تفسير سورة البينة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة البينة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ مِنْ ﴾ (للبيان) أي فالذين كفروا هم أهل الكتاب والمشركون، إن قلت: إن أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً كفاراً قبل النبي، بل بعضهم كان متمسكاً بنبيهم وكتابهم، والبعض كفار كمن غير وبدل، ومقتضى المفسر أن جميعهم كفار وليس كذلك، فالأحسن جعل ﴿ مِنْ ﴾ للتبعيض، والواو في ﴿ وَٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ للمعية، و ﴿ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ مفعول معه، والعامل فيه ﴿ يَكُنِ ﴾.
قوله: ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ اسم فاعل من انفك الذي يعمل عمل كان، واسمها ضمير مستكن فيها والخبر محذوف قدره المفسر بقوله: (عما هم عليه) ويصح أن تكون تامة، فلا تحتاج لتقدير خبر. قوله: (خبر يكن) أي واسمها الموصول فهي ناقصة، وقوله: ﴿ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ حال من فاعل ﴿ كَفَرُواْ ﴾ والمعنى: أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، والمشركين وهم عبدة الأوثان من العرب، كانوا يقولون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا، حتى يبعث النبي صلى الله عليه وسلم هو في التوراة والإنجيل، فلما بعث تفرقوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفره، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولون أولاً، وما فعلوه آخراً. قوله: (أي زائلين) الخ، أشار بذلك إلى أن الانفكاك بمعنى الزوال، والمعنى: أنهم متعلقون بدينهم، لا يتركونه لا عند مجيء محمد صلى الله عليه سلم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ ﴾ غاية لعدم انفكاكهم عما هم عليه، والحاصل أن في الآية تفسيرين الأول: حمل ما كانوا عليه قبل مجيء النبي على شرعهم في حق أهل الكتاب، وعلى عبادة الأصنام في حق المشركين، فالمعنى: لم يكن الفريقان منفكين عما كانوا عليه، لم يفارقوه إلا وقت مجيء محمد، فلما ظهر محمد تفرقوا، فمنهم من آمن به، ومنهم من بقي على ما كان عليه، وهذا المعنى ليس فيه مدح ولا ذم لهم. الثاني أن المراد بما كانوا عليه، هو إيمانهم بمحمد إذا ظهر، المعنى: لم يكونوا منفكين عن العزم على الإيمان بمحمد إذا ظهر، أي لم يفارقوه ولم يتركوه إلا بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المعنى توبيخ لهم، إذ كيف يؤمنون في الغيب قبل مجيئه، ويكفرون به لما جاء، ورأوا أنواره ومعجزاته؟ إذا علمت ذلك، تعلم أن كلام المفسر أولاً محتمل للمعنيين، وآخراً معرج على المعنى الثاني. قوله: (بدل من البيئة) أي بدل اشتمال، و ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لرسول أو حال من ﴿ صُحُفاً ﴾ لكونه نعت نكرة قدم عليها. قوله: (وهو النبي محمد) وقيل جبريل قوله: ﴿ مُّطَهَّرَةً ﴾ أي مطهراً ما فيها وهو القرآن. قوله: (من الباطل) أي فتطهير الصحف كناية عن كونها لا يأتيها الباطل أصلاً. قوله: ﴿ فِيهَا كُتُبٌ ﴾ مكتوبات في قراطيس، فالقرآن يجمع ثمرة كتب الله تعالى المقدمة عليه، والرسول وإن كان أمياً، لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان التالي لها، فصحت نسبة تلاوة الصحف إليه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، قوله: (أي تلو مضمون ذلك) أي مضمون المكتوب في الصحف وهو القرآن لا نفس المكتوب، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب، ولم يكن يقرؤه من كتاب، فتحصل أن المراد بالصحف والقراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها التي هي مدلول القرآن المكتوب لفظه ونقشه. قوله: (فمنهم من آمن) مفرع على محذوف، والتقدير: فلما أتتهم البينة فمنهم الخ.
