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا لَيْلًا زَمَنَ الصَّوْمِ مُبَاحٌ لَهُ شَرْعًا، وَلَا يُخِلُّ بِتَتَابُعِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الشَّهْرَيْنِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ.
وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ نَعْلَمُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّتِي وَطِئَهَا لَيْلًا زَمَنَ الصَّوْمِ هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا.
222
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَإِنْ أَصَابَهَا فِي لَيَالِ الصَّوْمِ أَفْسَدَ مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ وَابْتَدَأَ الشَّهْرَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَأَمَرَ بِهِمَا خَالِيَيْنِ عَنْ وَطْءٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِمَا عَلَى مَا أَمَرَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ نَهَارًا وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ، فَاسْتَوَى فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَالِاعْتِكَافِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا وَيَبْنِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ، فَلَا يُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ كَوَطْءِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْبَاعِ صَوْمِ يَوْمٍ لِلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، وَإِنْ وَطِئَ لَيْلًا، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ إِذَا لَمْ يُخِلُّ بِالتَّتَابُعِ الْمُشْتَرِطِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَإِجْزَاءَهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ قَبْلَ الشَّهْرَيْنِ، أَوْ وَطِئَ لَيْلَةَ أَوَّلِ الشَّهْرَيْنِ، وَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَالْإِتْيَانُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْتِمَاسِ فِي حَقِّ هَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بَنَى أَوِ اسْتَأْنَفَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي»، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَبُو يُوسُفَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ بِجِمَاعِهِ لِلْمُظَاهَرِ مِنْهَا فِي لَيَالِ الصَّوْمِ، هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ مُطَابِقٌ لِمَنْطُوقِ الْآيَةِ فِي التَّتَابُعِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَهَذَا قَدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْهُمَا بِفَاصِلٍ، فَالتَّتَابُعُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَاقِعٌ قَطْعًا ; كَمَا تَرَى. وَكَوْنُ صَوْمُهُمَا مُتَابِعِينَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ التَّتَابُعِ الْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» مِنْ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ صَامَهُمَا مُتَتَابِعِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ التَّتَابُعِ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بُطْلَانَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَاَلى
الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا فِي نَهَارِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ نَاسِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، فَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ، أَوْ لَا يُعْذَرُ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، وَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا، وَهُوَ قَوْلُ
223
الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمُفَطِّرَ نَاسِيًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا، اهـ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الْآيَةَ [٣٣ ٥]، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [٢ ٢٨٦]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ».
الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: إِنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعُذْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقُلْنَا إِنَّ فِطْرَ الْعُذْرِ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ التَّتَابُعِ، فَوَطْءُ غَيْرِهَا نَهَارًا لَمْ يَنْقَطِعِ التَّتَابُعُ ; لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي قَطْعِ التَّتَابُعِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْإِفْطَارِ لِسَبَبٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ نَهَارًا هِيَ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا جَرَى عَلَى حُكْمِ وَطْئِهَا لَيْلًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ قَرِيبًا، قَالَ ذَلِكَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي»، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنْ لَمَسَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ يُفْطِرُ بِهِ قُطِعَ التَّتَابُعُ لِإِخْلَالِهِ بِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ، وَإِلَّا فَلَا يُقْطَعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، اهـ. وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا.
الْفَرْعُ الثَّانِي عَشَرَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ انْتَقَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَهُوَ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [٥٨ ٤].
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ الْهَرَمُ وَشِدَّةُ الشَّبَقِ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا الصَّبْرَ عَنْهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَرَمَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ، مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِي ظِهَارِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ آيَةُ الظِّهَارِ، فَفِي الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا الْآيَاتِ [٥٨ ١]، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَعْتِقُ رَقَبَةً» يَعْنِي زَوْجَهَا أَوْسًا قَالَتْ: لَا يَجِدُ، قَالَ: «يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ، وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ اقْتَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقِلُّ بِشَوَاهِدِهِ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ.
224
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ الشَّبَقِ عُذْرٌ، كَذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الَّذِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ سَابِقًا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنَ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَابَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصَّوْمِ؟ قَالَ: «فَتَصَدَّقْ». وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: «صُمْ شَهْرَيْنِ»، أَخْبَرَهُ أَنَّ جِمَاعَهُ فِي زَمَنِ الظِّهَارِ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ عَدَمِ صَبْرِهِ عَنِ الْجِمَاعِ ; لِأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ، فَيُجَامِعُ فِي النَّهَارِ، فَلَمَّا ظَاهَرَ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَجَامَعَ فِي زَمَنِ الظِّهَارِ، فَاقْتَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُذْرِهِ، وَأَبَاحَ لَهُ الِانْتِقَالَ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْهَرَمَ وَالشَّبَقَ كِلَاهُمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ، لِلدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَقِسْنَا عَلَيْهِمَا مَا يُشْبِهُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
الْفَرْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْإِطْعَامِ أَقَلُّ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: بِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمِسْكِينُ فِي الْآيَةِ مُأَوَّلًا بِالْمُدِّ، وَالْمَعْنَى: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مُدًّا، وَلَوْ دُفِعَتْ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ أَقَلِّ مِنَ السِّتِّينَ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِسْكِينًا تَمْيِيزٌ لِعَدَدٍ هُوَ السِّتُّونَ، فَحَمْلُهُ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ خُرُوجٌ بِالْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَفْعَ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ نَفْعِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ إِلَيْهِمْ بِالْإِطْعَامِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ مِنْ دُعَاءِ وَاحِدٍ، وَسِتُّونَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ صَالِحٍ مُسْتَجَابِ الدَّعْوَةِ، فَرَجَاءُ الِاسْتِجَابَةِ فِيهِمْ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْوَاحِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لَا يَخْفَى فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، فَلَفْظُ: سِتِّينَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ هُوَ عَيْنُ الْمَفْعُولِ بِهِ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامِ، وَهَذَا الْعَدَدُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ لِلْإِطْعَامِ مُبَيَّنٌ بِالتَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
225
مِسْكِينًا، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ سِتُّونَ، فَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى وَاحِدٍ خُرُوجٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ بِلَا دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى. وَحَمْلُ الْمِسْكِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الْمُدِّ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي أُصُولِهِمْ لِمَا يُسَمُّونَهُ التَّأْوِيلَ الْبَعِيدَ وَالتَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:
فَجَعْلُ مِسْكِينٍ بِمَعْنَى الْمُدِّ عَلَيْهِ لَائِحٌ سِمَاتُ الْبُعْدِ
الْفَرْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطَاهُ كُلُّ مِسْكِينٍ مِنَ الطَّعَامِ، اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مِنَ الْبُرِّ الَّذِي هُوَ الْقَمْحُ مُدًّا وَثُلُثَيْ مُدٍّ، وَإِنْ كَانَ إِطْعَامُهُ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ، كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، لَزِمَهُ مِنْهُ مَا يُقَابِلُ الْمُدِّ وَالثُّلُثَيْنِ مِنَ الْبُرِّ. قَالَ خَلِيلٌ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي إِطْعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: لِكُلِّ مُدٍّ وَثُلُثَانِ بُرًّا، وَإِنِ اقْتَاتُوا تَمْرًا أَوْ مُخَرَّجًا فِي الْفِطْرِ فَعَدْلُهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَوَّاقُ بْنُ يُونُسَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشِّبَعُ مُدَّيْنِ إِلَّا ثُلُثًا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ عِيَارٌ مُدِّ هِشَامٍ، فَمَنْ أَخْرَجَ بِهِ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ كَانَ عَيْشُ بَلَدِهِمْ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا أَطْعَمَ مِنْهُ الْمُظَاهِرُ عَدْلَ مُدِّ هِشَامٍ مِنَ الْبُرِّ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا كَامِلًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مُطْلَقًا. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الْمُدَّ النَّبَوِيَّ رُبُعَ الصَّاعِ، قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، اهـ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، اهـ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، فَاعْلَمْ أَنَّا أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ ابْنِ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي أَدِلَّتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، قَالَ: وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ مُدُّ بُرٍّ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، حَكَاهُ عَنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ عَنْهُمُ الْأَثْرَمُ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَعَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَوْسٍ أَخِي
226
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ يَعْنِي الْمُظَاهِرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُوتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ». وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ بِالْخَبَرِ ثَبَتَ فِي الْمُظَاهِرِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إِطْعَامٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْمُخَرَّجِ، كَالْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، وَمِمَّنْ قَالَ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ: مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ ; لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنَ الْقَمْحِ مُدَّانِ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ».
