تفسير سورة سورة الشورى من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
.
لمؤلفه
الصاوي
.
المتوفي سنة 1241 هـ
ﰡ
قوله: ﴿ حـمۤ * عۤسۤقۤ ﴾ أجمع القراء على أن ﴿ حـمۤ ﴾ مفصولة من ﴿ عۤسۤقۤ ﴾ في الخط، وعلى أن﴿ كۤهيعۤصۤ ﴾[مريم: ١] متصلة ببعضها، والحكمة في ذلك أن ﴿ حـمۤ * عۤسۤقۤ ﴾ فصلت لما قيل: إنهما اسمان للسورة، وأيضاً ليطابق سائر الحواميم. قوله: (أي مثل ذلك الإيحاء) أشار بذلك إلى أن الكاف في محل نصب على المفعولية المطلقة، والمعنى: يوحي إليك وإلى الذين من قبلك إيحاء مثل ذلك الإيحاء في المعنى، لما ورد عن ابن عباس: ليس من نبي صاحب كتاب، إلا وقد أوحي إليه ﴿ حـمۤ * عۤسۤقۤ ﴾ ووجه المشابهة أن الوحي به في الكل، يرجع لأمور ثلاثة: التوحيد، والنبوة، والبعث، فهذا القدر مشترك بين القرآن وغيره من الكتب.
قوله: ﴿ يُوحِيۤ إِلَيْكَ ﴾ جمهور القراء على أنه بالياء مبنياً للفاعل والله فاعله، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل إما ضمير عائد على ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أو الجار والمجرور، وقوله: ﴿ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ فاعل بفعل محذوف كأنه قيل من يوحيه؟ فقيل: يوحيه الله، نظير﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ ﴾[النور: ٣٦-٣٧] وقرئ شذوذاً بالنون مبنياً للفاعل، ولفظ الجلالة بدل من الضمير في نوحي الواقع فاعلاً. قوله: ﴿ وَ ﴾ (أوحى) ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ﴾ أشار بذلك إلى أن يوحي مستعمل في حقيقته ومجازه، فهو مستعمل في المستقبل، بالنظر لما لم ينزل عليه من القرآن حينئذ، وفي الماضي بالنظر لما أنزل عليه بالفعل، وبالنظر لما أنزل على الرسل السابقين. قوله: (فاعل الإيحاء) أي على قراءة الجمهور، وأما على قراءة البناء للمفعول، فهو فاعل بفعل محذوف، وعلى قرارة النون، فهو بدل من ضمير نوحي. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ﴾ أي المنزه عن صفات خلقه. قوله: ﴿ ٱلعَظِيمُ ﴾ أي المنفرد بالكبرياء والعظمة. قوله: (بالنون) إلخ، ظاهره أن القراءات أربع، من ضرب اثنتين في اثنتين، وليس كذلك، بل هي ثلاث فقط سبعيات، لأن من قرأ ﴿ تَكَادُ ﴾ بالتاء الفوقية، يجوز في ﴿ يَتَفَطَّرْنَ ﴾ الوجهين، ومن قرأ (يكاد) بالياء التحتية لا يقرأ يتفطرن إلا بالتاء مع التشديد. قوله: (أي تنشق كل واحدة) أي تسقط السابعة فوق السادسة، والسادسة فوق الخامسة، وهكذا، إلى أن يسقط الجميع فوق الأرض﴿ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً ﴾[مريم: ٩٠] والتقييد بالفوقية أبلغ، في مزيد الهيبة والجلال. قوله: (فوق التي تليها) أشار بذلك إلى أن الضمير في ﴿ فَوْقِهِنَّ ﴾ عائد على ﴿ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ ويصح عوده على فوق الكفار والمشركين، أو على الأرضين لتقدم ذكر الأرض. قوله: (من عظمته تعالى) أي فالسماوات تكاد تنشق والمشركين، أو على الأرضين لتقدم ذكر الأرض. قوله: (من عظمته تعالى) أي فالسماوات تكاد تنشق وتخر، خوفاً من الجلال الناشئ على قولهم﴿ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً ﴾[البقرة: ١١٦] يدل على ذلك ما تقدم في سورة مريم. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ ﴾ إلخ، هذا كلام مستأنف سيق لبيان فضل بني آدم. قوله: (من المؤمنين) أي والمراد بالملائكة حملة العرش ومن حوله، بدليل ما تقدم في غافر، فحمل المطلق على المقيد، وقيل: المراد مطلق الملائكة وبمن في الأرض العموم، فيشمل جميع الحيوانات، والمراج بالاستغفار طلب الأرزاق ودفع البلاء، وكل صحيح، ولذلك قال بعض العارفين: أنصح عباد الله لعباد الملائكة، وأغش عباد الله لعباد الله الشياطين. قوله: ﴿ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ إلخ.
﴿ أَلاَ ﴾ أداة استفتاح يؤتى بها لتأكيد ما بعدها، وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بالمغفرة والرحمة، وأكد بألا الاستفتاحية، و ﴿ إِنَّ ﴾ والجملة الاسمية تفضلاً منه وإحساناً، للإشارة إلى أن رحمته غلبت غضبه. قوله: (أي الأصنام) تفسير للمفعول الأول فهو محذوف، والثاني هو قوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ والمعنى: والذين اتخذوا الأصنام آلهة معبودة قائلين﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ ﴾[الزمر: ٣] يدل عليه الآية الأخرى، وأما الأولياء بمعنى المتولين خدمة ربهم، وتولاهم بمحبته ومعرفته، فمحبتهم والتعلق بهم من جملة طاعة الله، لأنهم الوسيلة لنا إلى الله ورسوله، وليست محبتنا لهم، وتوسلنا بهم شركاً، إلا إذا كانت على وجه العبادة كالسجود مثلاً، واعتقاد أنهم يؤثرون بذواتهم في نفع أو ضر، خلافاً للخوارج الضالين المضلين، حيث زعموا أن كل من توسل إلى الله بأحد سواه فهو مشرك. قوله: ﴿ ٱللَّهُ حَفِيظٌ ﴾ أي ضابط لهم ولأعالهم، فلا يغيب عنه شيء منها، ولا يفلتون منه، فهذه الآية توبيخ للكفار، وتسلية له صلى الله عليه وسلم.
قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ يصح أن يكون مفعولاً مطلقاً لأوحينا، و ﴿ قُرْآناً ﴾ مفعول به، والتقدير: وأوحينا إليك قرآناً عربياً إيحاء كذلك، واسم الإشارة عائد على الإيحاء المتقدم في قوله:﴿ كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ ﴾[الشورى: ٣] إلخ، ويصح أن يكون مفعولاً به، و ﴿ قُرْآناً ﴾ حال، والتقدير: وأوحينا إليك ذلك الإيحاء، حال كونه قرآناً عربياً. قوله: ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ سميت بذلك لأنها أول بلد خلقها الله وشرفها، ولذا بعث لها أًل الخلق وأشرفهم، بل وأهل السماء، وإنما اقتصر على الإنذار، وإن كان مبعوثاً بالبشارة أيضاً، لأنه في ذلك الوقت لم يكن محل للبشرى، لأن الخلق في ذلك الوقت كفار. قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ ﴾ هو المفعول الثاني، والأول محذوف قدره المفسر بقوله: (الناس) عكس الفعل الأول، فإنه قد ذكر المفعول الأول، وحذف الثاني تقديره العذاب، ففي الآية احتباك، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ حال من ﴿ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ ﴾ قوله: ﴿ فَرِيقٌ ﴾ إما مبتدأ خبره محذوف تقديره منهم، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم. قوله: ﴿ فِي ٱلْجَنَّةِ ﴾ المراد بها دار الثواب، فنعم جمع الجنان، وقوله: ﴿ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ ﴾ المراد به دار العذاب بجميع طباقها، فالجنة لمن لم يتصف بالكفر من الثقلين إنساً وجناً، والنار لمن اتصف بالكفر من المكلفين إنساً وجناً. قوله: ﴿ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ مفعول ﴿ شَآءَ ﴾ محذوف تقديره جعلهم أمة واحدة، والمعنى: أن الأمر كله لله، فلا يسأل عما يفعل لحكمة سبقت، بأن خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق ناراً وخلق لها أهلاً. قوله: (وهو الإسلام) أي أو الكفر. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ أي بفضله وإحسانه، وهم فريق الجنة. قوله: ﴿ وَٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي وهم فريق النار، وهو مقابل قوله: ﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ كان مقتضى الظاهر أن يقتل: ويدخل من يشاء في غضبه، وعدل عنه إلى ما ذكر، إشارة إلى دفع توهم، أن لهم شفيعاً ونصيراً في الآخرة، وأما دخولهم في الغضب، فأمر معلوم لا يحتاج للنص عليه. قوله: (الكافرون) تفسير للظالمون) فالمراد بالظلم الكفر، وأما الظالمون بمعنى العاصين بغير الكفر، فلهم نصير يدفع عنهم العذاب، لما في الحديث:" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "قوله: (والهمزة للإنكار) هذا أحد أوجه في (أَمْ) المنقطعة، وهو أنها تقدر ببل والهمزة، ويصح تقديرها ببل وحدها، أو الهمزة وحدها. قوله: (أي ليس المتخذون أولياء) أي فالنفي منصب على المفعول الثاني.
