تفسير سورة الصافات

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٣٧- سورة الصافات
سميت بها لاشتمال الآية التي هي فيها على صفات للملائكة تنفي إلهية الملائكة من الجهات الموهمة لها فيهم. فينتفي بذلك إلهية ما دونهم، فيدل على توحيد الله، وهو من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ.
وهي مكية اتفاقا، وآيها مائة واثنان وثمانون. روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمّنا بالصافات ).
قال ابن كثير : تفرد به النسائي.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارا لعظم شأنها وكبر فوائدها. وتنبيها إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها. و (الصافات) جمع صافة، أي طائفة صافة، أو جماعة صافة. فيكون في المعنى جمع الجمع. أو على تأنيث مفردة باعتبار أنه ذات ونفس، والمراد بالصفات الملائكة. لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك. من قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: ١٦٥]، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعالى. وفَالزَّاجِراتِ أي: الناس عن المعاصي، بإلهام الخير. من (الزجر) بمعنى المنع والنهي. أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به. من (الزجر) بمعنى السوق والحث.
و (التاليات) أي: آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: ٤١]، و (الزاجرات)، كل ما زجر عن معاصي الله. و (التاليات) كل من تلا كتاب الله. أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه.
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد والزاجرون الخيل أو العدوّ، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدوّ. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه.
وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإيثار الفاء على (الواو) لقصد الترتيب والتفاضل طردا أو عكسا. أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. و (صفا) و (زجرا) مصدر مؤكد. وكذا (ذكرا) ويجوز فيه كونه مفعولا به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: ١- ٢]، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع
الواو. والمعنى واحد. إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ الجواب للقسم. وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٥]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وحدته. أي مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيّها ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقا. تشرق كل يوم من مشرق منها. وبحسبها تختلف المغارب، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما.
أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٦]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي الجهة العليا القربى من كرة الأرض بِزِينَةٍ أي عجيبة بديعة الْكَواكِبِ بالجر، بدل من (زينة). وقرئ بالإضافة، على أنها بيانية، أو على معنى ما زينت هي به، وهو ضوؤها، والمراد التزيين في رأي العين. فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٧]
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي خارج عن الطاعة، يقذفه بشهبها، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها وحِفْظاً إما منصوب بإضمار فعله. أي حفظناها حفظا، أو بعطفه على بِزِينَةٍ من حيث المعنى. أي خلقنا الكواكب
للسماء زينة وحفظا. أو على المفعول لأجله بزيادة الواو. والعامل فيه زَيَّنَّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨)
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله (يتسمعون) أي يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان. لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة إلخ. أو هي علة للحفظ. أي لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم (أن) وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦]، أي لئلا تضلوا، وقد يقال:
إنما ينكر حذف شيئين فيما يخلّ بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر، ومرجعه إلى تحليل معنى. لا يأباه اللفظ- فلا وجه للتعصب في رده، لمجرد أن الكوفيين، مثلا، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد وتحكيمها وَيُقْذَفُونَ أي يرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي من جميع جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٩]
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
دُحُوراً أي للدحور وهو الطرد وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي شديد غير منقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠]
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي اختلس الكلمة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أي لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء ثاقِبٌ أي مضيء. كأنه يثقب الجوّ بضوئه.
تنبيه:
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء. فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم
202
أنهم يعلمون الغيب. فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب.
فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه. ولهذا قال جلّ جلاله لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي: لئلا يصلوا إلى الملإ الأعلى، وهي السموات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره. كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى:
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ، قالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣]، انتهى.
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفّه الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤]، في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات والدواب بأرواح، منها الصالح (الملك) ومنها الطالح (الشيطان) وكذلك أرضنا هذه. فيها من الملائكة ومن الشياطين مالا نبصره إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ
[الأعراف: ٢٧]. ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها. كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم. فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه. على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض، لا نبصرها ولا نشعر بها. وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقضّ عليها، قبل أن تخرج من جوّ الأرض، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها. حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى. وهذه الشهب التي تنقضّ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة. وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة. التهبت فيما بعد لشدة شرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جوّنا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحد بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضا (مثال ذلك عنصر الصوديم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من
203
الماء فيحلله) ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له. ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينّا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر: ٢٧] والمراد (بالسماء الدنيا) في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا. أي هذا الجوّ الذي نشاهده وفيه العوالم كلها.
أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ (السماء) له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السموّ. وتفسّر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن حق، لا يوجد في العلم الطبيعيّ ما يكذبها. لأنه وحي الله حقا، والحق لا يناقضه الحق سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: ٥٣].
وقال أيضا: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب.
ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن. ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم.
(قال) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اه كلامه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: ٥]، وقوله عز وجل:
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر: ١٦- ١٨]، وقوله سبحانه إخبارا عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: ٨- ٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
فَاسْتَفْتِهِمْ أي فاستخبر مشركي مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى خلقة
وأمتن بنية أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي من السموات والأرض والجبال. كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [النازعات: ٢٧] الآية، وقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧]، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا. كشأن البعث وغيره.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج ضعيف لا قوة فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٢]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)
بَلْ عَجِبْتَ أي من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه وَيَسْخَرُونَ أي من تقرير أمر البعث والاحتجاج عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٣]
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣)
وَإِذا ذُكِّرُوا أي بما يؤيده، أو وعظوا وخوفوا من المخالفة لا يَذْكُرُونَ أي ما يقتضيه؟ لتعنتهم وعنادهم. أو لا يخافون ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي برهانا واحتجاجا على مصداقه، من آيات الكائنات في أنفسهم أو في الآفاق يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في السخرية، بدل الاعتبار والتدبر والتفكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
وَقالُوا إِنْ هذا أي ادعاء ما ذكر، والاستدلال عليه والصدع بشأنه، والقراع فيه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦ الى ١٨]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ أي تبكيتا لهم.
نَعَمْ أي تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي ذليلون، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٩]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
فَإِنَّما هِيَ أي البعثة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي قيام من مراقدهم أحياء، أولو قوة مدركة، بها يبصرون. أو ينتظرون ما يفعل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٢٠]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي الجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أنفسهم بالكفر والمعاصي والسعي بالفساد وَأَزْواجَهُمْ أي وأشباههم من الفجرة. أو نساءهم الكافرات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٢٣]
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي فعرفوهم طريقها ليسلكوها. والتعبير ب (الهداية) و (الصراط) للتهكم بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٢٤]
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي عن عقائدهم وأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٢٥]
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، وقد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى، وهو توبيخ لهم وتقريع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٢٦]
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي منقادون مخذولون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي عن القهر والغلبة. أي كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه. كما في آية وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [سبأ: ٣٣]، وقيل عن الحلف والقسم. وقيل عن جهة الخير وناحية الحق.
من (اليمن) ضد الشؤم. أي توهمونا وتخدعونا أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز فأين مصداقه وقد نزل ما نزل؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي عن الاستجابة للداعي إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٣٦]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون. فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٣٧]
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي الذين هم أعقل الأمم وأحكم الحكماء.
فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
إِنَّكُمْ أي بافترائكم لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي في الصف مترائين، لا يحجب بعضهم عن بعض، ولا يتفاضلون في المقاعد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٤٥]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي شراب معين، جار كالنهر لا ينقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي ما يغتال العقل، ولا فساد من فساد خمر الدنيا وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي تذهب عقولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي على أزواجهن أو مبيضّاته تشبيها بالثوب المقصور، وهو المحوّر. عِينٌ أي كبار الأعين كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي بيض نعام في الصفاء، مستور لم يركب عليه غبار.
قال الشهاب: وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها. وخصت ببيض النعام، لصفائه وكونه أحسن منظرا من سائره. ولأنها تبيض في الفلاة وتبعد ببيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء (بيضات الخدور) ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان، كما في الدرّ. وهو لون محمود جدا. إذ البياض الصرف غير محمود. وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال، وصفرة في النساء. انتهى.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون (اللؤلؤ).
ثم قال: والعرب تقول لكل مصون (مكنون) لؤلؤا كان أو غيره. كما قال أبو دهبل:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٥٠]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على (يطاف) والمعنى، يشربون فيتحادثون على الشراب، كعادة أهل الشرب، عما جرى لهم وعليهم.
