تفسير سورة الأحزاب

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٣٣ – سورة الأحزاب :
سميت بها، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.
وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال :( لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ).
قال ابن كثير : وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا. والله أعلم. انتهى.
قلت : كان يصح هذا الاقتضاء، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح، فهو من الضعف بمكان.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه، تعظيما له.
وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريما للمخاطب. ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم، والتعظيم باق كآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:
٢٩]، لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقينهم أن يسموه بذلك ويدعوه به. وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيما وتعظيما للتقوى نفسها، حيث أمر بها مثله. فإن مراتبها لا تنتهي. مع أن المقصود الدوام والثبات عليها. ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره، لأن سياق ما بعده لأمر يخصه. كقصة زيد رضي الله عنه وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا توافقهم على أمر. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم. فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين. لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي فهو أحق بأن تتبع أوامره ويطاع، لأنه العليم بعواقب الأمور وبالمصالح من المفاسد. والحكيم الذي لا يفعل شيئا، ولا يأمر به، إلا بداعي الحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢ الى ٤]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي أسند أمرك
47
إليه، وكله إلى تدبيره. فكفى به حافظا موكولا إليه كل أمر ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ قال الزمخشريّ: أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: إن الله سبحانه، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها- وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانّا، موقنا شاكّا، في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له. لأن الأم مخدومة، مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان. وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل، وابنا له. لأن البنوة أصالة النسب، وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير.
ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. وهذا مثل ضربه الله في (زيد بن حارثة) وهو رجل من كلب سبي صغيرا. وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة. فلما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهبته له. وطلبه أبوه وعمه فخيّر. فاختار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه. وكانوا يقولون (زيد بن محمد) فأنزل الله هذه الآية. وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: ٤٠].
والتنكير في (رجل) وإدخال (من) الاستغراقية على (قلبين) تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال. ولا لواحد منهم، قلبين البتة في جوفه.
وفائدة ذكر (الجوف) كالفائدة في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:
٤٦]، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلّي للمدلول عليه. لأنه إذا سمع به، صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى (ظاهر من امرأته) قال لها: أنت عليّ كظهر أمي. وكان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية.
فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة. وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.
قال الأزهريّ: وخصوا (الظّهر)، لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت، فهو كناية تلويحية، انتقل من الظهر إلى المركوب، ومنه إلى المغشيّ. والمعنى:
48
أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في (الكشف).
وقوله تعالى ذلِكُمْ إشارة إلى كل ما ذكر. أي من كونه ليس لأحد قلبان، وليست الأزواج أمهات، ولا الأدعياء أبناء. أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك، أن يكون ابنا حقيقيا. فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي الثابت المحقق في نفس الأمر وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم. وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل وأحكم.
قال ابن كثير: هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء. فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة. وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري «١» عن ابن عمر قال: «إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما كنا ندعوه إلا (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ»، وأخرجه مسلم «٢» وغيره. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك. ولهذا
قالت سهلة «٣» بنت سهيل، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: «يا رسول الله! إنا ندعوا سالما ابنا. وإن الله قد أنزل ما أنزل. وإنه كان يدخل عليّ. وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أرضعيه تحرمي عليه..» الحديث.
ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ. وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عزّ وجلّ
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٢- باب ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، حديث ٢٠٣٠.
(٢) أخرجه في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٦٢.
(٣) أخرجه مسلم في: الرضاع، حديث رقم ٢٦.
49
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: ٣٧] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء: ٢٣]، احترازا عن زوجة الدعيّ، فإنه ليس من الصلب.
فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا،
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين «١» :«حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب».
فأما دعوة الغير ابنا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما
رواه الإمام أحمد وأهل السنن. إلا- الترمذيّ- عن ابن عباس رضي الله عنهما «٢» : قال: «قدّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبينيّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».
قال أبو عبيدة وغيره (أبينيّ) تصغير (ابني) وهذا ظاهر الدلالة. فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.
وفي مسلم «٣» عن أنس قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنيّ». ورواه أبو داود والترمذيّ.
انتهى كلام ابن كثير. وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ- نظر، لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما. وأما ما لا خطاب فيه سابقا، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمّى نسخا اصطلاحا. فاحفظه. فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالأخوّة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي أولياؤكم فيه. أي فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي. ويا أخي ويا مولاي وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
(١) أخرجه البخاري في: الشهادات، ٧- باب الشهادة على الأنساب والرضاع، حديث رقم ١٢٨٥ عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: الرضاع، حديث رقم ١.
(٢) أخرجه النسائي في: المناسك، ٢٢٢- باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.
وأخرجه ابن ماجة في: المناسك، ٦٢- باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار، حديث رقم ٣٠٢٥.
(٣) أخرجه في: الآداب حديث رقم ٣١.
50
أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان. أو سبق اللسان، لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي ففيه الجناح، لأن من تعمد الباطل كان آثما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لعفوه عن المخطئ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي في كل شيء من أمور الدين والدنيا.
فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها. وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب. وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه. ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصرفهم عنه. لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين. وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشريّ.
وهذا كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: ٦٥]، وفي الصحيح: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن. وفيما عدا ذلك كالأجنبيات، ولذا قال ابن كثير: ولكن لا تجوز الخلوة بهن. ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. وإن سمى بعض العلماء بناتهن، أخوات المؤمنين. كما هو منصوص الشافعيّ رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم. وهل يقال لمعاوية وأمثاله، خال المؤمنين، فيه قولان: وعن الشافعيّ أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلّى الله عليه وسلّم:
أبو المؤمنين، فيه قولان: فصح عن عائشة المنع، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس
رضي الله عنهما، أنهما قرءا: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن. واستأنسوا عليه
بالحديث الذي رواه أبو داود «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطيب بيمينه»
. أفاده ابن كثير.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما فرضه، أو فيما أوحاه إلى نبيّه عليه السلام مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة ل (أولى) إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ أي إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم مَعْرُوفاً أي من صدقة ومواساة وهدية ووصية. فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ الآية، من ورّث ذوي الأرحام. انتهى.
وهو استدلال متين. وليس مع المخالف ما يقاومه. بل فهم كثيرون أن المعنيّ بها، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة، التي كانت بينهم. ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس: أن المهاجريّ كان يرث الأنصاريّ، دون قراباته وذوي رحمه. للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.
إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية. لا أنها خاصة بالمدعي فيها، كما أسلفنا بيانه مرارا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي في القرآن. أو في قضائه وحكمه وما كتبه وفرضه، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
(١) أخرجه في: الطهارة، ٤- باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، حديث رقم ٨. [.....]
أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق والتعاون والتناصر والاتفاق وإقامة الدين وعدم التفرق فيه. كما قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله وَمِنْكَ إلخ مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولي العزم. ، وتقديم نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل. انتهى.
وقال في (الانتصاف) : وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله:
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فأخّر ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليختم به تشريفا له.
وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام، على نوح ومن بعده في الذكر، أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلوّ، فكان تقديمه لذلك.
ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام، جرى ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.
وقد صرح بأولي العزم هنا وفي آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣]. قال ابن كثير: فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا عظيم الشأن. وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادّين والمشاقّين، ما تزول منه الجبال، لولا الاعتصام بالصبر عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٨ الى ٩]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء.
ووضع الصادقين موضع ضميرهم، للإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه. وإنما السؤال لحكمة تقتضيه. أي ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم. أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: ١٠٩]، أو المصدقين لهم عن تصديقهم.
أفاده أبو السعود وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً أي لمن كفر من أممهم عذابا موجعا.
ونحن- كما قال ابن كثير- نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء.
وإن كذبهم من كذبهم من الجهة والمعاندين والمارقين والقاسطين. فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. أو ما أتى من الريح من طيور الجوّ وجراثيمه، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي منتهى الحلقوم لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب. وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي أنواع الظنون المختلفة هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي أزعجوا أشد
54
الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.
فائدة:
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (الظنونا) بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الأحزاب: ٦٦]، ولام السبيل، في قوله فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧]، وصلا ووقفا، موافقة للرسم. لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك. وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها. وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف، فكذلك هذه الألف. وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالين. لأنها لا أصل لها. وقولهم (أجريت الفواصل مجرى القوافي) غير معتدّ به. لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا. والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها،. والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق. ولأنها كهاء السكت. وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا، أفاده السمين.
ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شبهة. تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكنّ صدورهم. لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدوّ لهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي من النصر إِلَّا غُرُوراً أي باطلا وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ وهي أرض المدينة لا مُقامَ لَكُمْ بضم الميم وفتحها، قراءتان. أي لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة أو نواحيها لغلبة الأعداء فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم من المدينة هاربين.
أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.
فائدة:
(يثرب) من أسماء المدينة. كما في الصحيح «١» : أريت في المنام دار هجرتكم. أرض بين حرتين. فذهب وهلي أنها هجر. فإذا هي يثرب (وفي لفظ:
المدينة).
قال ابن كثير: فأما
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» عن البراء قال: قال
(١) أخرجه البخاري في: المناقب، ٢٥- باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم ١٧٠٣.
(٢) أخرجه في مسنده ٤/ ٢٨٥.
55
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة.
تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده ضعف. انتهى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي في الرجوع يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي عير حصينة يخشى عليها وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٤ الى ١٦]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)
وَلَوْ دُخِلَتْ أي يثرب عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها أي بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الرجعة إلى الكفر لَآتَوْها أي لفعلوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب. أي فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم. ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الخوف لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي عن الوفاء به قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لأنه لا يؤخر آجالهم ولا يطوّل أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم. ولهذا قال: وَإِذاً أي فررتم لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي في الدنيا بعد فراركم. أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخرويّ. فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٧ الى ١٩]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يجيركم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أي هلاكا أو هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهم المنافقون. قال الشهاب: و (قد) للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى. وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ أي من ساكني المدينة هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي القتال إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إتيانا قليلا. لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضنّاء بكم ظاهرا، إن لم يحضر خوف فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي في أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كنظره أو كدورانه فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما. فأحرقوكم وآذوكم. وأصل (السلق) بسط العضو ومدة للقهر. كان يدا أو لسانا. ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي على فعله أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود. وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي مرة أخرى يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرّون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم يَسْئَلُونَ أي القادمين عَنْ أَنْبائِكُمْ أي عما جرى لكم. ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في حدوث واقعة ثانية ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي رياء وخوفا من التعيير لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة، إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب. وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب. ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة. وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو مع الضعف يصابر
صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي. ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي رضوان الله ورحمته وثواب اليوم الآخر ونجاته. فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن. إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لغاية قبحه وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة. أي ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده. فأدرك مواطن السّعادة ومهاوي الشقاوة. وعلم أن في الثبات على قتل العدوّ، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد.
مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين. ثم بيّن تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه، في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١٤]، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ظهر صدقهما فيما وعدانا به وَما زادَهُمْ أي هذا الخطب والبلاء، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم إِلَّا إِيماناً أي بالله ورسوله ومواعيدهما وَتَسْلِيماً أي لأمر الله ومقاديره مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ في الصبر والثبات، والقيام بما كتب عليهم من القتال، لإعلاء كلمة الحق، ومن العمل بالصالحات، ومجانبة السيئات فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي أدّى ما التزمه ووفى به، فقاتل مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، صادقا حتى قتل شهيدا.
قال الشهاب: أصل معنى (النحب) النذر. وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلّى الله عليه وسلّم حربا، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير (قضاء النحب) للموت، لأنه لكونه لا بد منه، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به. فيجوز أن يكون هنا حقيقة، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي ما غيروا شيئا من العهد، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الأحزاب: ١٥] ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به. والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي في عهودهم بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أي كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود، بفضله ورحمته لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي نصرا لا غنيمة وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة.
بل تولى كفاية ذلك وحده. ولهذا
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده
، فلا شيء بعده وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي فلا يعارض قوته قوة شيء عَزِيزاً أي غالبا على أمره (ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق) قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة، في شوّال على أصح القولين. إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام المقبل وهي سنة أربع. ثم أخلفوه لأجل جدب السنة، فرجعوا. فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي. وخالفهم موسى بن عقبة وقال: بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في الصحيحين «١» أنه عرض على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه.
ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال: وصحّ أنه لم يكن
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٢٩- باب غزوة الخندق، حديث رقم ١٢٩٥ وأخرجه مسلم في: ٣٣- الإمارة، حديث رقم ٩١.
