تفسير سورة آل عمران

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)).
(الم) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَالْمِيمُ مِنْ «مِيمٍ» حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ الْمِيمُ وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ تُحَرَّكْ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْيَاءِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَسْكُنُ إِذَا لَمْ يَلْقَهَا سَاكِنٌ بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ لَامْ مِيمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَ «حم»، وَ «طس»، وَ «ق»، وَ «ك». وَفُتِحَتْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ اسْمِ اللَّهِ بَعْدَهَا. وَالثَّانِي: ثِقَلُ الْكَسْرَةِ بَعْدَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ كَسْرَهَا، وَفِيهِ مِنَ الْقُبْحِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقِيلَ: فُتِحَتْ لِأَنَّ حَرَكَةَ هَمْزَةِ اللَّهِ أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا. وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَا حَظَّ لَهَا فِي الثُّبُوتِ فِي الْوَصْلِ حَتَّى تُلْقَى حَرَكَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا.
وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ فِي اللَّهِ هَمْزَةُ قَطْعٍ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلِذَلِكَ أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْمِيمِ ; لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الثُّبُوتَ، وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أَدَاةَ التَّعْرِيفِ أَلْ.
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : قَدْ ذُكِرَ إِعْرَابَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ.
قَالَ تَعَالَى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ) : هُوَ خَبَرٌ آخَرُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَأْخُذُهُ) [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] فَمِثْلُهُ هَاهُنَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَدَلَّ عَلَى حَالٌ لِلتَّوْرَاةِ مَحْذُوفَةٌ، كَمَا يَدُلُّ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَ (لِلنَّاسِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِهُدًى، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
وَ (الْفُرْقَانَ) : فُعْلَانِ مِنَ الْفَرْقِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَارِقِ أَوِ الْمَفْرُوقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَا الْفُرْقَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُمْ عَذَابٌ) : ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَذَابُ بِالظَّرْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْأَرْضِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِشَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَخْفَى.
قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْأَرْحَامِ) : فِي مُتَعَلِّقَةٌ بِيُصَوِّرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ ; أَيْ يُصَوِّرُكُمْ وَأَنْتُمْ فِي الْأَرْحَامِ مُضَغٌ.
(كَيْفَ يَشَاءُ) : كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَشَاءُ، وَهُوَ حَالٌ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: يَشَاءُ تَصْوِيرَكُمْ.
وَقِيلَ: كَيْفَ ظَرْفٌ لِيَشَاءُ، وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ حَالٌ تَقْدِيرُهُ: يُصَوِّرُكُمْ عَلَى مَشِيئَتِهِ ; أَيْ مُرِيدًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ ; أَيْ يُصَوِّرُكُمْ مُتَقَلِّبِينَ عَلَى مَشِيئَتِهِ.
(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [الْبَقَرَةِ: ١٦٣].
قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (
ابْتِغَاءَ) : مَفْعُولٌ لَهُ. وَالتَّأْوِيلُ مَصْدَرُ أَوَّلَ يُؤَوِّلُ، وَأَصْلُهُ مِنْ آلَ يَئُولُ، إِذَا انْتَهَى نِهَايَتَهُ.
وَ (الرَّاسِخُونَ) : مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ أَيْضًا.
وَ (يَقُولُونَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، وَيَقُولُونَ الْخَبَرُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
(كُلٌّ) : مُبْتَدَأٌ ; أَيْ كُلُّهُ أَوْ كُلٌّ مِنْهُ.
وَ (مِنْ عِنْدِ) : الْخَبَرُ، وَمَوْضِعُ «آمَنَّا» وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا نُصِبَ بِيَقُولُونَ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ الْقُلُوبِ ; يُقَالُ زَاغَ الْقَلْبُ وَأَزَاغَهُ اللَّهُ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْقُلُوبِ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا.
وَ (إِذْ هَدَيْتَنَا) : لَيْسَ بِظَرْفٍ ; لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِ بَعْدَ.
(مِنْ لَدُنْكَ) : لَدُنْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَهِيَ مُضَافَةٌ لِأَنَّ عِلَّةَ بِنَائِهَا مَوْجُودَةٌ بَعْدَ الْإِضَافَةِ، وَالْحُكْمُ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ أَنَّ لَدُنْ بِمَعْنَى «عِنْدَ» الْمُلَاصِقَةِ لِلشَّيْءِ، فَعِنْدَ إِذَا ذُكِرَتْ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْمُقَارَبَةِ، وَلَدُنْ عِنْدَ مَخْصُوصٍ ; فَقَدْ صَارَ فِيهَا مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ ; بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُفِيدُهُ الْحَرْفُ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةً لِلْحَرْفِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يُوضَعَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ ; وَمِثْلُهُ ثُمَّ وَهُنَا ; لِأَنَّهُمَا بُنِيَا لَمَّا تَضَمَّنَا حَرَفَ الْإِشَارَةِ.
وَفِيهَا لُغَاتٌ هَذِهِ إِحْدَاهَا، وَهِيَ فَتْحُ اللَّامِ وَضَمُّ الدَّالِ وَسُكُونُ النُّونِ.
وَالثَّانِيَةُ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الدَّالَ سَاكِنَةٌ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ كَمَا خُفِّفَ عَضُدٌ.
وَالثَّالِثَةُ: بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ.
وَالرَّابِعَةُ: لَدَى.
وَالْخَامِسَةُ: لَدُ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ نُونٍ.
وَالسَّادِسَةُ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ، وَلَا شَيْءَ بَعْدَ الدَّالِ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَامِعُ النَّاسِ) : الْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ ; لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ. وَالتَّقْدِيرُ: جَامِعٌ النَّاسَ. (لِيَوْمٍ) : تَقْدِيرُهُ: لِعَرْضِ يَوْمٍ، أَوْ حِسَابِ يَوْمٍ.
وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى فِي ; أَيْ فِي يَوْمٍ. وَالْهَاءُ فِي «فِيهِ» تَعُودُ عَلَى الْيَوْمِ ; وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْجَمْعِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْحِسَابِ أَوِ الْعَرْضِ. وَ (لَا رَيْبَ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِيَوْمٍ. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ) : أَعَادَ ذِكْرَ اللَّهِ مُظْهَرًا تَفْخِيمًا، وَلَوْ قَالَ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ كَانَ مُسْتَقِيمًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَلَيْسَ مَحْكِيًّا عَمَّنْ تَقَدَّمَ.
وَ (الْمِيعَادَ) : مِفْعَالٌ، مِنَ الْوَعْدِ، قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَنْ تُغْنِيَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْفَاعِلِ، وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ ; لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْفَاعِلِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا.
(مِنَ اللَّهِ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى لَنْ تَدْفَعَ الْأَمْوَالُ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَ (شَيْئًا) : عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، تَقْدِيرُهُ: غِنًى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَفْعُولًا بِهِ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى تُغْنِيَ عَنْهُمْ تَدْفَعُ، وَيَكُونُ مِنَ اللَّهِ صِفَةً لِشَيْءٍ فِي الْأَصْلِ قُدِّمَ فَصَارَ حَالًا ; وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمُ الْأَمْوَالُ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ الْحَطَبُ، وَبِالضَّمِّ التَّوَقُّدُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى.
قَالَ تَعَالَى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَدَأْبِ) : الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ; وَفِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ أَقْوَالٌ.
أَحَدُهَا تَقْدِيرُهُ: كَفَرُوا كُفْرًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَيْسَ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي فِي صِلَةِ الَّذِينَ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدِ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ بِالْكَافِ ; لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ الَّذِينَ خَبَرَهُ، وَلَكِنْ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ «كَفَرُوا» الَّتِي هِيَ صِلَةٌ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيرُهُ: عُذِّبُوا عَذَابًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.
وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُهُ: بَطُلَ انْتِفَاعُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ.
وَالرَّابِعُ: تَقْدِيرُهُ: كَذَّبُوا تَكْذِيبًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَخْوِيفٌ لَهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِمَا حَلَّ بِآلِ فِرْعَوْنَ، وَفِي أَخْذِهِ لِآلِ فِرْعَوْنَ.
(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ.
241
وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: دَأْبُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلُ دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ; فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ جَرٌّ بِالْعَطْفِ أَيْضًا، وَكَذَّبُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَ «قَدْ» مَعَهُ مُرَادَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ ذُكِرَ لِشَرْحِ حَالِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُبْتَدَأٌ، وَ «كَذَّبُوا» خَبَرُهُ. وَ (شَدِيدُ الْعِقَابِ) : تَقْدِيرُهُ: شَدِيدٌ عِقَابُهُ ; فَالْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ.
وَقِيلَ: شَدِيدٌ هُنَا بِمَعْنَى مُشَدَّدٌ ; فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ جَاءَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ وَمُفْعَلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) : يُقْرَآنِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ ; أَيْ وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ وَبِالْيَاءِ، تَقْدِيرُهُ: أَخْبِرْهُمْ بِأَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ.
(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) : أَيْ جَهَنَّمُ، فَحَذَفَ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ.
قَالَ تَعَالَى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ) : آيَةٌ اسْمُ كَانَ ; وَلَمْ يُؤَنَّثْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهُ فُصِلَ ; وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَالدَّلِيلَ بِمَعْنًى. وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: «لَكُمْ» وَ «فِئَتَيْنِ» نَعْتٌ لِآيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ «فِي فِئَتَيْنِ»، وَلَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِآيَةٍ ; أَيْ آيَةٌ كَائِنَةٌ لَكُمْ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
242
وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: دَأْبُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلُ دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ; فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ جَرٌّ بِالْعَطْفِ أَيْضًا، وَكَذَّبُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَ «قَدْ» مَعَهُ مُرَادَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ ذُكِرَ لِشَرْحِ حَالِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُبْتَدَأٌ، وَ «كَذَّبُوا» خَبَرُهُ. وَ (شَدِيدُ الْعِقَابِ) : تَقْدِيرُهُ: شَدِيدٌ عِقَابُهُ ; فَالْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ.
وَقِيلَ: شَدِيدٌ هُنَا بِمَعْنَى مُشَدَّدٌ ; فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ جَاءَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ وَمُفْعَلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) : يُقْرَآنِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ ; أَيْ وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ وَبِالْيَاءِ، تَقْدِيرُهُ: أَخْبِرْهُمْ بِأَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ.
(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) : أَيْ جَهَنَّمُ، فَحَذَفَ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ.
قَالَ تَعَالَى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ) : آيَةٌ اسْمُ كَانَ ; وَلَمْ يُؤَنَّثْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهُ فُصِلَ ; وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَالدَّلِيلَ بِمَعْنًى. وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: «لَكُمْ» وَ «فِئَتَيْنِ» نَعْتٌ لِآيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ «فِي فِئَتَيْنِ»، وَلَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِآيَةٍ ; أَيْ آيَةٌ كَائِنَةٌ لَكُمْ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ عَلَى كُلِّ الْأَقْوَالِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ عِلْمٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ شَيْئَيْنِ.
(يُؤَيِّدُ) : يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِالتَّخْفِيفِ ; وَتَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ هُنَا جَعْلُهَا وَاوًا خَالِصَةً ; لِأَجْلِ الضَّمَّةِ قَبْلَهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْأَلِفِ.
وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَ الْأَلِفِ إِلَّا مَفْتُوحًا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلِ الْهَمْزَةُ الْمَبْدُوءُ بِهَا بَيْنَ بَيْنَ لِاسْتِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْأَلِفِ.
قَالَ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الزَّايِ، وَرَفْعِ «حُبُّ».
وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ وَنَصْبِ حُبُّ، تَقْدِيرُهُ: زَيَّنَ لِلنَّاسِ الشَّيْطَانُ عَلَى مَا جَاءَ صَرِيحًا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَحُرِّكَتِ الْهَاءُ فِي «الشَّهَوَاتِ» ; لِأَنَّهَا اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ.
(مِنَ النِّسَاءِ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الشَّهَوَاتِ. وَالنُّونُ فِي الْقِنْطَارِ أَصْلٌ، وَوَزْنُهُ فِعْلَالٌ مِثْلُ حِمْلَاقٌ. وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ قَطَرَ يَقْطُرُ إِذَا جَرَى، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يُشَبَّهَانِ بِالْمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ وَسُرْعَةِ التَّقَلُّبِ.
و ﴿من الذَّهَب﴾ فى مَوضِع الْحَال من المقنطرة
(وَالْخَيْلِ) : مَعْطُوفٌ عَلَى النِّسَاءِ، لَا عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى قِنْطَارًا وَوَاحِدُ الْخَيْلِ خَائِلٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، مِثْلُ طَيْرٍ وَطَائِرٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ، وَالْوَاحِدُ فَرَسٌ، وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْمَصْدَرِ.
244
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ خَيَّلَ. وَلَمْ يَجْمَعِ «الْحَرْثَ» ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الثَّاءِ فِي الذَّالِ هُنَا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ، فَأَمَّا الْإِدْغَامُ فِي قَوْلِهِ «يَلْهَثُ ذَلِكَ» فَجَائِزٌ.
وَ (الْمَآبِ) : مَفْعَلٌ، مِنْ آبَ يَئُوبُ، وَالْأَصْلُ مَأْوَبٌ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ آبَ، قُلِبَتْ أَلِفًا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ) : يُقْرَأُ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتُقْلَبُ الثَّانِيَةُ وَاوًا خَاصَّةً ; لِانْضِمَامِهَا وَتَلْيِينِهَا، وَهُوَ جَعْلُهَا بَيْنَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ انْفِتَاحُ مَا قَبْلَهَا.
(بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) :«مِنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِخَيْرٍ ; تَقْدِيرُهُ: بِمَا يَفْضُلُ ذَلِكَ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِخَيْرٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِمَّا رَغِبُوا فِيهِ بَعْضًا لِمَا زَهِدُوا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا. (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ «جَنَّاتٌ». وَ (تَجْرِي) : صِفَةٌ لَهَا.