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ خُوَيْلَةَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ».
وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَلِأَنَّهُ إِطْعَامٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَكَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُظَاهِرِ: «أَطْعِمْ هَذَا فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ»، وَهَذَا نَصٌّ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُدُّ بُرٍّ أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «اذْهَبِي إِلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيهِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا».
227
وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَقُ: زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَعَرَقَانِ يَكُونَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى.
فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ الْعَرَقَ سِتُّونَ صَاعًا فَقَدْ ضَعَّفَهَا، وَقَالَ: غَيْرُهَا أَصَحُّ مِنْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: «إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ»، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، «فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا»، فَلَوْ كَانَ الْعَرَقُ سِتِّينَ صَاعًا لَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ مِائَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا وَلَا قَائِلَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ الَّذِي أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ»، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ صَاعًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَحَدِيثُ أَوْسٍ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مُرْسَلٌ يَرْوِيهِ عَنْهُ عَطَاءٌ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ عَرَقًا، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِآخِرَ، فَصَارَا جَمِيعًا ثَلَاثِينَ صَاعًا، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخْبَارِنَا، بِحَمْلِهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَمْلِ أَخْبَارِنَا عَلَى الْإِجْزَاءِ. وَقَدْ عَضَّدَ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي بَعْضِهَا، وَمَذْهَبُهُ: أَنَّ الْمُدَّ مِنَ الْبُرِّ يُجْزِئُ. وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى بِطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ، وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ أَصَحُّ مِنْهُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»، فِي رِوَايَةِ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا، هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِيهَا أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَ. وَالْمَشْهُورُ عُرْفًا أَنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، كَمَا رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ نَفْسِهِ، اهـ مِنْهُ.
228
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ رَأَيْتُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى الْمِسْكِينُ مِنْ إِطْعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَاخْتِلَافِهَا، وَأَدِلَّتَهُمْ وَاخْتِلَافَهَا.
وَأَحْوَطُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ ; لِأَنَّهُ أَحْوَطُهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ الْإِطْعَامِ وَجِنْسِ الطَّعَامِ وَمُسْتَحِقِّهِ. أَمَّا مُسْتَحِقُّهُ فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ الْمِسْكِينُ فِي قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِسْكِينَ إِنْ ذُكِرَ وَحْدَهُ شَمِلَ الْفَقِيرَ، كَعَكْسِهِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ: فَظَاهِرُ النُّصُوصِ أَنَّهُ يُمَلِّكُ كُلَّ مِسْكِينٍ قَدْرَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ، وَعَشَّاهُمْ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يُمَلِّكَهُمْ إِيَّاهُ.
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِنْ غَدَّى كُلَّ مِسْكِينٍ وَعَشَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ أَقَلَّ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَهُ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِصَّةُ إِطْعَامِ أَنَسٍ لَمَّا كَبُرَ، وَعَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ عَنْ فِدْيَةِ الصِّيَامِ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا جِنْسُ الطَّعَامِ الَّذِي يَدْفَعُهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي طَعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ قُوتُ الْمُكَفِّرِ أَوْ لَا؟ وَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قُوتًا لَهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي هِيَ قُوتُ بَلَدِ الْمُظَاهِرِ يُجْزِئْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا هِيَ طَعَامُ بَلَدِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَى مَنْ أَطْعَمَ مِنْهَا الْمَسَاكِينَ أَنَّهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَشَارَ إِلَى اعْتِبَارِ أَوْسَطِ قُوتِ أَهْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [٥ ٨٩]، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
229
الْفَرْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ لَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَهُ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا، وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا ; كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، لِامْتِنَاعِ قِيَاسِ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
الْفَرْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا جَامَعَ الْمَظَاهِرُ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي أَثْنَاءِ الْإِطْعَامِ، هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ مَا مَضَى مِنَ الْإِطْعَامِ، لِبُطْلَانِهِ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ إِتْمَامِ الْإِطْعَامِ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ جِمَاعَهُ فِي أَثْنَاءِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ، فَلَمْ يُوجِبِ الِاسْتِئْنَافَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ: فَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْإِطْعَامَ لِأَنَّهُ جَامَعَ فِي أَثْنَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ كَالصِّيَامِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ الْإِطْعَامِ قَبْلَ جِمَاعِهِ يَحْتَاجُ بُطْلَانُهُ وَإِلْغَاؤُهُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مَوْجُودًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلِيَّ كَظَهْرِ أَبِي، وَقَالَتْ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظِهَارًا مِنْهَا، أَوْ لَا؟ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَكُونُ مُظَاهِرَةً، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، إِلَّا أَنَّ النَّخَعِيَّ قَالَ: إِذَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَجْعَلْ لَهَا شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِتَحْرِيمِ زَوْجِهَا عَلَيْهَا، كَمَا لَا يَخْفَى.
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً، اخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْزَمُهَا إِذَا قَالَتْ ذَلِكَ، إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُظَاهِرَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ.
وَالثَّالِثُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
230
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ ظِهَارٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: بِأَنَّهَا قَالَتْ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَلَزِمَهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْهُ كَالرَّجُلِ، وَبِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، قَالَتْ: إِنْ تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَسَأَلْتَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَرَأَوْا أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ. وَبِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ الْمُزَنِيُّ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَسَأَلْتُهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ الَّتِي أَعْتَقَتْنِي عَنْ ظِهَارِهَا، خَطَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: هُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي إِنْ تَزَوَّجْتُهُ، ثُمَّ رَغِبَتْ فِيهِ، فَاسْتَفْتَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ فَأَمَرُوهَا أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً، وَتَتَزَوَّجَهُ، فَأَعْتَقَتْنِي، وَتَزَوَّجَتْهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي». وَانْظُرْ إِسْنَادَ الْأَثَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: تَلْزَمُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّهَا حَرَّمَتْ عَلَى نَفْسِهَا زَوْجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ لَهَا، فَلَزِمَتْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ اللَّازِمَةُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [٦٦ ٢]، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [٦٦ ١]. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّهَا قَالَتْ: مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا كَفَارَّةً، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ الْكَاذِبَةِ.
وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَنَا: أَنَّ مَنْ يَرَى فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ يَلْزَمُهَا عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ فِي الْحَجِّ، وَفِي هَذَا الْمَبْحَثِ، اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، قَالُوا: لَا تَجِبْ عَلَيْهَا حَتَّى يُجَامِعَهَا وَهِيَ مُطَاوَعَةُ لَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْوَطْءِ، أَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا يَمِينٌ، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَعَلَيْهَا تَمْكِينُ زَوْجِهَا مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِيَمِينِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي»، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي كُتُبِ فَرَوْعِ الْمَذَاهِبِ.
231
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ فِي الْحُرْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ حُرْمَتُهُنَّ عَلَيْهِمْ، كَحُرْمَةِ الْأُمِّ، وَاحْتِرَامُهُمْ لَهُنَّ كَاحْتِرَامِ الْأُمِّ... إِلَخْ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [٣٣ ٥٣] ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَلُ أُمَّهُ الْحَقِيقِيَّةَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [٥٨ ٢]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، لَمْ يَلِدْنَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبٌ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَرَأَا: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ)، وَهَذِهِ الْأُبُوَّةُ أُبُوَّةٌ دِينِيَّةٌ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْأَفُ بِأُمَّتِهِ مِنَ الْوَالِدِ الشَّفِيقِ بِأَوْلَادِهِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [٩ ١٢٨] [٣٣ ٤٠]، وَلَيْسَتِ الْأُبُوَّةُ أُبُوَّةَ نَسَبٍ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنِّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ»، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ»، يُبَيِّنُ مَعْنَى أُبُوَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
مَسْأَلَةٌ.
اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَالُ لِبَنَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُقَالُ لِإِخْوَانِهِنَّ كَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمِّيَّةَ أَخْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ: أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ، وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَنَاتَهُنَّ أَخَوَاتَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ لَا إِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَهَلْ يُقَالُ لِمُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ. وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ: أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ؟
فَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ تَغْلِيبًا، فِيهِ قَوْلَانِ: صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُقَالُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ مِنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَارِفٍ إِلَيْهِ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَكَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي آخِرِ «الْأَنْفَالِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْآيَةَ [٨ ٧٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ خَمْسَةً: هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٣ ٨١ ٨٢]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ الْخَضِرِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى خُصُوصِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ «الشُّورَى»، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [٤٢ ١٣].
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ «آلِ عِمْرَانَ»، وَآيَةَ «الشُّورَى»، فِيهِمَا بَيَانٌ لِآيَةِ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمْ جُنُودٌ وَهُمْ جَيْشُ الْأَحْزَابِ، فَأَرْسَلَ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ يَرَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهَذِهِ الْجُنُودُ الَّتِي لَمْ يَرَوْهَا الَّتِي امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، بَيَّنَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا أَيْضًا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا الْآيَةَ [٩ ٢٥ - ٢٦]، وَهَذِهِ الْجُنُودُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ فِي «الْأَنْفَالِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ الْآيَةَ [٨ ١٢]، وَهَذِهِ الْجُنُودُ الَّتِي لَمْ يَرَوْهَا الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «بَرَاءَةَ»، أَنَّهُ أَيَّدَ بِهَا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْغَارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا الْآيَةَ [٩ ٤٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ يَعْنِي جُنُودَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْآيَةَ الَّتِي وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [٢ ٢١٤]، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ آيَةَ «الْبَقَرَةِ» الْمَذْكُورَةَ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ
«الْأَحْزَابِ» هَذِهِ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [٤٨ ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [٨ ٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَنَّهُ كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي رَدَّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَفَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [٣٣ ٩]، أَيْ: وَبِسَبَبِ تِلْكَ الرِّيحِ وَتِلْكَ الْجُنُودِ رَدَّهُمْ بِغَيْظِهِمْ وَكَفَاكُمُ الْقِتَالَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [٣٣ ٣٠].
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّمْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٢٧ ٩٠]، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ الْآيَةَ [١٧ ٧٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ.
ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ قَنَتَ مِنْ نِسَاءِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ. وَمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مَنْ أَطَاعَ مِنْهُنَّ بِإِيتَائِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ الْوَعْدُ بِنَظِيرِهِ لِغَيْرِهِنَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَعْدُهُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَبِيِّهِ، ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِيتَائِهِ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [٢٨ ٥١ - ٥٤].
وَمِنْ ذَلِكَ وَعْدُهُ لِجَمِيعِ الْمُطِيعِينَ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِيتَائِهِمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [٥٧ ٢٨].
وَاعْلَمْ: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «الْحَدِيدِ»، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الْآيَةَ [٥٧ ٢٨]، عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا تَرَى. وَلَيْسَ فِي خُصُوصِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَكَوْنُهُ عَامًّا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرِ الَّذِي لَمْ يَصْرِفُ عَنْهُ صَارِفٌ، فَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ حَمْلِهِ آيَةَ «الْحَدِيدِ» هَذِهِ عَلَى خُصُوصِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ الضَّحَّاكُ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا افْتَخَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، أَيْ: ضِعْفَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَزَادَهُمْ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [٥٧ ٢٨]، فَفَضَّلَهُمْ بِالنُّورِ وَالْمَغْفِرَةِ، اهـ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلُنَا فِيهَا: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ:
236
إِنَّ أَزْوَاجَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلْنَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فَإِنَّ قَرِينَةَ السِّيَاقِ صَرِيحَةٌ فِي دُخُولِهِنَّ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ [٣٣ ٢٨]، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِ خِطَابِهِ لَهُنَّ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ الْآيَةَ [٣٣ ٣٤].
وَقَدْ أَجْمَعَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، فَلَا يَصِحُّ إِخْرَاجُهَا بِمُخَصَّصٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ
فَالْحَقُّ أَنَّهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي الْآيَةِ، اهـ. مِنْ تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ غَيْرَهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِهِنَّ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِيهِنَّ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ; كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ الزَّوْجَاتِ فِي اسْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [١ ٧٣].
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِ غَيْرِهِنَّ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ أَحَادِيثُ جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَيْتِ»، وَدَعَا لَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَنَسٌ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ شُمُولُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ.
