تفسير سورة الشورى

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٢ _ سورة الشورى
سميت بالشورى، لإشعار آياتها بذلة الدنيا وعزة الآخرة، وصفات طالبيها، مع اجتماع قلوبهم بكل حال. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ : وهي مكية. وقيل إن فيها مدنيا ومرّ مرارا تحقيق ذلك، وآيها ثلاث وخمسون.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢)
حم عسق قد روى بعض المفسرين ها هنا، في تفسير حم عسق آثارا واهية جدا لا يعول عليها. بل هي، كما قال ابن كثير منكرة، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف، أوائل السور الكريمة، أسماء لها. وحم عسق اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما، وعدّا آيتين. وقيل اسم واحد، والفصل ليناسب سائر الحواميم، فيكون آية واحدة. وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٣]
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كلام مستأنف، وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق. أو أن إيحاءها مثل إيحائها، بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها. والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ل (يوحي) على الأول- وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له، على الثاني و (ذلك) على الأول إشارة إلى ما فيها. وعلى الثاني إلى إيحائها. وما فيه من معنى البعد، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل. أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أوحى إليك في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد. أو مثل إيحائها، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم. لا إيحاء مغايرا له. كما في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [النساء: ١٦٣] الآية. على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك. وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية،
للإيذان باستمرار الوحي، وأن إيحاء مثله عادته. وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبها به، من تفخيمها ما لا يخفى. وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل. مع ما فيه من التشويق. وقرئ (يوحى) على البناء للمفعول، على أن (كذلك) مبتدأ (ويوحى) خبره المسند إلى ضميره، أو مصدره و (يوحي) مسند إلى (إليك). و (الله) مرتفع بما دل عليه (يوحي) كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان له، أو مبتدأ، كما في قراءة (نوحي)، والعزيز وما بعده خبران له. أو العزيز الحكيم صفتان له. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٤]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبران له. وعلى الوجوه السابقة، استئناف مقرر لعزته وحكمته. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥ الى ٦]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته، ويتلاشين من علوّ قهره وسلطنته، يدل عليه مجيئه بعد الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أو من دعائهم له ولدا، كما في سورة مريم وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل لحفظ أعمالهم. وإنما أنت منذر فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: ٤٠].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٧]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهلها، وهي مكة وَمَنْ حَوْلَها أي من العرب وسائر الناس وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم، لأنه يجمع فيه الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفريق في السعير، أي النار الموقدة المسعورة على أهلها. وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٨]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي أهل دين واحد وملة واحدة وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الإنسان من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم. ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم. فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون. فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون، وفي عذابه، الكافرين. قال أبو السعود: ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي والكافرون بالله ما لهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه، لأنه يدخلهم في قهره. وتوصيفهم بالظالمين، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات والأخلاق والأعمال والأفعال، وأنه تعالى يواليهم وينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٩ الى ١٠]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي يتولونهم. مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة، إذ لا قدرة ولا قوة فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره، لتوليه سبحانه كل شيء، وسلطانه وحكمه. والفاء جواب
شرط مقدر. كأنه قيل بعد إنكار كل وليّ سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الوليّ بالحق، لا وليّ سواه وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو المحيي القادر، فكيف تستقيم ولاية غيره، وقوله وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ تمهيد لما يأتي بعد، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه، وشرعته لخلقه، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين، إنما مردّه إلى الله تعالى وحكمه وقضائه. وأنه لا دين إلا دينه، ولا عبادة إلّا عبادته، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم، في تشريعهم ما لم يأذن به الله، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء. فإن السورة مكية. ومع ذلك، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره.
كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩]، وتدل أيضا على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم. وعلى تفويض ما لم تصل إلي دركه العقول، إلى الله تعالى، بأن يقال: الله أعلم. كما في قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥]. وقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي بتقدير (قل) أو هو حكاية لقوله صلّى الله عليه وسلّم. أي الذي هذه الصفات صفاته، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي في أموري كلها وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في المعاد، أو من الذنوب، أو في الأمور المعضلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١١]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي أصنافا مختلفة، أو ذكورا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي يكثركم. من (الذرء) وهو البث. يقال: ذرأ الله الخلق. بثهم كثّرهم. وفسر ب (يخلقكم). وضمير (فيه) للبطن أو الرحم. وقال الزمخشريّ: أي في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء
353
على الغيب مما لا يعقل. فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل:
يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. انتهى.