قوله: ﴿ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ ﴾ أي المعبود بحق المتولي أمور الخلق، والجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر فلا معبود بحق الله تعالى، إن قلت: مقتضى الحصر هنا أن لفظ الولي لا يتصف به المخلوق، ومقتضى آية﴿ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[يونس: ٦٢] أنه يتصف به المخلوق، فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأن معنى الولي هنا المعبود بحق، وذلك لا يتصف به غيره تعالى، وأما الولي في تلك الآية، فمعناه المنهمك في طاعة الله تعالى، المتولي الله أموره، وتقدم ذلك. قوله: (والفاء لمجرد العطف) أي عطف ما بعدها على ما قبلها، ورد بذلك على الزمخشري القائل: إن الفاء واقعة في جواب الشرط مقدر، أي إن أرادوا ولياً بحق، فالله هو الولي، قال أبو حيان: لا حاجة إلى هذا التقدير، لتمام الكلام بدونه. قوله: ﴿ وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ ﴾ ﴿ وَمَا ﴾ مبتدأ شرطية أو موصولة، و ﴿ مِن شَيْءٍ ﴾ بيان لما، وقوله: ﴿ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ خبر المبتدأ. قوله: (وغيره) أي كأمور الدنيا. قوله: (يفصل بينكم) أي فيدخل المحق الجنة والمبطل النار. قوله: ﴿ ذَلِكُمُ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، أخبر عنه بأخبار، أولها لفظ الجلالة، وآخرها﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ ﴾[الشورى: ١٣].
قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فوضت أموري. قوله: (مبدعهما) أي على غير مثال سابق.
قوله: ﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ أي من جنسكم، وقوله: ﴿ أَزْوَاجاً ﴾ أي نساء. قوله: (حيث خلق حواء من ضلع آدم) أي اليسرى وهو نائم، فلما استيقظ ورآها، سكن ومال إليها، ومد يده إليها، فقالت الملائكة: مه يا آدم، قال: لم وقد خلقها الله لي؟ فقالوا: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: حتى تصلي على محمد ثلاث مرات، وفي رواية: لما رام القرب منها، طلبت منه المهر، فقال: يا رب وما أعطيها؟ فقال: يا آدم صل على حبيبي محمد بن عبد الله عشرين مرة، فلما فعل ما أمر به، خطب الله له خطبة النكاح ثم قال: اشهدوا يا ملائكتي وحملة عرشي، أني زوجت أمتي حواء من عبدي آدم، والضلع بوزن عنب وحمل، فالضاد مكسورة، واللام إما مفتوحة أو ساكنة، وفعله ضلع من باب تعب اعوج، ومن باب نفع مال عن الحق. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً ﴾ أي أصنافاً. قوله: (أي يكثركم بسببه) أشار بذلك إلى أن في السببية، والضمير في ﴿ فِيهِ ﴾ عائد على (الجعل) المأخوذ من جعل. قوله: (والضمير للأناسي) أي وهو الكاف في ﴿ يَذْرَؤُكُمْ ﴾.
قوله: (بالتغليب) جواب عما يقال: كيف جمع بين العاقل وغيره في ضمير واحد؟ فكان مقتضى الظاهر أنه يقال: يذرؤكم ويذرؤها. قوله: (الكاف زائدة) أي للتأكيد، وهذا أحد أجوبة عن سؤال مقدر، وهو أن ظاهر الآية يوهم بثبوت المثل له تعالى وهو محال، لأنه يصير التقدير: ليس مثل مثله شيء، فنفى المماثلة عن مثله، فثبت أن له مثلاً، ولا مثل له، وأيضاً يلزم عليه التناقض، لأنه إذا كان له مثل، فلمثله مثل، وهو هو، مع أن إثبات المثل له تعالى محال، فأجاب المفسر بأن الكاف زائدة، والتقدير: ليس مثله شيء، وهذا الجواب أسهل الأجوبة في هذا المقام. وأجيب أيضاً: بأن مثل زائدة، ورد بأن زيادة الأسماء غير جائزة أيضاً، يلزم عند دخول الكاف على الضمير، وهو لا يجوز إلا في الشعر. وأجيب أيضاً: بأن المثل بمعنى الصفة، وحينئذ فالتقدير ليس مثل صفته شيء. وأجيب أيضاً: بأن الكاف أصلية، والكلام من قبيل الكناية كقولهم: مثلك لا يبخل، وليس لأخي زيد أخ، ففي المماثلة عن المثل مبالغة في نفيها عنه، لأن العرب تقيم المثل مقام النفس. قوله: ﴿ لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ جمع مقلاد، أو مقليد، أو أقليد. قوله: (من المطر) إلخ، بيان للخزائن، وقوله: (وغيرهما) أي كالجواهر المستخرجة من الأرض. قوله: ﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تعليل ما قبله.
قوله: ﴿ شَرَعَ لَكُم ﴾ الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى بين لكم وجعل لكم ديناً قوياً واضحاً، تطابقت على صحته الأنبياء والرسل من قبل، وهو تفصيل لما أجمل أولاً في قوله:﴿ كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ﴾[الشورى: ٣].