237
تَنْبِيهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، ضَمِيرُ الذُّكُورِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيلَ: لِيُذْهِبَ عَنْكُنَّ وَيُطَهِّرُكُنَّ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ شَامِلَةٌ لَهُنَّ وَلِعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجُمُوعِ وَنَحْوِهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَهْلِ، وَبِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَهْلِ تُخَاطَبُ مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُوسَى: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا [٢٠ ١٠]، وَقَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ [٢٧ ٧]، وَقَوْلُهُ: لَعَلِّي آتِيكُمْ [٢٠ ١٠]، وَالْمُخَاطَبُ امْرَأَتُهُ ; كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمَتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسْنَ دَاخِلَاتٍ فِي الْآيَةِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِيهَا، تَرُدُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ فِي الْآيَةِ هُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الْآيَةَ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُذْهِبُ الرِّجْسَ عَنْهُمْ، وَيُطَهِّرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْهُ الرِّجْسَ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ تَطْهِيرًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ لِئَلَّا يُقَارِفَ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَآثِمَ، وَلِيَتَصَوَّنُوا عَنْهَا بِالتَّقْوَى، وَاسْتَعَارَ لِلذُّنُوبِ الرِّجْسَ وَلِلتَّقْوَى الطُّهْرَ ; لِأَنَّ عِرْضَ الْمُقْتَرِفِ لِلْمُقَبَّحَاتِ يَتَلَوَّثُ بِهَا وَيَتَدَنَّسُ كَمَا يَتَلَوَّثُ بَدَنُهُ بِالْأَرْجَاسِ. وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ فَالْعِرْضُ مِنْهَا نَقِيٌّ مَصُونٌ كَالثَّوْبِ الطَّاهِرِ، وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ
238
مَا يُنَفِّرُ أُولِي الْأَلْبَابِ عَمَّا كَرِهَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيمَا يَرْضَاهُ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ. وَأَهْلُ الْبَيْتِ نُصِبَ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [٤ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ الْآيَةَ [٦١ ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَامُ كَيْ، وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، لِأَجْلِ أَنْ يُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، وَالرِّجْسُ كُلُّ مُسْتَقْذِرٍ تَعَافُهُ النُّفُوسُ، وَمِنْ أَقْذَرِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ بِسَبَبِ الْإِبْهَامِ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [٣٣ ٣٧]، لِأَنَّ جُمْلَةَ: اللَّهُ مُبْدِيهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا. وَقَدْ قُلْنَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ: فَإِنَّهُ هُنَا أَبْهَمَ هَذَا الَّذِي أَخْفَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ وَأَبْدَاهُ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَوَاجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَيْثُ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ; لِأَنَّ زَوَاجَهُ إِيَّاهَا هُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [٣٣ ٣٧]، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِجَنَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْدَاهُ اللَّهُ وُقُوعُ
239
زَيْنَبَ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَيْدٍ، وَأَنَّهَا سَمِعَتْهُ قَالَ: «سُبْحَانَ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، كُلُّهُ لَا صِحَّةَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِدِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مُبْدِي مَا أَخْفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ الطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ مِنْهُ اسْتِحْسَانٌ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ، وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا زَيْدٌ فَيَتَزَوَّجَهَا هُوَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُخْفِي فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [٣٣ ٣٧]، اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ نَحْوَهُ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُهَا رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ هَذَا بِالْوَحْيِ. قَالَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». وَأَنَّ الَّذِي أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ سَيُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، كَالزُّهْرِيِّ، وَالْقَاضِي بَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَى زَيْنَبَ امْرَأَةِ زَيْدٍ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُجَّانِ لَفْظَ عِشْقٍ، فَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ جَاهِلٍ بِعِصْمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مِثْلِ هَذَا أَوْ مُسْتَخِفٍّ بِحُرْمَتِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَأَسْنَدَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَوْلَهُ: فَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ جَاءَ بِهَذَا مِنْ خِزَانَةِ الْعِلْمِ جَوْهَرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَدُرًّا مِنَ الدُّرَرِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّ سَتَكُونَ هَذِهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»، وَأَخَذَتْكَ خَشْيَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا آثَارًا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَضْرِبَ عَنْهَا صَفْحًا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا، فَلَا نُورِدُهَا
240
إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَفِيهِ كَلَامُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ زَيْدًا يُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وَأَنَّهُ يُزَوِّجُهَا إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَحْتَ زَيْدٍ، فَلَمَّا شَكَاهَا زَيْدٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ»، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَشِيَ مَقَالَةَ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْ أَظْهَرَ مَا عَلِمَ مِنْ تَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يُرِيدُ تَزْوِيجَ زَوْجَةِ ابْنِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا قَالَ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَهَذَا الَّذِي أَبْدَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ زَوَاجُهُ إِيَّاهَا فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا، وَلَمْ يُبْدِ جَلَّ وَعَلَا شَيْئًا مِمَّا زَعَمُوهُ أَنَّهُ أَحَبَّهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ لَأَبْدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا تَرَى.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَاهِيَّةَ فِي ذَلِكَ التَّزْوِيجِ هِيَ قِطَعُ تَحْرِيمِ أَزْوَاجِ الْأَدْعِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ، تَعْلِيلٌ صَرِيحٌ لِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ سَبَبَ زَوَاجِهِ إِيَّاهَا لَيْسَ هُوَ مَحَبَّتَهُ لَهَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي طَلَاقِ زِيدٍ لَهَا كَمَا زَعَمُوا، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا الْآيَةَ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بِهَا حَاجَةٌ، فَطَلَّقَهَا بِاخْتِيَارِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [٤ ١٠٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [٣ ١٩١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ الْآيَةَ [٣٣ ٣٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْكَبِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [٤٢ ٢٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا لَهُ أَمْثِلَةً فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَمْثِلَةً كَثِيرَةً فِي الْكِتَابِ لَمْ تُذْكَرْ فِي التَّرْجَمَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي التَّرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، فَقَدْ قُلْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِنَّ آيَةَ «الْحِجَابِ» أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ خَاصَّةٌ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ تَعَالَى لِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ إِيجَابُ الْحِجَابِ بِكَوْنِهِ أَطْهَرَ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الرِّيبَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى إِرَادَةِ تَعْمِيمِ الْحُكْمِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ غَيْرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حَاجَةَ إِلَى أَطْهَرِيَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَقُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الرِّيبَةِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
وَقَدْ تُخَصِّصُ وَقَدْ تُعَمِّمُ لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْرِمُ
انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِنَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحِجَابِ حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ، لَا خَاصٌّ بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ اللَّفْظِ خَاصًّا بِهِنَّ ; لِأَنَّ عُمُومَ عِلَّتِهِ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَمَسْلَكُ الْعِلَّةِ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، هُوَ الْمَسْلَكُ الْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ بِمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، وَضَابِطُ هَذَا الْمَسْلَكِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ، هُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ وَصْفٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً
242
لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَكَانَ الْكَلَامُ مَعِيبًا عِنْدَ الْعَارِفِينَ، وَعَرَّفَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» دَلَالَةَ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ فِي مَبْحَثِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ بِقَوْلِهِ:
دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ فِي الْفَنِّ تَقْصِدُ لَدَى ذَوِيهِ
أَنْ يُقْرَنَ الْوَصْفُ بِحُكْمٍ إِنْ يَكُنْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ يُعِبْهُ مَنْ فَطِنْ
وَعَرَّفَ أَيْضًا الْإِيمَاءَ وَالتَّنْبِيهَ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالثَّالِثُ الْإِيمَا اقْتِرَانُ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ مَلْفُوظَيْنِ دُونَ خِلْفِ
وَذَلِكَ الْوَصْفُ أَوِ النَّظِيرُ قِرَانُهُ لِغَيْرِهَا يَضِيرُ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، لَكَانَ الْكَلَامُ مَعِيبًا غَيْرَ مُنْتَظِمٍ عِنْدَ الْفَطِنِ الْعَارِفِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِ: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ عَامٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا، وَقَدْ تُخَصِّصُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيْتِ «مَرَاقِي السُّعُودِ»، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْحِجَابَ وَاجِبٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى وُجُوبِ الْحِجَابِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ الْأَدِلَّةَ مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ نُنَاقِشُ أَدِلَّةَ الطَّرَفَيْنِ، وَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحِجَابِ، عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ، قَرِينَةٌ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ آيَةِ الْحِجَابِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ وَسِتْرِهَا جَمِيعَ بَدَنِهَا حَتَّى وَجْهَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [٣٣ ٥٩]، فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ: أَنَّهُنَّ يَسْتُرْنَ بِهَا جَمِيعَ وُجُوهِهِنَّ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ إِلَّا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ تُبْصِرُ بِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
