تفسير سورة آل عمران

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (سورة آل عمران) مبتدأ ومدنية خبره، ومائتان خبر ثان. وقوله: (مدنية) أي نزلت بعد الهجرة وإن بغير أرض المدينة، وتسميتها بذلك الاسم من باب تسمية الشيء باسم جزئه، واختلف في عمران الذي سميت به، فقيل المراد به أو موسى وهارون فآله موسى وهارون، وقيل المراد به أبو مريم والمراد بآله مريم وابنها عيسى، ويقرب ذلك ذكر قصتهما أثر ذكره، وبين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم ألف وثمانمائة عام. قوله: (أو إلا آية) أو الحكاية الخلاف، وسببه الاختلاف في عد البسملة من السورة، فمن عدها قال مائتان ومن لم يعدها قال إلا آية، وورد في فضل هذه السورة أنها أمان من الحيات وكنز للفقير، وأنه يكتب لمن قرأ منها (إن في خلق السماوات والأرض) إلى آخر الليل ثواب من قام الليل كله، وقوله: (الله أعلم بمراده بذلك) مشى في ذلك على مذهب السلف في المتشابه، وهكذا عادته في فواتح السور، وقد تقدم الكلام في ذلك بأبسط عبارة وأعلم أنه قرئ عند إسقاط الهمزة من الله وفتح ميم ألم للنقل بمد الميت ست حركات أو حركتين، وعند إسكان الميم حال الوقف واثبات الهمزة بمد الميم ست حركات، فالقراءات ثلاثة. قوله: ﴿ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ ﴾ سبب نزولها" قدوم وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً فيهم أربعة عشرة من أشرافهم ثلاثة منهم كانوا أكابرهم أميرهم وحبرهم ووزيرهم يحاجون رسول الله في عيسى. فتارة قالوا إن عيسى ابن الله لأنه لم يكن له أب، وتارة قالوا إنه الله لأنه يحيي الموتى، وتارة قالوا إنه ثالث ثلاثة لأنه يقول فعلنا وخلقنا، فلو كان واحداً لذكره مفرداً، فشرع النبي يرد عليهم تلك الشبه، فقال لهم: أتسلمون أن الله حي لا يموت؟ فقالوا نعم، أتسلمون أن عيسى يموت؟ فقالوا: نعم، فقال لهم أتسلمون أن الله يصور ما في الارحام كيف يشاء؟ فقالوا نعم، إلى غير ذلك فنزلت تلك السورة منها نيف وثمانون أية على طبق ما رد عليهم به "قوله: ﴿ ٱلْحَيُّ ﴾ أي ذو الحياة الذاتية. قوله: ﴿ ٱلْقَيُّومُ ﴾ أي القائم بأمور خلقه من غير واسطة معين.
قوله: (ملتبساً) ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أشار بذلك إلى الباء في بالحق للملابسة في محل نصب على الحال فيكون مصدقاً حالاً بعد حال. قوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال من الكتاب، قوله: ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ في الكلام استعارة بالكنابة حيث شبه بسلطان تقدمه عسكره، وجاء على أثرهم يؤيدهم ويقويهم وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو قوله: ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ فإثباته تخييل. قوله: ﴿ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ ﴾ أي على موسى وقوله: ﴿ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ أي على عيسى، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا لكونهما أعجميين، فذهب جماعة إلى الأول فقالوا التوراة مشتقة من قولهم ورى إذا قدح فظهر منه نار، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنار من الظلام إلى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة، والإنجيل مشتق من النجل وهو التوسعة ومنه العين النجلاء لسعتها فسمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة، إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة فيها، والصحيح أنهما ليسا مشتقين لأنهما عبرانيان، قوله: (أي قبل تنزيله) أي الكتاب الذي هو القرآن، قوله: (حال) أي من التوراة والإنجيل، قوله: (ممن تبعهما) أشار بذلك إلى أن المراد بالهدى الوصول لا مجرد الدلالة، قوله: (وعبر فيهما بأنزل الخ) جواب عن سؤال مقدر، وقيل إن ذلك تفنن، وقيل إن مادة نزل تعيد التكرار غالباً، ومادة أنزل تفيد عدمه غالباً، فلعل المفسر بنى هذا الجواب على ذلك، وإلا فالهمز والتضعيف أخوان. قوله: (بخلافه) أي فإنه نزل مفرقاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. قوله: (ليعم ما عداها) أي فهو من عطف العام على الخاص، فالمراد بالفرقان هنا الفارق بين الحق والباطل لا خصوص القرآن فالفرقان كما يطلق على القرآن يطلق على غيره من الكتب. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي كنصارى نجران. قوله: ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار. قوله: (وعده) أي بالخير وقوله ووعيده أي بالشر. قوله: (لا يقدر على مثلها أحد) أي لأن غاية عذاب غيره الموت وفيه راحة للمعذب، ولا يقدر على إعادة روحه حتى تتألم ثانياً، وأما عذاب الله فدائم لا آخر له، قال تعالى:﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾[النساء: ٥٦].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ هذا رد لقولهم إن عيسى إله لأنه يعلم الأمور، فرد عليهم بأن الله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس كذلك عيسى. قوله: (كائن) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لشيء. قوله: (وخصهما بالذكر) جواب عن سؤال مقدر. قوله: (لا يتجاوزهما) أي لا يتعداهما.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ ﴾ هذه حجة أخرى للرد على تلك الفرقة كأنه يقول لا إله إلا من يصوركم في الأرحام كيف يشاء، وأما عيسى فإنه وإن كان يحيي الموتى فبإذن الله، ولا يقدر أن يصوركم في الأرحام كيف يشاء بل هو مصرو في الرحم، فالمصور لا يصور غيره بل ولا نفسه. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب على أمره عديم المثال. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي ذو الحكمة وهي وضع الشيء في محله.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾ قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال نعم، فقالوا حسنا أي يكفينا ذلك في كونه ابن الله، فنزلت الآية، والمعنى أن الله أنزل القرآن منه محكم ومنه متشابه، وقوله روح الله وكلمته من المتشابة الذي لا يعرفون معناه ولا يفهمون تأويله، بل معنى ذلك أنه روح من الله أي نوره وكلمته، بمعنى أنه قال له كن فكان، فهو عبد من جملة العباد ميزه الله بالنبوة والرسالة. قوله: (أصله) إنما فسر الأم بذلك لصحة الأخبار بالمفرد عن الجمع، لأن الأصل يصدق بالمتعدد. وأجيب أيضاً بأنه عبر بالمفرد إشارة إلى أن المجموع بمنزلة آية واحدة على حد (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) وما سلكه المفسر أظهر. قوله: (المعتمد عليه في الأحكام) أي الذي يعول عليه في أحكام الدين والدنيا هو المحكم، وأما المتشابة فلم يكلف بمعرفة معناه بل نؤمن به ونفوض علمه لله. قوله: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾.
إن قلت هلا نزل كله محكماً لأنه نزل لارشاد العباد ومداره على المحكم لا على المتشابه؟ أجيب بأنه نزل على أسلوب العرب، فإن أسلوبهم التعبير بالمجاز والكناية والتلميح وغير ذلك من المستحسنات، فلو نزل كله محكماً لقالت العرب إن القرآن على لغتنا فهلا ذكر فيه مستحسنات لغاتنا. قوله: (لا يفهم معانيها) أي إلا بفكر وتأمل كما هو مذهب الخلف. قوله: (كأوائل السور) أي بعضها وأدخلت الكاف باقي الآيات المتشابهة. قوله: (وجعله كله محكماً الخ) جواب عن سؤال مقدر كأن قائلاً قال هذه الآية بينت أن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه، وآية أخرى بينت أن كله محكم وآية أخرى أفادت أن كله متشابه، فبين هذه الآيات تناف أجاب المفسر بما ذكره. قوله: (بمعنى أنه ليس فيه عيب) أي لا في ألفاظه ولا في معانيه. قوله: (في الحسن والصدق) قال ابن عباس: تفسير القرآن أربعة أقسام: قسم لا يسع أحداً جهله كقوله:﴿ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴾[الأخلاص: ١]، وقسم يتوقف على معرفة لغات العرب كقوله:﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي ﴾[طه: ١٨]، وقسم تعرفه العلماء الراسخون في العلم، وقسم لا يعلمه إلا الله، وخل تحت القسمين الأخيرين المتشابه، وحكمة الإتيان بالمتشابه الزيادة في الاعجاز عن الإتيان بمثله، فإن المحكم وإن فهموا معناه إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بلفظ مثل ألفاظه، والمتشابه عجزوا عن فهم معناه ما عجزوا عن الإتيان بمثله. قوله: (ميل عن الحق) أي إلى الباطل. قوله: (بوقوعهم في الشبهات واللبس) أي كنصارى نجران ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. قوله: ﴿ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ معطوف على ابتغاء الأول، والمعنى أنهم يتجرؤون على تفسيره تفسير باطل لا أصل له. قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ﴾ أي تفسيره على الحقيقة. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ (وحده) هذه طريقة السلف واختارها المفسر لكونها أسلم، فالوقف على قوله إلا الله، وأما طريقة الخلف فهي أحكم، فالوقف على أولي الألباب، فالراسخون معطوف على لفظ الجلالة، قال بعضهم ويؤيد طريقة الخلف قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱلرَّاسِخُونَ ﴾ كلام مستأنف قالوا وللاستئناف والراسخون مبتدأ، وفي العلم متعلق بالراسخون وخبره يقولون كما قاله المفسر، قال مالك: الراسخ في العلم من جمع أربع خصال: الخشية فيما بينه وبين الله، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا والمجاهدة فيما بينه وبين نفسه. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي ففهمنا المحكم وأخفى علينا المتشابه. قوله: (في الأصل في الذال) أي فأصله يتذكر قلبت التاء ذالاً ثم أدغمت في الذال. قوله: (أصحاب العقول) أي السليمة المستنيرة. قوله: (من يتبعه) أي يتبع الباطل. قوله: ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي بعد وقت هدايتك وتبيينك الحق لنا. قوله: (تثبيتاً) فسر الرحمة هما بذلك لأنه المراد هنا، وأما في غير هذا الموضع فقد تفسر بالمطر أو الغفران. قوله: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾ أي الذي تعطي النوال قبل السؤال. قوله: ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ ﴾ منادي وحرف النداء محذوف، قدره المفسر إشارة إلى أنه دعاء. قوله: (أي في يوم) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى في. قوله: (فيه التفات) أي على أنه من كلام الراسخين. قوله: (ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى) أي فلا التفات فيه على مذهب الجمهور، وأما على مذهب السكاكي ففيه التفات على كل حال لأنه أتى على خلاف السياق. قوله: (روى الشيخان) قصده بذلك الاستدلال على ذم المتبعين للمتشابه ومدح الراسخين. قوله: (فأولئك الذين سمى الله) أي بقوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ الآية. قوله: (فاحذروهم) الخطاب لعائشة وإنما ذكر وجمع تعظيماً لها أو إشارة إلى عدم خصوصيتها بذلك. قوله: (وروى الطبراني) أي في معجمه الكبير. قوله: (إلا ثلاث خلال) هذه نسخة وفي أخرى خصال. قوله: (وذكر منها الخ) هذه هي الخلة الثانية وترك اثنتين، ونص الحديث: أخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب، وأن يزداد علمهم فيضعوه ولا يسألوا عنه ".
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ قيل المراد بهم جميع من كفروا من أول الزمان إلى آخره، وقيل المراد بهم نصارى نجران، وقيل كفار مكة، وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم ﴾ قدم الأموال لأن الشأن أن الشخص أول ما يقتدي بالأموال ثم بالأولاد، والمعنى أن زينتهم وعزهم لا يدفع عنهم شيئاً من عقاب الله أبداً لا قليلاً ولا كثيراً. قوله: (أي عذابه) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف. قوله: ﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾ هذه الجملة تأكيد للجملة الأولى. قوله: (بفتح الواو) بإتفاق السبعة، وقرأ الحسن بضم الواو مصدر بمعنى الإيقاد. قوله: (ما يوقد به) أي وهو الحطب مثلاً. قوله: (دأبهم) ﴿ كَدَأْبِ ﴾ إشار بذلك إلى أن قوله كدأب خبر لمحذوف قدره بقوله دأبهم، وهذا بيان لسبب كونهم وقود النار، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي فلا تحزن يا محمد فإن ما نزل بالأمم الذين كفروا من قبلك ينزل بمن كفر بك. قوله: (كعاد وثمود) بيان الأمم وأدخلت الكاف باقي الأمم الذين كفروا بأنبيائهم، كقوم نوح وقوم موسى وغيرهم. قوله: (أهلكهم) ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي انتقم منهم دنيا وأخرى. قوله: (والجملة مفسرة لما قبلها) أي جملة كذبوا وما قبلها هي قوله كدأب آل فرعون. وأعلم أن هنا قال كذبوا بآياتنا، وفي أية أخرى كفروا بآيات الله وفي آية أخرى كذبوا بآيات ربهم، وحمكة ذلك التفنن في التعبير على عادة فصحاء العرب، والباء في قوله بذنوبهم يحتمل أن تكون للملابسة، والمعنى أخذهم الله والحال أنهم ملتبسون بذنوبهم يعني من غير توبة، ويحتمل أن تكون للسببية والمعنى أخذهم الله بسبب ذنوبهم، والأول أبلغ لأن فيه دفع توهم أن موتهم كفارة لما وقع منهم. قوله: (ونزل لما أمر صلى الله عليه وسلم) حاصل ذلك أنه لما رجع من غزوة بدر إلى المدينة، جمع يهودها وهم قريظة وبنو النضير، ودعاهم للإسلام وتوعدهم إن لم يسلموا أو يؤدوا الجزية قاتلهم، فقالوا له ما ذكره المفسر. قوله: (أغماراً) جمع غمر بالضم وهو الرجل الذي لا يعرف الأمور، وأما بالكسر فمعناه الحقد، وبالفتح مع سكون الميم يطلق على الشدة، واما بفتحتين فمعناه الدسم. قوله: (من اليهود) أي قريظة وبني النضير ومن حذا حذوهم كأهل خيبر. قوله: (وبالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان فالتاء ظاهرة في الخطاب لهم والياء معناها الأخبار بأنهم سيغلبون. قوله: (وقد وقع ذلك) أي فقتل من فحول قريظة ستمائة حول الخندق، وكان القاتل لهم علي بن أبي طالب، وقوله: (وضرب الجزية) أي على أهل خيبر. وأما بنو النضير فأجلاهم إلى الشام. قوله: (بالوجهين) أي بالتاء والياء وهما سبعيتان أيضاً. قوله: ﴿ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ المقصود من ذلك بيان سوء مآلهم، قال تعالى:﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾[الأعراف: ٤١]، قال تعالى:﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾[العنكبوت: ٥٥].
قوله: (هي) هذا هو المخصوص بالذم وفاعل بئس قولهم المهاد.
قوله: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾ يحتمل أن يكون ذلك على جملة مقول النبي للكفار أي قل لهم ما ذكر وقل لهم (قد كان لكم آية) فعلى ذلك الخطاب لليهود، ويحتمل أن يكون ذلك خطاباً لكفار مكة أو للمؤمنين ويكون مستأنفاً. قوله: (للفصل) أي بالجار والمجرور الواقع خبراً لكان على حد أتى القاضي بنت الواقف، وأجيب أيضاً بان الفاعل مجازي التأنيث أو مذكر معنى، لأن الآية معناها البرهان. قوله: (فرقتين) إنما سميت الفرقة فئة لأنه يفاء بمعنى يرجع إليها في الشدائد. قوله: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ برفع فئة بإتفاق السبعة مبتدأ خبره تقاتل الخ والمعنى فئة مؤمنة، وقوله: ﴿ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ ﴾ يعني تقاتل في سبيل الطاغوت ففيه شبه احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله: (كانوا ثلثمائة) أي من المهاجرين سبعة وسبعون صاحب رايتهم علي بن أبي طالب، ومن الأنصار مائتان وستة وثلاثون صابح رايتهم سعد بن عبادة، والذي مات منهم في تلك الغزوة أربعة عشرة ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. قوله: (معهم فرسان) ورد أنه كان معهم سبعون بعيراً. قوله: (رجاله) جمع راجل بمعنى ماش. قوله: ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾ هكذا بالياء للسبعة ما عدا نافعاً فقراً بالتاء، ورأى بصرية والواو فاعل عائد على المؤمنين، والهاء مفعول عائد على الكفار ومثيلهم حال، والهاء إما عائدة على المؤمنين، والمعنى يشاهد المؤمنون الكفار قدر أنفسهم مرتين، أو الكفار والمعنى يرى المؤمنون الكفار قدر الكفار مرتين محنة للمؤمنين، ويحتمل أن الواو عائدة على الكفار والهاء عائدة على المؤمنين، والهاء في مثيلهم إما عائدة على الكفار والمعنى يرى الكفار المؤمنين قدرهم مرتين فترتب على ذلك هزيمتهم، أو عائدة على المؤمنين والمعنى يرى الكفار المؤمنين قدر المؤمنين مرتين ففي هذه القراءة احتمالات أربع قد علمتها ومثلها على قراءة التاء لأنه يحتمل أن الخطاب للمؤمنين، فالواو عائدة على المؤمنين والهاء عائدة على الكفار، والضمير في مثليهم إما عائد على الكفار وهو ظاهر، أو على المؤمنين ويكون فيه التفات من الخطاب للغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقول مثليكم، ويحتمل أن الخطاب للكفار فالواو عائدة على الكفار والهاء عائدة على المؤمنين، والضمير في مثليهم إما عائد على المؤمنين وهو ظاهر أو على الكفار وفيه التفات أيضاً. بقي شيء آخر وهو أن مقتضى الآية أن المرئي كثير، سواء كان الرائي الكفار أو المسلمين، ومقتضى ما يأتي في سورة الأنفال أن المرئي قليل فحصل بين الآيتين تناف، وأجيب عن ذلك بحمل ما يأتي على حالة البعد، وما هنا على حالة التقاء الصفين، وحكمة ذلك أنهم إذا شاهدوا القلة على بعد حملهم ذلك على الاقتحام. قوله: (أي الكفار) يقرأ بالرفع تفسيراً للواو وبالنصب تفسيراً للهاء. قوله: (وقد نصرهم الله مع قلتهم) أي مع كونهم عدداً قليلاً جداً ولا عدد معهم. قوله: ﴿ لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾ صفة لعبرة. قوله: (أفلا تعتبرون) الخطاب لليهود أو لكفار مكة، قوله: (بذلك) أي بالنصر ورؤية الجيش مثليهم.
قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ ﴾ هذه الآية مسوقة لبيان حقارة الدنيا وتزهيد المسلمين فيها، ففي الحديث" ظاهرها وباطنها عبرة "وقال الشاعر: هي الدنيا تقول بملء فيها   حذار حذار من بطشي وفتكيفلا يغرركمو مني ابتسام   فقولي مضحك والفعل مبكيوالفعل مبني للمفعول، والمزين حقيقة هو الله، ويصح أن يكون الشيطان باعتبار وسوسته، ولذا نوع فيه المفسر. قوله: ﴿ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ ﴾ جمع شهوة وهي ميل النفس لمحبوبها، ولما كان ذلك المعنى ليس مراداً فسرها بالذي تشتهيه النفس ففيه إشارة إلى أنه أطلق المصدر، وأريد اسم المفعول إن قلت إنه يدخل في الناس الأنبياء مع أنهم معصومون من ذلك. أجيب بأنه عام مخصوص بما عدا الأنبياء، وأما هم فهم معصومون من الميل إلى ما سوى الله لما في الحديث" حبب إليّ من دنياكم ثلاث "ولم يقل من دنيانا، وفي الحديث أيضاً" ليست من الدنيا ولا الدنيا مني ". قوله: (زنيها الله) أي أوجد فيها الزينة. قوله: (أبتلاء) أي اختبارً، قال تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾[الكهف: ٧].
قوله (أو الشيطان) أي بالوسوسة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلنِّسَاءِ ﴾ متعلق بمحذوف حال من الشهوات وهو تفصيل لما أجمل فيها، وقدم النساء لأنهن أعظم زينة الدنيا، فإنهن حبالة الشيطان، ويحملن الإنسان على قطع الرحم واكتساب المال من الحرام وارتكاب المحرمات، وقال عليه الصلاة والسلام:" ما تركت فتنة أضر الرجال من النساء، ما رأيت ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحكيم منكن ". قوله: ﴿ وَٱلْبَنِينَ ﴾ قدمهم على الأموال لأنهم فرع النساء وأكبر فتنة من الأموال، لأن الإنسان يفدي بنيه بالمال ولم يقل والبنات لأن الشأن أن الفخر في الذكور دون الإناث. قوله: ﴿ وَٱلْقَنَاطِيرِ ﴾ جمع قنطار قيل المراد به المال الكثير، وقيل ألف أوقية ومائتا أوقية، وقيل اثنا عشر ألف أوقية، وقيل غير ذلك، ودرج المفسر على الأول. قوله: ﴿ ٱلْمُقَنْطَرَةِ ﴾ قيل وزنها مفعللة فتكون النون أصلية، وقيل وزنها مفنعلة فالنون زائدة، ويترتب على ذلك النون في قنطار هل هي أصلية فوزنه فعلال، أو زائدة فوزنه فنعال، وأقل القناطير المقنطرة تسعة، لأن المراد تعددت جميع القناطير عنده ثلاثة ففوق. قوله: ﴿ وَٱلْفِضَّةِ ﴾ الواو بمعنى أو المانعة الخلو فتجوز الجمع، وقدم الذهب والفضة على ما عداهما لأن فخر صابحهما أعظم. قوله: ﴿ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ ﴾ قدمها على الأنعام لأن فخرها أعظم. قوله: (الزرع) أي مطلقاً حسبت أو غيرها. قوله: (ثم يفنى) أي يزول هو وصاحبه، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ ﴾[يونس: ٢٤] الآية. قوله: (فينبغي الرغبة فيه) أي في ذلك المآب، وفي الآية اكتفاء أي وعنده سوء المآب، فحسن المآب لمن لم يغتر بالدنيا وجعلها مزرعة للآخرة، وسوء المآب لمن اغتر بها وآثرها على الآخرة. قوله: ﴿ أَؤُنَبِّئُكُمْ ﴾ قرئ في السبع بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية مع زيادة مد بينهما وبدون زيادة، فالقراءات أربع، وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا، وما في ص أأنزل عليه الذكر، وما في اقتربت الساعة أألقي عليه الذكر. قوله: (من الشهوات) أي المشتهيات. قوله: (استفهام تقرير) أي تثبيت. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا ﴾ (الشرك) أي الإيمان، وإنما اقتصر عليه لأن أصل دخول الجنة إنما يتوقف عليه فقط. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ في محل نصب على الحال من جنات. قوله: ﴿ جَنَّاتٌ ﴾ أي سبع: جنة المأوى وجنة الخلد وجنة النعيم وجنة عدن وجنة الفردوس ودار السلام ودار الجلال، وأبوابها ثمانية وأعظمها جنة الفردوس. قوله: أي (مقدرين الخلود) أشار بذلك إلى أن قوله خالدين حال منتظرة أي منتظرين الخلود فيها إذا دخلوها، لأنه ينادي المنادي حين استقرار أهل الدارين فيهما يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيقع الفرح الدائم في قلوب أهل الجنة، والحزن الدائم في قلوب أهل النار. قوله: ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ أي من الحور وغيرهن من نساء الدنيا. قوله: (لغتان) أي وقرئ بهما في السبع في جميع لفظ رضوان الواقع في القرآن إلا الثاني في المائدة فإنه بالكسر بإتفاق السبعة، وهو قوله من اتبع رضوانه سبل السلام، والمكسور قياسي والمضموم سماعي ومعناهما واحد، وقول المفسر كثير أخذ اكثرة من التنوين. قوله: (أي رضا كثير) أي عظيم لا سخط بعده أبداً. قوله: (فيجازي كلا منهم بعمله) أي فيدخل المتقين الجنة والعاصين النار. قوله: (نعت) أي للذين اتقوا. قوله: (على الطاعة) أي على فعلها، وقوله: (وعن المعصية) أي نهاهم الله عنها فأمسكوا عنها وانتهوا. قوله: ﴿ وَٱلصَّادِقِينَ ﴾ إن قيل كيف دخلت الواو على هذه الصفات مع أن الموصوف فيها واحد؟ أجيب بجوابين: أحدهما أن الصفات إذا تكررت جاز أن يعطف بعضها على بعض بالواو وإن كان الموصوف بها واحداً، ودخول الواو في مثل هذا للتفخيم لأنه يؤذن بأن كل صفة مستقلة بمدح الموصوف بها، ثانيهما لا نسلم أن الموصوف بها واحد بل هو متعدد، والصفات موزعة عليهم، فبعضهم صابر وبعضهم صادق، ففيه إشارة إلى أن بعضها كاف في المدح. قوله: (في الإيمان) أي صدقوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. قوله: (المطيعين لله) أي بأي نوع من أنواع الطاعة. قوله: (بأن يقولوا اللهم اغفر لنا) أي أو غير ذلك من أنواع الطاعات، فالمراد بالمستغفرين المتعرضون للمغفرة إما بسؤال المغفرة أو غيرها من الطاعات. قوله: (وآخر الليل) ويدخل بالنصف الأخير منه، وقيل الأسحار ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فينبغي اغتنام هذين الوقتين فإن لم يمكن الأول فالثاني.
قوله: ﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ ﴾ سبب نزولها أن حبرين من أحبار الشام قدما على رسول الله بالمدينة فقالا له نسألك عن شيء آخر إن أخبرتنا به آمنا بلك وصدقناك، فقال سلا، فقالا له أخبرنا عن أعظم شهاة في القرآن فنزلت فآمنا به، ولكونها أعظم كان وقت نزولها حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فحين نزلت تساقطت تلك الأصنام، وورد في فضلها أنه يوم القيامة يجاء بمن كان يحفظها فيقول الله تعالى لعبدي هذا عندي عهداً فأوفيه إياه أدخلوا عبدي الجنة فيدخلونه من غير سابقة عذاب، ومن فضلها أنها تقلع عرق الشرك من القلب وتنفع من الوسواس، ولذا اختارها العارفون في ختم صلاتهم فيقرؤونها عقب كل صلاة، ثم أعلم أن معنى الشهادة الأقرار باللسان، والإذعان بالقلب وذلك مستحيل على الله تعالى، فالمراد بين وأظهر لخلقه بالدلائل القطعية أنه الخ، ففي الكلام استعارة تبعية حيث شبه البيان بالشهادة، واستعار اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الشهادة شهد بمعنى بين، والجامع الوثوق بكل، لأن من أقر وأذعن حصل له وثوق، كما أن من بين حصل للسامع وثوق بخبره، وإلى ذلك أشار المفسر بقوله: (بين لخلقه الخ). قوله: (في الوجود) أي الدنيوي والأخروي. قوله: ﴿ وَ ﴾ (شهد بذلك) ﴿ ٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الملائكة معطوف على لفظ الجلالة فهو مرفوع، وقدر الفعل دفعاً لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وفيه خلاف ولا يتمشى التنزيل عليه، فإن الشهادة في حق الملائكة معناها الإقرار، وأما في حق الله فمعناها التبيين. قوله: ﴿ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ ﴾ لم يقدر الفعل اكتفاء بما قدره في جانب الملائكة. قوله: (بالاعتقاد) أي في القلب، وقوله: (واللفظ) أي باللسان وإنما اقتصر في جانب الملائكة على الإقرار دون أولي العلم، لأن توحيد الملائكة جبلي لهم مخلوقون عليه كالنفس، فلا يتوهم فيهم عدم الاعتقاد بخلاف الإنس فاختياري لهم لوجود المنافقين فيهم دون الملائكة. قوله: (ونصبه على الحال) أي إما من لفظ الجلالة أو من الضمير المنفصل بعد إلا، والاحسن الثاني ليفيد أن الله شهد شهادتين: الأولى أنه لا إله إلا هو، والثانية أنه قائم بالقسط، فمتعلق الأولى تنزيه ذاته، ومتعلق الثانية تنزيه صفاته. قوله: (معنى الجملة) أي جملة لا إله إلا هو، وقوله: (أي تفرد) بيان لمعنى الجملة. قوله: ﴿ بِٱلْقِسْطِ ﴾ بيان لكرمه تعالى: فالمعنى أنه تعالى ثابت الألوهية، وأن جميع الخلق مملوكون له يتصرف فيهم كيف يشاء، فلو ادخل الطائعين جميعاً النار لا حجر عليه، غير أنه لا يفعل ذلك بل هو قائم بالقسط، قوله: (تأكيداً) أي وتوطئة لقوله: العزيز الحكيم. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ (في ملكه) أي عديم المثال أو قاهر لخلقه، وهو راجع لقوله إنه لا إله إلا هو. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ (في صنعه) أي يصنع الشيء في محله وهو راجع لقوله قائماً بالقسط، والعزيز الحكيم إما خبران لمبتدأ محذوف، وإما بدلان من ضمير المنفصل، أو نعتان له على جواز نعت ضمير الغيبة.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ ﴾ نزلت لما دعت اليهود أنه لا دين أفضل من دين اليهودية، وادعت النصارى أن لا دين أفضل من دين النصرانية. قوله: (هو) ﴿ ٱلإِسْلاَمُ ﴾ قدر الضمير إشارة إلى أن الجملة معرفة الطرفين فتفيد الحصر. وقوله: (المبعوث به الرسل) أي جميعهم من آدم إلى محمد قال تعالى:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ ﴾[الشورى: ١٣] فأصل الدين واحد، وإنما الاختلاف في الفروع. قوله: (بدل اشتمال) أي فيكون من تمام آية شهد الله، لأن وحدانية الله اشتمل عليها الإسلام، وهذا إن أريد بالإسلام الشرع المنقول، وأما إن أريد به التوحيد كان بدل كل من كل. قوله: ﴿ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ جواب عن سؤال نشأ من قوله: ﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ ﴾ كأنه قيل حيث كان الدين واحداً من آدم إلى الآن فما اختلاف أهل الكتاب. قوله: ﴿ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ ﴾ استثناء من محذوف، أي ما كان اختلافهم في حال من الأحوال إلا في حال مجيء العلم لهم، فالمعنى لا عذر ولا شبهة لهم في ذلك الاختلاف، لأن الله بين لهم الحق من الباطل، وإنما كفرهم واختلافهم محض عناد، قال تعالى:﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾[النمل: ١٤].