وقال القاشانيّ: أي يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب، كما ذكر في وصف أهل الأعراف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي في المحادثة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي جليس في الدنيا
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمبعوثون فمجزيّون. أي يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب. والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده. كما أشار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٥٤]
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
قالَ أي ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي إلى أهل النار من كوى الجنة ومطالّها، لأريكم ذلك القرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني بالإغواء وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي بالهداية واللطف بي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي معك في النار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ من تتمة كلامه لقرينه، تقريعا له. أو معاودة إلى محادثة جلسائه، تحدثا بنعمة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثله، فليجدّ المجدّون.
ولما وصف ملاذّ أهل الجنة، تأثره بمطاعم أهل النار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٦٢]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وهي شجرة كريهة المنظر والطعم، كما ستذكر صفتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً أي محنة وعذابا لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها أي حملها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين، فهي قبيحة الأصل والثمر والمنظر والملمس. قال الزمخشريّ:
وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر. لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة (كأنه وجه شيطان) (كأنه رأس شيطان) وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر وأهوله. كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه. فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: ٣١]، وهذا تشبيه تخييليّ. انتهى. أي لأمر مركوز في الخيال.
وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج. بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال. ألا ترى امرأ القيس- وهو ملك الشعراء- يقول:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهو لم ير الغول. والغول نوع من الشياطين، لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة، وإن كان قابلا للتشكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٦٦]
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي لغلبة الجوع أو الإكراه على أكلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٦٧]
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي لشرابا كالصديد أو الغساق، ممزوجا من ماء متناه في الحرارة، يقطع أمعاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٦٨]
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مصيرهم لَإِلَى الْجَحِيمِ أي إلى دركاتها. أو إلى نفسها لا مفر لهم منها ولا محيص كيفما تحولوا. قال ابن كثير: أي ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج. فتارة في هذا وتارة في هذا. كما قال تعالى:
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية. وهو تفسير حسن قويّ. انتهى.
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية، ما قاله القاشانيّ. وعبارته: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوّه والخبث بالتنفر رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي تنشأ منها الدواعي المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة. فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشر والمفسدة، فكانت رؤوس الشياطين فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها يستمدون منها ويتغذون ويتقوّون، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ الأهواء الطبيعية والمنى السيئة الرديئة، ومحبات الأمور السفلية، وقصور الشرور الموبقة، التي تكسر بعض غلة الأشرار ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ لغلبة الحرص والشره، بالشهوة والحقد والبغض والطمع وأمثالها. واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.
انتهى.
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة. لأنها لا تنحصر في الحقيقة، ولا يقال إنها المرادة هنا، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. و (الإهراع) الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على
الإسراع على آثارهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل. قال الرازيّ: ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد، لكفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أنبياء حذروهم العواقب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٧٣]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي الذين أنذروا وخوّفوا. فقد أهلكوا جميعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٧٤]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصوا دينهم لله. أو الذين أخلصهم تعالى لدينه. على القراءتين. أي فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم. ثم أشار تعالى إلى أنبائهم، تثبيتا لفؤاده صلوات الله عليه. وتبشيرا لأتباعه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي بقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦]، فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي نحن بهلاك قومه. لأنه لا يجيب المضطر غيره.
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الغرق والطوفان. والمراد بأهله، من آمن معه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي في الأرض بعد هلاك قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسنا، فمفعول (تركنا) محذوف، أو ما حكاه تعالى بقوله سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة. أي أن يقولوا هذه الجملة. قال السمين: قوله سَلامٌ عَلى نُوحٍ مبتدأ وخبر. وفيه أوجه: أحدها أنه مفسر ل (تركنا) والثاني أنه مفسر لمفعوله. أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام. أو ثمّ قول مقدر. أي فقلنا سلام. أو ضمن (تركنا) معنى (قلنا) أو سلط (تركنا) على ما بعده. وقرئ (سلاما) وهو مفعول به ل (تركنا).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٠]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما أثيب به من التكرمة، بأنه مجازاة له على إحسانه، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله، والدعوة إلى الحق ليلا ونهارا، سرّا وجهارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨١]
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين، وتعليل إحسانه بالإيمان، إظهار لفضل الإيمان ومزيته. حيث مدح من هو من كبار الرسل به. فالمقصود بالصفة مدحها نفسها، لا مدح موصوفها. وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد، ومركز لدائرته، ومسك خاتمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٢]
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي من كفار قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٣]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي ممن شايعه وتابعه في الإيمان والدعوة القوية إلى التوحيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٤]
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب، باق على الفطرة، سليم عن النقائص والآفات، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ، منكر على من غيّر وبدّل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٥]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ أي من دون الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٦]
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦)
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون بطريق الكذب، آلهة دون الله؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٧]
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي بمن هو الحقيق بالعبادة، لكونه ربّا للعالمين، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره، والمعنى: لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى: فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كلّ، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٨]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجّمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٨٩]
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيّدكم. ترخص عليه السلام بذلك. ليتخلص من شهود زورهم ومنكراتهم وأفانين شركهم، مما تجوزه المصلحة. أو عنى أنه سقيم القلب. تشبيها لغمه وحزنه بالمرض، على طريق التشبيه. أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض. فهو استعارة أو مجاز مرسل.