وقيل (في) مستعارة للسببية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء. وأدخل المثل في الكلام، توكيدا للكلام، لكونهما بمعنى واحد. والآخر أن يكون معناه: ليس مثله شيء. وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة. أي ليس كصفته صفة. ورابع- وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من مثله ذاته. كما في قولهم: مثلك لا يبخل. على قصد المبالغة في نفيه عنه. فإنه إذا نفي عمن يناسبه. كان نفيه عنه أولى. ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة. وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشّمنّي. وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه. لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم. كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم. والأخ لازمه. لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد. فنفي هذا اللازم. والمراد نفي ملزومه. أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ. هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل. والمراد نفي مثله تعالى- إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثل مثله، لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات.
وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم. مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال. ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى. ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا. بل هو محتمل فقط. كما تحتمل نفيه. وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة. أنه لو كان له مثل إلخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله. فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك. وقال العصام: هذا- أي كون الآية من باب الكناية- وجه تلقاه الفحول بالقبول. ورجّحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح.
وعدم الزيادة أحق بالترجيح. وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي
354
المثل. لأن الشيء ليس مثل مثله. بل المثل المشارك للشيء في صفة، منع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل. والمثل بمنزلة الملحق به المتقارب. انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض. لأن المماثلة هي الشركة، في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة. صرّح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام. وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية ردّ على المشبهة. وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حالّ في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط. فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة. فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد على المعطلة. ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف. فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه.
وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل.
فمثلوا أولا وعطلوا آخرا. فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عزّ وجلّ. بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة. فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. من غير تحريف ولا تشبيه. قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال الحافظ ابن عبد البرّ: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيّفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة.
ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. انتهى.
قال الذهبي: صدق والله! فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم. كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة. قيل: لها سعف؟
355
قالوا: لا. قيل لها كرب؟ قالوا: لا. قيل لها رطب؟ قالوا: لا. قيل: فلها ساق؟ قالوا:
لا. قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة قالوا إلهنا الله تعالى. وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا. وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العظيم السميع المريد، الذي كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا. ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم. وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم. قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم. فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم. تعالى الله جلّ جلاله عن العدم. بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف. انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك. والنفي كقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا. وإلا فجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال. لأن النفي المحض عدم محض. والعدم المحض ليس بشيء. وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع. والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، إلى قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [البقرة: ٢٥٥]، فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي لا يكرثه ولا يثقله. وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته. وكذلك قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: ٣]، فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات
356
والأرض. وكذلك قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: ٣٨]، فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء، دل على كمال القدرة ونهاية القوة. بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية. لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح. إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا. وإنما المدح في كونه لا يحاط به، وإن رئي. كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية. فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال. وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها. لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه. فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك. كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش. ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت. ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق ميّز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال. بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات. فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص. فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم. فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أنه يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه. وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها. فإن الله قادر على جعل الجماد حيّا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي
لا يوصف
357
بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس. فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك. مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها. وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات. فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحيّ. وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال. فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات. فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٢ الى ١٣]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه، ويقتّر على آخرين إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اعلم أنه تعالى لما عظّم وحيه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: ٣]، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]، وفي الحديث «١» : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد. يعنى: عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. كقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨]. وتخصيص هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث رقم ١٦١٧، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم ١٤٥.
