تفسير سورة الجن

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الجن من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (أي أخبرت بالوحي) أي أخبرني جبريل، وظاهر الآية أن النبي لم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته، وبه قيل، والصحيح أنه رآهم وعلم بهم، ويجاب عن الآية، بأن مصب الإيحاء قصة الجن مع قومهم، حين رجعوا إليهم بعد استماعهم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل ﴿ أُوحِيَ ﴾، والتقدير أوحي إلي استماع. قوله: ﴿ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ ﴾ النفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة، واختلف في عددهم، فقيل كانوا تسعة، وقيل سبعة، قوله: (جن نصيبين) قرية باليمن بالصرف على الأصل وعدمه للعلمية والعجمة. قوله: (في صلاة الصبح) وذلك أنه سار النبي صلى الله عليه وسلم في جملة من أصحابه قاصدين سوق عكاظ، وهو سوق معروف بقرب مكة، كانت العرب تقصده في كل سنة، مرة في الجاهلية، وأول الإسلام، وكان في ذلك الوقت، قد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فقال بعضهم لبعض: ما ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتنظروا، ما الذي حال بيننا وبين السماء، حتى منعنا بالشهب، فانطلق جماعة منهم. فمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو يصلي الصبح يقرأ فيها سورة الرحمن، وقيل:﴿ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾[العلق: ١] وكان ببطن نخل قاصدين سوق عكاظ. فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾ الخ. قوله: (بين مكة والطائف) بينه وبين مكة مسيرة ليلة. قوله: (في فصاحته) في بمعنى من، فهو يدل مما قبله، أو هي سببية. قوله: (وغزارة معانيه) أي كثرتها. قوله: (وغير ذلك) كالأخبار بالمغيبات. قوله: ﴿ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾ هذا يدل على أنهم كانوا مشركين، وروي أنهم كانوا يهوداً، وقيل: إن منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين. قوله: (وفي الموضعين بعده) أي وهما وأنه كان يقول أنه كان رجال، واسم كان ضمير الشأن، والجملة بعدها خبرها، وهي واسمها وخبرها خبر أن. قوله: ﴿ جَدُّ رَبِّنَا ﴾ الجد يطلق على معان، منها العظمة وهي المراد هنا، ومنها الغني والحظ، ومنه: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ومنها أبو الأب، وأما الجد بالكسر فهو السرعة في الشيء ضد التأني. قوله: ﴿ مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ﴾ هذه الجملة مفسرة لما قبلها. قوله: ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ ﴾ الخ، اعتذار من هؤلاء النفر، عما صدر منهم قبل الإيمان من الشرك، وإيضاحه أنهم يقولون: إنا ظننا واعتقدنا أن أحداً لا يكذب على الله، وأن ما قاله سفهاؤنا من نسبة الصاحبة والولد إليه حق وصدق، فلما سمعنا القرآن أسلمنا وعلمنا أنه كذب. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن مضمر، والجملة المنفية خبرها. ، قوله: ﴿ كَذِباً ﴾ نعت مصدر محذوف، أي قولاً كذباً. قوله: (بوصفه بذلك) أي بالصحابة والولد. قوله: (حتى تبينا كذبهم) أي ظهر لنا. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن هذه المقالة والتي بعدها كلامه تعالى؛ مذكورتان في خلال كلام الجن المحكي عنهم، وهو احد قولين، وقيل: إنهما أيضاً من كلام الجن.
