ﰡ
وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أبي سَرْحٍ، فَطَلَبُواْ النَّبيَّ ﷺ وَقَدْ كَانُواْ طَلَبُواْ مِنْهُ الأَمَانَ عَلَى أنْ يُكَلِّمُوهُ، فَقَالُواْ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا اللاَّتَ والْعُزَّى وَمَنَاتَ، وَقُلْ : إنَّ لَهَا شَفَاعَةً فِي الآخِرَةِ وَمَنْفَعَةً لِمَنْ عَبَدَهَا، وَنَدَعُكَ أنْتَ وَرَبُّكَ! فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه : ائْذنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ فِي قًتْلِهِمْ، فَقَالَ ﷺ :" إنِّي قَدْ أعْطَيْتُهُمُ الأَمَانَ ". فَأَمَرَ النَّبيُّ عُمَرَ أنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الْمَدِيْنَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه : أُخْرُجُواْ فِي لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبهِ "، وَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناهَا : يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ اللهَ في نقضِ العهد الذي بينَكَ وبين أهلِ مكَّة لا تَنْقِضْهُ قبلَ أجَلِهِ ﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ فيما دعَوكَ إليه، ولا تَمِلْ إليهم، ولا تَرْفِقْ بهم ظَنّاً منكَ أن ذلك أقربُ إلى استِمَالَتِهم إلى الإيْمانِ، فإن ذلك يؤدِّي إلى أن يُظَنَّ بك مقارنة القومِ على كُفرِهم، فمعنى قولهِ ﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ يعني أبَا سُفيان وأبا الأعور وعِكرمةَ، والمنافقين عبداللهِ بنِ أُبَي وجَدِّ بنِ قَيْسٍ وغيرِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ ؛ أي عَلِيماً بأحوَالِهم، حَكِيماً فيما أوجبه عليك في أمرِهم وفيما يخلقهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْر وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَفِيْهِمْ أبُو مُعَمَّرٍ، تَلَقَّاهُ أبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَعْدُو وَإحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ وَالأُخْرَى فِي رجْلِهِ، فَقَالَ لَهُ : يَا أبَا مُعَمَّرٍ مَا فَعَلَ النَّاسُ ؟ قَالَ : انْهَزَمُواْ. فَقَالَ لَهُ : مَا بَالُ إحْدَى نَعْلَيْكَ فِي يَدِكَ وَالأُخْرَى فِي رجْلِكَ؟! فَقَالَ : مَا شَعَرْتُ إلاَّ أنَّهُمَا فِي رجْلِيَّ. فَعَرَفُواْ يَوْمَئِذٍ أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ مَا نَسِيَ نَعْلَهُ فِي يَدِهِ).
وقال الزهريُّ : ومقاتلُ :(هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُظَاهِرِ امْرَأتَهُ وَالْمُتَبَنِّي وَلَدَ غَيْرِهِ، يَقُولُ : فَكَمَا لاَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ، لاَ تَكُونُ امْرَأةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ لَهُ أُمَّانِ، وَلاَ يَكُونُ وَلَدٌ ابْنَ رَجُلَيْنِ).
قًَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ ؛ أي ما جَعَلَ نساءَكم اللاَّئي تقولونَ لَهُن : أنتُنَّ علينا كظُهور أُمَّهاتِنا، لَم نجعلَهن كأُمَّهاتِكم في الْحُرْمَةِ. وكانت العربُ تُطَلِّقُ نساءَها في الجاهلية بهذا اللفظِ، فلما جاءَ الإسلامُ نُهُوا عنه، وأُوجِبَتِ الكفارةُ في سورةِ الْمُجادلَةِ.
قًَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ ؛ أي ما جعلَ مَن تدَّعُونَهُ ابناً من أبناءِ غيرِكم كأبنائكم الذين مِن أصْلاَبكم في الانتساب والْحُرمَةِ والْحُكْمِ، وكان رسولُ اللهِ ﷺ قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ بَعْدَ أنْ أعْتَقَهُ، فَكَانَ يُقَالُ : زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ أُمِرَ أنْ تُلْحَقَ الأدْعِيَاءُ بآبَائِهم، وَكَانَ يَوْمَ تَبَنَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَبْلَ الْوَحْيِ.
قرأ نافعُ وأبو عمرٍو (وَتَظَّهَّرُونَ) بفتح التاءِ وتشديد الظَّاء والهاءِ من غير ألِف، وقرأ الشَّاميُّ كذلك إلاّ أنَّه بألف، وقرأ حمزةُ والكسائي مثلَ قراءةِ شامي إلاّ أنه بالتخفيفِ، وقرأ عاصمُ والحسن بضمِّ التاء وتخفيف الظَّاء وبألف وكسرِ الهاء، قال أبو عمرٍو :(وَهَذا مُنْكَرٌ ؛ لأَنَّ التَّظَاهُرَ مِنَ التَّعَاوُنِ).
قًَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَالِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ ؛ أي الذي تقولونَهُ من إضافةِ القَلبَينِ إلى الرجُل الواحدِ، وقولِ الرجُل لامرأتهِ : أنتِ علَيَّ كظهرِ أُمِّي، وقولِ الرجُل لغيرِ ابنه : هذا ابْنِي، قَولهُ : تقولونَ بأفواهِكم من غيرِ أن يكون له حقيقةٌ ولا عليه دلالةٌ ولا حُجَّةٌ، ﴿ وَاللَّهُ ﴾ ؛ تعالَى :﴿ يَقُولُ الْحَقَّ ﴾ ؛ أي يُبَيِّنُ أنَّ الذين يقولونه قولٌ باطل، ﴿ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ ؛ أي يَدُلُّ على طريقِ وإلى الدِّين المستقيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ ؛ فهم إخوانُكم في الدِّين ؛ أي مَن أسْلَمَ منهم، ﴿ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ ؛ أي وبنُو أعمَامِكم، فقولوا : يا أخِي ويا ابنَ عَمِّي في الآيةِ إباحةُ إطلاق اسم الأُخُوَّةِ وحظْرُ اطلاقِ اسم الأبوَّةِ، وفي ذلك دليلٌ على أن مَن قال لعبدهِ : هذا أخِي ؛ لَم يُعْتَقْ لأنه يحتملُ الأخُوَّة في الدِّين، وإن قال : هذا ابنِي ؛ عُتِقَ لأن ذلك ممنوعٌ في غير النَّسب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي ليس عليكم إثْمٌ في نِسْبَةِ الرجُل إلى غير أبيه على وجهِ الخطأ. قال قتادةُ :(وَلَوْ دَعَوْتَ رَجُلاً لِغَيْرِ أبيْهِ وَأنْتَ تَحْسَبُ أنَّهُ أبُوهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ بَأْسٌ)، ﴿ وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ ؛ أي ولكنِ الإثمُ عليكم فيما تعمَّدونَهُ من ادعائهم إلى غيرِ آبائهم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ﴾ ؛ أي لِمَن تعمَّدَ ثم تابَ، ﴿ رَّحِيماً ﴾ ؛ به بعدَ التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ موضع قوله (مَا) خُفِضَ عطفاً على قولهِ ﴿ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ ﴾ تقديرهُ : ولكن فيما تعمَّدت قلوبُكم.
وقال ابنُ عبَّاس :(إذا دَعَاهُمُ النَّبيُّ ﷺ إلَى شَيْءٍ، وَدَعَتْهُمْ أنْفُسُهُمْ إلَى شَيْءٍ، كَانَتْ طَاعَةُ النَّبيِّ ﷺ أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ أنْفُسِهِمْ). وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ طَاعَتُهُ النَّبيَّ ﷺ أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ).
وقال الحكماء : النبيُّ أولَى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم لأنفُسِهم، تدعُوهم إلى ما فيه هلاكُهم، والنبيُّ ﷺ يدعوهم إلى ما فيهِ نَجاتُهم. وقال أبُو بكرٍ الورَّاق :(لأَنَّ النَّبيَّ ﷺ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَقْلِ، وَأنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهَوَى). وقال بَسَّامُ بنُ عبدِالله :(لأَنَّ أنْفُسَهُمْ تُحْرَسُ مِنْ نَار الدُّنْيَا، وَالنَّبيَّ ﷺ يَحْرِسُهُمْ مِنْ نَار الآخِرَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ ؛ أي كأُمَّهَاتِهم في تَعْظِيْمِ حَقَّهِنَّ وفي تحريم نكَاحِهن، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتزوَّجَ بهنَّ، كما لا يجوزُ التزويجُ بالأُمِّ. ولَم يُرِدْ إثباتَ الأُميَّة من جميعِ الوُجُوهِ، ألاَ ترَى أنه لا تحلُّ رؤيَتُهن ولا يَرَيْنَ المؤمنين بخلافِ الأُمَّهات، وكذلك لا يخلُو بهنَّ، ولا يسافرُ بهم، ولا يرثُهن ولا يرِثونَهُ، ولو كنُ كالأُمَّهات من جميعِ الوجوه لكان النبيُّ ﷺ لا يزوِّجُ بناتَهُ من أحدٍ مِن الناسِ ؛ لأن البناتَ يكُنَّ أخَواتِ المؤمنينَ.
ومِن هذا المعنى ما رُوي : أنَّ امْرَأةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : يَا أُمِّ، قَالَتْ :(لَسْتُ لَكِ بأُمٍّ، إنَّمَا أنَا أُمُّ رجَالِكُمْ) فبَانَ بهذا أنَّ معنى الأُمومَةِ تحريمَ نكاحِهن فقط. ولِهذا لا يجوزُ أن يقالَ لبنَاتِهن أنَّهن أخواتُ المؤمنينَ.
وفائدةُ تحريمِ نكاح أزواجِ النبيِّ ﷺ على المؤمنين في حياتهِ وبعد وفاتهِ تعظيمُ أمرهِ وتفخيمُ شأْنِه، ولذلكَ حَرُمَ على الابنِ نكاحُ امراةِ أبيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي وذوُ القرابةِ بعضُهم أحقُّ بميراث بعضٍ في حُكمِ اللهِ، ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ ؛ إذا لَم يكونوا قرابةً، وذلك أنَّهم كانوا يتوَارَثُونَ في ابتداءِ الإسلامِ بالهجرةِ والْمُوَآخَاةِ.
قال الكلبيُّ :(آخَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُوَآخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَإذا مَاتَ أحَدُهُمْ وَرثَهُ الثَّانِي دُونَ عُصْبَتِهِ وَأهْلِهِ، فَمَكَثُواْ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ ﴿ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الََّذِيْنَ آخَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمْ وَالْمُهَاجِرِيْنَ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُوَارَثَةَ بالْمُوَآخاةِ وَالْهِجْرَةِ، وَصَارَتْ لِلأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنَ الْقَرَابَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ ؛ ﴿ مَّعْرُوفاً ﴾ استثناءٌ ليس مِن الأول، ومعناهُ : لكن فِعْلُكم إلى أوليائِكم جائزٌ، يريدُ أن يُوصِي الرجلُ لِمَنْ يتوَلاَّهُ ممن لا يرثهُ بما أحبَّ من ثُلْثِ مالهِ، فيكونُ الموصَى له أولَى بقدر الوصيَّة من القريب الوارث، وقال ابنُ زيدٍ :(مَعْنَاهُ إلاَّ أنْ تُوصُواْ لأَوْلِيَاءِكم مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾ ؛ أي كانَ الميزانُ للأقرباءِ، والوصيةُ للأصدقاءِ، ونُسِخَ الميراثُ بالهجرةِ ورَدَّهُ إلى ذوي الأرحامِ مَكتوباً في اللَّوح المحفوظِ.