قوله: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ الخ، تصريح بما أفادته الغاية قبله، وأفرد أهل الكتاب بالذكر، بعد الجمع بينهم وبين المشركين، إشارة لبشاعة حالهم، لأنهم أشد جرماً ويعلم غيرهم بالطريق الأولى، وذلك لأنهم لما تفرقوا مع علمهم، كانوا أسوأ حالاً من الذين تفرقوا مع الجهل. قوله: ﴿ وَمَآ أُمِرُوۤاْ ﴾ الخ، الجملة حالية مفيدة لقبح ما فعلوا، والمعنى: تفرقوا بعدما جاءتهم البينة، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله الخ. قوله: (وزيدت اللام) الأولى أن تجعل بمعنى الباء، والمعنى: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الخ. قوله: ﴿ مُخْلِصِينَ ﴾ حال من ضمير يعبدوا، والإخلاص هو صفاء القلب من الأغيار، بأن يكون مقصوده بالعمل على وجه الله تعالى. قوله: ﴿ حُنَفَآءَ ﴾ حال ثانية، والحنف في الأصل الميل مطلقاً، ثم استعمل في الميل إلى الخير، وأما الميل إلى الشر فيسمى إلحاداً، والحنيف المطلق هو الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة: اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، وعن فروعها من جميع الاعتقادات الباطلة وتوابع ذلك، وهو مقام المتقين، فإذا ترقى العبد منه إلى ترك الشبهات، خوف الوقوع في المحرمات، فهو مقام الورعين، فإذا زاد حتى ترك بعض المباحاة، خوف الوقوع في الشبهات، فهو مقام الأورع والزاهد، فالآية جامعة لذلك كله. قوله: ﴿ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ عطف على ﴿ يَعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ وخص الصلاة لشرفهما. قوله: ﴿ وَذَلِكَ ﴾ اسم الإشارة عائد على المأمور به من العبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. قوله: (الملة) ﴿ ٱلقَيِّمَةِ ﴾ قدره إشارة إلى أن ﴿ دِينُ ﴾ مضاف لمحذوف، و ﴿ ٱلقَيِّمَةِ ﴾ صفة لذلك المحذوف، دفعاً لما يقال: إن إضافة ﴿ دِينُ ﴾ إلى ﴿ ٱلقَيِّمَةِ ﴾ من اضافة الموصوف إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، وفيها خلاف.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ شروع في بيان جزاء كل فريق ومقره. قوله: ﴿ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ خبر ﴿ إِنَّ ﴾ والمعنى: أنهم مشتركون في جنس العذاب لا في نوعه، لأن عذاب الكفار مختلف على حسب كفرهم. قوله: (حال مقدرة) أي من الضمير المستكن في الخير. قوله: (من الله تعالى) متعلق بـ (خلودهم) والمعنى: نحن ننتظر خلودهم، بسبب اعتقادنا أن الله يخلدهم فيها، فالتقدير منا، والخلود المقدر من الله تعالى: قوله: ﴿ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ ﴾ أفعل تفضيل، وذلك لأنهم أشر من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، وأشر من الجهال، لأن الكفر مع العلم أسوأ منه مع الجهل، و ﴿ ٱلْبَرِيَّةِ ﴾ بالهمز في الموضعين وتشديد الياء سبعيتان. قوله: ﴿ جَزَآؤُهُمْ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ حال، وقوله: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ خبره، وهذا من مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي القسمة على الآحاد، فيكون لكل واحد جنة، وأدنى جنة الواحد مثل الدنيا، وما فيها عشر مرات، كما أفاده بعض المفسرين. قوله: ﴿ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ أي الأربعة: الخمر والماء والعسل واللبن. قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾ عاملة محذوف، أي دخلوها وأعطوها، وقوله: ﴿ أَبَداً ﴾ ظرف زمان منصوب بـ ﴿ خَالِدِينَ ﴾ و ﴿ رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون خبراً ثانياً وعبر هنا في أهل الجنة أبداًـ ولم يذكرها في أهل النار، لأن المقام مقام بسط وجمال، فالإطناب فيه من البلاغة. قوله: (بطاعته) أي بسببها وهو مصدر مضاف لمفعوله، أي طاعتهم إياه، أي قبلها منهم وجازاهم عليها. قوله: (بثوابه) أي بسبب أثباته لهم، فهو من إضافة المصدر لفاعله، قال الجنيد: الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة، ويصحب العبد في الدنيا والآخرة، وليس كالخوف والرجاء والصبر والإشفاق وسائر الأحوال الي تزول عن العبد في الآخرة، بل العبد يتنعم في الجنة بالرضا، ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم: برضائي أحلكم داري، أي برضائي عنكم، وقال محمد بن الفضل: الروح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب الله الأعظم ومحل استرواح العبادين. قوله: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ اسم الإشارة عائد على المذكور من تفصيل الجزاء الحسن.
Icon