قوله: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ ﴾ من اسم شرط جازم ويكفر فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ دليل الجواب والجواب محذوف أي فيعذبه، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال له: لا تحزن على كفر من كفر فإن الله معذبه. قوله: ﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ ﴾ أي اليهود والنصارى حيث أنكروا عموم رسالتك أو أصلها، وجملة حاجوك فعل الشرط، وجوابه فقل وما عطف عليه. قوله: ﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ ﴾ معطوف على ضمير ﴿ أَسْلَمْتُ ﴾ المتصل، وقد وجد الفاصل وهو قوله: ﴿ وَجْهِيَ للَّهِ ﴾ إذا علمت ذلك، فتقدير المفسر أنا، توضيح وبيان للضمير المتصل لا ليفيد الفاصل فإنه قد حصل بقوله وجهي لله، قال ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل   عطف فافصل بالضمير المنفصلأو فاصل ما وما هنا من قبيلة، ومفعول اتبعن محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي ومن اتبعن أسلم وجهه. قوله: (لشرفه) أي لوجود الحواس الخمس فيه. قوله: ﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ أي التوراة بالنسبة لليهود، والإنجيل بالنسبة للنصارى، وفيه وضع الموصول موضع الضمير لماقبلته بالأميين. قوله: (مشركي العرب) أي ومن عداهم ممن لا كتاب لهم. قوله: (أي أسلموا) أي فهو استفهام تقريعي، والمقصود الأمر على حد (فهل أنتم منتهون). قوله: ﴿ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ ﴾ أي انتفعوا وحصل لهم الرضا والقبول وتم لهم السعد والوصول، وبهذا اندفع ما يقال إن فعل الشرط محتد مع جوابه، كأنه قال فإن أسلموا فقد أسلموا. قوله: ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ اي داموا عليه وهو فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ ﴾ دليل الجواب، والجواب محذوف تقديره فلا تحزن عليهم وأمرهم إلى الله. قوله: (أي التبليغ للرسالة) أي وقد بلغت فلا تأس عليهم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ أي عليم بهم ومطلع عليهم وناظر إليهم فلا يغيب عنه شيء من أفعالهم. قول: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي هذه الآية نزلت قبل الأمر به، فإن رسول الله أمر بالأمساك والأعراض عنهم في نحو نيف وسبعين آية ثم أمر بتقالهم.
قوله: ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي القرآن وغيره. قوله: (وفي قراءة يقاتلون) صوابه تأخيرها بعد المعطوف إذ هي التي فيها القراءتان، وأما هذه فيقتلون بإتفاق السبعة. قوله: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ إن قلت إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق. أجيب في اعتقادهم أيضاً فهو زيادة في التشنيع عليهم، فالمعنى اعجب يا محمد من بلادة هؤلاء حيث يقتلون الأنبياء وهو معتقدون أن قلتهم خلاف الحق ويقتلون من يأمرهم بالعدل. قوله: (وهم اليهود) أي قوم موسى، وإنما خوطب من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم بذلك لرضاهم بفعلهم مع كونهم كانوا عازمين على قتله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثلاثة وأربعين) وفي رواية أخرى سبعين. قوله: (من يومهم) أي فقتلوا الأنبياء أول النهار والعباد آخره. قوله: (أعلمهم) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تبعية حيث شبه الاعلام بالعذاب بالبشارة، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من البشارة بشرهم بمعنى أعلمهم بالعذاب، والجامع الانتقال من حال لأخرى في كل. قوله: (وذكر البشارة تهكم) أي لأن البشارة هي الخبر السار، والنذارة الخبر الضار، فكأنه يقول هو لا يتخلف، كما أن الوعد بالخير لا يتخلف. قوله: (لشبه اسمها الموصول) أي وهو في الأصل كان مبتدأ متى وقع اسم موصول، ولو منسوخاً قرن خبره بالفاء. قوله: (كصدقة وصلة الرحم) إن قلت إن مثل هذا العلم لا يتوقف على الإسلام لعدم توقفه على النية فينتفع به الكافر فلا يتم، قول المفسر فلا اعتداد بها لعدم شرطها، فلعل ذلك محمول على جماعة مخصوصين باشروا قتل الأنبياء وعاندوهم، وإلا فصدقة الكافر وصلة رحمه تنفعه في الدنيا بتوسعتها عليه مثلاً لا غير، ولا ينتفع بها في الآخرة إجماعاً لأن محل الجزاء الجنة وهو عنها بمعزل، لأنه ليس له في الآخرة إلا النار. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخطاب للنبي أو لكل من يتأتى منه النظر. قوله: ﴿ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ أي التوراة. قوله: (في اليهود) أي يهود خيبر. قوله: (زنى منهم اثنان) أي من أشرافهم ثم سألوا أحبارهم فأخبروهم بأن التوراة نصت على رجمهم، ولكن أخذتهم الشفقة عليهم لكونهم من أشرافهم فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله أن يوجد في دينه فرج لهم، فقال لهم النبي حكم ديني رجمكم، والذي أعلمه أن في التوراة كذلك، فقال بعضهم جرت علينا يا محمد فقال هلموا إليّ بأعلمكم بالتوراة، فقالوا عبد الله بن صوريا وكان بفدك، فأتى به فسأله النبي عن حكم الزاني والزانية في التوراة، فقال ائتوني بالتوراة، فقرأ منها على النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل آية الرجم فوضع يده عليها وقرأ ما بعدها، وكان عبد الله بن سلام حاضراً إذا ذاك، وكان من أحبارهم قبل الإسلام، فقال يا رسول الله إن الرجل أخفى آية الرجم وقرأ ما بعدها، فأمره النبي بأخذها منه فأخذها وقرأها فإذا فيها: إن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً، وإن كانت امرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمها فغضبت اليهود لذلك. قوله: (فوجد فيها) أي الرجم.
قوله: ﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ﴾ أي بسبب قولهم ذلك فهونوا على أنفسهم جميع الموبقات من قتل الأنبياء وعصيانهم وغير ذلك. قوله: (من قولهم ذلك) أي وهو لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات. قوله: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ (حالهم) رد لقولهم المذكور وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيقع لهم من الأهوال، ويجوز أن يكون كيف خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله: (حالهم). وقوله: ﴿ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ ﴾ ظرف غير مضمن معنى الشرط منصوب على الظرفية والعامل فيه متعلق الخبر. قوله: ﴿ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي في مجيئه ووقوع ما فيه. وقوله: ﴿ وَهُمْ ﴾ (أي الناس) فيه إشارة إلى أنه ذكر ضميرهم، وجمعه بإعتبار معنى كل نفس. قوله: (ونزل لما وعد) وذلك أنه حين تحزبت عليه الأحزاب سنة خمس من الهجرة حتى تجمع عليه عشر آلاف مقاتل، وكان المسلمون إذ ذاك نحو الألفين معه بالمدينة، فأشاروا عليه بحفر الخندق فجعل على كل عشرة أربعين ذراعاً، فبينما هم في ذلك، إذ ظهرت لهم صخرة عظيمة لا تعمل فيها المعاول، فكرب من كانت في قسمته، فاستجاروا برسول الله، فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان الفارسي وضرب الصخرة أول مرة فخرج منها نور فملأ ما بين لا بتي المدينة، فقال أضاء منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، والحيرة بكسر الحاء المهلمة وسكون الياء مدينة بقرب الكوفة، وتمثيله القصور بأنياب الكلاب لشبهها لها في البياض انضمام بعضها لبعض مع الإشارة إلى تحقيرها، ثم ضرب الثانية وقال: أضاء لي منها قصور الروم، ثم ضرب الثالثة وقال: أضاء لي منها قصور صنعاء اليمن، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها فابشروا، فقال المنافقون ألا تعجبون يمينكم ويعدكم بالباطل ويخبركم أنه يبصر ما ذكر، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من شدة الخوف ولا تستطيعون البروز، فنزلت الآية، وكسر الصخرة في الثلاثة ضربات من عزمه وقوته البشرية، وإلا لو كان معجزة لأشار لها فقط، وروي في فضل تلك الآية أحاديث لا تحصى، منها ما روي أن الله لما أمر فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك بالنزول إلى الأرض، قالوا يا ربنا لا تهبطنا دار النذوب وإلى من يعصيك، فقال تعالى وعزتي وجلالي ما يقرؤكن عبد عقب كل صلاة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت له بعيني المكنونة في اليوم والليلة سبعين مرة، وإلا قضيت له في اليوم والليلة سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من عدوه بنصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
قوله: (يا الله) أشار بذلك إلى أن الميم معوضة عن ياء النداء، فهو مبني على الضم في محل نصب. والميم عوض عن ياء النداء، وذلك من جملة ما خص به لفظ الجلالة ومن جملتها اجتماع يا وأل. قوله: ﴿ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ ﴾ يصح أن يكون بدلاً أو عطف بيان أو نعتاً لمحل اللهم أو منادى حذفت منه يا النداء، والملك هو من العرش للفرش، وفي بعض الكتب أنا الله ملك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وقله: ﴿ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ إما صفة لمالك الملك أو استئناف بياني، دليل لكونه مالك الملك، وقوله: (من تشاء) أي كمحمد وأصحابه. قوله: (بإيتائه) أي الملك. قوله: (بنزعه منه) أي بنزع الملك من فارس والروم وغيرهما. قوله: (بقدرتك) هذا تأويل الخلف، وأما السلف فيؤمنون بذلك ويفوضون علم ذلك لله قوله: (أي والشر) أشار بذلك إلى أن فيه اكتفاء، وإنما اقتصر على الخير لأن الآية مسوقة في الخير بدليل سبب نزولها وإن كان لفظها عاماً، أو يقال إنما اقتصر على الخير لأنه صنعه، وأما الشر فبالنظر للمنعكس عليه قال بعض العارفين: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً   رأيت جميع الكائنات ملاحاًوإن لم تر إلا مظاهر صنعه   حجبت فصيرت الحسان قباحاًففعل الله كله خير لأن أفعاله دائرة بين الفضل والعدل، ولا ينسب له الشر أصلاً، وإنما ينسب الشر للمخالف، وليس لمولانا حاكم يخالفه فيما أمره به بل هو الفعال لما يريد، قوله: ﴿ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ دليل تقدم قوله: (فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر) أي بقدر ما نقص ساعة بساعة ودرجة بدرجة. قوله: (كالإنسان الطائر الخ) ويصح أن يراد بالحي المسلم وبالميت الكافر قوله:(من النطفة والبيضة) لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي ومن غير توقف على عمل، وإلا فلو توقف زرقة على عمل منا لما أعطانا شيئاً أبداً، بل لم يبق لنا نعمه التي هي موجودة فينا، كالسمع والبصر والكلام واليدين والرجلين وغير ذلك، فسبحان الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
قوله: ﴿ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ قيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، كان منافقاً يخفي الكفر ويحب أهله ويواليهم باطناً، وكان بصحبته على هذه الخلصة ثلثمائة، كانوا يحبون ظفر الأعداء برسول الله وأصحابه، وإنما كانوا يظهرون الإسلام فقط، فمعنى الآية أن من علامة الإيمان عدم موالاة أهل الكفر، قال تعالى:﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾[المجادلة: ٢٢] الآية، وقال تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾[الممتحنة: ١] قوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أصدقا وقوله: (يوالونهم) أي يحبونهم ويميلون إليهم. قوله: ﴿ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ في محل الحل من الفاعل، أي حال كون المؤمنين متجاوزين بموالاتهم المؤمنين أي تاركين قصر الولاية عليهم، وذلك الترك يصدق بصورتين، كونها مشتركة بين الكفار والمؤمنين، أو مختصة بالكفار، فالصورتان داخلتان في منطوق النهي، وإنما الواجب على المؤمنين قصر الموالاة والمحبة على بعضهم. قوله: ﴿ فَلَيْسَ مِنَ ﴾ الكلام على حذف مضاف، قدره المفسر بقوله دين وفيه حذف مضاف أيضاً أي من أهل دين الله، فالمعنى أنه كافر، وإذا اطلعنا عليه فلا نبقيه بل نقتله، ويسمى زنديقاً ومنافقاً، واسم ليس ضمير يعود على من الشرطية. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ ﴾ هذا استثناء مفرغ من عموم الأحوال، أي لا يتخذ المؤمن الكافر ولياً لشيء من الأشياء، ولا لغرض من الأغراض إلا للتقية ظاهراً بحيث يكون مواليه في الظاهر ومعاديه في الباطن. ومحصله أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه مطمئناً قلبه بالإيمان، فالتقية لا تكون إلا مع الخوف على النفس أو العرض. قوله: ﴿ تُقَـٰةً ﴾ وزنه فعله ويجمع على تقى كرطبة ورطب، وأصله وفيه لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو تاء والياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقوله: (من تقيته) بفتح القاف بوزن رميته وهو بمعنى اتقيته. قوله: (دون القلب) أي فالموالاة به حرام إجماعاً. قوله: (وهذا) أي قوله إلا أن تتقوا. قوله: (ليس قوياً فيها) أي الإسلام ليس قوياً في تلك البلد، كأن يجعل أمراء تلك البلدة الحكام من أهل الكفر، فالواجب مداراتهم ظاهراً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم" أنه كان في داره يوماً، إذ أقبل عليه رجل فطرق الباب فقال من؟ فقال فلان فقال سراً: بئس أخو العشيرة، ثم لما خرج إليه أطلق له وجهه وصار يلاطفه بالقول، فلما انصرف قالت له عائشة: رأيت منك عجباً، سمعتك تقول قولاً ثم فعلت خلافه، فقال: يا عائشة إنا لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم ". قوله: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ﴾ الكاف مفعول أول، ونفسه مفعول ثان، وهو على حذف مضاف أشار له المفسر بقوله أن يغضب عليكم، والأصل غضبت نفسه، أي فإن واليتموهم غضب الله بجلاله عليكم. قوله: (فيجازيكم) أي إما بالثواب إن لم توالوهم أو بالعقاب إن واليتموهم. قوله: ﴿ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ﴾ أي فيرتب الجزاء على ذلك.
قوله: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ ﴾ ظرف لمحذوف أي ذكر. قوله: ﴿ مُّحْضَراً ﴾ أي حاضراً ظاهراً تفرح به، وذلك كالصدقات والصيام والصلاة مثلاً. قوله: ﴿ أَمَدَاً بَعِيداً ﴾ أي مسافة طويلة فيتمنى أن لم يكن رآه، وقد ورد أن العبد إذا خرج من قبره وجد عمله الصالح في صورة حسنة، فيقول له طالما كنت أقلقك في الدنيا فاركب على ظهري الآن فيركبه إلى الحشر، وذلك قوله تعالى:﴿ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً ﴾[مريم: ٨٥] وإذا كان غير صالح وجد عمله السيء في صورة قبيحة، فيقول له طالما كنت تتمتع بي في الدنيا فأنا أركبك الآن، وذلك قوله تعالى:﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ﴾[الأنعام: ٣١] ولو شرطية، في الكلام حذفان أحدهما حذف مفعول تود، والثاني حذف جواب لو، والتقدير تورد تباعداً ما بينها وبينه، لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ أي شديد الرحمة بهم، حيث قطع عذرهم بتبيين ذلك في زمن يسع التوبة والرجوع إليه فيه. ومن جملة رأفته كثرة التكرار والتأكيد في الكلام لعله يصل إلى قلوب السامعين فيعملوا بمقتضاه. قوله: (ونزل لما قالوا الخ) وقيل سبب نزولها قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباءه. وقيل قول نصارى نجران ما عبدنا عيسى وأمه إلا محبة لله. قيل سبب نزولها أن النبي دخل الكعبة فوجد الكفار يعلقون على الأصنام بيض النعام ويزخرفها فقال لهم ما هذه ملة إبراهيم التي تدعونها، فقالوا ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى. قوله: ﴿ قُلْ ﴾ (لهم يا محمد) أي رداً لمقالهم. قوله: ﴿ فَٱتَّبِعُونِي ﴾ أي في جميع ما جئت به، والمعنى أن اتباع النبي فيما جاء به دليل على محبة الإنسان لربه، وهي ميل القلب نحوه وإيثار طاعته على هوى نفسه فيلزم من المحبة الطاعة، قال بعض العارفين: لو قال تيهاً قف على جمر الغضا   لوقفت ممتثلاً ولم أتوقفوقال بعضهم: نعصي الاله وأنت تظهر حبه   هذا لعمري في القياس بديعلو كان حبلك صادقاً لأطعته   إن المحب لمن يحب مطيعفمن ادعى المحبة من غير طاعة فدعواه باطلة لا تقبل. قوله: (بمعنى أنه يثيبكم) أشا بذلك إلى أن معنى المحبة الأصلي محال في حقه تعالى، وأن المراد بمحبة الله للعبد قبوله والإثابة على أعماله. قوله: ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ أي يمحها في الصحف، فالمحبوب لا يبقى عليه ذنب، والمبغوض لا تبقى له طاعة، قال بعض العارفين: واجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت، فالإحسان لا ينفع مع البغض منك، والإساءة لا تضر مع الحب منك. قوله: ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ به أي في الدنيا والآخرة. قوله: (من التوحيد) أي وغيره من شرائع الدين قوله: (أعرضوا عن الطاعة) أي فلم يتبعوك فما أمرت به. قوله: (في إقامة الظاهر) أي تبكيتاً لهم.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ ﴾ قال ابن عباس: قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم، فأنزل الله تعالى الآية، والمعنى إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام والنبوة والرسالة، وأنتم يا معشر اليهود على غير دينهم، وعاش آدم في الأرض تسعمائة وستين سنة، وأما مدة إقامته في الجنة فلا تحسب. قوله: ﴿ وَنُوحاً ﴾ هذا لقبه، واسمه الأصلي عبد الغفار، وقيل السكن، ولقب بنوح لكثرة نوحه، وهو من نسل إدريس لأنه ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليهم الصلاة والسلام، وعمر ألف سنة وخمسين، والمعنى اختياره بالنبوة والرسالة وجعله من أولي العزم. قوله: ﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي اصطفاه بالنبوة والرسالة والخلة، وعمر إبراهيم مائة وسبعين سنة. قوله: ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾ قيل المراد عمران أبو مريم وهو الأقرب، وقيل أبو موسى وهارون، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. قوله: (بمعنى أنفسهما) وقيل إنهما حقيقة، فآل إبراهيم أولاده، وآل عمران أبو مريم مريم وابنها، وأبو موسى موسى هارون. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ المراد عالمو زمانهم. قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً ﴾ بدل من آدم وما عطف عليه، وهي إما مأخوذة من الذر أو من الذر، بمعنى الخلق. قوله: ﴿ بَعْضُهَا مِن ﴾ (ولد) ﴿ بَعْضٍ ﴾ أي متناسلين من بعض، فالمراد البعضية في النسب، وقيل المراد بعضها من بعض في الصلاح والبنوة والرسالة، فكما أن الأصول أنبياء ورسل كذلك الذرية، بل في بعضها ما يفوق الأصول جميعها كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ ﴾ ظرف في محل نصب على المفعولية لمحذوف، قدره المفسر بقوله: (اذكر) والتقدير أذكر يا محمد وقت قول امرأة عمران، والمقصود ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت لا ذكر الوقت نفسه. قوله: (حنة) أي بنت فاقود، وكان لها أخت تسمى إشاع بنت فاقود أيضاً متزوجة بزكريا عليه السلام، وكان عمران من السادات الصالحين، وكان له التكلم عن سدنة بيت المقدس، واسم أبيه ماثان قوله: (واشتقات للولد) سبب ذلك أنها كانت يوما جالسة في ظل الشجرة، فرأت طائراً يطعم فرخه ويسقيه، فعطفت واشتقات للولد من أجل رؤية ذلك الطائر، فدعت الله أن يرقزها ولداً ونذرت أن تهبه لبيت المقدس يخدمه، وكان ما من رجل من أشراف بيت المقدس إلا وله ولد منذور لخدمته، فاستجاب الله دعاءها فحملت، فلما أحست بالحمل جددت النذر ثانياً بقوله: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ فلازمها زوجها على ذلك حيث أطلقت في نذرها ولم تقيده بالذكر، فبقيت في حيرة وكرب إلى أن وضعت، فلما وضعتها ورأتها أنثى اعتذرت إلى الله إلى آخر ما يأتي. قوله: (عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا) أي وكانوا يفعلون ذلك بالصبيان إلى أن يبلغوا الحلم، فإذا بلغوا عرضوا ذلك الأمر عليهم، فإن اختاروا الخدمة مكثوا وكلفوا بها ولا يخرجون لشيء من شواغل الدنيا، وإن اختاروا عدم الخدمة أجيبوا لذلك. قوله: (وهلك عمران وهي حامل) أي وحين نذرت ذلك النذر لامها فكربت ثم لما وضعتها الخ فهو مرتب محذوف. قوله: (جارية) حال من الهاء في ولدتها.
قوله: ﴿ قَالَتْ ﴾ (معتذرة) حال من فاعل قالت لا إعلاماً له تعالى فإنه لا يليق ذلك، فإنه عالم بها من قبل أن تعلم بها هي. قوله: ﴿ أُنْثَىٰ ﴾ حال من الضمير في وضعتها مؤكدة له، ويحتمل أن تكون مؤسسة بالنظر لعوده على النسمة الشاملة للذكر والأنثى. قوله: (جملة اعتراض) أي بين كلامي حنة تفخيماً وتعظيماً لشأن ذلك المولود. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية. قوله: (بضم التاء) أي ويكون ذلك من كلامها واعتذاراً. قوله: ﴿ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ ﴾ يحتمل أن يكون ذلك من كلام الله والمعنى ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي أعطيتها لك، فإن ما وهبته لك أعظم مما طلبته لنفسك، فالقصد تفخيم شأنها، ويحتمل أن يكون من كلام حنة ويكون في الكلام قلب، والمعنى ليست الأنثى التي وهبت لي كالذكر الذي طلبته، فالذكر أعظم من حيث قوته على الخدمة وخلوه من القذارة كالحيض والنفاس، فيكون اعتذاراً واقعاً منها. قوله: (ونحوه) أي كالنفاس. قوله: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا ﴾ معطوف على إني وضعتها أنثى، ويكون ما بينهما اعتراض علي أنه من كلام الله، وأما على أنه من كلامها فتكون من جملة مقولها. قوله: ﴿ مَرْيَمَ ﴾ معناه بلغتهم العابدة خادمة الرب. قوله: ﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا ﴾ أي أحصنها وأجيرها. قوله: (أولادها) أي ولم تلد إلا عيسى. قوله: ﴿ ٱلرَّجِيمِ ﴾ فعيل بمعنى مفعول أي مطرود كما قال المفسر، أو مرجوم بالشهب من السماء. قوله: (إلا مسه الشيطان) أي نخسه في جنبه وظاهره حتى الأنبياء وهو كذلك. إن قلت الأنبياء معصومون من الشيطان فلا سبيل له عليهم، أجيب بأنهم معصومون من وسوسته وإغوائه لا من نخسه في أجسامهم، فإن ذلك لا يقدح في عصمتهم منه. إن قلت إن موضوع الآية أن دعوة أم مريم كانت بعد وضعها وتسميتها، فلم تنفع مريم من نخس الشيطان، وإنما نفعت ولدها فقط، فلم تحصل مطابقة بين الآية والحديث إلا أن يقال إن حفظهما من نخس الشيطان كان واقعاً، وإن لم تدع حنة فدعوتها طابقت ما أراده الله بهما، ومع ذلك فالمناسب للمفسر أن لا يأتي بالحديث تفسيراً للآية، وقد ورد أن الشيطان نخسهما أيضاً إلا أنه صادف الغشاء.
قوله: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا ﴾ أي رضي بها خادمة لبيت المقدس، وخلصها من دنس الأطفال والنساء. قوله: ﴿ بِقَبُولٍ ﴾ يحتمل أن الباء زائدة أي قبولاً، ويكون منصوباً على المصدر المحذوف الزوائد، وإلا لقيل تقبلاً أو تقبيلاً، ويحتمل أنها أصلية، والمراد بالقبول اسم لما يقبل به الشيء كالوجور والسعوط. قوله: (كما ينبت المولود في العام) أي في العقل والمعرفة، وإلا فالكلام من قبيل المبالغة. قوله: (سدنة بيت المقدس) أي خدمته. قوله: (هذه النذيرة) أي المنذورة. قوله: (لأنها بنت إمامهم) أي رئيسهم وأميرهم. قوله: (لأن خالتها عندي) ورد أنهم قالوا لو كانت القرابة مقتضية لأخذها لكانت أمها أولى. قوله: (إلى نهر الأردن) أي وهو نهر يجري إلى الآن. قوله: (وألقوا أقلامهم) قيل سهامهم، وقيل التي كانوا يكتبون بها التوراة، وقيل اقلامهم من حديد. قوله: (وصعد) أي على وجه الماء، أي من غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها. قوله: (يأكلها) بضم الهمزة فيه وفيما بعده بمعنى الشيء المأكول والمشروب والذي يدهن به. قوله (ممدوداً أو مقصوراً) راجع لقراءة التشديد لا غير، وأما التخفيف فليس فيه إلا المد مع رفعه على الفاعلية. قوله: (والفاعل الله) أي بالنسبة للتشديد. قوله: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ﴾ أي في وقت دخل عليها فيه وجد الخ، وزكريا بالمد والقصر قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ٱلْمِحْرَابَ ﴾ اسم لكل محل من محال العبادة فسيمت الغرفة بذلك لأنها في المسجد وهو محل العبادة. قوله: ﴿ وَجَدَ عِندَهَا ﴾ حال من زكريا، التقدير قائلاً: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ ﴾ حال كونه واجداً عندها رزقاً يا مريم إألخ، ورزقاً مفعول لقوله وجد ووجد بمعنى أصاب. قوله: (وهي صغيرة) أي فهي من جملة من تكلم في المهد. قوله: (بلا تبعة) أي حق عليه، فليس اعطاؤه الرزق لحق العباد، بل هو من محض فضله وجوده.
قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ أصلها ظرف مكان لكن استعملت هنا ظرف زمان، ويحتمل أن تكون ظرف مكان معنوي، والمعنى عند تلك الواقعة دعا زكريا الخ وهو كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت في اثناء قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط، لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر وهو حكمة قوله تعالى:﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾[آل عمران: ٣٤].
قوله: (لما رأى ذلك زكريا) أي ما تقدم من قصة حنة حيث دعت الله أن يرزقها بولد من يأسها وكبر سنها، فأجابها الله مع كونها لم تكن نبية، واعطاها مريم وجعلها افضل من الذكور، وصار يأتيها زرقها من الجنة، واكرمها اكراماً عظيماً، فكان ذلك الأمر العجيب باعثاً له على طلب الولد. قوله: (وعلم) أي تنبه واستحضر عند مشاهدة تلك الخوارق للعادة على حد: (ولكن ليطمئن قلبي) فشهود الكرامات تزيد في اليقين والكامل يقبل الكمال. قوله: (على الكبر) أي منه ومن زوجته، قيل كان وقت الدعاء عمره ثمانون سنة، وعمرها ثمان وخمسون، وبين الدعاء والإجباة أربعون سنة. قوله: (وكان أهل بيته) أي أقاربه. قوله: (لما دخل المحراب) أي المسجد. قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً ﴾ الذرية على المفرد والجمع، فلذا قال المفسر ولداً صالحاً. قوله: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ ﴾ ليس المراد به الاسم بل المراد المجيب أي سميع سماع إجابة كما قال المفسر. قوله: ﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ أي بعد مضي أربعين سنة من دعوته. قوله: (أي جبريل) أي فهو من تسيمة الخاص باسم العام تعظيماً له. قوله: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ ﴾ جملة حالية من الهاء في نادته، وجملة يصلي إما خبر ثاني أو حال ثانية أو صفة لقائم، وقوله: ﴿ فِي ٱلْمِحْرَابِ ﴾ متعلق بيصلي أو بقائم. قوله: (أي بأن) أي فهو بدل من نادته. قوله: (بتقدير القول) أي استئناف تقديره قائلين إن الله يبشرك الخ. قوله: (مثقلاً و مخففاً أي فهما قراءاتان سبعيتان مع فتح همزة إن وكسرها فهما أربع، فالمثقل بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين المشددة، والمخفف بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين المخففة. قوله: ﴿ بِيَحْيَـىٰ ﴾ قيل إنه منقول من الفعل فيكون ممنوعاً من الصرف للعلمية ووزن الفعل ويكون عربياً، وسمي بذلك لأنه يحيي القلوب الميتمة، وقيل أعجمي فيكون ممنوعاً من الصرف للعلمية والعجمة، ويجمع في حالة الرفع على يحيون، وفي حال النصب على يحيين، وتثنيته في حالة الرفع بحيان، وفي النصب والجر يحيين. قوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ هو وما بعده أحوال من يحيى. قوله: (إنه روح الله) أي سر نشأ من الله. قوله: (لأنه خلقه بكلمة كن) وقيل لأن الكلمة التي قالها لها الله وهي كذلك الله يخلق ما يشاء، وقيل لأنه الكلمة التي قالها الله لجبريل حيث أمره بالنفخ في جيبها. قوله: (متبوعاً) أي ما يقتدى به قيل إنه أعطي النبوة من حين الولادة. قوله: (ممنوعاً من النساء) أي اختياراً لشغله بربه وهذا هو المراد بالحصور هنا، وإلا فمعناه الممنوع من النساء مطلقاً سواء كان اضطراراً أو اختياراً. قوله: ﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي من كبار المرسلين القائمين بحقوقك وحقوق عبادك. قوله: (روي أنه لم يعمل خطيئة الخ) هذا لا يخصه بل كذلك غيره من الأنبياء.