قوله: ﴿ كَانَ رِجَالٌ ﴾ أي في الجاهلية. قوله: (حين ينزلون) الخ، أي وذلك أن العرب كانوا إذا نزلوا وادياً، عبثت بهم الجن في بعض الأحيان، لأنهم كانوا لا يتحصنون بذكر الله، وليس لهم دين صحيح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم، فكان الرجل يقول عند نزوله: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح، فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق، وردوا عليه ضالته، وأون من تعوذ بالجن، قوم من اليمن من بني حنيفة، ثم فشا في العرب، فلما جاء الإسلام، صار التعوذ بالله لا بالجن. قوله: ﴿ فَزَادُوهُمْ ﴾ الواو عبارة عن رجال الإنس، والهاء عبارة عن رجال الجن. قوله: (فقالوا) أي الجن المستعاذ بهم. قوله: (سدنا الجن) بضم السين، أي حصلت لنا السيادة على الجن غيرنا لقهرنا إياهم، وسدنا الإنس الذين استعاذوا بنا، وهذه المقالة بسبب الغطيان. قوله: ﴿ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً ﴾ هذه الجملة سادة مسد مفعولي الظن، والمسألة من باب التنازع، اعمل الثاني وضمر في الأول وحذف. قوله: (رمنا) أي قصدنا وطلبنا. قوله: ﴿ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ﴾ الخ، الضمير مفعول أول لوجد، وجملة ﴿ مُلِئَتْ ﴾ مفعول ثاني لها، و ﴿ حَرَساً ﴾ تمييز؛ جمع حارس كخدم وخادم. قوله: ﴿ وَشُهُباً ﴾ جمع شهاب ككتب وكتاب. قوله: (نجوماً محرقة) المناسب أن يقول: شعلاً منفصلة من نار الكواكب، لأن الشهاب شعلة من نار تنفصل من الكواكب، وتقدم ذلك عن المفسر. قوله: (وذلك) أي امتلاؤها بالحرس والشهب. قوله: ﴿ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾ أي لأجل الاستماع. قوله: ﴿ ٱلآنَ ﴾ ظرف حالي، والمراد الاستقبال. والحاصل: أن الشياطين كانوا أولاً يسترقون السمع، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات بغير شهب، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها بالشهب، فلما بعث ازداد تساقط الشهب حتى ملأ الفضاء وصارت لا تخطئهم، فمنعوا من الصعود بالكلية، لكن ما زالوا يتوجهون إلى الصعود فتعاجلهم الشهب. قوله: ﴿ رَّصَداً ﴾ صفة لشهاباً، وهو بمعنى اسم المفعول، أي مرصوداً له. قول: ﴿ أَشَرٌّ أُرِيدَ ﴾ الخ، قيل: القائل ذلك إبليس، وقيل: الجن فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فإنم يكذبون ويهلكون بتكذيبه؛ أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الإيمان والكفر. قوله: ﴿ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾ ﴿ مِنَّا ﴾ خبر مقدم، و ﴿ دُونَ ﴾ مبتدأ مؤخر، إما بمعنى غير وفتح لإضافته لغير متمكن، أو صفة لمحذوف تقديره ومنا فريق دون ذلك، وحذف الموصوف مع من التبعيضية كثير، ومن ذلك قولهم منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن الخ. قوله: (أي قوم غير صالحين) أي غير مسلمين. قوله: ﴿ كُنَّا طَرَآئِقَ ﴾ أي ذوي مذاهب مختلفة وأديان متفرقة. قوله: ﴿ قِدَداً ﴾ جمع قدة بالكسر، وهي في الأصل الطريق والسيرة، فاستعمالها في الفرق مجاز.
قوله: ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ ﴾ أي علمنا وتيقنا. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ حال، وكذا قوله: ﴿ هَرَباً ﴾.