قوله: ﴿ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً ﴾ إلخ، خص هؤلاء بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء، وأولي العزم وأصحاب الشرائع المعظمة المستقلة المتجددة، فكان كل من هؤلاء الرسل له شرع جديد، وأما من عداهم من الرسل، إنما كان يبعث بتبليغ شرع ما قبله، فمن بين نوح وإبراهيم، وهما هود وصالح، بعثا بتبليغ شرع نوح، ومن بين إبراهيم وموسى، بعثوا بتبليغ شرع إبراهيم، وكذا من بين موسى وعيسى، بعثوا بتبليغ شرع موسى، وإنما يذكر من قبلهم، لأنه لم يكن قبل نوح أحكام مشروعة، لأن آدم كان شرعه التوحيد، ومصالح المعاش، واستمر الأمر إلى نوحن فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك الأمر يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا، على لسان أكرم الرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، فتبين بهذا أن شرعنا معشر الأمة المحمدية، قد جمع جميع الشرائع المتقدمة. قوله: (هو أول أنبياء الشريعة) أي فهذا حكمه بدئه بنوح، وأيضاً لتقدمه في الزمان. قوله: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ أتى بالاسم الموصول الذي هو أصل الموصولات، وعبر في جانبه صلى الله عليه وسلم بالإيحاء، تعظيماً لشأنه، ورداً على المشركين المنكرين بعثته صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: لست مرسلاً. قوله: ﴿ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ ﴾ الأوضح أن ﴿ أَنْ ﴾ تفسيرية بمعنى أي، ويصح أن تكون مصدرية، إما في محل رفع خبر لمحذوف تقديره هو إقامة الدين، أو في محل نصب بدل من مفعول ﴿ شَرَعَ ﴾ والمراد بإقامة الدين، تعديل أركانه وحفظه والمواظبة عليه. قوله: (وهو التوحيد) بيان للمراد من الدين الذي اشترك فيه هؤلاء الرسل، وأما قوله: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ فهو أعم من ذلك، فإن المراد به جميع الشريعة أصولاً وفروعاً، وإنما اقتصر على التوحيد، لأنه رأس الدين وأساسه. قوله: ﴿ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أي شق عليهم. قوله: (من التوحيد) اقتصر عليه لأنه عماد الدين، وإلا فما يدعوهم إليه عام، يشمل جميع الأصول والفروع. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ ﴾ من الاجتباء وهو اصطفاء الله العبد وتوفيقه لما يرضاه، وتخصيصه بالفيوضات الربانية. قوله: ﴿ مَن يُنِيبُ ﴾ ضمنه معنى يقبل أو يميل، فعداه بإلى. قوله: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ ﴾ الضمير عائد على أهل الأديان المتقدمين، من أول الزمان إلى آخره، كما قال المفسر، والمراد بأن أهل الأديان أمم الأنبياء المتقدمين، كأمة نوح، وأمة هود، وأمة صالح وغيرهم، وأخذ المفسر العموم من مجموع روايات عن ابن عباس وغيره، ففي رواية عنه أن المراد بهم قريش، والمراد بالعلم محمد، دليله قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾[البقرة: ٨٩] وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [فاطر: ٤٢] وفي رواية عنه: أن المراد بهم أهل الكتاب بدليل قوله:﴿ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ ﴾[البينة: ٤] وفي رواية غيره، أن المراد أمم الأنبياء المتقدمين. قوله: ﴿ ٱلْعِلْمُ ﴾ (والتوحيد) أي بأن قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم. قوله: ﴿ بَغْياً ﴾ مفعول لأجله، أي تفرقوا من أجل حصول البغي بينهم الذي هو الحسد والعناد في الكفر. قوله: (بتأخير الجزاء) أي إلى يوم القيامة، وأما الدنيا فليست دار جزاء لشقي ولا سعيد. إن قلت: إن كفار الأمم الماضية، قد نزل بهم أنواع العذاب كالصيحة والخسف والمسخ وغير ذلك. أجيب: بأنه ليس بجزاء، بل هو علامة الجزاء والخزي. قوله: ﴿ أُورِثُواْ ﴾ فعل مبني للمفعول والفاعل الله تعالى. قوله: (وهم اليهود والنصارى) تفسير للذين أورثوا الكتاب، وحينئذ فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والضمير في ﴿ بَعْدِهِمْ ﴾ عائد على أصولهم المتفرقين في الحق، وقيل: معنى ﴿ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ من قبلهم، ويكون الضمير حينئذ عائداً على مشركي مكة، وقيل: المراد بالذين أورثوا بالكتاب بالتوراة والإنجيل، والضمير في ﴿ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ عائد على أصولهم المتفرقين في الحق، وقيل: والضمير في ﴿ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ عائد على اليهود والنصارى. قوله: ﴿ لَفِي شَكٍّ ﴾ المراد به هنا مطلق التردد والتحير. قوله: (موقع في الريبة) أي الشبهات والضلالات.
قوله: ﴿ فَلِذَلِكَ ﴾ الجار والمجرور متعلق بادع، والتقدير: فادع الناس لذلك التوحيد الذي تقدم ذكره في قوله:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ ﴾[الشورى: ١٣].
قوله: ﴿ وَٱسْتَقِمْ ﴾ الاستقامة لزوم المنهج القويم. قوله: ﴿ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ أي من تقوى الله حق تقاته، وعبادته حق العبادة، ومن هنا شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: شيبتني هود وأخواتها، فسبب شيبة خوفه من عدم قيامه بما أمر به، ولكن خفف الله عنه وعن أمته بقوله:﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾[التغابن: ١٦] وقوله: ﴿ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ الكاف بمعنى مثل، والمعنى استقم استقامة مثل الذي أمرت به، أي موافقة له. قوله: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي حيث قالوا: اعبد آلهتنا سنة، ونحن نعبد إلهك سنة. قوله: ﴿ مِن كِتَابٍ ﴾ بيان لما، والمعنى: آمنت بكل كتاب أنزله الله تعالى، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٥] إلخ. قوله: (أي بأن أعدل) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى الباء، وأن المصدرية مقدرة، والفعل منصوب بها. قوله: (فكل يجازى بعمله) أي من خير وشر. قوله: (هذا قبل أن يؤمر بالجهاد) أشار بذلك إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله:﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾[التوبة: ٢٩] الآية، وقيل: ليست منسوخة، بل المراد من الآية أن الحق قد ظهر والحجج قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدال. قوله: ﴿ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ أي فيجازي كل أحد بعمله من خير وشر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ ﴾ الكلام على حذف مضاف، والمفعول محذوف كما أشار لذلك المفسر. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ ﴾ أي من بعد دخول الناس في دينه، وأجابوا دعوته، فالسين والتاء زائدتان. قوله: (وهم اليهود) تفسير للموصول. قوله: ﴿ دَاحِضَةٌ ﴾ من الأدحاض وهو الازلاق، يقال: دحضت رجله أي زلقت، والمراد هنا الإبطال. قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي في الآخرة. قوله: (متعلق بأنزل) أي والباء للملابسة. قوله: ﴿ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ (العدل) أي وسمى العدل ميزاناً، لأن الميزان يحصل به الإنصاف والعدل، فهو من تسمية المسبب باسم السبب، وإنزاله الأمر به، وقيل: المراد بالميزان نفسه الذي يوزن به، والمراد بإنزاله إنزال الإلهام بعمله والأمر بالوزن به، وقيل: الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينكم بكتاب الله. قوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ استفهام إنكاري، والمعنى: لا سبب يوصلك للعلم بقربها، إلا الوحي الذي ينزل عليك. قوله: (أي إتيانها) ﴿ قَرِيبٌ ﴾ قدر المضاف ليصح الإخبار بالمذكر عن المؤنث. قوله: (ولعل معلق للفعل عن العمل) التعليق إبطال العمل لفظاً، لا محلاً، بسبب توسط أداة لها صدر الكلام. قوله: (أو ما بعد سد مسد المفعولين) أي الثاني والثالث، وأما الأول فهو الكاف، ويتعين جعل (أو) بمعنى الواو.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ أي فلا يشفقون منها، وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ أي فلا يستعجلون بها، ففي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله: ﴿ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ ﴾ أي كائنة وحاصلة لا محالة. قوله: ﴿ فَي ٱلسَّاعَةِ ﴾ أي في إتيانها. قوله: ﴿ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي عن الاهتداء. قوله: ﴿ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ أي حفيّ بهم، وقيل: بارّ فيهم، وقيل: رفيق بهم، وقيل: معناه لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقيل: يلطف بهم في الرزق من وجهين: أحدهما أنه جعل رزقك من الطيبات، والثاني أنه لم يدفعه اليك مرة واحدة فتبذره، وقيل اللطيف من إذا لجأ إليه أحد من عباده قبله وأقبل عليه، وفي الحديث:" إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس، فيقول الله عز وجل: انمحقت آثارهم، واضمحلت صورهم، وبقي عليهم العذاب، وأنا اللطيف، وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم "وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليهم المثالب، ومنه حديث:" يا من أظهر الجميل وستر القبيح "، وقيل: هو الذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الذي يعين على الخدمة، ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير، وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله، ولا يرجى إلا فضله، وقيل: هو الذي يعين على الخدمة، ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه، ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله، ولا يؤيس آمله، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه، ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله، ولا يؤيس آمله، وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل: هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجاً، وجعل لهم الصراط المستقيم منهاجاً، وأجزل لهم من سحائب بره ماء ثجاجاً، وبالجملة فهذا الاسم جامع لمعاني الأسماء الجمالية، فينبغي للعاقل الإكثار من ذكره، سيما إذا قصد بذكره رضا ربه، فإن له السعادة دنيا وأخرى، ويكفي همومها لما ورد: اعمل لوجه واحد، يكفك كل الأوجه. قوله: (من كل منهم) بيان لمن، والمعنى: أن الذي يشاء رزقه هو كل منهم.