وَ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَنَّاتِ فِي الْأَصْلِ قُدِّمَ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ تَجْرِي. وَ (مِنْ تَحْتِهَا) : مُتَعَلِّقٌ بِتَجْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَنْهَارِ ; أَيْ تَجْرِي الْأَنْهَارُ كَائِنَةً تَحْتَهَا
245
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ خَيَّلَ. وَلَمْ يَجْمَعِ «الْحَرْثَ» ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الثَّاءِ فِي الذَّالِ هُنَا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ، فَأَمَّا الْإِدْغَامُ فِي قَوْلِهِ «يَلْهَثُ ذَلِكَ» فَجَائِزٌ.
وَ (الْمَآبِ) : مَفْعَلٌ، مِنْ آبَ يَئُوبُ، وَالْأَصْلُ مَأْوَبٌ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ آبَ، قُلِبَتْ أَلِفًا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ) : يُقْرَأُ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتُقْلَبُ الثَّانِيَةُ وَاوًا خَاصَّةً ; لِانْضِمَامِهَا وَتَلْيِينِهَا، وَهُوَ جَعْلُهَا بَيْنَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ انْفِتَاحُ مَا قَبْلَهَا.
(بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) :«مِنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِخَيْرٍ ; تَقْدِيرُهُ: بِمَا يَفْضُلُ ذَلِكَ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِخَيْرٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِمَّا رَغِبُوا فِيهِ بَعْضًا لِمَا زَهِدُوا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا. (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ «جَنَّاتٌ». وَ (تَجْرِي) : صِفَةٌ لَهَا.
وَ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَنَّاتِ فِي الْأَصْلِ قُدِّمَ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ تَجْرِي. وَ (مِنْ تَحْتِهَا) : مُتَعَلِّقٌ بِتَجْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَنْهَارِ ; أَيْ تَجْرِي الْأَنْهَارُ كَائِنَةً تَحْتَهَا
245
وَيُقْرَأُ جَنَّاتٌ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَجْرُورٌ بَدَلًا مِنْ خَيْرٍ، فَيَكُونُ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِخَيْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ بَدَلًا مِنْ مَوْضِعِ بِخَيْرٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّفْعُ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ جَنَّاتٌ ; وَمِثْلُهُ: (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) [الْحَجِّ: ٢٧] وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَ (خَالِدِينَ فِيهَا) : حَالٌ إِنْ شِئْتَ مِنَ الْهَاءِ فِي تَحْتِهَا، وَإِنْ شِئْتَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اتَّقَوْا، وَالْعَامِلُ الِاسْتِقْرَارُ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ.
(وَأَزْوَاجٌ) : مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ بِالرَّفْعِ. فَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ «وَلَهُمْ أَزْوَاجٌ». (وَرِضْوَانٌ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَنَظِيرُ الْكَسْرِ الْإِتْيَانُ وَالْحِرْمَانُ، وَنَظِيرُ الضَّمِّ الشُّكْرَانُ وَالْكُفْرَانُ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ.
وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْعِبَادِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا لِعِلْمِ اللَّهِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ فِيهِ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمِقْدَارِ مَشَقَّتِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) [النِّسَاءِ: ٢٥]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ».
قَالَ تَعَالَى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)).
246
وَيُقْرَأُ جَنَّاتٌ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَجْرُورٌ بَدَلًا مِنْ خَيْرٍ، فَيَكُونُ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِخَيْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ بَدَلًا مِنْ مَوْضِعِ بِخَيْرٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّفْعُ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ جَنَّاتٌ ; وَمِثْلُهُ: (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) [الْحَجِّ: ٢٧] وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَ (خَالِدِينَ فِيهَا) : حَالٌ إِنْ شِئْتَ مِنَ الْهَاءِ فِي تَحْتِهَا، وَإِنْ شِئْتَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اتَّقَوْا، وَالْعَامِلُ الِاسْتِقْرَارُ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ.
(وَأَزْوَاجٌ) : مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ بِالرَّفْعِ. فَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ «وَلَهُمْ أَزْوَاجٌ». (وَرِضْوَانٌ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَنَظِيرُ الْكَسْرِ الْإِتْيَانُ وَالْحِرْمَانُ، وَنَظِيرُ الضَّمِّ الشُّكْرَانُ وَالْكُفْرَانُ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ.
وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْعِبَادِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا لِعِلْمِ اللَّهِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ فِيهِ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمِقْدَارِ مَشَقَّتِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) [النِّسَاءِ: ٢٥]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ».
قَالَ تَعَالَى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الصَّابِرِينَ) : وَمَا بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا صِفَةً لِلَّذِينِ إِذَا جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ أَوْ نَصْبٍ، وَإِنْ جَعَلْتَ الَّذِينَ رَفْعًا نَصَبْتَ الصَّابِرِينَ بِأَعْنِي.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ دَخَلَتِ الْوَاوُ فِي هَذِهِ وَكُلُّهَا لِقَبِيلٍ وَاحِدٍ؟.
فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصِّفَاتِ إِذَا تَكَرَّرَتْ جَازَ أَنْ يُعْطَفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ بِهَا وَاحِدًا، وَدُخُولُ الْوَاوِ فِي مِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ تَفْخِيمٌ ; لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِالْمَدْحِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُتَفَرِّقَةٌ فِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ صَابِرٌ، وَبَعْضُهُمْ صَادِقٌ، فَالْمَوْصُوفُ بِهَا مُتَعَدِّدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (شَهِدَ اللَّهُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ.
وَيُقْرَأُ «شُهَدَاءُ اللَّهِ» : جَمْعُ شَهِيدٍ، أَوْ شَاهِدٍ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَزِيَادَةِ لَامٍ مَعَ اسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى تَقْدِيرِ: هُمْ شُهَدَاءُ.
وَيُقْرَأُ «شُهَدَاءُ اللَّهِ» بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ.
وَ (أَنَّهُ) : أَيْ بِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ جَرٍّ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. (قَائِمًا) : حَالٌ مِنْ هُوَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ ; أَيْ يُفْرَدُ قَائِمًا.
وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنَ اسْمِ اللَّهِ ; أَيْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقَائِمَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : مِثْلُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فِي قَوْلِهِ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الْبَقَرَةِ: ١٦٣] وَقَدْ ذُكِرَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الدِّينَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مَصْدَرٌ، وَمَوْضِعُهُ جَرٌّ، بَدَلًا مِنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ; أَيْ شَهِدَ اللَّهُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ بِأَنَّ الدِّينَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْقِسْطِ.
وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الْمَوْضِعِ. وَالْبَدَلُ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ هُوَ. وَيَجُوزُ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. (عِنْدَ اللَّهِ) : ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ الدِّينُ، وَلَيْسَ بِحَالٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ أَنْ تَعْمَلُ فِي الْحَالِ. (بَغْيًا) : مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ; وَالتَّقْدِيرُ: اخْتَلَفُوا بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ لِلْبَغْيِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ (وَمَنْ يَكْفُرْ) :«مِنْ» مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ يَكْفُرُ. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ هِيَ الْخَبَرُ.
وَقِيلَ: الْخَبَرُ هُوَ الْجَوَابُ، وَالتَّقْدِيرُ: سَرِيعُ الْحِسَابِ لَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) :«مَنْ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى التَّاءِ فِي أَسْلَمْتُ ; أَيْ وَأَسَلَمَ مَنِ اتَّبَعَنِي وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ كَذَلِكَ.
وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَذْفُهَا تَشْبِيهًا لَهُ بِرُءُوسِ الْآيِ وَالْقَوَافِي كَقَوْلِ الْأَعْشَى: فَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيَادِي الْبِلَا دَ مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنْ.
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ (أَأَسْلَمْتُمْ) : هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ ; أَيْ أَسْلَمُوا، كَقَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [الْمَائِدَةِ: ٩١] ; أَيِ انْتَهُوا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَشِّرْهُمْ) : هُوَ خَبَرُ إِنَّ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِيهِ حَيْثُ كَانَتْ صِلَةَ الَّذِي فِعْلًا، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا تَمْنَعُ إِنَّ مِنْ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ ; لِأَنَّهَا لَمْ تُغَيِّرْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ بَلْ أَكَّدَتْهُ، فَلَوْ دَخَلَتْ عَلَى الَّذِي «كَأَنَّ»، أَوْ «لَيْتَ» لَمْ يَجُزْ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ. وَيُقْرَأُ: (وَيُقَاتِلُونَ النَّبِيِّينَ)، (وَيَقْتُلُونَ) هُوَ الْمَشْهُورُ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُدْعَوْنَ) : فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنَ الَّذِينَ: (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِفَرِيقٍ ; أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٢١٦].
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ) : هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (بِأَنَّهُمْ قَالُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي ذَا مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ ; أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُسْتَحَقًّا بِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْجَيِّدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَبِأَنَّهُمْ خَبَرُهُ ; أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ مُسْتَحَقٌّ بِقَوْلِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ) كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ، أَوْ كَيْفَ يَكُونُونَ.
وَقِيلَ: كَيْفَ ظَرْفٌ لِهَذَا الْمَحْذُوفِ، وَإِذَا ظَرْفٌ لِلْمَحْذُوفِ أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُمَّ) : الْمِيمُ الْمُشَدَّدَةُ عِوَضٌ مِنْ يَاءٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، وَمَوْضِعُ بَيَانِ ضَعْفِهِ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ. (مَالِكَ الْمُلْكِ) : هُوَ نِدَاءٌ ثَانٍ ; ; أَيْ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى الْمَوْضِعِ ; لِأَنَّ الْمِيمَ فِي آخِرِ الْمُنَادَى تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً.
(تُؤْتِي الْمُلْكَ) : هُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ أَنْتَ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ.
وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُنَادَى ; وَانْتِصَابُ الْحَالِ عَلَى الْمُنَادَى مُخْتَلَفٌ
فِيهِ ; وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَشَاءُ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُ، وَمَنْ يَشَاءُ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ.
(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) : مُسْتَأْنَفٌ.
وَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْجُمَلِ.
قَالَ تَعَالَى: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) : يُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [الْبَقَرَةِ: ١٧٣]. (بِغَيْرِ حِسَابٍ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ ; أَيْ تَرْزَقُ مَنْ تَشَاؤُهُ غَيْرَ مُحَاسِبٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ ; أَيْ تَشَاءُ غَيْرَ مُحَاسِبٍ لَهُ، أَوْ غَيْرَ مُضَيِّقٍ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ رِزْقًا غَيْرَ قَلِيلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) : هُوَ نَهْيٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى لَا يَبْتَغِي. (مِنْ دُونِ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةً لِأَوْلِيَاءَ. (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) : التَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِ اللَّهِ، فَمِنَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا.
(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) : هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَمَوْضِعُ أَنْ تَتَّقُوا نَصْبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ،
وَأَصْلُ (تُقَاةً) وُقْيَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً لِانْضِمَامِهَا ضَمًّا لَازِمًا ; مِثْلَ تُجَاهٍ، وَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ. وَيُقْرَأُ تَقِيَّةً، وَوَزْنُهَا فَعِيلَةٌ، وَالْيَاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ أَيْضًا.
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) : أَيْ عِقَابَ نَفْسِهِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ لَا حَذْفَ هُنَا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) : هُوَ مُسْتَأْنَفٌ ; وَلَيْسَ مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَجِدُ) : يَوْمَ هُنَا مَفْعُولٌ بِهِ ; أَيِ اذْكُرْ. وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ «قَدِيرٌ». وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».
وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ «وَيُحَذِّرُكُمُ» ; أَوْ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقَابَهُ يَوْمَ تَجِدُ فَالْعَامِلُ فِيهِ الْعِقَابُ لَا التَّحْذِيرُ. (مَا عَمِلَتْ) : مَا فِيهِ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَ (مُحْضَرًا) : الْمَفْعُولُ الثَّانِي، هَكَذَا ذَكَرُوا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ (مُحْضَرًا) حَالًا، وَنَجِدُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُولَى ; وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا أَيْضًا. وَ (تَوَدُّ) : عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ تَجِدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَرْطٌ، وَارْتَفَعَ تَوَدُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْفَاءَ ; أَيْ فَهِيَ تَوَدُّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ حَذْفٍ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا مَاضٍ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الشَّرْطِ لَفْظُ الْجَزْمِ جَازَ فِي الْجَزَاءِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا، فَتَكُونُ التَّاءُ مَحْذُوفَةً ; أَيْ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا ; وَهُوَ خِطَابٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْغَيْبَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْمَاضِي.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذُرِّيَّةً) : قَدْ ذَكَرْنَا وَزْنَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فَأَمَّا نَصْبُهَا فَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ نُوحٍ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذُرِّيَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُمْ أَيْضًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا اصْطَفَى.
(بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِذُرِّيَّةً.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قَالَتِ) : قِيلَ: تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ. وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِعَلِيمٍ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ اصْطَفَى الْمُقَدَّرَةُ مَعَ آلِ عِمْرَانَ.
(مُحَرَّرًا) : حَالٌ مِنْ «مَا» وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مِمَّنْ يَعْقِلُ بَعْدُ
وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ غُلَامًا مُحَرَّرًا، وَإِنَّمَا قَدَّرُوا غُلَامًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْعَلُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا الرِّجَالَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضَعْتُهَا أُنْثَى) : أُنْثَى حَالٌ مِنَ الْهَاءِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا.
(بِمَا وَضَعَتْ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهَا، بَلْ مُعْتَرِضٌ ; وَجَازَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَيُقْرَأُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهَا وَالْأُولَى أَقْوَى ; لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ.
وَوَجْهُ جَوَازِهِ أَنَّهَا وَضَعَتِ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَفْخِيمًا.
وَيُقْرَأُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهَا ذَلِكَ.
(سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) : هَذَا الْفِعْلُ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَمَّيْتُكَ زَيْدًا، وَبِزَيْدٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) : هُوَ هُنَا مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ إِثْبَاتٍ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَنَبَتَتْ نَبَاتًا، وَالنَّبْتُ وَالنَّبَاتَ بِمَعْنًى ; وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ النَّابِتِ.