قوله: (بتقدير هو) أي بعد الفاء، فهو اسمية، ولولا ذلك لحذفت الفاء وجزم جواباً للشرط. قوله: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ ﴾ أي وأنا بعد سماعنا القرآن مختلفون، فمنا من أسلم، ومنا من كفر. قوله: (الجائرون) أي فالقاسط الجائر، وأما المقسط فهو من أقسط بمعنى عدل، واعاد هاتين الجملتين مع ذكرهما أولا، ليصرح بمجازاة المسلم وضده. قوله: ﴿ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ إن قلت: الجن مخلوقون من النار، فكيف يعذبون بها؟ أجيب: بأنهم وإن خلقوا منها، لكن هم ضعاف، والنار قوية، وقوي النار يأكل ضعيفها. قوله: (وإنا وإنهم وإنه) للمبتدأ، وقوله: (في اثني عشر موضعاً) خبر أول، وقوله: (بكسر الهمزة) خبر ثان، وقوله: (هي) مبتدأ، و(إنه تعالى) الخ خبر، والجملة اعتراضية لبيان الاثني عشر، وقوله: (وإنا) أي في ثمان مواضع، وإنا ظننا؛ وإنا لمسنا الخ، وقوله: (وإنهم) أي في موضع واحد، وإنهم ظنوا، وقوله: (وإنه) أي في ثلاثة مواضع، وإنه تعالى، وإنه كان يقول، وإنه كان رجال، فصح قوله في اثني عشر موضعاً، وقوله: (وإنه تعالى) أي وهي أولها وآخرها، (وإنا منا المسلمون وما بينهما) أي بين الأول والآخر، وهو عشرة مواضع، وقيل هذه الاثني عشر موضعاً، أحدهما بالفتح لا غير أنه استمع نفر، وثانيهما بالكسر لا غير إنا سمعنا قرآناً عجباً وبعدها موضعان أحدهما بالفتح لا غير، وأن المساجد لله، وثانيهما فيه الوجهان وإنه لم قام عبد الله، فالجملة ستة عشر علم تفصيلها فتدبر. قوله: (بما يوجه به) أي بأن يؤول بمصدر يعطف على المصدر. قوله: (قال تعالى في كفار مكة) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ إلى آخره ليس متعلقاً بالجن، بل هو من جملة الموحى به. قوله: (وهو معطوف على أنه استمع) اي والتقدير: أوحي إلي استماع نفر، وكونهم لو استقاموا الخ. قوله: ﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ ﴾ أي لو آمن من هؤلاء الكفار، لبسطنا لهم الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، فيحوزون عز الدنيا والآخرة، والعامة على كسر واو ﴿ لَّوِ ﴾ على الأصل، وقرئ شذوذاً بضمها تشبيهاً بواو الضمير. قوله: (أي طريقة الإسلام) أي بالعمل بها، وهو امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات. قوله: ﴿ لأَسْقَيْنَاهُم ﴾ الخ ليس المراد خصوص السقيا، بل المراد التوسعة عليهم في الدنيا وبسط الرزق، وإنما اقتصر على ذكر الماء، لأن الخير والرزق كله في الماء، فهو أصل الأرزاق، قال عمر: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. قوله: ﴿ غَدَقاً ﴾ بفتحتين في السبع، وقرئ شذوذاً بفتح الغين وكسر الدال، وهو مصدر غدق من باب تعب، يقال غدقت عينه تغدق، أي هطل دمعها، وغدقت العين غدقاً كثير ماؤها. قوله: (وذلك) اسم الإشارة عائد على معلوم من السياق، والتقدير: ونزول الآية كان بعدما رفع الخ.