قوله: ﴿ أَنَّىٰ يَكُونُ ﴾ تستعمل أني شرطية كقول الشاعر: فأصبحت أنى تأتها تستجر بها   تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاوتستعمل اسم استفهام كما هنا فلذا فسرها بكيف ويكون ناقصة وغلام اسمها وخبرها أنى، التقدير رب يكون لي غلام علي أي حالة، فالاستفهام من أحوال الغلام لا عن ذاته. قوله: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ ﴾ هذا أسند البلوغ للكبر، وفيما يأتي في سورة مريم أسنده لنفسه، وكلاهما صحيح لأن البلوغ من الطرفين، والجملة حالية وكذا ما بعدها. قوله: (أي بلغت نهاية السن) أي بالنسبة لأهل زماني فلا ينافي أن المتقين كان الواحد منهم يعمر الألف. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمحذوف قدره، بقوله: (الأمر) وقوله من خلق غلام بيان لمرجع اسم الإشارة، والكاف في كذلك يحتمل أن تكون صلة، والمعنى قال الله الأمر ذلك، واسم الإشارة راجع إلى خلق الولد، ويحتمل أن تكون أصلية، والمعنى قال الله الأمر كذلك أي كما قلت لا تغيير فيه ولا تبيدل، فاسم الإشارة راجع إلى القول. قوله: (ألهمه السؤال) أي بقوله أنى يكون لي غلام. قوله: (ليجاب بها) علة للإلهام وقوله؛ (لإظهار) علقة لقوله: (ليجاب) فهو علة مقدمة على معاولها. إن قلت: ما الحكمة في قوله في قصة زكريا الله يفعل ما يشاء، وفي قصة مريم الله يخلق ما يشاء؟ قلت: الحكمة أن خرف العادة في عيسى أعظم من يحيى، فإن عيسى لم يكن له أب كون أمه عذراء، وأما يحيى فأبواه موجودان وأن كان هناك مانع من الحمل، فعبر في جانب عيسى بالخلق الذي هو إنشاء واختراع دون الفعل. قوله: (ولما تاقت نفسه) أي اشتاقت. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً ﴾ أي لأزداد بها شكراً على ما أعطتيني وسروراً به. قوله: (وعلامة على حمل امرأتي) أي فإن الحمل في مبدئه خفي فطلب علامة على ظهور علوقها به. قوله: ﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ﴾ أي يأتيك مانع من الله يمنعك من الكلام بغير ذكر الله. قوله: (أي بلياليها) أخذ ذلك ممن يأتي في سورة مريم جمعاً بين الموضعين والقصتين، ومن ذلك اختار بعض أكابر الصوفية أن الخلوة مع الرياضة لبلوغ المراد ثلاثة أيام بلياليها، يجعل ذكر الله فيها شعاره ودثاره ولا يتكلم فيها. قوله: ﴿ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ استثناء منقطع على التحقيق، لأن الرمز لا يقال له كلام اصطلاحاً وإن كان كلاماً لغة، لكن ليس مراداً هنا. قوله: (أشارة) أي وكانت بسبابته اليمنى. قوله: (اواخر النهار) راجع للعشي وقوله: (واوائلة) راجع للأكابر فهو لهف ونشر مرتب، وخص هذين الوقتين لفرضية الصلاة عليه فيهما. قوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ عطف على قوله إذا قالت امرأة عمران، والمناسبة بينهما ظاهرة، فإن تلك قصة الأم وهذه قصة البنت، وأما قصة زكريا فذكرت بينهما، لأن رؤية العجائب في الأول هي الحاملة لزكريا على طلب الولد. قوله: (أي جبريل) أشار بذلك إلى أنه من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيماً له. قوله: ﴿ يٰمَرْيَمُ ﴾ الحكمة في أن الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا هي، الإشارة بطرف خفي إلى رد ما قاله الكفار من أنها زوجته، فإن العظيم على الهمة يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس: فكأن الله يقول لو كانت زوجة لي لما صرحت باسمها. قوله: (من مسيس الرجال) أي ومن الحيض والنفاس وكل قذر. قوله: (أي أهل زمانك) اشار بذلك إن العالمين عام مخصوص بما عدا خديجة وفاطمة وعائشة، وهذه طريقة مرجوحة، والحق أن مريم أفضل النساء على الاطلاق ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة، قال بعضهم في ذلك: فضل النسا بنت عمران ففاطمة   خديجة ثم من قد برأ اللهوبالجملة فأفضل النساء خمسة: مريم وخديجة وفاطمة وعائشة وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وكذلك مريم.
قوله: ﴿ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي ﴾ تكرار الخطاب باسمها يفيد ما قلنا أولاً من أنه أشار لرد ما قيل إنها زوجته. قوله: ﴿ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي ﴾ قدم السجود لشرفه والواو لا تقتضي ترتيباً إن كانت صلاتهم كصلاتنا من تقديم الركوع على السجود، وإن كانت بالعكس فالأمر ظاهر. قوله: ﴿ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ ﴾ لم يقل مع الراكعات، إما لدخول جمع المؤنث في المذكر بالتغليب، أو المعنى صلي كصلاة الرجال من حيث الخشية وعلو الهمة، لا كصلاة النساء من حيث التفريط وعدم الخشية. قوله: ﴿ نُوحِيهِ ﴾ أي المذكور فالضمير عائد اسم الإشارة لأفراده. قوله: ﴿ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾ أي وقت القائهم أقلامهم. قوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ هذا بمعنى ما قبله، والمعنى يختصمون قبل القاء الأقلام. قوله: (فتعرف ذلك الخ) مسبب عن النفي أي ما كنت حاضراً حتى تعرف ذلك وتخبر به، وإنما عرفته من جهة الوحي لا من جهة غيره، لأن بلده ليست بلد علم، ولم يجلس بين يدي معلم، ولم يقرأ كتاباً، ولم يكن هو ولا أحد من اجداده حاضراً وقت حصول تلك الوقائع، فتعين أن يكون ذلك بوحي من الله، قال العارف: كفاك بالعلم في الأمي معجزة   في الجاهلية والتأديب في اليتم
قوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ قدر المفسر اذكر إشارة إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف، وهذا شروع في ذكر قصة عيسى وما فيها من العجائب. قوله: (أي جبريل) أي فهو من باب تسمية الخاص باسم العام. قوله: ﴿ يُبَشِّرُكِ ﴾ البشارة هي الخبر السار وضدها النذارة وهي الخبر الضار. قوله: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي الله. قوله: (أي ولد) أي مولود وعبر عنه بالكلمة لأنه يقول كن من غير واسطة مادة، واتفق أن نصرانياً قدم على الرشيد فوجد عنده الحسن بن علي الواقدي، فقال النصراني للخليفة والعالم: إن في كلام الله آية تدل على أن عيسى جزء من الله، فقال له: وما تلك الآية؟ فقال النصراني: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ فمن للتبعيض، فمقتضى ذلك أنه جزء منه، فقال الشيخ: إذا كانت من للتبعيض هنا فكذلك هي في قوله تعالى:﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾[الجاثية: ١٣] إذ لا فرق بينهما، فبهت النصراني واسلم، واغدق الخليفة على الشيخ اغداقاً عظيماً وكان يوماً مشهوداً، وإنما من للابتداء على حد إن الله خلق نور نبيك من نوره، والمعنى خلقه بلا واسطة مادة. وأعلم أن تلك البشارة تضمنت خمسة عشر وصفاً. قوله: ﴿ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ ظاهره أن هذه الأشياء كلها جعلت اسماً واحداً له، مع أن المسيح لقبه وابن مريم كنيته، وإنما الاسم عيسى فقط، ويجاب بأنه لما كان لا يتميز إلا بهذه الأشياء كلها جعلت اسماً واحداً، والمسيح فعيل إما بمعنى فاعل لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برئ، أو لأنه كان يمسح الأرض في الزمن القليل لهداية الخلق، أو مفعول لأنه ممسوح بالبركة أو ممسوح القدم بمعنى أنها لا أخمص لها، وأما الدجال فيلقب بالمسيح إما لأنه يمسح الأرض في الزمن القليل لإضلال الناس، أو لأنه ممسوح العين، فهو من تسمية الأضداد ومن الأسماء المشتركة، وعيسى من العيسى وهو البياض المشرب بحمرة لأن لونه كان كذلك، قوله: (إذ عادة الرجال) أي والنساء. قوله: ﴿ وَجِيهاً ﴾ حال من المسيح. قوله: (ذا جاه) أي عز وسؤدد. قوله: (بالنبوة) أي والمعجزات الباهرة والحكمة التي لا تضاهى. قوله: (والدرجات العلا) أي من حيث إنه من أولي العزم. قوله: (عند الله) عندية مكانة لا مكان أي قرب ومنزلة. قوله: ﴿ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾ أي زمنه والمهد فراش الصبي زمن طفوليته، وورد أنه كان تكلم حين ولادته كما قص الله في سورة مريم. قوله: (قبل وقت الكلام) أي وانقطع إلى وقته المعتاد، وكان يحدث أمه وهو في بطنها، فإذا اشتغلت أمه بكلام إنسان اشتغل هو بالتسبيح. قوله: ﴿ وَكَهْلاً ﴾ أي بين الثلاثين والاربعين، والمقصود بشارة أمه بطول عمره لا كون كلامه حينئذ خرق عادة. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي الكاملين في الصلاح وهم سادات الرسل، فأل في الصالحين للكمال. قوله: (بتزوج ولا غيره) أي كالزنا وقد صرح به في سورة مريم بقوله:﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾[مريم: ٢٠] وهذا استفهام عن الحالة التي يأتي عليها ذلك الولد، وإنما استفهمت عن ذلك لأنها جازمة أنها منذورة لخدمة بيت المقدس وإنها مقبولة، وكانت عادتهم إن المنذور لا يتزوج، فهذا هو حكمه استعظامها ذلك. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: الأمر والكاف يحتمل زيادتها والأصل الأمر ذلك ويحتمل اصالتها، وقد تقدم ذلك. قوله: ﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾ القضاء هو تعلق ارادة الله بالأشياء أزلاً. قوله: (اراد خلقه) أي تعلقت ارادته بخلقه تعلقاً تنجيزياً قديماً. قوله: (أي فهو يكون) اشار بذلك إلى أن جملة خبر لمحذوف. قوله: (بالنون والياء) أي قراءتان سبعيتان، فعلى الياء الأمر ظاهر وعلى النون فهو التفات من الغيبة للخطاب. قوله: (الخط) ورد أنه كان حسن الحظ جداً، وكان يعلمه للصغار في المكتب. قوله: ﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ أي النبوة. قوله: ﴿ وَٱلتَّوْرَاةَ ﴾ إن قلت إنها كتاب موسى. أجيب بأنه كان يحفظها ويتعبد بها إلا ما نسخ منها في الإنجيل.
قوله: ﴿ وَرَسُولاً ﴾ معمول بمحذوف قدره المفسر بقوله: (نجعله) لأنه المناسب له. قوله: (في الصبا) أي وهو ابن ثلاث سنين، وقوله: (أو بعد البلوغ) أي وهو ابن ثلاثين سنة، وكلا القولين ضعيف، والمعتمد أنه نبىء على رأس الأربعين، وعاش نبياً ورسولاً ثمانين سنة، فلم يرفع إلا وهو ابن مائة وعشرين سنة. قوله: (فنفخ جبريل في جيب درعها) أي وكان عمرها إذ ذاك قيل عشر سنين، وقيل ثلاثة عشرة، وقيل ست عشرة سنة. قوله: (ما ذكر في سورة مريم) أي في قوله تعالى:﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ ﴾[مريم: ١٦] الآيات، واختلف في مدة حملها، فقيل تسعة أشهر، وقيل ثلاث ساعات، وقيل ساعة واحدة وهو المشهور. قوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله فلما بعثه الله الخ، وهو إشارة لقصة رسالته بعد أن ذكر قصة بشارته وحمله وولادته. قوله: (اصور) دفع بذلك ما يقال إن الخلق هو الإيجاد بعد العدم وهو مخصوص بالله تعالى، فأجاب بأن معنى الخلق التصوير. قوله: (مفعول) أي لأخلق. قوله: (الضمير للكاف) ويصح أن يعود على الطين، وحكمة المغايرة بين ما هنا وبين ما يأتي في آخر المائدة أن المتكلم هنا عيسى وهناك الله. قوله: (وفي قراءة طائراً) أي بالإفراد وأما الأولى فهو اسم جمع وهما سبعيتان. قوله: (الخفاش) أي الوطواط. وقوله: (لأنه أكمل الطير خلقاً) أي لأنه اسناناً وثدياً، ويحيض كالنساء ويطير من غير ريش، ولا يبصر إلا في ساعة المغرب وبد الصبح، وما بقي من الزمن هو فيه أعمى. قوله: (سقط ميتاً) أي ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق. قوله: (الذي ولد أعمى) أي ممسوح العين أم لا وابراؤه للطارئ أولوي. قوله: ﴿ وٱلأَبْرَصَ ﴾ هو من به داء البرص وهو داء عظيم يشبه البهق إذا نخس نزل منه ماء قوله: (لأنهما داءاً إعياء) أي أعييا الأطباء الذين كانوا في زمنه، فإن معجزة كل نبي على شكل أهل زمانه، كموسى فإنه بعث في زمن كثرت فيه السحرة فأعياهم بالعصا واليد بيضاء، وسيدنا محمد فإنه بعث في زمن العرب البلغاء فأعياهم بالقرآن. قوله: (بشرط الإيمان) أي بالقلب واللسان، فإن آمن بلسانه فقط لم يشف. قوله: (النفي توهم الألوهية فيه) أي في عيسى بهذا الوصف الذي لم يشارك الله فيه أحد صورة، فقوله: ﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ رد عليهم، فالمعنى لو كان دليلاً على ألوهيته لكان بإذنه. قوله: (عازر) بفتح الزاي. وقوله: (صديقاً له) أي عيسى وكان قد تمرض، فأرسلت أخته لعيسى فأخبرته بمرضه وكان عى مسافة ثلاثة أيام، فجاء فوجده قد مات ودفن، فذهب مع أخته إلى قبره فدعا بالاسم الأعظم فأحيي وعاش إلى أن ولد له. قوله: (وابن العجوز) أي وأحياه قبل دفنه حين مر به على عيسى وهو على أعناق الرجال، فدعا الله فجلس ولبس ثيابه وأتى أهله، وقوله: (وابنة العاشر) أي الذي كان يأخذ العشر من الناس، وقوله: (وسام بن نوح) أي وكان قد مات من نحو أربعة آلاف سنة، فدعا الله فأحياه فقام وقد شاب نصف رأسه. ثم قال له مت بإذن الله فقال نعم لكن لا أذوق حرارة الموت ثانياً فقال له كذلك. قوله: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ ورد أنه كان يخبر الصبيان الذي يعلمهم الخط بما في بيوت آبائهم من المدخرات، فيذهب الأولاد ويخبرون آباءهم بذلك، ثم إنهم تجمعوا وحبسوا أولادهم عنه فجاء إليهم وسأل عنهم فأنكروهم، فقال لهم من الذي خلف الأبواب فقالوا هم خنازير، فقال كذلك إن شاء الله ففتحوا عليهم فوجدوهم كذلك، فكربوا وتجمعوا على قتله فحملته أمه على حمار لها وجاءت به مصر، فإن قلت قد يخبر المنجم الكاهن عن مثل ذلك فما الفرق؟ أجيب بأن المنجم الكاهن لا بد لكل واحد من معدمات يرجع إليها ويعتمد عليها في أخباره، فالمنجم يستعين بواسطة الكواكب والكاهن يستعين بخير من الجن، وقد يخطئان كثيراً، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فبواسطة الوحي السماوي، وهو من عند الله لا بواسطة ولا غيره فتأمل. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام عيسى أو من كلام الله. قوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ جوابه محذوف أي انتفعتم بهذه الآية. قوله: ﴿ وَمُصَدِّقاً ﴾ حال معطوفة على حال مقدرة، وهي متعلق قوله بآية التقدير جئتكم حال كوني متلبساً بآية وحال كوني مصدقاً، ويشعر بذلك تقدير المفسر قوله جئتكم وليس معطوفاً على وجيهاً لأن وجيهاً من جملة المبشر به وهو من كلام الله، وأما قوله مصدقاً فهو من كلام عيسى. قوله: (قبلي) ﴿ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ أي وهو كتاب موسى، وكان بينه وبين عيسى ألف سنة وتسعمائة وخمسة وسبعون سنة، وأول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وأخرهم عيسى. قوله: ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم ﴾ معمول لمحذوف تقديره وجئتكم لأجل التحليل، ولا يصح عطفه على مصدقاً لأن ذلك حال وذا تعليل (قوله بعض الذي حرم عليكم) أي سبب ظلمكم كذي الظفر وشحوم البقرة والغنم. قوله: (ما لا صيصية له) أي شوكة يؤذي بها، وأما ما له صيصة فهو باق على حله ولم يحرم. قوله: (فبعض بمعنى كل) استشكل بأنه يلزم عليه تحليل كالزنا والقتل. وأجيب بأن المراد جميع ما طرأ تحريمه من أجل التشديد، لا ما كان محرماً بالأصالة. قوله: (وليبني عليه) ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي فحيث أمرتكم بما ذكر من ظهور الآيات فاتقوا الله الخ. قوله: (وطاعته) معطوف على توحيد الله من عطف العام على الخاص.
قوله: ﴿ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ هذا رد لدعواهم بنوته لله، وإلا لقال إن الله أبي. (قوله طريق مستقيم) أي دين قيم من تمسك به فقد نجا ومن حاد عنه وقع في الردى. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ ﴾ أحس يتعدى بنفسه وبحرف الجر، والأحساس الإدراك بأحد الحواس الخمس: السمع والبصر والذوق واللمس والشم، والمعنى أدركه منهم عناداً بعد ظهور تلك الآيات البينات. قوله: ﴿ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ ﴾ أي من ينصرني. وقوله: ﴿ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الياء في أنصاري، قدره المفسر بقوله ذاهباً. قوله: (اعوان دينه) أي أهل دينه فنصرة الدين كناية عن نصرة أهله. قوله: (وكانوا اثني عشر) أي وكان لهم كبيران اسمهما شمعون ويعقوب قوله: (وهو البياض الخالص) أي لبياض قلوبهم وثيابهم فأعطاهم الله بياض بواطنهم وظواهرهم قوله: (وقيل كانوا قاصرين) وقيل لأنهم حوروا النبي بمعنى نصروه، وقيل كانوا صيادين للسمك، وقيل كانوا صباغين، وقيل كانوا ملوكاً، ورد أن عيسى مر على هؤلاء وهم يصطادون السمك، فقال لهم: اذهبوا بنا لنصطاد الخلق، فقالوا له: وما آتيك على ذلك؟ وكانوا طول نهارهم يطرحون الشبك لا يخرج لهم شيء من السمك، فأمر أن يطرح الشبكة واحد منهم ففعل، فخرج لهم سمك ملأ مركبين، فآمنوا به وساروا بسيره، وقيل إن شمعون كان ملكاً، فرأى عيسى ذات يوم يأكل من إناء هو والناس ولا يفرغ ذلك الطعام، فآمن به ونزل عن ملكه وتبعه أقاربه، وقيل كان في صغره عند صباغ، فأمره بصبغ ثياب متعددة ألواناً متغايرة وذهب لحاجة، فوضع تلك الثياب في دن واحد وقال أيتها الثياب كوني كما أريد، فجاء الصباغ وسأله عن الثياب فقال ها هي في هذا الدن، فحزن حزناً عظيماً فأخرجها من الدن فوجدها كما أمره الصباغ فآمن به هو وأقاربه، وقل إن الاثني عشر كانوا لا صنعة لهم حين آمنوا بعيسى وكانوا سياحين معه، وكانوا كلما جاعوا شكوا لعيسى فينزل لهم كل واحد رغيفان، وكلما ظمئوا شكوا له فتنبع لهم عين في أي محل كانوا فيه، فقال لهم يوماً هنا من هو أفضل منكم، فقلوا من فقال الذي يأكلون من كسب أيديهم، فاستعملوا قصارة الثياب، وقد يجمع بين الروايات المختلفة بأن بعض الاثني عشر كان من الملوك، وبعضهم من الصيادين، وبعضهم من القصارين، وبعضهم من الصباغين قوله: ﴿ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ ﴾ أي الموحدين مطلقاً أو الذين فضلتهم بالشهادة وهم محمد وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الأمم بالتكذيب.
قوله: ﴿ وَمَكَرُواْ ﴾ المكر هو الخديعة وإظهار خلاف ما يبطن قوله: (غيلة) هي بكسر الغين المعجمة وسكون الياء التحتية، أي يخدع الرجل فيذهب به إلى موضع لا يراه أحد به ويقتله. قوله: ﴿ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾ أي جازاهم على مكرهم، فحيث أضمروا على أخذ عيسى من حيث لا يحتسب، جازاهم على ذلك وأخذهم من حيث لم يحتسبوا. قوله: (بأن القى شبه عيسى الخ) حاصل ذلك أنهم لما تجمعوا على قتله، جاءه جبريل فوجده في مكان في سقفه فرجة فرفعه من تلك الفرجة إلى السماء، وأمر ملك اليهود رجلاً اسمه ططيانوس أن يدخل على عيسى فيقتله. فلما دخل فلم يجده خرج وقد القى الله شبه عيسى عليه، فلما رأوه ظنوه عيسى فقتلوه، وفتشوا على عيسى فلم يجدوه، ثم قالوا إذا كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإذا كان صاحبنا فأين عيسى، فوقع بينهم قتال عظيم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ ﴾ أي أقواهم مكراً بحيث يقدر على إيصال الضرر لهم من حيث لم يحتسبوا كما أضمروا ذلك لعيسى، ولا يقال لله ماكر أو مكار إلا مشاكلة ويؤول بما علمت، لأن أصل المكر يستعمل في المحتال لأخذ صاحبه لعجزه عنه وهو مستحيل على الله.
قوله: (اذكر) ﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أشار بذلك إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف، والمعنى أن اليهود لما تجمعوا على قتله وتحيلوا على أخذه جعل الله كيدهم في نحورهم، وقال الله يا عيسى الخ فهو من تفصيل قوله ومكر الله. قوله: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ اختلف في التوفي فقيل معناه مبلغك الأمل بأن تبلغ عمرك بتمامه ولا تموت بقتل أحد بل من الله، وقيل معناه بالنوم أي فرفع إلى السماء وهو نائم فلم يحصل له انزعاج، وقل معناه مميتك قابض لروحك لا يقال إنه يقتضي أنه يموت قبل الرفع إلى السماء لأنه يقال إن الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً فالكلام على التقديم والتأخير، والمعنى أني رافعك إليّ ومتوفيك بعد ذلك، والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إلى السماء، واعلم أن الأنبياء الذين أمروا بالقتال معصومون من القتل فلا خصوصية لعيسى، وأما من لم يؤمر به فلا مانع من كون الكفار يقتلونه لأنه مأمور بالصبر، وذلك كما وقع لزكريا حين نشروه بالشجرة. قوله: (قابضك) ﴿ وَرَافِعُكَ ﴾ أشار بذلك لى أن عطف ورافعك على متوفيك للتفسير وهو تقدير آخر غير ما تقدم. قوله: ﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ أي إلى كرامتي وأهل قربي. وقوله: (من الدنيا) أراد بها الأرض. قوله: ﴿ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ ﴾ أي أحبوك وانتسبوا لك، فإن صدقوا بمحمد أيضاً وأحبوه أو ماتوا قبل بعثته فقد تم لهم العز دنيا وأخرى، وإن لم يصدقوا بمحمد ولم يحبوه فقد حازوا على الدنيا. (وما لهم في الآخرة من خلاق) فالنصارى له عز في الدنيا وسلطنة على اليهود إلى يوم القيامة. قوله: (وهم اليهود) أي فهو عز على خصوص اليهود لا مطلقاً ما داموا كفاراً، وذلك أنه لما رفع الله عيسى افترق أصحابه ثلاث فرق، فقالت فرقة كان الله فينا ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية، وقالت أخرى كان فينا ابن الله ثم رفعه إليه وهم النسطورية، وقالت أخرى كان فينا عبد الله ورسوله ثم رفعه الله إليه وهذ الفرقة هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم، فلم يزل الإسلام منطمساً إلى أن بعث محمد. قوله: (يعلونهم بالحجة) أي يغلبونهم بالأدلة. قوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ أي طافئة بعد طائفة. قوله: ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ خطاب لجميع المخلوقات. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ﴾ تفصيل لما يؤول أمر الناس إليه في الآخرة. قوله: (بالقتل والسبي) أي مع الذل والهوان. قوله: (مانعين منه) أي من العذاب. قوله: (بالياء والنون) أي فهما قرءاتان سبعيتان. قوله: (فتعلقت به أمه) أعلم أنه بعد رفعه بسبعة أيام قال الله له اهبط إلى مريم، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمعن الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله، فأهبطه الله عز وجل، فاجتمعت له الحواريون فبثهم في الأرض، فلما أصبح الحواريون تكلم كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليه، إذا علمت ذلك، فقوله: (تعلقت به أمه) محمول على هذا الصعود الثاني، وإلا فالأول لم تعلم به وهي لا ولا أصحابه. قوله: (وبكت) أي على فراقه. قوله: (وكان ذلك ليلة القدر) إن قلت إن ليلة القدر من خصائص هذه الأمة، أجيب بأن الذي من خصائص هذه الأمة فضلها من كونها خيراً من ألف شهر، وكونها تنزل فيها الملائكة من الغروب إلى طلوع الفجر، وكون الدعاء فيها مجاباً بعين المطلوب، فلا ينافي ثبوتها في الأمم السابقة، لكن بهذا الفضل. قوله: (وله ثلاث وثلاثون سنة)أي وعليه فقيل جاءته النبوة من حين الولادة وقيل على رأس الثلاثين، وبعد هذا فما قاله المفسر ضعيف رجع عنه كما قاله سيدي محمد الزرقاني في شرح المواهب، والحق الذي اعتمده الاشياخ أنه ما رفع إلا بعد مضي مائة وعشرين سنة، وجاءته النبوة على رأس الأربعين وكغيره، وعمر أمه حين رفع على الأول ست وأربعون سنة وعاشت بعده ست سنين فيكون عمرها اثنين وخمسين، وعلى الثاني مائة وتسعة وثلاثين، واعلم أنه لما رفع كساه الله خلعة النور وسلبه شهوة الطعام والشراب والنوم، وجعل له ريشاً يطير به كالملائكة فهو حكمهم. قوله: (إنه نزل) أي على منارة بني أمية حين يضايق الدجال المهدي والخلق جميعاً، فيهرعون إلى دمشق الشام وهو محتاط بهم، فينزل عند إقامة الصلاة، فيريد المهدي التأخير فيأمره عيسى بالتقدم، فعبد الصلاة يتوجهون إلى الدجال وهو في بلد، فإذا رأى عيسى ذاب كالملح فيهزمه الله، ثم يظهر العدل والصلاح في الأرض. قوله: (ويحكم بشريعة نبينا) إن قلت إن وضع الجزية ليس من شرع نبينا. أجيب بأنه غير أن أخذها مغيى بنزول عيسى كما أخبرك بذلك نبينا فوضعها أيضاً من شرعنا (قوله سبع سنين) أي فوق الثلاث والثلاثين وهو ضعيف. قوله: (أربعين سنة) قيل من ولادته فيكون مكثه بعد النزول سبع سنين كالرواية الأولى، وقيل مبدأ الأربعين من نزوله، وعلى كونها من نزوله فعلى كونه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثون يكون عمره ثلاثاً وسبعين سنة، وعلى أنه رفع وهو ابن مائة وعشرين فيكون عمره مائة وستين. قوله: (ويصلى عليه) أي يصلي عليه المسلمون ويدفن في السهوة الشريفة، فإذا جاء يوم القيامة قام أبو بكر وعمر بين رسولين سيدنا محمد وعيسى عليهما السلام.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ اسم الإشارة عائد على ما تقدم من عجائب عيسى، وأفرد باعتبار ما ذكر كما أشار لذلك المفسر. قوله: (وعامله في ذلك الخ) لأنه مضمن معنى أشير واعتراض ذلك بأن العامل في صاحبها، هو الهاء في نتلوه، فالعامل فيه هو نتلوه، قال بعضهم معتذراً عن المفسر بأنه خلط إعراباً بآخر. وحاصل ذلك أن قوله ذلك مبتدأ وقوله نتلوه خبره، وقوله من الآيات حال من الهاء وعامله هو نتلو أو من الآيات خبره ونتلوه حال، وعاملها ما في ذلك من معنى الإشارة، وهذا هو الذي يشير له المفسر على قول بعضهم. قوله: ﴿ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ ﴾ عطف على الآيات للتفسير. قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ ﴾ سبب نزولها أن وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: نراك تسب صاحبنا، فقال من هو؟ قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله، فقال رسول الله أجل إنه عبد الله ورسوله، فقالوا: هل له مثل من الخلق خلق من غير أب؟ فنزلت الآية. قوله: (الغريب) أي وهو عيسى، قوله: (بالإغرب) أي وهو آدم، وأغربيته من وجوه منها أنه لم يسبق له أمثال أصلاً، ومنها وجود الأم لعيسى دون آدم، إن قلت: وجه الشبه بينهما ليس بتام. أجيب بأنه يكفي وجه واحد وهو عدم الابوة لكل. قوله: ﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ جملة مفسرة لما قبلها لا محل لها من الأعراب. قوله: (أي قباله) بفتح اللام وهو الجسم، وأما الروح فمن نور نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما حمل الخلق على القالب لا على صورة الجسم الشاملة للروح نظراً لقوله ثم قال كن الخ، وإلا لكان ضائعاً. قوله: (وكذلك عيسى الخ) أشار بذلك إلى وجه الشبه بينهما، واتفق أن عالماً أسر في بلاد الروم فوجدهم يعبدون عيسى، فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ فقالوا لأنه لا أب له، فقال لهم: آدم أولى لأنه معدوم الأبوين، فقالوا له: آدم وإن كان بلا أب إلا أنه لا يحيي الموتى، فقال لهم: إذا كان كذلك فحزقيل أولى لأنه أحيا ثمانية آلاف وقيل أكثر بدعوته وعيسى أحيا أربعة أنفار، فقالوا: إن عيسى يبرئ الأكمة والأبرص، فقال جرجيس أحرق وطبخ ولم يضره الحرق ولا الطبخ. قوله: (أي أمر عيسى) أي الذي قصة الله في كتابه. قوله: ﴿ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ ﴾ خطاب له والمراد أمته على حد (لئن أشركت ليحبطن عملك)، لأنه معصوم من الامتراء والشرك وكل كبيرة وصغيرة. قوله: (من النصارى) أي نصارى نجران أو غيرهم. وقوله: (بأمره) أي أنه عبد الله ولم يكن ابنه.
قوله: ﴿ تَعَالَوْاْ ﴾ أصله تعاليوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان الألف والواو وحذفت الألف لاتلقائهما وهو فعل أمر صحيح مبني على حذف النون والواو فاعل وهو مفتوح اللام دائماً لمذكر أو مؤنث. قوله: ﴿ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ ﴾ أي الذكور، وقوله: ﴿ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ ﴾ أي الاناث منهم، والحكمة في حضور الأولاد زيادة التغليظ في اليمين، وتأكيد لمزيد صدقه وكذبهم، ولما كانت المباهلة أمراً عظيماً لم تشرع بعد النبي إلا في اللعان بين الزوجين. قوله: ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ الابتهال من البهلة بفتح الباء وضمها هي اللعنة في الأصل، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً. قوله: (لذلك) أي للتضرع والدعاء. قوله فقال: (ذوو رأيهم) أي فرجعوا إليهم وشاوروهم فقال الخ. قوله: (لقد عرفتم نبوته) أي نبوة محمد، وقوله: (ما باهل) أي نازع. قوله: (فوادعوا الرجل) أي صالحوه على مال يأخذه منكم. قوله: (وقد خرج) الجملة حالية. قوله: (وصالحوه على الجزية) ورد أنها ألفا حلة نصفها في صفر ونصفها في رجب، وثلاثون درعاً وثلاثون بعيراً وثلاثون فرساً وثلاثون من كل صنف من أصناف السلاح، وقد ثبتت هذه الرواية في بعض نسخ الجلال القديمة. قوله: (وعن ابن عباس الخ) أي وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:" والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تولى على أهل نجران، ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم عليهم الوادي ناراً، ولم يبق نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة ". قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ ﴾ هذا نتيجة ما قبله واسم الإشارة عائد على ما ذكر من أمر عيسى وأنه ليس ابن الله، وأكد الجملة بأن اللام وكونها معرفة الطرفين لشدة إنكارهم. قوله: (زائدة) أي وإله مبتدأ والله خبره وهو قصر إفراد. قوله: (وفيه وضع الظاهر الخ) أي زيادة التبكيت عليهم.