قوله: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ ﴾ إلخ، الحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ثم استعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها، على سبيل الاستعارة، حيث شبهت ثمرات الأعمال بالغلال الحاصلة من البذر، بجامع حصول العمل والتعب في كل، فإن من أتعب نفسه أيام البذر، واشتغل بالحرث والزرع أراحها ووجد الثمرات أيام الحصاد، فكذلك من أتعب نفسه في الدنيا، وعمل ابتغاء وجه ربه، فإنه يجد ثمرات أعماله في الآخرة، ومنها هنا حديث:" الدنيا مزرعة للآخرة "، وهذه الآية عامة، لبيان حالص المخلص في عمله لوجه الله، والذي يطلب بعمله أعراض الدنيا ذكراً أو أنثى، لأن ﴿ مَن ﴾ من صيغ العموم، وقوله: (بعمله) المراد به خدمته في الدنيا، صلاة أو صوماً أو غيرهما، كالسعي على العيال، وحينئذ فالمدار على النية الحسنة، إذ بها تصير العادات عبادات. قوله: (الحسنة) منصوب بالمصدر الذي هو التضعيف. قوله: ﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا ﴾ إلخ، أي بعمله وخدمته، والمعنى: من صرف نيته للدنيا، وجعل عمله وخدمته لها، نعطيه ما قسم له منها، وبعد ذلك ليس له في الآخرة حظ ولا نصيب، فالذي ينبغي للشخص أن يسعى فيما يرضي ربه، ويقصد بعمله وجه خالقه وسيده، يحصل له غنى الدنيا والآخرة، ومن معنى هذه الآية حديث:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دينا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه "وحديث:" أوحى الله إلى الدنيا: يا دنيا، من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه "قوله: (ما قسم له) مفعول ﴿ نُؤْتِهِ ﴾.
قوله: ﴿ وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ أي حظ من النعيم، واعلم أن المقام فيه تفصيل، فإن تجرد عمله للدنيا، وقدم السعي فيها على الإيمان، فهو مخلد في النار، وليس له في الآخرة نعيم أصلاً، وأما إن كان التفريط فيما عدا الإيمان، كأن يرائي بعمله قصداً لطلب الدنيا، فهم مسلم عاص، له نعيم في الآخرة غير كامل. قوله: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ﴾ قدرها المفسر ببل التي للانتقال من قصة إلى قصة، وقدرها غيره ببل، والهمزة التي للتوبيخ والتقريع، وهو متصل بقوله:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً ﴾[الشورى: ١٣].
قوله: (شياطينهم) أي الذين شاركوكم في الكفر والعصيان. قوله: ﴿ شَرَعُواْ لَهُمْ ﴾ إسناد الشرع إلى الشياطين مجاز من الإسناد للسبب، أنها سبب إضلالهم. قوله: ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي حكم بين الكفار والمؤمنين، بأن يعذب الكفار، ويثيب المؤمنين، ولكن حكم الله وقضى في سابق أزله، أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة.
قوله: ﴿ تَرَى ٱلظَّالِمِينَ ﴾ خطاب لكل من تتأتى منه الرؤية. قوله: ﴿ مُشْفِقِينَ ﴾ (حال) أي حال كونهم خائفين في ذلك اليوم، وهذا الخوف زيادة عذاب لهم، وأما المنجي فهو الخوف في الدنيا من عذاب الله. قوله: (أن يجازوا عليها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي من جزاء ما كسبوا. قوله: (لا محالة) أي أشفقوا أو لم يشفقوا. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ مبتدأ خبره ﴿ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ ﴾.
قوله: (أنزهها بالنسبة إلى من دونهم) أي فروضة الجنة، أي أعلاها وأطيبها، وفيه إشارة إلى أن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات في الجنة، غير أنهم ليسوا في الأعلى، ولا في الأطيب. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ظرف ليشاؤون، والعندية مجازية. قوله: ﴿ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ ﴾ أي الذي لا يوصف، لأن الله تعالى بجلاله وعظمته وصفه بالكبر، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف الحوادث.
قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ﴾ خبره، والعائد محذوف قدره المفسر بقوله: (به) حذف الجار فاتصل الضمير، وهذا على الصحيح من أنها اسم موصول، وأما على رأي يونس من أنها مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد، والتقدير عنده ذلك تبشير الله إلى عباده. قوله: (من البشارة) أي وهي الخبر السار. قوله: (مخففاً ومثقلاً) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي قل يا محمد لأمتك: لا أطلب منكم أجراً في نظير تبليغ الرسالة وتبشيري اياكم؛ ولا خصوصية له صلى الله عليه وسلم بذلك، بل جميع الأنبياء لا يسألون الأجرة، لأن سؤال الأجرة على الأمور الأخروية، نقص في حق غير الأنبياء فأولى الأنبياء. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال، الأول عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب من قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، وكان له فيهم قرابة، فقال الله عز وجل: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ أي ما بيني وبينكم من القرابة، والمعنى: إن لم تتبعوني، فاحفظوا حق القربى، وصلوا رحمي، ولا تؤذوني، يعد عليكم نفعها، لما في الحديث:" الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني "فثمرته عائدة عليهم لا على النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني عنه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، لم يكن في يده سعة فقالت الأنصار: إن هذا الرجل هداكم، وهو ابن أختكم، وأجاركم في بلدكم، فلجمعوا له طائفة من أموالكم، ففعلوا ثم أتوه بها فردها عليهم، ونزلت الآية، وحينئذ فالخطاب للأنصار. الثالث عن الحسن: أن معناه إلا أن تجعلوا محبتكم ومودتكم محصورة في التقرب إلى الله بطاعته وخدمته لا لغرض دنيوي، فالقربى على الأول القرابة بمعنى الرحم، وعلى الثاني بمعنى الأقارب، على الثالث بمعنى القرب والتقرب، واعلم أن طلب الأجر على التبليغ لا يجوز لوجوده، الأول: تبري الأنبياء جميعاً منه. الثاني: أن التبليغ واجب، وطلب الأجرة على أداء الواجب لا يليق بأفراد الأمة فضلاً عن الأنبياء. الثالث: أن النبوة أمر عظيم، والدنيا وإن عظمت حقيرة، لا تزن جناح بعوضة، ولا يليق طلب الخسيس في دفع الشريف، وغير ذلك، إن قلت: حيث كان الأمر كذلك، فما معنى الاستثناء في الآية؟ أجيب بجوابين، الأول: أن هذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم، على حد قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائبفالمعنى: لا أطلب إلا هذا، وهو في الحقيقة ليس بأجر، لأن المودة بين المسلمين واجبة، خصوصاً في حق أشرافهم، وحينئذ فيكون الاستثناء متصلاً بالنظر للظاهر. الثاني: أن الاستثناء منقطع كما قال المفسر، وحينئذ فالكلام تم عند قوله: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ ثم قال: ﴿ إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ أي أذكركم قرابتي، والمراد بقرابته قيل: فاطمة وعلي وابناهما، وقيل: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، لما" روي عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " قيل لزيد بن أرقم: فمن أهل بيته؟ فقال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، وقيل: هم الذين تحرم عليهم الزكاة، وقيل: غير ذلك، "فتحصل أن الخطاب على القول الأول لقريش، وعلى الثاني للأنصار، والعبرة بعموم اللفظ، لأن رحم النبي، رحم لكل مؤمن، لقوله تعالى:﴿ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾[الأحزاب: ٦] فمحبة أهل البيت، فيها السعادة والسيادة، دنيا وأخرى، والمرء يحشر مع من أحب، وقوله: ﴿ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ الظرفية مجازية. والمعنى: إلا المودة العظيمة المحصورة في القربى، وإنما لم يعدها باللام لئلا يتوهم زيادة اللام، فيكون الكلام خالياً من البلاغة، فالتعبير بفي للمبالغة، إشارة إلى أنهم جعلوا محلاً للمودة، وهم لها أهل. قوله: (فإن له في كل بطن) أي قبيلة. قوله: (من قريش) أي وهم أولاد النضر بن كنانة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ حَسَنَةً ﴾ فسرها ابن عباس بالمودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (بتضعيفها) أي من عشرة إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير ذلك. قوله: ﴿ شَكُورٌ ﴾ (للقليل) أي يقبله ويثيب عليه. قوله: (وقد فعل) أي وقد ختم على قلبه صلى الله عليه وسلم بأن صيره على ما ذكر، فدل كلامه على أن مشيئة الختم هنا مقطوع بوقوعها. قوله: ﴿ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ ﴾ كلام مستأنف غير داخل في حيز الشرط، لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً. قوله: ﴿ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي القرآن. قوله: (بما في القلوب) أشار بذلك إلى أنه أطلق المحل وأراد الحال. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحول المحموجة، ولها شروط ثلاثة: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على ألا يعود إليها أبداً فإن كانت المعصية بحق آدمي، فيزاد على هذه الثلاثة رابع، وهو استسماح صاحب الحق، ويكفي عند مالك براءة المجهول، فلا يشترط عنده أن يعين له ذلك الحق، فإذا تاب بالشروط، وقدر الله عليه الوقوع في الذنب مرة أخرى، فإنه يتوب، ولا يقنط من رحمة الله تعالى، ولا ترجع عليه ذنوبه التي تاب منها. قوله: (منهم) أشار بذلك إلى أن ﴿ عَنْ ﴾ بمعنى من، والقبول بمعنى الأخذ. قوله: (المتاب منها) أي ويصح أن المراد ولو لم يتب، فمن صفاته تعالى أنه يقبل توبة التائب، ويعفو عن سيئات من لم يتب، إذا لا يسأل عما يفعل. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (يجيبهم إلى ما يسألون) أشار بذلك إلى أن السين والتاء زائدتان، والموصول مفعول به، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى.
قوله: ﴿ لَبَغَوْاْ ﴾ (جميعهم) دفع بذلك ما يقال: إن البغي حاصل بالفعل فكيف يصح انتفاؤه؟ فأجاب: بأن اللازم المنتفي هو بغي جيمعهم، والملزوم بسط الرزق للجميع وإلا فبغي البعض، وبسط الرزف للبعض، حاصل في كل زمن. قوله: (أي طغوا) ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي لأن الله تعالى لو سوى في الرزق بين جميع عباده، لامتنع كون البعض محتاجاً للبعض، وذلك يوجب خراب العالم وفساد نظامه، فأفعال الله تعالى لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله فعلها وذلك يوجب خراب العالم وفساد نظامه، فأفعال فأفعال الله لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله فعلها، فقد يعلم من حال عبد، أنه لو يبسط عليه الرزق، قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا مصلحة له، ففي حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلن فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:" إن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده الفقر، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده الغنى، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير "ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين الذي لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرتي برحمتك. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (فيبسطها لبعض دون بعض) أي ويبسطها للبعض أحياناً، ويضيقها عليه أحياناً، فلا يسأل عما يفعل. قوله: ﴿ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ ﴾ تعليل لما قبله. والمعنى عليم بالبواطن والظواهر. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ ﴾ بالتخفيف والتشديد، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾ العامة على فتح النون، وقرئ شذوذاً بكسر النون، وبه قرئ في المتواتر، فتحصل أنه في المضارع قرئ بالوجهين قراءة سبعية، وفي الماضي لم يقرأ في السبع إلا بالفتح، والكسر قراءة شاذة، وإن كان لغة فيه. قوله: (يبسط مطره) أشار بذلك إلى أن المطر سمي باسمين: الغيث لأنه يغيث من الشدائد، والرحمة لأن رحمة وإحسان للخلق، ويصح أن يراد بالرحمة البراكات؛ أي بركات الغيث، ومنافعه في كل شيء، ومن السهل والجبل والنبات والحيوان وحينئذ فيكون عطفه على ما قبله، من عطف المسبب على السبب. قوله: (المحمود عندهم) أي وعند جميع المخلوقات، وإنما خص المؤمنين تشريفاً لهم.
قوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ أي دلائل قدرته وعجائب وحدانيته. قوله: ﴿ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي فإنهما بذاتهما وصفاتهما، يدلان على اتصاف خالقهما بالكمالات، قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ﴾الآية: قوله: ﴿ وَ ﴾ (خلق) ﴿ مَا بَثَّ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَمَا بَثَّ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ مسلط عليه ﴿ خَلْقُ ﴾ ويصح أن يكون في محل رفع عطف على ﴿ خَلْقُ ﴾.
قوله: (هي ما يدب على الأرض) أشار بذلك إلى أن المراد في أحدهما، فهو من إطلاق المثنى على المفرد، كما في قوله تعالى:﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ ﴾وإنما يخرجان من أحدهما وهو الملح، وهذا أسلم وأحسن مما قيل: إن الآية باقية على ظاهرها، ولا مانع من أن الله تعالى خلق حيوانات في السماوات، يمشون فيها كمشي الأناسي على الأرض، لأن ذلك بعيد من الافهام، لكونه على خلاف العرف العام. قوله: ﴿ إِذَا يَشَآءُ ﴾ متعلق بجمعهم، و ﴿ قَدِيرٌ ﴾ خبر الضمير.
﴿ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ ﴾ متعلق بقدير، والمعنى: وهو قدير على جمعهم في أي وقت شاء، وهو معنى قوله تعالى:﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾[يس: ٨٢] فمتى أراد الله شيئاً أبرزه بقدرته. قوله: (في الضمير) أي وهو قوله: ﴿ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ ﴾ ولو لم يرد التغليب لقال على جمعها. قوله: (خطاب المؤمنين) أي وأما مصائب الكفار في الدنيا، فتعجيل لبعض العقاب لهم. قوله: ﴿ مِّن مُّصِيبَةٍ ﴾ بيان لما، وقوله: ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ جواب الشرط إن جعلت ما شرطية، أو خبر المبتدأ إن جعلت موصولة، وقرنت بالفاء لما في المبتدأ على معنى الشرط، وهذا على ثبوت الفاء، وأما على حد قراءة حذفها، فالأولى جعلها خبراً وما موصولة، وجعلها شرطية يلزم عليه حذف الفاء في جوابه وهو شاذ والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ من تتمة قوله: ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ والمعنى: أن الذنوب قسمان، قسم تعجيل العقوبة عليه في الدنيا بالمصائب، وقسم يعفو عنه فلا يعاقب عليه بها، وما يعفو عنه أكثر، قال عيل بن أبي طالب: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير؛ فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه؟ وقد روي هذا المعنى مرفوعاً عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال علي بن أبي طالب: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ الآية؟" يا علي، ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فيما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا، فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه "وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من اختلاف عرق، ولا خدش عود، ولا نكتة حجر، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر "وقال الحسن: دخلنا على عمران بن حصين، فقال رجل: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع، فقال عمران: يا أخي لا تفعل، فوالله إتي لأحب الوجع، ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، قال تعالى: ﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر. وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها، إلا بذنب لم يكن الله ليغفره إلا بها، أو لنيل درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها. وروي أن رجلاً قال لموسى: يا موسى سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها، ففعل موسى، فلما ترك إذا هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله، فقال موسى: يا رب ما بال هذا؟ فقال الله تعالى: يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لا يبلغها بعمله، فأصبته بما ترى، لأجعله وسيلة له في نيل تلك الدرحة. قوله: (وهو تعالى أكرم) إلخ، متعلق بقوله: ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ فكان المناسب تقديمه بلصقه. قوله: (من أن يثني الجزاء في الآخرة) أي من أن يعيد الجزاء بالعقوبة في الآخرة، لأن الكريم لا يعاقب مرتين. قوله: (وأما غير المذنبين) أي كالأنبياء والأطفال والمجانين. قوله: (لرفع درجاتهم) وقيل في الأطفال: إن مصائبهم لتكفير سيئات أبويهم، وفي الحقيقة رفع درجات لهم، وتكفير لآبائهم. قوله: (يا مشركين) كذا في النسخ التي بأيدينا، والصواب يا مشركون، لأن المنادى يبنى على ما يرفع، وهو يرفع بالوو.