243
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ سَتْرَ الْوَجْهِ لُغَةً، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ عَلَى اسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ، مَعَارَضٌ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْوَجْهِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيهَا: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ سَتْرُ وُجُوهِهِنَّ بِإِدْنَاءِ جَلَابِيبِهِنَّ عَلَيْهَا، وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ، وَوُجُوبُ احْتِجَابِ أَزْوَاجِهِ وَسِتْرِهِنَّ وُجُوهَهُنَّ، لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ مَعَ الْبَنَاتِ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْوُجُوهِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ، كَمَا تَرَى.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النُّورِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [٤٠ ٣١]، مِنْ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمُلَاءَةُ فَوْقَ الثِّيَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَامَتْ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ سَتْرُ الْوَجْهِ، وَأَنَّ الْقَرِينَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، قَالَ: وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: أَنْ يُعْرَفْنَ عَلَى أَنَّهُنَّ سَافِرَاتٌ كَاشِفَاتٌ عَنْ وُجُوهِهِنَّ ; لِأَنَّ الَّتِي تُسْتَرُ وَجْهَهَا لَا تُعْرَفُ، بَاطِلٌ، وَبُطْلَانُهُ وَاضِحٌ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَمْنَعُهُ مَنْعًا بَاتًّا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ صَرِيحٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِدْنَائِهِنَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، وَإِدْنَاؤُهُنُّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ بِسُفُورِهِنَّ وَكَشْفِهِنَّ عَنْ وُجُوهِهِنَّ كَمَا تَرَى، فَإِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ مُنَافٍ لِكَوْنِ الْمَعْرِفَةِ مَعْرِفَةً شَخْصِيَّةً بِالْكَشْفِ عَنِ الْوُجُوهِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِأَزْوَاجِكَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ بِكَشْفِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ احْتِجَابَهُنَّ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَدِلَّةٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
244
الْأَوَّلُ: سِيَاقُ الْآيَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِأَزْوَاجِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَسَّرُوا الْآيَةَ مَعَ بَيَانِهِمْ سَبَبَ نُزُولِهَا، بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُنْ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ خَارِجَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْضُ الْفُسَّاقِ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْحَرَائِرِ، وَكَانَ بَعْضُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجْنَ فِي زِيٍّ لَيْسَ مُتَمَيَّزًا عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، فَيَتَعَرَّضُ لَهُنَّ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ بِالْأَذَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُنَّ إِمَاءٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَيَّزْنَ فِي زِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ وَرَآهُنَّ الْفُسَّاقُ، عَلِمُوا أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرُ لَا إِمَاءَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، فَهِيَ مَعْرِفَةٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالشَّخْصِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُنْسَجِمٌ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، كَمَا تَرَى.
فَقَوْلُهُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِأَنَّ إِدْنَائِهِنَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرَ، فَهُوَ أَدْنَى وَأَقْرَبُ لِأَنْ يُعْرَفْنَ، أَيْ: يُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، فَلَا يُؤْذَيْنَ مِنْ قِبَلِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَعَرُّضَ الْفُسَّاقِ لِلْإِمَاءِ جَائِزٌ، هُوَ حَرَامٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُنَّ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [٣٣ ٦٠]، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، إِلَى قَوْلِهِ: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [٣٣ ٦٠ - ٦١].
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَرِّضَ لِمَا لَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الْآيَةَ [٣٣ ٣٢]، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَافِظٌ لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضْ
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِ الْحَرَائِرِ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ الْإِمَاءِ لِيَهَابَهُنَّ الْفُسَّاقُ، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْفُسَّاقِ عَنِ الْإِمَاءِ لَازِمٌ، وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرَ لَيْسَ مِنْهَا إِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ.
تَنْبِيهٌ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ،
245
أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ ; كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» :
الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنَ.
وَأَنَّهُ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَنَ كَامِنَانِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ إِجْمَاعًا، وَقَدْ تَرْجِعُ الْإِشَارَاتُ وَالضَّمَائِرُ تَارَةً إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ، وَتَارَةً إِلَى الزَّمَنِ الْكَامِنِ فِيهِ.
فَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِيهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِدْنَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: يُدْنِينَ.
وَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ لِلزَّمَنِ الْكَامِنِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [٥٠ ٢٠]، فَقَوْلُهُ: ذَلِكَ يَعْنِي زَمَنَ النَّفْخِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَفَخْ، أَيْ: ذَلِكَ الزَّمَنُ يَوْمُ الْوَعِيدِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ هُوَ مَا تُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْوَاحِدَ الْمُخَاطَبَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ»، فِي مَبْحَثِ النَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَقَدْ قُلْنَا فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَخِلَافُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ، هَلْ هُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ؟ خِلَافٌ فِي حَالٍ لَا خِلَافٌ حَقِيقِيٌّ، فَخِطَابُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِيغَةُ عُمُومٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ لَا يَعُمُّ ; لِأَنَّ اللَّفْظِ لِلْوَاحِدِ لَا يَشْمَلُ بِالْوَضْعِ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَشْمَلُهُ وَضْعًا، فَلَا يَكُونُ صِيغَةَ عُمُومٍ. وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ خِطَابِ الْوَاحِدِ عَامٌّ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ.
أَمَّا الْقِيَاسُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ عَلَيْهِ بِجَامِعِ اسْتِوَاءِ الْمُخَاطَبِينَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
وَالنَّصُّ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ
246
النِّسَاءَ، وَمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ».
قَالُوا: وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ». قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ: اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ»، لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصِلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حَبَّانَ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ»، وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ» :«حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ»، وَفِي لَفْظٍ: «كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ»، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ ; كَمَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثَ الْبَيْضَاوِيِّ. وَقَالَ فِي «الدُّرَرِ» كَالْزَرْكَشِيِّ: لَا يُعْرَفُ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْمُزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ فَأَنْكَرَاهُ، نَعَمْ يَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، فَلَفْظُ النَّسَائِيُّ: «مَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ»، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ»، وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَلْزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ الشَّيْخَيْنِ بِإِخْرَاجِهَا لِثُبُوتِهَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي «شَرْحِ الْوَرَقَاتِ الْكَبِيرِ» :«حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ» لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصِلٌ إِلَى آخِرِهِ، قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، انْتَهَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ بِقَافَيْنِ مُصَغَّرًا، وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، وَرَقِيقَةٌ أُمُّهَا، وَهِيَ أُخْتُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: عَمَّتُهَا، وَاسْمُ أَبِيهَا بِجَادٌ - بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ جِيمٍ - ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيُّ، تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
خِطَابٌ وَاحِدٌ لِغَيْرِ الْحَنْبَلِ مِنْ غَيْرِ رَعْيِ النَّصِّ وَالْقَيْسِ الْجَلِي
انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِنَّ كَقَوْلِهِ لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَمَا رَأَيْتَ إِيضَاحَهُ قَرِيبًا.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِجَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [٢٤ ٦٠]
247
لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ أَيِ الْعَجَائِزَ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا، أَيْ: لَا يَطْمَعْنَ فِي النِّكَاحِ لِكِبَرِ السِّنِّ وَعَدَمِ حَاجَةِ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ يُرَخَّصُ لَهُنَّ بِرَفْعِ الْجَنَاحِ عَنْهُنَّ فِي وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ، بِشَرْطِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، أَيْ: يَسْتَعْفِفْنَ عَنْ وَضْعِ الثِّيَابِ خَيْرٌ لَهُنَّ، أَيْ: وَاسْتِعْفَافُهُنَّ عَنْ وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِنَّ وَانْقِطَاعِ طَمَعِهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ، وَكَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ خَيْرٌ لَهُنَّ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، أَنَّهُ وَضْعُ مَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْقَمِيصِ مِنَ الْجَلَابِيبِ، الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالثِّيَابِ.
فَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي فِيهَا جَمَالٌ وَلَهَا طَمَعٌ فِي النِّكَاحِ، لَا يُرَخَّصُ لَهَا فِي وَضْعِ شَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهَا وَلَا الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّسَتُّرِ بِحَضْرَةِ الْأَجَانِبِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ، وَأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى احْتِجَابِ جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى الْحِجَابِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ خَاصَّةٌ بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا شَكَّ أَنَّهُنَّ خَيْرُ أُسْوَةٍ لِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآدَابِ الْكَرِيمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلطَّهَارَةِ التَّامَّةِ وَعَدَمِ التَّدَنُّسِ بِأَنْجَاسِ الرِّيبَةِ، فَمَنْ يُحَاوِلُ مَنْعَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ كَالدُّعَاةِ لِلسُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ وَالِاخْتِلَاطِ الْيَوْمَ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِنَّ فِي هَذَا الْأَدَبِ السَّمَاوِيِّ الْكَرِيمِ الْمُتَضَمِّنِ سَلَامَةَ الْعَرْضِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ غَاشٌّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرِيضُ الْقَلْبِ كَمَا تَرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ». أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ «النِّكَاحِ»، فِي بَابِ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ إِلَخْ. وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ «السَّلَامِ»، فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، فَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَنْعِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ وَسُؤَالِهِنَّ مَتَاعًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ
248
حِجَابٍ ; لِأَنَّ مَنْ سَأَلَهَا مَتَاعًا لَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَذَّرَهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا سَأَلَهُ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ الْحَمْوِ الَّذِي هُوَ قَرِيبُ الزَّوْجِ الَّذِي لَيْسَ مَحْرَمًا لِزَوْجَتِهِ، كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»، فَسَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولَ قَرِيبِ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْرَمٍ لَهَا بِاسْمِ الْمَوْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ عِبَارَاتِ التَّحْذِيرِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ هُوَ أَفْظَعُ حَادِثٍ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهْ
وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [٢٦ ١٨٤]، فَتَحْذِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا التَّحْذِيرَ الْبَالِغَ مِنْ دُخُولِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَتَعْبِيرُهُ عَنْ دُخُولِ الْقَرِيبِ عَلَى زَوْجَةِ قَرِيبِهِ بِاسْمِ الْمَوْتِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ نَبَوِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ، كَمَا تَرَى. إِذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهُ خَاصًّا بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَذَّرَ الرِّجَالَ هَذَا التَّحْذِيرَ الْبَالِغَ الْعَامَّ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّحْذِيرُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ وَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ الْخَلْوَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَالدُّخُولُ عَلَيْهِنَّ وَالْخَلْوَةُ بِهِنَّ كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا شَدِيدًا بِانْفِرَادِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا حَرَامٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ»، بِالنَّصْبِ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَهُوَ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَحْذُورٍ لِيَتَحَرَّزَ عَنْهُ ; كَمَا قِيلَ: إِيَّاكَ وَالْأَسَدَ، وَقَوْلُهُ: «إِيَّاكُمْ»، مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا.
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اتَّقُوا أَنْفُسَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، بِلَفْظِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ»، وَتَضَمَّنَ مَنْعُ الدُّخُولِ مَنْعَ الْخَلْوَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «صَحِيحِهِ»، بَابُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [٢٤ ٣١]، شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ:
249
أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»، فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَوْلُهُ: فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَرْمِيهِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْعَاتِقِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ التَّقَنُّعُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا وَتَكْشِفُ مَا قُدَّامَهَا فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي».
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النِّسَاءَ الصَّحَابِيَّاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِيهِ فَهِمْنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، يَقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ: سَتَرْنَ وُجُوهَهُنَّ بِهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ الْمُقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْمُنْصِفُ أَنَّ احْتِجَابَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهَا وَجْهَهَا عَنْهُمْ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى تِلْكَ النِّسَاءِ بِمُسَارَعَتِهِنَّ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ مَا فَهِمْنَ سَتْرَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَهُنَّ يَسْأَلْنَهُ عَنْ كُلِّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِنَّ فِي دِينِهِنَّ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [١٦ ٤٤]، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرْنَهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: ذَكَرْنَا عِنْدَ عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَلَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ «النُّورِ» : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ فِيهَا، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي».
وَمَعْنَى مُعْتَجَرَاتٍ: مُخْتَمِرَاتٍ، كَمَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَتَرَى عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَعَ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا وَتُقَاهَا أَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ هَذَا الثَّنَاءَ الْعَظِيمَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مَا رَأَتْ أَشَدَّ مِنْهُنَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فَهْمَهُنَّ لُزُومَ سَتْرِ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ مِنْ تَصْدِيقِهِنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانِهِنَّ بِتَنْزِيلِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ احْتِجَابَ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهُنَّ وُجُوهَهُنَّ تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانٌ بِتَنْزِيلِهِ، كَمَا تَرَى.
250
فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، مِمَّنْ يَدَّعِي مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَتْرِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَنِ الْأَجَانِبِ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابِيَّاتِ فَعَلْنَ ذَلِكَ مُمْتَثِلَاتٍ أَمْرَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ إِيمَانًا بِتَنْزِيلِهِ، وَمَعْنَى هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبُخَارِيِّ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ وَأَصْرَحِهَا فِي لُزُومِ الْحِجَابِ لِجَمِيعِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَالَ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثْنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثْنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا»، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ بِهِ نَحْوَهُ، اه مِنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ صَاحِبُ «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ»، وَقَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَعْتَضِدُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ، يَدُلُّ عَلَى الْحِجَابِ لِلُزُومِ سَتْرِ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَوْرَةِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَ الْهَيْثَمِيُّ أَيْضًا فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ»، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّمَا النِّسَاءُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا وَمَا بِهَا مِنْ بَأْسٍ فَيَسْتَشْرِفُهَا الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ لَا تَمُرِّينَ بِأَحَدٍ إِلَّا أَعْجَبْتِيهِ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَلْبَسُ ثِيَابَهَا فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَتَقُولُ: أَعُودُ مَرِيضًا أَوْ أَشْهَدُ جِنَازَةً، أَوْ أُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ، وَمَا عَبَدَتِ امْرَأَةٌ رَبَّهَا، مِثْلَ أَنْ تَعْبُدَهُ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، اه مِنْهُ. وَمِثْلُهُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ الْآيَةَ [٢٤ ٣٦ - ٣٧]، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَقَّ.
فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحِجَابِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِهَا فِي ذَلِكَ آيَةَ «النُّورِ»، مَعَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ لَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فَقَدْ أَوْضَحْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ تَفْسِيرَ الصَّحَابَةِ لَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ بَيْنَهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا يَدْخُلُ فِيهِ سَتْرُ الْوَجْهِ وَتَغْطِيَتُهُ عَنِ
251
الرِّجَالِ، وَأَنَّ سَتْرَ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَمَلٌ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحِجَابِ يَكْفِي الْمُنْصِفَ، فَسَنَذْكُرُ لَكَ أَجْوِبَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ إِبْدَاءِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، بِحَضْرَةِ الْأَجَانِبِ.
فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْحَيْضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ; وَهَذَا الْحَدِيثُ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَتَيْنِ:
الْأُولَى: هِيَ كَوْنُهُ مُرْسَلًا ; لِأَنَّ خَالِدَ بْنَ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، كَمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ».
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ» : ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحِجَابِ، وَمَعَ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحِجَابِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ، اه. هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ»، قَالُوا: وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَجِبَةً لَمَا رَأَى خَدَّيْهَا، وَلَمَا عَلِمَ بِأَنَّهَا سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ. وَأُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ غَايَةُ مَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ أَنَّ جَابِرًا رَأَى وَجْهَهَا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَشْفَهَا عَنْهُ قَصْدًا، وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ يَسْقُطُ خِمَارُهَا عَنْ وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ:
252
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
فَعَلَى الْمُحْتَجِّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا سَافِرَةً، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ غَيْرُ جَابِرٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ كَشْفَ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ وَجْهِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِمَّنْ رَوَاهَا غَيْرَ جَابِرٍ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ رَوَى الْقِصَّةَ غَيْرَ جَابِرٍ أَنَّهُ رَأَى خَدَّيْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ السَّفْعَاءِ الْخَدَّيْنِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى السُّفُورِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ (سِطَةٌ) بِكَسْرِ السِّينِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَاسِطَةِ النِّسَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ: مِنْ خِيَارِهِنَّ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ، قَالَ: وَزَعَمَ حُذَّاقُ شُيُوخِنَا أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ مُغَيَّرٌ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ صَوَابَهُ مِنْ سِفْلَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مَسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: امْرَأَةٌ لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ النِّسَاءِ، وَهَذَا ضِدُّ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ هُوَ، بَلِ الْمُرَادُ: امْرَأَةٌ مِنْ وَسَطِ النِّسَاءِ جَالِسَةٌ فِي وَسَطِهِنَّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: يُقَالُ: وَسَطْتُ الْقَوْمَ أَسِطُهُمْ وَسْطًا وَسِطَةً، أَيْ: تَوَسَّطْتُهُمْ، اه مِنْهُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ثَنَاءٌ الْبَتَّةَ عَلَى سَفْعَاءِ الْخَدَّيْنِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ جَابِرًا ذَكَرَ سَفْعَةَ خَدَّيْهَا لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ شَأْنُهَا الِافْتِتَانُ بِهَا ; لِأَنَّ سَفْعَةَ الْخَدَّيْنِ قُبْحٌ فِي النِّسَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، أَيْ: فِيهَا تَغَيُّرٌ وَسَوَادٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَالسَّفْعَةُ فِي الْوَجْهِ: سَوَادٌ فِي خَدَّيِ الْمَرْأَةِ الشَّاحِبَةِ، وَيُقَالُ لِلْحَمَامَةِ سَفْعَاءُ لِمَا فِي عُنُقِهَا مِنَ السَّفْعَةِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
مِنَ الْوُرْقِ سَفْعَاءُ الْعِلَاطَيْنِ بَاكَرَتْ فُرُوعَ أَشَاءٍ مَطْلَعَ الشَّمْسِ أَسْحَمَا
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: السَّفْعَةُ فِي الْخَدَّيْنِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّهَا سَوَادٌ وَتَغَيُّرٌ فِي الْوَجْهِ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ سَفَرٍ شَدِيدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ يَبْكِي أَخَاهُ مَالِكًا:
253
تَقُولُ ابْنَةُ الْعُمَرِيِّ مَا لَكَ بَعْدَمَا أَرَاكَ خَضِيبًا نَاعِمَ الْبَالِ أَرْوَعَا
فَقُلْتُ لَهَا طُولُ الْأَسَى إِذْ سَأَلْتِنِي وَلَوْعَةُ وَجْدٍ تَتْرُكُ الْخَدَّ أَسْفَعَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ السَّفْعَةِ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ كَمَا فِي الصُّقُورِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي خَدَّيِ الصَّقْرِ سَوَادٌ طَبِيعِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ مُطَّرِقُ رِيشَ الْقَوَادِمِ لَمْ تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ السَّفْعَةَ فِي الْخَدَّيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى قُبْحِ الْوَجْهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ قَبِيحَةَ الْوَجْهِ الَّتِي لَا يَرْغَبُ فِيهَا الرِّجَالُ لِقُبْحِهَا، لَهَا حُكْمُ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، قَالَ: أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا... الْحَدِيثَ، قَالُوا: فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ بِأَنَّهَا وَضِيئَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا.
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَاشِفَةً عَنْهُ، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ بَلْ غَايَةُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ وَضِيئَةً، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: أَنَّهَا حَسْنَاءُ، وَمَعْرِفَةُ كَوْنِهَا وَضِيئَةً أَوْ حَسْنَاءَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَنْكَشِفُ عَنْهَا خِمَارُهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَرَاهَا بَعْضُ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ كَشْفِهَا عَنْ وَجْهِهَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي رُؤْيَةِ جَابِرٍ سَفْعَاءَ الْخَدَّيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ حُسْنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَهَا، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ نَظَرِ أَخِيهِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَنَظَرِهَا إِلَيْهِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَهُ بِاللَّيْلِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ أَخِيهِ الْفَضْلِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: إِنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا،
254
وَاطِّلَاعُ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّهَا وَضِيئَةٌ حَسْنَاءُ لَا يَسْتَلْزِمُ السُّفُورَ قَصْدًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَأَى وَجْهَهَا، وَعَرَفَ حُسْنَهُ مِنْ أَجْلِ انْكِشَافِ خِمَارِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهَا، وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ حُسْنَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّهَا وَضِيئَةٌ، وَتَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ: فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَقَوْلَهُ: وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى وَجْهَهَا، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ لِإِعْجَابِهِ بِحُسْنِهِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ تِلْكَ الْقَرَائِنَ لَا تَسْتَلْزِمُ اسْتِلْزَامًا، لَا يَنْفَكُّ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَذَلِكَ، وَأَقَرَّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاحْتِمَالِ، مَعَ أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ قَدْ يُعْرَفُ وَيُنْظَرُ إِلَيْهَا لِجَمَالِهَا وَهِيَ مُخْتَمِرَةٌ، وَذَلِكَ لِحُسْنِ قَدِّهَا وَقَوَامِهَا، وَقَدْ تُعْرَفُ وَضَاءَتُهَا وَحُسْنُهَا مِنْ رُؤْيَةِ بَنَانِهَا فَقَطْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [٢٤ ٣١]، بِالْمُلَاءَةِ فَوْقَ الثِّيَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْحُسْنَ يُعْرَفُ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
طَافَتْ أُمَامَةُ بِالرُّكْبَانِ آوِنَةً يَا حُسْنَهَا مِنْ قَوَامٍ مَا وَمُنْتَقِبَا
فَقَدْ بَالَغَ فِي حُسْنِ قَوَامِهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ كَوْنُهُ مَسْتُورًا بِالثِّيَابِ لَا مُنْكَشِفًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ مُحْرِمَةٌ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، فَعَلَيْهَا كَشْفُ وَجْهِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِجَالٌ أَجَانِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهَا سَتْرَهُ مِنَ الرِّجَالِ فِي الْإِحْرَامِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِنَّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ نَظَرَ إِلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْفَضْلُ مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُحْرِمَةٌ لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا أَحَدٌ فَكَشْفُهَا عَنْ وَجْهِهَا إذًا لِإِحْرَامِهَا لَا لِجَوَازِ السُّفُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُهَا مَعَ الْحُجَّاجِ مَظِنَّةُ أَنْ يَنْظُرَ الرِّجَالُ وَجْهَهَا إِنْ كَانَتْ سَافِرَةً ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ السَّافِرَةَ وَسَطَ الْحَجِيجِ، لَا تَخْلُو مِمَّنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا مِنَ الرِّجَالِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعُ وَعَدَمُ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، فَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً، مِنْ كَوْنِهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا لَحُكِيَ كَمَا حُكِيَ نَظَرُ الْفَضْلِ إِلَيْهَا، وَيُفْهَمُ مَنْ صَرْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ الْفَضْلِ عَنْهَا، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ
255
الْأَجَانِبِ يَنْظُرُونَ إِلَى الشَّابَّةِ، وَهِيَ سَافِرَةٌ كَمَا تَرَى، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّهَا يَلْزَمُهَا حَجْبُ جَمِيعِ بَدَنِهَا عَنْهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْمُنْصِفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الشَّارِعُ لِلنِّسَاءِ فِي الْكَشْفِ عَنِ الْوَجْهِ أَمَامَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ هُوَ أَصْلُ الْجَمَالِ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّابَّةِ الْجَمِيلَةِ هُوَ أَعْظَمُ مُثِيرٍ لِلْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَدَاعٍ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَالْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، أَلَمْ تَسْمَعْ بَعْضَهُمْ يَقُولُ:
قُلْتُ اسْمَحُوا لِي أَنْ أَفُوزَ بِنَظْرَةٍ وَدَعُوا الْقِيَامَةَ بَعْدَ ذَاكَ تَقُومُ
أَتَرْضَى أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أَنْ تَسْمَحَ لَهُ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ إِلَى نِسَائِكَ وَبَنَاتِكَ وَأَخَوَاتِكَ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ
مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَعْنِي آيَةَ الْحِجَابِ هَذِهِ
اعْلَمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يُصَافِحَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ»، الْحَدِيثَ. وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، فَيَلْزَمُنَا أَلَّا نُصَافِحَ النِّسَاءَ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُوَضَّحٌ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ لِلرِّجَالِ. وَفِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، فِي آيَةِ الْحِجَابِ هَذِهِ.
وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ وَقْتَ الْبَيْعَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُصَافِحُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يَمَسُّ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا ; لِأَنَّ أَخَفَّ أَنْوَاعِ اللَّمْسِ الْمُصَافَحَةُ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقْتَضِيهَا وَهُوَ وَقْتُ الْمُبَايَعَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرِهِ.
256
الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَجِبَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسَّ الْبَدَنِ لِلْبَدَنِ، أَقْوَى فِي إِثَارَةِ الْغَرِيزَةِ، وَأَقْوَى دَاعِيًا إِلَى الْفِتْنَةِ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، وَكُلُّ مُنْصِفٍ يَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى التَّلَذُّذِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، لِقِلَّةِ تَقْوَى اللَّهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، وَعَدَمِ التَّوَرُّعِ عَنِ الرِّيبَةِ، وَقَدْ أُخْبِرْنَا مِرَارًا أَنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْعَوَامِّ، يُقَبِّلُ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَى الْفَمِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّقْبِيلَ الْحَرَامَ بِالْإِجْمَاعِ سَلَامًا، فَيَقُولُونَ: سَلَّمَ عَلَيْهَا، يَعْنُونَ: قَبَّلَهَا، فَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ التَّبَاعُدُ عَنْ جَمِيعِ الْفِتَنِ وَالرَّيْبِ وَأَسْبَابِهَا، وَمِنْ أَكْبَرِهَا لَمْسُ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالذَّرِيعَةُ إِلَى الْحَرَامِ يَجِبُ سَدُّهَا ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ السَّاعَةِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنَّمَا صِيغَةُ حَصْرٍ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ السَّاعَةَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الْآيَةَ [٣١ ٣٤].
وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ، هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [٦ ٥٩]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [٧ ١٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [٧٩ ٤٢ - ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [٤١ ٤٧]، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيَامَةُ لَعَلَّهَا تَكُونُ قَرِيبًا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ فِي «الشُّورَى» : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [٤٢ ١٧]، وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا اقْتِرَابَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الْآيَةَ [٥٤ ١]، وَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [٢١ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ الْآيَةَ [١٦ ١].
قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، إِلَى قَوْلِهِ: لَعْنًا كَبِيرًا. تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لَهُ مِرَارًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ التَّكَالِيفُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَأَنَّهُنَّ أَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، أَيْ: خِفْنَ مِنْ عَوَاقِبِ حَمْلِهَا أَنْ يَنْشَأَ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ عَذَابُ اللَّهِ وَسُخْطُهُ، وَهَذَا الْعَرْضُ وَالْإِبَاءُ، وَالْإِشْفَاقُ كُلُّهُ حَقٌّ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِدْرَاكًا يَعْلَمُهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، وَبِذَلِكَ الْإِدْرَاكِ أَدْرَكَتْ عَرْضَ الْأَمَانَةِ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، أَيْ: خَافَتْ.
وَمَثَلُ هَذَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِدْرَاكِ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، فِي الْحِجَارَةِ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [٢ ٧٤]، فَصَرَّحَ بِأَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْخَشْيَةُ الَّتِي نَسَبَهَا اللَّهُ لِبَعْضِ الْحِجَارَةِ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ هُوَ تَعَالَى.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الْآيَةَ [١٧ ٤٤]،
258
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [٢١ ٧٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قِصَّةُ حَنِينِ الْجِذْعِ، الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِالْخُطْبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَهِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لِأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي مَكَّةَ»، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. فَكُلُّ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤]، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ دَلَالَتَهَا عَلَى خَالِقِهَا لَكُنَّا نَفَقَهُهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، رَاجِعٌ لِلَفْظِ: الْإِنْسَانُ، مُجَرَّدًا عَنْ إِرَادَةِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ، الَّذِي هُوَ آدَمُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَيِ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ: كَثِيرَ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْقِسَامِ الْإِنْسَانِ فِي حَمْلِ الْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى مُعَذَّبٍ وَمَرْحُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ، مُتَّصِلًا بِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [٣٣ ٧٣]، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الظَّلُومَ الْجَهُولَ مِنَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمُعَذَّبُ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ، دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ: لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُسْلُوبَ الْمَذْكُورَ - الَّذِي هُوَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى التَّفْصِيلِيِّ - مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَقَدْ جَاءَ فِعْلًا فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [٣٥ ١١] ;
259
لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ، رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ الْمُعَمَّرِ دُونَ مَعْنَاهُ التَّفْصِيلِيِّ ; كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [٢٥ ٦١]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَسْأَلَةِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَمَا تَرَى. وَبَعْضُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، عَائِدٌ إِلَى آدَمَ، قَالَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا، أَيْ: غِرًّا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَمَا يَتْبَعُ الْأَمَانَةَ مِنَ الصُّعُوبَاتِ، وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
260
Icon