قال الزمخشري: والذي قاله إبراهيم عليه السلام، معراض من الكلام. ولقد نوى به ان من في عنقه الموت، سقيم. ومنه المثل (كفى بالسلامة داء) وقول لبيد:
فدعوت ربّي بالسلامة جاهدا ليصحّني، فإذا السلامة داء
ومات رجل فجأة، فالتفّ عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح. فقال أعرابيّ:
أصحيح من الموت في عنقه؟ انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٩٠]
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي إلى معيّدهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٩١]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إليها في خفية فَقالَ أي للأصنام استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٢ الى ٩٦]
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ أي بإيجاب ولا سلب فَراغَ عَلَيْهِمْ أي هجم عليهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي التي هي أقوى الباطشتين، فكسرها. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم بعد ما رجعوا يَزِفُّونَ أي يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه. فأخذ عليه السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي من الأصنام وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال، المختلفة المقادير. ولما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
قالُوا ابْنُوا لَهُ أي لإحراقه بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي الأذلّين بإبطال كيدهم. جعل النار عليه بردا وسلاما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ٩٩]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة، هاجر. فلأن يجب على غيره. بالأولى.
وقوله: سَيَهْدِينِ أي إلى ما فيه صلاح ديني، أو إلى مقصدي. وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى. إذ تكفل بهدايته. أو لأن من كان مع الله كان الله معه «١» (احفظ الله يحفظك).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.
(١) أخرجه الترمذي في: القيامة، ٥٩- باب حدثنا بشر بن هلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠٢]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي السنّ الذي يقدر فيه على السعي والعلم قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى أي: إني أمرت في المنام بذبحك- ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة- فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، أي يأمرك الله به. فإن كان ذاك أمرا من لدنه فأمضه. قال القاضي: ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به. أو علم أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ثم قال: ولعل الأمر في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص. انتهى.
قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم. وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية. ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا. وقوله:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي على الذبح، أو على قضاء الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠٣]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء، واستلّ إبراهيم السكين، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. و (تله) أصل معناه: رماه على التلّ، وهو التراب المجتمع. ك (تربه). ثم عم لكل صرع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه وكمال الطاعة في هذا الشاقّ. وأوتيت
أجر الامتثال والصبر والثبات. وفي جواب (لما) ثلاثة أوجه، أظهرها أنه محذوف.
أي نادته الملائكة. أو ظهر صبرهما. أو أجزلنا لهما أجرهما، الثاني في أنه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ بزيادة (الواو) وهو رأي الكوفيين والأخفش. الثالث أنه وَنادَيْناهُ والواو زائدة أيضا. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي باللطف والعناية والنداء والوحي والفرج بعد الشدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠٦]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختيار البيّن الذي يتميز فيه المخلص من غيره. إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاء وامتحانا لإبراهيم في صدق الخلة لله، وتضحية أعز عزيز لديه، وأحب محبوب عنده، لأمر ربه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠٧]
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي رزقناه ما يذبح بدلا عنه وفداء له، منة وتطولا. وقد روي أنه عليه السلام لما نودي، حانت منه التفاتة إلى ما حوله، فأبصر كبشا قد انتشب قرناه في شجرة. فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٨ الى ١١٣]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي مثل ما تركنا على نوح. كما تقدم بيانه وإعرابه كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم وَعَلى إِسْحاقَ أي: بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم، وجعلهم ملوكا، وإيتائهم ما لم يؤت أحد وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي في علمه وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بالكفر والمعاصي مُبِينٌ أي ظاهر الظلم.