قوله: ﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ سبب نزولها أن نصارى نجران اختصموا مع اليهود في شأن إبراهيم، فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه، وزعمت اليهود أنه كان يهودياً وهم على دينه، فقدموا متحاكمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين كاذب، فقالت النصارى ما تريد إلا أن نتخذك معبوداً كما اتخذت اليهود العزيز رباً، وقالت اليهود ما تريد إلا أن نتخذك معبوداً كما اتخذت النصارى المسيح رباً، فنزلت. قوله: ﴿ إِلَىٰ كَلِمَةٍ ﴾ متعلق بتعالوا ذكره المتعلق هنا لأن المقصود الاجتماع على هذه الكلمة بخلاف التي قبلها، فإن المقصود منها مجرد الأقبال أو حذفه من الأول، وتقديره إلى المباهلة لدلالة الثاني عليه. قوله: ﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ هذه الجملة في محل رفع خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هي، وإنما أطلق عليها كلمة مع أنها جمل لارتباط بعضها ببعض، قال ابن مالك: وكلمة بها قد يؤم. نظير قوله تعالى:﴿ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ﴾[المؤمنون: ١٠٠].
قوله: (كما اتخذم الأحبار) أي وهم علماء اليهود والرهبان عباد النصارى واتخاذهم أرباباً من حيث إنهم ينسبون التحليل والتحريم والاقالة من الذنوب لهم ولا يتبعون ما أنزل الله، بل المدار عندهم على ما حللته الأحبار والرهبان أو حرموه، وهذه الآية وإن كانت خطاباً لليهود والنصارى إلا أنها تجر بذيلها على من يشرك بالله غيره من المسلمين كضعفاء الإيمان الذين يعتقدون في الأولياء أنهم يضرون أو ينفعون بذواتهم، ويحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ومع ذلك يحدثون بدعاً عظيمة ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعلون تلك البدع طرقاً لهؤلاء الأولياء ويزعمون أنها منجية وإن كانت مخالفة للشرع، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هو الخاسرون). قوله: (أعرضوا عن التوحيد) أي لم يمتثلوا أمرك واتبعوا أحبارهم ورهبانهم فيما يأمرونهم به. قوله: ﴿ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ أي منقادون لله وبرئيون منكم ومن عقائدكم. قوله: (ونزل لما قال اليهود الخ) أي وتحاكموا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليفصل بينهما. قوله: (وقالت النصارى كذلك) أي هو نصراني ونحن على دينه. قوله: ﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي اليهود والنصارى. قوله: ﴿ لِمَ تُحَآجُّونَ ﴾ أي يحاجج بعضكم بعضاً، والإستفهام توبيخي إنكاري. قوله: ﴿ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي في دينه فهو على حذف مضاف، وإليه يشير المفسر بقوله: (يزعمكم أنه على دينكم). قوله: (بزمن طويل) أي فكان بين التوراة وإبراهيم ألف سنة، وبينه وبين الإنجيل ألفا سنة وتسعمائة وخمسة وسبعون سنة. قوله: (وبعد نزولها الخ) بهذا التقدير تمت الحجة عليهم، فالمعنى أن المانع من كونهم على دين إبراهيم تغييرهم وتبديلهم، وإلا فلو تمسكوا بالتوراة والإنجيل حقيقة لما اختلفوا ولكانوا على دين إبراهيم. قوله: (حدثت اليهودية والنصرانية) أي اللتان ابتدعوهما حيث غيروا التوراة وسموها اليهودية، وغيروا الإنجيل وسموه النصرانية. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي أغفلتم عما زعمتم فلا تعقلون ما تقولونه.
قوله: ﴿ هٰأَنْتُمْ ﴾ يقرأ إما بألف وبعدها همزة إما محققة أو مسهلة أو بدون ألف، والهمزة إما محققة أو مسهلة أو بألف فقط بدون همزة أصلاً، فالقراءات خمس وكلها سبعية. قوله: (من أمر موسى وعيسى) أي الذي نطقت به التوراة والإنجيل من أنهما عبدان ورسولان لله، يأمران بعبادة الله وحده لا يشركان به غيره. قوله: (من شأن إبراهيم) أي لكونه لم يذكر في كتبكم ما كان إبراهيم عليه، فكيف تدعون أنكم على دينه مع جهلكم به. قوله: (إلى الدين القيم) أي المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. قوله: (موحداً) أي منقاداً ممتثلاً أوامر ربه مجتنباً نواهيه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أي معه غيره. قوله: ﴿ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ زيدت اللام للتقوية وهي لام الابتداء زحلقت للخبر، كما قال في الخلاصة: وبعد ذات الكسر تصحب الخبر   لام ابتداء نحو إني لوزرقوله: (في زمانه) أي وهم أولاده كإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولادهم إلى يوم القيامة، قال تعالى:﴿ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾[البقرة: ١٣٢] الآية. قوله: (لموافقته له في أكثر شرعه) أي فعقائد محمد التي هو عليها لا تخالف ما قصه الله في كتابه عن إبراهيم. إذا علمت ذلك، فالمناسب للمفسر أن يقول لموافقته له في الأصول، أو يقال إن الموافقة في الفروع من حيث السهولة، فإن شريعة محمد سهلة نهلة كشريعة إبراهيم، لا كشريعة موسى فإنها صعبة التكاليف بسبب عناد بني إسرائيل، وهذا هو محمل المفسر. قوله: (من أمته) أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (ناصرهم) أي على أعدائهم، وقوله: (وحافظهم) أي واقيهم من أعدائهم. قوله: ﴿ وَدَّت ﴾ أي أحبت ولو مصدرية، والمعنى أحبت جماعة من اليهود والنصارى إضلالكم أي رجوعكم عن الإسلام إلى الكفر، وكانوا يتوددون إليهم بالهدايا. قوله: (لأن اثم اضلالهم عليهم) أي لأن الدال على الشر كفاعله، ويؤخذ من ذلك أن المقوي لشوكة الكفر بالشبه الباطلة والحجج العاطلة عليه إثم كفره وإثم كفر من تبعه إلى يوم القيامة. قوله: (بذلك) أي يكون إثم الضلال لاحقاً بهم لقساوة قلوبهم، فلم يعرفوا أنهم لا يضرون إلا أنفسهم. قوله: (القرآن المشتمل على نعت محمد) أي وقيل هي التوراة والإنجيل فإنهما مشتملان على نعته أيضاً، قال تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٧] الآية. قوله: (تعلمون أنه حق) أي من التوراة والإنجيل.
قوله: ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ أي وهو نعت محمد وأصحابه المذكور في التوراة والإنجيل، وقوله: ﴿ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ أي وهو التغيير لتلك النعوت. قوله: (بالتحريف والتزوير) أي الكذب في تلك الصفات. قوله: (إنه حق) أي إنه نبي حقاً، وما جاء به من عند ربه حق. قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ ﴾ شروع في بيان تلبيسات اليهود، ورد أنه اجتمع اثنا عشر من أحبار خيبر، وأجمع رأيهم على أنهم يظهرون الإسلام في أول النهار وفي آخره يرجعون لدينهم ويأمرون الناس بذلك، وقصدهم بذلك دخول الشك على من آمن به صلى الله عليه وسلم، فلما أجمعوا وصمموا على ذلك جعل الله كيدهم في نحورهم ولم يفعلوا شيئاً من ذلك، ولو فعلوه لعاد شؤمه عليهم وقتلوا إن لم يتوبوا، لأن المرتد لا يبقى على ردته فمن نكث فإنما ينكث على نفسه. قوله: ﴿ آمِنُواْ ﴾ أي صدقوا ظاهراً باللسان. قوله: (أي القرآن) هذا هو المشهور في تفسير الآية، وقيل الذي أنزل على الذين آمنوا هو القبلة حين أمر النبي بالتحول للكعبة ثانياً بعد استقباله بيت المقدس، فحينئذ حصل لليهود غيظ وحزن عظيم، فأجمع رأيهم على موافقة المؤمنين أول النهار ومخالفتهم آخره، لعله يحصل الشك لأصحابه فيرجعون عن دينهم. قوله: (أوله) أشار بذلك إلى أن وجه النهار ظرف زمان لقوله آمنوا. قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ علة لقوله آمنوا بالذي أنزل إلخ. قوله: (إذ يقولون) علة للعلة.
قوله: ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ ﴾ هذا من جملة تلبيساتهم، وحاصل إعراب هذ الآية أن يقال لا ناهية وتؤمنوا مجزوم بها وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل، وقوله: ﴿ أَن يُؤْتَىۤ ﴾ أن حرف مصدري ونصب، ويؤتى منصوب بها وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف منع من ظهروها التعذر وهو في تأويل مصدر معمول لقوله ولا تؤمنوا، وأحد نائب فاعل يؤتى وهو مفعول أول له ومثل مفعول ثاني، وقوله: (إلا) أداة استثناء و(لمن) اللام زائدة ومن منصوب على الاستثناء والمستثنى منه قوله أحد وما اسم موصول وأوتيتم صلتها والعائد محذوف، والمعنى لا تصدقوا إتيان أحد من الفضائل والكمالات مثل الذي أوتيتموه إلا من تبع دينكم، وأما من لم يتبعه كمحمد فلا تصدقوه، وهذا الوجه وإن كان صحيحاً من جهة المعنى، إلا أنه مشكل من جهة الصناعة، لأن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه ومعمول الصلة عليها. قوله: والجملة اعتراض) أي بين العامل والمعمول. قوله: (وأن مفعول تؤمنوا) أي من صلتها. قوله: (والمعنى لا تقروا الخ) إيضاحه أنهم قالوا انظروا فيمت ادعى شيئاً من النبوة والفضائل والكمالات، فإن كان متبعاً لدينكم فصدقوه وإلا فكذبوه، والمناسب للمفسر أن يقول والمعنى لا تصدقوا الخ، وحاصل هذا المعنى الذي أشار له المفسر أنه ضمن تؤمنوا معنى تقروا لتكون اللام أصلية والمستثنى منه محذوف تقديره: لأحد، والمعنى لا تقروا ولا تعترفوا لأحد بأنه يؤتى أحد مثل الذي أوتيتموه من الفضائل والكمالات إلا لشخص اتبع دينكم، وهذا كله كناية عن نفي النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى صحيح من جهة العربية، والمعنى والمفسر من شدة اختصاره خلط هذا التقرير المتقدم وقد علمتهما. قوله: ﴿ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ ﴾ معطوف على يؤتى، والضمير عائد على أحد المتقدم، وإنما جمعه لأن أحداً في معنى الجمع، والمعنى على الأول لا تصدقوا أحداً يحاججكم ويغلبكم عند ربكم يوم القيامة إلا من اتبع دينكم، وأما من لم يتبعه فلا حجة له عليكم، وعلى الثاني لا تقروا بأن أحداً يغلبكم ويحاججكم عند ربكم إلا من تبع دينكم، وأما غيره فلا تقروا ولا تعترفوا له بذلك. قوله: (وفي قراءة أأن) وهي سبعية لابن كثير لكن بتسهيل الثانية، قوله: (بهمزة التوبيخ) أي الاستفهام التوبيخي، والكلام قد تم قبل الاستفهام، والمستثنى منه محذوف على كلا التقديرين، والمعنى لا تصدقوا أحداً في دعواه النبوة والفضائل إلا من تبع دينكم، ألا لا تقروا لأحد من الناس أنه على هدى وخير إلا لمن تبع دينكم، وقوله قل إن الهدى هدى الله رد لمقالتهم، وجملة الاستفهام استثنائية، فالمعنى أن يؤتى أحد مثل الذي أوتيتموه أو يكون له محاججة عند ربكم، وجوابه لا يكون ذلك وهو استبعاد منهم لفضل الله. قوله: (أي إيتاء أحد الخ) أشار بذلك إلى أن قوله أن يؤتي في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف تقديره تقرون به. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ ﴾ رد عليهم حيث استبعدوا أن الله لا يؤتي أحداً مثل ما آتاهم من الفضل والنبوة، وفي الحقيقة هو رد لدعواهم من أولها إلى آخرها. قوله: ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ أي فيعطيه لمن يشاء.
قوله: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ شروع في بيان قبائحهم في أمور الدنيا، بعد أن ذكر قبائحهم في أمور الدين، والجار والمجرور خبر مقدم، ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة مبتدأ مؤخر، وقوله: ﴿ إِن تَأْمَنْهُ ﴾ ويؤده جملة شرطية إما صلة أو صفة، وراعى في افراد الضمير في تأمنه لفظ من، ولو راعى معناها لقال تأمنهم. قوله: (أي بمال كثير) أشار بذلك إلى بيان شأن هذا المؤتمن، وإن كان سبب النزول في قنطار حقيقة، فالمقصود بيان شرفه من جهة الأمانة فلا مفهوم للقنطار، بل لو ائتمن على قناطير متعددة لم يخنه فيها. قوله: ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾ يقرأ بالسكون وبالكسر مع الأشياء وتركه فهي ثلاث سبعيات. قوله: (أودعه رجل) أي قرشي. قوله: ﴿ بِدِينَارٍ ﴾ أصله دننار بنونين قلبت الأولى ياء دفعاً للثقل، والباء في قوله بدينار وبقنطار بمعنى في وهو على حذف مضاف، في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار، ويصح أن تكون بمعنى على لتعدي الأمانة بها في القرآن كثيراً، نحو لا تأمنا على يوسف، هل آمنكم على عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً، والقيراط وزنه ثلاث شعيرات، فوزن الدينار بالشعير اثنتان وسبعون شعيرة. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ﴾ ما مصدرية ظرفية ودام فعل ماض والتاء اسمها وقائماً خبرها، إلا مدة دوامك قائماً عليه، والمعنى لا يؤده إليك في حال من الأحوال، إلا في حال ملازمتك له وإشهادك عليه قوله: (فجحده) أي أنكره. قوله: (أي بسبب قولهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء. قوله: (أي العرب) أي وغيرهم ممن ليس من أهل كتابهم. قوله: (لاستحلالهم ظلم من خالف دينهم الخ) روي أنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وجميع ما في الأرض ملك لأبينا، وأولاد السيد يتصرفون في ملك أبيهم، وقيل إنهم قالوا: المال لنا وظلمنا فيه العرب، وقيل: إنهم قالوا إن الله أباح لنا مال من خالف ديننا، وادعوا أن ذلك في التوراة. ورد أن النبي لما قالوا ذلك قال:" كذبوا ما من شيء إلا وهو تحت قدمي، يعني منسوخ، ما عدا الأمانة فإنها مؤداة للبر والفاجر ". قوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا بالنسبة لعلمائهم، وما عداهم مقلدون لهم في ذلك. قوله: ﴿ بَلَىٰ ﴾ إضراب إبطالي وهو مغن عن جملة قدرها المفسر بقوله عليهم فيهم سبيل. قوله: ﴿ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ ﴾ جملة مستأنفة مؤكدة للإبطال الأول. قوله: (الذي عاهد الله عليه) أي فهم من إضافة المصدر لفاعله، وقوله: (أو بعهد الله إليه) أي فهو من إضافة المصدر لمفعوله، فكل من العبد والمولى معاهد ومعاهد، فعهد الله للعبد إثباته، وعهد العبد لمولاة عدم مخالفته له. قوله: (من أداء الأمانة الخ) ورد في الحديث:" خمس من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ". قوله: (فيه وضع الظاهر موضع المضمر) أي وكان مقتضى الظاهر أن يقول فإن الله يحيه، وفيه أيضاً مراعاة معنى من. قوله: (لما بدلوا الخ) شروع في سبب، نزول الآية وقد ذكره على ثلاثة أوجه. قوله: (نعت النبي) من الجماعة الذين بدلوا نعته حيي بن أخطب وكعب من الأشرف. قوله: (في دعوى) أي كانت بين رجلين في بئر أحدهما الأشعث بن قيس فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال شاهداك أو بيمينه فقال الأشعث بن قيس إذاً يحلف كذباً ولا يبالي، وقوله: (أو بيع سلعة) أي فيمن أراد بيعها وحلف لقد أعطي فيها كذا كاذباً.
قوله: ﴿ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ الباء داخلة على المتروك أي يتركون الوفاء به في نظير الثمن القليل. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ﴾ أي فهم مخلدون في النار إن استحلوا ذلك. قوله: (ولا يكلمهم الله) إن قلت إن قوله تعالى في سورة المؤمنون:﴿ قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾[المؤمنون: ١٠٨] الآية، يقتضي أن الله يقع منه كلام لهم، فكيف الجمع بين الاثنين؟ أجيب بأن قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي كلام رضا فلا ينافي أنه يكلمهم كلام غضب أو لا يكلمهم أصلاً وآيات الكلام على لسان الملائكة، ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿ وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾[الزخرف: ٧٧].
قوله: ﴿ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ﴾ أي نظر رحمة وإلا فهو ناظر لكل شيء. قول (يطهرهم) أي من الذنوب ولا يثني عليهم وهذا استخفاف بهم. قوله: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً ﴾ هذا من جملة قبائحهم وتبليساتهم، وأكدت الجملة بأن واللام إشارة إلى أن ذلك محقق منهم. قوله: (ككعب بن الأشرف) أدخلت الكاف، مالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبي ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. قوله: ﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ﴾ في محل نصب صفة لفريقاً، وقوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ متعلق بمحذوف خبر إن، وراعى في الجمع معنى فريقاً لأنه اسم جمع كرهط وقوم، قال بعضهم يجوز مراعاة اللفظ، وألسنتهم جمع لسان، وهذا على أنه مذكر، وأما على أنه مؤنث فهو جمع لألسن كذراع وأذرع، والمراد من الألسنة الكلام، ففيه إطلاق الشيء على آلته، والباء في الكتاب بمعنى في، أي يلفتون ألسنتهم في حال قراءة الكتاب. قوله: (أي يعطفونها) أي يلفتونها. قوله: (عن المنزل) متعلق بيعطفونها، وكذا قوله: (من نعت النبي) بيان لما. قوله: (ونحوه) أي كآبة الرجم وغيرها مما يشهد للنبي بالتصديق. قوله: ﴿ لِتَحْسَبُوهُ ﴾ أي أيها المؤمنون، فالمقصود من ذلك إدخال اللبس على المؤمنين. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ في محل نصب مفعول ثان لتحسبوه، والهاء مفعول أول. قوله: ﴿ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ أي لا في الواقع ولا في اعتقادهم، وأظهر في محل الاضمار في الموضعين زيادة في التبكيت عليهم. قوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الواو للحال، وقوله: (أنهم كاذبون) إشارة إلى مفعول يعلمون. قوله: (ونزل لما قال نصارى نجران) أي حين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالبشر على هذا هو عيسى وبالكتاب الأنجيل، قوله: (أو لما طلب بعض المسلمين الخ) أو لتنويع الخلاف، فالمراد بالبشر على ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب القرآن، وآخر الآية يؤيد هذا السبب.
قوله: ﴿ مَا كَانَ ﴾ الخ هذه الصيغة يؤتى بها للنفي العام الذي لا يجوز عقلاً ثبوته وهو المراد هنا، وكذلك قوله تعالى:﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾[النمل: ٦٠] أي لا يمكن ولا يتصور عقلاً صدرو دعوى الأولوهية من نبي قط ويؤتى بها للنفي الخاص، كقول أبي بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم في الصلاة بين يدي رسول الله، أي ما ينبغي له ذلك، فقول المفسر ينبغي أي يمكن وقد فسره المحلي في سورة يس في قوله تعالى:﴿ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ ﴾[يس: ٤٠] بذلك. قوله: ﴿ ثُمَّ يَقُولَ ﴾ معطوف على يؤتى، ولهذا العطف لازم يتوقف صحة المعنى عليه لأن مصب النفي المعطوف والمعطوف عليه. قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ أي أمة محمد على الثاني، ونصارى نجران على الأول. قوله: ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي من غير أن يقصرهم على الله بأن يشرك نفسه مع الله في العبادة أو يفرد نفسه بالعبادة، وهذه الجملة حال من الواو في ﴿ كُونُواْ ﴾ أي حال كونكم متجاوزين الله إشراكاً أو إفراداً. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن ﴾ استدارك على ما تقدم. قوله: (زيادة ألف ونون) أي كرقباني وشعراني ولحياني، وقوله: (تفخيماً) أي للمبالغة. قوله: ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ ﴾ الباء سببيه قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالعلم سبب للعمل، فقبيح على العالم تركه العمل، وأقبح منه أن يرشد الناس يهديهم مع كونه غير مهتد في نفسه، قال بعضهم: وعالم بعلمه لن يعلمن   معذب من قبل عباد الوثنفمثل العالم الذي يعلم الناس وهو غير عامل، كشمعة موقودة تضيء للناس وتحرق نفسها، وفي هذا المعنى قال بعضهم: أتنهى الأناس ولا تنتهي   متى تلحق القوم يا لكعويا حجر السن ما تستحي   تسن الحديد ولا تقطع
قوله: (أي الله) أشار بذلك إلى أن فاعل يأمر ضمير مستتر عائد على الله. قوله: (عطفاً على يقول) أي لأنه في حيز النفي، وتكون لا زائدة لتأكيد النفي، والمعنى لا يمكن لبشر أن يأمر بعبادة الناس له، ولا بعبادة الملائكة والنبيين، وقوله: (أي البشر) أي ففاعلة ضمير يعود على البشر، ولا يصح كون الفاعل ضميراً يعود على الله. قوله: ﴿ أَرْبَاباً ﴾ أي بل نحبهم ونعتقد أنهم عبيد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يضرون ولا ينفعون، فتتوسل بهم إلى الله، لذلك لا لكونهم أرباباً. قوله: (كما اتخذت الصابئة الخ) هم فرقة من اليهود صبؤوا بمعنى مالوا عن دين موسى إلى عبادة الملائكة وقالوا إنهم بنات الله. قوله: (واليهود عزيراً) أي حيث رأوه يحفظ التوراة. قوله: (والنصارى عيسى) أي حيث رأوه جاء من غير أب ويحيي الموتى. قوله: (لا ينبغي له هذا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري تعجبي، نظير قوله تعالى:﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ﴾[البقرة: ٢٨].
قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾ إذ ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر، والمراد ذكر العهد نفسه لا ذكر وقته، والميثاق هو عهد مؤكد باليمين، واختلف فيه هل كان ذلك في عالم الدر، وعليه يكون قوله آتيتكم من كتاب وحكمة في عالم الأشباح، فالمعاهدة لما يأتي أو كان ذلك في عالم الأشباح، وكانت تلك المعاهدة تنزل في كتبهم، وعليه تكون المعاهدة في الحالة الراهنة، واختلف في الرسول المعاهد عليه في جميع الأنبياء، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين، منهم سيعد بن جبير وطاوس إلى أن كل نبي يعاهد على من يأتي بعده من الأنبياء، فأخذ العهد على آدم إن جاءه رسول مصدق لما معه ليؤمنن به ولينصرنه، وكذلك شيث أخذ عليه العهد، وهكذا إلى إبراهيم إلى موسى إلى بقية أنبياء بني إسرائيل، إلى عيسى، فهو صلى الله عليه وسلم معاهد عليه مع كل نبي في عموم الأنبياء، ومع عيسى عوهد عليه بالخصوص، وهي حكمة قوله تعالى:﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾[الصف: ٦] وذهب جماعة أخرى من الصحابة منهم ابن عباس وعلي بن أبي طالب والسدي وقتادة، إلى أن المراد بالرسول المعاهد عليه هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأخذ الله العهد على كل نبي بإنفراده لئن جاءه محمد وهو حي مصدق لما معه ليؤمنن به ولينصرنه، وعليه فلو ظهر محمد في زمن أي نبي من الأنبياء، لبطل شرع ذلك النبي وكان هو وأمته من أتباعه، واقتصر على هذا القول المفسر، قال السبكي يؤخذ من الآية على هذا التفسير أنه نبي الأنبياء وأن الأنبياء نوابه، والحكمة في تلك المعاهدة ارتباط أولهم بآخرهم، وبيان عصمتهم من داء الحسد، من الأمم التي تكفر بالرسول المبعوث. قوله: (وتوكيد معنى القسم) أي مؤكدة لليمين المأخوذ من الميثاق، فإنه تقدم أن معنى الميثاق عهد مؤكد يمين. قوله: (متعلقة بأخذ) أي على أنها للتعليل مع حذف المضاف، أي لرعاية وحفظ ما آتيتكم. قوله: (وما موصولة) على الوجهين وهي على الأول مبتدأ وآتيتكم صلتها، وقوله: ﴿ مِّن كِتَابٍ ﴾ بيان لما ﴿ وَحِكْمَةٍ ﴾ معطوف على ﴿ كِتَابٍ ﴾.
قوله: ﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ ﴾ معطوف على آتيتكم و ﴿ مُّصَدِّقٌ ﴾ صفة لرسول، وقوله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾ جواب لقسم، وخبر المبتدأ محذوف تقديره تؤمنون به وتنصرونه، والضميران في ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾ راجعان للرسول، واستشكل عود الضمير على الرسول، مع أن المبتدأ في الحقيقة الكتاب والحكمة، وانظر ما الجواب. قوله: ﴿ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾ بتخفيف الهمزتين بألف بينهما وتركها، وتسهيل الثانية بألف وبدونها، وبإبدال الثانية ألفاً، فالقراءات خمس. قوله: (عهد) سمي العهد بالإصر لأن فيه مشقة. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا ﴾ جواب عن سؤال تقديره ماذا قالوا حينئذ؟ وثمرة المعاهدة على محمد مع علم الله أنه لا يأتي في زمن نبي من الأنبياء الثواب على العزم بالاتباع، والعقاب على العزم بعدم الإيمان، فجميع الأنبياء يثابون على الإيمان بمحمد، ومن عزم على عدم الإيمان به لو ظهر عوقب. قوله: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ إن قلت إن الأنبياء معصومون من ذلك، أجيب بأن الشرطية لا تقتضي الوقوع أو خطاب لهم، والمراد أممهم. قوله: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ ﴾ هذا رد على اليهود والنصارى، حيث ادعى كل دين إبراهيم واختصموا إلى النبي، فقال النبي: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، والهمزة داخلة على محذوف تقديره أعموا فغير دين الله يبغون؟قوله: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ ﴾ جملة حالية. قوله: ﴿ طَوْعاً ﴾ راجع لجميع أهل السماء وبعض أهل الأرض، وقوله: ﴿ وَكَرْهاً ﴾ راجع لبعض أهل الأرض فطوعاً وكرهاً مصدران في موضع الحال، والتقدير طائعين وكارهين. قوله: (ومعاينة ما يلجأ إليه) أي إلى الإسلام كنطق الجبل وإدراك فرعون وقومه الغرق، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ ﴾[غافر: ٨٤] الآية. قوله: (والهمزة للإنكار) أي التوبيخي وقدم المفعول لأن المقصود إنكاره.
قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا ﴾ لما تقدم أن الله أمر الأنبياء بالإيمان بمحمد على أرجح التفسيرين، ذكر هنا أمره بالإيمان وأفرد في قوله قل، وجمع في قوله آمنا، لأن النبي هو المخاطب بالوحي والتبليغ فقط، وأما الإيمان فمخاطب به هو وأتباعه. قوله: ﴿ بِٱللَّهِ ﴾ أي صدقنا بأن الله متصف بكل كمال، ومستحيل عليه كل نقص. قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ أي وهو القرآن، وعبر هنا بعلى، وفي سورة البقرة بإلى، لأن مادة النزول تتعدى بهما، غير أنه بالنظر للمبدأ يعدى بعلى كما هنا لأن المخاطب بذلك هو الموحى إليه وهو محمد والأنبياء بعده، وبالنظر للمنتهى كما في البقرة يعد بإلى لأن المأمور بذلك أمم. قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾ إنما صرح بأسماء هؤلاء لأن أهل الكتاب يعترفون بكتبهم ونبوتهم. قوله: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ الخ، وما أنزل على هؤلاء من الوحي، وكانوا يتعبدون بشرع إبراهيم بوحي من الله، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو العجم، ويعقوب بن إسحاق، والأسباط أولاد يعقوب وكانوا اثني عشر رجلاً، يوسف وإخوته، ويؤخذ من الآية أنهم أنبياء يجب الإيمان بهم وهو المعتمد، وما يأتي في سورة يوسف من الوقائع العظيمة الموهمة عدم عصمتهم، فمؤول بأنهم مأمورون بذلك باطناً من حضرة الله، كأفعال الخضر عليه السلام، قال تعالى في حقه:﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾[الكهف: ٨٢] ويقال فيهم ما قيل فيه بالأولى، فإن المعتمد أن الخضر ليس بنبي، والأسباط أنبياء على المعتمد، وموافقة ظاهر الشرع إنما تلزم الرسول المشرع فتأمل. قوله: (أولاده) أي أولاد يعقوب فهم أسباط لإبراهيم، بمعنى أولاد بنيه لا بالمعنى المصطلح عليه وهو أولاد البنت. قوله: ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ﴾ أي من التوراة والإنجيل ومعجزاتهما، قوله: ﴿ وَٱلنَّبِيُّونَ ﴾ عطف عام على خاص، فيجب الإيمان بالنبيين عموماً إجمالاً في الإجمالي، وتفصيلاً في التفصيلي، فيجب الإيمان تفصيلاً بخمسة وعشرين نبياً ثمانية عشرة في الأنعام، ومحمد وآدم وهود وصالح وشعيب وإدريس وذو الكفل، من أنكر أي واحد منهم بعد علمه فقد كفر، ويجب الإيمان الإجمالي بما عدا هؤلاء، ولا يعلم عدتهم إلا الله. قوله: (بالتصديق والتكذيب) أي بالتصديق لبعض والتكذيب للبعض الآخر، كما فعلت اليهود والنصارى. قوله: (مخلصون في العبادة) أشار بذلك إلى أن المراد بالإسلام هنا حقيقته وهو الانقياد الظاهري. قوله: (فيمن ارتد) أي وهم اثنا عشر أسلموا بالمدينة، ولحقوا بأهل الكفر في مكة، منهم الحرث بن سويد الأنصاري ولكنه أسلم بعد ذلك. قوله: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ ﴾ اعلم أن جمهور السبعة على الفك لوجود الفاصل الحكمي وهو الياء التي حذفها الجازم، لأن المحذوف لعله كالثابت، وقرأ أبو عمرو في أحد وجهيه بالإدغام نظراً للصورة الظاهرية، ونظيره في القرآن كل مثلين بينهما فاصل حكمي ففيه الوجهان نحو (يخل لكم وجه أبيكم) (وإن يك كاذبا) ومن اسم شرط، ويبتغ فعله، وغير مفعول، وديناً تمييز لغير أو بدل منه أو معفول وغير حال لأنه نعت نكرة قدم عليها. قوله: ﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ أي ولا يقر عليه قوله: ﴿ كَيْفَ ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي كما يشير له المفسر بقوله: (أي) ﴿ يَهْدِي ﴾ وقيل إنه استبعادي أي فهداهم مستبعد، قال العارف البوصيري: وإذا البينات لم تغن شيئاً   فالتماس الهدى بهن عناءقوله: (أي وشهادتهم) أشار بذلك إلى أن الفعل مؤول باسم الذي هو الإيمان. قوله: ﴿ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ أي حتى أهل النار في النار، قال تعالى:﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾[الأعراف: ٣٨].