عليهم السلام، بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. ولاستمالة قلوب الكفرة، لاتفاق الكل على نبوّة بعضهم. وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل. والمعنى: شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له، للإشارة إلى أن شريعته صلّى الله عليه وسلّم هي الشريعة الكاملة. ولذا عبر فيه ب (الّذي) التي هي أصل الموصولات. وأضافه إليه بضمير العظمة، تخصيصا له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء. وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يوفق للعمل لطاعته واتباع رسله من يقبل إلى طاعته ويتوب من معاصيه. ثم أشار إلى حال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١٤]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
وَما تَفَرَّقُوا أي في دينهم وصاروا شيعا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل الصحيحة والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ظلما وتعديا وطلبا للرئاسة وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو تأخير العذاب.
إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي باستئصالهم، لاستيجاب جناياتهم لذلك وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم أهل مكة الذين من الله عليهم بالكتاب العزيز لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي موقع لأتباعهم في الشك، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادّة عن سبيل الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
فَلِذلِكَ فَادْعُ أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره، وهتك وساوسه وَاسْتَقِمْ أي على الدعوة إليه والصدع به كَما أُمِرْتَ أي أوحي إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي: أيّ كتاب كان، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. أفاده أبو السعود وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي لأسوّي بينكم في دعوة واحدة كما قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: ٦٤] الآية. ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور والتبليغ به من الحساب، فهو إليه تعالى. فقال اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا خصومة ولا محاجة بعد هذا. لأن الحق قد ظهر. ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة. والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج. كما ذكره الراغب. وتكون بمعنى الدليل. والمراد هو الأول دون الثاني. وهو ظاهر اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أي يوم القيامة، فيقضي بالحق فيما اختلفنا فيه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المعاد والمرجع للجزاء.
تنبيهان:
الأول- تفسير العدل بما ذكرناه، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لا سيما والسورة مكية. ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات. نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها. ومنه قول قتادة: أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعدل حتى مات. والعدل ميزان الله في الأرض. به يأخذ للمظلوم من الظالم. وللضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب.
وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه.
الثاني- قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات. كل منها منفصلة عن التي قبلها. حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي. فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. انتهى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١٦]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه،
وهم الذين أورثوا الكتاب، المذكورون قبل، ليصدوا عن الهدى طمعا في عود الجاهلية مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي استجاب له الناس. أي بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم والنظر الصحيح وسيرة الداعي وهديه وحسن دعوته وتصديق الكتب المنزلة له وسلامة الفطرة حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي زائلة لأنها في باطل. والباطل لا بقاء له مع قوة الحق عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في حكمه وقضائه وتقديره. قال أبو السعود: وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة معهم على زعمهم الباطل وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أي عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١٧]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي متلبسا به في أحكامه وأخباره وَالْمِيزانَ أي وأنزل الميزان وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ويسوّى به الخلاف وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ قال أبو السعود: أي شيء قريب. أو قريب مجيئها. أو الساعة بمعنى البعث. والمعنى أنها على جناح الإتيان. فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ١٨]
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون منها. قال ابن جرير: لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي المتحقق وجوده لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي لإنكارهم عدل الله وحكمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خبر الدين والدنيا يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
قال الزمخشري: سمي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء، حرثا على المجاز- أي بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا. ولذلك قيل (الدنيا مزرعة الآخرة) وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة، وفّق في عمله وضوعفت حسناته. ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها، لا ما يريده ويبتغيه، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه، وما له نصيب قط في الآخرة. ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له، واصل إليه لا محالة- للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
انتهى.
وهذه الآية كآية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ [الإسراء:
١٨]، إلخ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (أم) منقطعة، فيها معنى (بل والهمزة) ولا بد من سبق كلام، خبرا أو إنشاء، يضرب عنه ويقرر ما بعده.
وما سبق قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣]، إلخ فهو معطوف عليه، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه. وإما أوثانهم. وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها
362
شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني، فإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به. أو لأنها على صورة المشرّع الذي سنّ هذا الضلال لهم. ويجوز كون الاستفهام المقدّر حينئذ للإنكار. أي ليس لهم شرع ولا شارع.
كما في قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: ٤٣]، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا. أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين، بتعجيل العذاب للكافرين وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ أي يوم البعث مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي من السيئات وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي نازل بهم لا محالة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تعطونيه إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا. ولا يكن غيركم، يا معشر قريش، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.