219
تنبيهات:
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصحّ سندها ولا متنها: بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّي وكعب. والسّدّي حاله معلوم في ضعف مروياته. وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما: فربما استمع له عمر. فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.
ولقد صدق رحمه الله. ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروريّ له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به. وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا. ولما صنفت مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار. وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه. وأمثل ما
روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد «١» عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة. فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض. فقال له: يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول. واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٩٧. والحديث رقم ٧ ر ٢٧. [.....]
220
ثم قال السيوطيّ: فسّر الذّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء. أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع- يذكر كثير الخلاف في الذبيح، قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) :
وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره). وفي لفظ (وحيده) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. لأنهم تناقض قوله (بكرك) (وحيدك) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: ٧٠- ٧١]، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة. فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به. لأن البشارة قول مخصوص: وهي أول خبر سارّ صادق. وقوله: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولا، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول. كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة. ثم يضعف الجر
221
أمر آخر، وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور: كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: ١٠٣- ١١١]، ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢]، فهذا بشارة من الله له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته. أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيّا. ولهذا ينصب نَبِيًّا على الحال المقدر أي مقدرا نبوته. فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر. كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل. وكان النحر بمكة، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا. ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
[الذاريات:
٢٤- ٢٥] إلى أن قال قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: ٢٨]، وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته وهي المبشرة به. وأما إسماعيل فمن السرية. وأيضا فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا
222
يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة. إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختيار. إنما حصل عند أول مولود.
ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة. فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها. فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة. وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: ٥]، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: ٢١]، انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بقوله تعالى بعد وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الصافات: ١١٢]، من قال إن الذبيح إسماعيل. وهو الذي رجحه جماعة. واحتجوا له بأدلة. منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده. والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق. وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين. مرة في قوله تعالى: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي
223
أَذْبَحُكَ
[الصافات: ٩٩- ١٠٢]، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: ٧١] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق. ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز. وإنه شيخ. وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين. أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق صريحا. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١٤]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي بالنبوة والرسالة، والاصطفاء على عالمي زمانهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١٥]
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو قهر فرعون لهم، بذبح الأولاد ونهاية الاستعباد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١٦]
وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦)
وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي مع ضعفهم وقوة فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١٧]
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات، والآداب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١١٨]
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل
رعايته والسلوك عليه، إلى السعادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٩ الى ١٢٣]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان. أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى، ونبذوا أحكام التوراة ظهريا. فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد، ويسمى في التوراة (إيليا) وله نبأ فيها كبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٢٤]
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي عذاب الله ونقمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٢٥]
أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة، يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة. ويقدمون لهم ضحايا بشرية وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي تتركون عبادته. قال القاضي: وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار، المعني بالهمزة. ثم صرح به بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين آمنوا به واتبعوه وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ب (ياسين). وقرئ آل ياسين بإضافة آل (بمعنى أهل) إليه. وكله من التصرف في العلم الأصلي، الذي هو (إيليا) على قاعدة العرب في الأعلام العجمية، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال، وتخففها على الألسنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي للدعاء إلى الله والنهي عن الفواحش إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أي من عذاب قومه المنذرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٣٥]
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥)
إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم، كانت فِي الْغابِرِينَ أي في حكم الباقين في العذاب، لكونها على دين قومها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٣٦]
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦)
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أي أهلكنا الْآخَرِينَ