قوله: (أي اللعنة) أي ومن لوازمها الخلود في النار، قوله: (الدلول بها) أي اللعنة، وقوله: (عليها) أي على النار.
قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ أي كالحرث بن سويد فإنه لما ارتد وذهب لمكة مع المفار وأراد الله له الهدى بعث لأخ له في المدينة كان مسلماً يقول له أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني إذا اتيت هل أقبل، فأخبر رسول الله بذلك فنزلت هذه الآية، فبعثها له بمكة فأتى طائعاً وأسلم وحسن إسلامه، وهذا شروع في تقسيم الكفار إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كفر ولم يعد، وقسم كفر ثم عاد للإسلام ظاهراً فقط، وقسم كفر ثم أسلم ظاهراً وباطناً، قوله: ﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ أي الكفر، قوله: ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ (بهم) أي حيث قبل توبتهم، قوله: (بعيسى) أي والإنجيل، وقوله: (بموسى) أي والتوراة، وقوله: (بمحمد) أي والقرآن، قوله: (إذا غرغروا) أشار بذلك إلى أن الآية مقيدة بذلك وهذا في الكافر، وأما العاصي فتقبل منه عند الغرغرة، قوله: ﴿ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ أي بأن تابوا عند معاينة العذاب. قوله: ﴿ مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ﴾ أي مشرقها ومغربها، قوله: ﴿ ذَهَباً ﴾ تمييز وخصه بالذكر لأنه أحسن الأموال وأغلاها، قوله: ﴿ وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ ﴾ أي هذا إذا تصدق به، بل ولو افتداء أهله به بالصدقة لا تنفعه منه أو من غيره لإجله. قوله: ﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ ﴾ لما ذكر أن صدقة الكافر لا تنفعه، ذكر هنا أن صدقة المسلم وجميع طاعاته تنفعه، قوله: (أي ثوابه) أي البر أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف. قوله: (تصدقوا) بحذف إحدى التاءين على التخفيف، أو بدون حذف على التشديد بقلب إحدى التاءين صاداً أو بادغامها في الصاد. قوله: (من أموالكم) أي وغيرها من الأنفس والجاه، قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ هذه الجملة في محل الجواب، أي فحيث كان عليماً بذلك لا يضيع من جزائه شيء. وقد أشار لذلك المفسر بقوله فيجازون عليه، قوله: (ونزل لما قال اليهود الخ) أي سبب نزولها قول اليهود ما ذكر. قوله: وكان لا يأكل لحوم الإبل) أي زعموا أن ما ذكر حرام على إبراهيم، فلو كنت على ملته لما كان ذلك حلاً لك، فرد الله عليهم زعمهم.
قوله: ﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ ﴾ أي الذي هو حلال في شرعنا، فما هو حلال في شرعنا كان حلالاً في شرعه. قوله: (حلالاً) أشار بذلك إلى أنه يقال حل وحلال وكذلك حرم وحرام، قوله: ﴿ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ ﴾ معناه بالعربية عبد الله وهو اسمه ويعقوب لقبه. قوله: (عرق النسا) أي وهو عرق ينفر في بطن الفخذ يعجز صاحبه، وورد في دوائه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يؤتى بكبش عربي ويذبح وتؤخذ أليته وتقطع ثم تسلى بالنار، ثم يؤخذ ذلك ويقسم ثلاثة أجزاء ويشرب كل جزء على الريق، قال أنس: فما زلت أصف ذلك لمن نزل به فشفي به أكثر من مائة، قوله: (فنذر إن شفي لا يأكلها) أي وكان لحمها أحب المأكول إليه، ولبنها أحب المشروب إليه، ومثل هذا النذر لا يلزم في شرعنا لأن النذر إنما يلزم به ما ندب، وترك ما ذكر ليس مندوباً، قوله: (فحرم عليه) قيل حرمت أيضاً على أولاده تبعاً له، وقيل هو حرمها على نفسه وعلى ذريته. قوله: ﴿ مِن قَبْلِ ﴾ ظرف متعلق بحلاً مع ملاحظة الاستثناء، ويحتمل أنه متعلق بقوله إلا ما حرم قوله: (وذلك بعد إبراهيم) أي بألف سنة، قوله: (صدق قولكم) أي اخباركم عنه بأن ما ذكر حرام عليه. قوله: (فبهتوا) من باب علم أو نصر أو كرم أو زهي، والمعنى دهشوا وتحيروا وانقطعت حجتهم. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾ أي اختلقه من عند نفسه، قوله: (أن التحريم) أي لخصوص لحوم الإبل والبانها. قوله: ﴿ قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ ﴾ أي ثبت وتقرر صدقه وظهر كذبكم. قوله: (كجميع ما أخبر به) أي كصدقة في جميع أخباره التي جاءت بها الرسل. قوله: (التي أنا عليها) أي وجميع المؤمنين. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ تعريض لهم بأنهم هم المشركون، وبيان أن النبي على ملة إبراهيم من حيث السهولة وأصول الدين. قوله: (ونزل لما قالوا إلخ) أي حين حولت القبلة قالوا لم تحولت عن قبلتنا مع كونها أقدم وأفضل. قوله: (لغة في مكة) أي فأبدلت الميم باء، قوله: (لأنها تبك أعناك الجبابرة) أي وسميت مكة لأنها من المك وهو الإزالة، فإنها تزيل الذنوب وتمحوها، قوله: (بناه الملائكة) ورد أن الله خلق البيت المعمور، وكانت ملائكة السماء تطوف به، اشتاقت ملائكة الأرض لبيت مثله، فأمرهم ببناء بيت محاذ للبيت الذي في السماء وكان من درة بيضاء وطافت به قبل آدم الفي سنة. قوله: (وضع بعده) أي بعد بنائه ظاهره أنه وضع بعد بناء الملائكة بأربعين سنة، فيكون من وضع الملائكة ويكون متقدماً على آدم وليس كذلك، بل الحق أن بيت المقدس وضعه آدم بعد بنائه هو البيت الحرام بأربعين سنة. قوله: (زبدة) بالتحريك رغوة بيضاء. قوله: (ذا بركة) أي من حيث الحج به وتكفير السيئات لمن دخله بذل وانكسار. قوله: (لأنه قبلتهم) أي يتوجهون إليه عند الصلاة، وعموم الآية يشهد بأنه قبلة حتى للجمادات، ولذلك ترى الأشجار عند انحنائها تكون لجهته. قوله: (وبقي إلى الآن) أشار بذلك إلى أن في الحجر آيتين غوص إبراهيم فيه وصعوده به ونزوله به، وكونه باقياً إلى الآن. قوله: (تضعيف الحسنات فيه) أي فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة، قوله: (وأن الطير لا يعلوه) أي لا يمر على ظهره إلا إذا كان بالطير مرض فيمر ليشتفي بهوائه. قوله: (بقتل) أي ولو قصاصاً، هذا ما كان في الجاهلية فكان الرجل يقتل ويدخله فلا يتعرض له ما دام فيه، وأما بعد الإسلام فعند مالك والشافعي أن قتل اقتص منه فيه، وعند أبي حنيفة لا يقتص منه فيه ما دام فيه وإنما يضيق عليه حتى يخرج، وهذا هو الأمر في الدنيا، وأما في الآخرة فبتكفير السيئات ومضاعفة الحسنات.
قوله: ﴿ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ خبر مقدم و ﴿ حِجُّ ٱلْبَيْتِ ﴾ مبتدأ مؤخر، والحج لغة القصد، واصطلاحاً عبادة، يلزمها طواف بالبيت سبعاً وسعياً بين الصفة والمروة كذلك وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة على وجه مخصوص، وهو فرض عين في العمر مرة، وواجب كفاية كل عام إن قصد إقامة الموسم، ومندوب إن لم يقصد ذلك. قوله: (لغتان) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ويبدل من الناس) أي بدل بعض من كل، والعائد محذوف تقديره منهم. قوله: ﴿ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ أي على سبيل العادة، فلا يجب بطيران ولا خطوة، لكن لو فعل سقط الفرض، وأما المشي فيجب به عند مالك إن قدر عليه. قوله: ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ (بالله) أي أنكر وحدانيته أو جحد شيئاً من أحكامه. قوله: (أو بما فرضه) تفسير ثان. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾ أي فلا تنفعه طاعتهم ولا تضره معاصيهم قال تعالى:﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾[التغابن: ٦].
قوله: ﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي اليهود والنصارى، وخصهم بالذكر لأن كفرهم محض عناد قوله: (القرآن) أو ما ألحق به من المعجزات الباهرة. قوله: ﴿ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي من الكفر. قوله: (تصرفون) أي تمنعون. قوله: (أي دينه) أي المعتدل.
قوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ يحتمل أن المعنى من آمن بالفعل تسعون في رده عن الإيمان إلى الكفر ويحتمل أن المراد من أرد الإيمان تصدوه عن كونه يؤمن بالله. قوله: ﴿ تَبْغُونَهَا ﴾ الجملة حالية من الواو في تصدون. قوله: ﴿ عِوَجاً ﴾ هو بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأجسام، قال اعوجت الطريق واعوجت الحائط، بمعنى قام الأول العوج بالكسر، وبالثاني للعوج بالفتح، والمعنى تتركون السبيل المعتدلة وتطلبون السبيل المعوجة. قال تعالى:﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[يوسف: ١٠٨].
قوله: (مصدر) أي حال من ضمير تبغونها. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ ﴾ الجملة حالية من الواو في تبغونها. قوله: (كما في كتابكم) المراد به الجنس الصادق بالتوراة والأنجيل. قوله: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ دفع بذلك توهم أن الله حيث أمهلهم فهو غافل عنهم، وقال تعالى أيضاً:﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾[إبراهيم: ٤٢] الآيات. قوله: (من الكفر إلخ) بيان لما. قوله: (ونزل لما مر بعض اليهود) أي واسمه شاس. قوله: (فغاظه تآلفهم) أي توددهم ومحبة بعضهم لبعض، بعد أن كان ما كان بينهم من الشحناء والبغضاء. قوله: (فذكرهم) ورد أنه كان معه شاب يهودي فقال له اذهب إلى بني قبيلة هؤلاء وقل لهم أتذكرون يوم بعاث، واذكر لهم ما تناشدوه بينهم من الأشعار التي فيها الهجو لبعضهم بعضاً، وكان يوم بعاث عظيماً في اقتتال الأوس والخزرج، وكان الغلبة فيه للخزرج، فهذب ففعل كما أمره، فقالوا السلاح السلاح، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات إلى قوله: (لعلكم تهتدون) فخرج النبي مع بعض اصحابه فوجدهم في الصحراء مصطفين للقتال، فقال يا معشر المسلمين أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم إصر الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أكرمك الله بالإسلام وقطع عنك إصر الجاهلية وألف بين قلوبكم، وقرأ عليهم الآيات، فعلموا أنها نزعة من عدوهم، فألقوا السلاح وصار يعانق بعضهم بعضاً، قال جابر بن عبد الله: ما رأيت يوماً أشأم منه ولا أسر منه، كان أوله شؤماً وآخره سروراً، قوله: ﴿ فَرِيقاً ﴾ هو شاس واتباعه، قوله: ﴿ يَرُدُّوكُم ﴾ أي يصيروكم فالكاف مفعول أول، وكافرين مفعول ثاني فرد تنصب مفعولين، كقول الشاعر: فرد وجوههن البيض سودا   ورد شعورهن السود بيضاقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾ هاتان الجملتان حالان والمعنى كيف يحصل منكم الكفر والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله أي القرآن وفيكم رسوله محمد فهذا الأمر مستبعد أن يكون بعد تمام الهدى والكفر والضلال. قوله: ﴿ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي دين قيم لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام.
قوله: ﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ صفة المصدر محذوف أي تقوى حق تقاته. قوله: (بأن يطاع إلخ) تصوير للتقوى حق التقوى، وهذه أخلاق الأنبياء والمرسلين لعصمتهم وتكون الخواص عباد الله الذين على قدم الأنبياء ولذلك قال بعض العارفين: ولو خطرت لي في سواك إرادة   على خاطري يوماً حكمت بردتيولكن ليس معنى ذلك أنه يكون كافراً يستحق الخلود في النار، بل هذا لسان محب عاشق وردته نقصه عن مرتبة حبه إلى مرتبة أدنى منها في الحب، وأما القرآن فنزل على أخلاق العوام لتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فنسخ الآية من حيث التكليف بهذا المعنى على سبيل الوجوب، وأما الرقي لتلك المراتب فمما يتنافس فيه المتنافسون على سبيل التطوع والتقرب فتدبر. قوله: (فنسخ بقوله إلخ) أي فيقال في قوله: (بأن يطاع) بحسب الطاقة، وقوله: (فلا يعصى) يعني أصلاً، وكذا قوله: (ويشكر ولا يكفر ويذكر فلا ينسى) ويناسب الناسخة قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ ﴾[البقرة: ٢٢٢] وقيل إن الآية ليست منسوخة بل آية﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾[التغابن: ١٦] مبينة للمراد منها. قوله: ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ ﴾ أي با بني قبيلة الأوس والخزرج، قوله: ﴿ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ أي لاف يكن منكم موت على حالة دون حالة الإسلام، والمعنى دوموا على الإسلام إلى الممات، ولا تغيروا ولا تبدلوا لئلا يصادفكم الموت في حالة التغيير، قال المفسر في بعض كتبه وما شاع من تفسير قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ متزوجون فهو باطل لا أصل له، ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي، وخص حالة الموت بذلك لأن ثمرة الأعمال تظهر في تلك الحالة والمدار عليها. قوله: ﴿ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ ﴾ أي حين الدخول في الإسلام. وقوله: ﴿ وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ أي فدوموا على الإجتماع ولا يكن منكم تفرقة. قوله: (أي دينه) أي والقرآن، وفي الكلام استعارة حيث شبه الدين أو القرآن بالحبل، واستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه، وهو الدين أو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، والجامع بينهما التوصل للمقصود في كل، وإضافته للفظ الجلالة قرينة مانعة والاعتصام ترشيح، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الوثوق بالإعتصام، واستعار الإعتصام للوثوق، واشتق من الإعتصام اعتصموا بمعنى ثقوا، قوله: ﴿ إِخْوَاناً ﴾ خبر ثان لأصبحتم، وقوله: (والولاية) أي النصرة أي ينصر بعضكم بعضاً. قوله: ﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾ آي يزيدكم بياناً ما دام رسول الله فيكم، قوله: ﴿ تَهْتَدُونَ ﴾ أي تدومون على الهداية وتزيدون فيها.
قوله: ﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ يحتمل أنها ناقصة، وأمة اسمها ويدعون خبرها، ومنكم إما ظرف لغو متعلق بتكن أو حال من أمة أو من الواو في يدعون أو تامة وأمة فاعلها، وجملة يدعون صفة لأمة ومنكم حال أو متعلق بتكن قوله: ﴿ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ ﴾ مفعوله هو وما بعده من يأمرون وينهون محذوف تقديره الناس. قوله: (الإسلام) إنما قصره عليه لأنه رأس الأمور ولأجل قوله بعد (ويأمرون بالمعروف). قوله: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ المراد به ما طلبه الشارع، إما على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وبر الوالدين وصلة الرحم، أو الندب كالنوافل وصدقات التطوع. وقوله: ﴿ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾ المراد به ما نهى عنه الشارع، إما عن سبيل الحرمة كالزنا والقتل والسرقة أو على سبيل الكراهة. قوله: (ومن للتبعيض) أي بناء على أن المخاطب بفرض الكفاية بعض غير معين أو معين في علم الله. قوله: (كالجاهل) أي فلا يأمر ولا ينهى، لأنه ربما أمر بمنكر أو نهى عن معروف لعدم علمه بذلك. قوله: (وقيل زائدة) أي بناء على أن المخاطب بفرض الكفاية الجميع ويسقط بفعل بعضهم. قوله: (أي لتكونوا أمة) أي دعاة للخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر. قوله: (وهم اليهود والنصارى) أي فافترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة والباقون في النار، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار، وهذا التفرق من بعد الصحابة، فالناجي من كان على قدم النبي والصحابة، ويختلف في كل زمن بالقلة والكثرة، ففي الصدر الأول كانوا ظاهرين أقوياء، وكلما تقادم الزمان ازدادوا في الإختفاء، لكن لا تنقطع الفرقة الناجية ما دام القرآن موجوداً. قال الله تعالى:﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾[الزمر: ٢٣] الآية، فلولا أن أهل القرآن الذين يتدبرونه موجودون لما بقي القرآن، إن قلت إن دعاءهم مستجاب فهلا دعوا بإصلاح العالم مثلاً؟ أجيب بأنهم لا يلهمون الدعاء بغير ما في علم الله، فإذا علم الله أن العالم لا يصلح مثلاً فلا يلهمون ولا يوفقون للدعاء باصلاحه بل هم أشد الناس صبراً وتحملاً للمكاره ورضا بالقضاء والقدر وفي ذلك قلت: أرح قلبك العاني وسلم له القضا   تفز بالرضا فالأصل لا يتحولعلامة أهل الله فينا ثلاثة   أما وتسليم وصبر مجملوالتفرق المذموم إنما هو في العقائد لا في الفروع فإنه رحمة لعباد الله. قوله: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ وعذابان مبتدأ ثان ولهم متعلق بمحذوف خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول.
قوله: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ ظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور تقديره وأولئك الذين تفرقوا في العقائد عذاب عظيم مستقر لهم يوم تبيض وجوه إلخ. يعني أنه يكون ويحصل ذلك العذاب حينئذ، ويحتمل أن قوله: ﴿ يَوْمَ ﴾ مفعول المحذوف تقديره اذكر يوم تبيض وجوه. وبياض الوجه إما حقيقة فقد ورد أن وجه المؤمن يكون أضوأ من الشمس في رابعة النهار، وإما كناية عن الفرج والسرور ومثله يقال في اسوداد الوجه، وذلك حين تطاير الصحف، فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه ويقول: (هاؤم اقرؤوا كتابيه) الآية والكافر يأخذ كتابه بشماله ويقول: (يا ليتني لم أوت كتابية) الآية. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ تفصيل لما أجمل أولاً، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إن اردت تفصيل فأقول لك أما الذين أسودت وجوههم وقدم في التفصيل هذا القسم مبادرة بالتحذير، وليكون في الكلام حسن ابتداء وحسن اختتام، فابتدأ الآية بالبشرى وختمها كذلك. قوله: (فيلقون في النار) أي والقاؤهم مختلف، فمنهم من يؤخذ بالكلالبيب، ومنهم من يؤخذ بالنواصي والأقدام، وعلى كل حال فهم يسحبون في النار على وجوههم، وهذه الجملة خبر المبتدأ قدره المفسر، وذلك لأن الجزاء في المقابل هو الكون في الجنة، فالمناسب هنا أن يكون هو الكون في النار، وتقدير القول هنا لأجل أن يكون حذف الفاء في جواب أما مقيساً. قوله: (ويقال لهم) يحتمل أن ذلك من كلام الله لهم، ويحتمل أن ذلك على لسان الملائكة. قوله: (يوم أخذ الميثاق) دفع بذلك ما يقال إن الآية ظاهرة فيمن ارتد بعد إيمانه لا فيمن كان كافراً واستمر على كفره، وأجيب أيضاً بأن هذا يحمل على اليهود والنصارى، فإنهم كانوا مؤمنين برسول الله قبل البعثة ثم كفروا به بعدها، وأجيب أيضاً بأن قوله: ﴿ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ أي بعد ظهور الأدلة التي توجب الإيمان. قوله: ﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾ فيه استعارة بالكناية حيث شبه العذاب بشيء مر يذاق، وطوي ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإذاقة فاثباتها تخييل. قوله: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ الباء سببية، فالكفر سبب في اذاقة العذاب، بخلاف الطاعات فلم يجعلها الله سبباً لدخول الجنة، بل دخول الجنة بمحض فضل الله، وإنما كان جزاء الكفار الخلود في النار، لأن الكفر إنكار لكمالات الله وهي لا تتناهى، فكان جزاؤه عذاباً لا يتناهى، وذلك يتحقق الخلود، بخلاف معصية المؤمن. قوله: (أي جنته) أي ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل، فالجنة محل هبوط الرحمة والرحمة ناشئة عن ذات الله فقولهم اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، فالمراد بالمستقر محل هبوط الرحمة وهي الجنة لا ذات الله، قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي الصدق. قوله: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي فحيث انتقت إرادة الظلم فالظلم منفي بالأولى، لأن تعلق الإرادة في التعقل سابق على الفعل. قوله: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي فيتصرف في ملكه كيف شاء. قوله: ﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ أي فلا مفر منه ولا محيص عنه.
قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ هذا مدح عظيم وتفضيل من الله لهذه الأمة المحمدية، وفيه إعلام بتثبيتهم على تلك الأوصاف العظيمة، واعلم أن المخاطب مشافهة الصحابة وثبتت لهم هذه الصفات المرضية فمدحهم الله على ذلك، ومن تمسك بأوصافهم وأخلاقهم كان ممدوحاً مثلهم، وهذا المدح يدل على أن أوصافهم مرضية لله، فشرفهم الله بشرف نبيهم، قال صاحب البردة: لما دعا الله داعياً لطاعته   بأشرف الرسل كنا أكرم الأمموقال في الهمزية: ولك الأمة التي غبطتها   بك لما أتيتها الأنبياءومدحهم الله سابقاً بقوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) الآية، وبالجملة فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، وأمته أفضل الأمم على الإطلاق، وكان فعل ناقص يفيد الإتصاف في الماضي، لكن المراد هنا الدوام على حد (وكان الله غفوراً رحيماً) والتاء اسمها وخير خبرها، قوله: ﴿ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ صفة لأمة. قوله: (في علم الله) أي وقيل في اللوح المحفوظ، وقيل في كتب الأمم السابقة. قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ إنما عير عبر اللام دون من، إشارة إلى أن هذه الأمة نفع ورحمة لنفسها وللخلق عموماً، في الدنيا بالدعاء لجميع الأمم، وفي الآخرة بالشهادة للأنبياء. قوله: ﴿ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ ما خبر بعد خبر لكان، والمقصود منه تفصيل ما أجمل أولا، أو صفة لمعنى الخيرية، أو استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما أوجه الخبرية، وراعى في الخطاب لفظ كنتم، ولو راعا الخبر لقال يأمرون، لأن الإسم الظاهر من قبيل الغيبة، واختيرت صيغة الخطاب تشريفاً لهم وإشارة إلى رفع الحجب عنهم، حيث خاطبهم ولم يخبر عنهم وأنهم مقربون من حضرة الله. إن قلت إن الإيمان هو الأصل فلم يقدم؟ أجيب بأنه غير مخصوص به، وإنما الفضل الثابت لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الأمة لها شبه بالأنبياء من حيث إنها مهتدية في نفسها هادية لغيرها. قوله: ﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي اليهود والنصارى. قوله: ﴿ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي من الإيمان بموسى وعيسى في زمانهما، أن من آمن بمحمد أعلى وأفضل من أدرك موسى وعيسى وآمن به لدخوله في هذا المدح العظيم، أو المعنى خيراً لهم مما هم عليه في زعمهم، وإن كان في الواقع ما هم عليه ليس بخير، أو ذلك تهكم بهم، أو أن أفعل التفضيل ليس على بابه أي لكان هو الخير لهم. قوله: ﴿ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر نشأ من قوله: ﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ ﴾ كأن قائلاً قال وهل آمن منهم أحد أو لا فأجاب بذلك. قوله: (كعبد الله بن سلام) أي من اليهود وادخلت الكاف النجاشي وغيره من النصارى. قوله: (الكافرون) أي وسماهم فاسقين لأنهم فسقوا في دينهم، فليسوا عدولاً فيه.
قوله: ﴿ إِلاَّ أَذًى ﴾ قيل استثناء منقطع وهو المتبادر من المفسر، والمعنى لا يصل لكم منهم ضرر بشيء أصلاً لكن يقع منهم أذى باللسان، قال تعالى:﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً ﴾[آل عمران: ١٨٦] ففي الحقيقة لا ضرر في ذلك، وقيل الإستثناء متصل، والمعنى لن يصل لكم منهم ضرر في حال من الأحوال، إلا في حال الضرر اللساني. قوله: (من سب) أي للنبي وأصحابه، وقوله: (ووعيد) أي للمؤمنين بقولهم إنا نغلبهم، وستكون العزة لنا والذلة لهم. قوله: ﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ ليس معطوفاً على جواب الشرط، وإلا لأوهم أنهم قد ينصرون من غير قتال، بل هو مستأنف ليفيد سلب النصرة عنهم في جميع الأحوال. قوله: ﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾ أين اسم شرط وثقفوا فعل الشرط وجوابه محذوف لدلالة ضربت عليهم الذلة عليه، التقدير أينما ثقفوا تضرب عليهم الذلة. (فلا عز لهم) أي ولذا لم يوجد منهم سلطان أصلاً فالذال قد علاهم للمؤمنين والنصارى لقوله تعالى:﴿ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[آل عمران: ٥٥].
قوله: (ولا اعتصام) معطوف على قوله فلا عزم لهم، وقدر ذلك ليرتب قوله: ﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ عليه إشارة إلى أنه مستثنى من محذوف. قوله: ﴿ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي وهو الإيمان. قوله: (أي لا عصمة لهم غير ذلك) أي لكن إن كان اعتصامهم بحبل من الله ارتفع عنهم الذل وعصموا نفوسهم وأموالهم، وإن كان من الناس فقد عصموا نفوسهم وأموالهم وعاشوا في الذل. قوله: (ذلك) أي المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله. قوله: ﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ ﴾ أي فقتلوا أول النهار سبعين نبياً وآخره أربعمائة عابد. إن قلت: إن القاتل للأنبياء أجدادهم فلم أوخذوا بفعل أصولهم أجيب بأن رضا الفروع بقتل أصولهم الأنبياء صيره كأنه واقع منهم، فالقتل وقع من أصولهم بالفعل ومنهم بالعزم والتصميم فهم الآن لو تمكنوا من النبي والمسلمين ما أبقوا واحداً. قوله: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ أي حتى في اعتقادهم، فاعتقادهم عدم الحقيقة مطابق للواقع غير أنه عناد منهم. قوله: (تأكيد) أي فالعصيان والإعتداء هو عين الكفر وقتل الأنبياء، ويحتمل أنه ليس تأكيداً بل هو علة للعلة، أي فعلة ضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله كفرهم وقتلهم الأنبياء، وعلة الكفر والقتل عصيانهم أمر الله وتجاوزهم الحد. قوله: ﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً ﴾ هذه الجملة راجعة لجميع أهل الكتاب أي هم غير مستوين في العقيدة، بل منهم من هو على حق ومنهم من هو على باطل. قوله: (مستوين) دفع بذلك ما يقال إن سواء خبر عن الواو في ليسوا فكان حقه أن يجمع مطابقة له، فأجاب بأن سواء مصدر من التسوية بمعنى مستوين. قوله: ﴿ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ ﴾ هذا كالتفصيل لقوله ليسوا سواء. قوله: (كعبد الله بن سلام وأصحابه) أي من اليهود، وكالنجاشي وأربعين من نصارى نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم، كجماعة من الأنصار كأسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن سلمة وصرمة ابن أنس، كانوا يتعبدون بما يعرفون من الشرائع القديمة، فما بعث النبي صدقوه ونصروه، قوله: ﴿ آنَآءَ ٱللَّيْلِ ﴾ إما جمع أنى كعصا أو أنى كظبي أو أنى كحمل أو أنو كجرو. قوله: (أي في ساعاته) أي اللغوية وهي دقائقه ولحظاته، قوله تعالى:﴿ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ ﴾[السجدة: ١٦].
قوله: (يصلون) سمى الصلاة سجوداً لأنه أشرف أجزائها، وقوله: (حال) أي من قوله: ﴿ يَتْلُونَ ﴾ أي يقرؤون القرآن في حال صلاتهم.
قوله: ﴿ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ أي يصدقون بأن الله متصف بكل كمال مستحيل عليه كل نقص، وقوله: ﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ أي وما فيه من النعيم والعقاب فيصدقون بأنه حق، قوله: ﴿ وَيَأْمُرُونَ ﴾ مفعوله هو وينهون محذوف تقديره الناس. قوله: ﴿ وَيُسَارِعُونَ ﴾ أي يبادرون بامتثال أمر الله، إن قلت إن العجلة مذمومة، ففي الحديث" العجلة من الشيطان "إلا في أمور، أجيب بأن معنى المسارعة أنه إذا تعراض حق لله وحفظ لنفسه بادر الحق الله وترك حظه، وأما العجلة فهي المبادرة لللشيء مطلقاً كأن يبادر للصلاة قبل وقتها، أو في الصلاة بأن لا يتقن ركوعها ولا سجودها، فإن ذلك مذموم إلا في أمور، فهي مسارعة لا عجل كالتوبة وتقديم الطعام للضيف وتجهيز الميت وزواج البكر والصلاة في أول وقتها. قوله: (ومنهم من ليسوا كذلك) قدر ذلك إشارة إلى أن في الآية حذف المقابل. قوله: (وبالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ أي قليل أو كثير، قال تعالى:﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾[الزلزلة: ٧].