قوله: ﴿ بِمُعْجِزِينَ ﴾ (الله) أي فارين من عذابه. قوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ أي أدلة توحيده وعجائب قدرته. قوله: ﴿ ٱلْجَوَارِ ﴾ بحذف الياء خطأ، لأنها من ياءات الزوائد، واثباتها في اللفظ وصلاً ووقفاً، وحذفها كذلك أربع قراءات سبعيات. قوله: (السفن) استشكل بأن الظاهر الآية، يوهم حذف الموصوف وإبقاء صفته، مع أن الجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف وهو (السفن) وحينئذ فلا يجوز حذفه لعدم علمه. قال ابن مالك: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقلأجيب: بأن محل الإمتناع، إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد، بأن تغلب عليها الاسمية، كالأبطح والأبرق والأجرع، وإلا جاز حذف الموصوف، ولذلك فسر ﴿ ٱلْجَوَارِ ﴾ بالسفن، ولم يقل أي السفن، ولم يقل أي السفن الجارية. قوله: ﴿ فَيَظْلَلْنَ ﴾ بفتح اللام وفي قراءة العامة، من ظلل بكسرها كعلم، وقرئ شذوذاً فيظللن بكسر اللام من ظل بفتحها كضرب. قوله: (أي يصرن) أشار بذلك إلى أن المراد من ظل الصيرورة في ليل ونهار، وليس المراد معناها، وهو اتصاف المخبر عنه بالخبر نهاراً. قوله: ﴿ رَوَاكِدَ ﴾ جمع راكد، يقال: ركد الماء ركوداً، من باب قعد سكن، ويوصف به الريح والسفينة وكل شيء سكن بعد تحركه. قوله: ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا. قوله: (عطف على يسكن) أي فالمعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن، ولا مفهوم له، بل قد يغرقها الله بسبب آخر، كقلع لوح أو غير ذلك. قوله: (بعصف الريح بأهلهن) أي اشتدادها، وإنما قيد به، وإن كانت أسباب الغرق كثيرة، نظراً للشأن والغالب. قوله: (أي اهلهن) تفسير للواو في ﴿ كَسَبُوا ﴾ العائد على أهل السفن المعلوم من السياق. قوله: ﴿ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ قرأ العامة بالجزم، عطفاً على جواب الشرط، واستشكل بأنه يلزم عليه دخول العفو في حيز المشيئة، مع أنه إخبار عن العفو، من غير شرط المشيئة، وأجيب: بأن الجزم من حيث الصورة الظاهرية، لا من حيث المعنى، وقرئ شذوذاً ويعفو بالرفع والنصب، أما قراءة الرفع فهي محتملة لوجهين: الأول الاستئناف، الثاني الجزم، وزيدت الواو للإشباع، كزيادتها في من يتقي ويصبر، وأما قراءة النصب، فهي على إضمار أن بعد الواو، وقال ابن مالك: والفعل من بعد الجزا إن يقترن بالفا أو الواو بتثليث قمنوهذا نظير ما في قوله تعالى:﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾[البقرة: ٢٨٤].
قوله: (منها) أي الذنوب أو السفن. قوله: (بالرفع مستأنف) أي وهو يعلم، وقوله: (وبالنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (لينتقم منهم) أي بالغرق، وهو تعليل للإغراق.
قوله: ﴿ فَمَآ أُوتِيتُمْ ﴾ ما الشرطية مفعول ثان لأوتيتم، والأول ضمير المخاطبين به نائب الفاعل، و ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ بيان لما، وقوله: ﴿ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ جملة من مبتدأ وخبر جواب الشرط. قوله: (من أثاث الدنيا) أي منافعها من مأكل ومشرب وملبس ومنكح ومركب وغير ذلك، واحدة أثاثة، وقيل: لا واحد له من لفظه. قوله: (ثم يزول) أخذ من قوله: ﴿ مَتَاعُ ﴾ لأن المتاع هو ما يتمتع به تمتعاً ينقضي. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالإيمان وماتوا عليه. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي يعتقدون أن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه، ولا ضار ولا نافع سواه، والتوكل بهذا المعنى شرط في صحة الإيمان، وأما إن أريد به تفويض الأمور إليه، والاعتماد عليه في جميع ما ينزل بالشخص، فليس شرطاً في صحته، بل هو وصف كامل الإيمان، وليس مراداً هنا، لأن ما عند الله من الثواب، يكون لعموم المؤمنين. قوله: (ويعطف عليه) أي على قوله: ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾.
قوله: ﴿ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ ﴾ هي كل ما ورد فيها حد أو وعيد. قوله: (من عطف البعض على الكل) مراده عطف الخاص على العام، لأن من الكبائر ما فيه الوعيد، ولا حد فيه، كالغيبة والنميمة والعجب والرياء. قوله: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ ﴾ إلخ ﴿ إِذَا ﴾ ظرف منصوب بيغتفرون مجرد عن معنى الشرط، و ﴿ مَا ﴾ صلة، و ﴿ هُمْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ يَغْفِرُونَ ﴾ خبره، والجملة معطوفة على الصلة، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون، عطف جملة اسمية على فعلية، ويصح أن تكون ﴿ إِذَا ﴾ شرطية، و ﴿ مَا ﴾ صلة، و ﴿ غَضِبُواْ ﴾ فعل الشرط و ﴿ هُمْ ﴾ تأكيد للواو، و ﴿ يَغْفِرُونَ ﴾ جواب الشرط، وأما جعل ﴿ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ جملة من مبتدأ وخبر جواب الشرط فشاذ، لخلوه من الفاء، ولا ينبغي حمل التنزيل عليه، والمعنى: أن مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم، غير مخل بالمروءة ولا واجباً، وإلا فالغضب مطلوب، كما إذا انتهكت حرمات الله، فالواجب الغضب لا الحلم، وعليه قول الإمام اشلافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، وقال الشاعر: إذ قيل حلم قل فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهلوبالجملة فكل مقام له مقال.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ ﴾ معطوف على الموصول المتقدم، وهذه الآية نزلت في الأنصار، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له، ونقب عليهم اثني عشر نقيباً قبل الهجرة. قوله: (أجابوه إلى ما دعاهم) إلخ، أي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار المفسر إلى أن السين والتاء زائدتان. قوله: ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي أدوها بشروطها وآدابها. قوله: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ والشورى مصدر شاورته أي شاركته في الرأي كالبشرى، وكانت الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أمراً، تشاوروا فيه ثم عملوا عليه، فمدحهم الله تعالى به وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك، قال تعالى:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾[آل عمران: ١٥٩] تأليفاً لقلوب أصحابه، وذلك في الأمور الاجتهادية، كالحروب ونحوها، ولم يكن يشاورهم في الأحكام، لأنها منزلة من عند الله تعالى، وكانت الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم يتشاورون في المهمات من أمور الدين والدنيا، وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، لأن النبي لم ينص عليها، فوقع بينهم اختلاف، ثم اجتمعوا وتشاوروا فيه، فقال عمر: نرضى لدنيانا ما رضيه النبي لديننا، فوافقوه على ذلك، وبالجملة فالشورى أمرها عظيم، قال الحسن: ما تشاور قوم قط، إلا هدوا إلى أرشد أمورهم، وفي الحديث:" إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركن شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإن كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ". قوله: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أي في وجوه البر، وكانوا يقدمون غيرهم عليهم، قال تعالى في وصفهم:﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾[الحشر: ٩].