وَتَقَبَّلَهَا: أَيْ قَبِلَهَا،
(هَذَا) : مُبْتَدَأٌ، وَأَنَّى خَبَرُهُ ; وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَيْنَ وَ «لَكِ» تَبْيِينٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ هَذَا بِلَكِ، وَأَنَّى ظَرْفٌ لِلِاسْتِقْرَارِ.
قَالَ تَعَالَى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُنَالِكَ) : أَكْثَرُ مَا يَقَعُ هُنَا ظَرْفُ مَكَانٍ، وَهُوَ أَصْلُهَا، وَقَدْ وَقَعَتْ هُنَا زَمَانًا، فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَعِنْدَ فَإِنَّكَ تَجْعَلُهَا زَمَانًا، وَأَصْلُهَا الْمَكَانُ، كَقَوْلِكَ أَتَيْتُكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَقِيلَ: هُنَا مَكَانٌ ; أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دَعَا زَكَرِيَّا، وَالْكَافُ حَرْفٌ لِلْخِطَابِ، وَبِهَا تَصِيرُ هُنَا لِلْمَكَانِ الْبَعِيدِ عَنْكَ، وَدَخَلَتِ اللَّامُ لِزِيَادَةِ الْبُعْدِ، وَكُسِرَتْ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ هِيَ وَالْأَلِفُ قَبْلَهَا.
وَقِيلَ: كُسِرَتْ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِلَامِ الْمِلْكِ، وَإِذَا حَذَفْتَ الْكَافَ فَقُلْتَ «هُنَا» لِلْمَكَانِ الْحَاضِرِ، وَالْعَامِلُ فِي هُنَا «دَعَا».
(قَالَ) : مِثْلُ (قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ).
(مِنْ لَدُنْكَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَبْ لِي ; فَيَكُونُ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الْهِبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ صِفَةً لِـ (ذُرِّيَّةً) : قُدِّمَتْ فَانْتَصَبَتْ عَلَى الْحَالِ.
وَ (سَمِيعُ) : بِمَعْنَى سَامِعٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنَادَتْهُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى إِثْبَاتِ تَاءِ التَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمَاعَةٌ.
وَكَرِهَ قَوْمٌ التَّاءَ ; لِأَنَّهَا لِلتَّأْنِيثِ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْجَاهِلِيَّةُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ، فَلِذَلِكَ قَرَأَ مَنْ قَرَأَ: (فَنَادَاهُ) بِغَيْرِ تَاءٍ وَالْقِرَاءَةُ بِهِ جَيِّدَةٌ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ، وَمَا اعْتَلُّوا بِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢] وَهُوَ قَائِمٌ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي نَادَتْهُ (يُصَلِّي) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِقَائِمٌ.
(أَنَّ اللَّهَ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ وَبِكَسْرِهَا ; أَيْ قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ ; لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ. (يُبَشِّرُكَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّشْدِيدِ.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ مُخَفَّفًا، وَبِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مُخَفَّفًا أَيْضًا، يُقَالُ بَشَرْتُهُ وَبَشَّرْتُهُ وَأَبْشَرْتُهُ ; وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) [فُصِّلَتْ: ٣٠].
(يَحْيَى) : اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ; وَقِيلَ: سُمِّي بِالْفِعْلِ الَّذِي مَاضِيهِ حَيَّ.
(مُصَدِّقًا) : حَالٌ مِنْهُ. (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا) : كَذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غُلَامٌ) : اسْمُ يَكُونُ، وَلِي خَبَرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَكُونُ عَلَى أَنَّهَا تَامَّةٌ فَيَكُونُ لِي مُتَعَلِّقًا بِهَا أَوْ حَالًا مِنْ «غُلَامٌ» ; أَيْ «أَنَّى» يَحْدُثُ غُلَامٌ لِي؟ وَأَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ، أَوْ مِنْ أَيْنَ؟.
257
(بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) : وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ (بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ) : وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ مَا
بَلَغَكَ فَقَدْ بَلَغْتَهُ (عَاقِرٌ) : أَيْ ذَاتُ عُقْرٍ فَهُوَ عَلَى النَّسَبِ ; وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ ; أَيْ مَعْقُورَةٌ ; وَلِذَلِكَ لَمْ تَلْحَقْ تَاءُ التَّأْنِيثِ. (كَذَلِكَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِعْلًا كَذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)).
قُولُهُ تَعَالَى: (اجْعَلْ لِي آيَةً) : أَيْ صَيِّرْ لِي ; فَآيَةٌ مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَلِي مَفْعُولٌ ثَانٍ.
(آيَتُكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (أَلَّا تُكَلِّمَ) : خَبَرُهُ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ قُرِئَ تُكَلِّمُ بِالرَّفْعِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنَّكَ لَا تُكَلِّمُ ; كَقَوْلِهِ: (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) [طه: ٨٩].
(إِلَّا رَمْزًا) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَلَامًا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَصْدَرُ رَمَزَ، وَيُقْرَأُ بِضَمِّهَا، وَهُوَ جَمْعُ رُمُزَةٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَأَقَرَّ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَكَّنَ الْمِيمِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَتْبَعَ الضَّمُّ الضَّمَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا غَيْرَ جَمْعٍ وَضُمَّ إِتْبَاعًا كَالْيُسْرِ وَالْيُسُرِ.
(كَثِيرًا) : أَيْ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَ (الْعَشِيِّ) : مُفْرَدٌ. وَقِيلَ: جَمْعُ عَشِيَّةٍ.
(وَالْإِبْكَارِ) : مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَوَقْتَ الْإِبْكَارِ، يُقَالُ أَبْكَرَ إِذَا دَخَلَ فِي الْبُكْرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)).
258
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتِ) : تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَتْ وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) [آلِ عِمْرَانَ ٣٥] وَالْأَصْلُ فِي اصْطَفَى اصْتَفَى، ثُمَّ أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً ; لِتُوَافِقَ الصَّادَ فِي الْإِطْبَاقِ.
وَكَرَّرَ اصْطَفَى إِمَّا تَوْكِيدًا وَإِمَّا لِيُبَيِّنَ مَنِ اصْطَفَاهَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ ; فَعَلَى هَذَا «مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ» حَالٌ مِنْ ذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً، وَمِنْ أَنْبَاءِ خَبَرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «نُوحِيهِ» خَبَرُ ذَلِكَ، وَ (مِنْ أَنْبَاءِ) حَالًا مِنَ الْهَاءِ فِي نُوحِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِنُوحِيهِ ; أَيِ الْإِيحَاءُ مَبْدُوءٌ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
(إِذْ يُلْقُونَ) : ظَرْفٌ لِكَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ لَدَيْهِمْ.
وَالْأَقْلَامُ جَمْعُ قَلَمٍ، وَالْقَلَمُ بِمَعْنَى الْمَقْلُومِ ; أَيِ الْمَقْطُوعِ ; كَالنَّقْضِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ ; وَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ.
(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ يَقْتَرِعُونَ أَيَّهُمْ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ «يُلْقُونَ» وَ (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) مِثْلُ: (إِذْ يُلْقُونَ).
وَيَخْتَصِمُونَ بِمَعْنَى اخْتَصَمُوا، وَكَذَلِكَ يُلْقُونَ ; أَيْ أَلْقَوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَكَى الْحَالَ.
259
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتِ) : تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَتْ وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) [آلِ عِمْرَانَ ٣٥] وَالْأَصْلُ فِي اصْطَفَى اصْتَفَى، ثُمَّ أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً ; لِتُوَافِقَ الصَّادَ فِي الْإِطْبَاقِ.
وَكَرَّرَ اصْطَفَى إِمَّا تَوْكِيدًا وَإِمَّا لِيُبَيِّنَ مَنِ اصْطَفَاهَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ ; فَعَلَى هَذَا «مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ» حَالٌ مِنْ ذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً، وَمِنْ أَنْبَاءِ خَبَرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «نُوحِيهِ» خَبَرُ ذَلِكَ، وَ (مِنْ أَنْبَاءِ) حَالًا مِنَ الْهَاءِ فِي نُوحِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِنُوحِيهِ ; أَيِ الْإِيحَاءُ مَبْدُوءٌ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
(إِذْ يُلْقُونَ) : ظَرْفٌ لِكَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ لَدَيْهِمْ.
وَالْأَقْلَامُ جَمْعُ قَلَمٍ، وَالْقَلَمُ بِمَعْنَى الْمَقْلُومِ ; أَيِ الْمَقْطُوعِ ; كَالنَّقْضِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ ; وَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ.
(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ يَقْتَرِعُونَ أَيَّهُمْ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ «يُلْقُونَ» وَ (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) مِثْلُ: (إِذْ يُلْقُونَ).
وَيَخْتَصِمُونَ بِمَعْنَى اخْتَصَمُوا، وَكَذَلِكَ يُلْقُونَ ; أَيْ أَلْقَوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَكَى الْحَالَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ) : إِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذَا الَّتِي قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَخْتَصِمُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ. (مِنْهُ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ، وَمِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
(اسْمُهُ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «الْمَسِيحُ» خَبَرُهُ، وَ «عِيسَى» بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا آخَرَ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا مُفْرَدٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ اسْمُهُ، وَلَوْ كَانَ عِيسَى خَبَرًا آخَرَ لَكَانَ أَسْمَاؤُهُ أَوْ أَسْمَاؤُهَا عَلَى تَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِكَلِمَةٍ. وَ (ابْنُ مَرْيَمَ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ ابْنُ....
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ وَلَا صِفَةً ; لِأَنَّ ابْنَ مَرْيَمَ لَيْسَ بِاسْمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ ابْنُ عَمْرٍو إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ عَلَمًا عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ فِي اسْمِهِ عَلَى مَعْنَى الْكَلِمَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِيُبَشِّرُكِ بِمُكَوَّنٍ أَوْ مَخْلُوقٍ. (وَجِيهًا - وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ - وَيُكَلِّمُ) : أَحْوَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَصَاحِبُهَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهُوَ مُكَوَّنٌ أَوْ مَخْلُوقٌ. وَجَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْحَالُ عَنْهُ وَهُوَ نَكِرَةٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحْوَالًا مِنَ الْمَسِيحِ، وَلَا مِنْ عِيسَى، وَلَا مِنَ ابْنِ مَرْيَمَ ; لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الِابْتِدَاءُ أَوِ الْمُبْتَدَأُ أَوْ هُمَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي الْحَالِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَحْوَالًا مِنَ الْهَاءِ فِي اسْمِهِ ; لِلْفَصْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، وَلِعَدَمِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْمَهْدِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُكَلِّمُ ; أَيْ يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا.
: (وَكَهْلًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى وَجِيهًا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ «فِي الْمَهْدِ» إِذَا جَعَلْتَهُ حَالًا. (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) : حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَجِيهًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ) : قَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [آلِ عِمْرَانَ: ٤٠] قِصَّةَ زَكَرِيَّا.
وَ (إِذَا قَضَى أَمْرًا) : مَشْرُوحٌ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُعَلِّمُهُ) : يُقْرَأُ بِالنُّونِ حَمْلًا عَلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٤٤] وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى «يُبَشِّرُكَ»، وَمَوْضِعُهُ حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى (وَجِيهًا).
(كَهَيْئَةِ) : الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هَيْئَةً كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَالْهَيْئَةُ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمُهَيَّأِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَقِيلَ: الْهَيْئَةُ اسْمٌ لِحَالِ الشَّيْءِ وَلَيْسَتْ مَصْدَرًا، وَالْمَصْدَرُ التَّهَيُّؤُ وَالتَّهْيِئَةُ.
وَيُقْرَأُ (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) : عَلَى إِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ وَحَذْفِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ اشْتِقَاقُ الطَّيْرِ وَأَحْكَامُهُ، وَالْهَاءُ فِي (فِيهِ) : تَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْهَيْئَةِ ; لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُهَيَّأِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ عَلَى الْكَافِ ; لِأَنَّهَا اسْمٌ بِمَعْنَى مِثْلَ، وَأَنْ تَعُودَ عَلَى الطَّيْرِ، وَأَنْ تَعُودَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ.
(فَيَكُونُ) : أَيْ فَيَصِيرُ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ هُنَا التَّامَّةَ ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا صَارَ، وَصَارَ بِمَعْنَى انْتَقَلَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ، وَ «طَائِرًا» عَلَى الْأَوَّلِ حَالٌ، وَعَلَى الثَّانِي خَبَرٌ.
وَ (بِإِذْنِ اللَّهِ) : يَتَعَلَّقُ بِيَكُونُ. (بِمَا تَأْكُلُونَ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَنَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَمَصْدَرِيَّةً، وَكَذَلِكَ مَا الْأُخْرَى. وَالْأَصْلُ فِي: (تَدَّخِرُونَ) : تَذْدَخِرُونَ إِلَّا أَنَّ الذَّالَ مَجْهُورَةٌ، وَالتَّاءَ مَهْمُوسَةٌ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا ; فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا ; لِأَنَّهَا مِنْ مَخْرَجِهَا لِتَقْرُبَ مِنَ الذَّالِ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الذَّالُ دَالًا، وَأُدْغِمَتْ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقْلِبُ التَّاءَ ذَالًا، وَيُدْغِمُ، وَيُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَمَاضِيهِ ذَخُرَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)).
263
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمُصَدِّقًا) : حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: «بِآيَةٍ» ; أَيْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ وَمُصَدِّقًا «لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَجِيهًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ: مِنَ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ بَيْنَ. وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ أَوْ نَفْسُ الظَّرْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَا» فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا مُصَدِّقًا.