والفائدةُ في تخصيصِ هؤلاء الأنبياءِ الخمسة بالذِّكر ؛ لأنَّهم أهلُ الشرائعِ والكتب، وأُوْلُو العَزْمِ من الرُّسُلِ، ولَهم الأُمَمُ والتَّبَعُ. وقَدَّمَ ذِكْرَ النبيِّ ﷺ لأن الخطابَ معه. وجاء في التفسيرِ : أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ :" إنِّي خُلِقْتُ قَبْلَ الأَنْبيَاءِ وَبُعِثْتُ بَعْدَهُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ ؛ أي عَهْداً وَثِيقاً بأن يَعبدونِي ولا يُشرِكون بي شيئاً. وَقِيْلَ : وأخَذْنَا منهم عَهْداً شديداً على الوفَاءِ بما حُمِّلُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾ ؛ أي لكَي يسألَ الْمُبَلِّغِيْنَ عن تبلِيغِهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ﴾[القصص : ٦٥].
وفائدةُ سؤالِ الرُّسُلِ وهم صادِقُون ؛ لتكذيب الذينَ كفَرُوا بهم فيكون هذا السؤالُ احْتِجَاجاً على الكاذِبين، وإذا سُئِلَ الصَّادِقُونَ، فكيفَ يُظَنُّ بالكاذِبين؟! وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ أي أعَدَّ للَّذين كفَرُوا بالرُّسُلِ عذاباً شَديداً.
كما رُوي :" أنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ ﷺ :" قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، يَكْفِيْكُهُمُ اللهُ تَعَالَى " فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْكُفَّار ريْحاً بَاردَةً مُنْكَرَةً شَغَلَتْهُمْ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلحَرْب، وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْمَكَانِ، وَقَلَعَتْ خِيَامَهُمْ وَأكْفَأَتْ أوَانِيَهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهَا فِي سَلاَمَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلاَّ مَسَافَةُ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ ذلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ عليه السلام كَمَا قَالَ ﷺ :" نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ ﴾ ؛ يعني الذين تَحَزَّبُوا على رسول الله ﷺ يومَ الخندق، وهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وأبُو سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وبَنُو قُرَيْظَةَ، ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ﴾، وهي الصَّبَا، أُرسِلَتْ عليهم حتى أكفَأَتْْ قدورَهم ونزعت فَسَاطِيْطَهُمْ، وقوله :﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾، يعني الملائكةَ ؛ ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾.
" ورُوي : أنَّ شَابّاً مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : يَا أبَا عَبْدِاللهِ هَلْ رَأيْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ؟ قَالَ :(إيْ وَاللهِ لَقَدْ رَأيْتُهُ) قَالَ : وَاللهِ لَوْ رَأيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رقَابنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ حُذيْفَةُ :(يَا ابْنَ أخِي أفَلاَ أُحَدِّثُكُ عَنِّي وَعَنْهُ؟) قَالَ : بَلَى. قَالَ :(وَاللهِ لَوْ رَأيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَبنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ. قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ :" ألاَ رَجُلٌ يَأْتِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْجَهْدِ. ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ :" ألاَ رَجُلٌ يَأْتِيْنِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أحَدٌ، دَعَانِي فَلَمْ أجِدْ بُدّاً مِنْ إجَابَتِهِ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" اذْهَبْ فَجِئْ بخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ".
قَالَ حُذيْفَةُ : قُمْتُ وَجَنْبَيَّ يَضْطَرِبَانِ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَأسِي وَوَجْهِي، ثُمَّ قَالَ :" اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ ". قَالَ : فَانْطَلَقْتُ أمْشِي حَتَّى أتَيْتُ الْقَوْمَ، وَإذا ريْحُ اللهِ وَجُنُودُهُ يَفْعَلُ بهِمْ مَا يَفْعَلُ، مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْْ بنَاءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ، إذْ خَرَجَ أبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ مَا أنْتُمْ بدَار مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَتِ الْخُفُّ وَالْحَافِرْ وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهَذِه الرِّيْحُ لاَ يَسْتَمْسكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ وَلاَ تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ. ثُمَّ عَجَّلَ فَرَكِبَ رَاحِلََتَهُ، وَإنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ مَا حَلَّ عِقَالَهَا إلاَّ بَعْدَمَا رَكِبَهَا.
فَقَالَ حُذيْفَةُ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : لَوْ رَمَيْتُ عَدُوَّ اللهِ فَكُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئاً، فَأَوْتَرْتُ قَوْسِي وَأنَا أُرِيْدُ أنْ أرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ :" وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ". فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ :" مَا الْخَبَرُ ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ. ثُمَّ أدْنَانِي مِنْهُ وَبي مِنَ الْبَرْدِ مَا أجِدُهُ، فَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبهِ، وَألْزَقَ صَدْري ببَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾[الأحزاب : ٩] يعني الملائكةَ، بَعَثَ اللهُ ملائكةً على المشركين فقَلَعَتْ أوتادَ الخيلِ وأطْنَابَ الْفَسَاطِيْطِ، وأطفأَتِ النيرانَ وجالَتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ، وكَثُرَ تكبيرُ الملائكةِ في جوانب عسكَرِهم حتى وقعَ بهم الرعبُ فانْهَزَمُوا من غيرِ قتالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، أي مِن فوق الوادِي مِن قِبَلِ المشرقِ عليهم مالكُ بن عوفٍ البَصْرِيّ، وعُيَينَةُ بن حِصْنِ الفزَّاري في ألْفٍ مِنْ غَطَفَانَ، ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، يعني مِن قِبَلِ المغرب فيهم أبُو سفيانَ في قُريشٍ ومَن تَبعَهُ، وأبو الأعْوَر السُّلمي من قِبَلِ الخندقِ.
وكانَ مِن حديثِ الخندقِ :" أنَّ نَفَراً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبْيعِ وَهَوْذةُ بْنِ قَيْسٍ وَأبُو عُمَارَةَ الْوَائِلِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ خَرَجُواْ حَتَّى قَدِمُواْ عَلَى قُرَيْشِ فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَجَابُوهُمْ فَاجْتَمَعُواْ مَعَ قُرَيْشٍ. فَسَارَتْ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ، وَسَارَتْ بَنُو مُرَّةً وَقَائِدُهَا الْحَارثُ بْنُ عَوْفٍ، وَسَارَتْ بَنُو أشْجَعَ وَقَائِدُهَا مُسْعِرُ بْنُ رَخَيْلَةَ الأَشْجَعِيُّ، وَسَارَتْ قُرَيْشُ وَقَائِدُهَا أبُو سُفْيَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أشَارَ بالْخَنْدَقِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ سَلْمَانُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا بفَارسَ إذا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا. فَحَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى أحْكَمُوهُ.
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ، أقْبَلَتْ قُرَيْشُ حَتَّى نَزَلَتْ بمَجْمَعِ الأَسْيَالِ مِن رُومَة، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَكَانَ الْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَعَظُمَ عِنْدَ ذلِكَ الْبَلاَءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأتَاهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَظَهَرَ النِّفَاقُ فِي الْمُنَافِقِيْنَ، حَتَّى قَالَ مُعْتَبُ بْنُ بَشِيْرِ الْمُنَافِقُ : كَانَ مُحَمَّدُ وَعَدَنَا أنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَحَدُنَا لاَ يَقْدِرُ أنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ، مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً. فذلك قوله تعالى :﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ﴾.
فَأَقَامَ النَّبيُّ ﷺ وَأقَامَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بضْعاً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً قَرِيْباً مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ إلاَّ الرَّمْيَ بالنَّبْلِ وَالْحَصَى وَالْحِصَار.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاَءُ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَطَالَ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنِ وَإلَى الْحَارثِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، وَأعْطَاهُمَا ثُلْثَ ثِمَار الْمَدِيْنَةِ عَلَى أنْ يَرْجِعَا بمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْقَوْمِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى وَقَعَ الْكِتَابُ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ، فَذكَرَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذلِكَ، فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَذا شَيْءٌ أمَرَكَ اللهُ بهِ أمْ أمْرٌ تُحِبُّهُ أنْتَ أمْ أمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ فَإنْ كَانَ أمْراً مِنَ اللهِ لَكَ فَلاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بهِ، وَإنْ كَانَ أمْراً تُحِبُّهُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، وَإنْ كَانَ شَيْئاً تَصْنَعُهُ لَنَا فَعَرِّفْنَا بهِ، فَقَالَ صلى الله الله عليه وسلم :" بَلْ وَاللهِ مَا صَنَعْتُ ذلِكَ إلاَّ أنِّي رَأيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بقَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أنْ أكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ ".
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ لَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاَءِ الْْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ لاَ نَعْبُدُ اللهَ وَلاَ نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لاَ يَطْمَعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مِنْ ثِمَارنَا تَمْرَةً إلاَّ قِرَاءً أوْ شِرَاءً، فَكَيْفَ وَقَدْ أكْرَمَنَا اللهُ بالإسْلاَمِ وَأعْزَّنَا بكَ نُعْطِيْهِمْ أمْوَالَنَا! مَا لَنَا بهَذا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللهِ لاَ نُعْطِيْهِمْ إلاَّ السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فقال ﷺ :" فَأَنْتَ وَذاكَ ". فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيْفَةَ الَّتِي كَتَبُواْ فِيْهَا صُلْحَهُمْ فَمَحَاهَا.
ثُمَّ إنَّهُمْ تَرَامَواْ بالنَّبْلِ، فَوَقَعَتْ رَمْيَةٌ فِي أكْحَلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَطَعَتْهُ، رَمَاهُ ابْنُ الْغُرْفَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَا زَالَ أكْحَلُهُ يَسِيْلُ دَماً حَتَّى خِيْفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ سَعْدٌ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أبْقَيْتَ مِنْ حَرْب قُرَيْشٍ فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإنَّهُ لاَ شَيْءَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ قَوْمٍ آذواْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَكَذبُوهُ وَأخْرَجُوهُ، وَإنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لَنَا شَهَادَةً وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
ثُمَّ أتَى نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ قَدْ أسْلَمْتُ وَإنَّ قَوْمِي مِنْ غَطَفَانَ لَمْ يَعْلَمُواْ بإسْلاَمِي، فَمُرْنِي فِيْهِمْ بمَا شِئْتَ، فَقَالَ عليه السلام :" إنَّمَا أنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إنِ اسْتَطَعْتَ ". فَخَرَجَ نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيْماً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ لَقَدْ عَلِِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ المَحَبَّةِ. قَالُواْ : صَدَقْتَ ؛ لَسْتَ عِنْدَنَا بمُتَّهَمٍ ".