59
بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما- أن ابن عمر أخبر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ردّه لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا. وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها. والثاني- أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة. ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.
ثم قال ابن القيّم رحمه الله: وكان سبب غزوة الخندق، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة. يحرّضونهم على غزو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويوالونهم عليه. ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم.
فأجابتهم قريش. ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم. ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك. فاستجاب لهم من استجاب. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف. ووافاهم بنو سليم بمرّ الظهران. وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة. وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن. وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف. فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدوّ وبين المدينة. فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبادر إليه المسلمون. وعمل بنفسه فيه وبادروا. وهجم الكفار عليهم. وكان في حفره من آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به. وكان حفر الخندق أمام سلع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين. والخندق بينهم وبين الكفار.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة آلاف من المسلمين. فتحصن بالجبل من خلفه وبالخندق أمامهم.
وقال ابن إسحاق: خرج في سبعمائة. (وهذا غلط من خروجه يوم أحد).
وأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. واستخلف عليها ابن أم مكتوم وانطلق حييّ بن أخطب إلى بني قريظة. فدنا من حصنهم. فأبى كعب ابن أسد أن يفتح له. فلم يزل يكلمه حتى فتح له. فلما دخل عليه قال: لقد جئتكم بعزّ الدهر. جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها، لحرب محمد. قال: قال كعب: جئتني، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه. فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ودخل مع المشركين في محاربته، فسرّ بذلك المشركون. وشرط كعب على حييّ أنه، إن لم يظفروا بمحمد، أن يجيء
60
حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه. فأجابه إلى ذلك، ووفى له به. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر بني قريظة ونقضهم للعهد. فبعث إليهم السعدين وخوّات بن جبير وعبد الله بن رواحة ليعرفوه: هل هم على عهدهم أو قد نقضوه. فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فانصرفوا عنهم، ولحنوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا. فعظم ذلك على المسلمين.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين.
واشتد البلاء وتجهر النفاق. واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الذهاب إلى المدينة وقالوا: بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. وهمّ بنو سلمة بالفشل. ثم ثبّت الله الطائفتين. وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا. ولم يكن بينهم قتال. لأجل ما حال الله به من الخندق. بينهم وبين المسلمين. إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ وجماعة معه، أقبلوا نحو الخندق. فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه. وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع. ودعوا إلى البراز. فانتدب لعمرو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
فبارزه فقتله الله على يديه. وكان من شجعان المشركين وأبطالهم. وانهزم الباقون إلى أصحابهم. وكان شعار المسلمين يومئذ (حم لا ينصرون) ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما. وجرت المراوضة على ذلك. فاستشار السعدين في ذلك فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعا وطاعة. وإن كان شيء تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. لقد كنا نحن هؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا.
فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف. فصوّب رأيهما وقال: إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
ثم إن الله عزّ وجلّ، وله الحمد، صنع أمرا من عنده. خذل به بين العدوّ وهزم جموعهم، وفلّ حدّهم. فكان مما هيأ من ذلك، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر، رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت. فمرني بما شئت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت رجل واحد. فخذّل عنا ما استطعت: فإن الحرب خدعة
. فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة. وكان عشيرا
61
لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة! إنكم قد حاربتم محمدا. وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمدا، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل؟ يا نعيم! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش. قال لهم: تعلمون ودّي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه. وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم. فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت من شوّال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخفّ. فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه. ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم، والله! نعيم. فبعثوا إلى يهود: إنا، والله! لا نرسل إليكم أحدا. فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم، والله! نعيم.
فتخاذل الفريقان: وأرسل الله عزّ وجلّ على المشركين جندا من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد. فجعلت تقوّض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار. وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال وقد تهيأوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرهم برحيل القوم.
فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ردّ الله عدوّه بغيظه، لم ينالوا خيرا وكفى الله قتالهم.
فصدق وعده. وأعز جنده ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده.
ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة مؤيدا منصورا والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظّهر، أتى جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة- وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا، فلا يصلّين العصر إلا ببني قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. وقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، برايته إلى بني قريظة. وابتدرها الناس. فسار عليّ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال:
لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى. قال: نعم. يا رسول الله؟ قال: لو رأوني لم يقولوا
62
من ذلك شيئا. وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلّى الله عليك وسلّم. إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول فوهبهم له.
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فذاك إلى سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب. فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.
وكان رجلا جسيما جميلا. ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلّم: قوموا إلى سيدكم فقاموا إليه فأنزلوه.
قال ابن كثير: إعظاما وإكراما، واحتراما له، في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.
فلما جلس، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك. فاحكم فيهم بما شئت. وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت.
قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا (في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراريّ والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. وفي رواية: لقد حكمت بحكم الملك (أي لأن هذا جزاء الخائن الغادر) وكان سعد أصيب يوم الخندق.
رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة. رماه في الأكحل.
63
فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أكحله. وقال سعد: اللهم! إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.
ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة في دار. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حييّ بن أخطب وكعب ابن أسد رأس القوم. وهم ستمائة أو سبعمائة. وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني قريظة. وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فرّوا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد مِنْ صَياصِيهِمْ أي حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف، جزاء وفاقا.
قال ابن كثير: لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا. فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون.
فكما راموا العز ذلوا. وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا. ولهذا قال تعالى:
فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.
روى الإمام أحمد «١» عن عطية القرظيّ قال: عرضت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٣١٠.
64
فشكّوا فيّ. فأمر بي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ينظروا: هل أنبتّ بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتّ. فخلّى عني، وألحقني بالسبي.
وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي: حسن صحيح وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ حصونهم وَأَمْوالَهُمْ أي نقودهم وأثاثهم ومواشيهم وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي أرضا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم.
وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادا. قال الزمخشري:
ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة. ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يا لله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح. فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز. فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر. ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتمّ عليهم ما تم. سنة الله في المفسدين. فإن الله لا يصلح أعمالهم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي زخارفها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ أي أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة ما يعطى للمرأة المطلّقة على حسب السعة والإقتار. من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعا لا وجوبا. وقوله تعالى: سَراحاً جَمِيلًا أي طلاقا من غير ضرار ولا بدعة.
وقد روي أنهن سألن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية.
ولما نزلت، بدأ صلّى الله عليه وسلّم بعائشة رضي الله عنها. وكانت أحبهن إليه. فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ثم اختار جميعهن اختيارها. قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن. ثم صفية بنت حييّ النضرية وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.
لطيفة:
قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: الصلاة وما
65
ملكت أيمانكم. ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيّه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ١]، ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة. وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي تردن رسوله. قال أبو السعود:
وذكر الله عزّ وجلّ، للإيذان بجلالة محله عليه السلام، عنده تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً أي لا يقدر قدره. ولما خيّرهن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واخترن الله ورسوله، أدبهن الله وهددهن، للتوقي عما يسوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويقبح بهن من الفاحشة. وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بيّن الشرع والعقل قبحها. إن قرئ بالفتح. أو مبيّنة قبحها بنفسها من غير تأمل، إن قرئ بالكسر يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي ضعفي عذاب غيرهن. قال القاضي: لأن الذنب منهن أقبح. فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك جعل حدّ الحرّ ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لعموم قدرته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَمَنْ يَقْنُتْ أي يدم مطيعا مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي في إتيان الواجبات وترك
66
المحرمات والمكروهات وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة وَأَعْتَدْنا لَها أي زيادة على أجرها المضاعف في الجنة، أو فيها وفي الدنيا رِزْقاً كَرِيماً أي حسنا مرضيّا يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
أي عند مخاطبة الناس. أي فلا تجبن بقولكن لينا خنثا، مثل كلام المريبات والمومسات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي ريبة وفجور وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي بعيدا من طمع المريب بجدّ وخشونة، من غير تخنيث. أو قولا حسنا مع كونه خشنا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي اسكنّ ولا تخرجن منها. من (وقر يقر وقارا) إذا سكن. أو من (قرّ يقر من باب ضرب) حذفت الأولى من راءى (اقررن) ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل. ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح. من (قررت أقر) من باب علم. وهي لغة قليلة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى. إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم. والتبرج، فسّر بالتبختر والتكسّر في المشي. وبإظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل.
وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها. وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط.
وكل ذلك مما يشمله النهي، لما فيه من المفسدة والتعرّض لكبيرة.
فائدة:
قيل الْأُولى بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن. فيستدل بذلك لمن قال: إن الأول لا يستلزم ثانيا.
قال في (الإكليل) : وهو الأصح عند العلماء. فلو قال: أول ولد تلدينه فأنت طالق، لم يحتج إلى أن تلد ثانيا. انتهى.
وقال الزمخشري: الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء. من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، أو ما قبله، إلى زمن عيسى. والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام. ويعضّده ما
روي «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي ذرّ، لما عيّر رجلا بأمه وكانت أعجمية: إنك امرؤ فيك جاهلية.
والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام، تشبه جاهلية الكفر قبله وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بموافقة أمرهما ونهيهما. ثم
(١) أخرجه البخاري في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية، حديث رقم ٢٨.
67
أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي ما أمركنّ ونهاكنّ، ووعظكنّ، إلا خيفة مقارفة المآثم والحرص على التصوّن عنها بالتقوى. فالجملة تعليلية لأمرهنّ ونهيهن على سبيل الاستئناف.
قال الزمخشري: استعار للذنوب (الرجس) وللتقوى (الطهر). لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس كما يتلوّث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه. ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو على المدح. والمراد بهم من حواهم بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن كثير: وهذا نص في دخول أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أهل البيت هاهنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا. إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وأما قول عكرمة، إنها نزلت في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، ومن شاء باهلته في ذلك، فإن كان المراد أنهن كنّ سبب النزول دون غيرهن، فصحيح. وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر. فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك.
وأنه صلّى الله عليه وسلّم «١» جمع عليّا وفاطمة والحسن والحسين، ثم جللهم بكساء كان عليه. ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
. وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه. إلا أن الشيخين لم يصححاه، ولذا لم يخرجاه. وأما ما
رواه مسلم «٢» عن حصين بن سبرة، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور.
فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله عز وجل ورغّب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي. قالها ثلاثا. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم
- فإنما مراد زيد، آله الذين حرموا الصدقة. أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله.
(١) أخرجه الترمذي في: المناقب، ٦٠- باب فضل فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) أخرجه في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٣٦.
68
قال ابن كثير: وهذا الاحتمال أرجح، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة، إن صحت. فإن في بعض أسانيدها نظرا. انتهى.
وقال أبو السعود: وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيرة، على كون نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما رضوان الله عليهم. وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء وتلاوته صلّى الله عليه وسلّم الآية بعده، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك. ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتدّ بها، لكونها في مقابلة النص. انتهى.
بقي أن الشيعة، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة عليّ رضي الله عنه، وإمامته دون غيره.
قال ابن المطهر الحلي منهم: وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ (إنما) وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وغيرهم ليس بمعصوم إلخ. وأجاب ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) بقوله: ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين: أحدهما- أن قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً كقوله ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: ٦]، وكقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥]، وكقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً [النساء: ٢٦- ٢٧]، فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به. ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدّره، ولا أنه يكون لا محالة. والدليل على ذلك، أن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية قال (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)
فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير. فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء.
وهذا على قول القدرية أظهر. فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد. فليس في كونه تعالى مريدا لذلك، ما يدل على وقوعه.
وهذا الرافضي وأمثاله قدرية، فكيف يحتجون بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
69
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
على وقوع المراد؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض. فلم يقع مراده. وأما على قول أهل الإثبات، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه. وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره. الأولى مثل هؤلاء الآيات. والثانية مثل قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: ١٢٥]، وقول نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود: ٣٤]، وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا.
ثم القدرية ينفون إراداته لما بيّن أنه مراد في الآيات التشريع. فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد. فلا يلزم أن يكون كائنا، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم. وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب. وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر.
وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه. ومما يبيّن ذلك، أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مذكورات في الآية. والكلام في لأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه. قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: ٣٠]، إلى قوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، فالخطاب كله لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد. لكن لما تبيّن ما في هذا من المنفعة التي تعمّهن وتعمّم غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه. بل هو متناول لأهل البيت كلهم. وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك. ولذلك خصهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء لهم. وهذا كما أن قوله:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: ١٠٨]، نزلت بسبب (مسجد قباء) لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو (مسجد المدينة) وهذا يوجه ما
ثبت في الصحيح «١» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «هو مسجدي هذا»
. وثبت عنه في الصحيح «٢» أنه كان يأتي قباء
(١) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤١٥.