قال الشهاب: المودة مصدر مقدر ب (أن والفعل). والقربى مصدر كالقرابة.
و (في) للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة. والخطاب، إما لقريش أو لجميع العرب، لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى. والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلا. لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم، لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل (القربى) التقرّب إلى الله تعالى. أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه.
والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة. ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه، غيره.
ففي البخاري «١» عنه أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد ابن جبير: القربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت. إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
قال ابن كثير: انفرد به البخاري- أي عن مسلم- ورواه الإمام أحمد. وهكذا
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٤٢- سورة الشورى، ١٠- باب قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، حديث رقم ١٦٤٣.
363
روى الشعبي والضحاك وعليّ بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مثله. وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسّدّي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي، لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم.
وروى الإمام أحمد «١» عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودّوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته. وهكذا روي عن قتادة والحسن البصريّ مثله
. وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما
رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: فاطمة وولدها رضي الله عنهم
، فإن في إسناده مبهما لا يعرف، عن شيخ شيعي، وهو حسين الأشقر، فلا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد. فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعليّ رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه عنه البخاري. ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم. فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا. ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين
وقد ثبت في الصحيح «٢» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.
وروى الإمام أحمد «٣» عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن. وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا وقال: والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله.
هذا ملخّص ما أورده ابن
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٦٨. والحديث رقم ٢٤١٥.
(٢) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٣٦.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٢٠٧، والحديث رقم ١٧٧٢.
364
كثير رحمه الله تعالى، وسبقه في الإيساع في ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.
قال في الوجه الثالث: إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة. بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر. والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة. فكيف يفسر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
ثم قال: الوجه الرابع- إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت، بعد عليّ، يقول:
ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا. لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أوّلا، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.
الوجه الخامس- أنه قال: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الأنفال: ٤١]، وقال ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الحشر: ٧]، وكذلك قوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: ٢٦]، وقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [البقرة: ١٧٧]، وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذوي قربى الإنسان، إنما قيل فيها (ذوي القربى). لم يقل (في القربى). فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى).
الوجه السادس- أنه لو أريد المودة لهم لقال: المودّة لذوي القربى، ولم يقل في القربى، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره: أسألك المودة في فلان، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.
الوجه السابع- أن يقال إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة.
بل أجره على الله كما قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦]، وقوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور: ٤] و [القلم:
365
٤٦] وقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: ٤٧]، ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: ٥٧]، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واجبة. لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات.
وفي الصحيح «١» عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى (خما) بين مكة والمدينة فقال (أذكركم الله في أهل بيتي)
وفي السنن «٢» عنه أنه قال (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي)
فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه، فقد أخطأ خطأ عظيما. ولو كان أجرا له نثب عليه نحن، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟؟؟.
الوجه الثامن- إن (القربى) معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقد ذكر أنها لما نزلت، لم يكن قد خلق الحسن والحسين، ولا تزوج علىّ بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم، كما تقول (لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا) وكما تقول (لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم) (ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر).
انتهى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي بمضاعفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي لمن تاب وأناب شَكُورٌ لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٤]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بدعوى النبوة والوحي فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ قال ابن كثير: أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون، يختم على قلبك أي: يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن.
كقوله جل جلاله
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٣٦.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٢٠٨، الحديث رقم ١٧٧٧.
366
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.
وهذا تفسير بالأشباه والنظائر من الآيات، يؤثره كثير من الأئمة، ما وجد إليه سبيلا. فإن التنزيل يفسّر بعضه بعضا. ومآل الآية على هذا المعنى، كما أوضحه أبو السعود، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى، لمنعه من ذلك قطعا، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حينا فحينا، تبين أنه من عند الله تعالى.
وقال الزمخشري: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب. فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وإنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول:
لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
انتهى.
قال الشهاب: فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه، فاستحق غضب ربه، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر. ولذا أتى (بأن) في موضع (لو) إرخاء للعنان، وتلميحا للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما.
ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا المحال، لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لو كان مفترى لمحقه. إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه. فليس (يمح) مجزوما بالعطف على الجزاء، بل معطوف على مجموع الجملة والكلام السابق. ولذا أعيد لفظ الجلالة ورفع (يحق). قال الزمخشري: ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن، وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك.
367
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٥]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أي يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته، من بعد كفره وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي معاصيه التي تاب منها وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي من خير أو شر، وهو مجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣]، أي يثيبهم على طاعتهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي على ثوابهم، منة منه وطولا وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره، بركوبهم ما حظره عليهم. لأن الغنى مبطرة مأشرة كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦- ٧]، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أي ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدر، لكفايتهم إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ قال الزمخشري: أي يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط. كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٨]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي بركات الغيث ومنافعه وآثاره من الخصب والرخاء وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي الذي يتولى الخلق بإحسانه، والمحمود على أياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي حشرهم يوم القيامة إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ أي متمكن منه، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم.
تنبيه:
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته: يفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دواب، ويستدل من قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ [النور: ٤٥]، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض. ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية، آية لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حدّ ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات.
ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، إن الأرض أصغر من الشمس وأنها تدور حولها. وإن الكواكب السيارات كريّات. وأن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها. ولما ثبت لديهم جميعا وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض.
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا. وليس ذلك بالمستحيل فنّا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرا، إذا لم يجتمعا جسما. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحا عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان.
وقال أيضا: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولا وبالذات. لكن، تمهيدا لهذه السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما هن عليه من الإبداع.
فوجه أبصارهم إلى التأمّل في خلق الإنسان وما هو عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية. فالمفسرون رحمهم الله، لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية. ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان. لا سيما علم الفلك. فهم معذرون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضا: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضا بالنسبة لحيواناته. وباقي الكواكب سموات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح. لأن الله تعالى يقول في كتابه وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ويقول: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: ٢٩]،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٠]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فبسبب معاصيكم وما اجترمتم من الآثام. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٣١]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم، لأنكم في قبضة تصرّفه وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي الجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي فيبقين ثوابت على ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جري هذه الجواري في البحر، بتسخير الله تعالى الريح لجريها لَآياتٍ أي لعبرة وعظة وحجة بيّنة على القدرة الأزلية لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين، تذكيرا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر. إذ لا يكمل الإيمان بدونهما (والإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي أو يهلكهن بالغرق بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ أي يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي مما زيّن للناس حبه من الشهوات فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو متاع لكم. تتمتعون به في الدنيا. وليس من الآخرة وَما عِنْدَ اللَّهِ أي من ثوابه الأخروي خَيْرٌ وَأَبْقى وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي في أمورهم وقيامهم بأسبابهم وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي يصفحون عمن أساء إليهم وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي حينما دعاهم إلى توحيده، والبراءة من عبادة غيره وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي بالعدالة. احترازا عن الذلة والانظلام، لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم.
قاله القاشاني. وقال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم.
وقال آخرون: بل هو كل باغ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السّدّي حيث قال:
ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
قال ابن جرير: وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب. لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحقّ ممن بغى عليه.. فإن قال قائل:
وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق، وعقوبته بما هو له أهل، تقويما له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري. فإن قلت: أهم محمودون في الانتصار؟ قلت: نعم. لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعا له، فهو مطيع. وكل مطيع محمود. قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق. ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها. إذ النقصان
حيف والزيادة ظلم. ثم بيّن تعالى أن العفو أولى، فقال فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ أي بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثوابه عليه. وفي إبهامه، ما يدل على عظمه. حيث جعل حقا على العظيم الكريم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ما ظلم.
فالمصدر مضاف لمفعوله، أو هو مصدر المبنيّ للمفعول فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي للمعاقب، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءوهم بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون فيها ويفسدون أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: بسبب ظلمهم وبغيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٣]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى وَغَفَرَ أي لمن ظلمه ولم ينتصر إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي التي ندب الله عباده، وعزم عليهم العمل بها.