وقرأ عاصمُ (لاَ مُقَامَ) بضمِّ الميمِ ؛ أي لا إقامةَ لكم ها هُنا ؛ لكثرةِ العدُوِّ وغلبةِ الحِرَاب، فارجِعُوا إلى منازلِكم، أمَرُوهم بالهرب من عسكرِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ﴾ ؛ معناهُ : ويستأذنُ فريقٌ منهم النبيَّ عليه السلام في الرُّجوعِ إلى منازلِهم بالمدينةِ ؛ وهم بنُو حَارثَةَ وبَنُو سَلَمَةَ، وكانوا يعتَلُّون في الاستئذانِ بقولِهم :﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ ؛ أي بيُوتُنا خاليةٌ من الرِّجالِ نخافُ عليها، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ بيوتَنا ليست بجديدةٍ. وقال مقاتلُ والحسن :(مَعْنَاهُ : قَالُواْ بُيُوتُنَا ضَائِعَةٌ نَخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ). وقال قتادةُ :(قَالُوا بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ وَلاَ نَأْمَنُ عَلَى أهْلِنَا). فكذبَهم اللهُ تعالى وَأعْلَمَ أنَّ قصدَهم الهربُ، فقال عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ ؛ مِن القتالِ ونُصرةِ المؤمنينَ.
وقرأ ابنُ عبَّاس وأبو رجاءٍ :(إنَّ بُيُوتُنَا عَوِرَةٌ) بكسرِ الواو ؛ أي قصيرةُ الجدران، فيها خلَلٌ وفُرجَةٌ. قال الزجَّاجُ :(يُقَالُ : عَوَرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُّ عَوْراً وَعَوْرَةً، وَبُيُوتٌ عَوْرَةٌ وَعَوِرَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرٌ). والْعَوْرَةُ في اللغة : ما ذهَبَ عنه السَّتْرُ والحِفظُ، تقولُ العربُ : اعْوَرَّ الفارسُ إذا كان فيه موضعُ خللٍ للضَّرب، وعَوَرَ المكانُ إذا بَدَتْ منه عورةٌ. قال الشاعرُ : مَتَى تَلْقَهُمْ، لاَ تَلْقَ لِلْبَيْتِ عَوْرَةً وَلاَ الضَّيْفَ مَحْرُوماً وَلاَ الْجارَ مُرْمِلايقال : أرْمَلَ القومُ إذا فرغَ زادُهم.
وقرأ أهلُ المدينةِ (لأَتَوْهَا) بالقصرِ ؛ أي لفَعَلُوها بأنفُسِهم، ﴿ وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً ﴾ ؛ أي وما يلبَثُون بإجَابتِها إلاَّ قليلاً حتى يَقْبَلُوا. قال قتادةُ :(وَمَا احْتَبَسُواْ عَنِ الإجَابَةِ إلَى الْكُفْرِ إلاَّ قَلِيْلاً)، ويقالُ : ما يتَلَبَّثُونَ بالمدينةِ بعدَ إجابَتِهم إلاَّ يَسِيراً حتى يَهْلَكُوا.
ومعنى الآيةِ : ولقد كانُوا عاهَدُوا اللهَ من قَبْلِ غَزوةِ الخندق ﴿ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ ﴾ أي لا ينهَزِمون ولا يُوَلُّونَ العدوَّ ظُهورََهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ﴾ ؛ أي مُطَالَباً مَسْؤُولاً عنه مُحَاسَباً عليهِ، يُسأَلُونَ عنه في الآخرةِ.
ثُم أخبرَ اللهُ أنَّ الفرارَ لا يزيدُهم في آجالِهم ؛ فقالَ :﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ﴾ ؛ أي مِن حَضَرَ ماتَ أو قُتِلَ، فكلاهُما مكتوبٌ عليكم. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي إنْ فرَرْتُمْ من الموتِ أو القَتْلِ في هذه الوقعةِ لَمْ يُمَتَّعُوا إلاَّ قليلاً حتى يلحَقُكم أحدُ الأمرَين. والمعنى : لا تَمَتَّعُونَ بعدَ الفرار في الدُّنيا إلاَّ مدَّةَ أجَلِكُمْ.
ثُم أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ ما قًَدَّرَهُ عليهم وأرادَهُ بهم لا يُدْفَعُ عنهم، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي مَن الذي يُجِيرُكم ويَمنعُكم من اللهِ، ﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً ﴾ ؛ أي هَلاَكاً وهزِيْمةً، ﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ﴾ ؛ أي خَيراً وهو النصرُ. وهذا كُلُّهُ أمرٌ للنبيِّ ﷺ أن يُخاطِبَهم بهذه الأشياءِ.
ثُم أخبرَ الله أنه لا ينفَعُهم قريبٌ ولا نَاصِرٌ ينصرُهم من اللهِ، فقال تعالَى :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
قال قتادةُ :(هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ، كَانُواْ يَقُولُونَ : مَا مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ إلاَّ أكَلَةُ رَأسٍ، وَلَوْ كَانُواْ لَحْماً لاَلْتَهَمَهُمْ أبُو سُفْيَانَ وَحِزْبُهُ، دَعُواْ هَذا الرَّجُلَ فَإنَّهُ هَالِكٌ، فَخَلُّوهُمْ وَتَعَالُواْ إلَيْنَا).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ أي ويعلمُ القائلينَ لإخوانِهم تعالَوْا إلينا ودَعُوا مُحَمَّداً فلا تشهَدُوا معه الحربَ، فإنَّا نخافُ عليكم الهلاكَ، وَقََوْلُهُ :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لا يحضُرونَ القتالَ في سبيلِ الله إلاَّ قَلِيْلاً ؛ أي لا يُقاتِلُونَ إلاَّ ريَاءً وسُمعةً من غيرِ احتسابٍ، ولو كان ذلك القليلُ للهِ لكانَ كثيراً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ ؛ أي بُخْلاءَ بالغَنيمةِ، يخاصِمُون فيها ويُشَاحُّونَ المؤمنينَ عليها عند القِسْمَةِ، فيقولونَ : أعْطُونَا فلَسْتُمْ أحقَّ مِنَّا! وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أوْلَـائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ ؛ أي هُم وإنْ أظهَرُوا الإيْمانَ ونَافَقُوا فليسوا بمؤمنينَ، ﴿ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ؛ أي أبْطَلَ جهادَهم وثوابَ أعمالِهم ؛ لأنه لَم يكن في إيْمانٍ، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ الإحباطُ، ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(مَعْنَى الآيَةِ : فَإذا ذهَبَ الْخَوْفُ وَجَاءَ الأَمْنُ وَالْغَنِيْمَةُ، سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ ؛ أيْ بَسَطُواْ ألْسِنَتَهُمْ فِيْكُمْ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيْمَةِ، وَسَيَقُولُونَ : أعْطُونَا فَلَسْتُمْ أحَقَّ بهَا مِنَّا! فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ وَالْقِتَالِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأخْذلُهُمْ، وَأمَّا عِنْدَ الْغَنِيْمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ).
ومعنى الآيةِ : لقد كان لكُم في رسولِ الله اقتداءٌ لوِ اقتديتُم به، والصبرُ معه في مواطنِ القتال كما فَعَلَ هو يومَ أُحُد إذ كُسِرَتْ رباعيَّتهُ وشُُجَّ حاجبهُ وقُتِلَ عمُّه، فواسَاكم مع ذلك بنفسهِ، فهلاَّ فعلتم مثلَ ما فعلَ هو. وقوله تعالى :﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ ﴾ يدلُّ من قوله (لَكُمْ) وهو تخصيصٌ بعد التعميمِ للمؤمنين.
والنَّحْبُ في اللُّغة : النَّذْرُ، وَقِيْلَ : النَّحْبُ هو النَّفَسُ، ومنه النَّحِيْبُ : وهو التَّنَفُّسُ الشديدُ والنَّشْجُ في البكاءِ. والمعنى على هذا القولِ :(مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ ؛ الموتَ على ذلك العهدِ. وَقِيْلَ : معناهُ :(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) أي ماتَ أو قُتِلَ في سبيلِ الله فأدركَ ما تَمنَّى، فذلك قضاءُ النَّحْب. وَقِيْلَ : فَرَغَ من عملهِ، ورجعَ إلى اللهِ. وقال الحسنُ :(قَضَى أجَلَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ)، قال ابنُ قُتيبةَ :(قَضَى نَحْبَهُ : قُتِلَ).
وأصلُ النَّحْب : النَّذْرُ، كان قومٌ نذرُوا أنَّهم إنْ لَقُوا العدوَّ قَاتَلُوا حتى يُقْتَلُوا أو يَفتحَ اللهُ تعالى فَقُتِلُوا. يقال : فلانٌ قَضَى نَحْبَهُ، إذا قُتِلَ. وقال محمَّد بنُ اسحقٍ :(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ نَصْرٍ أوْ شَهَادَةٍ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أصْحَابُهُ).
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالَتْ :" طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللهِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ، ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى أُصِيْبَتْ يَدُهُ، فَقَالَ ﷺ :" أوْجَبَ طَلْحَةُ الْجَنَّةَ " " وعن أبي نَجيحٍ : أنَّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍِ عِنْدَ النَّبيِّ ﷺ فِي الْجَبَلِ، فَجَاءَ سَهْمٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى النَّبيِّ ﷺ فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بيَدِهِ فَأَصَاب خِنْصَرَهُ.
وعن عائشةَ : أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ :" مَنْ سََرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ، فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ " وَقالَ ﷺ :" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ ؛ أي ما غيَّرُوا عهدَ اللهِ الذي عاهَدُوه عليهِ كما غَيَّرَهُ المنافقونَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾ ؛ أي صِدْقَ المؤمنونَ في عهدِهم ليجزِيَهم اللهُ بصدقِهم، ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ﴾ ؛ بنقضِ العهدِ، ﴿ إِن شَآءَ ﴾ ؛ قال السديُّ :(يُمِيْتُهُمُ اللهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ إنْ شَاءَ فَيُوجِبُ لَهُمُ الْعَذابَ). فمعنى شَرْطِ المشيئةِ في عذاب المنافقين إمَاتَتُهُمْ على النفاق إنْ شاءَ ثُم يعذِّبُهم، ﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ فيغفرُ لَهم، ليس أنه يجوزُ أن لا يُعذِّبَهم إذا مَاتُوا على النِّفاقِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً ﴾ ؛ لِمَن تابَ ﴿ رَّحِيماً ﴾ ؛ بمن ماتَ على التَّوبةِ.
فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَجَعَ النَّبيُّ ﷺ إلى بَيْتِهِ، أرَادَ أنْ يَنْزَعَ لاَمَتَهُ، فَسَمِعَ هَسِيْساً، فَنَظَرَ فَإذا جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي دِرْعِهِ وَسِلاَحِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيْلُ : أتَنْزَعُ لاَمَتَكَ يا رَسُولَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةُ لَمْ يَنْزعُواْ حَتَّى يُقَاتِلُواْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَيُصَلَّى فِيهِمْ الْعَصْرُ؟! فَقَالَ ﷺ :" وَكَيْفَ لِي بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ؟! " فَقَالَ جِبْرِيْلُ : لأُلْهِمَنَّكَ ذلِكَ، فَوَاللهِ لأَدُقَّنَّهُمُ الْيَوْمَ كَمَا يُدَقُّ الْبَيْضُ عَلَى الصَّفَا. فَنَادَى رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الأَصْحَاب، فَخَرَجُواْ إلَى حُصُونِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأُلْقِي الرُّعْبُ فِي قُلُوب الْقَوْمِ حَتَّى طَلَبُواْ الصُّلْحَ، وَأبَواْ إلاَّ أنْ يَنْزِلُواْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَكَانَ سَعْدُ قَدْ أصَابَهُ سَهْمٌ فِي أكْحَلِهِ فِي حَرْب الْخَنْدَقِ، فَسَأَلَ اللهَ أنْ يُؤْخِّرَهُ إلَى أنْ يَرَى قُرَّةَ عَيْنِ النَّبيِّ ﷺ، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ. فَلَمَّا طَلَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، رَضِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَحُمِلَ سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ ﷺ وَقَدِ احْتَبَسَ أكْحَلُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" احْكُمْ فِيْهِمْ ". فَقَالَ : حَكَمْتُ فِيْهِمْ بأَنَّ يُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَيُسْبَى ذرَاريَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأمْوَالُهُمْ. فَقَالَ ﷺ :" حَكَمْتَ فِيْهِمْ مِثْلَ مَا حَكَمَ اللهُ فِيْهِمْ ". فَلَمَّا قُتِلَتْ مُقَاتِلَتُهُمْ وَسُبيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذرَاريَهُمْ، انْفَجَرَ أكْحَلُ سَعْدٍ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللهُ ".