(٢) أخرجه البخاري في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ٣- باب من أتى مسجد قباء كل سبت، حديث ٦٤٧، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٥١٥.
70
كل سبت ماشيا وراكبا. فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي قباء يوم السبت.
وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه. وعليّ وفاطمة والحسن الحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه. ولهذا خصهم بالدعاء. وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟ فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ومالك وغيرهم.
وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا
(آل محمد كل مؤمن تقي) رواه الخلال
، وتمام في (الفوائد) له. وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. وهو حديث موضوع. وبنى على ذلك طائفة من الصوفية. أن آل محمد هم خواص الأولياء. كما ذكر الحكيم الترمذيّ. والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد. وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم. لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. أحدهما- أنهن لسن من أهل البيت. ويروى هذا عن زيد بن أرقم. والثاني- وهو الصحيح أن أزواجه من آله. فإنه
قد ثبت في الصحيحين «١» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه علمهم الصلاة عليه: «اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته».
ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته. وامرأة لوط من آله وأهل بيته. بدلالة القرآن. فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى. وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه. كما
ثبت في الصحيح «٢» أنه قال: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليّ الله وصالح المؤمنين».
فبيّن أن أولياءه صالح المؤمنين. وكذلك
في حديث آخر: «إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا»
. وقد قال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم: ٤]،
وفي الصحاح «٣» عنه أنه قال: «وددت أني رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني»
. وإذا كان كذلك، فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى. وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية. والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان.
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ١٠- باب حدثنا موسى بن إسماعيل، حديث ١٥٩٠، عن أبي حميد الساعدي.
ومسلم في: الصلاة، حديث رقم ٦٩.
(٢) أخرجه البخاري في: الأدب، ١٤- باب يبلّ الرحم ببلالها، حديث ٢٣١٥، عن عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في الإيمان، حديث رقم ٣٦٦.
(٣) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث رقم ٣٩.
71
ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. فإن كان فاضل منهم، كعليّ رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى. وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب.
فأولياؤه أعظم درجة من آله. وإن صلّى على آله تبعا، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه. الذين لم يصلّ عليهم. فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه. وهم أفضل من أهل بيته. وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء. أفضل منهن كلهن.
فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم بذلك يدل على وقوعه. فإن دعاءه مستجاب. قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس. فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر. ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دلّ على طهارتهم وعلى ذهاب رجسهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعوّ لهم وإذهاب الرجس عنهم. لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ. والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ. فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن. وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث. كالفواحش ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب. والتطهير من الذنب على وجهين، كما في قوله:
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: ٤]، وقوله: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: ٨٢] و [النمل: ٥٦]، فإنه قال فيها مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠]، والتطهير من الذنب إما بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣]، ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة. فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال. لكن هو سبحانه ينهى عنها، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها.
وفي الصحيح «١» عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: اللهم! باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب. واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد.
اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
. وبالجملة، لفظ
(١) أخرجه البخاري في: الأذان، ٨٩- باب ما يقول بعد التكبير، حديث ٤٥٤، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ١٤٧.
72
(الرجس) أصله القذر. ويراد به الشرك. كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠]، ويراد به الخبائث المحرّمة، كالمطعومات والمشروبات كقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
[الأنعام: ١٤٥]، وقوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: ٩٠]، وإذهاب ذلك إذهاب لكله. ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث. ولفظ (الرجس) عامّ يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلّم دعا بذلك. وأما قوله (وطهرهم تطهيرا) فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة. وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة. ويقول مثل ذلك في قوله فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: ٢]، ونحو ذلك. والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق. كما إذا قيل: أكرم هذا، أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما. وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا. والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة، وترك ذلك في نظيرها. وكذلك لا يقال (هو طاهر) أو (متطهر) أو (مطهر) إذا كان متطهرا من شيء، متنجسا بنظيره. ولفظ (الطاهر) كلفظ (الطيب) قال تعالى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النور: ٢٦]، كما قال الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: ٢٦]، وقد روي أنه قال لعمّار:
ائذنوا له. مرحبا بالطيب المطيب. وهذا أيضا كلفظ (المتقي) و (المزكي) قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس: ٩- ١٠]، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣]، وقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: ١٤]، وقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النور: ٢١]، وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب. فإن هذا، لو كان كذلك، لم يكن في الأمة متّق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين. كما قال إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء: ٣١]، فدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأن يطهرهم تطهيرا، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك، فهو داخل في هذا. لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه.
وقد قال «١» :
(١) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٠٤ عن عبد الله بن أبي أوفى. [.....]
73
«اللهم! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد».
فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا، فقط طهره الله منه تطهيرا. ولكن من مات متوسخا بذنوبه، فإنه لم يطهر منها في حياته. وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس.
والنبيّ صلى الله عليه وسلّم، إذا دعا بدعاء، أجابه الله بحسب استعداد المحل. فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب، فإن هذا، لو كان واقعا، لما عذّب مؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة. بل يغفر الله لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسنات الماحية. ويغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة، وإن واحدة بأخرى، وبالجملة، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم، لا معصوم إلا النبيّ صلى الله عليه وسلّم. والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبيّ صلى الله عليه وسلّم والإمام. فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعوّ به للأربعة، متضمنا للعصمة التي يختص بها النبيّ صلى الله عليه وسلّم، والإمام عندهم. فلا يكون دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم له بهذا، العصمة، لا لعليّ ولا لغيره. فإنه دعا لأربعة مشتركين، لم يختص بعضهم بدعوة، وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية. بل وبالتطهير أيضا. فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب. ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا. ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر. فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات. وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر. كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر. والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل باختياره، إما الخير وإما الشر بتلك القدرة. وهذا الأصل يبطل حجتهم، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل، حيث دعا النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالتطهير. فإن قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة. فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة.
والعصمة مطلقا التي هي فعل المأمور وترك المحظور، ليست مقدورة عندهم لله، ولا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة، ولا تاركا لمعصية. لا لنبيّ ولا لغيره. ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه، لا بإعانة الله وهدايته. وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة. كما تقدم. ولو قدر ثبوت العصمة، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة، والإجماع على انتفاء العصمة في غيرهم.
وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق. انتهى. وقوله تعالى:
74
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٤]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أمر لهنّ بأن يذكرن ولا يغفلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى، وسنة نبيّه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق. وذكر ذلك مستوجب لتصوّر عظمته ومكانته وثمرة منفعته. وذلك يجرّ إلى العمل به. فمن تأوّل اذْكُرْنَ باعملن به، أراد ذلك تعبيرا عن المسبب باسم السبب. وجوّز أن يكون المعنى: اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوّة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة، حثّا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه. قال أبو السعود: والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير. بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتلاوتهن وتلاوة غيرهن، تعليما وتعلما إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أي يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي.
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ أي بإدامة شغف الجوارح في الطاعات وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول بمجانبة الكذب والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ أي على البأساء والضراء والنوائب، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله
بقلوبهم وجوارحهم. و (الخشوع) السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع.
والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ أي بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب. فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحسانا إلى خلقه وإتماما للخشوع وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ أي الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعا ويتصبر فقرا وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ أي عن إبدائها وإراءتها، حياء وكفّا عن مثار الشهوة المحرمة أو عن الحرام والفجور وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أي بقلوبهم وألسنتهم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً أي بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفرانا لما اقترفوا من الصغائر لأنها مكفرة بذلك وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا وافرا في الجنة، وقوله تعالى:
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٦]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما صح لهما إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما، لما في ذلك من المأثم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمرا أو نهيا فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي جار عن قصد السبيل، وسلك غير الهدى والرشاد.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة. فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف. فنزلت الآية فرضيت وتزوجها.
قال المهايمي: الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب. ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصية، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع كونه قول الله بالحقيقة.
وقال بعضهم: إنما عدّ التنزيل إباءها عصيانا، وكأنه أرغمها على زواجه، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. وهو هدم تحريم زوجة المتبنّى، الفاشي في الجاهلية. كما سيأتي سياقه.
76
وذكر أيضا أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وكانت أول من هاجر من النساء- بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فزوجها زيدا- أي بعد فراقه زينب- فسخطت، فنزلت الآية، فرضيت.
وروى الإمام أحمد «١» عن أنس قال: خطب النبيّ صلى الله عليه وسلّم على جليبيب رضي الله عنه، امرأة من الأنصار إلى أبيها.
فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: نعم إذا. قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فأبت أشد الإباء. فقالت الجارية: أتريدون أن تردّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا:
صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال صلى الله عليه وسلّم: فإني قد رضيته. قال: فزوجها. ثم ذهب مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم في غزاة، فقتل
. ورؤي حوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة (وفي رواية: فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها).
وذكر الحافظ ابن عبد البرّ في (الاستيعاب) أن الجارية لما قالت في خدرها:
أتردّون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمره، نزلت هذه الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ.
ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجه، الآتية، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب، لتناسق نظام الآيات حينئذ وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة.
وقد قدمنا مرارا أن معنى قولهم (نزلت الآية في كذا) أنها مما تشمله لعموم مساقها. ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه. وقرأ له هذه الآية.
قال ابن كثير: هذه الآية عامة في جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول. كما قال تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: ٦٥]،
وفي الحديث: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
. ولهذا شدّد في خلاف ذلك فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، كقوله تعالى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: ٦٣].
(١) أخرجه في مسنده: ٣/ ١٣٦.
77
لطائف:
الأولى- قالوا على الروايات السالفة: إن ذكر الله في الآية، مع أن الآمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلّم، للدلالة على أنه بمنزلة من الله، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى.
أو أنه لما كان ما يفعله بأمره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك. انتهى.
وهذا وقوف مع ما روي. وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه، ورسوله في سنّته.
الثانية- الْخِيَرَةُ هنا مصدر، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير (طيرة).
الثالثة- جمع الضمير الأول- وهو لهم- لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي. قال الشهاب: واعتبر عمومه، وإن كان سبب نزوله خاصا، دفعا لتوهم اختصاصه بسبب النزول. أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد، لا يصح مع الجمع أيضا كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه.
انتهى.
وجمع الثاني- وهو ضمير من أمرهم- مع أنه للرسول صلى الله عليه وسلّم، أو له ولله تعالى، للتعظيم. هذا ما أشار له القاضي وغيره. مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه، على أن يكون المعنى: ناشئة من أمرهم.
والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم. أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم، أي دواعيهم. وردّ هذا، بأنه قليل الجدوى، ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم.. أو واقعة في أمورهم. وهو بيّن مستغن عن البيان.
بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه صلى الله عليه وسلّم. أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي. فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول.
قال الشهاب: وهو كلام حسن. ثم أشار تعالى إلى ما منّ به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعيّ والمتبنّى الذي كان فاشيا في الجاهلية، بما جرى بين زيد متبنّى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وزوجه من الفراق. ثم تزويجه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم إياها، رفعا للحرج فيه. فقال تعالى:
78
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإسلام ومتابعة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وهو زيد بن حارثة وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش.
قال ابن كثير: كان سيدا كبير الشأن جليل القدر، حبيبا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقال له (الحب) ويقال لابنه أسامة (الحب ابن الحب)
قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سرية إلا أمّره عليهم. ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه الإمام أحمد «١»
. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي لا تطلقها وَاتَّقِ اللَّهَ أي اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها وارع حق الله في نفسك أيضا. فربما لا تجد بعدها خيرا منها. وكانت تتعظم عليه بشرفها، وتؤذيه بلسانها. فرام تطليقها متعللا بتكبرها وأذاها فوعظه صلى الله عليه وسلّم وأرشده إلى الصبر والتقوى وَتُخْفِي أي تضمر فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي من الحكم الذي شرعه. أي تقول ذلك، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك. وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه. وهذا معنى قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ أي قالتهم وتعييرهم الجاهليّ وَاللَّهُ أي الذي ألهمك ذلك وأمرك به أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه، ثم زاده بيانا بقوله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجة بالزواج زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أي ضيق من العار في نكاح زوجات أدعيائهم
(١) أخرجه في المسند: ٦/ ٢٢٧.
إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي قضاؤه واقعا، ومنه تزويجك زينب ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي مأثم وضيق فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي كتبه له من التزوج وأباحه له وسن شريعة مثلي في وقوعه سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي الرسل عليهم السلام. وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. فإنه كان لهم الحرائر والسراري وتناول المباحات والطيبات وبهداهم القدوة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي قضاء مقضيّا. أي لا حرج على أحد فيما أحل له. ثم وصف شأنهم بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي أحكامه وأوامره ونواهيه ويصدعون بها وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يخافون قالة الناس ولائمتهم ولا يبالون بها في تشريعه ولا ريب أن سيّد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، حضرة نبينا صلى الله عليه وسلّم. كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة والفعل أبلغ قيام وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه.
وكافيا للمخاوف.
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٠]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ هذا دفع لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلى الله عليه وسلّم وسلم أبا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه، ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة.
فكان حكمه حكمهم. والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء وكسرها، قراءتان. أي فهذا نعته وهذه صفته. فليس هو في حكم الأب الحقيقيّ، وإنما ختمت النبوة به، لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان وكل مكان. لأن القرآن الكريم لم يدع أمّا من أمهات المصالح إلا جلّاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها. فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.
80
تنبيهان في لطائف هذه القصة وفوائدها الباهرات:
الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة وزوجه زينب بنت جحش. ورواه البخاري «١» عن أنس في التفسير.
ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو. فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم منزل زيد بن حارثة. فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: أمسك زوجك واتق الله. فنزلت.
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السّدي. فساقها سياقا حسنا واضحا ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلّم بعد، أنها من أزواجه. فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله. وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه. وكان قد تبنى زيدا.
وعنده، من طريق علي زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن عليّ، قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلّم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك. قال الله تعالى: (قد أخبرتك أنّي مزوّجكها)، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب: ٣٧].
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبريّ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا أثارا، أحببنا أن نضرب عنها صفحا، لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.
الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا) في بحث أقواله صلّى الله
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٦- باب قوله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، حديث رقم ٢٠٣٢.
وأخرجه في: التوحيد، ٢٢- باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث رقم ٢٠٣٢.
أخرجه ٣/ ١٥٠.
81
عليه وسلّم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلّم أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء، وهو يبطن خلافه
وقد قال عليه السلام «١» :«ما كان لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟».
فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبيّ عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين. وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن عليّ بن حسين. أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه. فلما شكاها إليه زيد،
قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك زوجك واتق الله
، وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.
وروى نحوه عمر بن قائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش. فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي لا بد لك أن تتزوجها. ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها. فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر. ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها،. لكان فيه أعظم الحرج.
وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته. ولم يزل يراها منذ ولدت. ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوّجها لزيد، وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وقال: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف. وإنما معناه الاستحياء. أي يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه. وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له. كما عتبة على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: ١]، الآية. كذلك قوله هاهنا. انتهى ملخصا.
الثالث- قال الإمام ابن حزم في (الفصل) يردّ على من استدل بمثل هذه الآية
(١) أخرجه أبو داود في: الحدود، ١- باب الحكم فيمن ارتد، حديث ٤٣٥٩.
82
على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء، ما مثاله: وأما قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ الآية فقد أنفنا من ذلك. إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج. مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره. وإنما خشي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظنا، فيهلكوا. كما
قال عليه السلام «١» للأنصاريين: إنها صفية.
فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا. وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم، بظن يظنونه به عليه السلام، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب. وكان مراد الله عزّ وجلّ أن يبدي ما في نفسه، لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها، انتهى.
الرابع- للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية. رأيت نقلها هنا تعزيزا لما سلف، وإيقافا من أسرار الآية على نخب ما وصف.
قال رحمه الله: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش. وهي بنت عمته صلّى الله عليه وسلّم أميمة بنت عبد المطلب. وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة. فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ [الأحزاب: ٣٦]، إلخ، فلما نزلت الآية قالا: رضينا يا رسول الله. فأنكحها إياه. وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام، وثلاثين صاعا من تمر.
كذا يروى.
فنحن من جهة، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر. حتى أنه اختارها لمولاه زوجة. مع إبائها وإباء أخيها. وعدّ إباءها هذا عصيانا. ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن. فكأنه أرغمها على زواجه، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلّى الله عليه وسلّم، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه، ونضرة جدته، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب. ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة. ولكنه لم يرغبها لنفسه، ورغبها لمولاه،
(١) أخرجه البخاري في: الأحكام، ٢١- باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، حديث رقم ١٠٣١.
83
فكيف يمتد نظره إليها، ويصيب قلبه سهم حبها، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب، إلى أن تبلغ حد العشق، خصوصا إذا كان عشيره منذ صغره. بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض. متى تعوّد بعضهم النظر إلى بعض، من بداية السن إلى أن يبلغ حدّا منه يجول فيه نظر الشهوة. فكيف يظن أو يتوهم أن النبيّ الذي يقول الله له وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: ١٣١]، يخالف مألوف العادة، ثم يخالف أمر الله في ذلك؟ أم كيف يخطر بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة، يغلب عليه سلطان شهوة في بنت عمته، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده؟ ومن جهة أخرى ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو الرؤوف الرحيم، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة وتفسد به شؤون المعيشة. فما كان له- وهو سيد المصلحين- أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين. لا ريب أننا نجد من ذلك هاديا إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، كان أمرا تدين به العرب وتعدّه أصلا يرجع إليه في الشرف والحسب. وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن، ويجرون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن، حتى في الميراث وحرمة النسب وهي عقيدة جاهلية رديئة. أراد الله محوها بالإسلام، حتى في الميراث وحرمة النسب وهي عقيدة جاهلية رديئة. أراد الله محوها بالإسلام، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجري من أحكامه إلا ماله أساس صحيح. لهذا أنزل الله وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:
٤]، ثم قال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: ٥]، إلخ فهذا العدل الإلهي، أن لا ينال حقّ الابن إلا من يكون ابنا. أما المتبنّى واللصيق فلا يكون له إلا حق المولى والأخ في الدين. فحرّم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعيّ لمن تبناه. وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئا من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا. وشدّد الأمر حتى قال وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: ٥]، فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني. أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك. لا عن قصد التبنّي.
ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة، كما كان معروفا من قبل. مضت سنة الله في خلقه، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة،
84
لا يسهل عليها التفصّي منه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، وجعل همته فوق المألوفات. فلا يطبيه (أي يستميله) إلا الحق. ولا يحكم عليه إلف، ولا يغلبه عرف. ذلك هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن يختصه الله بالتأسي به. لهذا، كان الأمر، إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه، أو أحل شيئا كانت الجاهلية تحرّمه، بادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهيّ عنه، والإتيان بضده. وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة. نادى صلّى الله عليه وسلّم «١» في حجة الوداع بحرمة الربا. وأول ربا وضعه ربا عمه العباس. حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم، على هذا السنن الإلهي كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر زينب، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم كما دل عليه قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ إلخ فعمد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، على سنته، إلى خرق العادة بنفسه. وما كان ينبغي له، ولا من مقتضى الحكمة، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه، أن يتزوج ثم يأمره بالطلاق ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته. ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة وتمكن الاشمئزاز من النفوس، ما لا يخفى على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه، لتسقط العادة بالفعل. كما ألغى حكمها بالقول الفصل.
لهذا أرغم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب أن تتزوج بزيد، وهو مولاه وصفيّه. والنبيّ يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع، وتنفيذ حكم إلهيّ. وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يسلس قيادها، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقا وأصرح منه حرية. لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المرة بعد المرة. وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكّث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ٣٧]، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها. ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمزّق حجاب تلك العادة، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال:
(١) أخرجه مسلم في: الحج، حديث ١٤٧.
85
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: ٣٧]، وأكّد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الآية. هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة.
ثم قال: وأما ما
رووه من أن النبيّ مرّ ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب، فوقع منها في قلبه شيء، فقال: سبحان مقلب القلوب! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها
إلخ، ما حكوه- فقد قال الإمام أبو بكر بن العربيّ إنه لا يصح. وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية، لم يقدروا مقام النبوّة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها. وأطال في ذلك، وأذكر من كلامه ما يؤيد ما ذكرنا في شأن هذه الروايات.
قال، بعد الكلام في عصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية.
وبعد أن جاء الإسلام: وقد مهّدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد. وإنما الصحيح «١» منها ما روي عن عائشة أنها قالت: لو كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فأعتقته أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ إلى قوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: ٣٧]، وأن رسول الله لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، الآية. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له (زيد ابن محمد). فأنزل الله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: ٥]، يعني أنه أعدل عند الله قال القاضي:
وما وراء هذه الآية غير معتبر. فأما قولهم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رآها، فوقعت في قلبه، فباطل.
فإنه كان معها في كل وقت وموضع. ولم يكن حينئذ حجاب. فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه، إلا إذا كان لها زوج؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره. فلم يخطر بباله. فكيف يتجدد هوى لم يكن! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة. وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: ١٣١]، والنساء أفتن الزهرات، وأنشر الرياحين، فيخالف هذا في المطلقات. فكيف في المنكوحات المحبوسات؟؟.
ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة. ولولا خوف
(١) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٢٢- باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث ٢٠٣٢، عن أنس.
86
التطويل لنقلت كلامه بحروفه. سبحان الله! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات، وقد علموا أنه الله لم يدع لنبيّه أن يعرض عن أبن أم مكتوم، ويتصدى لصناديد قريش طمعا في إسلامهم، حتى عاتبه على ذلك في قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: ١]، إلى آخر الآيات، مع أن لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعدّه في نفسه خيرا للدين، ولم يكن رغبة في جاه، ولا شرها إلى مال، ولا طموحا إلى لذة. فلو صحّت الرواية التي زعموها في شأن زينب، لكان العتاب على تلك التسبيحة، بمسمع من زينب، ثم على الزواج بعد الطلاق، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام. وما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم في علوّ مقامه ورفعة منزلته من النبوّة، لتطمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها. وما كان رب محمد يعلّل شهوته، ويرفّه من هواه فيما يخالف أمره، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا، ومن زهرتها النساء. تسامى قدر محمد عن ذلك، وتعالى شأن ربه عن هذا علوّا كبيرا. أما والله! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلّسون من مثل هذه الرواية، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه. فإن نص الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر، والتريث به. وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهيّ الصادر إليه، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه. كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة. وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم. وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له، كما تقدم بيانه. ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله، إلا حياء الكريم، وتؤدة الحكيم، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة، لكن مع معاونة الزمان.
ثم قال الإمام رحمه الله: أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدي أحد الأساتذة الأميركانيين، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: ٧]، فقال الأميركي: حتى زينب زوجة زيد بن حارثة.
يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة، ويعرض بعشقه صلّى الله عليه وسلّم لزينب على ما زعموا، فقال له صاحبي: سبحان الله! إنكم تشتغلون بعلوم السموات والأرض، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم. مع أنكم، في المشهور عنكم، من أشدّ الناس ولعا بالبحث في الأديان. إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له، ليبيّن للناس
87
بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابنا، فإن كان المسيح قد دعي في لسان الإنجيل ب (الابن) فليس هذا على الحقيقة، وإنما (الابن) الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة، إن في ذلك لذكرى للعالمين. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
الخامس-
روى الإمام أحمد «١» ومسلم «٢» والنسائيّ عن أنس قال: لما انقضت عدّة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها عليّ.
فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها. فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب! أبشري. أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عزّ وجلّ. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا، حين دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أطعمنا عليها الخبز واللحم»
.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك: وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب. لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها. هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة. وأن من وكل أمره إلى الله عزّ وجلّ، يسّر الله له ما هو الأحظّ له والأنفع دنيا وأخرى. انتهى. أي فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى. فاختار لها ما شرّفها به وأسمى مكانتها، عناية منه ورحمة للأمة أيضا.
السادس- روى ابن جرير عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدّي وجدّك واحد: وإني أنكحنيك الله عزّ وجلّ من السماء. وإن السفير لجبريل عليه السلام.
وروى «٣» البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب كانت تفخر على أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات.
(١) أخرجه في المسند ٣/ ١٩٥.
(٢) أخرجه في: النكاح حديث رقم ٨٩.
(٣) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٢٢- باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث ٢٠٣٢، عن أنس
88
قال ابن القيّم في (زاد المعاد) : ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليّها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته. وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب.
وكان أولا عند زيد بن حارثة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبناه، فلما طلقها زوجه الله إياها، لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبّنوه. انتهى.