بجعل قريتهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٩]
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩)
وَإِنَّكُمْ
أي يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ
أي فترون دائما علامات مؤاخذتهم أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أي إلى أهل نينوى للتوحيد، والزجر عن ارتكاب المآثم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٠]
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)
إِذْ أَبَقَ
أي: بغير إذن ربه عن قومه المرسل إليهم إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أي السفينة المملوءة، ليركب منها إلى بلد آخر. روي أنه نزل من يافا وركب الفلك إلى ترسيس. فهبت ريح شديدة كادت تغرقهم. فاقترعوا ليعلموا بسبب من، أصابهم هذا البلاء. فوقعت على يونس. فألقوه في البحر. وهو معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤١]
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
فَساهَمَ
أي قارع فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي المغلوبين بالقرعة. وأصله الزلق عن الظفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٢]
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٣]
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي الذاكرين الله بالتسبيح والإنابة والتوبة، في بطن الحوت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٤]
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي لكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة. أي لكن رحمناه بتسبيحه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٥]
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط وَهُوَ سَقِيمٌ أي مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٦]
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي لتقيه من الذباب والشمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٧]
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
وَأَرْسَلْناهُ أي بعد ذلك، بأن أمرناه ثانية بالذهاب إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وهم قومه المرسل إليهم، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولا. و (أو) للإضراب. أو بمعنى الواو أو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر. أي إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٨]
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
فَآمَنُوا أي فسار إليهم ودعاهم إلى الله، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر والغي والضلال والفساد والإفساد. فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني والمقام الأمين، ببركة الإيمان والعمل الصالح. وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إلخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤٩]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)
فَاسْتَفْتِهِمْ أي قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ
أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها. جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، في قولهم (الملائكة بنات الله) مع كراهتهم الشديدة لهنّ، ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٠]
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون، حتى فاهوا بتلك العظيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥١ الى ١٥٢]
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي صدر منه الولد. مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في مقالتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٣]
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
أَصْطَفَى الْبَناتِ أي اختار الإناث عَلَى الْبَنِينَ أي الذكور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٤]
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤)
ما لَكُمْ أي: أيّ شيء عرض لعقولكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى، وتخيّركم الكامل.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: قال قلت: أَصْطَفَى الْبَناتِ بفتح الهمزة، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟
قلت: جعله من كلام الكفرة، بدلا عن قولهم وَلَدَ اللَّهُ وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما. وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة.
والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها. وذلك قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٥]
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أنه منزه عن ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٦]
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي حجة واضحة وبرهان قاطع. ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقليا، لاستحالته عند الفعل. فغايته أن يكون مأثورا عن أسفار مقدسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٧]
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
أي المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
أي في دعواكم. وهذا كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: ٣٥]، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين. وأنها بدونه لا يقام لها وزن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٨]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي قربا منه. قال مجاهد: قال المشركون:
الملائكة بنات الله تعالى. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن. وكذا قال قتادة وابن زيد. ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما. عدا عن استحالة ذلك عقلا، بقوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي المنسوب إليهم هذا النسب إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في النار يوم القيامة. لكون الجنة كالجن، علما في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين. أي: فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير، لا من عالم الأرواح الطاهرة، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون؟ وفسر بعضهم (الجنة) بالملائكة المحدّث عنها قبل. والضمير في (إنهم) للكفرة. ولعل ما ذكرناه أولى، لخلوّه عن تشتيت الضمائر، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة.
وذلك فيما عدا الملائكة. وقلنا (الأغلب) لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة.
قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام:
وسخّر من جنّ الملائك تسعة قياما لديه يعملون محاربا
وقال الراغب: الجن يقال على وجهين: أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس. فعلى هذا تدخل فيه الملائكة. وقيل: بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة: أخيار وهم الملائكة. وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجن، ويدل على ذلك قوله تعالى:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ١] إلى قوله تعالى: وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الجن: ١٤]. انتهى.
وردّ إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في شرحه على (القاموس) فقال: تفسير الجن بالملائكة مردود. إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن.
والملائكة معصومون. ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة، بخلاف الجن.