والصَّيَاصِيُّ : جمعُ صِيصَةٍ، وصِيْصَةُ الثَّور قَرْنُهُ، سُمِّي بذلكَ ؛ لأنَّ قَرْنَهُ حِصْنُهُ الَّذِي يَتَحَصَّنُ بهِ.
ورُوي :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا رَجَعَ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْصَرَفَ فِيهَا الأَحْزَابُ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَوَضَعَ النَّبيُّ ﷺ السِّلاَحَ، أتَى جِبْرِيْلُ عليه السلام إلَى النَّبيِّ ﷺ مُعْتَجِراً بعِمَامَةٍ مِنْ اسْتَبْرَقَ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيْفَةٌ مِنْ دِيْبَاجٍ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جحْشٍ يَغْسِلُ رَأسَهُ وَقَدْ مَشَّطَتْ عِقْصَتَهُ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ : قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ :" نَعَمْ " قَالَ : عَفَا اللهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَاللهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ السِّلاَحَ مُنْذُ أرْبَعِيْنَ لَيْلَةٍ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بالسَّيْرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَانَ هَذا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله صلى وسلم مُنَادِياً يُنَادِي :" مَنْ كَانَ سَامِعاً مُطِيْعاً فَلاَ يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ". وَقَدَّمَ النَّبيُّ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ برَايَتِهِ إلَيْهِمْ، فَسَارَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى إذا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهُمْ مَقَالَةً قَبيْحَةً فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَرَجَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى لَقِيَ النَّبيَّ ﷺ بالطَّرِيْقِ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ عَلَيْكَ أنْ تَدْنُو مِنْ هَؤُلاَءِ الْخَبَائِثِ، قَالَ :" أظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ أذى ؟ " قَالَ : نَعَمْ. فَسَارَ النَّبيُّ ﷺ نَحْوَهُمْ حَتَّى دَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ :" يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ أخْزَاكُمُ اللهُ، وَأنْزَلَ فِيْكُمْ نِقْمَتَهُ " قَالُواْ : يَا أبَا الْقَاسِمِ! مَا كُنْتَ جَهُولاً.
فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ خَمْساً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ. فَلَمَّا أيْقَنُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ غَيْرُ رَاجِعٍ عَنْهُمْ، قَالَ لَهُمْ كَعْبُ بْنُ أسَدٍ : يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ؛ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وَإنِّي سَأَعْرِضُ عَلَيْكُمْ ثَلاَثَ خِصَالٍ، فَخُذُواْ بأَيِّهَا شِئْتُمْ. قَالُواْ : وَمَا هِيَ ؟
قَالَ : أمَّا الأُوْلَى فَنُبَايعُ هَذا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ فَوَاللهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أنَّهُ نَبيٌّ مُرْسَلٌ، وَأنَّهُ الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابكُمْ، فَتَأْمَنُواْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ. قَالُواْ : لاَ نُفَارقُ دِيْنَنَا أبَداً، وَلاَ نَسْتَبْدِلُ بهِ غَيْرَهُ.
قَالَ : فَإنْ أبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ، فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أبْنَاءَنَا وَنَسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجَ إلَى مُحَمَّدٍ رجَالاً مُصَلِّتِينَ بالسُّيُوفِ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَنَا ثِقْلٌ يَهُمُّنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالُواْ : نَقْتُلُ هَؤُلاَءِ الْمَسَاكِيْن! فَلاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ.
قَالَ : فَإنَّ أبَيْتُمْ هَذِهِ، فَاعْلَمُواْ أنَّ هَذِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَإنَّهُ عَسَى أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ قَدْ أمِنُواْ فِيْهَا، فَانْزِلُواْ لَعَلَّنَا نُصِيْبُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأصْحَابهِ غِرَّةً. قَالُواْ : نُفْسِدُ سَبْتَنَا وَنُحْدِثُ فِيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ أحْدَثَ فِيْهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُواْ فِيه الأحْدَاثَ مُسِخُواْ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ مَنْ هُمْ.
قَالَ : ثُمَّ إنَّهُمْ بَعَثُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أن ابْعَثْ إلَيْنَا أبَا لُبَابَةَ أخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الأَوْسِ، نَسْتَشِيْرُهُ فِي أمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ النَّبيُّ ﷺ إلَيْهِمْ. فَسَأَلُوهُ إنْ نَنزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَأشَارَ بيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ : أنَّهُ الذبْحُ. قَالَ أبْو لُبَابَةَ : فَعَلِمْتُ أنِّي قَدْ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ أبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى عَمُودٍ مِنْ أعْمِدَتِهِ، وَقَالَ : لاَ أبْرَحُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، وَعَاهَدَ اللهَ تَعَالَى أنْ لاَ يَطَأَ أرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أبَداً، وَقَالَ : لاَ يَرَانِي اللهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيْهِ. فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ قَالَ :" أمَا إنَّهُ لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إذا فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا أنَا بالَّذِي أُطْلِقُهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ تَوْبَتَهُ، فَقَالَ ﷺ :" تُبْتُ عَلَى أبي لُبَابَةَ " فَثَارَ النَّاسُ إلَى أبي لُبَابَةَ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ : وَاللهِ لاَ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بيَدِهِ. فَجَاءَ النَّبيُّ ﷺ فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ : فَلَمَّا أصْبَحَ بَنُو قُرَيْظَةَ نَزَلُواْ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّهُمْ مَوَالِيْنَا - أيْ حُلَفَاؤُنَا - دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ مَا قََدْ عَلِمْتَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُواْ عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُمْ إيَّاهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبى سَلُولٍ فَوَهَبَهُمْ لَهُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الأَوْسُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ ؛ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ أُحَكِّمَ فِيْهِمْ رَجُلاً مِنْكُمْ ؟ " قَالُواْ : بَلَى، قَالَ :" فَذاكَـ " إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي خَيْمَةِ امْرَأةٍ مِنَ أسْلَمَ يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ، تُدَاوي الْجَرْحَى وَتَخْدِمُ الْمَرْضَى.
فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أتَاهُ قًَوْمٌ فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَار، وَقَدْ وَطَّأُواْ لَهُ وسَادَةً مِنْ أدْمٍ، وَكَانَ رَجُلاً جَسِيْماً. ثُمَّ أقْبَلُواْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُمْ يَقُولُونَ : يَا أبَا عَمْرٍو! أحْسِنْ فِي مَوَالِيْكَ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ إنَّمَا وَلاَّكَ ذلِكَ لِتُحْسِنَ فِيْهِمْ. فَلَمَّا أكْثَرُواْ عَلَيْهِ ؛ قَالَ : لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أنْ لاَ تَأْخُذهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ. فَعَرَفُواْ أنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَقْتُولُونَ.
فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ ﷺ قَالَ :" قُومُواْ إلَى سَيِّدِكُمْ، فَأَنْزِلُوهُ " فَقَامُواْ إلَيْهِ، فَقَالَ : يَا أبَا عَمْرٍو ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلاَّكَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ سَعْدٌ : عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيْثَاقُهُ أنَّ الْحُكْمَ فِيْهِمْ مَا حَكَمْتُ ؟ قَالُواْ : نَعَمْ. قَالَ : أحْكُمُ فِيْهِمْ أنْ يُقْتَلَ الرِّجَالُ وَتُقْسَمَ الأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذرَاري وَالنِّسَاءُ. فَقَالَ ﷺ :" لَقَدْ حَكَمْتَ فِيْهِمْ يَا سَعْدُ بحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ ". ثُمَّ اسْتُنْزِلُواْ، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي دَار " ابْنَةِ الْحَارثِ
فقالتِ الصحابةُ : مَا شَأْنُ رَسُولِ اللهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : إنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُ إلَيْهِ لأُعْلِمَكُمْ مَا شَأْنُهُ ؟ فَذَهَبَ إلى النَّبيِّ ﷺ فَاسْتَأْذنَ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ عُمَرُ : فَجَعَلْتُ أقُولُ فِي نَفْسِي : أيُّ شَيْءٍ أكَلِّمُ بهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَلَّهُ يَنْبَسِطُ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لَوْ رَأيْتَ فُلاَنَةَ وَهِيَ تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً ؟ فَقَالَ ﷺ :" فَذلِكَ الَّذِي أجْلَسَنِي عَنْكُمْ ". فَأَتَى عُمَرُ حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا : لاَ تَسْأَلِي رَسُولَ اللهِ ﷺ شَيْئاً فَمَا كَانَ مِنْ حَاجَتِهِ لَكَ فَأَوْلَى.
ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ نِِسَاءَ النَّبيِّ ﷺ يُكَلِّمُهُنَّ، حَتَّى قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : يَغُرُّكَ أنَّكِ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ وَإنَّ زَوْجَكِ يُحِبُّكِ لَتَنْتَهِيَنَّ أوْ لَيُنْزِلَنَّ اللهُ فِيْكُنَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَتْ أُمُّّ سَلَمَةَ : يَا ابْنَ الْخَطَّاب ؛ أوَمَا بَقِيَ لَكَ إلاَّ أنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ وَنِسَائِهِ! فَمَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأةُ إلاَّ زَوْجَهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ " إلى آخرها.
وكان يومئذٍ مع رسولِ الله ﷺ تسعُ نِسوَةٍ ؛ خمسٌ من قُريش : عائشةُ بنت أبي بكر، وحفصةُ بنت عُمر، وأمُّ حبيبةَ بنت أبي سُفيان، وسَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ، وأمُّ سَلَمَةَ بنت أبي أُميَّة، فهؤلاءِ من قريشٍ. وصفيَّة بنتُ حَييِّ بن أخطب الخيبريَّة، وميمونةُ بنت الحارثِ الهلالية، وزينبُ بنت جحشٍ، وجُوَيْرِيَّةُ بنت الحارثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ :" كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ جَالِساً مَعَ حَفْصَةَ، فَتَشَاجَرَا فِيْمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهَا : هَلْ لَكِ أنْ أجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ رَجُلاً ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، قَالَ : فَأَبُوكِ إذاً، فَأَرْسَلَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ : تَكَلَّمِي، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ تَكَلَّمْ وَلاَ تَقُلْ إلاَّ حَقّاً! فَرَفَعَ عُمَرُ يَدَهُ فَوَجَّى وَجْهَهَا ثُمَّ رَفَعَ فَوَجَّى وَجْهَهَا، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" كُفَّ ".
