ﰡ
وقال عن إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم :﴿ وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم ﴾ [ الصافات : ١٠٨. ١٠٩ ].
وقال في موسر وهارون – عليهما السلام - :﴿ وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون ﴾ [ الصافات : ١٣٠ ].
فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين : هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين - منهم مجاهد وغيره - :﴿ وتركنا عليهما في الآخرين ﴾ الثناء الحسن، ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا. ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين، كما يفعله من ليس له عناية بحكاية الأقوال، بل هما قول واحد. فمن قال : إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه، فلا ريب أن قوله :«سلام على نوح » جملة في موضع نصب بتركنا. والمعنى : أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء.
ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن. نظر إلى لازم السلام وموجبه، وهو الثناء عليهم، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم.
وقد زعمت طائفة – منهم : ابن عطية وغيره - أن من قال : تركنا عليه ثناء لها حسنا ولسان صدق. كان ﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ جملة ابتدائية، لا محل لها من الإعراب. وهو سلام من الله سلم به عليه.
قالوا : فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر - قاله الطبراني.
وقد يقوي هذا القول : أنه سبحانه اخبر أن المتروك عليه هو في الأخرى وأن السلام عليه في العالمين، وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أبقى الله عليه ثناء حسنا.
وهذا القول ضعيف لوجوه :
أحدهما : أنه يلزم منه حذف المفعول لتركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على التقدير، فإن المعنى يؤول إلى : أنا تركنا عليه في الآخرين أمرا لا ذكر له في اللفظ. لأن السلام عند هذا القائل منقطع بما قبله، لا تعلق له بالفعل.
الثاني : أنه لو كان المفعول محذوفا كما ذكره لذكروه في موضع واحد، ليدل على المراد منه حذفه. ولم يطرد في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن. وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح : أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر، لدلالة المذكور على المحذوف. وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل.
وإما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد، ولا في اللفظ ما يدل عليه. فهذا لا يقع في القرآن.
الثالث : أن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه :«وتركنا عليه في الآخرين. سلاما » بالنصب وهذا وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه.
الرابع : أنه لو كان السلام منقطعا مما قبله لأخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته، ولما حسن الوقوف على ما قبله.
وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله :﴿ وتركنا عليهما في الآخرين ﴾ كيف يجد قلبه متشوقا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه، ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت، ليظهر عندها، بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك. فالوقف على ﴿ الآخرين ﴾ ليس بوقف تام.
فإن قيل : فيجوز حذف المحذوف من هذا الباب، لأن «ترك » هنا بمعنى «أعطى » لأنه أعطاه ثناء حسنا أبقاه عليه في الأخرى ويجوز في باب «أعطى » وذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما : وقد وقع ذلك في القرآن. كقوله :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾ [ الكوثر : ١ ]، فذكرهما. وقال تعالى :﴿ فأما من أعطى ﴾ [ الليل : ٥ ] فحذفهما. وقال تعالى :﴿ ولسوف يعطيك ربك ﴾ [ الضحى : ٥ ] فحذف الثاني، واقتصر على الأول. وقال :﴿ يؤتون الزكاة ﴾ فحذف الأول. واقتصر على الثاني.
قيل : فعل الإعطاء فعل مدح، لفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والإعطاء إحسان ونفع وبر، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل.
فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع، المنافي للاحسان ذكر الفعل مجردا. كما قال تعالى :﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ ولم يذكر ما أعطى، ولا من أعطى. وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ».
لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى، بل المقصود : أن حقيقة الإعطاء والمنع إليك لا إلى غيرك، بل أنت المتفرد بها، لا يشركك فيها أحد، فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته.
وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾ [ الكوثر : ١ ] فإن المقصود إخباره لرسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به وأعطاه إياه من الكوثر. ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين. وكذا قوله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ﴾ [ الإنسان : ٨ ].
وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه. كقوله تعالى :﴿ ويؤتون الزكاة ﴾ المقصود به : أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم، ولا يهملونه. فذكره لأنه هو المقصود.
وقوله عن أهل النار :﴿ لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين ﴾ [ المدثر : ٤٣. ٤٤ ] لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للإطعام أنهم بخلوا عنه. ومنعوه حقه من الإطعام، وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود، دون ذكر المطعوم وتدبر هذه الطريقة في القرآن، وذكره للأهم المقصود، وحذفه لغيره، يطلعك على باب من أبواب إعجازه وكمال فصاحته.