(وَلِأُحِلَّ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: لِأُخَفِّفَ عَنْكُمْ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) : هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ «مِنْ» بِأَحَسَّ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكُفْرِ. (أَنْصَارِي) : هُوَ جَمْعُ نَصِيرٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَمْعُ نَصْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنْ تُقَدِّرَ فِيهِ حَذْفَ مُضَافٍ ; أَيْ مَنْ صَاحِبُ نَصْرِي أَوْ تَجْعَلَهُ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ. وَ (إِلَى) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ أَنْصَارِي مُضَافًا إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَنْصَارِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى مَعَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ إِلَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ وَلَا قِيَاسَ يُعَضِّدُهُ.
264
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمُصَدِّقًا) : حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: «بِآيَةٍ» ; أَيْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ وَمُصَدِّقًا «لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَجِيهًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ: مِنَ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ بَيْنَ. وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ أَوْ نَفْسُ الظَّرْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَا» فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا مُصَدِّقًا.
(وَلِأُحِلَّ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: لِأُخَفِّفَ عَنْكُمْ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) : هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ «مِنْ» بِأَحَسَّ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكُفْرِ. (أَنْصَارِي) : هُوَ جَمْعُ نَصِيرٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَمْعُ نَصْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنْ تُقَدِّرَ فِيهِ حَذْفَ مُضَافٍ ; أَيْ مَنْ صَاحِبُ نَصْرِي أَوْ تَجْعَلَهُ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ. وَ (إِلَى) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ أَنْصَارِي مُضَافًا إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَنْصَارِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى مَعَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ إِلَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ وَلَا قِيَاسَ يُعَضِّدُهُ.
(الْحَوَارِيُّونَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ الْأَصْلُ ; لِأَنَّهَا يَاءُ النِّسْبَةِ.
وَيُقْرَأُ بِتَخْفِيفِهَا ; لِأَنَّهُ فَرَّ مِنْ تَضْعِيفِ الْيَاءِ، وَجَعَلَ ضَمَّةَ الْيَاءِ الْبَاقِيَةَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَصْلِ. كَمَا قَرَأُوا: (يَسْتَهْزِئُونَ) : مَعَ أَنَّ ضَمَّةَ الْيَاءِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ مُسْتَثْقَلٌ.
وَاشْتِقَاقُ الْكِلِمَةِ مِنَ الْحَوَرِ ; وَهُوَ الْبَيَاضُ ; وَكَانَ الْحَوَارِيُّونَ يُقَصِّرُونَ الثِّيَابَ.
وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ حَارَ يَحُورُ إِذَا رَجَعَ، فَكَأَنَّهُمُ الرَّاجِعُونَ إِلَى اللَّهِ ; وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَقَاءِ الْقَلْبِ وَخُلُوصِهِ وَصِدْقِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) : فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: مَعَ الشَّاهِدِينَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) : وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَفْخِيمًا، وَالْأَصْلُ وَهُوَ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) : كِلَاهُمَا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَتَعَرَّفَانِ بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْدِيرُ: رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ ; لِأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يُتَوَفَّى بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْجَمْعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَافِعُكَ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ.
(وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) : قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَامًّا عَلَى مَا قَبْلَهُ،
وَقِيلَ: هُوَ لِعِيسَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ظَاهِرُونَ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى قَبْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْمُلْكِ وَالْغَلَبَةِ. فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى عَمَلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «الَّذِينَ» مُبْتَدَأٌ «فَأُعَذِّبُهُمْ» خَبَرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ فَأُعَذِّبُهُمْ ; تَقْدِيرُهُ: فَأُعَذِّبُ بِغَيْرِ ضَمِيرِ مَفْعُولٍ لِعَمَلِهِ فِي الظَّاهِرِ قَبْلَهُ، فَحَذَفَ وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمَشْغُولَ بِضَمِيرِ الْفَاعِلِ مُفَسِّرًا لَهُ، وَمَوْضِعُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ الصِّلَةِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْفِعْلُ قَبْلَ الَّذِينَ ; لِأَنَّ «أَمَّا» لَا يَلِيهَا الْفِعْلُ. وَمِثْلُهُ: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ). (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) [فُصِّلَتْ: ١٧] فِيمَنْ نَصَبَ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَنَتْلُوهُ خَبَرُهُ.
وَالثَّانِي: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ وَذَلِكَ خَبَرُهُ ; أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَنَتْلُوهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيِ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَتْلُوًّا وَ «مِنَ الْآيَاتِ» حَالٌ مِنَ الْهَاءِ.
وَالثَّالِثُ: ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ ; وَمِنَ الْآيَاتِ خَبَرُهُ ; وَنَتْلُوهُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ «نَتْلُوهُ» تَقْدِيرُهُ: نَتْلُو ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنَ الْآيَاتِ حَالًا مِنَ الْهَاءِ أَيْضًا. وَ (الْحَكِيمِ) : هُنَا بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) : هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ فَلَا مَوْضِعَ لَهَا، وَقِيلَ: مَوْضِعُهَا حَالٌ مِنْ آدَمَ، وَ «قَدْ» مَعَهُ مُقَدَّرَةٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَالْهَاءُ لِآدَمَ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلْقٍ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: خَلَقَهُ كَائِنًا مِنْ تُرَابٍ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. (ثُمَّ قَالَ لَهُ) : ثُمَّ هَاهُنَا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ، لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «كُنْ» لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَقَدْ جَاءَتْ ثُمَّ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ; كَقَوْلِهِ: (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ) [يُونُسَ: ٤٦] وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَالِمٌ، ثُمَّ هُوَ كَرِيمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى صَوَّرَهُ طِينًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ لَحْمًا وَدَمًا.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) : الْهَاءُ ضَمِيرُ عِيسَى، وَمَنْ شُرْطِيَّةٌ، وَالْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي، وَ «مِنَ الْعِلْمِ» حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا ضَمِيرٌ، وَفِي حَاجَّكَ ضَمِيرُ فَاعِلٍ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، وَالْعِلْمُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا ; لِأَنَّ مِنْ لَا تُزَادُ فِي الْجَوَابِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَمِنْ زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ الْعِلْمِ إِيَّاكَ.
وَالْأَصْلُ فِي: (تَعَالَوْا) : تَعَالَيُوا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَاضِي تَعَالَى وَالْيَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ ;
لِأَنَّهُ مِنَ الْعُلُوِّ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِوُقُوعِهَا رَابِعَةً، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا، فَإِذَا جَاءَتْ وَاوُ الْجَمْعِ حُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبَقِيَتِ الْفَتْحَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا.
وَ (نَدْعُ) : جَوَابٌ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَ (نَبْتَهِلْ) : وَ (نَجْعَلْ) : مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ، وَنَجْعَلِ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ; أَيْ نُصَيِّرُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: «عَلَى الْكَاذِبِينَ».
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُوَ الْقَصَصُ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ. (إِلَّا اللَّهُ) : خَبَرٌ «مِنْ إِلَهٍ» تَقْدِيرُهُ: وَمَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَاضِيًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا تَقْدِيرُهُ: يَتَوَلَّوْا ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ لَا يُحْذَفُ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَوَاءٍ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْجَرِّ، وَهُوَ صِفَةٌ لِكَلِمَةٍ، وَيُقْرَأُ «سَوَاءً» بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُقْرَأُ «كِلْمَةٍ» بِكَسْرِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالنَّقْلِ مِثْلُ فَخْذٍ وَكَبْدٍ. (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) : ظَرْفٌ لِسَوَاءٍ ; أَيْ لِتَسْتَوِيَ الْكَلِمَةُ بَيْنَنَا،
وَلَمْ تُؤَنَّثْ سَوَاءٍ، وَهُوَ صِفَةُ مُؤَنَّثٍ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَلَّا نَعْبُدَ) : فَفِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَرٌّ بَدَلًا مِنْ سَوَاءٍ، أَوْ مِنْ كَلِمَةٍ تَقْدِيرُهُ: تَعَالَوْا إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: هُوَ رَفْعٌ، تَقْدِيرُهُ: هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَأَنْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى سَوَاءٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ ; أَيْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ التَّوْحِيدُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَلَّا نَعْبُدَ) مُبْتَدَأً، وَالظَّرْفُ خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِكَلِمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ أَلَّا نَعْبُدَ بِالظَّرْفِ. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : هُوَ مَاضٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَتَوَلَّوْا لِفَسَادِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَقُولُوا اشْهَدُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَتَوَلَّوْا لِلْمُشْرِكِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ جَوَابُ الشَّرْطِ ; وَالتَّقْدِيرُ: فَقُولُوا لَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِمَ تُحَاجُّونَ) : الْأَصْلُ لِمَا، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) [الْبَقَرَةِ: ٩١] وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتُحَاجُّونَ. (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) : مِنْ يَتَعَلَّقُ بِأُنْزِلَتْ ; وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ) : هَا لِلتَّنْبِيهِ. وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَيُقْرَأُ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ، وَبِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ، وَبِالْقَصْرِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
إِعْرَابَ هَذَا الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ) [الْبَقَرَةِ: ٨٥] (فِيمَا) : هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَ (عِلْمٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَلَكُمْ خَبَرُهُ، وَبِهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِعِلْمٍ فِي الْأَصْلِ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِعِلْمٍ ; إِذْ فِيهِ تَقْدِيمُ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ، فَإِنْ عَلَّقْتَهَا بِمَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْمَصْدَرُ جَازَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى تَبْيِينًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِإِبْرَاهِيمَ) : الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِأَوْلَى، وَخَبَرُ إِنَّ «لَلَّذِينِ اتَّبَعُوهُ» وَأَوْلَى أَفْعَلُ مِنْ وَلِيَ يَلِي، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ ; لِأَنَّ فَاءَهُ وَاوٌ، فَلَا تَكُونُ لَامُهُ وَاوًا ; إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا فَاؤُهُ وَلَامُهُ وَاوَانِ إِلَّا وَاوٌ. (وَهَذَا النَّبِيُّ) : مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ إِنَّ.
وَيُقْرَأُ «النَّبِيَّ» بِالنَّصْبِ ; أَيْ وَاتَّبَعُوا هَذَا النَّبِيَّ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجْهَ النَّهَارِ) : وَجْهَ ظَرْفٌ لِآمِنُوا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «وَاكْفُرُوا آخِرَهُ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأُنْزِلَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُقِرُّوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ، فَعَلَى هَذَا اللَّامُ غَيْرُ زَائِدَةٍ.
(يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ يُؤْتِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ) : مَنْ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَبَرُهُ، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ صِفَةٌ لِمَنْ ; لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَكَمَا يَقَعُ الشَّرْطُ خَبَرًا يَقَعُ صِلَةً وَصِفَةً وَحَالًا. وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهَبِ الْعُطَارِدِيُّ: «تِأْمَنْهُ» بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَ (بِقِنْطَارٍ) : الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي ; أَيْ فِي حِفْظِ قِنْطَارٍ، وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى. (يُؤَدِّهِ) : فِيهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ، إِحْدَاهَا كَسْرُ الْهَاءِ وَصِلَتُهَا بِيَاءٍ فِي اللَّفْظِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عِلَّةَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِيَةُ كَسْرُ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ اكْتَفَى بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى الْهَاءِ شَيْءٌ كَبَقِيَّةِ الضَّمَائِرِ. وَالثَّالِثَةُ: إِسْكَانُ الْهَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُجْرِيَ الْوَصْلُ مُجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَحَقُّ هَاءِ الضَّمِيرِ الْحَرَكَةُ، وَإِنَّمَا تَسَكَّنُ هَاءُ السَّكْتِ. وَالرَّابِعَةُ ضَمُّ الْهَاءِ، وَصِلَتُهَا بِوَاوٍ فِي اللَّفْظِ عَلَى تَبْيِينِ
الْهَاءِ الْمَضْمُومَةِ بِالْوَاوِ ; لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الضَّمَّةِ، كَمَا بُيِّنَتِ الْمَكْسُورَةُ بِالْيَاءِ. وَالْخَامِسَةُ: ضَمُّ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ لِدَلَالَةِ الضَّمَّةِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ وَإِبْدَالُهَا وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا. (إِلَّا مَا دُمْتَ) :«مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ ; أَيْ إِلَّا مُدَّةَ دَوَامِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; لِأَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَقَعُ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فِي حَالِ مُلَازَمَتِكَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الدَّالِ، وَمَاضِيهِ دَامَ يَدُومُ مِثْلُ قَالَ يَقُولُ وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَمَاضِيهِ دِمْتَ تَدَامُ مِثْلُ خِفْتَ تَخَافُ، وَهِيَ لُغَةٌ). (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) : أَيْ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ بِأَنَّهُمْ. (فِي الْأُمِّيِّينَ) : صِفَةٌ لِـ «سَبِيلٌ» قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فَصَارَتْ حَالًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ فِي «عَلَيْنَا» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى عَمَلٍ لَيْسَ فِي الْحَالِ.
فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا، وَسَبِيلٌ اسْمُ لَيْسَ، وَعَلَيْنَا الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ سَبِيلٌ بِعَلَيْنَا فَيَكُونُ فِي لَيْسَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ «عَلَى» بِيَقُولُونَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى يَفْتَرُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكَذِبَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْكَذِبَ ; لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى التَّبْيِينِ. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلَى) : فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: «مَنْ أَوْفَى» وَهِيَ شَرْطٌ، «فَإِنَّ اللَّهَ» جَوَابُهُ وَالْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ، فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب (٧٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَلْوُونَ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِفَرِيقٍ، وَجُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ أُفْرِدَ جَازَ عَلَى اللَّفْظِ،
وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِسْكَانِ اللَّامِ، وَإِثْبَاتِ وَاوَيْنِ بَعْدَهَا. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَضَمِّ الْيَاءِ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَيُقْرَأُ بِضَمِّ اللَّامِ وَوَاوٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ، وَالْأَصْلُ يَلْوُونَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ الْوَاوَ لِانْضِمَامِهَا، ثُمَّ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى اللَّامِ. وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ ذَكَّرَ اللِّسَانَ، وَأَمَّا مَنْ أَنَّثَهُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهُ عَلَى أَلْسُنٍ.