فَقَالَ عُمَرُ : يَا عَدُوَّةِ اللهِ! أوَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ إلاَّ حَقّاً، وَالَّذِي بَعَثَهُ بالْحَقِّ لَوْلاَ مَجْلِسُهُ مَا رَفَعْتُ يَدِي حَتَّى تَمُوتِي. فَقَامَ ﷺ فَصَعَدَ إلَى غُرْفَةٍ، فَمَكَثَ فِيْهَا شَهْراً لاَ يَقْرَبُ شَيْئاً مِنْ نِسَائِهِ، يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى فِيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ الآيَةُ، فَنَزَلَ النَّبيُّ ﷺ فَعَرََضَ ذلِكَ عَلَيْهِنَّ كُلُّهُنَّ، فَلَمْ يَخْتَرْنَ إلاَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حَفْصَةُ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنِّي فِي مَكَانِ الْعَائِذة بكَ مِنَ النَّار، وَاللهِ لاَ أعُودُ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ أبَداً، بَلْ أخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَرَضِيَ عَنْهَا ".
وإنَّما ضُوعِفَ عذابُهن على الفاحشة لأنَّهن يُشَاهِدْنَ من الزَّواجرِ ما يَرْدَعُ عن مواقعةِ الذُّنوب ما لا يشاهدُ غيرُهن، فإذا لَم يَمتَنِعْنَ اسْتَحْقَقْنَ تَضعيفَ العذاب. وقَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ ؛ أي وكان عذابُها على الله هيِّناً.
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾، قرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر (نُضَعِّفُ) بالنون وكسرِ العين مشدَّدة من غير ألِف (العذابَ) بالنصب، وقرأ أبو عمرٍو (يُضَعَّفُ) بالياءِ وفتحِ العين والتشديد، ورفعِ (الْعَذابُ)، قال أبو عمرٍو :(وَإنَّمَا قَرَأتُ هَكَذا مُشَدَّداً مِنْ غَيْرِ ألِفٍ لِقَوْلِهِ (ضَعْفَيْنِ)، يُقَالُ : ضَعَّفْتُ الشَّيْءَ إذا جَعَلْتُهُ مِثْلَهُ وَضَاعَفْتُهُ إذا جَعَلْتُهُ أمْثَالَهُ). وقرأ الباقونَ (يُضَاعَفُ) بالألفِ ورفع (الْعَذابُ).
قرأ يعقوب (تَقْنُتْ) بالتاءِ ومثلهُ رُوي عن ابنِ عامر، وقوله (وَتَعْمَلْ صَالِحاً)، قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلَف (وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُؤْتِهَا) بالياءِ فيهما. وقرأ غيرُهم (وَتَعْمَلْ) بالتاءِ (وَنُؤْتِهَا) بالنُّون. قال الفرَّاء :(وَإنَّمَا قُرِئ (يَقْنُتْ) بالياءِ لأن (مَنْ) أدَاةٌ تَقُومُ مَقَامَ الاسْمِ، يُعَبَّرُ بهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذكَّرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾[يونس : ٤٣]﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾[يونس : ٤٢]، ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ ؛ أي فلا تُلِنَّ القولَ للرِّجال على وجهٍ يُورثُ ذلك الطمعَ فيكن، فيطمعُ المنافقون في مواقعتِكُن، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ ؛ يعني زنًى وفجُورٌ ونفاقٌ. والمرأةُ مَنْدُوبَةٌ إذا خاطبَتِ الأجانبَ إلى الْغِلْظَةِ في المقالةِ ؛ لأن ذلك أبعدُ مِن الطَّمعِ من الزِّينة.
وإنَّما قال ﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ ﴾ ولَم يقل كواحدةٍ ؛ لأن أحَداً عامٌّ يصلحُ للواحدِ والاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنث، قال تعالى :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾[البقرة : ٢٨٥] وقال تعالى﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة : ٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ ؛ أي قُلْنَ قَولاً حَسَناً لا يؤدِّي إلى الزينةِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وقُلْنَ ما يوجبهُ الدِّين والإسلامُ بغيرِ خضوعٍ فيه، بل بتصريحٍ وبيان. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ ؛ أي إلْزَمْنَ بيوتَكُن ولا تخرُجْن إلاّ في ضَرورةٍ.
قرأ نافعُ وعاصم (وَقَرْنَ) بفتح القافِ، وهو مِن قَرَرْتَ في المكانِ أقَرَّ، وكان الأصلُ اقْرِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، فحُذفت الرَّاء الأُولى التي هي عينُ الفعلِ لأجل نَقْلِ التَّضعيفِ، وأُلقِيَتْ حركتُها إلى القافِ كقوله﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾[الواقعة : ٦٥] و﴿ ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾[طه : ٩٧]، والأصلُ ظَلَلْتَ وظَلَلْتُمْ. وقرأ الباقون (وَقِرْنَ) بكسرِ القاف مِن الوَقَار ؛ أي كنَّ أهلَ سَكينةٍ ووَقارٍ، والأمرُ منه للرَّجُلِ قِرَّ، وللمرأة قِرِّي، والجماعة النساء قِرْنَ، كما يقالُ من الوعدِ : عِدْنَ، ومن الوَصْلِ : صِلْنَ.
وعن محمَّد بنِ سِيرين قال :(قِيْلَ لِسَوْدَةِ بنْتِ زَمْعَةَ : ألاَ تَحُجِّيْنَ ؛ ألاَ تَعْتَمِرِيْنَ كَمَا يَفْعَلُ أخَوَاتُكِ ؟ فَقَالَتْ : قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ، ثُمَّ أمَرَنِي اللهُ أنْ أقِرَّ فِي بَيْتِي، فَوَاللهِ لاَ أخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى أمُوتُ. فَوَاللهِ مَا أُخْرِجَتْ مِنْ بَاب بَيْتِهَا حَتَّى أخْرَجُواْ جَنَازَتَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ ؛ التَّبَرُّجُ : التَّبَخْتُرُ وَإظْهَارُ الزِّيْنَةِ، وما يستدعِي به من شَهوَةِ الرِّجال وإبراز الْمَحاسِنِ للناسِ. والجاهليةُ الأُولَى : هي ما بينَ عِيسَى عليه السلام ومُحَمَّدٍ ﷺ، كانتِ المرأةُ من أهلِ ذلك الزمان تَتَّخِذُّ الدِّرْعَ من اللُّؤلُؤِ فتلبسهُ ثُم تَمشِي وسطَ الطريقِ ليس عليها غيرهُ، وتعرِضُ نفسَها للرِّجالِ. وقال بعضُهم : الجاهليةُ الأُولَى ما بين آدمَ ونوحٍ، كان نساؤُهم أقبحَ ما يكون من النِّساءِ، ورجالُهم حِسَانٌ، وكانت المرأةُ تُرَاودُ الرجُلَ عن نفسهِ. فنهَى اللهُ تعالى هؤلاءِ عن فِعْلِ أهلِ الجاهليَّة وأمَرَهُنَّ بإقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة وطاعةِ الله ورسولهِ في باقِي الآيةِ.
وقال مقاتلُ :" لَمَّا رَجَعَتْ أسْمَاءُ بنْتُ عُمَيْسٍ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ، دَخَلَتْ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَقَالَتْ : هَلْ نَزَلَ فِيْنَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قُلْنَ : لاَ. فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارَةٍ! قَالَ :" وَمِمَّ ذلِكَ ؟ " قَالَتْ : لأَنَّهُنَّ لاَ يُذْكَرْنَ بخَيْرٍ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةِ ".
وقال مقاتلُ :(قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بنْتُ أبي أُمَيَّةَ وَنُسَيْبَةُ بنْتُ كَعْبٍ الأَنْصَاريَّةُ لِلنَّبيِّ ﷺ : مَا بَالُ ربنَا يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلاَ يَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابهِ، فَعَسَى أنْ لاَ يَكُونَ فِيْهِنَّ خَيْرٌ، وَلاَ للهِ فِيْهِنَّ حَاجَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وَقِيْلَ : إنَّ أزواجَ النبيِّ ﷺ قُلْنَ :(يَا رَسُولَ اللهِ! ذكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّجَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ بخَيْرٍ، فَمَا فِيْنَا خَيْرٌ نُذْكَرُ بهِ، إنَّا نَخَافُ أنْ لاَ يَتَقَبَّلَ مِنَّا طَاعَةً). فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
وَاعْلَمْ : أنَّ الرجالَ والنساء يُجَازَوْنَ بأعمالِهم الصالحة مغفرةً لذِنوبهم وأجْراً عظيماً.
ومعنى الآيةِ :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ يعني الْمُخْلِصِيْنَ بالتَّوحيدِ والمخلِصاتِ ﴿ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي المصدِّقِين بالتوحيدِ والْمُصَدِّقَاتِ. والإسلامُ في اللغةِ : هو الانْقِيَادُ وَالاسْتِسْلاَمُ. والإيْمَانُ في اللغة : هو التَّصْدِيْقُ، غيرَ أنَّ معنى الإسلامِ والإيمان في هذه الآية واحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾ ؛ أي الْمُطِيعِينَ للهَ في أوامرهِ ونواهيه والْمُطِيْعَاتِ. والقَانِتُ : هو الْمُوَاظِبُ على الطاعةِ، والقُنُوتُ : طُولُ القيامِ في الصَّلواتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ ؛ يعني الصَّادِقينَ في إيْمانِهم والصَّادِقاتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ ؛ الصَّابرُ : هو الذي يَحْبسُ نفسَهُ عن جميعِ ما يجبُ الصَّبرُ عنهُ، ويصبرُ على جميعِ ما يجبُ الصبر عليهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ ؛ يعني بالْمُتَصَدِّقِيْنَ الذين يُؤدُّونَ ما عليهم مِن الصَّدقة المفروضةِ. ويقالُ : أرادَ به جميعَ الصَّدقاتِ. وأما الخاشِعُ : فهو الْمُتَوَاضِعُ للهِ تعالى وللناسِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ ﴾ ؛ يعني الصَّائمين صومَ الفرضِ بنيَِّةٍ صادقةٍ، ولكن فِطْرُهُمْ على حَلالٍ. قال ابنُ عبَّاس :(مَنْ صَامَ شَهْرََ رَمَضَانَ وَثَلاَثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الْغُرِّ الْبيْضِ، كَانَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ، وَيُؤْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بمَائِدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ، وَيُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ، وَيَنْفَحُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ ريْحُ الْمِسْكِ).
وقوله تعالى :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ ﴾ ؛ أي عمَّا لا يحلُّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ ؛ قِيْلَ : أرادَ به الذِّكْرَ في الصَّلواتِ الخمسِ. وَقِيْلَ : أرادَ به الذِّكْرَ باللِّسانِ والقلب في جميعِ الأحوال. قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ فِي أدْبَار الصَّلَوَاتِ غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَفِي الْمَضَاجِعِ، وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَكُلَّمَا غَدَا وَرَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذكَرَ اللهَ). وقال مجاهدُ :(لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذاكِرِيْنَ كَثِيْراً حَتَّى يَذْكُرَ اللهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً). وعن أبي هريرةَ ؛ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأيْقَظَ امْرَأتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْراً وَالذاكِرَاتِ " وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ وهو الجنَّةُ.