قوله: ﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ أي الماء، وفي للسببية. قوله: (علم ظهور) أي للخلائق، وإلا فهو تعالى لا يخفى عليه شيء، فالمعنى ليظهر لهم متعلق علمنا، وفي الآية معنى إشاري للصوفية، وهو أن العباد، لو حصلت منهم الاستقامة على الطريقة بالانهماك في مرضاة الله تعالى، لملأ الله قلوبهم بالأسرار والمعارف والمحبة الشبيهة بالماء في كونها حياة الأرواح، كما أن الماء حياة الأجسام، فيحصل لهم بسبب ذلك الفتنة، بأن يسكروا ويطربوا ويدهشوا ويوخرجوا عن الأهل والأوطان، فالاستقامة سبب للرزق الظاهري والباطني. قوله: (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ندخله) أشار بذلك إلى أنه ضمن نسلك معنى ندخل، فعداه للمفعول الثاني. قوله: ﴿ صَعَداً ﴾ مصدر صعد بكسر العين كفرح، وصف به العذاب على تأويله باسم الفاعل. قوله: (شاقاً) هذا تفسير باللازم، وإلا فمعنى الصعود العلو والارتفاع. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ﴾ هو من جملة الموحى به، أي وأوحى إلي كون المساجد مختصة بالله؛ واختلف في المراد بالمساجد، فقيل: هي جمع مسجد بكسر الجيم وهو موضع السجود، فالمراد به جميع البقاع، لأن الأرض جعلت كلها مسجداً لهذه الأمة، وقيل جمع مسجد بالفتح وهو الأعضاء الواردة في الحديث:" الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان ". والمعنى: أن هذه الأعضاء نعم أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغير الله، فتجحد نعمة الله، وقيل: المراد بها الأماكن المبنية للعبادة، وإضافة المساجد إلى الله تعالى للتشريف والتكريم، وقد تنسب لغيره على سبيل التعريف، كما في الحديث" صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فما سواه، إلا المسجد الحرام ". قوله: ﴿ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً ﴾ أي لا تعبدوا غير الله، فهو توبيخ للمشركين في عبادتهم الأصنام، وقيل المعنى: أفردوا المساجد بذكر الله تعالى، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، كما في الحديث:" من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لها ". وفي الحديث:" كان إذا دخل المسجد، قدم رجله اليمنى وقال: وإن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحداً، اللهم أنا عبدك وزائرك، وعلى كل مزور حق، وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار ". وإذا خرج من المسجد، قدم رجله اليسرى وقال:" اللهم صب علي الخير صباً، ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً، ولا تجعل معيشتي كداً، واجعل لي في الأرض جداً "أي غنى.
قوله: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ ﴾ الخ، سياق هذه الآية إنما يظهر في المرة الثانية، وهي التي كانت في الحجون، وكان معه فيها ابن معسود، وكان الجن إذ ذاك اثني عشر ألفاً، وقيل سبعين ألفاً، وبايع جميعهم وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، ووصفه الله بالعبودية، زيادة في تشريفه وتكريمه. قوله: (ببطن نخل) المناسب أن يقول: بحجون مكة، وهي المرة الثانية، وأما الأولى التي هي ببطن نخل، فكانوا سبعة أو تسعة، فلا يتأتى قوله: ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾.
قوله: (بكسر اللام وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (جمع لبدة) أي بكسر اللام، كسدرة وسدر، على قراءة الكسر أو ضمها، كغرفة وغرف على قراءة الضم. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي ﴾ الخ، سبب نزولها: أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم، قد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نجيرك وننصرك. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية أيضاً، وعليها ففي الكلام التفات من الغيبة للخطاب. قوله: (إلهاً) قدره إشارة إلى أن أدعو بمعنى اعتقد، فتتعدى لمفعولين، ولو فسرها بأعبد، لا ستغنى عن هذا التقدير. قوله: (غياً) أشار بذلك إلى أن المراد بالضر الغي؛ فأطلق المسبب وأريد السبب، فإن الضر سببه الغنى فهو مجاز مرسل، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَلاَ رَشَداً ﴾.