وَ (بِالْكِتَابِ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَلْسِنَةِ ; أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِالْكِتَابِ، أَوْ نَاطِقَةٌ بِالْكِتَابِ.
وَ (مِنَ الْكِتَابِ) : هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِحَسِبَ.
قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَقُولَ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُؤْتِيَهُ. وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. (بِمَا كُنْتُمْ) : فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَبَّانِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى السَّبَبِ، فَتَتَعَلَّقُ بِكَانَ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ; أَيْ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِرَبَّانِيِّينَ. (تَعْلَمُونَ) : يُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ ; أَيْ تَعْرِفُونَ، وَبِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ تُعَلِّمُونَهُ غَيْرَكُمْ.
(تَدْرُسُونَ) : يُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ ; أَيْ تَدْرُسُونَ الْكِتَابَ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَضَمِّ التَّاءِ ; أَيْ تُدَرِّسُونَ النَّاسَ الْكِتَابَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ ; أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَوِ النَّبِيُّ، فَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولُ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ النَّبِيِّ أَوِ الْبَشَرِ، وَيُقْرَأُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِرَارًا مِنْ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ. (إِذْ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِإِضَافَةِ بَعْدَ إِلَيْهَا. (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِإِضَافَةِ إِذْ إِلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَخَذَ ; أَيْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: لِرِعَايَةِ مَا آتَيْتُكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ
بِالْمِيثَاقِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ ; أَيْ تَوَثَّقْنَا عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَ (مِنْ كِتَابٍ) : حَالٌ مِنَ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مِنَ الَّذِي. وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ وَتَخْفِيفِ «مَا» وَفِيهَا وَجْهَانِ:
فَحَذَفَ الثَّانِيَةَ لِضَعْفِهَا بِكَوْنِهَا بَدَلًا، وَحُصُولِ التَّكْرِيرِ بِهَا، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ جِنِّيٍّ فِي الْمُحْتَسَبِ. وَيُقْرَأُ آتَيْتُكُمْ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ) : وَلِقَوْلِهِ: إِصْرِي.
وَيُقْرَأُ آتَيْنَاكُمْ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ.
(أَأَقْرَرْتُمْ) : فِيهِ حَذْفٌ ; أَيْ بِذَلِكَ.
وَ (إِصْرِي) : بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا.
قَالَ تَعَالَى ﴿فَمن تولى بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ تَوَلَّى) : مَنْ مُبْتَدَأٌ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَنْ تَكُونَ شَرْطًا. (فَأُولَئِكَ) : مُبْتَدَأٌ ثَانٍ. وَ (هُمُ الْفَاسِقُونَ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُمْ فَصْلًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ) : مَنْصُوبٌ بِـ «يَبْغُونَ» وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ كَذَلِكَ قَبْلَهُ، وَبِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ. (طَوْعًا وَكَرْهًا) : مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ ; لِأَنَّ أَسْلَمَ بِمَعْنَى انْقَادَ وَأَطَاعَ. (تُرْجَعُونَ) : بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَبِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ آمَنَّا) : تَقْدِيرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ آمَنَّا ; أَيْ أَنَا وَمَنْ مَعِي، أَوْ أَنَا وَالْأَنْبِيَاءُ،
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ قُولُوا آمَنَّا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى إِظْهَارِ الْغَيْنَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْإِدْغَامُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ كَسْرَةَ الْغَيْنِ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَ (دِينًا) : تَمْيِيزٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ يَبْتَغِ. وَ (غَيْرَ) : صِفَةٌ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فَصَارَتْ حَالًا. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) : هُوَ فِي الْإِعْرَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] وَقَدْ ذُكِرَ.
قَالَ تَعَالَى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ) : حَالٌ أَوْ ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا يَهْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. (وَشَهِدُوا) : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَفَرُوا، وَقَدْ مَعَهُ مُقَدَّرَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ يَهْدِي ; لِأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ «شَهِدَ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ». وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَفَرُوا ; أَيْ كَيْفَ يَهْدِيهِمْ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَنْ شَهِدُوا ; أَيْ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا، وَأَنْ شَهِدُوا فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ.
قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولَئِكَ) : مُبْتَدَأٌ وَ (جَزَاؤُهُمْ) : مُبْتَدَأٌ ثَانٍ ; وَ (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ) : أَنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا خَبَرُ جَزَاءٍ ; أَيْ جَزَاؤُهُمُ اللَّعْنَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ بَدَلًا مِنْ أُولَئِكَ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا) : حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْجَارُّ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَفِيهَا: يَعْنِي اللَّعْنَةَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَهَبًا) : تَمْيِيزٌ، وَالْهَاءُ فِي بِهِ تَعُودُ عَلَى الْمِلْءِ أَوْ عَلَى ذَهَبٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِمَّا تُحِبُّونَ) :«مَا» بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً ; لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُنْفَقُ. فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ أَبِي عَلِيٍّ. (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) : قَدْ ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْهَاءُ فِي: بِهِ تَعُودُ عَلَى «مَا» أَوْ عَلَى «شَيْءٍ».
قَالَ تَعَالَى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حِلًّا) : أَيْ حَلَالًا، وَالْمَعْنَى كَانَ كُلُّهُ حِلًّا. (إِلَّا مَا حَرَّمَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اسْمِ كَانَ وَالْعَامِلُ فِيهِ كَانَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ حِلًّا، وَيَكُونُ فِيهِ ضَمِيرٌ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ ; لِأَنَّ حِلًّا وَحَلَالًا فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْجَائِزِ وَالْمُبَاحِ. (مِنْ قَبْلِ) : مُتَعَلِّقٌ بِحَرَّمَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِافْتَرَى، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْكَذِبِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى إِظْهَارِ اللَّامِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُقْرَأُ بِالْإِدْغَامِ ; لِأَنَّ الصَّادَ فِيهَا انْبِسَاطٌ، وَفِي اللَّامِ انْبِسَاطٌ بِحَيْثُ يَتَلَاقَى طَرَفَاهُمَا فَصَارَا مُتَقَارِبَيْنِ ; وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ صَدَقَ اللَّهُ.
(حَنِيفًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمِنَ الْمِلَّةِ ; وَذَكَّرَ لِأَنَّ الْمِلَّةَ وَالدِّينَ وَاحِدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وُضِعَ لِلنَّاسِ) : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَالْخَبَرُ «لِلَّذِي».
وَ (مُبَارَكًا وَهُدًى) : حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ. وَإِنْ شِئْتَ فِي الْجَارِّ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الِاسْتِقْرَارُ.
قَالَ تَعَالَى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً مُضْمِرَةً لِمَعْنَى الْبَرَكَةِ وَالْهُدَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهَا حَالًا أُخْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لِلْعَالَمِينَ ; وَالْعَامِلُ فِيهِ هُدًى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «مُبَارَكًا» وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهَا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِمَ تَصُدُّونَ) : اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ وَ «مِنْ» مَفْعُولُهُ. وَ (تَبْغُونَهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَصُدُّونَ، أَوْ مِنَ السَّبِيلِ ; لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَيْنِ رَاجِعَيْنِ إِلَيْهِمَا ; فَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ تُجْعَلَ حَالًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَ: (عِوَجًا) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَرُدُّوكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ (كَافِرِينَ) وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مِثْلَ قَوْلِهِ: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) [آلِ عِمْرَانَ: ٨٦].
قَالَ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)).
فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَفَرَّقُوا) : الْأَصْلُ تَتَفَرَّقُوا، فَحَذَفَ التَّاءَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ سَكَّنَ التَّاءَ الْأُولَى حِينَ نَزَّلَهَا مُتَّصِلَةً بِالْأَلِفِ، ثُمَّ أَدْغَمَ. (نِعْمَةَ اللَّهِ) : هُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. وَ (عَلَيْكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ، كَمَا تَقُولُ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النِّعْمَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. (
إِذْ كُنْتُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلنِّعْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلِاسْتِقْرَارِ فِي عَلَيْكُمْ، إِذَا جَعَلْتَهُ حَالًا. (فَأَصْبَحْتُمْ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ " بِنِعْمَتِهِ " ; فَيَكُونَ الْمَعْنَى " فَأَصْبَحْتُمْ فِي نِعْمَتِهِ، أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِنِعْمَتِهِ، أَوْ مَشْمُولِينَ. وَ (إِخْوَانًا) : عَلَى هَذَا حَالٌ يَعْمَلُ فِيهَا أَصْبَحَ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِخْوَانًا) خَبَرَ أَصْبَحَ، وَيَكُونُ الْجَارُّ حَالًا يَعْمَلُ فِيهِ أَصْبَحَ، أَوْ حَالًا مِنْ إِخْوَانٍ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَصْبَحَ ; لِأَنَّ النَّاقِصَةَ تَعْمَلُ فِي الْجَارِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (إِخْوَانًا) ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: تَآخَيْتُمْ بِنِعْمَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَصْبَحَ تَامَّةً، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي " بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا " قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ فِي النَّاقِصَةِ.
وَالْإِخْوَانُ: جَمْعُ أَخٍ، مِنَ الصَّدَاقَةِ، لَا مِنَ النَّسَبِ.
وَالشَّفَا: يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَهِيَ مِنَ الْوَاوِ، تَثْنِيَةُ شَفَوَانِ.
و ﴿من النَّار﴾ صفة لحفرة وَمن للتَّبْعِيض وَالضَّمِير فى ﴿مِنْهَا﴾ للنار أَو للحفرة
قَالَ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)).
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " كَانَ " هُنَا التَّامَّةَ، فَتَكُونُ " أُمَّةٌ " فَاعِلًا، وَ " يَدْعُونَ " صِفَتُهُ، وَمِنْكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَكُنْ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِأُمَّةٍ قُدِّمَ عَلَيْهَا فَصَارَ حَالًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ، وَأُمَّةٌ اسْمَهَا، وَيَدْعُونَ الْخَبَرَ ; وَمِنْكُمْ إِمَّا حَالٌ مِنْ أُمَّةٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ النَّاقِصَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَدْعُونَ صِفَةً وَمِنْكُمُ الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) : إِنَّمَا حَذَفَ التَّاءَ ; لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْبَيِّنَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ ; وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى الدَّلِيلِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ) : هُوَ ظَرْفٌ لِعَظِيمٍ، أَوْ لِلِاسْتِقْرَارِ فِي لَهُمْ، وَفِي تَبَيَضُّ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: فَتْحُ التَّاءِ وَكَسْرُهَا مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَتَبْيَاضُّ بِالْأَلِفِ مَعَ فَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَكَذَلِكَ تَسْوَدُّ.
(أَكَفَرْتُمْ) : تَقْدِيرُهُ: فَيُقَالُ لَهُمْ أَكَفَرْتُمْ، وَالْمَحْذُوفُ هُوَ الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) : قِيلَ: كُنْتُمْ فِي عِلْمِي. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى صِرْتُمْ. وَقِيلَ: كَانَ زَائِدَةٌ ; وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمْ خَيْرَ، وَهَذَا خَطَأٌ ; لِأَنَّ كَانَ لَا تُزَادُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ، وَلَا تَعْمَلُ فِي خَيْرٍ. (تَأْمُرُونَ) : خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ تَفْسِيرٌ لِخَبَرٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ.
(لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) : أَيْ لَكَانَ الْإِيمَانُ، لَفْظُ الْفِعْلِ عَلَى إِرَادَةِ الْمَصْدَرِ. (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) : هُوَ مُسْتَأْنَفٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَذًى) : أَذًى مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى يَضُرُّوكُمْ ; لِأَنَّ الْأَذَى وَالضَّرَرَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا. وَقِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ بِالْهَزِيمَةِ، لَكِنْ يُؤْذُوكُمْ بِتَصَدِّيكُمْ لِقِتَالِهِمْ. (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) : الْأَدْبَارَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالْمَعْنَى: يَجْعَلُونَ ظُهُورَهُمْ تَلِيكُمْ.
(ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) : مُسْتَأْنَفٌ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ ; لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ يَقَعُ عَقِيبَ الْمَشْرُوطِ ; وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي ; فَلِذَلِكَ لَمْ تَصْلُحْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ كَالْجَوَابِ، وَهَذَا خَطَأٌ ; لِأَنَّ الْجَزْمَ فِي مِثْلِهِ قَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [مُحَمَّدٍ: ٣٨] وَإِنَّمَا اسْتُؤْنِفَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
قَالَ تَعَالَى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا بِحَبْلٍ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، تَقْدِيرُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي كُلِّ حَالٍ، إِلَّا فِي حَالِ عَقْدِ الْعَهْدِ لَهُمْ، فَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: إِلَّا مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسُوا) : الْوَاوُ اسْمُ لَيْسَ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ عَلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهَا، وَ (سَوَاءً) : خَبَرُهَا ; أَيْ لَيْسُوا مُسْتَوِينَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) : فَأُمَّةٌ مُبْتَدَأٌ، وَقَائِمَةٌ نَعْتٌ لَهُ، وَالْجَارُّ قَبْلَهُ خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ فَاعِلَ الْجَارِّ، وَقَدْ وُضِعَ الظَّاهِرُ هُنَا مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَالْأَصْلُ مِنْهُمْ أُمَّةٌ. وَقِيلَ: أُمَّةٌ رُفِعَ بِسَوَاءٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرَ لَيْسَ. وَقِيلَ: أُمَّةٌ اسْمُ لَيْسَ، وَالْوَاوُ فِيهَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ. وَسَوَاءٌ الْخَبَرُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ بَيَانَ تَفَاوُتِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ التَّالِيَةِ لِآيَاتِ اللَّهِ، بَلِ الْغَرَضُ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا. (يَتْلُونَ) : صِفَةٌ أُخْرَى لِأُمَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمَةٍ، أَوْ مِنَ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ، وَالْعَامِلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِقْرَارُ.