السابع- قالوا: لا ينقض عموم قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ بكونه صلّى الله عليه وسلّم أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم، لأنهم لم يبلغوا الحلم. ولو بلغوا لكانوا رجالا له، صلّى الله عليه وسلّم، لا لهم. انتهى.
وهذا من التعمق في البحث. وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة.
قال ابن كثير: لم يعيش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر، حتى بلغ الحلم. فإنه صلّى الله عليه وسلّم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها. فماتوا صغارا، وولد له صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم من مارية القبطية. فمات أيضا رضيعا. وكان له صلّى الله عليه وسلّم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، رضي الله عنهن أجمعين. فمات في حياته صلّى الله عليه وسلّم ثلاث. وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر. انتهى.
ثم أمر تعالى بكثرة ذكره، والعناية بشكره لما منّ به من هدايته، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ أي بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد ذِكْراً كَثِيراً أي يعمّ الأوقات والأحوال. قال ابن عباس رضي الله عنهما.
إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حدّا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدّا ينتهي إليه. ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النساء: ١٠٣]، وقال اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، أي بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في أول النهار وآخره، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل. لأن ذكره وتسبيحه، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوّها عن الأشغال.
قال الزمخشريّ: والتسبيح من جملة الذكر. وإنما اختصه من بين أنواعه
اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبيّن فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته، عمّا لا يجوز عليه من الصفات والأفعال. ومثال فضله على غيره من الأذكار، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه، من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات. فإن كل طاعة وكل خير، من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا. وهي الصلاة في جميع أوقاتها. لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين. لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٣]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين. فإن صلاته تعالى عليهم. مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين، مما يوجب عليهم المداومة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه.
أفاده أبو السعود.
وقال ابن كثير: هذا تهييج إلى الذكر. أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم.
كقوله عزّ وجلّ: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: ١٥١- ١٥٢]. انتهى.
والصلاة: الرحمة والعطف. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر، والتوفر على الصلاة والطاعة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان والسنّة والطاعة ومحاسن الأخلاق وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم. وذكر الملائكة تنويها بشأنهم وشأن المؤمنين. وأن للملأ الأعلى عناية وعطفا وترحما، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل. كقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ
[غافر: ٧- ٩] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أي يحيّون يوم لقائه، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة، بسلام تبشيرا بالسلامة من كل مكروه وآفة، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول، والمحيي لهم، إما الله جلّ جلاله، لقوله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]، تعظيما لهم وتفضلا منه عليهم، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام، وإما الملائكة لآية وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: ٢٣- ٢٤]، أو من إضافة المصدر لفاعله.
أي تحية بعضهم بعضا بالسلام. وقد يستدل له بآية دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠]، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يعني الجنة وما حوته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على من بعثت إليهم بالبلاغ وَمُبَشِّراً أي بالثواب لمن آمن وَنَذِيراً أي من النار لمن كفر وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته بِإِذْنِهِ أي بأمره ووحيه وَسِراجاً مُنِيراً أي يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي ثوابا عظيما وأجرا جزيلا وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي فيما يرجفون به ويعيبون من جاهليتهم
91
وعوائدهم، بإلانة الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق وَدَعْ أَذاهُمْ أي إيصال الضرر إليهم، مجازاة لفعلهم. بل اعف واصفح. أو معناه: دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم. فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول، وإلى المفعول على الثاني وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي موكولا إليه، وكفيلا فيما وعدك من النصر، ودحر ذوي الكفر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي تزوجتموهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تستوفون عددها من إحصاء أقراء، ولا أشهر تحصونها عليهن فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال وَسَرِّحُوهُنَّ أي خلّوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم. إذ ليس لكم عليهن عدّة سَراحاً جَمِيلًا أي من غير ضرار ولا منع حق.
تنبيه:
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة. منها إطلاق النكاح على العقد وحده. وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه. وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال. واستعمال القرآن، إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية. فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها. وقوله تعالى الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب. إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك، بالاتفاق. وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المسيّب والحسن البصريّ وزين العابدين، وجماعة من السلف بهذه الآية، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لقوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فعقب النكاح بالطلاق. فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشافعيّ وأحمد وطائفة كثيرة من السلف والخلف. وأيّده ما
روي مرفوعا «١»
(لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.
وهكذا
روى ابن ماجة «٢» عن عليّ والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل النكاح».
(١) أخرجه أبو داود في: الطلاق، ٧- باب في الطلاق قبل النكاح، حديث ٢١٩٠.
(٢) أخرجه في: الطلاق، ٧- باب لا طلاق قبل النكاح، حديث ٢٠٤٩ و ٢٠٤٨.
92
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها. فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت. ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى زوجها. فإنها تعتدّ منه أربعة أشهر وعشرا. وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضا. وقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها. قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: ٢٣٧]، وقال عزّ وجلّ: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:
٢٣٦].
وعن ابن عباس: إن كان سمّى لها صداقا، فليس لها إلا النصف. وإن لم يكن سمّى لها صداقا، فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. انتهى.
وعليه، فالآية في المفوضة التي لم يسمّ لها. وقيل: الآية عامة. وعليه، فقيل الأمر للوجوب، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضا. ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء.
لطيفة:
قال الرازيّ: وجه تعلق الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى في هذه السورة، ذكر مكارم الأخلاق، وأدّب نبيّه على ما ذكرناه. لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيّه المرسل، فكلما ذكر للنبيّ مكرمة، وعلّمه أدبا، ذكر للمؤمنين ما يناسبه.
فكما بدأ الله في تأديب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذكر ما يتعلق بجانب الله، بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ١]، وثنّى بما يتعلق بجانب العامة بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الأحزاب: ٤٥]، كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: ٤١]، ثم ثنّى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم، كما ثلث في تأديب النبيّ بجانب الأمة، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيّهم، فقال بعد هذا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: ٥٣]، وبقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ. انتهى.
93
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن فإنها أجور الأبضاع. وإيتاؤها، إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد. وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره.
قال ابن كثير: كان مهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. وهو نصف أوقية فالجميع خمسائة درهم. إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشيّ رحمه الله تعالى أربعمائة دينار. وإلا صفية بنت حييّ فإنه اصطفاها من سبي خيبر ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها. رضي الله عنهن. انتهى.
وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور، ليس لتوقف الحل عليه. ضرورة أنه يصح العقد بلا تسمية. ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه. بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة والسلام. كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبيّة، في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها.
قال ابن كثير: أي وأباح لك التسرّي مما أخذت من المغانم. وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أي من مكة، إلى المدينة.
والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، عدة أوجه. فيها اللطيف والضعيف. وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك والنظم ورقة التعبير ورشاقة التأدية. كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول، ويشرب
94
من عين فصاحته. فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع. كما أن في آية بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: ٦١]، أمتن وأبلغ من الإفراد. ولكل مقام مقال ولكل مجال حال وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها.
أي يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر. وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية وأم شريك بنت جابر وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن.
وفي البخاريّ «١» عن عائشة قالت: «كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [الأحزاب: ٥١] الآية- قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك».
وعن ابن عباس، أنه لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها له. أي أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحا له. لأنه مردود إلى إرادته. والله أعلم.
قال ابن القيّم: وأما من خطبها صلّى الله عليه وسلّم ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس. وقال بعضهم: هن ثلاثون امرأة. وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلّى الله عليه وسلّم، لا يعرفون هذا بل ينكرونه.
قال أبو السعود: وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى خالِصَةً لَكَ أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا، فهي مصدر مؤكد، أو صفته أي هبة خالصة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بوليّ ومهر، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك. قال قتادة: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل، بغير وليّ ولا مهر إلا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ أي في حلّها من الوليّ والشهود والمسمى وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي في حلها من توسيع الأمر فيها.
وقال السيوطي في (الإكليل) : فسر بالاستبراء، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٧- باب قوله ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء، حديث ٢٠٣٣.
95
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق. واللام متعلقة ب (خالصة) أو بفعل يفهم مما قبله. أي قد علمنا ما فرضنا عليهم. وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي يغفر ما يعسر التحرز عنه، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥١]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
تُرْجِي بهمز وغير همز. أي تترك وتؤخر مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك، فلا تتزوج بهن وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي تضم من تشاء منهن بالتزوج وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي اخترت تزوجها بعد إرجائها فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي في أن تضمها إليك. ومن رأى بعضهم أن الضمير في (منهن) يعود إلى الواهبات. قال الشعبيّ: كن نساء وهبن أنفسهن للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن. لم ينكحن بعده. منهن أم شريك. واستؤنس بحديث عائشة عن أحمد أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فلما أنزل الله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. ورواه البخاري «١» أيضا كما تقدم. وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: تطلّق وتخلّي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق. وعن قتادة أنها في القسم، وأن له أن يقسم لمن شاء، ويدعه لمن شاء. مع هذا فلم يكن صلّى الله عليه وسلّم يدع القسم. وقد احتج بالآية من ذهب إلى أن القسم لم يكن واجبا عليه صلّى الله عليه وسلّم. والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله. وأن ما روي مما ذكر، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده، أو من رأي ذهب إليه قائله. وقوله تعالى ذلِكَ أي ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك ورفع الحرج عنك فيه أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي تطيب أنفسهن، إن علمن أن ذلك من الله تعالى وَلا يَحْزَنَّ لمخالفة الإرجاء وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي لأنه
(١) أخرجه البخاري في: التفسير. ٣٣- سورة الأحزاب، ٧- باب قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، حديث رقم ٢٠٣٣، عن عائشة. [.....]
حكم، كلهن فيه سواء، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا. وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى. فتطمئن به نفوسهن وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي بذات الصدور حَلِيماً أي ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر.
وروى الإمام أحمد «١» وأهل السنن «٢» عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: «اللهم! هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». يعني القلب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٢]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهن لك في الآية قبل. وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيّه صلوات الله عليه حيث لم يقل له (وحرم عليك ما وراء ذلك) كما خاطب المؤمنين بنظيره، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات.
ولم أر أحدا نبه على ذلك، فاحرص عليه فيه وفي أمثاله.
قال مجاهد في الآية: أي لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي فلك التسرّي بهن وإن كن كتابيات أو مشركات، لأنه ليس لهن ما للحرائر وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي حيث أحل ما أحل وحظر ما حظر للنبيّ وللأمة، في بيان لا خفاء معه وحكمة لا حيف معها. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلّى الله عليه وسلّم. وأن التسع نصابه كالأربع لغيره، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيّرهن. كما تقدم في الآية، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، لكنه لم يفعله إتماما للمنّة عليهن. ومنهم
(١) أخرجه في المسند ٦/ ١٤٤.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣٨- باب في القسم بين النساء، حديث رقم ٢١٣٤.
وأخرجه الترمذي في: النكاح، ٢٤- باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، حديث رقم ١١٤٠.
وأخرجه النسائي في: عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض.
وأخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٤٧- باب القسمة بين النساء، حديث رقم ١٩٢١.
97
من قال إنها محكمة. وكل ذلك لا برهان معه، وتفكيك للمعنى، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب. وقد وهم في هذا المعنى زياد- رجل من الأنصار- فرده أبيّ رضي الله عنه، إلى صواب المعنى. وذلك فيما رواه عبد الله ابن أحمد وابن جرير أن زيادا قال لأبيّ بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم توفّين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال له: إنما أحل الله له ضربا من النساء. فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، - إلى قوله- إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ثم قيل له لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
وروى الترمذيّ «١» عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، بقوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.
فحرم كل ذات دين غير الإسلام.
والمطلع على ما كتبوه هنا، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها. فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه.
تنبيه:
قال في (لباب التأويل) : في قوله تعالى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل على جواز النظر من الرجل التي يريد نكاحها من النساء. ويدل عليه ما
روي عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل. أخرجه أبو داود «٢».
وروى «٣» مسلم عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
قال الحميديّ:
يعني هو الصّغر.
وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة. فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
هل نظرت إليها؟ قلت: لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. أخرجه الترمذيّ «٤»
وحسنه.
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ١٨- حدثنا عبد. حدثنا روح عن عبد الحميد.
(٢) أخرجه في: النكاح، ١٨- باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، حديث ٢٠٨٢.
(٣) أخرجه في: النكاح، حديث رقم ٧٤.
(٤) أخرجه في: النكاح ٥- باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، حديث رقم ١٠٨٧.
98
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن.
كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام. و (إلى) متعلق ب (يؤذن) بتضمين معنى الدعاء، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة، وإن تحقق الإذن. كما يشعر به قوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين وقته، وإدراكه.