قوله: (ومن ذكر صنف) أي المؤمنون المتقدمون، فتحصل أن الله تعالى جعل المؤمنين صنفين، صنفاً يعفون عمن ظلمهم، وقد ذكرهم الله تعالى في قوله:﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾[الشورى: ٣٧] وصنفاً ينتقمون ممن ظلمهم، وقد ذكرهم الله في قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾.
قوله: ﴿ يَنتَصِرُونَ ﴾ هذا في الإعراب كقوله:﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾[الشورى: ٣٧] سواء بسواء، ويزيد هنا: أنه يصح أن يكون ﴿ هُمْ ﴾ توكيداً للضمير المنصوب في ﴿ أَصَابَهُمُ ﴾ وحينئذ ففيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل. قوله: (وهذا) أي قوله مثلها، وقوله: (من الجراحات) أي وغيرها من سائر الحقوق التي يمكن استيفاؤها. قوله: (قال بعضهم) هو مجاهد والسدي.
قوله: ﴿ فَمَنْ عَفَا ﴾ الفاء للتفريع، أي إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة، فالأولى العفو والإصلاح لتعذر المماثلة غالباً. قوله: ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ (الود بينه وبين المعفوّ عنه) أشار بذلك إلى أن الإصلاح من تمام العفو، وفيه تحريض وحث على العفو، فإن أمره عظيم، وفيه تفويض الأمر إلى الله تعالى، والله لا يخيب من فوض الأمر إليه. قوله: (أي البادئين بالظلم) أي الذين فعلوا الظلم ابتداء. قوله: ﴿ وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ﴾ اللام للابتداء، ومن شرطية، وجملة ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ إلخ، جواب الشرط أو موصولة مبتدأ، وقوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ خبره، ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. قوله: (أي ظلم الظالم إياه) أشار بذلك إلى أن المصدر مضاف للمفعول، وفي هذه إشارة إلى أن للمظلوم أن يأخذ حقه ممن ظلمه بنفسه، وهو جائز بشرط أن لا يزيد على حقه، وأن يأمن من ولاة الأمور، وأن يكون حقه ثابتاً. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾ أي لأنهم فعلوا ما هو جائز لهم. قوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ قيد به اشارة إلى أن البغي قد يكون مصحوباً بالحق، كما إذا أخذ حقه من التجاوز فيه. قوله: ﴿ وَلَمَن صَبَرَ ﴾ إلخ عطف على قوله: ﴿ وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ﴾ وجملة ﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ ﴾ إلخ اعتراض، وكرر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه، واشارة إلى أنه محمود العاقبة وهو أولى، إن لم يترتب عليه مفسدة، وإلا كان الانتصار أولى. قوله: ﴿ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾ أي من الأمور التي أمر الله بها وأكد عليها. قوله: ﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ ﴾ أي يمنعه عن الهدى. قوله: ﴿ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ ﴾ خطاب لكل من تأتى منه الرؤية وهي بصرية، والجملة بعدها حال. قوله: ﴿ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾ عبر عنه بالماضي اشارة لتحقق الوقوع.
قوله: ﴿ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ﴾ حال، وكذا، قوله: ﴿ خَاشِعِينَ ﴾.
قوله: (أي النار) أي المعلومة من دلالة العذاب عليها. قوله: ﴿ مِنَ ٱلذُّلِّ ﴾ متعلق بخاشعين أي من أجل الذل. قوله: (مسارقة) أي يسارقون النظر إليها، خوفاً منها وذلاً في أنفسهم. قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ظرف لخسروا، والقول واقع في الدنيا، أو ظرف لقال، فهو واقع يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع. قوله: (بتخليدهم في النار) إلخ، لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُم ﴾ ﴿ لَهُم ﴾ خبر مقدم، و ﴿ مِّنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿ مِّنْ ﴾ زائدة، و ﴿ يَنصُرُونَهُم ﴾ صفة لأولياء. قوله: ﴿ ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ ﴾ السين والتاء زائدتان كما أشار له المفسر بقوله: (أجيبوه) والمعنى: أجيبوا داعي ربكم وأطيعوه فيما يأمركم به من التوحيد والعبادة. قوله: ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ إلخ، أي أطيعوا في الدنيا هي ظرف للأعمال والإيمان، قبل أن يأتي يوم الحسرة والندامة، فإنه إذا جاء لا يرده الله، ففيه وعيد للكافرين. قوله: (لا يرده) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بمرد. قوله: ﴿ مِّن مَّلْجَأٍ ﴾ أي مفر ومهرب. قوله: (إنكار لذنوبهم) أي لأنها مكتوبة في صحائفهم، تشهد بها الملائكة والجوارح، والمراد إنكار نافع، وإلا فالكفار أولاً ينكرون الذنوب طمعاً في العفو، ثم لما لم يجدوا مخلصاً يقرون، وما قاله المفسر أوضح ما قاله غيره، إن المراد بالنكير الناصر الذي ينصرهم لإغناء قوله من ملجأ عنه. قوله: ﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ هذه الجملة تعليل للجواب المحذوف، والتقدير: فلا تحزن، أو لا عتاب عليك، أو لا تكلف بشيء، لأننا ما أرسلناط إلخ. قوله: (بأن توافق) أي أعمالهم الصادرة منهم، وقوله: (المطلوب منهم) أي الأعمال المطلوبة منهم كالإيمان والطاعة. والمعنى: لم نرسلك لتخلق الهدى في قلوبهم، وتجعل أعمالهم موافقة للوجه الذي طلبناه منهم. قوله: (وهذا قبل الأمر بالجهاد) اسم الإشارة عائد على الحصر. والمعنى: أن هذا الحصر منسوخ، لأنه بعد الأمر بالجهاد عليه البلاغ والقتال. قوله: ﴿ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ ﴾ إلخ، الحكمة في تصدير النعمة بإذا، والبلاء بإن، الإشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب غضبه. قوله: ﴿ فَرِحَ بِهَا ﴾ أي فرح بطر وتكبر. قوله: (الضمير) أي في ﴿ تُصِبْهُمْ ﴾.
قوله: (باعتبار الجنس) أي الاستغراق فجمعه باعتبار المعنى. قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ في ذلك إشارة إلى أن المصيبة تكون بسبب كسب المعاصي، والنعمة تكون بمحض فضل الله، قال تعالى:﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾[النساء: ٧٩] فالواجب على الإنسان، إذا أعطاه الله نعمة، أن يشكره عليها ويصرفها فيما يرضيه، وإذا أصيب بمصيبة، فليصبر عليها ويحمده عليها، فلعلها تكون كفارة لما اقترفه.