قوله: ﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي ﴾ الخ، بيان لعجزه عن شؤون نفسه، بعد بيان عجزه عن شؤون غيره. قوله: (استثناء من مفعول أملك) أي مجموع الأمرين وهما قوله: ﴿ ضَرّاً ﴾ و ﴿ وَلاَ رَشَداً ﴾ بعد تأويلهما بـ شيئاً، كأنه قال: لا أملك لكم شيئاً إلا بلاغاً، فهو استثناء متصل، وجملة ﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي ﴾ الخ، معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، أتى بها لتأكيد نفي الاستطاعة. قوله: (عطف على بلاغاً) أي كأنه قال: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالة، والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: وقال الله كذا، وأن أبلغ رسالاته، أي أحكامه التي أرسلني بها، من غير زيادة ولا نقصان. قوله: (في التوحيد) أخذ ذلك من قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ لأن الخلود قرينة كون المراد بالعاصي الكافر. قوله: ﴿ إِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ العامة على كسر إن لوقوعها بعد فاء الجزاء، وقرئ شذوذاً بفتحها، على أنها ما في حيزها تأويل مصدر خبر محذوف، والتقدير فجزاؤه أن له نار جهنم. قوله: (في له) أي حال من الهاء المجرورة باللام. قوله: ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ ﴾ جواب ﴿ إِذَا ﴾ والسين لمجرد التأكيد لا للاستقبال، لأن وقت رؤية العذاب، يحصل العلم المذكور، قوله: ﴿ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً ﴾ ﴿ مَنْ ﴾ إما استفهامية مبتدأ، و ﴿ أَضْعَفُ ﴾ خبره، أو موصولة، و ﴿ أَضْعَفُ ﴾ خبر لمحذوف أي هو أضعف، والجملة صلة الموصول، و ﴿ نَاصِراً ﴾ و ﴿ عَدَداً ﴾ تمييزان محولان عن المبتدأ على حد: أنا أكثر منك مالاً. قوله: (أو أنا) الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التوزيع تكلف لا داعي له، بل يصلح كل المعنيين لكل من القولين. قوله: (فقال بعضهم) هو النضر بن الحرث وقال هذا استهزاء به صلى الله عليه وسلم وإنكاراً للعذاب. قوله: ﴿ قَرِيبٌ ﴾ مبتدأ، و ﴿ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ فاعل سد مسد الخبر، و ﴿ مَا ﴾ موصولة، وعائدها محذوف أو مصدرية. قوله: (من العذاب) بيان لما. قوله: (لا يعلمه إلا هو) صفة لأجلاً.
قوله: ﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ بالرفع في قراءة العامة، على أنه بدل من ﴿ رَبِّيۤ ﴾ أو خبر لمحذوف، وقرئ شذوذاً بالنصب على المدح، وقرئ شذوذاً علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب. قوله: (ما غاب به) المناسب حذف قوله به. قوله: ﴿ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً ﴾ أي اظهاراً تاماً كاملاً يستحيل تخلقه، فليس في الآية ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف، ولكن اطلاع الأنبياء على الغيب، أقوى من اطلاع الأولياء، لأن اطلاع الأنبياء يكون بالوحي، وهو معصوم من كل نقص، بخلاف اطلاع الأولياء، فعصمة الأنبياء واجبة. وعصمة الاولياء جائزة. قوله: ﴿ إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ ﴾ أي إلا رسولا ارتضى له لإظهاره على بعض غيوبه، فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ﴾ الخ، تقرير وتحقيق للإظهار المستفاد من الاستثناء، كأنه قال: إلا من رسول، فإنه إذا أراد اظهاره على غيبه، جعل له ملائكة من جميع جهاته، يحرسونه من تعرض الشياطين له. قوله: (ملاكئة يحفظونه) أي من الجن، قال قتادة وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك يخبره، فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين عنه، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك، أخبروه بأنه شيطان فيحذره، فإذا جاء ملك قالوا له: هذا رسول ربك. قوله: ﴿ لِّيَعْلَمَ ﴾ (الله) الخ، متعلق بيسلك غاية له، قوله: (علم ظهور) دفع به ما قد يتوهم من قوله يعلم، أن العلم متجدد. فأجاب: بأن المعنى ليظهر متعلق علمه. قوله: ﴿ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ﴾ أي كما هي محفوظة من الزيادة والنقصان. قوله: (معنى من) أي في قوله: ﴿ مَنِ ٱرْتَضَىٰ ﴾.
قوله: ﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ الضمير عائد على الرسل والملائكة، والمعنى: أحاط علمه بما عند الرسل والملائكة. قوله: ﴿ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾ أي من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار، وجميع الأشياء جليلها وحقيرها، وهذا كالتعليل لقوله: ﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾.
Icon