وَ (آنَاءَ اللَّيْلِ) : ظَرْفٌ لِيَتْلُونَ لَا لِقَائِمَةٍ ; لِأَنَّ قَائِمَةً قَدْ وُصِفَتْ فَلَا تَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ الصِّفَةِ، وَوَاحِدُ الْآنَاءِ إِنًى مِثْلُ مِعًى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُ الْهَمْزَةَ، فَيَصِيرُ عَلَى وَزْنِ عَصَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنْي بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ. (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتْلُونَ، أَوْ فِي قَائِمَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَكَذَلِكَ «يُؤْمِنُونَ. وَيَأْمُرُونَ. وَيَنْهَوْنَ» إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا أَحْوَالًا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَفْتَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَفْعَلُوا) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَثَلِ رِيحٍ) : فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: كَمَثَلِ مُهْلَكِ رِيحٍ ; أَيْ مَا يُنْفِقُونَ هَالِكٌ كَالَّذِي تُهْلِكُهُ. (فِيهَا صِرٌّ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ صِفَةِ الرِّيحِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَرْفَعَ صِرًّا بِالظَّرْفِ ; لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَ (أَصَابَتْ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ أَيْضًا صِفَةً لِرِيحٍ ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لَـ (صِرٌّ) ; لِأَنَّ الصِّرَّ مُذَكَّرٌ، وَالضَّمِيرُ فِي أَصَابَتْ مُؤَنَّثٌ. وَقِيلَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، بَلْ تَشْبِيهُ مَا أَنْفَقُوا بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كَمَثَلِ رِيحٍ....) إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَهْلَكَتْهُ) مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَامْتَزَجَتِ الْمَعَانِي فِيهِ، وَفُهِمَ الْمَعْنَى. (ظَلَمُوا) : صِفَةٌ لِقَوْمٍ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ دُونِكُمْ) : صِفَةٌ لِبِطَانَةٍ. قِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى بِطَانَةً دُونَكُمْ فِي الْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ. (لَا يَأْلُونَكُمْ) : فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِبِطَانَةٍ، أَوْ حَالٍ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ، وَيَأْلُوا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَ (خَبَالًا) : عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتَصَبَ لِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، تَقْدِيرُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ فِي تَخْبِيلِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ). (
وَدُّوا) : مُسْتَأْنَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْلُونَكُمْ، وَقَدْ مَعَهُ مُرَادَةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ; أَيْ عَنَتَكُمْ. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ) : حَالٌ أَيْضًا ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. (مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) : مَفْعُولُ بَدَتْ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ ظَهَرَتْ خَارِجَةً مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ) : قَدْ ذُكِرَ إِعْرَابُهُ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٨٥] (بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) : الْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ ; أَيْ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَقِيلَ:
هُوَ وَاحِدٌ. (عَضُّوا عَلَيْكُمُ) : عَلَيْكُمْ مَفْعُولُ عَضُّوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ حَنِقِينَ عَلَيْكُمْ. (مِنَ الْغَيْظِ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَضُّوا أَيْضًا، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ; أَيْ مِنْ أَجْلِ الْغَيْظِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ مُغْتَاظِينَ. (بِغَيْظِكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ كَمَا تَقُولُ مَاتَ بِالسُّمِّ ; أَيْ بِسَبَبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ مُوتُوا مُغْتَاظِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَضُرُّكُمْ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا بِمَعْنَى ضُرٍّ، وَيُقَالُ فِيهِ ضَارَّهُ يَضُورُهُ بِالْوَاوِ،
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ، وَفِي رَفْعِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي نِيَّةِ التَّقْدِيمِ ; أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنْ تَتَّقُوا، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَذْفُ الْفَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الضَّمَّةُ إِعْرَابٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ إِعْرَابًا ; بَلْ لَمَّا اضْطُرَّ إِلَى التَّحْرِيكِ حَرَّكَ بِالضَّمِّ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ، وَقِيلَ: حَرَّكَهَا بِحَرَكَتِهَا الْإِعْرَابِيَّةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهَا فِي الْأَصْلِ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ حُرِّكَ بِالْفَتْحِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، إِذْ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ. (شَيْئًا) : مَصْدَرٌ ; أَيْ ضَرَرًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ غَدَوْتَ) : أَيْ وَاذْكُرْ. (مِنْ أَهْلِكَ) : مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ; وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَيْنِ أَهْلِكَ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ تَقْدِيرُهُ: فَارَقْتَ أَهْلَكَ. وَ (تُبَوِّئُ) : حَالٌ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى آخَرَ تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَمِنَ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةُ ; فَالْأَوَّلُ «الْمُؤْمِنِينَ». وَالثَّانِي: «مَقَاعِدَ» وَمِنَ الثَّانِي: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الْحَجِّ: ٢٦] وَقِيلَ: اللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ. (لِلْقِتَالِ) : يَتَعَلَّقُ بِـ (تُبَوِّئُ). وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَقَاعِدَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَقَاعِدَ ; لِأَنَّ الْمَقْعَدَ هُنَا الْمَكَانُ وَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ هَمَّتْ) : إِذْ ظَرْفٌ لِـ (عَلِيمٌ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ (تُبَوِّئُ)، وَأَنْ يَكُونَ
لِـ (غَدَوْتَ). (أَنْ تَفْشَلَا) : تَقْدِيرُهُ: بِأَنْ تَفْشَلَا ; فَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ، أَوْ جَرٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِلَافِ. (وَعَلَى) : يَتَعَلَّقُ بِيَتَوَكَّلُ، دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى إِنْ فَشِلُوا فَتَوَكَّلُوا أَنْتُمْ، وَإِنْ صَعُبَ الْأَمْرُ فَتَوَكَّلُوا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِبَدْرٍ) : ظَرْفٌ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى فِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَ (أَذِلَّةً) : جَمْعُ ذَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا الْبِنَاءِ فِرَارًا مِنْ تَكْرِيرِ اللَّامِ الَّذِي يَكُونُ فِي ذُلُلًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ) : تَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «إِذْ هَمَّتْ». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِنَصَرَكُمْ. (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) : هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ نَقَلَتْهُ إِلَّا الْإِثْبَاتِ، وَيَبْقَى زَمَانُ الْفِعْلِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَ (أَنْ يُمِدَّكُمْ) : فَاعِلُ يَكْفِيَكُمْ. (بِثَلَاثَةِ آلَافٍ) : الْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرِ الْفَاءِ، وَقَدْ أُسْكِنَتْ فِي الشَّوَاذِّ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذِهِ التَّاءُ إِذَا وُقِفَ عَلَيْهَا كَانَتْ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ الَّتِي يُوقَفُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ هِيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا وَهِيَ لُغَةٌ. وَقُرِئَ شَاذًّا بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ ; وَهُوَ إِجْرَاءُ الْوَصْلِ مُجْرَى الْوَقْفِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْمُضَافَ وَالْمُضَافَ إِلَيْهِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. (
مُسَوِّمِينَ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ ; أَيْ مُسَوِّمِينَ خَيْلَهُمْ أَوْ أَنْفُسَهُمْ، وَبِفَتْحِهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا بُشْرَى) : مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَيَكُونُ جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَةَ إِلَى وَاحِدٍ، وَالْهَاءُ فِي جَعَلَهُ تَعُودُ عَلَى إِمْدَادٍ أَوْ عَلَى التَّسْوِيمِ، أَوْ عَلَى النَّصْرِ أَوْ عَلَى التَّنْزِيلِ.
(وَلِتَطْمَئِنَّ) : مَعْطُوفٌ عَلَى بُشْرَى إِذَا جَعَلْتَهَا مَفْعُولًا لَهُ، تَقْدِيرُهُ: لِيُبَشِّرَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ. وَيَجُوزُ يَتَعَلَّقُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بَشَّرَكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) : اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا أَمَدَّكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، أَوْ نَصَرَكُمْ. (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) : قِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّفْصِيلِ ; أَيْ كَانَ الْقَطْعُ لِبَعْضِهِمْ، وَالْكَبْتُ لِبَعْضِهِمْ، وَالتَّاءُ فِي يَكْبِتَهُمْ أَصْلٌ، وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ، وَهُوَ مِنْ كَبَدْتُهُ أَصَبْتُ كَبِدَهُ. (فَتَنْقَلِبُوا) : مَعْطُوفٌ عَلَى يَقْطَعُ أَوْ يَكْبِتَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ) : اسْمُ لَيْسَ «شَيْءٌ» وَ «لَكَ» الْخَبَرُ. وَ «مِنَ الْأَمْرِ» حَالٌ مِنْ شَيْءٍ ; لِأَنَّهَا صِفَةٌ مُقَدَّمَةٌ. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) : مَعْطُوفَانِ عَلَى يَقْطَعُ. وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَضْعَافًا) : مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الرِّبَا ; تَقْدِيرُهُ: مُضَاعَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَارِعُوا) : يُقْرَأُ بِالْوَاوِ وَحَذْفِهَا، فَمَنْ أَثْبَتَهَا عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا اسْتَأْنَفَ. وَيَجُوزُ إِمَالَةُ الْأَلِفِ هُنَا لِكَسْرَةِ الرَّاءِ.
(عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ) : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: عَرْضُهَا مِثْلُ عَرْضِ السَّمَاوَاتِ. (أُعِدَّتْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهَا ; لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ
إِلَيْهِ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا عَامِلَ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مُتَأَوَّلٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرْضَ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْحَقِيقِيُّ ; بَلْ يُرَادُ بِهِ الْمَسَافَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَالِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْحَالِ بِالْخَبَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ».
وَأَمَّا (الْكَاظِمِينَ) : فَعَلَى الْجَرِّ وَالنَّصْبِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي أَوْجُهِهِ الثَّلَاثَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَجَزَاؤُهُمْ ثَالِثًا، وَمَغْفِرَةٌ خَبَرُ الثَّالِثِ، وَالْجَمِيعُ خَبَرُ الَّذِينَ. وَ (ذَكَرُوا) : جَوَابُ إِذَا. (وَمَنْ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (يَغْفِرُ) : خَبَرُهُ. (إِلَّا اللَّهُ) : فَاعِلُ يَغْفِرُ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْمُضْمَرِ فِيهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ اللَّهَ فَاعِلًا احْتَجْتَ إِلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ ; أَيْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لَهُ غَيْرُ اللَّهِ. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُصِرُّوا، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اسْتَغْفِرُوا، وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ ; أَيْ يَعْلَمُونَ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَا، أَوْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْهَا.
قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنِعْمَ أَجْرُ) : الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَنِعْمَ الْأَجْرُ الْجَنَّةُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَلَتْ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ سُنَنٍ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي «سِيرُوا» ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الشَّرْطِ ; أَيْ إِنْ شَكَكْتُمْ فَسِيرُوا. (كَيْفَ) : خَبَرُ «كَانَ» وَ «عَاقِبَةٌ» اسْمُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَهِنُوا) : الْمَاضِي وَهَنَ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ فِي الْمُضَارِعِ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، وَ (الْأَعْلَوْنَ) : وَاحِدُهَا أَعْلَى، حُذِفَتْ مِنْهُ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبَقِيَتِ الْفَتْحَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَرْحٌ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَرَحْتُهُ إِذَا جَرَحْتُهُ، وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْجُرْحِ أَيْضًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بِالضَّمِّ: أَلَمُ الْجِرَاحِ. وَيُقْرَأُ بِضَمِّهِمَا عَلَى الْإِتْبَاعِ كَالْيُسْرِ وَالْيُسُرِ، وَالطُّنْبِ وَالطُّنُبِ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَصْدَرُ قَرُحَ يَقْرَحُ إِذَا صَارَ لَهُ قُرْحَةً، وَهُوَ بِمَعْنَى دَمِيَ. (وَتِلْكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (الْأَيَّامُ) : خَبَرُهُ، وَ (نُدَاوِلُهَا) : جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ بَدَلًا، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَنُدَاوِلُهَا الْخَبَرُ، وَيُقْرَأُ يُدَاوِلُهَا بِالْيَاءِ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
وَ (بَيْنَ النَّاسِ) : ظَرْفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْهَاءِ. (وَلِيَعْلَمَ) : اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ دَوَالَهَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لِيَتَّعِظُوا وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَ (مِنْكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَتَّخِذُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «شُهَدَاءَ» (وَلِيُمَحِّصَ) : مَعْطُوفٌ عَلَى «وَلِيَعْلَمَ».
قَالَ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتُمْ) : أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ ; أَيْ بَلْ أَحَسِبْتُمْ وَ (أَنْ تَدْخُلُوا) : أَنْ وَالْفِعْلُ يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَطْفًا عَلَى الْأُولَى، وَبِضَمِّهَا عَلَى تَقْدِيرِ: وَهُوَ يَعْلَمُ، وَالْأَكْثَرُ فِي الْقِرَاءَةِ الْفَتْحُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجْزُومٌ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمِيمَ لَمَّا حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُرِّكَتْ بِالْفَتْحِ إِتْبَاعًا لِلْفَتْحَةِ قَبْلَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ، وَالْوَاوُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِمْ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَظْنَنْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَنْ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، وَيُقَرِّبُ عَلَيْكَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّكَ لَوْ قَدَّرْتَ الْوَاوَ بِمَعَ صَحَّ الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْجَرِّ بِمِنْ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ.
وَقُرِئَ بِضَمِّ اللَّامِ ; وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَنْ تَلْقَوْهُ
مِنْ قَبْلُ، فَأَنْ تَلْقَوْهُ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْتِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، وَالْمُرَادُ لِقَاءَ أَسْبَابِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» وَإِذَا رَأَى الْمَوْتَ لَمْ تَبْقَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ، وَيُقْرَأُ: «تُلَاقُوهُ» وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ; لِأَنَّ مَا لَقِيكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ مِثْلُ سَافَرْتُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِرَسُولٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَسُولٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رُسُلٌ» نَكِرَةٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الرُّسُلِ. أَفَإِنْ مَاتَ الْهَمْزَةُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِمَا قَبْلَهُ، وَقَالَ يُونُسُ: الْهَمْزَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ أَوِ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ لَوْ قَدَّمْتَ الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ وَجْهٌ ; إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ أَتَزُورُنِي فَإِنْ زُرْتُكَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٤] وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَقَدْ وَقَعَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَالْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ ; لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ.