قال ابن كثير: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفل. وهو الذي تسميه العرب الضيفن. وقد صنف الخطيب البغداديّ في ذلك كتابا في ذم الطفيليين. وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. انتهى.
وأقول: قد يكون معنى قوله غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ نهيا لهم أن يدخلوا- مع كونهم مأذونا لهم ومدعوين- قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظارا لنضج الطعام. فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلفا لكلام لا ضرورة له، وإطالة زمن الحجاب على نسائه. وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت. ولذلك قال تعالى وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أي إذا دعيتم إلى الدخول في وقته. فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده. ف (لكن) استدراك من النهي عن الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر. وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حينا ووقتا يجب أن يراعى زمنه، وهذا المنهيّ عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم
99
والسنة المطهرة. وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغمّ نفس الداعي وأهله. ويذهب لهم جانبا من عزيز وقتهم عبثا إلا في سماع حديثهم البارد. وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا. فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم. وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر. وحينئذ فكلمة (غير) حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه. وهو أن يكون وقت الدعوة، لا قبله. والتقدير (إلّا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه) ولذا قيل: إنها آية الثقلاء. إذا علمت هذا، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية، وهو لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ومن قوله وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا لا من قوله غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لأنه في معنى خاص. وهو ما ذكرناه والله أعلم.
فائدة:
(الإني) مصدر. يقال أنى الشيء يأنى أنيا بالفتح. و (أنى) مفتوحا مقصورا.
(وإنى) بالكسر مقصورا. أي حان وأدرك. قال عمرو بن حسان:
تمخّضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام
ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي تفرقوا ولا تمكثوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على (ناظرين) أو مقدر بفعل. أي لا تمكثوا مستأنسين إِنَّ ذلِكُمْ أي المنهيّ عنه في الآية كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ أي لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من الإشارة إليكم بالانتشار وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحييّ، فأمركم به. ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه. وقرئ لا يَسْتَحْيِي بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبيّ، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام مَتاعاً أي شيئا يتمتع به فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر ذلِكُمْ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي من الخواطر الشيطانية، في الميل إليهن وإليكم. يعني ويجب التطهر عنه، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولذا قال وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي أن تفعلوا فعلا يتأذى به في حياته وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي أمرا عظيما
100
وخطبا هائلا، لا يقادر قدره. لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب حرمته حيّا وميتا، ما لا يخفى. ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٤]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي مما لا خير فيه، كنكاحهن على ألسنتكم، على ما روي عن بعض الجفاة أَوْ تُخْفُوهُ أي في نفوسكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة. وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد.
قال ابن كثير: أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده. لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين. واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته. هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين. مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله (من بعده) أم لا؟
فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره، والحالة هذه نزاعا والله أعلم. انتهى.
تنبيه:
في (الإكليل) : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين. بعد أن كان النساء لا يحتجبن. وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن. وفيها تحريم أذى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسائر وجوه الأذى. انتهى.
وقال ابن كثير: هذه آية الحجاب. وفيها أحكام، وآداب شرعية. وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه، كما
روى البخاريّ «١» عنه أنه قال: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب.
وكان يقول لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين.
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٨- باب قوله لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم، حديث رقم ٢٦٧.
101
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى. وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة (في قول قتادة والواقديّ وغيرهما) وزعم أبو عبيدة، معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.
وروى البخاريّ «١» عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون. فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام. فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا فانطلقوا. فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل. فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية.
ورواه مسلم «٢» أيضا والنسائيّ.
وعن أنس أيضا قال: بني على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، بخبز ولحم.
فأرسلت على الطعام داعيا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو. فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحدا أدعوه. قال: ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله! بارك الله لك.
فتقرّى حجر نسائه كلهن. يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شديد الحياء. فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أو أخبر، أن القوم خرجوا. فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب. انفرد به البخاريّ.
وأخرج نحوه مسلم والترمذيّ. كما بسطه ابن كثير.
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٨- باب قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، حديث رقم ٢٠٣٥.
(٢) أخرجه في: النكاح، حديث ٨٧.
102
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به. فهو فرض عليهن بلا خلاف، في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها. ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في (الموطأ) أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها. وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصها.
انتهى.
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن. وقد كن بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحججن ويطفن. وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.
ومما يؤيده ما
رواه البخاريّ «١» في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها. وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عمر بن الخطاب. فقال: يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا.
فانظري كيف تخرجين.
قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن.
قال الكرمانيّ: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء- أي من البخاريّ- أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.
قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبويّ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب. ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٨- باب قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ حديث رقم ١٢٣.
103
للمشقة، ورفعا للحرج، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، مع أن الأمسّ به شرح الصحيح، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتحقيق المقام. زادنا الله من فضله علما، إنه هو العليم العلام.
ثم بين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٥]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ أي لا حرج ولا إثم عليهن، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمّين.
قال الطبريّ: وعني ب (إخوانهن وأبناء إخوانهن) إخوتهن. وأبناء إخوتهن.
وخرج معهم جمع ذلك، مخرج جمع فتى إذا جمع (فتيان) فكذلك جمع أخ إذا جمع (إخوان) وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع (فتية).
تنبيهات:
الأول- قيل: إنما لم يذكر العم والخال، لأنهما بمنزلة الوالدين. ولذلك سمي العم أبا في قوله تعالى وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: ١٣٣]، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات. فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة. لما أنهن عمات لأبناء الإخوة، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل: لأنه كره ترك الاحتجاب منهما، مخافة أن يصفاهنّ لأبنائهما.
وهو رأي عكرمة والشعبيّ. كما أخرجه الطبريّ من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبيّ أنه قال لهما: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.
قال الشهاب: لكنه قيل عليه، إن هذه العلة، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما
104
وهما يجوز لهما التزوج بها، جار في النساء كلهن، ممن لم يكن أمهات محارم.
فينبغي التعويل على الأول. انتهى.
والتحقيق في رده ما
رواه البخاري «١» في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس، بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل عليّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت له: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وما منعك أن تأذني؟ عمك. قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: ائذني له فإنه عمك، تربت يمينك.
قال عروة: فلذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب انتهى.
فبقوله صلّى الله عليه وسلّم «٢»
«ائذني له فإنه عمك»
مع
قوله في الحديث الآخر «٣»
«العم صنو الأب»
يرد على عكرمة والشعبيّ.
الثاني- قيل: أريد بقوله تعالى وَلا نِسائِهِنَّ المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل هو عامّ في المسلمات والكتابيات. وإنما قال وَلا نِسائِهِنَّ لأنهن من أجناسهن.
الثالث- استدل بعموم قوله تعالى وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.
الرابع- قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها، على تحريم نظرهما إليهن، فكانا لا يدخلان عليهن وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي أن تتعدين ما حدّ لكنّ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازيّ: أي واتقينه عند المماليك. قال، ففيه دليل على أن
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٩- باب قوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، حديث ١٢٨٣.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ٩- باب قوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، حديث رقم ١٢٨٣.
وأخرجه مسلم في: الرضاع، حديث ٣- ٦.
(٣) أخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم ١١.
105
التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككنّ الحجاب لمن أبيح لكن تركه، وغير ذلك من أموركن، فاحذرن أن تلقينه. وهو شاهد عليكن بمعصيته وخلاف أمره ونهيه فتهلكن. قال الرازيّ: هذا التذييل في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال: إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض. فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٦]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال الرازيّ: لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، كمّل بيان حرمته. وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين: حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: ٥٣]، وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى، أما في الملأ الأعلى فهو محترم. فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً انتهى.
وقد روى البخاريّ «١» عن أبي العالية قال: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة.
وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون يبرّكون. أي يدعون له بالبركة.
فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه. وبالجملة، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر. وقد أطنب الإمام ابن القيّم في (جلاء الأفهام) في مبحث معنى الصلاة، وأطال فأطاب. فلينظر.
وفي البخاريّ «٢» عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه قيل: يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه. فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم! صلي على
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ١٠- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، ١٠- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، حديث رقم ١٥٩١.
106
محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وروى الإمام أحمد «١» وأبو داود والنسائيّ وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه، عن أبي مسعود البدريّ أنهم قالوا: يا رسول الله! أما السلام فقد عرفناه.
فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد. وذكره. ورواه الشافعيّ في مسنده عن أبي هريرة بمثله.
ومن هاهنا ذهب الشافعيّ رحمه الله، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأخير. فإن تركه لم تصح صلاته. ووافقه الإمام أحمد في رواية. وقال به إسحاق بن راهويه والإمام ابن المواز المالكيّ وغيرهم. كما بسطه ابن القيم في (جلاء الأفهام) وابن كثير في (التفسير) وقد تقصّيا، عليهما الرحمة، أيضا الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها. فأوسعا. فليرجع إليهما.
تنبيهات:
الأول- تدل الآية على وجوب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مطلقا. لأن الأصل في الأمر للوجوب. فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة. ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس. وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة. ثم هي مستحبة في كل حال.
وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر. وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب. قال ابن كثير: وهذا قول غريب. فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة. فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه. فمنه بعد النداء للصلاة،
لحديث «٢»
(إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ)
الحديث ومنه عند دخول المسجد
لحديث «٣»
(كان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم). ثم قال: اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلّى على محمد وسلّم. ثم قال:
اللهمّ! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك
. ومنه الصلاة، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها، وتجب في الثاني. ومنه في صلاة الجنازة بعد
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١١٨.
(٢) أخرجه البخاري في: الأذان، ٧- باب ما يقول إذا سمع المنادي، حديث ٣٩٠، عن أبي سعيد الخدري.
(٣) أخرجه الترمذي في: الصلاة، ١١٧- باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد، حديث ٣١٤.
107
التكبيرة الثانية، لقول أبي أمامة: من السنة ذلك. وهذا من الصحابيّ في حكم المرفوع، على الصحيح. ومنه ختم الدعاء. فيستحب الصلاة فيه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن آكد ذلك دعاء القنوت. ومنه يوم الجمعة وليلتها. فيستحب الإكثار منها فيهما، ومنه في خطبة يوم الجمعة. يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها.
وهو مذهب الشافعيّ وأحمد. ومنه عند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم
لحديث (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) تفرد به أبو داود «١» وصححه النوويّ في (الأذكار).
وعن الحسن بن الحسن بن عليّ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تتخذوا قبري عيدا. ولا تتخذوا بيوتكم قبورا.
وصلوا عليّ حيثما كنتم. فإن صلاتكم تبلغني.
قال ابن كثير: فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة، فنهاهم.
وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر. فقال: يا هذا! ما أنت ورجل بالأندلس، منه إلا سواء. أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلما كتبه.
وقد روي في حديث (من صلى عليّ في كتاب لم تزل الصلاة جارية له، ما دام اسمى في ذلك الكتاب)
. قال الحافظ ابن كثير: وليس هذا الحديث بصحيح. بل عدّه الحافظ الذهبيّ موضوعا. وقد ذكر الخطيب البغداديّ أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، كثيرا اسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة. قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا.
الثاني- الصلاة على غير الأنبياء، إن كانت على سبيل التبعية، كنحو: اللهم صل على محمد وآله وأزواجه، فهذا جائز إجماعا. وأما استقلالا فجوّزه قوم لآية هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: ٤٣]، وآية أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ١٥٧]، وآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: ١٠٣]،
ولحديث «٢»
كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:
(١) أخرجه في: المناسك، ٩٦- باب في زيارة القبور، حديث ٢٠٤١.
(٢) أخرجه البخاري في: الزكاة، ٦٤- باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، حديث ٨٠٠، عن عبد الله بن أبي أوفى.
108
«اللهم! صل عليهم. فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم! صل على آل أبي أوفى».
وكرهه قوم، لكون صيغة الصلاة صارت شعارا للأنبياء إذا ذكروا. فلا يلحق بهم غيرهم. فلا يقال: قال عمر صلى الله عليه. كما لا يقال قال محمد عز وجل. وإن كان عزيزا جليلا. لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم.
وقال ابن حجر: إن ذلك وقع من الشارع. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه. ولم يثبت عنه إذن في ذلك. انتهى.
وقد يقال: كفى في المرويّ المأثور المتقدم إذنا.
والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب. على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر. ولا حظر هنا. فتدبر.
وأما السلام، فقال الجوينيّ: هو في معنى الصلاة. فلا يستعمل في الغائب.
ولا يفرد به غير الأنبياء. فلا يقال: عليّ عليه السلام. وساء في هذا الأحياء والأموات.