فَقَالَتْ زَيْنَبُ : لاَ أرْضَاهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ! أنَا أتَمُّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ مِنَ ابْنَةِ عَمِّكَ، فَلَمْ أكُنْ لأَفْعَلَ وَلاَ أرْضَاهُ يَا رَسُولََ اللهِ، وَقَالَ أخُوهَا عَبْدُاللهِ كَذلِكَ أيْضاً، وَكَانَتْ زَيْنَبُ بَيْضَاءَ جَمِيْلَةً، وَكَانَ فِيْهَا حِدَّةٌ، فَقَالَ ﷺ :" لَقَدْ رَضِيْتُهُ لَكِ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾ أي مَا ينبغِي لِمؤمِنٍ ﴿ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ يعني عبدَاللهِ بن جَحش وأُختَهُ زينبُ إذا اختارَ اللهُ تعالى ورسولهُ أمْراً ﴿ أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ بخلافِ ما اختارَ اللهُ ورسولهُ.
قرأ أهلُ الكوفةِ (أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بالياءِ للحائلِ بين التأنيثِ والفعل، وقرأ الباقونَ بالتاء. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ الْخِيَرَةُ ﴾ قراءَةُ العامَّة بفتحِ الياءِ ؛ أي الاختيارُ، وقرأ ابنُ السَّمَيْقِعِ (الْخِيْرَةُ) بسُكون الياءِ، وهُما لُغتانِ. وإنَّما جُمِعَ الضميرُ في قولهِ ﴿ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ لأن المرادَ بقولهِ ﴿ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ كلَّ مؤمنٍ ومؤمنة في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ أي فيما أمَرَتهُ، ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾ ؛ أي فقد أخطأَ خطأً، وذهبَ عن الحقِّ والصواب ذهاباً بَيِّناً.
فلما نزلت الآية قَالَتْ : قَدْ رَضِيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. وَكَذلِكَ رَضِيَ أخُوهَا، فَجَعَلَتْ أمْرَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ زَيْدٍ وَسَاقَ إلَيْهِمَا عليه السلام عَشْرَةَ مَثَاقِيْلَ وَسِتِّيْنَ دِرْهَماً ؛ وَخِمَاراً وَمِلْحَفَةً وَدِرْعاً وَإزَاراً ؛ وَخَمْسِيْنَ مُدّاً مِنْ طَعَامٍ وَثَلاَثِيْنَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ.
فَقَالَ ﷺ لِزَيْدٍ عَلَى سَبيْلِ الأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ ؛ امْرَأتَكَ ولا تُطلِّقْهَا، ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ ؛ فيها ولا تَفْعَلْ في أمرِها ما تَأْثَمُ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ ؛ خطابٌ للنبيِّ ﷺ، وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ أضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ، تَزَوَّجَهَا هُوَ وَضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ وإخفائه ؛ لكي لا يكون ظاهرُ الأنبياء عليهم السلام إلاّ كباطنهم.
وكان النبيُّ ﷺ يعلمُ أنَّهما لا يتِّفِقانِ لكثرةِ ما كان يجرِي بينَهما من الخصومةِ، فجعل يُخْفِيْهِ عن زيدٍ، وكان الأَولَى بالنبيِّ ﷺ أن يدعُوهُما إلى الْخُلْعِ فلم يفعَلْ، وقالَ لهُ :(أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) خشيةَ أنه لو خَالَعَها ثُم تزوَّجَها النبيُّ عليه السلام أن يطعنَ الناسُ عليهِ فيُقالُ : تزوَّجَ بحليلةِ ابنهِ بعد ما بيَّنَ للناسِ أنَّ حليلةَ الابنِ حرامٌ على الأب، فهذا معنى قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ ؛ أي تخافُ لاَئِمَتَهُمْ أنْ يقولُوا : أمَرَ رَجُلاً بطَلاَقِ امْرَأتِهِ ثُمَّ نَكَحَهَا. قال ابنُ عبَّاس في هذه الآيةِ :(أرَادَ بالنَّاسِ الْيَهُودَ، خَشِيَ أنْ يَقُولَ الْيَهُودُ : تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأةَ ابْنِهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ ؛ أي هو أوْلَى بأنْ تخشاهُ في كلِّ الأحوالِ.
وعن عليِّ بن الحسنِ : أنْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ :(كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أعْلَمَ نَبيَّهُ عليه السلام أنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أزْوَاجِهِ، وَأنَّ زَيْداً سَيُطَلِّقُهَا، فعلى هذا يكون النبي عليه السلام مُعَاتَباً عَلَى قَوْلِهِ :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ مَعَ عِلْمِهِ بأَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَتَهُ، وَكِتْمَانِهِ مَا أخْبَرَهُ اللهُ بهِ، وَإنَّمَا كَتَمَ النَّبيُّ ﷺ لأَنَّهُ اسْتَحْيَا أنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ : إنَّ زَوْجَتَكَ سَتَكُونُ امْرَأتِي).
وَقِيْلَ :" إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ لَمَّا أرَادَ فِرَاقَهَا، جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنِّي أُريْدُ أنْ أُفَارقَ صَاحِبَتِي، فَقَالَ :" مَا لَكَ ؟ أرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ ؟ " قَالَ : لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأيْتُ مِنْهَا إلاَّ خَيْراً، وَلَكِنَّهَا تَتَعَظَّمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِيْنِي بلِسَانِهَا، فَقَالَ ﷺ :" أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ".
ثُمَّ إنَّ زَيْداً طَلَّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ ﷺ لِزَيْدٍ :" مَا أجِدُ فِي نَفْسِي أحَداً أوْثَقَ مِنْكَ، إذْهَبْ إلَى زَيْنَبَ فَاخْطُبْهَا لِي " قَالَ زَيْدٌ : فَذهَبْتُ فَإذا هِيَ تُخَمِّرُ عَجِيْنَهَا، فَلَمَّا رَأيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْري، حَتَّى لَمْ أسْتَطِعْ أنْ أنْظُرَ إلَيْهَا حِيْنَ عَلِمْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ ذكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَقُلْتُ : يَا زَيْنَبُ أبْشِرِي ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطِبُكِ ؛ فَفَرِحَتْ بذلِكَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَدَخَلَ بهَا، وَمَا أوْلَمَ عَلَى امْرَأةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أوْلَمَ عَلَيْهَا، أطْعَمَ النَّاسَ الْخُبْزَ واللَّحْمَ حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ ".
قرأ الحسنُ وعاصم (وَخَاتَمَ النَّبيِّيْنَ) بفتحِ التاء ؛ أي آخِرَ النَّبيِّينَ، وقرأ الباقونَ بكسرِ التَّاء على الفاعلِ ؛ أي إنه خَتَمَ النَّبيينَ بالنبوَّةِ، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ ؛ أي لَم يَزَلْ عالِماً بكلِّ شيء من أقوالِكم وأفعالِكم.
قَالَ ﷺ :" يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بي شِفَاهُهُ ".
قَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ، قال الكلبيُّ :(أمَّا بُكْرَةً فَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَأمَّا أصِيْلاً فَصََلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ). وقال بعضُهم : أرادَ بذلك صلاةَ الصُّبح وصلاةَ العصرِ على قولِ قتادةَ، وصلاةَ المغرب على قولِ غيرهِ. وخَصَّ طَرَفَي النهار بالذِّكر ؛ لأنه يجتمعُ عندَهُما ملائكةُ اللَّيل والنهار، فيقولون : أتينَاهم وهم يُصَلُّونَ، وتركنَاهُمْ وهم يُصَلُّونَ. وَقِيْلَ : خُصَّ التسبيحُ بطرَفَي النهار ؛ لأن صحيفةَ العبدِ إذا كان في أوَّلِها وآخِرِها ذكرٌ وتسبيحٌ يرجَى أن يُغْفَرَ له ما بين طَرَفَي الصحيفةِ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" مَا جَلَسَ قَوْمٌ قَطُّّ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى، إلاَّ نَادَى مُنَادِي السَّمَاءِ : أنْ قُومُوا فَقَدْ غُفِرَتْ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ، وَبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ " وَقِيْلَ : معنَى قولهِ ﴿ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ أي باللَّيلِ والنهار، وفي البَرِّ والبحرِ، والسَّفر والحضرِ، والغِنَى والفقرِ، والصِّحة والسَّقمِ، والسِّر والعلانيةِ، وعلى كلِّ حالٍ. وقال مجاهدُ :(الْكَثِيْرُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَنَاهَى أبَداً).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ ؛ أي مِن ظُلُمَاتِ المعاصِي والجهلِ ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ ؛ العِلْمِ والطاعةِ، وَقِيْلَ : مِن ظُلماتِ الكُفرِ إلى نور الإيْمانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ ؛ أي لَم يَزَلْ رَحِيْماً بهم إذ رَضِيَ عنهُم وأمَرَ الملائكةَ بالاستغفار لَهم.
وإنَّما سُمِّيَ النبيُّ عليه السلام سِرَاجاً ؛ لأنه بُعِثَ والأرضُ في ظُلْمَةِ الشِّركِ، فكان حين بُعِثَ كالسِّراجِ في الظُّلمة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾ ؛ أرادَ بالفَضْلِ الكبيرِ مغفرةَ الله لَهم، وما أعدَّ لَهم في الجنَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ ؛ أي أعْطُوهُنَّ مُتْعَةَ الطلاقِ، وهذا على سبيلِ الوجُوب فيمَن يدخلُ بها ولَم يُسَمِّ لَها مهراً، وعلى النَّدب في مَن سَمَّى لَها مهراً ثُم طلَّقَها قبلَ الدُّخولِ.
وقال سعيدُ بن المسيَّب :(نُسِخَ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ بقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾[البقرة : ٢٣٧]). وقال الحسنُ :(الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَمُخْتَلَعَةٍ وَمُلْتَعَنَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يُجْيَرُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ ﴾ أرادَ له التسريحُ عن المنْزِلِ لا عن النكاحِ ؛ لأن حقَّ الحبسِ لا يثبتُ إلاّ بأحدِ الأمرين : إما النكاحُ ؛ وإما العدَّةُ، وقد عُدَّ ما جميع في هذا الموضعِ بعددِ الطَّلاق المذكور.