قوله: (بالوجهين) أي التاء والياء. قوله: (بل تجازون عليه) أي في الآخرة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ قيل نزلت في قريظة وبني النضير، وقيل في مشركي العرب. وقيل فيما هو أعم وهو الأقرب. قوله: ﴿ شَيْئاً ﴾ أي قليلاً كان أو كثيراً. قوله: (يدفع عن نفسه) أي في الدنيا. قوله: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ يحتمل أن ما اسم موصول وينفقون صلتها والعائد محذوف، ويحتمل أنها مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر تقدير الأول مثل المال الذي ينفقونه وتقدير الثاني مثل إنفاقهم. قوله: (في عداوة النبي) أي في مثل حروبه، وقوله: (أو صدقة) أي على فقرائهم أو فقراء المسلمين. قوله: (ونحوها) أي كصلة الرحم ومواساة الفقراء. قوله: ﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ ﴾ أي كمثل مهلك ريح فالكلام على حذف مضاف. قوله: (حر) أي ويسمى بالسموم وقوله: (أو برد شديد) أي ويسمى بالزمهرير. قوله: ﴿ أَصَابَتْ ﴾ أي تلك الريح قوله: (أي زرع) سماه حرثاً لأنه يحرث. قوله: ﴿ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ هذا وصف المشبه به. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ هذا في جانب المشبه فلا تكرار.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ نزلت في قوم من المؤمنين كان لهم أقارب من المنافقين والكفار وكانوا يواصلونهم. قوله: (أصفياء) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة، حيث شبه الأصفياء ببطانة الثوب الملتصقة به، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية، والجمع شدة الالتصاق على حد الناس دثار والأنصار شعار. قوله: (أي لا يقصرون في الفساد) أي فليس عندهم تقصير في ذلك بل هو شأنهم. قوله: ﴿ مَا عَنِتُّمْ ﴾ ما مصدرية تسبك بمصدر أي ودوا عنتكم بمعنى تعبكم ومشقتكم. قوله: (بالوقيعة فيكم) أي في أعراضكم بالغيبة وغيرها. قوله: (فلا توالوهم) أشار بذلك إلى أن جواب الشرط محذوف. قوله: ﴿ بِٱلْكِتَابِ ﴾ أي جنسه، وقوله: (ولا يؤمنون بكتابكم) أي القرآن. قوله: ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ ﴾ أي خلا بعضهم ببعض. قوله: ﴿ عَلَيْكُمُ ﴾ أي من أجلكم. قوله: ﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾ أي مصاحبين له وهو دعاء عليهم بذلك. قوله: (وجدب) هو ضد الخصب. قوله: (وجملة الشرط) أي وهي إن تمسكم إلخ قوله: (بالشرط) وهو قوله: ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ ﴾ وقوله: (وما بينهما) أي وهو قوله: ﴿ قُلْ مُوتُواْ ﴾ الآية. قوله: (بكسر الضاد) أي فهما قراءتان سبعيتان، الأولى من ضار يضير، والثانية من ضر يضر، والفعل من كليهما مجزوم جواباً للشرط، وجزمه على الأولى ظاهر، وعلى الثانية بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع. قوله: ﴿ كَيْدُهُمْ ﴾ الكيد احتيال الشخص ليقع غيره في مكروه. قوله: (بالياء) وقد اتفق عليها العشرة، وقوله: (والتاء) أي وهي شاذة، فكان على المفسر أن ينبه على شذوذها، كأن يقول: وقرئ بالتاء كما هو عادته
قوله: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ ﴾ جمهور المفسرين على أن هذه الآية متعلقة بعزوة أحد، وقيل بغزوة بدر، وقيل بغزوة الأحزاب، والصحيح الأول، ولذا مشى المفسر عليه. قوله: ﴿ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي من بيت أهلك وهي زوجته عائشة، وكان قدوم جيش الكفار يوم الأربعاء رابع شوال وأميرهم إذا ذاك أبو سفيان فجمع صلى الله عليه وسلم الأنصار والمهاجرين وشاورهم في الخروج لهم أو المكث في المدينة ينتظرونهم، فأشار عبد الله بن ابي بن سلول رئيس المنافقين هو وجماعة من الأنصار بعد الخروج فإن أبوا قاتلوهم الرجال والنساء، وأشار جماعة بالخروج، فدخل صلى الله عليه وسلم منزله ولبس لأمته وخرج فقال هلموا إلى الخروج، فقالوا يا رسول الله ما لنا رأي معك، فقال ما من نبي يلبس لأمته ويرجع حتى يحكم الله له بين عدوه، وكان قد رأى في المنام بقراً ودرعاً حصيناً وضع يده فيه وثلما في ذبابة سيفه، فقالوا ما أولته قال أما البقر فخير، وأما الدرع الحصين فهي المدينة، وأما الثلم في السيف فهزيمة، فخرج صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بعد صلاة الجمعة، فلما أصبحوا جعل الجيش خمسة أقسام، جناحان ومقدم وساقة ووسط، وأنزل كلاً من منزلته، وأمرهم أن يثبتوا مكانهم ولا يتحولوا، وأخبرهم أنه بمجرد ملاقاة الصفوف تحصل الهزيمة للكفار، فلما التقى الصفان ولى عبد الله بن أبي بن سلول هو وجماعته الثلثمائة وقالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، ولم يبق إلا ستمائة وخمسون، فهزم الصحابة الكفار أولاً واشتغلوا بالغنيمة، فنزع الله من قلوب الكفار الرعب فكروا عليهم مرة واحدة، ففر المسلمون ما عدا النبي وبعض الصحابة، فبعد ذلك اجتمع المسلمون للقتال، فقتل من كل سبعون وكان العزة لله ورسوله. قوله: (وهو يوم أحد) أي وهو قول جمهور المفسرين وهو المعتمد. قوله: (أو إلا خمسين) أي فهما قولان. قوله: (سابع شوال) وقيل كان في نصفه فيكون قدوم الكفار يوم اثني عشر منه. قوله: (وعسكره) بالجر معطوف على الضمير المجرور في ظهره أي وجعل ظهر عسكره. قوله: (وأجلس جيشاً من الرماة) أي وهم المسلمون بالساقة. قوله: (وقال انضحوا) أي فرقوا من النضح وهو الرش، والمعنى فرقوا الأعداء عنا بالنبل قوله: (ولا تبرحوا) هذا في الحقيقة خطاب وأمر للجميع.
قوله: ﴿ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ ﴾ أي أرادت ولما كان الهم بالمعصية لا يكتب مدحهم الله بقوله: ﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ وأما الطاعة فيكتب، وأما العزم فيكتب خيراً أو شراً، وما دون ذلك من مراتب القصد لا يكتب أصلاً لا خيرا ولا شراً. قال بعضهم: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا   فخاطر فحديث النفس فاستمعايليه هم فعزم كلها رفعت   سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاقوله: (بنو سلمة) أي وهم من الخزرج، وقوله: (وبنو حارثة) أي وهم من الأوس. قوله: (وأصحابه) أي وكانوا ثلثمائة. قوله: (علام نقتل أنفسنا وأولادنا) أي لأي شيء نقتل قوله: (وقال) أي عبد الله بن أبي ومقول القول قوله: (لو نعلم قتالاً إلخ). قول: (القائل له) صفة لأبي جابر. قوله: (أنشدكم الله) أي أحلفكم بالله، وقوله (في نبيكم وأنفسكم) أي في حفظهما قوله: (فثبتهما الله) أي الطائفتين بعد أن حصلت لهما التفرقة أولاً، وشج وجه رسول الله وكسرت رباعيته وضرب نيفاً وسبعين ضربة ما بين سهم وسيف، وطلحة بن عبيد الله أحد العشرة يلقاها عن رسول الله، وحينئذ نادى إبليس والمنافقون في الناس إن محمداً قد مات، وكان صلى الله عليه وسلم في محل منخفض فأراد الصعود ليراه المسلمون فلم ينهض، فحمله طلحة على ظهره وقد كان على المصطفى درعان، فما رآه المسلمون فرحوا وصاروا يأتون إليه من كل فج كالناقة الغائب عنها ولدها إذا رأته، فحصل الثبات والنصر وباتت الهزيمة على الكفار، قوله: (ناصرهما) أي ولم يؤاخذهما بذلك لهم. قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ﴾ هذا الكلام تسلية للنبي وأصحابه فيما وقع لهم في غزوة أحد، يعني أنه سبق لكم النصر فلا تحزنوا بحصول تلك الشدة، وحكمتها تمييز المنافق من المؤمن لا الهزيمة كما قال تعالى:﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾[آل عمران: ١٦٦].
قوله: (موضع بين مكة والمدينة) أي فسميت الواقعة باسم الموضع، وقيل إن بدراً اسم بئر حفرها رجل يقال له بدر فسمي المكان باسم ذلك الرجل. قوله: (بقلة العدد والسلاح) أي فلم يكن معهم إلا ثلاثة أفراس وثلاثة سيوف وكان عدتهم ثلثمائة وثلاثة عشر وعدة الكفار نحو ألف. قوله: أف ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (نعمه) أي حديث نصركم مع كونكم أذلة فظفروا بهم وأخذوا شجعانهم ما بين قتيل وأسير. قوله: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ سبب هذا القول أنه لما تلاقى الصفان جاء للصحابة خبر بأن كرز بن جابر يمد الكفار ويعينهم، فحزنت الصحابة حزناً شديداً فأنزل الله تلك الآية. قوله: ﴿ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ ﴾ الإستفهام إنكاري نظير ألست بربكم. قوله: (يعينكم) أي يزيدكم. قوله: ﴿ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾ إن قلت: ما الحاجة إلى ذلك العدد الكثير فإن جبريل وحده أو أي ملك كاف في قتال الكفار؟ أجيب: بأن ذلك ينسب النصر لرسول الله والمؤمنين لقوله تعالى:﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾[التوبة: ١٤] فلو هلكوا بشيء مما هلك به الأمم السابقة لم يكن في ذلك مزيد فخر للمؤمنين ولا شفاء لغيظهم، لكونه خارجاً عن اختيارهم.
قوله: ﴿ بَلَىۤ ﴾ حرف جواب أي وهو إيجاب للنفي في قوله تعالى:﴿ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ ﴾[آل عمران: ١٢٤] وأما جواب الشرط فهو قوله يمددكم. قوله: (لأن أمدهم أولاً بها) هذا إشارة لوجه الجمع بين ما هنا وبين ما يأتي. قوله: ﴿ مِّن فَوْرِهِمْ ﴾ يطلق الفور على قوة الغليان يقال فار القدر غلا، ويطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا. قوله: (بكسر الواو) أي اسم فاعل والمعنى معلمين أنفسهم آداب الحرب، وقوله: (وفتحها) أي اسم مفعول بمعنى أن الله علمهم آدابه. قوله: (وأنجز الله وعدهم) أي فكلما حصل للمؤمنين ضعف زادهم الله من الملائكة. قوله: (على خيل بلق) أي وجوهها وأيديها وأرجلها بيض، وقوله: (وعليهم عمائم صفر أو بيض) أي فما روايتان وجمع بأن جبريل كانت عمامته صفراء وباقيهم بيض. قول: (أرسلوها) أي طرفها، ورد عن علي أنه قال كنت في قليب بدر فاشتدت ريح عظيمة فرأيت جبريل نزل بألفين من الملائكة فسار أمام المصطفى، ثم اشتدت ريح فرأيت إسرافيل نزل بألفين من الملائكة فسار على يمينه. ثم اشتدت ريح فرأيت ميكائي نزل بألف فسار على يساره. واعلم أن قتال الملائكة من خصائص هذه الأمة وليس مخصوصاً بواقعة بدر، بل ورد أن جبريل وميكائيل قاتلا مع النبي في أحد حين فرت أصحابه. قوله: (أي الأمداد) أي المفهوم من قوله يمددكم. قوله: ﴿ إِلاَّ بُشْرَىٰ ﴾ البشارة هي الخبر السار، ولا تطلق على الضد إلا مقيدة، كقوله تعالى:﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[آل عمران: ٢١].
قوله: ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ معطوف على بشرى، الواقع مفعولاً لأجله، وجر باللام لعدم استيفائه شروط المفعول من أجله، فإن فاعل الجعل الله، وفاعل الطمأنينة القلوب، فلم يتحد في الفاعل وشرطه الإتحاد. قوله: (فلا تجزع من كثرة العدو) ورد أن الملائكة كانت تقاتل وتقول للمؤمنين اثبتوا فإن عدوكم قليل والله معكم. قوله: (وليس بكثرة الجند) أي فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العدد. قوله: (متعلق بنصركم) أي المتقدم في قوله:﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾[آل عمران: ١٢٣].
قوله: (أي ليهلك) إنما فسره بذلك لأن القطع يأتي لمعان منها التفريق كقوله تعالى:﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً ﴾[الأعراف: ١٦٨] وليس مراداً هنا، ومنها الهلاك وهو المراد. قوله: (بالقتل) أي وكانوا سبعين، وقوله: (والأسر) أي وكانوا كذلك. قوله: ﴿ أَوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾ الكبت بمعنى الكبد فتاؤه مبدلة من الدال وهو الغيظ الذي يحرق الكبد. قوله: (لم ينالوا ما راموا) أي ما قصدوه. قوله: (لما كسرت رباعيته) أي السنة التي بين الثنايا والناب، وقوله: (وشج وجهه) أي غاصت في حلقه المغفر. قوله: (وقال كيف يفلح قوم إلخ) أي وقد عزم على أن يدعو عليهم كذا قيل، والأقرب أن مقالة النبي حزناً على عدم إيمانهم فإن قصد النبي هداهم، وحيث وقع منهم ذلك الفعل فهو دليل عدم إيمانهم فيفوت مقصد النبي، فسلاه الله بالآية كما سلاه بقوله:﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ ﴾[الكهف: ٦].
وبقوله:﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾[القصص: ٥٦].
وقوله: (يوم أحد) أي وقيل نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلاً من القراء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة، وهي بين مكة وعسفان، ليعلموا الناس القرآن والعلم، وأمره عليهم المنذر بن عمرو، وكان ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة فخانهم عامر بن الطفيل وقتلهم عن آخرهم. فاشتد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلاه الله بذلك.
قوله: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ أي لا تملك له نفعاً فتصلحهم ولا ضراً فتهلكهم، فنفى ذلك من حيث الإيجاد والإعدام، وأما من حيث الدلالة والشفاعة فهو الدليل الشفيع المشفع جعل الله مفاتيح خزائنه بيده، فمن زعم أن النبي كآحاد الناس لا يملك شيئاً أصلاً ولا نفع به لا ظاهراً ولا باطناً، فهو كافر خاسر الدنيا والآخرة، واستدلاله بهذه الآية ضلال مبين. قوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ علة لقوله: (أو يعذبهم). قوله: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هذا كالدليل لما قبله. قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ سبب نزول هذه الآية أن الرجل كان في الجاهلية إذا كان له دين على آخر وحل الأجل ولم يقدر الغريم على وفائه قال له صاحب الدين زدني في الدين وأزيدك في الأجل، فكانوا يفعلون ذلك مراراً، فربما زاد الدين زيادة عظيمة. قوله: (وتؤخروا الطلب) أي في نظير تلك الزيادة والواجب إنظار المعسر من غير شيء والتشديد على الموسر المماطل. قوله: (بتركه) أي الربا وكذا كل ما نهى الله عنه. قوله: (أن تعذبوا بها) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف، أي اتقوا تعذيب النار، أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية.
﴿ وَسَارِعُوۤاْ ﴾ أي بادروا. قوله: (بواو ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الواو تكون الجملة معطوفة على جملة واتقوا النار، وعلى عدمها تكون الجملة استئنافية، كأن قائلاً قال وما كيفية تقوى النار وبأي شيء يكون تقواها، فأجاب بقوله سارعوا إلخ، إن قلت: إن ما خالف الرسم العثماني شاذ فمقتضاه أن أحد القراءتين مخالف الرسم. أجيب: بأن المصاحف العثمانية تعددت، فبعضها بالواو وبعضها بدونها، ولا يرد هذا الإشكال إلا لو كان واحداً. قوله: ﴿ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ ﴾ أي إلى أسبابها وهو الإنهماك في الطاعات والبعد عن المعاصي. قوله: ﴿ وَجَنَّةٍ ﴾ عطفها على المغفرة من عطف المسبب على السبب، ومرادنا بالسبب الظاهري وإلا فالسبب الحقيقي هو فضل الله. قوله: (كعرضهما) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف وأداة التشبيه وقد صرح بهما في سورة الحديد، قال تعالى:﴿ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الحديد: ٢١] واختلف هل هذا التشبيه حقيقي والمعنى لو بسطت السماوات كل واحدة بجانب الأخرى وكذلك الأرض، لكان ما ذكر مماثلاً لعرض الجنة، وأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وإنما لم يقل طولها لأنه لا يلزم من سعة الطول سعة العرض بخلاف العكس، وهذا تفسير ابن عباس، أو مجازي وهو كناية عن عظم سعتها، وإلا فالسماوات والأرض لو اتصلت بعضها ببعض كان ما ذكر أقل مما يعطاه أبو بكر الصديق فضلاً عن غيره، لما ورد أن جبريل يسير بأجنحته الستمائة في ملكه شهراً. إذا علمت ذلك، فالمناسب للمفسر أن يقول أو العرض السعة ليفيد أنه تفسير آخر. قوله: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي هيئت وأحضرت وقدم هذا الوصف لأن مستلزم لجميع الأوصاف، والمتقين جمع متق وهو المنهمك في الطاعات المجتنب المعاصي. قوله: (اليسر والعسر) أي الرخاء والشدة وذلك لثقته بربه واعتماده عليه، فينفق في كل زمن على حسب حاله فيه قليلاً أو كثيراً ولا يستخف بالصدقة، ففي الحديث:" اتقوا النار ولو بشق تمرة "وفي رواية" ولو بظلف محرق ". قوله: ﴿ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ ﴾ أي وهو نارية تحل في القلب تظهر آثارها على الجوارح. قوله: (الكافين على إمضائه مع القدرة) أي الكاتمين الغضب مع القدرة على العمل بمقتضاه بظواهرهم وبواطنهم، وكظم الغيظ من أعظم العبادة، ورد من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً، إن قلت: ورد عن الشافعي أنه قال من استغضب ولم يغضب فهو حمار فمقتضاه أنه مذموم ومقتضى الآية أنه من المتقين، أجيب: بأن كلام الشافعي يحمل على إذا ما رأى حرمات الله تفعل ولم ينه عنها ولم يغضب لأجلها، وقد اتفق للإمام الحسن زمن خلافته وكان حليماً جداً أن رجلاً قدم عليه ليمتحنه فصار يسبه ويتكلم فيه وهو يبتسم، فقال له الرجل إن شتمتني واحدة شتمتك مائة، قال له الحسن إن شتمتني مائة ما شتمتك واحدة فوقع على قدمه وقبلها وقال أشهد أنك على خلق رسول الله. قوله: ﴿ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ ﴾ عطف على الكاظمين من عطف العام على الخاص، لأن العفو أعم من أن يكون معه كظم غيظ أو لا، كما إذا سبه وهو غائب فبلغه ذلك فعفا عنه من غير أن يستفزه الغضب، واتفق للإمام زين العابدين أن جاريته كانت تصب عليه ماء الوضوء، فسقط الإبريق على رأسه فشج وجهه فرفع بصره لها فقالت له والكاظمين الغيظ، فقال كظمت غيظي، فقالت والعافين عن الناس فقال عفوت عنك، فقالت والله يحب المحسنين، فقال أنت حرة لوجه الله.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ ﴾ شروع في ذكر التوابين بعد أن ذكر المطهرين، وبقي قسم ثالث وهم الذين أصروا على المعاصي وماتوا من غير توبة فأمرهم مفوض الله إما أن يدخلهم الجنة من غير سابقة عذاب أو يعذبهم بقدر الجرم ثم يدخلهم الجنة خلافاً للمعتزلة حيث منعوا عن غفران الذنوب لهم. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ أول أولئك مبتدأ ثان وجزاؤهم مبتدأ ثالث، وقوله: ﴿ مَّغْفِرَةٌ ﴾ خبر الثالث وهو وخبره خبر الثاني وهو وخبره خبر الأول، وقوله: (كالزنا) أي وغيره من الكبائر قوله: (ذنباً قبيحاً) أي كبيراً، وقوله: (بما دونه) أي كالصغائر وهذه الآية نزلت في حق رجل تمار مرت عليه امرأة وأرادت أن تشتري منه تمراً فاعجبته فقال لها إن التمر الجيد داخل الحانوت فدخل معها الحانوت وفعل معها ما عدا الإيلاج وأعطاها التمر، فتذكر هيبة الله وعقابه، فجاء لرسول الله يبكي فنزلت الآية، قوله: (أي وعيده) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي اقلعوا عنها وتابوا.
﴿ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ جملة معترضة بين الحال وصاحبها قصد بها التعليل، قوله: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّواْ ﴾ جملة حالية من الواو في استغفروا، قوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية أيضاً. وقوله: (إن الذي أتوه معصية) إشارة لمفعول يعلمون. والمعنى وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها والنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يقوم على الذنوب من لا يعلم أنه ذنب. ولا يؤخذ بذلك كالمجتهدين من الصحابة في قتال بعضهم. ولذلك كان الواحد منهم إذا ظهر له الخطأ أقلع في الحال. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ المعنى أن القصور والأشجار مشرفة على الأنهار. قوله: ﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ ﴾ نعم فعل ماض وأجر فاعل والمخصوص بالمدح محذوف قدره المفسر بقوله هذا الأجر الذي هو المغفرة أو الجنة. قوله: (ونزل في هزيمة أحد) أي تسلية للنبي وأصحابه على ما أصابهم من الحزن الذي وقع لهم في تلك الغزوة، فكأن الله يقول لهم لا يحزنوا فإن هذه سنن من قبلكم والعبرة بالخواتم وقد تم النصر لكم على أعدائكم. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ من الخلو بمعنى المضي قوله: (في الكفار) أي كالعاد مع هود. وكثمود مع صالح، وكقوم نوح معه، وكقوم لوط معه، وكالنمروذ مع إبراهيم. وكفرعون مع موسى. فإن الله أمهل هؤلاء ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فكذلك هؤلاء. قال تعالى:﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾[الأعراف: ١٨٣] وقال عليه الصلاة والسلام:" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ". قوله: (بامهالهم) أي على سبيل الاستدراج. والمعنى فلا تحزنوا مما وقع لكم فإن الله يمهل ولا يهمل. قوله: ﴿ فَسِيرُواْ ﴾ إنما قرن الفعل بالفاء لما في الجملة الأولى من معنى الشرط، كأن الله يقول إن كنتم في شك مما ذكرته لكم فسيروا في الأرض لتروا آثارهم، قوله: (أي آخر أمرهم) أي وهو الهلاك الأخروي بإخبار الله ورسله والدنيوي بالمشاهدة. قوله: (فإنما أمهلهم لوقتهم) أي المقدر لهم ولا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوات. قوله: ﴿ بَيَانٌ ﴾ إما باق على مصدريته مبالغة أو بمعنى مبين أو ذو بيان على حد زيد عدل، ولذلك يسمى القرآن أيضاً فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل. قوله: (كلهم) أي مسلمين أو كفاراً، وإنما كان بياناً للجميع لإقامة الحجة على الكافر يوم القيامة وتعذيبه. قوله: ﴿ وَهُدًى ﴾ (من الضلالة) أي هاد من الكفر أو المعصية. قوله: ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ راجع لقوله: ﴿ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ ﴾ وخصهم لأنهم هم المنتفعون بذلك. قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾[ق: ٣٧].
قوله: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا ﴾ هذا من جملة التسلية للنبي وأصحابه، وأصله توهنوا حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها." وسبب ذلك أنه لما حصلت التفرقة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقتل منهم سبعون وجرح منهم ناس كثيرون، وقتل من الكفار نيف وعشرون وجرح منهم ناس كثيرون، قال أبو سفيان رئيس الكفار منادياً للنبي وأصحابه أفي القوم محمد ثلاث مرات فنهى القوم أن يجيبوه، فقال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت أحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك، ثم أخذ أبو سفيان يرتجز بقوله: أعل هبل أعل هبل. فقال عليه الصلاة والسلام ألا تجيبوه قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: إن لنا عزى ولا عزى لكم. فقال عليه الصلاة والسلام قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ". وفي رواية قال أبو سفيان: يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ثم أمر النبي أصحابه جميعاً بالإقبال على قتال الكفار ثانياً فصار الجريح منهم يزحف على الركب، ووقع الحرب بينهم وباتت الهزيمة على الكفار، فنزلت الآية تسلية للنبي وأصحابه. وقوله: ﴿ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾ أصله الأعلون استثقلت للضمة على الواو فحذفت ثم تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفاً فالتقى ساكنان حذفت الألف لألتقائهما وبقيت الفتحة لتدل عليها. قوله: (مجموع ما قبله) أي وهو قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا. قوله: (بفتح القاف وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا تحزنوا، وقوله: ﴿ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ ﴾ إلخ مفرع عليه. قوله: (ببدر) أي فكانت الغلبة فيه للمؤمنين من أوله إلى آخره، وقال بعضهم بل في أحد أيضاً، لأن الغلبة آخراً كانت للمؤمنين، وأما غزوة بدر فكانت للمؤمنين خاصة. قوله: ﴿ نُدَاوِلُهَا ﴾ المداولة نقل الشيء من واحد لآخر، والمعنى إنما جعلنا الأيام دولاً بين الناس يوماً للكفار ويوماً للمسلمين لتتعظوا وليعلم الله إلخ. قوله: (علم ظهور) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن علم الله قديم لا يتجدد فكيف ذلك؟ فأجاب: بأن المراد ليظهر متعلق عمله بتمييز المؤمن من غيره، والمعنى أن نصرة الكافر تارة ليست لمحبة الله له، بل ليتميز المؤمن من المنافق وليتخذ منكم شهداء، وإلا فالله لا يجب الكافرين. قوله: (أي يعاقبهم) تفسير لعدم محبة الله للظالمين. قوله: (وما ينعم به عليهم استدراج) جواب عن سؤال مقدر تقديره إنا نرى الله ينصرهم تارة وينعم عليهم بالدنيا وزينتها، فأجاب بأنها نقم في صورة نعم.
قوله: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ﴾ إلخ هذه حكمة ثالثة، والمعنى إنما جعلنا الغلبة أولاً، للكفار ليتميز المؤمن من الكافر ويتخذ منهم شهداء، ويخلص المؤمنين من الذنوب، ويأخذ الكفار شيئاً فشيئاً قوله: (بما يصيبهم) أي بسبب ما يصيبهم من الجهد والمشقة. قوله: ﴿ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي يأخذهم ويهلكهم شيئاً فشيئاً، لأن المحق الإهلاك شيئاً فشيئاً. قوله: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ أم منقطعة فلذا فسرها ببل التي للإضراب الإنتقالي، والهمزة التي قدرها المفسر للإستفهام الإنكاري، والمعنى لا تظنوا يا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة مع السابقين بمجرد الإيمان من غير جهاد وصبر بل مع الجهاد والصبر وهو خطاب لأهل أحد حيث أمروا بالقتال مع كونهم جرحى وتشديد عليهم في ذلك، والمقصود من ذلك تعليم من يأتي بعدهم، وإلا فهم قد جاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا صبراً جميلاً. قوله: ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾ لما حرف نفي وجزم وقلب تفيد توقع الفعل، فلذا عبر بها دون لم وقد حصل ذلك ويعلم مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون وحرك بالكسر تخلصاً من التقاء السكانين، والله فاعل يعلم، وذلك كناية عن عدم حصول الجهاد والصبر، لأن ما لم يعلمه الله لم يكن حاصلاً. قوله: ﴿ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ هكذا بالنصب باتفاق القراء بأن مضمرة بعد واو المعية على حد لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قوله: (في الشدائد) أي البلايا كالأمراض والفقر والمحن، فيكون عن الله راضياً في السراء والضراء، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ ﴾ يدخل فيه جهاد النفس بمخالفة شهواتها لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴾[النازعات: ٤٠-٤١].
قوله: (فيه حذف إحدى التاءين) أي تخفيفاً، قال ابن مالك: وما بتاءين ابتدى قد يقتصر   فيه على تاكتبين العبروقوله: ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ﴾ يحتمل أن الضمير عائد على الموت بمعنى سببه وهو الحرب، أو على العدو نفسه وهو وإن كان غير متقدم الذكر لكنه معلوم من السياق. قوله: (ما نال شهداؤه) أي من الأجر العظيم، ففي الحديث:" اطلع الله على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". قوله: (أي سببه) ويحتمل أن الضمير عائد على العدو. قوله: (أي بصراء) أشار بذلك إلى أن نظر بصرية تنصب مفعولاً واحداً قدره بقوله الحال، ويحتمل أنها علمية ومفعولاها محذوفان تقديرهما تعلمون إخوانكم ما بين مقتول ومجروح. قوله: (ونزل في هزيمتهم) أي في واحد حين تفرقوا. قوله: (لما أشيع) أي أشاع المنافقون. قوله: (إن النبي قتل) أي وكذا أبو بكر وعمر.
قوله: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾ أي لا رب معبود فالقصر قصر قلب، والمقصود من ذلك الرد على المنافقين، حيث قالوا لضعفاء المسلمين إن كان محمد قتل فارجعوا إلى دينكم ودين آبائكم، فأفاد أن محمداً عبد مرسل يجوز عليه الموت لا رب معبود حتى تترك عبادة الله من أجل موته، لأن المقصود من وجوده تبليغ رسالة ربه، ولذلك نزل قرب وفاته﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾[المائدة: ٣] ولكن يجب علينا تعظيمه واحترامه حياً وميتاً، واعتقاد أن معجزاته باقية واتباعه وطاعته، قال تعلى:﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[الأنبياء: ١٠٧] ولم يقل لأصحابك، وقال عليه الصلاة والسلام:" حياتي خير لكم ومماتي لكم فمن اعتقد أن النبي لا نفع به بعد الموت بل هو كآحاد الناس فهو الضال المضل ". قوله: ﴿ أَوْ قُتِلَ ﴾ أي فرضاً. قوله: (رجعتم إلى الكفر) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾ كناية عن الرجوع للكفر لا حقيقة الإنقلاب على الأعقاب الذي هو السقوط إلى خلف، وهذه الآية قالها أبو بكر الصديق يوم وفاته صلى الله عليه وسلم حين طاشت عقول الصحابة وارتد من ارتد، حتى قال عمر: كل من قال إن محمداً قد مات رميت عنقه بسيفي، فبلغ أبا بكر الخبر فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكشف اللثام عن وجهه وقبله بين عينيه وقال طبت يا حبيبي حياً وميتاً، كنت أود لو أفيدك بنفسي ومالي، ولكن قال الله إنك ميت وإنهم ميتون، وخرج وجمع الصحابة وصعد المنبر وخطب خطبة عظيمة قال فيها: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾ الآية، فثبت الناس حتى قال عمر: والله كأن هذه الآية لم أسمعها إلا من أبي بكر. قوله: (والجملة الأخيرة) أي التي هي قوله: ﴿ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ ﴾ هذا رد لمن يفر من القتال خوفاً على نفسه من الموت. قوله: (لا يتقدم ولا يتأخر) أي لقوله تعالى:﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[الأعراف: ٣٤].
قوله: ﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي بصرف نيته للدنيا وزخارفها تاركاً الآخرة وما فيها. قوله: (وما قسم له) من الدنيا يأتيه على كل حال، فلا فرق بين من يطلبها ومن لا يطلبها، فلا تجعل الدنيا أكبر همك ولا مبلغ علمك، بل اجعل مطمح نظرك عبادة ربك، قال تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات: ٥٦] وما قدر لك فلا بد من وصوله إليك طلبته أو لا.