وأما الحاضر فيخاطب به. فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم. أو السلام عليك أو عليكم. وقد غلب- كما قال ابن كثير- على كثير من النساخ للكتب، أن يفرد عليّ رضي الله عنه بأن يقال (عليه السلام) من دون سائر الصحابة.
قال: والتسوية بينهم في ذلك أولى. انتهى.
والخطب سهل. ومن رأى المرويّ في هذا الباب، علم أن الأمر أوسع من أن يحرّج فيه. على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف، وفيه بحث في الأصول.
الثالث- قال النوويّ: إذا صلى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فليجمع بين الصلاة والتسليم.
فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول (صلى الله عليه) فقط. ولا (عليه السلام) فقط.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة. وهي قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً فالأولى أن يقال صلّى الله عليه وسلّم تسليما.
انتهى.
الرابع- قال الرازيّ: إذا صلّى الله وملائكته عليه، فأي حاجة إلى صلاتنا؟
نقول: الصلاة عليه ليس لحاجته إليها. وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه، ولا حاجة له إليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه منا، رحمة بنا، ليثيبنا عليه. ولهذا جاء في
الحديث (من صلى عليّ مرة، صلى الله عليه بها عشرا)
. انتهى.
109
وكان سبق لي، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه، ما مثله: ويسنّ يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته والمنة باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله. ما ذاق عارف سرّ شريعته. وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته.
الخامس- قال الرازيّ: ذكر (تسليما) للتأكيد ليكمل السلام عليه. ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد، لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ انتهى.
وقيل: إنه من الاحتباك. فحذف (عليه) من أحدهما. و (المصدر) من الآخر.
قال القاضي: قيل معنى وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي انقادوا لأوامره. فالسلام من التسليم والانقياد.
السادس- قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد. فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم. والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم، دفعا للإيهام. والعلم عند الله. انتهى.
وقال الشهاب: قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، نكتة سرية. وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه. فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم، فناسب التخصيص بهم والتأكيد. انتهى.
ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه، بيّن وعيد من لا يرعاها، بأن يجرأ على ضدها بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً أي ينالون فيه الهوان والخزي. والمقصود من الآية الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وذكر الله تعالى إنما
هو لتعظيمه، ببيان قربه، وكونه حبيبه، حتى كأنّ ما يؤذيه يؤذيه. كما أن من يطيعه يطيع الله. وقد روى الطبريّ عن ابن عباس أنها نزلت في الذين طعنوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حين اتخذ صفية بنت حييّ. وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية. بل لو قيل إنها عني بها من خاض في مسألة زينب، لكان أقرب، لتقارب الآيات في الباب الواحد، وتناسقها كسلسلة واحدة، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها. كما لا يخفى على من تدبرها. وبالجملة، فاللفظ عامّ في كل ما يصاب به صلّى الله عليه وسلّم من أنواع المكروه. فيدخل المقصود من التنزيل دخولا أوليّا. وعلى هذا، فالأذية على حقيقتها. وقيل المراد بأذية الله ورسوله، ارتكاب ما لا يرضيانه، مجازا مرسلا. لأنه سبب، أو لازم له. وإن كان بالنسبة إلى غيره، فإنه كان في العلاقة وذكر الله والرسول على ظاهره. ومن جوّز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو في حقيقته ومجازه، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين. فتكون بالنسبة إليه تعالى، ارتكاب ما يكره مجازا، وإلى الرسول على ظاهره. فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل. فيجيء فيه الجمع بين المعنيين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٨]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بقول أو فعل بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بيّنا.
قال الزمخشريّ: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا. وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.
تنبيه:
في (الإكليل) : في هذه الآية تحريم أذى المسلم، إلا بوجه شرعيّ. كالمعاقبة على ذنب. ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء. كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته. وقد نص الشافعيّ على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعا (أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم) ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج عن قتادة في هذه الآية: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له. وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعه ذلك. حتى ذهب إلى أبيّ بن كعب. فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. والله! إنى لأعاقبهم وأضربهم. فقال له: إنك لست منهم. إنما أنت مؤدّب، إنما أنت معلّم.
انتهى.
قال الزمخشريّ: وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف؟
وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول. فرحمه الله ورضي عنه.
ولما بيّن تعالى سوء حال المؤذين، زجرا لهم عن الإيذاء، أمر النبيّ عليه الصلاة والسلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم، بما يدفع إيذاءهم في الجملة من الستر والتميز، عن مواقع الإيذاء، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع (جلباب) كسرداب، وهو الرداء فوق الخمار، تتغطى به المرأة. وهو معنى قول بعضهم: جلبابها ملاءتها تشتمل بها. وقيل هو الخمار. قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه:
تمشي النسور إليه وهي لاهية مشي العذارى، عليهن الجلابيب
وقال آخر يصف الشيب:
حتّى اكتسى الراس قناعا أشهبا أكره جلباب لمن تجلببا
وقال الزمخشريّ: الجلباب ثوب واسع، أوسع من الخمار، ودون الرداء. تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضي الله
112
عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. ثم قال: ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال إذا زلّ عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة. وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان. وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة. يقولون حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. ثم قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما معنى (من) في (من جلابيبهن) قلت:
هو للتبعيض. إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين: أحدهما- أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب. والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها. والثاني- أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، لتتقنع حتى تتميز من الأمة. انتهى.
ومن الآثار في الآية، ما رواه الطبريّ عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذ خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، وبيدين عينا واحدة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان، من السكينة. وعليهن أكسية سود يلبسنها. وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهريّ:
هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب. لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: روي عن سفيان الثوريّ أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة. وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهنّ. واستدل بقوله تعالى: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ. انتهى.
الثاني- قال السبكيّ في (طبقاته) : استنبط أحمد بن عيسى، من فقهاء الشافعية، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات، من تغيير لباسهم وعمائمهم، أمر حسن. وإن لم يفعله السلف. لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم.
انتهى.
113
الثالث- قال الشهاب: قوله تعالى يُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول.
وهو خبر بمعنى الأمر، أو جواب الأمر، على حدّ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: ٣١]، انتهى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي لما سلف منهنّ من التفريط رَحِيماً أي بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف إيمان، عن مراودة النساء بالفجور وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أي بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها. كمجيء عدوّ وانهزام سريّة. وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين. وأصله التحريك. من (الرجفة) وهي الزلزلة. يسمى به الخبر المفترى، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت. أو لاضطراب قلوب المؤمنين به لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي في المدينة من قوة بأسك عليهم إِلَّا قَلِيلًا أي زمنا قليلا ريثما يستعدون للرحلة مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أي مبغضين لله وللخلق. لا يستريحون بالخروج. للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا. أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم. ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٢]
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي في المفترين والمؤذين الذين مضوا، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم.
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لأنه لا يبدلها، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.
تنبيهات:
الأول- قال الشهاب: إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين، قوم مخصوصون، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات، على حدّ (إلى الملك
114
القرم وابن الهمام) أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات. فعلى الأول، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين. وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض، كما مرّ في البقرة. والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم. لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل. فإنه لم يقع للمنافقين. وعلى الثاني، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين. كأهل الفجور. والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة. وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم. وهم اليهود.
انتهى.
الثاني- ذكروا أن معنى قوله تعالى: أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أنهم إذا خرجوا لا ينفكّون عن المذلّة، ولا يجدون ملجأ. بل أينما يكونون، يطلبون ويؤخذون ويقتلون. وعليه، فالجملة خبريّة. وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائيّة كقوله عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: ٩٨] و [الفتح: ٦]، وقوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: ١]، كأنه قيل: أخذهم الله. أي أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشدّه. ولم أر أحدا تعرّض له. وقد أفاد ابن عطية، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء. لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، أي لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير.
الثالث- في (الإكليل) : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ في قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم قوم كانوا يجلسون على الطريق، يكابرون المرأة مكابرة. فنزلت فيهم الآية إلى قوله: أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا قال: هذا حكم في القرآن، ليس يعمل به، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم. انتهى.
وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية. كما قدمنا. على أن للحاكم أن يفعل ذلك، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة. على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب. كما بسط ذلك النجم الطوفيّ في (رسالته) وأيدناه بما علقناه عليها.
الرابع- كتب الناصر في (الانتصاف) على قول الكشاف في قوله: إِلَّا قَلِيلًا أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم، ما مثاله: فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعيّ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر، على حسب الاجتهاد. انتهى.
115
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٣]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣)
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي يسألونك عن وقت قيامها. وكان المشركون في مكة يسألونه صلّى الله عليه وسلّم، عنها استعجالا على سبيل الهزء. وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم. لأن هذه السورة مدنية، وقد أرشده تعالى أن يردّ علمها إليه لاستئثاره تعالى به. فلم يطلع عليه نبيا ولا ملكا، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين وإسكاتا للممتحنين.
لطيفة:
تذكير (قريبا) باعتبار موصوفه، الخبر، أي شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت. أو أن (قريبا) ظرف منصوب على الظرفية، فإن (قريبا) و (بعيدا) يكونان ظرفين. فليس صفة مشتقة، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث.
قال أبو السعود: والإظهار في حيز الإضمار، للتهويل وزيادة التقرير. وتأكيد استقلال الجملة. يعني أن قوله: وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له عليه السلام، غير داخل تحت الأمر، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق، مرجوة المجيء عن قريب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أي أبعدهم من رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً أي نارا شديدة الاتّقاد في الآخرة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا أي حافظا يتولاهم وَلا نَصِيراً أي يخلصهم يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي تصرف من جهة إلى جهة، تشبيه بقطعة لحم في قدر تغلي. ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو المعنى:
من حال إلى حال. فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره.
قال الزمخشريّ: وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة. وناصب الظرف (يقولون) أو
(اذكر) أو (لا يجدون) أو (خالدين) أو (نصيرا) يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي فكنا ننجو من هذا العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩)
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي بما زينوه لنا. قال الزمخشريّ:
وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي العذاب الذي آتيتناه، لأنهم ضلوا وأضلوا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه. وقرئ (كثيرا) تكثيرا لأعداد اللعائن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلّم، من استحقاقه اللعنة في الدارين، تعريضا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب، التي سيقت السورة لأجلها، ختمها أيضا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام، بتنقصه تارة، وقلة الأدب معه طورا، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة. كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم. مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته. فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ورماهم بأفانين العقوبات، ولحقتهم المخازي، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم، ونزه مقامه عن تنقيصهم، بأن حقق فضله، وأسمى منزلته، وآتاه الوجاهة- وهي العظمة والقرب- عنده. وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولحقهم الدمار، وشرح لنبيه صدره، ورفع له ذكره، وأعلى منزلته، وفخم وجاهته، ما تعاقبت الأدوار. ويقرب من هذه الآية، في المعنى والإشارة، قوله تعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الصف: ٥]، وفيهما كلتيهما تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما. وكثيرا ما كان
117
يقول صلّى الله عليه وسلّم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره: رحمة الله على موسى. لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
وقد روى المفسرون هاهنا آثارا. أحسنها ما
أخرجه البزار عن أنس مرفوعا: كان موسى رجلا حييّا. وأنه أتى الماء ليغتسل. فوضع ثيابه على صخرة. وكان لا يكاد تبدو عورته. فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة. يعنون أنه لا يضع ثيابه.
فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل. فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال. أو كما قال. فذلك قوله فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ورواه «١» البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة أيضا.
قال الرازيّ وحديث إيذاء موسى مختلف فيه- أي لكثرة الروايات فيه- مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة:
٢٤]، وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥]، وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: ٦١]، إلى غير ذلك. فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم. انتهى.
وقال ابن كثير: يحتمل أن يكون كل ما روي مرادا. وأن يكون معه غيره.
انتهى. أي لعموم المعمول المحذوف. وما بيناه أولا، هو الأقرب. والله أعلم.
تنبيهات:
الأول- (الوجيه) لغة بمعنى السيد، كالوجه. يقال: هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه. أي أشرافه. وبمعنى ذي الجاه- والجاه القدر والمنزلة. مقلوب عن (وجه) فلما أخرت (الواو) إلى موضع (العين) وصارت جوها، قلبت (الواو) ألفا.
فصارت (جاها). كذا في القاموس وشرحه.
الثاني- قال الزمخشريّ: (وجيها) أي ذا جاه ومنزلة عنده. فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة. كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقال ابن جرير: أي كان موسى عند الله مشفّعا فيما يسأل، ذا وجه ومنزلة عنده، بطاعته إياه. أي مقبولا ومجابا فيما يطلب لقومه من الله تعالى، عناية منه تعالى وتفضيلا.