والسَّراحُ الجميلُ : هو الذي لا يكونُ فيه جَفْوَةٌ ولا أذَى ولا منعُ حقٍّ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قولهِ ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ :(أيْ أعْطُوهُنَّ الْمُتْعَةَ، قَالَ : وَهَذا إذا لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقاً، فَأَمَّا إذا فَرَضَ صَدَاقاً فَلَهَا نِصْفٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ ؛ أي وَأبَحْنَا لكَ ما ملكَتْ يَمينُكَ ؛ يعني الْجَوَاري التي يَملِكُها. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ ؛ أي مِمَّا أعطاكَ اللهُ من الغنيمةِ جُوَيْرِيَّةَ بنتِ الحارثِ، وصَفِيَّةَ بنتِ حَييِّ بن أخْطََبَ. ويدخلُ في هذه اللفظةِ الشِّراءُ والتزوُّجُ، كما رُوي في صَفِيَّةَ " أنَّهُ عليه السلام أعْتَقَهَا ثُمَّ تََزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾ ؛ أرادَ به إباحةَ تزويجِ بناتِ عمِّه وبناتِ عمَّاتهِ من بنِي عبدِ المطَّلب، ﴿ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾، وبناتِ خالهِ وبنات خالاتهِ ؛ يعني نساءَ بني زُهرَةَ من بنِي عبدِ منافٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ ؛ أي هَاجَرْنَ معكَ من مكَّة إلى المدينةِ، وهذا إنَّما كان قَبْلَ تَحليلِ غير الْمُهاجِرَاتِ، ثُم نُسِخَ شرطُ الهجرةِ في التحليلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ ؛ بلا مَهرٍ إن أراد النبيُّ أن يتزوَّجَها، ومَن قرأ (وَهَبَتْ) بالفتحِ، فمعناهُ : أحللناهَا أنْ وهَبَت، وهي قراءةُ الحسنِ، فالفتحُ على الماضِي والكسرُ على الاستئنافِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾ ؛ أي إنْ أرادَ النبيُّ أن يتزوَّجَها فلَهُ ذلكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَالِصَةً لَّكَ ﴾ ؛ أي خاصَّةً لكَ، ﴿ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ فليسَ لامرأةٍ أن تَهَبَ نفسَها لرجلٍ بغيرِ شُهودٍ ولا وَلِيٍّ ولا مَهْرٍ إلاّ للنبيِّ ﷺ، وهذا مِن خَصَائِصِهِ في النِّكاحِ، كالتَّخْييرِ والعددِ في النِّساء.
ولو تزوَّجَها بلفظِ الهبة وقََبلَها بشهودٍ ومَهْرٍ انعقدَ النكاحُ ولَزِمَ المهرُ، وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، وقال الشافعيُّ ومالكٌ :(لاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بلَفْظِ الْهِبَةِ إلاَّ للنَّبيَّ ﷺ خَاصَّةً ؛ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ وَلَمْ يَقُلْ لَكَ، لأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، كَانَ يَجُوزُ أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّهُ يَجُوزُ ذلِكَ لِغَيْرِهِ عليه السلام كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾، لأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وحُجَّةُ أبي حنيفةَ وأصحابهِ : إنَّ إضافةَ الهبةِ إلى المرأةِ دليلاً أنَّ النبيَّ لَم يكن مَخْصُوصاً بالنكاحِ بلفظةِ الهبةِ، وإنَّما كانت خُصوصِيَّة في جواز النِّكاح ِ بغير بدلٍ، ولو لَم يكن بلفظِ الهبةِ نكاحاً لِمَا قالَ تَعَالَى ﴿ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾، فلمَّا جعلَ اللهُ الهبةَ جواباً للاسْتِنْكَاحِ، عُلِمَ أنَّ لفظَ الهبة نِكَاحٌ.
وقَوْلُهُ ﴿ خَالِصَةً ﴾ نعتُ مصدرٍ ؛ تقديرهُ : إنْ وَهَبَتْ نفسهَا هبةً خالصةٌ لك بغيرِ عِوَضٍ، أحْلَلْنَا لكَ ذلك مِن دونِ المؤمنين، فأمَّا المؤمنونَ إذا قَبلُوا هذه الهبةَ على وجهِ النِّكاحِ لزِمَهم المهرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾، معناهُ : إنْ أردتَ أن تُؤوي إليك امرأةً ممن عزَلتهُنَّ من القسمةِ وتضمَّها إليه، فلا عتبَ عليك ولا لَوْمَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾، أي ذلك التخييرُ الذي خيَّرتك في صُحبَتهنَّ أدنى إلى رضاهن إذا كان ذلك مُنَزَّلاً مِن الله عليك، ويرضيهنَّ كلُّهن بما أعطيتهن من تقريبٍ وإرجاء وإيواءٍ. قال قتادةُ :(إذا عَلِمْنَ أنَّ هَذا جَاءَ مِنَ اللهِ لِرُخْصَةٍ، كَانَ أطْيَبَ لأَنْفُسِهِنَّ وَأقَلَّ لِحُزْنِهِنَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾، واللهُ يعلَمُ ما في قلوبكم من أمر النساء والميلِ إلى بعضِهنَّ، ويعلمُ ما في قلوبكم من الرِّضا والسُّخط وغيرِ ذلك، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً ﴾، بمصالحِ العباد، ﴿ حَلِيماً ﴾، على جهلِهم ولا يعاقبُهم بكلِّ ذنبٍ.
ومعنى الآية : لا يحلُّ لكَ من النساءِ سوى هؤلاء اللاَّتي اخترنَكَ، ﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾، وليس لكَ أن تُطلِّقَ واحدةً منهن وتَزَوَّج بدَلها. وقولهُ :﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾، يعني ماريَّة القِبطية وغيرها من السَّبايا. وقولهُ تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ﴾، أي حفيظاً. وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها قالت :[مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى حَلَّتْ لَهُ النِّسَاءُ].
فَقَالَ ﷺ :" ارْفَعُواْ طَعَامَكُمْ " فَرَفَعُواْ وَخَرَجَ النَّبيُّ ﷺ وَبَقِيَ أُوْلَئِكَ الْقَوْمُ يَتَحَدَّثُونَ فِي البَيْتِ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ. وَإنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِكَيْ يَخْرُجُواْ، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى جَميعِ بُيُوتِ أزْوَاجِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَإذا الْقَوْمُ جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَ النَّبيُّ ﷺ شَدِيدَ الْحَيَاءِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
قال أنسٌ :" فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب جِئْتُ لأَدْخُلَ كَمَا كُنْتُ، فَقَالَ ﷺ :" وَرَاءَكَ يَا أنسُ " ".
ومعنى الآية :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ ﴾ ﷺ ﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ أي إلا أن يُدعَوا إلى الضيافةِ أو يُؤذن لكم في الدخول، من غير أن يجتنبوا وقتَ الطعام فيستأذنوا في ذلك الوقت، ثم تقعُدوا انتظاراً لبُلوغ الطعامِ ونُضجهِ.
ومعنى :﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ ﴾ أي مُنتظرين نُضجَهُ وإدراكَهُ، يقال أنَى يَأنِي إنَاهُ، إذا حانَ وأدركَ، وكانوا يدخلون بَيتَهُ فيجلسون منتظرين إدراكَ الطعام، فنُهوا عن ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ ﴾، أي فتفرَّقوا، ﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾، ولا تجلسوا مُستَأنِسين لحديثٍ بعدَ أن تأكُلوا، ﴿ إِنَّ ذَالِكُمْ ﴾، إنَّ طُولَ مقامكم بعدُ في منزل النبي عليه السلام، ﴿ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ ﴾، ﷺ، ﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾، أن يأمركم بالخروج، ﴿ وَاللَّهُ ﴾، عَزَّ وَجَلَّ، ﴿ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾، أي لا يمنعه عن بيان ما هو الحقُّ استحياءً منكم، وإن كان رسولهُ يفعل ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾، أي إذا سألتُم أزواجَ النبيِّ ﷺ من متاعِ البيت، فخاطبُوهم من وراء الباب والسَّترِ، قال مقاتلُ :(أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ أنْ لاَ يُكَلِّمُوا نِسَاءَ النَّبيِّ ﷺ إلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). وعن أنسٍ رضي الله عنه قال : قَالَ عُمر :(يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ بالْحِجَاب، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب).
فلمَّا نزلَت آيةُ الحجاب قال الأباءُ والأبناء والأقاربُ : يا رسولَ الله ونحنُ أيضاً نُكلِّمُهنَّ من وراء حجاب ؟ فأنزلَ اللهُ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾، الآية. أي لا حرجَ عليهن في إذنِ آبائهن بالدخول عليهن، ولا في إذن الأبناءِ والإخوان وأبناء الإخوانِ وأبناء الأخوات.
فإن قيلَ : فهلاَّ ذكَر الأعمامَ والأخوال ؟ قيل : إنَّ العمَّ والخالَ يجريان مجرَى الوالدين في الرُّؤية، وكان ذِكرُ الأباء يتضمَّن ثباتَ حُكم الأَعمام والأخوال. وقيل : إنما لم يذكُر الأعمامَ والأخوال لكي لا يدخلَ أبناؤهما، ولا يطمَعا فيهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾، قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(يَعْنِي نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، لاَ نِسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَصِفْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إنْ رَأيْنَهُنَّ). وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾، يعني العبيدَ والإماءَ، قيل : حَمْلُهُ على الإماءِ أوْلَى ؛ لأن الْحُرَّ والعبيدَ يختلفان فيما يُباح لهما من النَّظَر، فلا يجوزُ للبالغين من العبيدِ أن يَنظُروا إلى شيءٍ منهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقِينَ اللَّهَ ﴾، أي واتَّقين اللهَ أن يرَاكُنَّ غيرُ هؤلاء، وقيل : اتَّقين اللهَ في الإذنِ لغير المحارمِ في الدخول عليكن، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾، من أعمال العباد، ﴿ شَهِيداً ﴾، لم يغب عنه شيء.
وقيل : معنى قوله :﴿ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ ﴾ أي يُثْنُونَ ويترحَّمون ويَدْعُون له. وقال مقاتلُ :(أمَّا صَلاَةُ اللهِ فَالْمَغْفِرَةُ، وَأمَّا صَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ فَالاسْتِغْفَارُ لَهُ). وقولهُ تعالى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾، أي قولوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، تَعظِيماً وإجْلاَلاً وتَفضِيلاً.
وعن كعب بن عُجرة قال : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قِيلَ :" يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ :" قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَاركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيدٌ " ".
وعن عبدِالله بن مَسعُود أنه قال :(إذا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبيِّ ﷺ فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. قَالُواْ : فَعَلِّمْنَا ذلِكَ. قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ. اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً يَغْبطُهُ فِيهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾، يجوزُ أن يكون معناه : واخْضَعُوا لأمرهِ خُضوعاً، ويجوز أن يكون معناه : الدُّعاء بالسلامِ، يقول : السَّلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ. وعن الحسنِ قال :" سُئِلَ النَّبيُّ ﷺ فَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ عَرَفْنَا السَّلاَمَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ :" قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " والأفضلُ في هذا الباب أن تصَلِّي على مُحَمَّد وعلى آلهِ، فتقولَ : اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحََمَّد. فإنْ اقتُصِرَ على أحدهما جازَ.
واختلفوا في كيفيَّة وجُوب الصلاةِ على النبي ﷺ، فقال بعضُهم : تجبُ في العُمرِ مرَّة واحدةً بمنزلة الشهادَتين، وإلى هذا ذهبَ الكرخيُّ قالَ :(إذا صَلَّى عَلَيْهِ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أدَّى فَرْضَهُ، إلاَّ أنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ فِي الدِّينِ عَلَيْنَا، كَمَا يَلْزَمُ الْمَرْءَ الدُّعَاءُ لأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنِيْنِ لِيَقْضِيَ بذلِكَ الدُّعَاءِ حَقَّهُمَا عَلَيْهِ).