قوله: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ ﴾ هذا من جملة التسلية لأهل أحد على ما أصابهم، وفيه توبيخ لمن انهزم منهم وتحريض على القتال، وأصل: كأين أي الاستفهامية دخلت عليها كاف التشبيه فأكسبتها معنى كم الخبرية فلذا فسرها بها، كأين مبتدأ ومن نبي ميزها وجملة قتل خبرها ونائب فاعل قتل ضمير يعود على كأين المفسر بقوله من نبي، وعلى القراءة الثانية يكون الضمير فاعل قاتل، وقوله: ﴿ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ﴾ مبتدأ وخبر والجملة حالية. واستشكلت القراءة الأولى بأنه لم يرد أن نبيّاً قتل في حال الجهاد، بل متى أمر النبي بالجهاد عصم من القتل، ومقتضى الآية وقوع ذلك. وأجيب بأن المعنى قتله قومه ظلماً في غير حرب، ولكن الأحسن أن نائب الفاعل قوله: ربيون، ومعه ظرف متعلق بقتل، فالقتل واقع للربيين لا للأنبياء، وهو رد القول الكفار لو كا نبياً ما قتلت أصحابه وهو بينهم، هذا الإعراب يجري في القراءة الثانية أيضاً، والضمير في أصابهم يعود على الأمم، ويتفرع على هذين الإعرابين صحة الوقف على قتل أو قاتل على الإعراب الأول دون الثاني. قوله: (والفاعل) أي حقيقة على القراءة الثانية، أو حكماً على القراءة الأولى. قوله: ﴿ رِبِّيُّونَ ﴾ هكذا بكسر الراء جمع ربي نسبة للرب على غير قياس ومعناه العالم الرباني، أو منسوب للربة بالكسر بمعنى الجماعة وعليه مشى المفسر، وقياس الأول فتح الراء وقد قرأ بها ابن عباس، وقرئ بضم الراء بمعنى الجماعة الكثيرة أيضاً، والقراءتان شاذتان، والمعنى لا تحزنوا على ما كلم فكم من نبي قتل والحال أن معه أصحابه فلم يضعفوا إلخ ورد أنه لما نزلت الآية أخذ النبي وأصحابه في التوجه خلف الأعداء فساروا ثمانية أميال صحيحهم وجريحهم وباتت الهزيمة على الكفار. قوله: ﴿ فَمَا وَهَنُواْ ﴾ هكذا بفتح الهاء وقرئ بسكون الهاء وكسرها. قوله: ﴿ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ ﴾ قيل أصله استكنوا زيد في الفتحة فصارت ألفاً، وقيل أصله استكونوا نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفاً. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ﴾ أي الربيين وهذا بيان محاسن أقوالهم بعد بيان محاسن أفعالهم. قوله: (عند قتل نبيهم) ظاهره حتى في جهاد الكفار وتقدم ما فيه. قوله: ﴿ فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي بسبب دعائهم وحسن أفعالهم. قوله: (والغنيمة) إن قلت إنها لم تحل إلا لهذه الأمة المحمدية، أجيب بأن المراد بالغنيمة ملك أموال الكفار ورقابهم، ولا يلزم من الملك حل أكلها. قوله: (وحسنه التفضل فوق الإستحقاق) يعني أن ثواب الآخرة هو الجنة وهو حسن، وأحسن منه الزيادة لهم فوق ما يستحقون.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ نزلت في أهل أحد حين تفرقوا، وصار عبد الله بن سلول يقول لضعفائهم امضوا بنا إلى أبي سفيان لنأخذ لكم منه عهداً ألم أقل لكم إنه ليس بنبي. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي كعبد الله بن سلول وغيره من المنافقين. قوله: ﴿ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ﴾ أي للدنيا بالأسر والخزي والآخرة بالعذاب الدائم. قوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ ﴾ أفعل التفضيل ليس على بابه. قوله: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ ﴾ هذا وعد حسن من الله بنصر المسلمين وخذلان الكفار. قوله: (بسبب إشراكهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وما مصدرية. قوله: (حجة) سماها سلطاناً لقوتها ونفوذها. قوله: (وهو) أي ما لا ينزل به سلطاناً. قوله: ﴿ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ ﴾ هذا بيان لحالهم في الآخرة بعد أن بين حالهم في الدنيا، وكل ذلك مسبب عن الإشراك بالله، فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ سبب نزولها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجعوا إلى المدينة تذاكروا ما وقع في تلك الغزوة حيث قالوا إن الله وعدنا بالنصر على لسان نبيه فلأي شيء غلبنا، فنزلت الآية رداً عليهم. قوله: ﴿ وَعْدَهُ ﴾ مفعول ثاني لصدق لأنه يتعدى لمفعولين الأول لنفسه والثاني إما كذلك كما هنا أو بحرف الجر وهو في قوله: ﴿ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ صَدَقَكُمُ ﴾ وحسن يطلق بمعنى علم ووجد وطلب وقتل وهو المراد هنا. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾ حتى ابتدائية بمعنى أن ما بعدها مستأنف، ويصح أن تكون غائبة بمعنى إلى، والمعنى ولقد استمر معكم النصر إلى أن فشلتم وتنازعتم وعصيتم فتخلف وعده ومنعكم النصر وإذا على الأول ظرف لما يستقبل من الزمان وعصيتم معطوف على فشلتم وجواب إذا محذوف قدره المفسر بقوله: (منعكم نصره). قوله: ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ ﴾ معطوف على ذلك المحذوف، وقوله: ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ﴾ إلخ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله: (جبنتم عن القتال) أي بسبب الإلتفات للغنيمة. قوله: (فتركتم المركز) أي الموضع الذي أقامكم فيه رسول الله، فإنه تقدم أنه قسم الجيش خمسة أقسام ساقة ومقدم وجناحان وقلب. وأمرهم بالثبات سواء حصل النصر أو الهزيمة، فظهرت لهم أمارات النصر أولاً، فبعضهم ترك مركزه وذهب للغنيمة، والبعض ثبت. قوله: ﴿ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ ﴾ تنازعه كل من فشلتم وتنازعتم وعصيتم، فأعمل الأخير وأضمر في الأولين وحذف. قوله: ﴿ مَّا تُحِبُّونَ ﴾ مفعول ثان لأرى، والكاف مفعول أول. قوله: (من النصر) أي أولاً فلما وقع الإختلاف تغير الحال. قوله: (دل عليه ما قبله) أي وهو قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾.
قوله: (كعبد الله بن جبير) أي وقد كان أميراً على الرماة. قوله: ﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ﴾ أي عن المؤمن منكم بعد توبته. قوله: (اذكروا) قدره إشارة إلى أن إذ ظرف لمحذوف، ويصح أنه ظرف لقوله: عصيتم، التقدير وقت بعدكم إلخ. قوله: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ ﴾ فلعله رباعي بمعنى تبعدن، وقرئ تصعدون من الثلاثي بمعنى تذهبون متفرقين في البرية. قوله: ﴿ وَلاَ تَلْوُونَ ﴾ الجمهور على أنها بواوين، وقرئ شذوذاً بإبدال الواو الأولى همزة وأصلها تلويون بواوين بينهما ياء هي لام الكلمة فاعل بحذفها، وقرأ الحسن شاذاً بواو واحدة. قوله: (تعرجون) أي لا تقيمون مع أحد بل كل واحد ذاهب على حدة. قوله: ﴿ يَدْعُوكُمْ ﴾ أي يناديكم ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، وقيل ثمانية عشر رجلاً، وقيل لم يبق معه إلا طلحة عن يساره وجبريل عن يمينه، وجمع بين الأقوال بأن ذلك بحسب اختلاف الأوقات حين احتاطت به الكفار. قوله: (أي من ورائكم) أشار بذلك إلى أن الأخرى بمعنى آخر وفي بمعنى من، ويصح أن يبقى الكلام على ما هو عليه، ويكون المعنى والرسول يدعوكم في ساقتكم وجماعتكم الأخرى. قوله: (يقول إلي عباد الله) تمامه أنا رسول الله من يكر فله الجنة. قوله: (فجازاكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالثواب مطلق المجازاة وإلا فالثواب هو ما يكون في نظير الأعمال الصالحة وإنما سماه ثواباً لأن عاقبته محمودة، قوله: (أي مضاعفاً) أي زائداً. قوله: (متعلق بعفا) أي وتكون لا أصلية والمعنى عفا عنكم ليذهب عنكم الحزن. قوله: (أوبأثابكم) أي فيكون المعنى أثابكم غماً بغم لأجل حزنكم على فوات الغنيمة وعلى قتل أصحابكم فقوله: (فلا زائدة) أي على هذا الثاني فقط. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي فيعلم المخلص من غيره فإن منهم من لزم رسول الله ولم ينتقل من موضعه أبداً وهو طلحة بن عبد الله، ومنهم من ثبت لولا غلبة الكفار كبقية الأثني عشر أو الثمانية عشر، ومنهم من فر خوفاً من القتل، ومنهم من فر ابتداء لإظهار هزيمة المؤمنين وهؤلاء منافقون وقد ظهروا في تلك الغزوة وافتضحوا، وأما المؤمنون فقد تم لهم النصر وعفا الله عن مسيئهم.
قوله: ﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ ﴾ ثم للترتيب بدليل تصريحه بالبعدية بعد ذلك بقوله: ﴿ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ ﴾، قوله: (أمنا) أشار بذلك إلى أن الأمنة والأمن بمعنى واحد وهو الطمأنينة، زال سبب الخوف أولاً، وقيل إن الأمن هو الطمأنينة مع زوال سبب الخوف، والأمنة الطمأنينة مع وجود اسبابه. قوله: (بدل) أي بدل كل من كل وهو ظاهر، لأن الأمنة هي النعاس بعينها، وقيل بدل اشتمال لأن الأمنة لها اشتمال بالنعاس وهو له اشتمال بها، لأنه لا يحصل النعاس إلا لآمن، قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان فعلى الياء الضمير عائد على النعاس، وعلى التاء الضمير عائد على الأمنة، قوله: (يميدون) أي يميلون، وقوله: (تحت الجحف) بفتحتين وتقديم الحاء جمع حجفة كقصبة، وقصب اسم للترس والدرقة كما في المصباح. قوله: (وتسقط السيوف منهم) أي المرة بعد المرة وكلما سقطت أخذوها. قوله: ﴿ وَطَآئِفَةٌ ﴾ أي من غيركم وهم المنافقون، قوله: ﴿ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ أهم فعل ماض والتاء علامة التأنيث وأنفسهم فاعل، والمعنى أنهم يحرصون على نجاة أنفسهم من الموت لا تشييداً للدين. قوله: (ظناً) ﴿ غَيْرَ ﴾ (الظن) ﴿ ٱلْحَقِّ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ صفة لموصوف محذوف مفعول ليظنون، وقوله: ﴿ ٱلْحَقِّ ﴾ صفة لمصدر محذوف مضاف لغير، وقوله: ﴿ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ﴾ صفة ثانية وهو منصوب بنزع الخافض، والمعنى أن هذه الطائفة حملتهم أنفسهم على الهزيمة لنجاتها، ومن أوصافهم أنهم يظنون في ربهم ظناً باطلاً مثل ظن الجاهلية بمعنى أهل الجهل والكفر حيث ظنوا أن النبي قتل وأن دينه قد بطل، قال تعالى:﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ ﴾[فصلت: ٢٣] وقال تعالى:﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ ﴾[الحجر: ٥٦] فحسن الظن بالله من علامات الإيمان، قال تعالى في الحديث القدسي:" أنا عند ظن عبدي بي ما شاء "وبالجملة فمن أراد أن يعلم عاقبة ربه فلينظر إلى ظنه بربه. قوله: ﴿ يَقُولُونَ ﴾ أي اعتراضاً على رسول الله وتكذيباً له. قوله: ﴿ هَل لَّنَا ﴾ استفهام انكاري بمعنى النفي أي ما ثبت لنا من النصر شيء، قلنا خبر مقدم وشيء ومبتدأ مؤخر، ومن زائدة فيه، ومن الأمر حال من شيء، قوله: (بالنصب) توكيد أي للأمر، وخبر إن قوله لله، قوله: (أو بالرفع مبتدأ إلخ) أي والجملة خبر إن والقراءتان سبعيتان، قوله: (أي القضاء له) تفسير والمعنى أن النصر بيد الله والله هو الفاعل المختار، وليس النصر بكثرة العدد والعدد. قوله: (بيان لما قبله) أي استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما الذي يخفونه. قوله: ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ ﴾ أي الإختيار والرأي. قوله: (لكن أخرجنا كرهاً) أي فحصل القتل فينا. قوله: ﴿ قُل ﴾ (لهم) أي رداً لمقالتهم واعتقادهم دفع قضاء الله المبرم. قوله: ﴿ لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ أي لو لم تخرجوا إلى أحد ومكثتم في بيوتكم وقوله: ﴿ لَبَرَزَ ﴾ جواب قوله: ﴿ لَّوْ ﴾ والمعنى لخرج من قضي عليه بالموت إلى المحل الذي مات به لسبب من الأسباب ونفذ حكم الله فيه، مما اتفق أن سليمان بن داود عليهما السلام كان جالساً، وإذا بملك الموت أقبل عليه ونظر إلى رجل في مجلسه، فارتعدت فرائص الرجل، فلما ذهب ملك الموت قال الرجل: يا نبي الله إني خفت من نظرة هذا الرجل، فقال: هو ملك الموت، قال الرجل: مر الرياح لتذهب بي إلى اقصى البلاد ففعل، فبعد لحظة وإذا بملك الموت قد أقبل على سليمان فقال له: إن الله أمرني أن أقبض روح ذلك الرجل بتلك الأرض، فلما وجدته في مجلسك تحيرت، فكان منه ما كان، فهو قد خرج هارباً وفي الواقع خرج لمصرعه. قوله: ﴿ وَ ﴾ (فعل ما فعل) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ لِيَبْتَلِيَ ﴾ لمحذوف والواو عاطفة لذلك المحذوف على أنزل. قوله: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ ﴾ عطف على (ليبتلي) من عطف المسبب على السبب. قوله: (ليظهر للناس) أي المؤمن الخالص من غيره. قوله: (إلا اثنا عشر) منهم أبو بكر وعلي وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وتقدم في رواية أن من بقي ثمانية عشر، وقيل لم يبق إلا طلحة، وتقدم الجمع بين هذه الروايات. قوله: (وهو مخالفة أمر النبي) أي حيث قسمهم خمسة أقسام وأقام كلاً في مركز وقال لهم لا تبرحوا عن مكانكم غلبنا أو نصرنا، فبعضهم تفرق للغنيمة، والبعض فرقه الأعداء. قوله: ﴿ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ أي عن الجماعة الذين تفرقوا للغنيمة وعصوا أمر النبي. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ هذه الجملة تأكيد وعلة لما قبلها، أي إنما عفا عنهم لأنه كثير المغفرة للذنوب واسع الحلم، فلا يعجل بالعقوبة على العاصي لأن الكل في قبضته، ولا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوات.
قوله: ﴿ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني لا تشبهوهم في قولهم في شأن من مات أو قتل، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فيه يعتقدون أن الفرار نافع مع قضاء الله. قوله: ﴿ لإِخْوَانِهِمْ ﴾ أي في النسب أو الكفر أو الضلال، والمعنى لا تكونوا مثلهم في كفرهم ولا في قولهم لإخوانهم إلخ. قوله: ﴿ إِذَا ضَرَبُواْ ﴾ إذا هنا لمجرد الزمان وأتى بإذا إشارة إلى أن هذا الأمر محقق منهم. قول: (سافروا) أي مطلقاً لغزو أو لا. قوله: (فماتوا) أخذه من قوله الآتي ﴿ مَا مَاتُواْ ﴾ قوله: ﴿ غُزًّى ﴾ خبر كان منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو. قوله: (جمع غاز) أي على غير قياس، وقياس المعتل غزاة كقضاة. قوله: (فقتلوا) أخذه من قوله: ﴿ وَمَا قُتِلُواْ ﴾.
قوله: ﴿ مَا مَاتُواْ ﴾ راجع لقوله: ﴿ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ وقوله: ﴿ وَمَا قُتِلُواْ ﴾ راجع لقوله: ﴿ أَوْ كَانُواْ غُزًّى ﴾.
قوله: (أي لا تقولوا كقولهم) أي فإنه شائبة من الكفر والضلال واعتقاده كفر. قوله: ﴿ لِيَجْعَلَ ﴾ اللام للعاقبة والصيرورة كهي في قوله تعالى:﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص: ٨] والمعنى أن الكفار قصدوا بهذا الكلام اللوم على من خرج ومنع من يريد الخروج، فكان عاقبة ذلك كونه يجعل حسرة في قلوبهم. قوله: (فلا يمنع عن الموت قعود) أي عن الغزو والسفر، ولا يجلب الغزو والسفر موتاً، بل لكل أجل كتاب﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[الأعراف: ٣٤].
قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الياء يكون وعيداً للكفار، وعلى التاء يكون تحذيراً للمؤمنين. قوله: (فيجازيكم به) أي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قوله: (لام قسم) أي موطئة تقديره والله لئن قتلتم. قوله: (بضم الميم وكسرها) قراءتان سبعيتان. وقوله: (من مات يموت) راجع للضم ووزنه قال يقول، وأصله يموت بسكون الميم وضم الواو نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها. قوله: (ويمات) راجع لقوله: (وكسرها) فيكون من باب خاف يخاف، وأصله يموت بسكون الميم وفتح الواو، نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها ثم تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً. قوله: (أي أتاكم الموت فيه) أي في السفر. قوله: ﴿ لَمَغْفِرَةٌ ﴾ أي تأتيه، وقوله: ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي إحسان فالموت خير من الحياة إن كان في سفر غير معصية أو جهاد فإنه شهادة على كل حال. قوله: (جواب القسم) أي جواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، لقول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم. جواب ما أخرت. قولخ: (وهو في موضع الفعل) أي فتقديره لغفرت لكم ورحمتكم، وظاهره أن جواب القسم لا بد أن يكون جملة فعلية وليس كذلك، بل يكون جملة اسمية، وقدم القتل هنا على الموت لأنه أهم وأشرف، وقدم الموت أولاً لمراعاة الترتيب. وآخر لأنه أعم من القتل. قوله: ﴿ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ يحتمل أن ما مصدرية، والمعنى خير من جمعكم الدنيا أو موصولة، والعائد تقديره خير من الذي تجمعونه من الدنيا. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بالوجهين) أي السابقين من ضم الميم وكسرها.
قوله: ﴿ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ ﴾ قال بعضهم إن الآية تشير إلى مقامات العبودية الثلاثة: الأول من يعبد الله خوفاً من ناره وإليه الإشارة بقوله لمغفرة. الثاني من يعبد الله شوقاً إلى جنته وإليه الإشارة بقوله ورحمة. الثالث من يعبد الله لذاته لا طمعاً ولا خوفاً وإليه الإشارة بقوله لالى الله تحشرون، وفي الحقيقة الثالثة قد جاز جميعها لكن من غير قصد منه، لأن مشاهدة الله لا تكون إلا في الجنة ولا بد. ومن ذلك قوله بعض العارفين: ليس قصدي من الجنان نعيماً   غير أني أريدها لأراكقوله: (ما زائدة) أي للتوكيد، والمعنى فبسبب رحمة من الله كنت ليناً سهلاً على الخلق قال أنس بن مالك: خدمت رسول الله عشر سنين فما لامني على شيء فعلته أو تركته. قوله: ﴿ رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ التنوين للتعظيم. قوله: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ﴾ أي صعب القول والفعل، ومن سهولته قبول توبة وحشي قاتل عمه حمزة. قوله: (سيء الخلق) المناسب أن يفسره بصعوبة القول والفعل. قوله: ﴿ غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ ﴾ أي قاسية. قوله: ﴿ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ أي ذهبوا إلى الكفار ولم يبق منهم أحد، وأما من قبله من الأنبياء فقد عاملوا قومهم بالجلال، كنوح حين قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، وكهود وصالح، فنبينا رحمة للعالمين ولولا رحمته بنا ما بقي منا أحد، فكان شفيعاً عند ربه لنا في كل بلاء عام طلبته الأنبياء لأممهم. قوله: ﴿ فَٱعْفُ عَنْهُمْ ﴾ شروع في ذكر ترقيه لهم، فذكر أولاً العفو عنهم، ثم الاستغفار لهم ليطهرهم ربهم من الذنوب، فإذا طهروا وصاروا أصفياء خلقاء شاورهم في الأمر. قوله: (تطييباً لقلوبهم) أي تونيساً وجبراً لئلا ينفر ضعفاء المؤمنين لو لم تحصل المشاروة منه. قوله: (وليستن ربك) أي ليصير سنة لمن يأتي بعدك، وليظهر صاحب الرأي السديد من غيره، ولذا قدموا بعد النبي أبا بكر لأنه كان يشاوره كثيراً، ثم عمر لأن القرآن كان ينزل على طبق ما يقول، واختلف هل كانت المشاورة في أمر الدين والدنيا أو الدنيا فقط، فقيل بالأول ولكن لا يتبع إلا الوحي، وإنما المشاورة تطييباً لخاطرهم، وقيل بالثاني وهو الظاهر. قوله: (ثق به) أي فلا يردك عنه أحد. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ أي يثيب المفوضين الأمور إليه.
قوله: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ ﴾ هذا خطاب تشريف للمؤمنين المجاهدين. قوله: (يعنكم) أشار بذلك إلى أن النصر بمعنى الإعانة، ويطلق بمعنى الجمع، قال تعالى:﴿ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾[هود: ٦٣] وبمعنى الإنتقام، قال تعالى:﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ ﴾[القمر: ١٠].
قوله: ﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ أي ولو اجتمعت عليكم أهل الأرض جميعاً. قوله: (أي بعد خذلانه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف والضمير عائد على الله. قوله: ﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولم يقل فلا ناصر لكم إشارة لعدم تقنيطهم من النصر تلطفاً بهم، أي فارجعوا إليه ينصركم، قال تعالى:﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ ﴾[الروم: ٤٧].
قوله: ﴿ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي المصدقون بأن النصر والخذلان من عند الله، والمعنى فإذا علمتم أيها المؤمنون أن من نصره الله فلا يغلبه أحد، ومن خذله لا ناصر له سواه، فثقوا به واعتمدوا عليه. قوله: (لما فقدت قطيفة) أي من الغنيمة. قول: (فقال بعض الناس) أي من المنافقين. قوله: (ينبغي) أي يمكن والمعنى لا يتأتى ذلك لأن الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، وأما قوله تعالى:﴿ قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾[يوسف: ٧٧] حكايكة عن سيدنا يوسف، فقال بعض المفسرين: إن يوسف وهو صغير وجد صنماً عند جده، فأخذه خفية وكسره ووضعه في محل القذر. قوله: (فلا تظنوا به ذلك) أي لأنها خيانة وهي محرمة والنبي معصوم من ذلك، فمن جوز المعصية على النبي فقد كفر لما فاته للعصمة الواجبة. قوله: ﴿ وَمَن يَغْلُلْ ﴾ كلام مستأنف قصد به التحذير لغير المعصومين. قوله: (حاملاً له على عنقه) أي والناس ناظرون له فضيحة له، روى الشيخان عن أبي هريرة قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجيء يم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً "والرغاء صوت البعير، والثغاء صوت الشاة، والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة، والحمحمة صوت الفرس وقوله لا ألقى نفى معناه النبي أي لا يغل أحدكم حتى القاه هكذا. قوله: ﴿ أَفَمَنِ ﴾ الهمزة مقدمة من تأخير لأن الإستفهام له الصدارة. قوله: (ولم يغل لم يسرق ولم يخن). قوله: ﴿ بِسَخَطٍ ﴾ مصدر قياسي لسخط بكسر الخاء، وله مصدر سماعي وهو سخط بضم السين وسكون الخاء. قوله: (هي) هذا هو المخصوص بالذم، وقوله: (لا) جواب الاستفهام.
قوله: ﴿ هُمْ دَرَجَٰتٌ ﴾ أي رتب فمنهم المقبول فله الدرجات العلا، ومنهم المردود فله الدركات السفلى، وفيه تغليب على الدركات لشرفها. قوله: ﴿ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ ﴾ هذا ترق في تعظيمه صلى الله عليه وسلم، فنزهه أولاً عن الغلول، ثم بين أو وجوده بينهم نعمة عظيمة أنعم بها عليهم، وفي الحقيقة هو نعمة حتى على الكفار، وإنما خص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وتدوم عليهم، وأما الكفار وإن آمنوا به من الخسف والمسخ وكل بلاء عام ورزقوا به، إلا أن عاقبتهم الخلود في دار البوار ويتبرأ منهم ولا يشفع لهم في النجاة من العذاب. بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا   من العناية ركناً غير منهدمقوله: (لا ملكاً) أي لعدم إطاقة البشر له، قال تعالى:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾[الأنعام: ٩].
قوله: (ولا عجمياً) أي لعدم فهمهم عنه ما أرسل به، ومن نعم الله أيضاً كون القرآن عربياً، قال تعالى:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾[فصلت: ٤٤] الآية. قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي بنفسه أو بواسطة كالعلماء. قوله: (السنة) العلم النافع. قوله: (مخففة) أي من الثقيلة لا عمل لها لقول ابن مالك: وخففت إن فقل العمل   وتلزم اللام إذا ما تهملقوله: ﴿ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ أي كفر واضح ظاهر، قال العارف البرعي: أتى والجاهلية في ضلال   وكفر تعبد الحجر الأصناوتأكل ميتة ودما وتسطو   على مؤودة الأطفال دفنافجاء بملة الإسلام يتلو   مثاني في الصلاة الخمس مثنىقوله: ﴿ أَوَ لَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ ﴾ الهمزة داخلة على قوله: ﴿ قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ﴾ التقدير أقلتم أني هذا حين أصابتكم إلخ. قوله: (وأسر سبعين) لأن الفخر بالمأسور أعظم من المقتول لدلالته على عظم الشجاعة، فلذا قال قد أصبتم مثيلها، والمقصود من ذلك التسلية للمؤمنين. قوله: (والجملة الأخيرة) أي وهي قوله قلتم. قوله: (محل الإستفهام الإنكاري) أي فهي بمعنى النفي والمعنى لا تقولوا ذلك حين أصابتكم مصيبة، لأنه من عند أنفسكم فسببه ظاهر فلا تعجب منه. قوله: (بحلافكم) أي مخالفتكم والمعنى جازاكم عليها.
قوله: ﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾ شروع في بيان الحكم التي ترتبت على هزيمة المؤمين بأحد. قوله: (علم ظهور) أي بالنسبة للخلق. قوله: (أصحابه) أي وكانوا ثلاثمائة. قوله: ﴿ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ ﴾ أي إما في المقدم بالسيف، أو في المؤخر بالسهام. قوله: (بتكثير سوادكم) أي عددكم وأشخاصكم. قوله: (بما أظهروا) أي بسببه أي فاظهارهم الخذلان للمؤمنين سبب في كونهم أقرب للكف من الإيمان. قوله: (بدل من الذين قبلهم) أي وهو قوله الذين نافقوا. قوله: ﴿ وَقَعَدُواْ ﴾ الجملة حالية فلذا قدر المفسر قد. قوله: ﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ ﴾ ورد أنه نزل بهم الموت وهم في دورهم، فمات منهم سبعون من غير قتال في يوم أحد. قوله: (ونزل في الشهداء) قيل شهداء بدر وقيل أحد وقيل شهداء بئر معونة، وهم سبعون أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجد يعلمونهم القرآن فقتلوهم عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا واحد فر هارباً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الوعد الحسن لكل من قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وسبب ذلك أن الشهداء الذين قتلوا لما رأوا ما رأوا من الحياة والرزق والنعيم الدائم، قالوا ربنا ومن يوصل خبرنا لإخواننا الأحياء، فقال لهم الله أنا أبلغ خبركم لأخوانكم، فقال تعالى:﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ﴾[آل عمران: ١٦٩].
قوله: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ الخطاب قيل للنبي، وقيل لكل من يصلح للخطاب، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ مفعول أول و ﴿ أَمْوَاتاً ﴾ مفعول ثان و ﴿ بَلْ ﴾ للإضراب الإنتقالي و ﴿ أَحْيَاءٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (وهم) قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (في سبيل الله) أي طاعته، والمعنى لم يكن لهم قصد إلا إعلاء دينه، قوله: ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ بل للعطف، وما بعدها خبر لمحذوف، والجملة معطوفة على ما قبلها، وهذه الحياة ليست كحياة الدنيا بل هي أعلى وأجل منها، لأنهم يسرحون حيث شاءت أرواحهم. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ خبر ثان، والمعنى أنهم في كرامة ربهم وضيافته، وقوله: ﴿ يُرْزَقُونَ ﴾ خبر ثالث. قوله: (كما ورد في الحديث) أي وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله جعل أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش ". وأما أجسادهم فمحلها القبور، غير أن الأرواح لها تعلق بها، فلذلك لا يحصل لأجسادهم بلاء، فأرواحهم لها جولان عظيم من البرزخ إلى أعلى السماوات إلى داخل الجنان، والطيور الخضر لها كالهوادج مع كونها متصلة بجسم صاحبها، وما وصل للروح من النعيم يحصل للجسم أيضاً، وذلك نظير النائم، فإن النائم يرى أن روحه في المشرق أو في المغرب مع كونها متصلة بجسمه، وكالأولياء الذين أعطاهم الله التصريف، فإن الواحد منهم يكون جالساً في مكان، وروحه تسرح في أمكنة متعددة، وربك على كل شيء قدير، ولذلك قال الله تعالى في آية البقرة:﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾[البقرة: ١٥٤] ومثل الشهداء الأنبياء بل حياة الأنبياء أجل وأعلى، وأما المؤمنون غير الشهداء والأنبياء فأرواحهم تسرح من القبر إلى باب الجنة، وتنظر ما أعد لها من النعيم المقيم، لكن لا تدخلها إلى يوم القيامة، وذلك يسمى عالم البرزخ، واتساعه بالنسبة للدنيا كاتساع الدنيا بالنسبة لبطن الأم. قوله: ﴿ بِمَآ آتَاهُمُ ﴾ متعلق بقوله: ﴿ فَرِحِينَ ﴾ والذي آتاهم الله من فضله هو حياتهم ورزقهم قوله: ﴿ وَ ﴾ (هم) ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أن يسبتشرون خير لمحذوف، والجملة إما حالية من الضمير في فرحين أو مستأنفة، قوله: (بالذين لم يلحقوا بهم) أي في الموت، والمعنى أنهم يفرحون بما أعطاهم الله، ويفرحون بما أعد لإخوانهم الذين لم يموتوا الآن، سواء كانوا موجودين أو سيوجدون إلى يوم القيامة، لدخولهم الجنة وإطلاعهم على منازل المؤمنين فيها. قوله: ﴿ مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾ حال من الواو في يلحقوا، أي حال كون الذين لم يلحقوا بهم متخلفين عنهم. قوله: (المعنى يفرحون) أي المتقدمون، وقوله: (بأمنهم) أي المتأخرين. قوله: ﴿ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي لهم ولإخوانهم. قوله: (بالفتح عطفاً على نعمة) أي ويكون المعنى يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع إلخ، وقوله: (والكسر) استئنافاً أي في معنى العلة لما قبله، والقراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ ﴾ نزلت في أهل أحد حين دعاهم للقتال ثانياً بعد حصول التفرقة لهم، فخرجوا وساروا خلف العدو ثمانية أميال، فوقع بينهم ما وقع في مكان يقال له حمراء الأسد، فحصل التوافق بين أبي سفيان والنبي أن يرفعوا القتال إلى العام القابل، والموعد بدر الصغرى، فسار أبو سفيان وأصحابه، ومكث النبي صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد من يوم الأحد إلى يوم الجمعة إذا علمت ذلك، فقول المفسر (بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان إلخ) ليس بسديد فإن الآية نزلت مدحاً لمن أجاب الرسول للقتال ثانياً في غزوة أحد يوم الأحد بعد الواقعة التي كانت يوم السبت، وتسمى غزوة يوم الأحد غزوة حمراء الأسد، وهي التي مدحهم الله بها وانجبر خللهم بها. قوله: (بأحد) المناسب أن يقول بعد ذلك يوم السبت، واستجابوا له يوم الأحد، قوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ من بيانية على حد فاجتنبوا الرجس من الأوثان. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ ﴾ شروع في ذكر غزوة بدر الثالثة وتسمى بدر الصغرى، وكانت في السنة الرابعة من شعبان وهو يوم موسم عظيم لقبائل العرب كل عام، فخرج أبو سفيان حتى نزل مر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان يا نعيم إني قد واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وهذا عام جدب، فأحب أن يكون الخلف منه لا مني، فاذهب إلى المدينة فثبطهم عن الخروج، ولك عندي عشرة من الإبل، فانطلق نعيم إلى المدينة فوجد النبي وأصحابه يتجهزون، فقال لهم ما تريدون فقالوا لميعاد أبو سفيان، فقال لهم لا تقدرون عليهم فإنهم قد جمعوا لكم فاخشوهم، فقال النبي لأخرجن اليهم ولو وحدي، فخرج النبي في ألف وخمسمائة مقاتل حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق للعرب يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، فصادفوا الموسم وباعوا ما كان معهم من التجارات، فربحوا في الدرهم درهمين ولم يأتيهم أحد من المشركين، فرجعوا بريح وأجر عظيمين، وأسلم كثير من أهل القبائل حينئذ. قوله: (أي نعيم بن مسعود) أي فأطلق الكل وأراد البعض، وقد أسلم بعد ذلك عام الخندق. قوله: (ذلك القول) أشار بذلك إلى فاعل زاد على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى). قوله: (هو) أي الله وهو إشارة للمخصوص بالمدح، وهذه الدعوة من أفضل الدعوات، وقد استعملها العارفون للمهمات وجعلوا عدتها أربعمائة وخمسين، فمن فعلها كفاه الله ما أهمه، قوله: (فلم يأتوا) أي أبو سفيان وأصحابه، وقد أسلم هو يوم الفتح بعد أن أسر قوله: (وربحوا) أي في الدرهم درهمين. قوله: (بسلامة وربح) راجع للنعمة والفضل. قوله: (أي لقائل لكم) أي وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.