296
(عَلَى أَعْقَابِكُمْ) : حَالٌ ; أَيْ رَاجِعِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) : أَنْ تَمُوتَ اسْمُ كَانَ، وَ «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» الْخَبَرُ وَاللَّامُ لِلتَّبْيِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بَكَانِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: الْمَوْتُ لِنَفْسٍ ; وَأَنْ تَمُوتَ تَبْيِينٌ لِلْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِتَمُوتَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيمِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، ثُمَّ قُدِّمَتِ اللَّامُ. (كِتَابًا) : مَصْدَرٌ أَيْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابًا. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) : بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالْإِدْغَامِ لِتَقَارُبِهِمَا. (نُؤْتِهِ مِنْهَا) : مِثْلُ:
(يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٥] (وَسَنَجْزِي) : بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ) : الْأَصْلُ فِيهِ «أَيْ» الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ فِي مَعْنَى كَمِ الَّتِي لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا جُعِلَتِ الْكَافُ مَعَ ذَا فِي قَوْلِهِمْ «كَذَا» لِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى لَوْلَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَبْلَهُ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا قَدْ قُرِئَ بِهِ: فَالْمَشْهُورُ «كَأَيِّنْ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ.
297
(عَلَى أَعْقَابِكُمْ) : حَالٌ ; أَيْ رَاجِعِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) : أَنْ تَمُوتَ اسْمُ كَانَ، وَ «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» الْخَبَرُ وَاللَّامُ لِلتَّبْيِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بَكَانِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: الْمَوْتُ لِنَفْسٍ ; وَأَنْ تَمُوتَ تَبْيِينٌ لِلْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِتَمُوتَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيمِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، ثُمَّ قُدِّمَتِ اللَّامُ. (كِتَابًا) : مَصْدَرٌ أَيْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابًا. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) : بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالْإِدْغَامِ لِتَقَارُبِهِمَا. (نُؤْتِهِ مِنْهَا) : مِثْلُ:
(يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٥] (وَسَنَجْزِي) : بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ) : الْأَصْلُ فِيهِ «أَيْ» الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ فِي مَعْنَى كَمِ الَّتِي لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا جُعِلَتِ الْكَافُ مَعَ ذَا فِي قَوْلِهِمْ «كَذَا» لِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى لَوْلَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَبْلَهُ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا قَدْ قُرِئَ بِهِ: فَالْمَشْهُورُ «كَأَيِّنْ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ.
فَمَا وَهَنُوا) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِهَا عَلَى تَخْفِيفِ الْمَكْسُورِ.
وَ (اسْتَكَانُوا) : اسْتَفْعَلُوا مِنَ الْكَوْنِ، وَهُوَ الذُّلُّ، وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَصْلَهَا اسْتَكَنُوا، أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ، فَنَشَأَتِ الْأَلِفُ وَهَذَا خَطَأٌ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا ثَبَتَتْ عَيْنُهَا ; تَقُولُ اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ اسْتِكَانَةً، فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ لَهُ وَالْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّ اسْمَ كَانَ مَا بَعْدَ «إِلَّا» وَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا، وَالْأَوَّلُ اسْمًا ; لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ (أَنْ قَالُوا) : يُشْبِهُ الْمُضْمَرَ فِي أَنَّهُ لَا يُضْمَرُ فَهُوَ أَعْرَفُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا مُثْبَتٌ، وَالْمَعْنَى: كَانَ قَوْلُهُمْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأْبُهُمْ فِي الدُّعَاءِ. وَيُقْرَأُ بِرَفْعِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا الْخَبَرُ. (فِي أَمْرِنَا) : يَتَعَلَّقُ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ إِسْرَافُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُ ; أَيْ إِسْرَافًا وَاقِعًا فِي أَمْرِنَا.
قَالَ تَعَالَى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ النَّصْبَ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ.
قَالَ تَعَالَى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الرُّعْبَ) : يُقْرَأُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. (
بِمَا أَشْرَكُوا) : الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِنُلْقِي، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِ «فِي» بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ فِي ظَرْفٌ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى السَّبَبِ، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَلَيْسَتْ مَصْدَرِيَّةً. (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) : أَيِ النَّارُ، فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالْمَثْوَى مَفْعَلٌ مِنْ ثَوَيْتُ، وَلَامُهُ يَاءٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) : صَدَقَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّحْوِ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ. فَيُقَالُ صَدَقْتَ زَيْدًا فِي الْحَدِيثِ: (إِذْ) : ظَرْفٌ لِصَدَقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْوَعْدِ. (حَتَّى) : يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: دَامَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ فَشَلِكُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ فِي مِثْلِ هَذَا بِشَيْءٍ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ، بَلْ هِيَ حِرَفٌ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَعْنَى الْغَايَةِ، كَمَا تَدْخُلُ الْفَاءُ وَالْوَاوُ عَلَى الْجُمَلِ. وَجَوَابُ «إِذَا» مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَانَ أَمْرُكُمْ.
وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) : مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ تُصْعِدُونَ) : تَقْدِيرُهُ: اذْكُرُوا إِذْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَعَصَيْتُمْ، أَوْ تَنَازَعْتُمْ، أَوْ فَشِلْتُمْ. (وَلَا تَلْوُونَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ التَّاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٨]
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ التَّاءِ، وَمَاضِيهِ أَلْوَى، وَهِيَ لُغَةٌ، وَيُقْرَأُ: (عَلَى أَحَدٍ) بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الْجَبَلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) : جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. (بِغَمٍّ) : التَّقْدِيرُ: بَعْدَ غَمٍّ ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةً لِغَمٍّ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِسَبَبِ الْغَمِّ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: بَدَلَ غَمٍّ فَيَكُونُ صِفَةً لَغَمٍّ أَيْضًا.
(لِكَيْلَا تَحْزَنُوا) : قِيلَ: «لَا» زَائِدَةٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَمَّهُمْ لِيُحْزِنَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مَوَاقِفَهُمْ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً ; وَالْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ. وَكَيْ هَاهُنَا هِيَ الْعَامِلَةُ بِنَفْسِهَا لِأَجْلِ اللَّامِ قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمَنَةً) : الْمَشْهُورُ فِي الْقِرَاءَةِ فَتْحُ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْأَمْنِ، وَيُقْرَأُ بِسُكُونِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْأَمْرِ، وَ (نُعَاسًا) : بَدَلٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُعَاسًا هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَمَنَةً حَالٌ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ نُعَاسًا ذَا أَمَنَةٍ ; لِأَنَّ النُّعَاسَ لَيْسَ هُوَ الْأَمْنُ ; بَلْ هُوَ الَّذِي حَصَلَ الْأَمْنُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَنَةٌ مَفْعُولًا. (
302
يَغْشَى) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ النُّعَاسُ، وَبِالتَّاءِ لِلْأَمَنَةِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَ (طَائِفَةً) : مُبْتَدَأٌ، وَ (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) : خَبَرُهُ: «يَظُنُّونَ» حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَهَمَّتْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَهَمَّتْهُمْ صِفَةً، وَيَظُنُّونَ الْخَبَرَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ يَغْشَى، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى إِذْ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَ (غَيْرَ الْحَقِّ) : الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ ; أَيْ أَمْرًا غَيْرَ الْحَقِّ، وَبِاللَّهِ الثَّانِي. وَ (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) : مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ: ظَنًّا يُمَثِّلُ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ. (مِنْ شَيْءٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، وَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَنَا، فَمِنَ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا حَالٌ; إِذِ الْأَصْلُ هَلْ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ، وَلَنَا تَبْيِينٌ، وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ كَقَوْلِهِ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الْإِخْلَاصِ: ٤]. (كُلَّهُ لِلَّهِ) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّوْكِيدِ، أَوِ الْبَدَلِ، وَلِلَّهِ الْخَبَرُ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلِلَّهِ الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. (يَقُولُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُخْفُونَ وَ (شَيْءٍ) : اسْمُ كَانَ، وَالْخَبَرُ لَنَا، أَوْ مِنَ الْأَمْرِ مِثْلُ: «هَلْ لَنَا». (لَبَرَزَ الَّذِينَ) : بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ; أَيْ أُخْرِجُوا بِأَمْرِ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)).
303
يَغْشَى) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ النُّعَاسُ، وَبِالتَّاءِ لِلْأَمَنَةِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَ (طَائِفَةً) : مُبْتَدَأٌ، وَ (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) : خَبَرُهُ: «يَظُنُّونَ» حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَهَمَّتْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَهَمَّتْهُمْ صِفَةً، وَيَظُنُّونَ الْخَبَرَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ يَغْشَى، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى إِذْ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَ (غَيْرَ الْحَقِّ) : الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ ; أَيْ أَمْرًا غَيْرَ الْحَقِّ، وَبِاللَّهِ الثَّانِي. وَ (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) : مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ: ظَنًّا يُمَثِّلُ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ. (مِنْ شَيْءٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، وَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَنَا، فَمِنَ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا حَالٌ; إِذِ الْأَصْلُ هَلْ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ، وَلَنَا تَبْيِينٌ، وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ كَقَوْلِهِ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الْإِخْلَاصِ: ٤]. (كُلَّهُ لِلَّهِ) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّوْكِيدِ، أَوِ الْبَدَلِ، وَلِلَّهِ الْخَبَرُ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلِلَّهِ الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. (يَقُولُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُخْفُونَ وَ (شَيْءٍ) : اسْمُ كَانَ، وَالْخَبَرُ لَنَا، أَوْ مِنَ الْأَمْرِ مِثْلُ: «هَلْ لَنَا». (لَبَرَزَ الَّذِينَ) : بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ; أَيْ أُخْرِجُوا بِأَمْرِ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذَا هُنَا يُحْكَى بِهَا حَالُهُمْ، فَلَا يُرَادُ بِهَا الْمُسْتَقْبَلُ لَا مَحَالَةَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا قَالُوا وَهُوَ لِلْمَاضِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَفَرُوا، وَقَالُوا مَاضِيَيْنِ. وَيُرَادُ بِهَا الْمُسْتَقْبَلُ الْمَحْكِيُّ بِهِ الْحَالَ ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَكْفُرُونَ وَيَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ. (أَوْ كَانُوا غُزًّى) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَشْدِيدِ الزَّايِ، وَهُوَ جَمْعُ غَازٍ، وَالْقِيَاسُ غُزَاةٌ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ، لَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى فُعَّلٍ حَمْلًا عَلَى الصَّحِيحِ ; نَحْوَ شَاهِدٍ وَشُهَّدٍ وَصَائِمٍ وَصُوَّمٍ. وَيُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ غُزَاةٌ، فَحُذِفَتِ الْهَاءُ تَخْفِيفًا ; لِأَنَّ التَّاءَ دَلِيلُ الْجَمْعِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الصِّفَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ، فَحَذَفَ إِحْدَى الزَّايَيْنِ كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ. لِيَجْعَلَ اللَّهُ: اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ نَدَمَهُمْ أَوْ أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ حَسْرَةً، وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَقِيلَ: اللَّامُ هُنَا لَامُ الْعَاقِبَةِ ; أَيْ صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)).