وقال بعضُهم : تجبُ عليه في كلِّ مجلسٍ مرَّة بمنزلة سَجدَةِ التِّلاوة. وقال الطحَّاويُّ :(تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبيِّ ﷺ كُلِّمَا ذُكِرَ) واستدلَّ بما رُوي أنَّ جبريلَ عليه السلام قالَ للنبيِّ ﷺ :" مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصََلِّ عَلَيْكَ فَلاَ غَفَرَ اللهُ لَهُ " وقال الشافعيُّ رضي الله عنه :(الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي كُلِّ صَلاَةٍ) وهذا قولٌ لم يقُل به أحدٌ غيرهُ.
ومعنى يُؤذون اللهَ، أي يُخالفون أمرَ اللهِ ويعصونه ويصفونَهُ بما هو مُنَزَّهٌ عنه، والله تعالى لا يلحقهُ أذَى. وقوله تعالى :﴿ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾ أي باعدَهم اللهُ يعني بالقتلِ والجلاء في الدُّنيا والعذاب بالنار في الآخرة، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾، أي ذي هوانٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾، أي فقد قَالُوا كَذِباً وجَنَوا على أنفُسهم وزْراً وعقوبةً.
قال المفسِّرون : يُغطِّين رؤُوسَهن ووجوههن إلا عَيناً واحدة. وظاهرُ الآية يقتضي أنْ يكُنَّ مأمورات بالسَّتر التام عند الخروجِ إلى الطُّرق، فعليهن أن يَستَتِرْنَ إلا بمقدار ما يعرفنَ به الطريق.
وقولهُ تعالى :﴿ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، معناه : ذلك أقربُ أنْ يعرِفن الحرائرَ من الإماءِ فلا يؤذِي الحرائر ؛ لأن الناسَ كانوا يومئذٍ يُمازحون الإماءَ ولا يمازحون الحرائرَ، وكان المنافقون يمازحون الحرائرَ، فإذا قيلَ لهم في ذلك، قالوا : حسِبنا أنَّهن إماءٌ. فأمرَ اللهُ الحرائرَ بهذا النوعِ من السَّتر قطعاً لأعذار المنافقين.
وعن عُمر رضي الله عنه : أنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الإمَاءَ وَيَقُولُ :(اكْشِفْنَ رُؤُوسَكُنَّ وَلاَ تتَشَبَّهْنَ بالْحَرَائِرِ). ومرَّت جاريةٌ بعُمر رضي الله عنه متقنِّعة، فعَلاَها بالدرَّة وقال :(يَا لُكَاعُ، أتَتَشَبَّهِينَ بالْحَرَائِرِ، ألْقِي الْقِنَاعَ).
ويقالُ في معنى ذلك :﴿ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ ﴾ أي أقربُ إلى أن يُعرفن بالسَّتر والصلاح ؛ فيَيئَسَ منهن فُسَّاق الرِّجال، فلا يطمَعُون فيهن كطمَعِهم فيمن تتبرَّج وتتكشَّف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّلْعُونِينَ ﴾ نصبٌ على الحالِ، وقيل : على الذمِّ، وتقديرُ النصب على الحالِ : لا يُجاورونك إلا وهم مَلعُونون مطرودون مخذولون.
وقولهُ تعالى :﴿ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾، أي أُخذوا وقُتلوا مرَّة بعد مرَّة ؛ لأنه إذا ظهرَ أمرُ المنافقين كانوا بمنزِلة الكفَّار، ومن حقِّ الكفار أن يُقتلوا حيث يوجدون. قال قتادة :(أرَادَ الْمُنَافِقُونَ أنْ يُظْهِرُوا مَا فِي قُلُوبهم مِنَ النِّفَاقِ، فَلَمَّا وَعَدَهُمُ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَكَتَمُوهُ).
قال الزجَّاجُ :(سَنَّ اللهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الأَنْبيَاءَ وَيُرْجِفُونَ بهِمْ أنْ يُقْتَلُوا حَيْثُمَا ثُقِفُوا) ولا يبدِّلُ الله سُنَّتَهُ فيهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾، أي هكذا سُنة الله فيهم إذا أظهَرُوا النفاقَ.
وما بعدَ هذه الآية :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾، ظاهرُ المعنى.
وقرأ أبو جعفر :(تَقَلَّبُ) بفتح التاء بمعنى تَتَقَلَّب. وقرأ عيسى بن عمر :(نُقَلِّبُ) بالنون وكسرِ اللام (وُجُوهَهُمْ) بالنصب. وقولهُ تعالى :﴿ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴾، في الدُّنيا.
حدثنا مُحَمَّد بن الحسن العسقلاني، قال :" سمعتُ مُحَمَّدَ بن السري يقولُ : رأيتُ في المنام كأنِّي في مسجدِ عَسقلان ؛ وكأنَّ رجُلاً يُناظِرُني ويقول :(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبيرًا) وأنا أقولُ :(كَثِيراً). وإذا بالنبيِّ ﷺ فدخلَ علينا بالمسجدَ، وكان في وسطِ المسجد منارةً لها بابٌ، وكان النبيُّ ﷺ يقصدُها.
فقلتُ : هذا النبيُّ ﷺ فقلتُ : السلامُ عليكَ يا رسولَ الله استَغفِرْ لي. فأمسكَ عنِّي، فجِئتهُ عن يمينهِ فقلتُ : يا رسولَ الله استغفِرْ لي، فأعرضَ عني، فقمتُ من تلقاءِ صدره، حدَّثَنا سُفيان بن عُيينة عن مُحَمَّد بن المنكدر وعن جابرِ بن عبدالله :" أنَّكَ مَا سُئِلْتَ شَيْئاً قَطْ فَقُلْتُ لاَ " فتبسَّم عليه السلام وقال :" اللَّهم اغفِرْ له ". فقلتُ : يا رسولَ الله إني وهذا نتكلَّمُ في قولهِ تعالى :(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَثِيرًا)، فأنا أقولُ :(كَثِيراً) وهذا يقولُ :(كَبيراً)، قال : فدخلَ النبيُّ المنارةَ وهو يقولُ : كَثيراً، كَثِيراً، بالثاءِ إلى أن غابَ عني صوتهُ ".
واختلفوا في العيب الذي أضافَهُ بنوا إسرائيلَ إلى موسى، قال بعضُهم : كان هارونُ أحبَّ إلى بني إسرائيلَ من موسى لزيادةِ رفقه بهم، فلما ماتَ هارونُ في حالِ غيبتهما عنهم، قالوا : إنَّ موسى قتلَهُ لتخلصَ له النُّبوة، فأحياهُ الله تعالى حتى كذبَهم.
وقال بعضُهم : كان أذاهُم له أنهم رَمَوه بالأَدَرَةِ لكثرةِ حيائه واستتارهِ عن الناس، وكانت بنوا إسرائيلَ عُراةً ينظرُ بعضهم إلى سَوءَةِ بعضٍ، وكان موسى يغتسلُ وحدَهُ، فقالوا : واللهِ ما يمنعُ موسَى أن يغتسلَ معنا إلا أنه آدَرَ.
قال : فذهبَ يغتسلُ مرَّة، فوضعَ ثوبَهُ على حجرٍ، فذهبَ الحجرُ بثوبهِ، فخرجَ موسى من الماءِ في إثْرِ الحجرِ، يقول : ثَوبي يا حجرُ، حتى نظَرت بنوا إسرائيل إلى سَوأتهِ عليه السلام، فقالوا : واللهِ ما به من بأسٍ. فقامَ الحجرُ بعدما نظروا إليه وأخذ ثوبه، فطَفِقَ بالحجرِ ضَرباً. قال أبو هُريرة :" وَاللهِ إنَّ بالْحَجَرِ نُدَبٌ سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ مِنْ ضَرْب مُوسَى " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ﴾ أي حَظِيّاً لا يسألهُ شيئاً إلا أعطاهُ.
ومعنى قولهِ :﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾ أي مخافةً وخِشيَةً لا معصيةً ولا مخالفة، والعرضُ كان تَخييراً لا إلزاماً، قولهُ :﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ أي خِفْنَ من الأمانةِ أن لا توفِّيها، فيلحقهُنَّ العقابُ، فأَبَوا ذلك تَعظيماً لدِين الله وخَوفاً أن لا يقوموا به، وقالوا : نحنُ مسخَّرات لأمرِكَ لا نريدُ ثَواباً ولا عقاباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾، يعني : وحَملَها آدمُ عليه السلام قال الله له : يا آدمُ إني عرضتُ الأمانةَ على السَّموات والأرض والجبالَ فأبَين أن يحمِلنَها ولم يُطِقْنَها، فهل أنتَ آخذُها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال : إنْ أحسنتَ جُزِيتَ، وإنْ أسأتَ عُوقِبْتَ. فتحمَّلها آدمُ، وقال : حَمَلتُها بين أذُنَيَّ وعاتِقي.
قال ابنُ عباس :(عَرَضَ اللهُ عَلَى آدَمَ أدَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَأدَاءَ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحِلِّهَا، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحِجِّ الْبَيْتِ، عَلَى أنَّ لَهُ الثَّوَابَ وَعَلَيْهِ الْعِقَابَ، فَقَالَ : بَيْنَ أُذُنَيَّ وَعَاتِقِي).
وقال مقاتل :(قَالَ اللهُ تَعَالَى لآدَمَ : أتَحْمِلُ هَذِهِ الأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا ؟ فَقَالَ آدَمُ : وَمَا لِي عِنْدَكَ ؟ قَالَ : إنْ أحْسَنْتَ وَأطَعْتَ وَرَعَيْتَ الأَمَانَةَ، فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَحُسْنُ الثَّوَاب فِي الْجَنَّةِ، وَإنْ عَصَيْتَ وَأَسَأْتَ مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ. قَالَ : قَدْ رَضِيتُ يَا رَب، وَتَحَمَّلَهَا. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ حَمَّلْتُكَهَا. فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾.
قال الكلبيُّ :(ظُلْمُهُ حَيْثُ عَصَى رَبَّهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَجَهْلُهُ حَيْثُ تَحْمَّلَهَا). وقال مقاتلُ :(ظَلُوماً لِنَفْسِهِ، جَهُولاً بعَاقِبَةِ مَا حُمِّلَ). وقال مجاهدُ :(لَمَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ، عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقْبَلْهَا فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ : قَدْ تَحَمَّلْتُهَا يَا رَب. قال مجاهدُ : فَمَا كَانَ بَيْنَ أنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أنْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ إلاَّ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ).
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال :(إنَّ اللهَ قَالَ لآدَمَ : إنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا، فَهَلْ أنْتَ حَامِلُهَا بمَا فِيهَا ؟ قَالَ : يَا رَب وَمَا فِيهَا ؟ قَالَ : إنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ، وَإنْ ضَيَّعْتَهَا عُوقِبْتَ، قَالَ : قَدْ تَحَمَّلْتُهَا.
قَوْلهُ تَعَالَى :﴿ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، لأنَّهم أدَّوا الأمانةَ، وهي الفرائضُ. وقيل : معنى الآية : إنَّا عرَضنا الأمانةَ ليَظهَرَ نِفاقُ المنافقِ، وشِرْكُ المشركِ فيعذِّبُهم اللهُ، ويُظهِرَ إيمانَ المؤمنين فيتوبَ اللهُ عليهم بالمغفرةِ والرَّحمة إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات، وكذلك ذكرَ بلفظِ التوبة، فدلَّ على أن المؤمنَ العاصي خارجٌ من العذاب، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ﴾، للمؤمنين إذا تَابُوا، ﴿ رَّحِيماً ﴾، بمن ماتَ على التوبةِ.