ولهذا قال الجماهير: الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: ٣٤]، منقطع أو متصل. لكونه كان مغمورا فيهم، متخلقا بأخلاقهم. انتهى. وهو يؤيد ما ذهبنا إليه. وبيت الأعشى لا يصلح حجة، لفساد مصداقه. لأن سليمان لم تسخّر الملائكة لتشيد له المباني. وليس ذلك من عملهم عليهم السلام. وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة (سبأ).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥٩]
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي من الولد والنسب. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٠]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء من (المحضرين) الذين هم الجنة، متصل على القول الأول، أي المؤمنين منهم. ومنقطع على الثاني. أو استثناء منقطع من (واو) يصفون. هذا، وبقي وجه في الآية لم يذكروه. وهو أن يراد بالنسب المناسبة والمشاكلة في العبادة. ويراد بالجنة الملائكة. ويكون المراد من الآية الإخبار عمن
عبد الملائكة من العرب وجعلوهم ندا ومثلا له تعالى، وحكاية لضلال آخر لهم، غير ضلال دعواهم، أنهم بنات الله سبحانه، من عبادتهم له. مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب. والآية في هذا كآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤٠- ٤١]، وكان السياق من هنا إلى آخر، كالسياق في طليعة السورة. كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته، فإنّى تستحق الربوبية؟ والله أعلم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦١]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١)
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ عود إلى خطابهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٢]
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢)
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أي مفسدين أحدا بالإغواء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٣]
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي ضالّ مثلكم. مستوجب للنار، قال ابن جرير:
يقول تعالى ذكره: فإنكم أيها المشركون بالله وَما تَعْبُدُونَ من الآلهة والأوثان ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أي ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحدا، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي من سبق في علمي أنه صال الجحيم. وقد قيل: إن معنى (عليه) به. انتهى.
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية، للرد على عبدتهم، بقوله حاكيا عنهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٤]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه. لا
يتعدى فيه طوره، ولا يجاوز منه قدره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٥]
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة التي نؤمر بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٦]
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون الله عما يصفه به الملحدون. أو المصلون له خشوعا لعظمته، وتواضعا لجلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٧]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧)
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي مشركو قريش.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٨]
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من الكتب التي نزلت عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦٩]
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة له. فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧٠]
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم. وهذا كقوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: ٤٢]. وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى
طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها
[الأنعام: ١٥٦- ١٥٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧١]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدنا لهم الأزليّ، وهو:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا أي الرسل ومن آمن معهم هُمُ الْغالِبُونَ
أي الظاهرون على أعدائهم، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٢١].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧٤]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه. كقوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: ٤٨]، وقوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: ٨٥]، حَتَّى حِينٍ أي إلى استقرار النصر لك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧٥]
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
وَأَبْصِرْهُمْ أي بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر، وما نزل بمن أنذر قبلهم، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي. فإن لم يبصروا الآن، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي ما قضينا لك من التأييد والنصرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧٦]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي قبل حلول أجله، وإنه لآت، لأنه يوم الفتح الموعود به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧٧]
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي بقربهم وفنائهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا. لأنه يوم هلاكهم ودمارهم. قال الزمخشريّ: مثّل العذاب النازل بهم، بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا. فسميت الغارة (صباحا) وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. انتهى. أي فهي استعارة تمثيلية. أو في الضمير استعارة مكنية، والنزول تخييلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قال الزمخشريّ: إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة. وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول. وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٨٠]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي المنعة والقدرة والغلبة عَمَّا يَصِفُونَ أي من الشريك والولد ونحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٨١]
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي سلام وأمان وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (٣٧) : آية ١٨٢]
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على نعمه، التي أجلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا، وإصلاح الأولى والأخرى.
فوائد في خواتم هذه السورة:
الأولى- روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال: كانوا لا يصفّون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فصفوا. وقال أبو نضرة: كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم، استقيموا قياما، يريد الله بكم هدى الملائكة. ثم يقول: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخّر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم «١» عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض مسجدا. وتربتها لنا طهورا.
الثانية-
روى الشيخان «٢» عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر. فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله! محمد والخميس. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: الله أكبر خربت خيبر (إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
. دلّ تمثله صلى الله عليه وسلّم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا، أولا وبالذات.
الثالثة- قال ابن كثير: لما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص، بدلالة المطابقة. ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص- قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن. ولهذا قال تبارك وتعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات.
الرابعة-
روى ابن حاتم عن الشعبيّ مرسلا: من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى
(١) أخرجه في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الأذان، ٦- باب ما يحقن بالأذان من الدماء، حديث ٢٤٦.
وأخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم ٨٧.
236
من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، حين يريد أن يقوم: سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات.
وروي أيضا عن عليّ موقوفا.
وأخرج الطبرانيّ عن زيد بن أرقم مرفوعا: من قال دبر كل صلاة سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات، ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر.
وقد بيّن الرازيّ أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية.
فارجع إليه.
237

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة ص
مكية. وقيل: مدنية وضعّف وآياتها ثمان وثمانون.
238
Icon