قوله: ﴿ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ أشار بذلك إلى أن يخوف ينصب مفعولين الكاف المقدرة مفعول أول وأولياء مفعول ثاني، والمعنى يخوفكم شر أوليائه وهم الكفار. قوله: ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. قوله: (بضم الياء إلخ) قراءتان سبعيتان ولغتان مشهروتان، الأولى من أحزن، والثانية من حزن. قوله: (يقعون فيه) أشار بذلك إلى يسارعون مضمن معنى يقعون فعداه بفي إشارة إلى أنهم تلبسوا بالكفر وليسوا بخارجين عنه. قوله: (بنصرته) أي الكفر بمقاتله النبي وأصحابه. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً ﴾ علة للنفي وهو على حذف مضاف تقديره لن يضروا ألوياء الله شيئاً، وإنما أسند الضرر لنفسه تشريفاً لهم، كأن محاربة المسلمين محاربة له. إن قلت: إن قتلهم للمؤمنين مشاهد وهو ضرر فكيف ينفى؟ أجيب: بأنه ليس بضرر بل هو شهادة فالمؤمنون فائزون على كل حال قتلوا أو قتلوا، والكافرون خاسرون على كل حال قتلوا أو قُتلوا. قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي جزاء لمسارعتهم في الكفر ونصرتهم له. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ ﴾ هذه الجملة مؤكدة لما قبلها. قوله: (أي أخذوه بدله) يعني تركوا الإيمان واختاروا الكفر. قوله: ﴿ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ إنما وصف العذاب هنا بكونه أليماً، لأن من اشترى سلعة وخسر فها تألم منها، ووصفه فيما تقدم بالعظيم، لأن المسارعة للشيء تقتضي عظمه. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى التاء الخطاب للنبي، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مفعول أو لتحسبن، وقوله: ﴿ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ﴾ في محل المفعول الثاني، وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تظن أن إمهال الكافر بطول عمره وأكله من رزق الله ومقاتلته في أولياء الله خير له، وإنما إمهاله ليزداد إثماً وجرماً، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾[إبراهيم: ٤٢] الآية، وعلى الياء فقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ فاعل تحسبن، وقوله: ﴿ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ سد مسد مفعوليها كما قال المفسر، والمعنى لا يظن الكفار أن إملاءنا وإمهالنا لهم خير لهم بل هو شر لهم، لأننا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. قوله: (أي إملاءنا) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر اسم إن. قوله: (ومسد الثاني في الأخرى) أي ومفعولها الأول هم الذين كفروا. قوله: ﴿ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ﴾ تعليل لما قبله. قوله: ﴿ وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ وصفه بالإهانة، لأن من شأن من طال عمره في الكفر أن تنفذ كلمته ويزداد عزا، فعومل بضد ما لقي في الدنيا.
قوله: ﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ هذا وعد من الله لنبيه بأنه سيميز له المؤمن من المنافق. قوله: (أيها الناس) أي المؤمنون والكفار. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وفعل ذلك يوم أحد) أي حيث امتحنهم بالقدوم على العدو وبذل الأموال، وكذلك في غزوة الأحزاب، وكذلك في معياد أبي سفيان في العام المقبل من أحد، ففضحهم الله وميزهم في مواضع عديدة. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾ أي ما غاب عنهم. قوله: ﴿ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ ﴾ استدراك على ما تقدم في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾ كأنه قال إلا الرسل فإنه يطلعهم على الغيب. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي بزكاته) أشار بذلك إلى الكلام على حذف مضاف، أي بزكاة ما آتاهم الله من فضله. قوله: (مقدراً قبل الموصول) أي فتقديره ولا تحسبن بخل الذين يبخلون ألخ خيراً لهم إذا علمت ذلك، فقول المفسر بخلهم فيه تسمح، لأن المقدر قبل الموصول يكون مضافاً له لا للضمير، وإنما المضاف للضمير وهو ما قدر قبل الضمير. قوله: (وقيل الضمير) أي فتقديره ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ ألخ، بخلهم خيراً لهم. قوله: (كما ورد في الحديث) أي وهو قوله عليه السلام" يمثل مانع الزكاة بشجاع أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزميته ويقول أنا كنزك أنا مالك "ثم تلا ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ الآية، وقال تعالى:﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ ﴾[التوبة: ٣٥] الآية، وهذا إذا كان المال من حلال فما بالك إذا كان من حرام وبخل به. قوله: ﴿ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ هذا كالدليل لما قبله، كأنه قال لا معنى للبخل بالمال، فإنه لله يعطيه لمن يشاء ليصرفه فيما أمر به مدة حياته، فإذا مات رجع المال لصاحبه. قال الشاعر: وما المال والأهلون إلا ودائع   ولا بد يوماً أن ترد الودائع
قوله: ﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد سمع إلخ. وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالدخول في الإسلام، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، قال كبراء اليهود كحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وفنحاص بن عاذوراء، لأبي بكر الصديق حين أمرهم بما ذكر على لسان رسوله (إن الله فقير ونحن أغنياء) ولو كان غنياً ما استقرضنا، ومعنى سمعه له علمه وإحصاءه والمجازاة عليه. قوله:﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[البقرة: ٢٤٥] هذا من تلطف الله بعباده وتنزله لهم، وإلا فالملك لله وحده، وإنما سماها قرضاً لأن جزاءه عليه كمجازاة المقترض أو أعظم، فمن إحسانه عليها خلق ونسب إلينا، وليس معناه أقرضوا الله لينتفع به، بل معناه أعطوا الفقراء لأجلي ومجازاتكم عليَّ. قوله: (وفي قراءة بالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى هذه القراءة يكون الموصول وصلته نائب الفاعل، وعلى الأولى يكون مفعولاً، والفاعل ضمير يعود على الله. قوله: (بالنصب والرفع) لف ونشر مرتب وهو معطوف على محل الموصول، وصلته محله إما نصب على قراءة النون، أو رفع على قراءة الياء. قوله: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ أي حتى في اعتقادهم. إن قلت: إن ذلك كان في أجدادهم فلم أوخذوا به؟ أجيب: بأن رضاهم به صيره كأنه واقع منهم، لأن الرضا بالكفر كفر. قوله: (أي الله) هذا تفسير لقراءة الياء، ويحتمل أنه راجع لقراءة النون ويكون حل معنى، وإلا فمقتضى حلها أن يقول أي في نحن. قوله: (عبر بها عن الإنسان إلخ) إي فهو من باب تسمية الكل باسم جزئه، وقوله: (لأن أكثر الأفعال تزاول بها) علة لارتكاب المجاز. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ معطوف على الموصول عطف علة على معلول، التقدير ذلك العذاب بما قدمت أيديكم، لأن ﴿ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾.
قوله: (أي بذي ظلم) دفع بذلك ما يقال إن المنفى كثرة الظلم، فيفيد أن أصل الظلم ثابت، فأجاب بأن هذه الصيغة للنسب لا للمبالغة كتمار. قال ابن مالك: ومع فاعل وفعال فعل   في نسب أغنى من اليا قبلقوله: (نعت للذين قبله) أي وهو ﴿ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ فقد وصفهم بأوصاف زادتهم فبحاً وشناعة.
قوله: (في التوراة) أي على لسان موسى، قيل إن تلك المقالة لم تقع أصلاً فهي كذب محض، وقيل إنها موجودة في التوراة إلا في حق المسيح ومحمد، وأما هما فمعجزاتهما غير ذلك، فهم قد كذبوا على التوراة على كل حال. قوله: (من نعم) أي إبل وبقر وغنم وغيرهما أي كخيل وبغال وحمير وأمتعة. قوله: (بيضاء) أي لا دخان لها ولها دوي. قوله: (إلا في المسيح ومحمد) هذه طريقة، والطريقة الأخرى أن هذا العهد باطل وكذب من أصله. قوله: (كزكريا ويحيى) أي فجاؤوا بقربان وأكلته النار. قوله: (لرضاهم به) أي والرضا بالكفر كفر. قوله: ﴿ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾ أي فلأن شيء قتلتموهم. قوله: ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ أي داموا على تكذيبك، وجواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله فاصبر كما صبروا والمناسب ذكره بلصقه وأما فقد كذب رسل فدليل الجواب، ولا يصح أن يكون جواباً لأنه ماض بالنسبة للشرط، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: (المعجزات) أي الظاهرة الباهرة. قوله: ﴿ وَٱلزُّبُرِ ﴾ جمع زبور وهو كل كتاب اشتمل على المواعظ من الزبر، وهو الموعظة والزجر. قوله: ﴿ وَٱلْكِتَابِ ﴾ عطف خاص على العام، وإنما خصهما لشرفهما. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾ هذا أيضاً من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم، والمعنى كل روح ذائقة الموت لجسمها وإلا فالروح لا تموت، وعموم الآية يشمل حتى الشهداء والأنبياء والملائكة. وأما قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾[آل عمران: ١٦٩] فمعناه ترد بعد خروجها لهم، وكذلك الأنبياء والملائكة، وأما ما عداهم فلا ترد، لهم إلا عند النفخة الثانية. قوله: (جزاء أعمالكم أي خيرها أو شرها). قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ أي وما ألحق به لما ورد" القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ". قوله: ﴿ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ ﴾ أي مع السابقين أو بعد الخروج من النار. قوله: ﴿ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي القريبة وهي التي نحن ملتبسون بها. قوله: (الباطل) أي الزائل الذي لا يبقى، ويصح أن يراد بالغرور مصدر بمعنى اسم المفعول، أي المخدوع بالشيء الحسن ظاهره القبيح باطنه بمعنى أنه لا يدري العواقب. قال الإمام الشافعي: إن لله عباداً فطناً   طلقوا الدنيا وخافوا الفتنانظروا فيها فلما علموا   أنها ليست لحي وطناًجعلوها لجة واتخذوا   صالح الأعمال فيها سفناً
قوله: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ ﴾ أخبار من الله للمؤمنين بأنه سيقع لهم بلايا من الله بلا واسطة، ومن الكفار أذى كثير في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، وأمر منه لهم بالصبر حين وقوع ذلك، لأن الجنة حفت بالمكاره، واللام موطئه لقسم محذوف، وتبلون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي النونات، والواو نائب فاعل، والنون للتوكيد، وأصله تبلوون أكد فصار تبلونن، ثم أتى باللام لتدل على القسم المحذوف تحركت الواو الأولى التي هي اللام الكلمة، وانفتح ما قبلها ألفاً فالتقى ساكنان، حذفت الألف لالتقاء الساكنين، ثم حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، ثم حركت الواو بحركة مجانسة لها. قوله: (لالتقاء الساكنين) علة لمحذوف تقديره وحذفت الألف المنقلبة عن الواو الأولى لإلقتاء الساكنين. قوله: (لتختبرن) حل لمعنى لتبلون، والمعنى يعاملكم معاملة المختبر وإلا فهو أعلم بكم من أنفسكم. قوله: (بالفرائض فيها) أي كالزكاة والكفارات والنذور، وقوله: (والحوائج) أي الأمور السماوية التي تهلك الزرع، كالجراد والفأر والظلمة، قوله: (بالعبادات) أي التكاليف بها، وقوله: (والبلاء) أي الذي يصيب الإنسان في نفسه، كالعمى والجراحات وغير ذلك. قوله: ﴿ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ جار ومجرور حال من قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ وأصل لتسمعن تسمعون أكد بالنن ولام القسم، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فالتي ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما ولوجود الضمة التي تدل عيها. قوله: (والتشبيب بنسائكم) أي بذكر محاسنهن وأوصافهن بالقصائد وتناشدها بينهم، وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف لعنه الله. قوله: (على ذلك) أي المذكور من الإبتلاء في الأموال والأنفس، وسماع الأذى من أهل الكتاب. قوله: (لوجوبها) أي فالصبر على ما ذكر والتقوى لله من الأمور الواجبة، فإن من علامة الإيمان الصبر والتقوى، وقبيح على الإنسان يدعي محبة الله ثم لم يصبر على أحكامه. قال العارف: تدعى مذهب الهوى ثم تشكو   أين دعواك في الهوى يا معنىلو وجدناك صابراً لبلانا   لعطيناك كل ما تتمنىقوله: (بالياء والتاء في الفعلين) أي وهما ليبيننه ولا يكتمونه وهما قراءتان سبعيتان فعلى الياء إخبار عنهم وعلى التاء حكاية للحال الماضية. قوله: ﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ كناية عن عدم التمسك به، لأن من لم يتمسك بشيء ولم يعتنه طرحه خلف ظهره. قوله: (شراؤهم) أشار به إلى أن ما مؤولة بمصدر فاعل بئس، وقوله: (هذا) هو المخصوص بالذم، وهذه الآية وإن وردت في الكفار تجر بذيلها على عصاة المؤمنين الذين يكتمون الحق وينصرون الباطل. قوله: (بالياء والتاء) فعلى التاء الخطاب للنبي أو لمن يصلح له الخطاب و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف دل عليه.
قوله: ﴿ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ﴾ تقديره ناجين من عذاب الله، وعلى الياء فقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ فاعل ومفعولاهما محذوفان تقديرهما أنفسهم ناجين من عذاب الله، وسيأتي يشير لذلك المفسر. قوله: (بالوجهين) أي الياء والتاء، لكن على قراءة الياء والتاء مفتوحة، وهذه الآية تجر بذيلها على من يكون خبيث الباطل ويجب زينة الظاهر، كأن يظهر العلم والصلاح والتقوى مع كونه في الباطن ضالاً مضلاً. قوله: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي التصرف فيما في السماوات وما في الأرض، لأن ذات السماوات والأرض لا نزاع في أنهما مملوكان لله. قوله: (ومنه) أي من الشيء المقدور عليه. قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بآية تدل على أن الله واحد، فقال تعالى رداً عليهم: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآيات، وإن حرف توكيد ونصب، وفي خلق جار ومجرور خبرها مقدم، وخلق مضاف، والسماوات مضاف إليه، وقوله: ﴿ لآيَاتٍ ﴾ اسمها مؤخر. قوله: (وما فيهما من العجائب) أشار بذلك إلى أن خلق باق على مصدريته بمعنى الإيجاد، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول، أي مخلوقات السماوات والأرض وقوله: (من العجائب) أي كالنجوم والشمس والقمر والسحاب بالنسبة للسماوات، والبحار والجبال والنباتات والحيوانات بالنسبة للأرض. قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾[ق: ٦-٧] وبالجملة ففي كل شيء له آية، تدل على أنه الواحد، قوله: (بالمجيء والذهاب) أي بمجيء الليل عقب النهار، والنهار عقب الليل، فليس أحد يقدر على إتيان الليل في النهار ولا العكس. قوله: (والزيادة والنقصان) أي زيادة أحدهما بقدر ما نقص من الآخر. قوله: (دلالات) أي براهين قطعية دالة على كونه متصفاً بالكمالات، منزهاً على النقائض. قوله: (ذوي العقول) أي أصحاب العقول الكاملة. قوله: (نعت لما قبله) أي وهو أولى فهو في محل جر.
قوله: (مضطجعين) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ﴾ متعلق بمحذوف حال، فهو حال مؤوله بعد حال صريحة. قوله: (أي في كل حال) تفسير لقوله: ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ﴾.
قوله: (يصلون كذلك) أي قياماً إن قدروا، فإن لم يقدروا فقعوداً، فإن لم يقدروا فعل جنوبهم. قوله: (ليستدلوا به على قدرة صانعهما) أي واتصافه بالكمالات، فالتفكر مورث للعلم والمعرفة، قال العارف أبو الحسن الشاذلي: ذرة من عمل القلوب خير من مثاقيل الجبال من عمل الأبدان. قوله: (يقولون) قدره إشارة إلى أنه حال من الواو في ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، والمعنى ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ قائلين ﴿ رَبَّنَآ ﴾ إلخ وهو إشارة لثمرة الفكر، فثمرة الفكر الإستدلال والمعرفة بالله. قوله: (حال) أي من قوله: ﴿ هَذا ﴾ وهذه الحال لا يستغنى عنها فهي واجبة الذكر كقوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ ﴾[الدخان: ٣٨].
قوله: ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ مصدر منصوب بفعل محذوف وجوباً تقديره أسبح سبحانك، وهذه الجملة معترضة بين قوله: ﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ وبين قوله: ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
قوله: ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ هذا متسبب عن قوله: ﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ أي فحيث وحدناك ونزهناك عن النقائض فقنا عذاب النار، لأن النار جزاء من عصى ولم يوحد. قوله: ﴿ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ ﴾ إلخ هذا علة لما قبله، والمعنى إنما طلبنا الوقاية من عذاب النار، لأن من أدخلته النار فقد أخزيته. قوله: (للخلود فيها) جواب عن سؤال مقدر تقديره أن قوله تعالى:﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾[التحريم: ٨] يقتضي أن جميع المؤمنين غير مخزيين، مع أن بعض العصاة منهم يدخل النار تطهيراً لما اقترفه، وهذه الآية تدل على أن من دخل النار مخزي وأن مؤمناً. فأجاب المفسر بحمل هذه الآية على الكفار. قوله: (زائدة) أي للتوكيد في المبتدأ المؤخر، وقوله: ﴿ لِلظَّالِمِينَ ﴾ خبر مقدم. قوله: ﴿ مُنَادِياً ﴾ أي داعياً وهو على حذف مضاف أي نداء مناد قوله: ﴿ يُنَادِي ﴾ صفة لمنادياً على الصحيح، خلافاً لمن جعله مفعولاً ثانياً لسمع لأنه لا تنصب إلا مفعولاً واحداً على الصحيح. قوله: (وهو محمد) أي فإسناد النداء إليه حقيقي، وقوله: (أو القرآن) أي فإسناد النداء إليه مجازي، والمعنى منادى به. قوله: ﴿ أَنْ آمِنُواْ ﴾ أن تفسيرية، وقوله: ﴿ بِرَبِّكُمْ ﴾ أي صدقوا بأنه يجب له كل كمال، ويستحيل عليه كل نقيص. قوله: ﴿ فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ أي استرها عن أعين الخلق، وقوله: ﴿ وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ﴾ أي غطها عنا فلا تؤاخذنا بها وامحها من المصحف، وهو ترقي عظيم في طلب المغفرة، فهو من عطف الخاص على العام. قوله: (بالعقاب عليها) أي ولا بالعتاب عليها. قوله: ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ﴾ أي احشرنا معهم واجعلنا في زمرتهم، والمراد بالأبرار المطهرون الذين لم يفعلوا ذنوباً.
قوله: ﴿ وَآتِنَا ﴾ معطوف على محذوف، تقديره حقق لنا ما ذكروا ﴿ وَآتِنَا ﴾.
قوله: (من الرحمة والفضل) بيان لما. قوله: (وسؤالهم ذلك) أشار بذلك إلى سؤال وارد حاصله أن يقال إن وعد الله لا يتخلف قال تعالى:﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الفتح: ٢٩] فلا فائدة في ذلك السؤال، أجاب المفسر بقوله سؤال أن يجعلهم إلخ. وحاصل ذلك الجواب أن العاقبة مجهولة، ووعد الله لا يخلف لمن حمد عاقبته، ومن أين لنا حسن العاقبة، ففائدة السؤال أن الله يحسن عاقبتهم، فإذا حسنت تحقق وعده تعالى إن قلت: لا يخلو الأمر إما أن تكون العاقبة في نفس الأمر محمودة فوعد الله له محق ولا بد، وإما أن تكون غير محمودة فليس له عند الله وعد أصلاً فلا فائدة في الدعاء. أجيب: بأن توفيقه للدعاء دليل على أن الله لا يخلف وعده الذي وعده إياه، قال بعضهم: ما وفقك للدعاء إلا ليعطيك، فحيث وفق العبد للدعاء كان دليلاً على قبوله وإنابته وحسن عاقبته، ولذا لم يوفق إبليس للتوبة ولا للدعاء. قوله: (وتكرير ربنا إلخ) جواب عن سؤال مقدر حاصله أنه لم كرر لفظ ربنا خمس مرات، فأجاب بأنه مبالغة في التضرع، أي الخضوع والتذلل، ولما ورد أنه الأسم الأعظم، وعن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، قيل وكيف ذلك؟ قال اقرؤوا قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[البقرة: ١٩٤] الآيات، وهي من أوراد الصالحين تقرأ إلى آخر السورة عند الإستيقاظ من النوم ليلاً فمن لازم عليها تحقق بما فيها، وحصل له ثواب من قام الليل. قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ وَلاَ تُخْزِنَا ﴾ أي لا تفضحنا في ذلك اليوم. قول: ﴿ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ علة لقوله: ﴿ آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ﴾ إلخ.
قوله: ﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ ﴾ أي لأولي الألباب الموصوفين بما تقدم، واستجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان للتأكيد وهو يتعدى بنفسه واللام. قوله: ﴿ رَبُّهُمْ ﴾ إنما عبر به دون غيره من الأسماء لمناسبة دعائهم به. قوله: (أي بأني) أشار بذلك إلى أن بفتح الهمزة تفاق السبعة وفيه حذف الجار وهو مطرد إذا أمن اللبس، قال ابن مالك: وحذفه مع إن وإن يطرد   مع أَمْنِ لبْسٍ كعجبت أن يدواوهذه الباء للسببية وقرئ شذوذاً باثباتها، وقرئ سذوذا أيضاً بكسر الهمزة على تقدير القول. قوله: ﴿ لاَ أُضِيعُ ﴾ هكذا بسكون الياء من أضاع، وقرئ بتشديد الياء من ضيع. قوله: ﴿ مِّنْكُمْ ﴾ جار ومجرور صفة لعامل، وقوله: ﴿ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ﴾ من بيانية وقيل زائدة وذكر أو أنثى بدل من عامل، وقيل إن الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور قبله بدل كل من كل. قوله: ﴿ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ هذه الجملة قصد بها التعليل والتعميم، والمعنى لا أضيع عمل عامل منكم جميعاً ذكر أو أنثى، لأن ربكم واحد، وأصلكم واحد، ودينكم واحد، وبعضكم متناسل من بعض. قوله: (مؤكدة لما قبلها) أي قصد بها التعميم. قوله: (نزلت) أي هذه الآية من هنا إلى قوله: ﴿ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾.
قوله: (من مكة إلى المدينة) أي أو إلى الحبشة كما كان في صدر الإسلام، فكان من أسلم ولم يأمن على نفسه يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، إلى أن جاءه الأذن بالهجرة إلى المدينة. قوله: ﴿ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ ﴾ يشير بذلك إلى أن الإخراج قهري، لأنه وإن كان في الظاهر طائعاً إلا أنه في الباطن مكره. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان، وقوله: (وفي قراءة بتقديمه) أي المبني للمفعول لكن بالتخفيف، فالقراءات ثلاث، وتكون الواو على هذه القراءة بمعنى مع، أي قتلوا مع كونهم قاتلوا فلم يفروا، بل قتلوا في حال مقاتلهم الأعداء. قوله: ﴿ لأُكَفِّرَنَّ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أو وحقي وجلالي لأكفرن، والقسم وجوابه في محل رفع خبر. قوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ إلخ، وهذا الوعد الحسن لمن اتصف بجميع تلك الصفات أو ببعضها قوله: (أسترها بالغفرة) أي عن الخلق وأبدلها حسنات. قوله: ﴿ ثَوَاباً ﴾ هو في الأصل مقدار من الجزاء أعده الله لعباده المؤمنين في الآخرة في نظير أعمالهم الحسنة، لكن المراد به هنا الإثابة فهو مصدر مؤكد كما قال المفسر، ويصح أن يكون حالاً في جنات، أي لأدخلنهم جنات حال كونها ثواباً بمعنى مثاباً بها، أي في نظير أعمالهم الحسنة. قوله: (من معنى لأكفرن) أي وما بعده وهو لأدخلنهم فهما في معنى لأثيبنهم. قوله: ﴿ مِّن عِندِ ٱللَّهِ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لثواباً. قوله: (فيه التفات عن التكلم) أي وكان مقتضى الظاهر أن يقول ثواباً من عندي وإنما أظهر في محل الإضمار تشريفاً لهم قوله: ﴿ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾ لفظ الجلالة مبتدأ، وقوله: ﴿ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾ مبتدأ ثان، وقوله: ﴿ عِندَهُ ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، ويحتمل أن يكون حسن الثواب فاعلاً بالظرف قبله، والجملة خبر المبتدأ وإضافة حسن الثواب من إضافة الصفة للموصوف، أي الثواب الحسن كالجنة وما فيها، وأتى بهذه الآية تعليلاً لما قبلها. قوله: ﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود غيره، لأن هذه المقالة واقعة من ضعفاء المسلمين، ولا ناهية، ويغرنك فعل مضارع مبني على الفتح لإتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف مفعوله، والمعنى لا تغتر بتقلبهم إلخ. قوله: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هون. قوله: (يتمتعون) أي ينتفعون ويتنعمون به. قوله: (هي) أشار به إلى أنه المخصوص بالذم.
قوله: ﴿ لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ ﴾ إنما أتى بالإستدراك دفعاً لما يتوهم من أن الدنيا مذمومة، ومتاع قليل مطلقاً للمؤمن والكافر، فأفاد أن المؤمن وإن أخذ في التجارة والتكسب لا يضره ذلك، بل له في الآخرة الدرجات العلا، فذم الدنيا ومعيشتها للكافر خاصة، قال العارف. ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا   لا بارك الله في الدنيا بلا دينقوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ صفة لجنات. قوله: (أي مقدرين الخلود) أشار بذلك إلى أن قوله خالدين حال مقدرة، لأن وقت دخولهم الجنة ليسوا بخالدين فيها. قوله: (ونصبه على الحال) أي لهم جنات حال كونها مهيئة ومعدة للمؤمنين، وكما يقري الإنسان ضيفه أفخر ما عنده. قوله: ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ هذه الجملة صفة لنزلاً وإنما سمي ﴿ نُزُلاً ﴾ لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب، فهو شيء سهل مهيأ لهم من غير تعب، ولذلك حين دخلوها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. قوله: ﴿ لِّلأَبْرَارِ ﴾ أي المتقين. قوله: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ سبب نزولها أنه يوم موت النجاشي ملك الحبشة واسمه أصمحة ومعناه عطية الله، أسلم من غير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت رعيته في الإسلام تبعاً له، وجاء جبريل وأخبره بأنهم متوجهون بجنازته ليصلوا عليه، فخرج النبي إلى هذا الرجل يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فنزلت الآية. قوله: (كعبد الله بن سلام) أي وأربعين من نصارى نجران، وإثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، وراعى في الصلاة لفظ ﴿ مِنْ ﴾ وفي قوله: ﴿ خَٰشِعِينَ ﴾ وما بعده معناها. قوله: (بأن يكتموها) تصوير للشراء المنفي. قوله: (يؤتونه مرتين) أي لإيمانهم بكتابهم القرآن. قوله: (كما في القصص) أي في سورة القصص، قال تعالى:﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ﴾[القصص: ٥٤].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ أي المجازاة على الخير والشر.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ ﴾ لما بين في هذه السورة فضل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام العظيمة، ختمت بما يفيد المحافظة على ذلك. قوله: (على الطاعات إلخ) أشار بذلك إلى مراتب الصبر الثلاثة، وأعظمها الصبر عن المعصية. قوله: (فلا يكونوا أشد صبرا منكم) أي فلا تفروا من الأعداء واصبروا على الجهاد، وخصه وإن دخل في عموم الصبر لأنه أعظم أنواعه وجامع لها، فإنه صبر على الطاعة وهو الجهاد، وعن المعصية وهو الفرار من العدو، وعلى المصيبة وهي القتل والجرح، قوله: ﴿ وَرَابِطُواْ ﴾ أصل المرابطة أن يربط كل من الخصمين خيولهم بحيث يكونون مستعدين للقتال ثم توسع فيه، وجعل كل مقيم في الثغر لحراسة العدو مرابطاً، وإن لم يكن عدو ولا مركوب مربوط. قوله: (في جميع أحوالكم) أي حالاتكم من رخاء وشدة وعسر ويسر وصحة ومرض. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق، والفلاح هو الفوز والظفر، ورد أن من قرأ سورة آل عمران أعطاه الله بكل آية منها أماناً على جسر جهنم.
Icon