وأما فعل الترك : فلا يشعر بشيء من هذا، ولا يمدح به. فلو قلت : فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة أصلا، بخلاف قولك : يطعم، ويعطي، ويهب، ونحوه، بل لا بد أن تذكر ما يترك. ولهذا لا يقال : فلان يأكل، ويقال : مطعم ومطعم. ومن أسمائه سبحانه «المعطي ».
فقياس «ترك » على «أعطى » من أفسد القياس.
وقوله :﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ جملة محكية. قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين من الأمم. هذه الكلمة - وهي ﴿ سلام على نوح ﴾ - يعني يسلمون عليه تسليما. ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك : قرأت : سورة أنزلناها.
الخامس : أنه قال :﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين، ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه، كلهم يسلم عليه، ويثني عليه، ويدعو له. فذكره بالسلام عليه فيهم.
وأما سلام الله سبحانه وتعالى عليه. فليس مقيدا بهم، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك : فلا يقال : السلام على رسول الله في العالمين، ولا : اللهم سلم على رسولك في العالمين، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به.
وأما قولهم :«إن الله سلم عليه في العالمين. وترك عليه في الآخرين ».
فالله سبحانه وتعالى أبقى على أنبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم، جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم، واحتمالهم للأذى من أممهم في الله. وأخبر أن هذا المتروك على نوح عليه السلام هو عام في العالمين، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعا، لا يخلون منها. فأدامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق، وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه السلام بصبره، وقيامه بحق ربه، وبأنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض. وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه، كما قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾ [ الشورى : ١٣ ].
وقولهم : إن هذا قول ابن عباس، فقد تقدم. أن ابن عباس وغيره : إنما أرادوا بذلك أن السلام عليهم من الثناء الحسن ولسان الصدق. فذكروا بمعنى السلام عليه وفائدته. والله سبحانه أعلم.
إحداهما : إلياسين بوزن إسماعيل. وفيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم ثان للنبي إلياس وإلياسين. كميكال وميكائيل.
والوجه الثاني : أنه جمع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع «إلياس ». وأصله إلياسيين بياءين. كعبرانيين. خففت إحدى الياءين. فقيل : إلياسين. والمراد : أتباعه، كما حكى سيبويه : الأشعرون مثله الأعجمون.
والثاني : أنه جمع «إلياس » محذوف الياء.
والقراءة الثانية :﴿ سلام على آل ياسين ﴾ وفيه أوجه :
أحدها : أن «ياسين » اسم لأبيه، فأضيف إليه الآل، كما يقال : آل إبراهيم.
والثاني : أن ﴿ آل ياسين ﴾ هو إلياس نفسه. فيكون ﴿ إل ﴾ مضافة إلى ﴿ ياسين ﴾ والمراد بالآل : ياسين نفسه، كما ذكر الأولون.
والثالث : أنه على حذف ياء النسب، فيقال : ياسين، وأصله :«ياسيين »، كما تقدم.
وآلهم : أتباعهم على دينهم.
والرابع : أن ﴿ ياسين ﴾ هو القرآن، و«آله » : هم أهل القرآن.
والخامس : أنه النبي صلى الله عليه وسلم، و«آله » : أقاربه وأتباعه. كما سيأتي
وهذه الأقوال كلها ضعيفة.
والذي حمل قائليها عليها : استشكالهم إضافة «آل » إلى «ياسين » واسمه «إلياس » و«إلياسين »، ورووها في المصحف مفصولة. وقد قرأها بعض القراء «آلياسين » فقال طائفة منهم : له أسماء : ياسين، وإلياسين. وإلياس.
وقالت طائفة : ياسين : اسم لغيره.
ثم اختلفوا : فقال الكلبي : ياسين : محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال طائفة : هو القرآن. وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه.
والصواب - والله أعلم - في ذلك : أن أصل الكلمة «آل ياسين » كآل إبراهيم، فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف.
وهذا كثير في كلامهم، إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها، فحذفوا منها ما لا لبس في حذفه، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال. ولهذا يحذفون النون من :«إني وأني وكأني ولكني ». ولا يحذفونها من «ليتني ». ولما كانت اللام في «لعل » شبيهة بالنون حذفوا النون معها، ولاسيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها لها، فيقولون مرة : إلياسين : ومرة : إلياس. ومرة : ياسين، وربما قالوا : يس.
ويكون على إحدى القراءتين : قد وقع على السلام عليه، وعلى القراءة الأخرى : على آله.