تنبيه:
نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسيّ أنه قال: قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه، وظاهر هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أن الانتصار أفضل. قال، وهو محمول على من تعدى وأصرّ، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين. وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى. وعجيب فهمه الأفضلية من الآية، فإنها لا تدل عليه، عبارة ولا إشارة. فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا. ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة. ثم بين أن العفو أولى، وهو الذي انتهى إليه الكلام، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى. وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل، ودفع الظلم عن النفس والصغار، ورفع الأحقاد والأضغان. وأما العفو والصفح، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس. لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين. وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليّا لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا
وتفريطا. والدين دين الفطرة. وهي تتقاضى القصاص بالمثل، وتراه حقا لها بجبلّتها والقضاء الأدبيّ والوازع الرحمانيّ يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت، ويبرهن لها أمثليته، مما لا يبعد، إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها، أن تؤثره ولا تؤثر عليه.
كيف؟ وقد دل قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كما قال الزمخشريّ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية. فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٤]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي: ومن خذله عن الرشاد، فليس له من وليّ يليه، فيهديه لسبيل الصواب، ويسدده من بعد إضلال الله إياه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أي رجعة إلى الدنيا. وذلك استعتاب منهم في غير وقته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي من طرف قد خفي من ذله وصغاره وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بالتعريض للعذاب المخلد، وتفويت النعيم المؤبد أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يرده الله بعد ما حكم به ف «من» صلة (مردّ) أو هي صلة (يأتي) أي من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن ردّه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ
وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ
أي إنكار لما اقترفتموه، لأنه محصيّ عليكم. أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي إبلاغهم ما أرسلت به، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي جحود نعم ربه، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء، ولا يتفكر إلا فيما أنزله به من الفساد والشقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة. وتقديم الإناث، إما لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، تنبيها بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهتهن، كما يشاهد من بعض الجهلة.
وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن (ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى).
قال الشهاب: والضمير في يُزَوِّجُهُمْ للأولاد، وما بعده حال منه، أو مفعول ثان إن ضمّن معنى التصيير، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكورا وإناثا مزدوجين. كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث. ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : آية ٥١]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي إلهاما وقذفا في القلب منه، بلا واسطة أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى عليه السلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي من ملائكته كجبريل فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ أي فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه، ما يشاء إيحاءه، من أمر ونهي وغير ذلك، على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام، أو الهتاف أو المنام إِنَّهُ عَلِيٌّ أي من أن يواجه ويخاطب. بل يفنى ويتلاشى من يواجهه، لعلوّه من أن يبقى معه غيره، أو يحتمل شيء حضوره. قاله القاشاني.
وقال المهايمي: أي لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاها، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته. انتهى. حَكِيمٌ أي يدبر بالحكمة وجوه التكليم، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر، ويكمل به عباده، ويهتدوا إليه ويعرفوه. وقال المهايمي: أي حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف.
تنبيه:
في (الإكليل) : استدلت بالآية، عائشة رضي الله عنها، على أن النبيّ ﷺ لم ير ربه. واستدل مالك بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا على أن من حلف لا يكلم زيدا، فأرسل إليه رسولا أو كتابا، أنه يحنث. لأنه تعالى استثناه من الكلام، فدل على أنه منه. انتهى. وفيه بعد. إذ لا يقال لمن ألهمه الله، إنه كلمه إلا مجازا. فلا يكون الاستثناء متصلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي وحيا من أمرنا. وسمّاه روحا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب:
376
فهو استعارة أو مجاز مرسل، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة. وقيل: هو جبريل.
وأَوْحَيْنا مضمن معنى (أرسلنا). والمعنى: أرسلناه إليك بالوحي ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح أو الكتاب أو الإيمان نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي بالتوفيق للقبول والنظر فيه وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي خلقا وملكا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي في الآخرة. فيقضي بينهم بالعدل. إذ لا حاكم سواه، فيجازي كلا بما يستحقه من ثواب أو عقاب. نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب. إنه الكريم الوهاب.
377

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزخرف
سميت به لدلالة آيته على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربّها بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ. وهي مكية. قيل: إلا آية وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ [الزخرف:
٤٥]، وآيها تسع وثمانون.
378
Icon