ﰡ
فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به، وهدايتهم بهديه وإيمانهم بالله، وتقدمت الإشارة بذلك من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الأحقاف عند قوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩ ]، وفي آية الأحقاف بيان لما قام به النفر من الجن بعد سماعهم القرآن بأنهم لما قضى سماعهم ولوا إلى قومهم منذرين.
وفيها : بيان أنهم عالمون بكتاب موسى وهو التوراة، وقد شهدوا بأن القرآن مصدق لما بين يديه وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، كما جاء هنا قوله :﴿ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾.
والشطط : البعيد المفرط في البعد، قال عنترة في معلقته :
شطت مزار العاشقين فأصبحت | عسراً على طلابها ابنة مخرم |
*** حلت بأرض الزائرين فأصبحت ***
وأُنشد أيضاً لغيره :
*** شط المزار بجذوى وانتهى الأمل ***
ففي كلا البيتين الشطط الإفراط في البعد، إذ في الأول قال : فأصبحت عسراً علي طلابها، وفي الثاني قال : وانتهى الأمل، وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص، وهو البعد عن الحق، كما في قوله تعالى :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ ﴾ [ ص : ٢٢ ].
ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك، وهو المراد هنا كما في سورة الكهف في قوله :﴿ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [ الكهف : ١٤ ] لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق.
ويدل على أن المراد هنا ما جاء في هذه السورة ﴿ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾.
بين تعالى المراد بتلك الحراسة بأنه لحفظها عن استراق السمع، كما في قوله :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً ﴾ [ الصافات : ٦ -٧ ]، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم.
كما في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ].
فيه نص على أن الجن لا تعلم الغيب، وقد صرح تعالى في قوله :﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [ سبأ : ١٤ ].
وقد يبدو من هذه الآية إشكال، حيث قالوا أولاً :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [ الجن : ١ -٢ ]، ثم يقولون ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾، والواقع أنهم تساءلوا لما لمسوا السماء فمنعوا منها لشدة حراستها، وأقروا أخيراً لما سمعوا القرآن وعلموا السبب في تشديد حراسة السماء، لأنهم لما منعوا ما كان يخطر ببالهم أنه من أجل الوحي لقوله ﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ﴾ [ الجن : ٧ ].
وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ﴾ [ الجن : ٨ ] يدل بفحواه أنهم منعوا من السمع، كما قالوا ﴿ فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ﴾.
ولكن قد يظن ظان أنهم يحاولون السماع ولو مع الحراسة الشديدة، ولكن الله تعالى صرح بأنهم لم ولن يستمعوا بعد ذلك، كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٢ ].
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [ نوح : ١٠ -١٢ ].
ومفهوم ذلك أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجباً لحرمانه من نعمة الله تعالى عليه، كما جاء صريحاً في قوله :﴿ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾ [ الكهف : ٣٢ -٣٤ ].
فهذه نعمة كاملة، كما وصف الله تعالى، ﴿ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ إلى قوله :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ﴾ [ الكهف : ٣٤ -٤٣ ].
وما أشبه الليلة بالبارحة فيما يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين الاتجاهين المتناقضين الشيوعي والرأسمالي. وما أثبته الواقع من أن المعسكر الشيوعي الذي أنكر وجود الله وكفر بالذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلاً، فإنه وكل من يسير في فلكه مع مدى تقدمه الصناعي، فإنه مفتقر لكافة الأمم الأخرى في استيراد القمح، وإن روسيا بنفسها لتفرج عن بعض احتياطها من الذهب لتشتري قمحاً. ولا زالت تشتريه من المعسكر الرأسمالي.
وهكذا الدول الإسلامية التي تأخذ في اقتصادياتها بالمذهب الاشتراكي المتفرع من المذهب الشيوعي. فإنها بعد أن كانت تفيض بإنتاجها الزراعي على غيرها، أصبحت تستورد لوازمها الغذائية من خارجها، وتلك سنة الله في خلقه، ولو كانوا مسلمين كما قص الله تعالى علينا قصة أصحاب الجنة ﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ إلى قوله ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [ ١٧ -٢٩ ].
ولذا كانت الزكاة طهرة للمال ونماء له.
وقوله ﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ أي نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله، أم الطغيان بها ومنع حقها ؟ ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ﴾ [ العلق : ٦ -٧ ] ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٧ ]، ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾.
المساجد جمع مسجد. والمسجد لغة اسم مكان من سجد يسجد على وزن مفعل، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود.
وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم، " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها لأوصاف طارئة عليها وهي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفوق الحمام. ومواضع الخسف ومعاطن الإبل، والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها والبيع. وقد عد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تسعة عشر موضعاً عند قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٠ ] في الكلام على حكم أرض الحجر ومواطن الخسف، وساق كل موضع بدليله، وهو بحث مطول مستوفَى والمسجد عرفاً كل ما خصص للصلاة وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله أي بعبادته وذكره، كما قال تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ﴾ [ النور : ٣٦ -٣٧ ] الآية.
ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة، كما في الحديث : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له : لا أربح الله تجارتك " رواه النسائي والترمذي وحسنه.
وكذلك إنشاد الضالة لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد، فقولوا له : لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك " ". رواه مسلم.
وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد. قال له صلى الله عليه وسلم : " إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه "، وفي موطأ مالك : أن عمر رضي الله عنه بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء. وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة.