الثالث- اتخذ العامة، وكثير من المتعالمين، وصف الوجاهة للأنبياء، ذريعة
(١) أخرجه البخاري في: الغسل، ٣٠- باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، حديث رقم ٢٠١.
118
المطلب والرغبة منهم، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل، ولا يصدق على المعنى اللغويّ بوجه ما، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فتيا، أبان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة. وذلك أنه سئل، رحمه الله، عمن يتوسل بالأنبياء، والأولياء، معتقدا أن النبيّ أو الوليّ يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحكام. وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام.
فقال امرؤ: إن هذا مخلّ بالعقيدة وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال. وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلّا الله تعالى. وإنه لا يدعى معه أحد سواه. كما قال تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: ١٨]، وإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر، وأعظم الناس جاها ومحبة، وأقربهم إليه، ليس له من الأمر شيء، ولا يملك للناس ضرّا ولا نفعا ولا رشدا ولا غيره. كما في نص القرآن. وإنما هو مبلّغ عن الله تعالى. ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلّم، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته. وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه. ولا معنى للتوسل بنبيّ أو وليّ إلا باتباعه والاقتداء به. يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم، كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ٣١]، وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣]، إلى غير ذلك من الآيات. هذا هو اعتقادي وهو الذي قلته للناس.
فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه. وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة، لأدافع بذلك من أساء بي الظن.
فأجاب رحمه الله، بعد البسملة والحوقلة: اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح.
ولا يشوبه شوب من الخطأ. وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يعتقده. فإن الأساس الذي بنيت عليه رسالة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم هو هذا المعنى من التوحيد. كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:
١- ٢]، والصَّمَدُ هو الذي يقصد في الحاجات، ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم. والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر. كما هو معروف عند أهل اللغة. فلا صمد إلا هو.
وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: ١٨٦]، وقد قال الشيخ محي
119
الدين بن العربيّ، شيخ الصوفية، في صفحة ٢٢٦ من الجزء الرابع من (فتوحاته) عند الكلام على هذه الآية: إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة.
فلا يتوسل إليه بغيره. فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه. وقد أخبرنا الله أنه قريب. وخبره صدق. انتهى ملخصا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات، ويسلكون طرقا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأيّ حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه (بدعة) في الدين وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به.
كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيما لقدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو الأنبياء أو الأولياء. مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظنّ هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم، واختراع شؤون لهم مع الله، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح. هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن. لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت، وليس يخطر بالبال أن جبارا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟ إن لفظ (الجاه) الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل، مفهومه العرفيّ هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه، ويقال فلان خلص فلانا من عقوبة الذنب بجاهه، لدى الأمير أو الوزير مثلا. فزعم زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى، إشراك جليّ لا خفيّ. وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغويّ، وهو المنزلة والقدر. على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها. لأنها ليست شيئا ينفع. وإنما يكون لذلك معنى، لو أوّلت بصفة من صفات الله، كالاجتباء والاصطفاء، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه. وإن كان (الآلوسيّ) بنى تجويز التوسل بجاه النبيّ خاصة على
120
ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلّا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهّال. وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة. وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما
رواه الترمذيّ «١» بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلا ضرير البصر أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك.
قال: فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه فيّ.
قال الترمذيّ: وهو حديث حسن صحيح غريب، ونقول أولا: قد وصف الحديث بالغريب، وهو ما رواه واحد. ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك. ولا وجه لابتعادهم عن العمل به، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي. كما قال عمر «٢» رضي الله عنه، في حديث الاستسقاء: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا، قال ذلك، رضي الله عنه، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يقول (كنا نستسقي بنبيك) وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه، بل ويكون من الأعلى للأدنى، كما ورد في الحديث. وليس فيه ما يخشى منه، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى، والشريك في الدعاء شريك في العبودية، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: ١٨٠]، ثم المسألة داخلة في باب العقائد، لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز) ؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين، وقد نعاها عليهم في قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ
(١) أخرجه في: الدعوات، ١١٨- باب حدثنا محمود بن غيلان.
(٢) أخرجه البخاري في: الاستسقاء، ٣- باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا، حديث ٥٧٢.
121
شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨]، سورة يونس، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلا استعانة إلا به، وقد صرح الكتاب بأن أحدا لا يملك للناس من الله نفعا ولا ضرّا، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا. ثم البرهان العقليّ يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إرادتهم، بما يتخذه أهل الجاه عندهم، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك. ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة. ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده. فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن.
وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: ٢٨]، انتهى كلامه رحمه الله.
ثم راجعت (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام العلم تقيّ الدين ابن تيمية رضي الله عنه. فرأيته ذكر نحوا من ذلك، وعبارته: فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها، تعمّ الوسيلة في عبادته وفي مسألته. فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته.
ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره:
وقول عمر رضي الله عنه (إنا كنا، إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا) معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته. ليس المراد به، إنا نقسم عليك به. أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه. كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك. ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض) فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه، لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس. مع علمهم أن السؤال به والإقسام به، أعظم من العباس.
فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات. وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فإن الحيّ يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى. فإنه طلب من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره. فعلّمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعاء أمره فيه، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيّه فيه.
فهذا يدل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن
قوله (أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة)
أي بدعائه وشفاعته. كما قال
122
عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ (التوجه) و (التوسل) في الحديثين بمعنى واحد. ثم
قال (يا محمد! يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم! فشفعه فيّ)
فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيّه.
وقوله (يا محمد! يا نبيّ الله!)
هذا وأمثاله نداء، يطلب به استحضار المنادى في القلب. فيخاطب المشهود بالقلب. كما يقول المصلّي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته.
والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا. يخاطب من يتصوّره في نفسه. وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به، فيه إجمال واشتراك. غلط تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة، يراد به التشبث به (في الأصل التسبب به) لكونه داعيا وشافعا مثلا. أو لكون الداعي محبّبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته. فلا يكون التوسل، لا شيء منه ولا شيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي في كل ما تأتون وما تذرون. لا سيما في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا أي في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً أي قويما حقا صوابا. قال القاشانيّ: (السداد) في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال. لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات. وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى.
لكنه أفرد بالذكر للفضيلة. كأنه جنس برأسه. كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧١]
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم. لأنه
لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلا. وبه يصلح كل عمل وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. فإن الحسنات يذهبن السيئات وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي في الدارين.
وقال القاشانيّ: أي فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية، وهو الفوز العظيم.
تنبيه:
قال الزمخشريّ: المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والبعث على أن يسدّ قولهم في كل باب. لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. وهذا الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام. وإتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى.
ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره، مرادا آخر. وهو نهيهم أيضا عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما. إلا أن الذي يراعى أولا، هو ما كان التنزيل لأجله، وذلك ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٢]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا قال أبو السعود: لما بيّن عظم شأن طاعة الله ورسوله، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل- مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عنها ب (الأمانة) تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها. وأوجب عليهم تلقّيها بحسن الطاعة والانقياد.
وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها. وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السموات وغيرها، بالعرض عليهنّ، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها- وعن عدم استعدادهنّ لقبولها، بالإباء والإشفاق منها، لتهويل أمرها وتربية فخامتها- وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية، التي أشدها وأعظمها ما فيهنّ من القوة والشدة. والمعنى: أن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام، التي هي مثل في القوة والشدة، مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين قبولها وأشفقن منها.
ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق، روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه. وقوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي عند عرضها عليه. إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق- أي تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة- وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطريّ، أو عن اعترافه بقوله (بلى). وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل وغايته، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله- أي أنه كان مفرطا في الظلم، مبالغا في الجهل. أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة. أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا. وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٣]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة. على أن اللام للعاقبة. فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل، لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض- أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية. وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده. أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة. وتلافيهم لما
125
فرط منهم من فرطات. قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة. والالتفات إلى الاسم الجليل أولا، لتهويل الخطب وتربية المهابة. والإظهار في موضع الإضمار ثانيا، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة. حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام، وإجادته في المقام. وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.
بقي في الآية لطائف نشير إليها:
الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين. وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.
وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعية والاختيارية، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وبعرضها، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره- وبحملها، الخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد. فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبين الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها. حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال:
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١]، وخانها الإنسان حيث لم يأت- وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا. وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله. كما يقال (ركبته الديون) وقرره الزمخشريّ بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها. لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حاملها. ألا تراهم يقولون (ركبته الديون) و (لي عليه حق) فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ومنه قولهم (أبغض حق أخيك) لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه. وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان) فأبين إلا أن يؤدينها. وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه
126
ما يسعده مع تمكنه منه، وهو أداؤها. انتهى ملخصا.
الثانية- نقل ابن كثير آثارا عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا. وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة. ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بعد، أن يخلق الله فيها فهما لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها. ولذا عبر بالعرض، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها. انتهى.
قال الإمام ابن حزم في (الفصل) في الردّ على من جعل للجمادات تمييزا، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك. وهذا نص قوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف: ٥١]، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: ١٥].
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها. وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها. فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.
قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) وسبقه الزمخشريّ حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم (لو قيل للشحم أين تذهب، لقال أسوّي العوج) وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال. ولكن الغرض أن السّمن في الحيوان مما يحسّن قبيحه. كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.
الثالثة- قال الرازيّ: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على
127
الخيانة كاللازم، والأجر على الحفظ إحسان، والعدل قبل الإحسان.
الرابعة- ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث. منها
عن أبي هريرة مرفوعا: أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. رواه أبو داود «١» والترمذي «٢».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أربع، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:
حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة. رواه الإمام أحمد «٣»
والطبرانيّ وعن أبي هريرة «٤» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمن سأل عن الساعة: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال: إذا وسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة.
الخامسة- قال ابن كثير: روى عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) أن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة: من حلف بالأمانة فليس منا، تفرد به أبو داود «٥».
أي لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته. وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام.
كما تقرر في موضعه. والله أعلم.
السادسة- سبق لي أن كتبت في الآية شيئا. في منتصف ربيع الأول سنة ١٣٢٤، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية. ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.
أردت إثباته هنا تعزيزا للمقام، ونصه: في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع (ردّ العجز على الصدر) ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق. أبان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا وذلك في قوله تعالى:
(١) رواه في: كتاب البيوع، ٧٩- باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث ٣٥٣٥.
(٢) أخرجه في: البيوع، ٣٨- باب حدثنا أبو كريب، حديث ١٢٦٤.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٧، والحديث رقم ٦٦٥٢.
(٤) أخرجه البخاري في: العلم، ٢- باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه، حديث ٥٢.
(٥) أخرجه في: الأيمان، ٥- باب كراهية الحلف بالأمانة، حديث ٣٢٥٣. [.....]
128
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: ١٥- ١٦]، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم. وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشدّ أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدوّ عليه ويثبط من يجرى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به وما أفظع ما ارتكب وما أعظم جريمته! وجليّ أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها. ففي أي مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار. فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، هي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة. وكان من أثرها السيّئ في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والإنسان هنا، المعنيّ به جنس المنافق الذي قصّ من نبئه ما قصّ. والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمرا ربّانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل. والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها لهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كلّ من خطر تحملها. وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن. مع أنهن أقوى أجساما وأعظم ثباتا وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها. وإن الإنسان، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها. واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل. وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال. فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: ٨٨- ٩١]، وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة. فإن أسلوبه في
129
إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوب انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أولا، وفي تعيين زمانه وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الإنسان ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك- كله فلسفة لفظية، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلوّ بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه- ولن يجدوا إليه سبيلا ما دام هذا سبيلهم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
130

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبأ
سميت بها لتضمن قصتها آية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلوّ عن الآفة، وتبدّلها بالنقم، لمن كفر بالمنعم.. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
قاله المهايميّ. وهي مكية. واستثني منها وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ: ٦] الآية.
وروى الترمذيّ «١» عن فروة بن مسيك المراديّ قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث.
وفيه: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله! وما سبأ؟ الحديث.
قال ابن الحصار: هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.
قال: ويحتمل أن يكون قوله (وأنزل) حكاية عما تقدّم نزوله قبل هجرته.
أفاده في (الإتقان) وآيها أربع وخمسون.
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٤- سورة سبأ، ١- حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد.
131
Icon