قوله: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي بتصرف فيهما كيف يشاء. قوله: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي من حيوانات وغيرها. قوله: ﴿ يَهَبُ ﴾ من وهب كوضع، والمصدر وهباً بسكون الهاء، وفتحها وهبة، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء، وهو العطاء من غير مقابل ولا عوض. قوله: ﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ أي الآباء والأمهات. قوله: (من الأولاد) متعلق بيهب لا بيان لمن، لأنها عبارة عن الآباء والأمهات. قوله: ﴿ إِنَاثاً ﴾ قدمهن اشارة إلى أنه يفعل ما يشاء، لا ما يشاؤه عباده، فالإناث مما يشاؤه هو، ونكرهن لانحطاط رتبتهن عن الذكور، ولذا عرف الذكور وقدمهم آخراً. قوله: (أي يجعلهم) ﴿ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ مفعول ثان ليزوج، والمعنى: يجعل الأولاد ذكراناً وإناثاً حال كونهم مزدوجين. قوله: ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ ﴿ مَن ﴾ واقعة على الرجل والمرأة، فقوله:(فلا يلد) أي إذا كان امرأة، وقوله: (ولا يولد له) أي إذا كان رجلاً، فالعقيم هو الذي لا يولد له ذكراً أو أنثى، وفعله من باب فرح ونصر، وكرم، وقال ابن عباس: يهب لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً عليهما السلام، لأنهما لم يكن لهما إلا البنات، ويهب لمن يشاء الذكور، يريد إبراهيم عليه السلام، لأنه لم يكن له إلا الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، يريد محمداً صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له من البنين ثلاثة على الصحيح: القاسم وعبد الله وإبراهيم، ومن البنات أربع: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ويجعل من يشاء عقيماً، يريد يحيى وعيسى عليهما السلام انتهى، ولكن حمل الآية على العموم أولى، لأن المراد بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء.
قوله: ﴿ أَن يُكَلِّمَهُ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم ﴿ كَانَ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (أن يوحى إليه) أشار بذلك إلى أن ﴿ وَحْياً ﴾ منصوب على الاستثناء المفرغ، خلافاً لمن قال إنه منقطع نظراً لظاهر اللفظ، فإن الوحي ليس بتكليم، والوحي الإشارة والرسالة والكتابة، ولك ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ثم غلب استعماله فيما يلقى إلى الأنبياء. قوله: (في المنام) أي فرؤيا الأنبياء حق، وذلك لما وقع للخليل حين أمر بذبح ولده في المنام، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أنه يدخل مكة فصدق الله رؤياهما، وقوله: (أو بالإلهام) أي الإلقاء في القلوب لا بواسطة ملك، وقد يقع الإلهام لغير الأنبياء فإلهامخم محفوظ منه. قوله: ﴿ أَوْ ﴾ (إلاَّ) ﴿ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ معطوف على ﴿ وَحْياً ﴾ باعتبار متعلقة تقديره إلا أن يوحي إليه أو يكلمه. قوله: (ولا يراه) أشار بذلك إلى أن المراد من الحجاب لازمه وهو عدم الرؤية. والحجاب وصف العبد لا وصف الرب. قوله: (كما وقع لموسى عليه السلام) أي في جميع مناجاته كما تقدم مفصلاً. قوله: ﴿ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ﴾ برفع اللام وكذا يوحي ونصبهما قراءتان سبعيتان، فالرفع خبر لمحذوف أي هو يرسل، والنصب على ﴿ وَحْياً ﴾ بإضمار أن، قال ابن مالك: وإن على اسم خالص فعل عطف تنصبه إن ثابتاً أو منحذفقوله: (كجبريل) أدخلت الكاف غيره كإسرافيل وملك الجبال، فإن الله تعالى أرسل كلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ ﴾ (عن صفات المحدثين) أي منزه ومقدس عنها. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي يضع الشيء في محله. قوله: (أي مثل إيحائناإلى غيرك) إلخ، التشبيه في مطلق الإيحاء والإرسال، لأنه صلى الله عليه وسلم وقع له في الكلام والرؤية، بخلاف باقي الأنبياء، فهو من تشبيه الاكمل بالكامل، بسابقية الكامل في الوجود، فالحصر المتقدم بالنسبة للأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يقال: إن الآية تدل على أن الوحي منحصر في هذه الثلاثة، ولا يشمل الكلام مشافهة، مع أنه وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (هو القرآن) هذا أحد تفاسير في الروح، وقيل الرحمة، وقيل هو الوحي، وقيل الكتاب، وقيل جبريل. قوله: (به تحيا القلوب) أي فشبه بالقرآن بالروح من حيث إن كلاً به الحياة، فالقرآن به حياة الأرواح، والروح بها حياة الأشباح.
قوله: ﴿ مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ ﴿ مِّنْ ﴾ تبعيضية حال. والمعنى: حال كون هذا القرآن بعض ما نوحيه إليك، لأنه ورد أنه أعطي القرآن ومثله معه. قوله: ﴿ مَا ٱلْكِتَابُ ﴾ الكلام على حذف مضاف أي جواب ﴿ مَا ٱلْكِتَابُ ﴾ والمعنى جواب هذا الاستفهام. قوله: ﴿ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ﴾ إن قلت: إن الأنبياء لم تحجب أرواحهم بدخولها في الأشباح، عن التوحيد الأصلي الكائن في يوم ألست بربكم، بل بعض الأولياء كذلك، فكيف يقال في حق نبينا عليه الصلاة والسلام ﴿ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ﴾ مع أنه كان يتعبد قبل البعثة، وحاشاة أن يعبد الله مع جهله بمعبوده؟ أجاب المفسر: بأن الكلام على حذف مضاف، أي شرائع الإيمان ومعالمه، كالصلاة والصوم والزكاة والطلاق والغسل من الجنابة وتحريم المحارم بالقرابة والصهر، والمراد بالإيمان الإسلام. قوله: (والنفي معلق) صوابه الاستفهام لأنه متأخر عن النفين وهو المعلق للفعل عن العمل لفظاً. قوله: (أو ما بعده) (أو) بمعنى الواو. قوله: ﴿ نَّهْدِي بِهِ ﴾ صفة لنور، أو سمي نوراً لأن بالنور الاهتداء في الظلمات الحسية، فكذا القآن يهتدى به في الظلمات المعنوية، والمراد الهداية الموصلة بدليل قوله: ﴿ مَن نَّشَآءُ ﴾.
قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ ﴾ أي تدل، والمفعول محذوف أي كل مكلف فتحصل أن المعنى أنت يا محمد، عليك البلاغ والدلالة وإقامة الحجج، ونحن نخلق الهداية والتوفيق في قلب من نختاره من عبادنا. قوله: (دين الإسلام) أي وسمي طريقاً، لأنه يحصل به الوصول إلى المقصود كالطريق الحسي. قوله: ﴿ صِرَاطِ ٱللَّهِ ﴾ بدل من ﴿ صِرَاطِ ﴾ الأول بدل معرفة من نكرة. قوله: ﴿ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ ﴾ ﴿ أَلاَ ﴾ أداة استفتاح يؤتى لها للاهتمام بما بعدها، والجار والمجرور متعلق بتصير، قدم للحصر، وأتى بهذه الجملة عقب التي قبلها، اشارة إلى أن كل من الله وإلى الله، فأفاد بالجملة الأولى، أن جميع ما في السماوات وما في الأرض، مملوك وناشئ منه، وأفاد بالجملة الثانية، أن جميع هذه الأشياء مرجعها إليه في كل ذرة ولمحة، فلا غنى عنه تعالى، والمراد من المضارع الدوام. والمعنى: شأنه رجوع الأمور إليه تعالى، وليس المراد حقيقته لأن الأمور متعلقة به في كل وقت، فإذا علمت ذلك، فكل شيء لا يستغني عن الله تعالى طرفة عين، قال العارف الشاذليب: ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فإذا شاهد الإنسان ذلك أورثه مقام المراقبة، ورؤية عجز نفسه واضطرارها وافتقارها إلى مالكها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فائدة: قال سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله: ﴿ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ ﴾ وغرق مصحف فانمحى كله إلا قوله: ﴿ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ ﴾ انتهى.