واللغط هو الكلام الذي فيه جلبة واختلاط. " وأل " في المساجد للاستغراق فتفيد شمول جميع المساجد، كما تدل في عمومها على المساواة، ولكن جاءت آيات تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص، وهي المسجد الحرام خصَّه الله تعالى بما جاء في قوله :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [ آل عمران : ٩٦ -٩٧ ].
فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه أول بيت وضع للناس ومبارك وهدى للعالمين، وفيه آيات بينات ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً، والحج والعمرة إليه، وآيات أُخر. والمسجد الأقصى، قال تعالى :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [ الإسراء : ١ ] فَخُص بكونه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبالبركة حوله وأُرِي صلى الله عليه وسلم فيه من آيات ربه.
وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف مكة، ومن المسجد الحرام، ولكن ليريه من آيات الله كعلامات الطريق لتكون دليلاً له على قريش في إخباره بالإسراء والمعراج، وتقديم جبريل له الأقداح الثلاثة بالماء واللبن والخمر، واختياره اللبن رمزاً للفطرة. واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في المسجد الأقصى، بينما رآهم في السماوات السبع، وكل ذلك من آيات الله أُريها صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، ومسجد قباء، فمسجد قباء نزل فيه قوله تعالى :﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ].
فجاء في صحيح مسلم أن أبا سعيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم ؟ فأخذ صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده، وقال : " مسجدكم هذا ".
وجاء في بلوغ المرام وغيره : حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال : " إن الله يثني عليكم " فقالوا إنا نتبع الحجارة الماء، رواه البزار بسند ضعيف.
قال في سبل السلام : وأصله في أبي داود والترمذي في السنن عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت هذه الآية في أهل قباء " :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ].
قال ابن حجر : وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة.
وقال صاحب وفاء الوفاء : وروى ابن شيبة من طرق : ما حاصله أن الآية لما نزلت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قباء.
وفي رواية : أهل ذلك المسجد.
وفي رواية : بني عمرو بن عوف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما بلغ من طهوركم ؟ قالوا : نستنجي بالماء ".
قال : وروى أحمد وابن شيبة واللفظ لأحمد عن أبي هريرة قال : انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب، فأتينا النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لنا : انطلقوا إلى مسجد التقوى، فانطلقنا نحوه. فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه فقال : من هؤلاء يا أبا بكر ؟ قال : عبد الله بن عمر، وأبو هريرة وجندب.
فحديث مسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك النصوص في مسجد قباء.
وقد قال ابن حجر رحمه الله : والحق أن كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ ظاهر في أهل قباء.
وقيل : إن حديث مسلم في خصوص مسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم، جاء رداً على اختلاف رجلين في المسجد المعنى بها، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة بمسجد قباء، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو معلوم في الأصول.
وعليه، فالآية إذاً اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ [ التوبة : ١٠٧ -١٠٨ ].
ومعلوم أن مسجد الضرار كان بمنطقة قباء، وطلبوا من الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي لهم فيه تبركاً في ظاهر الأمر، وتقريراً لوجوده يتذرعون بذلك، ولكن الله كشف عن حقيقتهم.
وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين فقال تعالى له :﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ].
وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٩ -١١٠ ].
وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين، وأن الأولية في الآية في قوله :﴿ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ أولية نسبية أي بالنسبة لكل مسجد في أول يوم بنائه، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة، وهو أول يوم وصل صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل بقباء، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا.
وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة، أهمها تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي.
ففي البيت الحرام قوله تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ [ الحج : ٢٦ ].
وفي المسجد الأقصى : ما جاء في الأثر عنه : أن الله أوحى إلى نبيه داود. أن ابن لي بيتاً، قال : وأين تريدني أبنيه لك يا رب ؟ قال : حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه. فرآه في مكانه الآن، وكان حوشاً لرجل من بني إسرائيل. إلى آخر القصة في البيهقي.
وفي مسجد قباء بسند فيه ضعف. لما نزل صلى الله عليه وسلم قباء قال : من يركب الناقة إلى أن ركبها عليّ، فقال له : أرخ زمامها فاستنت، فقال : خطوا المسجد حيث استنت.
وفي المسجد النبوي : جاء في السير كلها أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بحي من أحياء المدينة، وقالوا له : هلم إلى العدد والعدة، فيقول : خلوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى وصلت إلى أمام بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد.
وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام، أَي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ].
وكذلك بيت المقدس، وبينه وبين البيت أربعون سنة، كما في حديث عائشة في البخاري أي تجديد بنائه.
وكذلك مسجد قباء، فقد شارك صلى الله عليه وسلم في بنائه، وجاء في قصة بنائه أن رجلاً لقي النَّبي صلى الله عليه وسلم حاملاً حجراً فقال : دعني أحمله عنك يا رسول الله، فقال له : " انطلق وخذ غيرها، فلست بأحوج من الثواب مني ".
وكذلك مسجده الشريف بالمدينة المنورة، حين بناه أولاً من جذوع النخل وجريده، ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك.
ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا.
ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها، أصلها الصلاة، كما بوب لهذا البخاري بقوله : " باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة "، وساق الحديثين.
الأول حديث : " لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم ".
والحديث الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ".
كما اختص المسجد النبوي بروضته، التي هي روضة من رياض الجنة.
وبقوله صلى الله عل