304
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مُتُّمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ الْأَصْلُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ يَمُوتُ، وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ لُغَةٌ، يُقَالُ: مَاتَ يَمَاتُ ; مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، فَكَمَا تَقُولُ خِفْتَ تَقُولُ مِتَّ. (لَمَغْفِرَةٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (مِنَ اللَّهِ) : صِفَتُهُ. (وَرَحْمَةٌ) : مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةٌ لَهُمْ. وَ «خَيْرٌ» الْخَبَرُ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا ; أَيْ مِنْ جَمْعِهِمُ الْمَالَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَإِلَى اللَّهِ) : اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلِدُخُولِهَا عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ «يُحْشَرُونَ» غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِالنُّونِ، وَالْأَصْلُ لَتُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ) : مَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَ (رَحْمَةٍ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِـ «لِنْتَ» (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) : الْأَمْرُ هُنَا جِنْسٌ وَهُوَ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْفَرَائِضِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. (فَإِذَا عَزَمْتَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الزَّايِ ; أَيْ إِذَا تَخَيَّرْتَ أَمْرًا بِالْمُشَاوَرَةِ وَعَزَمْتَ عَلَى فِعْلِهِ «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»
305
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مُتُّمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ الْأَصْلُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ يَمُوتُ، وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ لُغَةٌ، يُقَالُ: مَاتَ يَمَاتُ ; مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، فَكَمَا تَقُولُ خِفْتَ تَقُولُ مِتَّ. (لَمَغْفِرَةٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (مِنَ اللَّهِ) : صِفَتُهُ. (وَرَحْمَةٌ) : مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةٌ لَهُمْ. وَ «خَيْرٌ» الْخَبَرُ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا ; أَيْ مِنْ جَمْعِهِمُ الْمَالَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَإِلَى اللَّهِ) : اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلِدُخُولِهَا عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ «يُحْشَرُونَ» غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِالنُّونِ، وَالْأَصْلُ لَتُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ) : مَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَ (رَحْمَةٍ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِـ «لِنْتَ» (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) : الْأَمْرُ هُنَا جِنْسٌ وَهُوَ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْفَرَائِضِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. (فَإِذَا عَزَمْتَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الزَّايِ ; أَيْ إِذَا تَخَيَّرْتَ أَمْرًا بِالْمُشَاوَرَةِ وَعَزَمْتَ عَلَى فِعْلِهِ «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ التَّاءِ ; أَيْ إِذَا أَمَرْتُكَ بِفِعْلِ شَيْءٍ، فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ، فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ ذَا الَّذِي) : هُوَ مِثْلُ: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ» وَقَدْ ذُكِرَ، (مِنْ بَعْدِهِ) : أَيْ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ ضَمِيرُ الْخِذْلَانِ أَيْ بَعْدَ الْخِذْلَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَغُلَّ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى النَّبِيِّ ; أَيْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (يَأْتِ بِمَا غَلَّ) وَمَفْعُولُ يَغُلُّ مَحْذُوفٌ ; أَيْ يَغُلُّ الْغَنِيمَةَ أَوِ الْمَالَ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَاضِيهِ أَغْلَلْتُهُ ; أَيْ نَسَبْتُهُ إِلَى الْغُلُولِ، كَمَا تَقُولُ أَكْذَبْتُهُ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ ; أَيْ لَا يُقَالُ عَنْهُ إِنَّهُ يَغُلُّ ; أَيْ يَخُونُ. الثَّانِي هُوَ مِنْ أَغْلَلْتُهُ، إِذَا وَجَدْتُهُ غَالًّا ; كَقَوْلِكَ أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَصَبْتُهُ مَحْمُودًا. وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَغُلَّهُ غَيْرُهُ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُخَانَ. (وَمَنْ يَغْلُلْ) : مُسْتَأْنَفَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فِي حَالِ عِلْمِ الْغَالِّ بِعُقُوبَةِ الْغُلُولِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ) : مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ «كَمَنْ» الْخَبَرُ، وَلَا يَكُونُ شَرْطًا ; لِأَنَّ كَمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَ (بِسَخَطٍ) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمْ دَرَجَاتٌ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ذُو دَرَجَاتٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَ (عِنْدَ اللَّهِ) : ظَرْفٌ لِمَعْنَى دَرَجَاتٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُمْ مُتَفَاضِلُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِدَرَجَاتٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِرَسُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِبَعْثٍ. وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [الْبَقَرَةِ: ١٢٩.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةٌ لِمُصِيبَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ) : مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» ; أَيْ وَاقِعٌ بِإِذْنِ اللَّهِ. (
وَلِيَعْلَمَ) : اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أَصَابَكُمْ هَذَا، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْنَى فَبِإِذْنِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِأَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ. (تَعَالَوْا قَاتِلُوا) : إِنَّمَا لَمْ يَأْتِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ، وَتَعَالَوْا ذَكَرَ مَا لَوْ سَكَتَ عَنْهُ، لَكَانَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ الثَّانِي حَالٌ. (هُمْ لِلْكُفْرِ) : اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: «لِلْكُفْرِ» وَ «لِلْإِيمَانِ» مُتَعَلِّقَةٌ بِأَقْرَبَ، وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ أَقْرَبُ فِيهِمَا ; لِأَنَّهُمَا يُشْبِهَانِ الظَّرْفَ، وَكَمَا عَمِلَ أَطْيَبُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا فِي الظَّرْفَيْنِ الْمُقَدَّرَيْنِ ; لِأَنَّ أَفْعَلَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَزِيَادَتِهِ، فَيَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَعْنًى غَيْرِ الْآخَرِ ; فَتَقْدِيرُهُ: يَزِيدُ قُرْبُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى قُرْبِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاللَّامُ هُنَا عَلَى بَابِهَا. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى إِلَى. (يَقُولُونَ) : مُسْتَأْنَفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقْرَبِ ; أَيْ قَرُبُوا إِلَى الْكُفْرِ قَائِلِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالُوا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ صِفَةً لِلَّذِينِ نَافَقُوا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ وَفِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ فِي أَفْوَاهِهِمْ أَوْ قُلُوبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ «قُلْ فَادْرَءُوا» وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ. (
وَقَعَدُوا) : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ قَالُوا وَمَعْمُولِهَا، وَهُوَ «لَوْ أَطَاعُونَا» وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَقَدْ مُرَادَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ أَحْيَاءٌ) : أَيْ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى (أَمْوَاتًا)، كَمَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا ; بَلْ قَاعِدًا. وَقِيلَ: أَضْمَرَ الْفِعْلَ، تَقْدِيرُهُ: بَلِ احْسِبُوهُمْ أَحْيَاءً، وَحَذَفَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَحْيَاءٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَحْيَوْنَ عِنْدَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ «يُرْزَقُونَ»، وَيُرْزَقُونَ صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْيَاءٍ ; أَيْ يَحْيَوْنَ مَرْزُوقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ إِذَا جَعَلْتَهُ صِفَةً.
قَالَ تَعَالَى: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَرِحِينَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُرْزَقُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَحْيَاءٌ ; إِذَا نُصِبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْيَاءٌ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ. (مِنْ فَضْلِهِ) : حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ فِي الظَّرْفِ ; تَقْدِيرُهُ: بِمَا آتَاهُمُوهُ كَائِنًا مِنْ فَضْلِهِ.
وَ (يَسْتَبْشِرُونَ) : مَعْطُوفٌ عَلَى فَرِحِينَ ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ هُنَا يُشْبِهُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَرِحِينَ، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي آتَاهُمْ. (مِنْ خَلْفِهِمْ) : مُتَعَلِّقٌ بِيَلْحَقُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا تَقْدِيرُهُ: مُتَخَلِّفِينَ عَنْهُمْ. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : أَيْ بِأَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، فَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ ; أَيْ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِسَلَامَةِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْتَبْشِرُونَ) : هُوَ مُسْتَأْنَفٌ مُكَرَّرٌ لِلتَّوْكِيدِ. (وَأَنَّ اللَّهَ) : بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ; أَيْ وَبِأَنَّ اللَّهَ وَبِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا) : فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ»، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا» وَمِنْهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْسَنُوا.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) : بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا أَوْ صِفَةٌ.
(فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) : الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: زَادَهُمُ الْقَوْلُ. (
حَسْبُنَا اللَّهُ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَحَسْبُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ تَقْدِيرُهُ: فَحَسْبُنَا اللَّهُ ; أَيْ كَافِينَا. يُقَالُ أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ ; أَيْ كَفَانِي.
قَالَ تَعَالَى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ. (لَمْ يَمْسَسْهُمْ) : حَالٌ أَيْضًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي انْقَلَبُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا بِنِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي الْحَالِ ; تَقْدِيرُهُ: فَانْقَلَبُوا مُنَعَّمِينَ بَرِيئِينَ مِنْ سُوءٍ. (وَاتَّبَعُوا) : مَعْطُوفٌ عَلَى انْقَلَبُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ وَقَدِ اتَّبَعُوا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكُمُ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «الشَّيْطَانُ» : خَبَرُهُ.
وَ (يُخَوِّفُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْعَامِلُ الْإِشَارَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَيُخَوِّفُ الْخَبَرُ، وَالتَّقْدِيرُ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، وَقُرِئَ فِي الشُّذُوذِ «يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاؤُهُ» وَقِيلَ: لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى يُخَوِّفُ مَنْ يَتْبَعُهُ، فَأَمَّا مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَخَافُهُ. (فَلَا تَخَافُوهُمْ) : إِنَّمَا جَمَعَ الضَّمِيرَ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ جِنْسٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْأَوْلِيَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَحْزُنْكَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَالْمَاضِي حَزِنَهُ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَالْمَاضِي أَحْزَنَ، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقِيلَ: حَزِنَ حَدَثَ لَهُ الْحُزْنُ، وَحَزَنَتْهُ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحُزْنَ، وَأَحْزَنَتْهُ عَرَّضَتْهُ لِلْحُزْنِ. (يُسَارِعُونَ) : يُقْرَأُ بِالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ، وَيُقْرَأُ يُسْرِعُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَسْرَعِ. (شَيْئًا) : فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ ; أَيْ ضَرَرًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَفَاعِلُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَأَمَّا الْمَفْعُولَانِ فَالْقَائِمُ مَقَامَهُمَا قَوْلُهُ «أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» فَإِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نَافِعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَفِي «مَا» وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي.
قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ) : خَبَرُ كَانَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا كَانَ اللَّهُ مُرِيدًا لِأَنْ يَذَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ لِيَذَرَ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ اللَّامِ يَنْتَصِبُ بِأَنْ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَخَبَرُ كَانَ هُوَ اسْمُهَا فِي الْمَعْنَى، وَلَيْسَ التَّرْكُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: اللَّامُ زَائِدَةٌ، وَالْخَبَرُ هُوَ الْفِعْلُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا قَدِ انْتَصَبَ فَإِنْ كَانَ النَّصْبُ بِاللَّامِ نَفْسِهَا فَلَيْسَتْ زَائِدَةً، وَإِنْ كَانَ النَّصْبُ بِأَنْ فَسَدَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَصْلُ يَذَرُ يَوْذَرُ، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ تَشْبِيهًا لَهَا بِيَدَعُ ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ لِحَذْفِ الْوَاوِ فِي يَذَرُ عِلَّةٌ إِذْ لَمْ تَقَعْ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، وَلَا مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْكَسْرَةِ، بِخِلَافِ يَدَعُ فَإِنَّ الْأَصْلَ يَوْدَعُ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ الْيَاءِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْكَسْرَةِ ; إِذِ الْأَصْلُ يَوْدِعُ مِثْلُ يَوْعِدُ، وَإِنَّمَا فُتِحَتِ الدَّالُ مِنْ يَدَعُ ; لِأَنَّ لَامَهُ حَرْفٌ حَلْقِيٌّ فَيُفْتَحُ لَهُ مَا قَبْلَهُ، وَمِثْلُهُ يَسَعُ وَيَطَأُ، وَيَقَعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْ يَذَرُ مَاضِيًا اكْتِفَاءً بِتَرَكَ. (يَمِيزَ) : يُقْرَأُ بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَمَاضِيهِ مَازَ وَبِتَشْدِيدِهَا، وَمَاضِيهِ مَيَّزَ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَيْسَ التَّشْدِيدُ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِثْلُ فَرِحَ وَفَرَّحْتُهُ ; لِأَنَّ مَازَ وَمَيَّزَ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَ «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» الْفَاعِلُ، وَفِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: «هُوَ»، وَهُوَ ضَمِيرُ الْبُخْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ يَبْخَلُونَ. وَالثَّانِي: هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْبُخْلُ، وَ «هُوَ» عَلَى هَذَا فَصْلٌ.
وَيُقْرَأُ: «تَحْسَبَنَّ» بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارُ الْبُخْلِ، قَبْلَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا فَصْلٌ، أَوْ تَوْكِيدٌ، وَالْأَصْلُ فِي (مِيرَاثُ) : مِوْرَاثٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمِيرَاثُ مَصْدَرٌ كَالْمِيعَادِ.
قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) : الْعَامِلُ فِي مَوْضِعِ إِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ قَالُوا، وَهِيَ الْمَحْكِيَّةُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِقَوْلِ الْمُضَافِ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَصْلٌ ضَعِيفٌ وَيَزْدَادُ هُنَا ضَعْفًا ; لِأَنَّ الثَّانِيَ فِعْلٌ، وَالْأَوَّلَ مَصْدَرٌ، وَإِعْمَالُ الْفِعْلِ أَقْوَى. (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) : يُقْرَأُ بِالنُّونِ، وَمَا قَالُوا مَنْصُوبٌ بِهِ. (وَقَتْلَهُمُ) : مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ، وَتَسْمِيَةُ الْفَاعِلِ، وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَتْلُهُمْ بِالرَّفْعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. (
وَنَقُولُ) : بِالنُّونِ وَالْيَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «بِمَا» خَبَرُهُ ; وَالتَّقْدِيرُ: مُسْتَحَقٌّ بِمَا قَدَّمَتْ.
وَ (ظَلَّامٍ) : فَعَّالٍ مِنَ الظُّلْمِ. فَإِنْ قِيلَ: بِنَاءُ فَعَّالٍ لِلتَّكْثِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ الْكَثِيرِ نَفْيُ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، فَلَوْ قَالَ بِظَالِمٍ لَكَانَ أَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فَعَّالًا قَدْ جَاءَ لَا يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ كَقَوْلِ طَرَفَةَ.
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفُدِ.
لَا يُرِيدُ هَاهُنَا أَنَّهُ قَدْ يَحُلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفُدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْبُخْلِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِأَنَّ تَمَامَ الْمَدْحِ لَا يَحْصُلُ بِإِرَادَتِهِ الْكَثْرَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّ ظَلَّامٍ هُنَا لِلْكَثْرَةِ، لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِلْعِبَادِ، وَفِي الْعِبَادِ كَثْرَةٌ، وَإِذَا قُوبِلَ بِهِمُ الظُّلْمُ كَانَ كَثِيرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ انْتَفَى الظُّلْمُ الْقَلِيلُ ضَرُورَةً ; لِأَنَّ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الظُّلْمَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ نَفْعِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، كَانَ لِلظُّلْمِ الْقَلِيلِ الْمَنْفَعَةِ أَتْرَكَ.
وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّسَبِ ; أَيْ لَا يُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَكُونُ مِنْ بَزَّازٍ وَعَطَّارٍ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالُوا) : هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: (الَّذِينَ قَالُوا) [آلِ عِمْرَانَ: ١٨١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَرَفْعًا عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ». (
أَلَّا نُؤْمِنَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى تَقْدِيرِ بِأَنْ لَا نُؤْمِنَ ; لِأَنَّ مَعْنَى عَهِدَ وَصَّى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِفْضَاءِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِنَفْسِ عَهِدَ ; لِأَنَّكَ تَقُولُ عَهِدْتُ إِلَيْهِ عَهْدًا لَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَلْزَمْتُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ أَنْ مَفْصُولَةً وَمَوْصُولَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُهَا فِي الْخَطِّ اكْتِفَاءً بِالتَّشْدِيدِ.
(حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ) : فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ; تَقْدِيرُهُ: بِتَقْرِيبِ قُرْبَانٍ ; أَيْ يَشْرَعُ لَنَا ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالزُّبُرِ) : يُقْرَأُ بِغَيْرِ بَاءٍ، اكْتِفَاءً بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَبِالْبَاءِ عَلَى إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَالزُّبُرِ جَمْعُ زَبُورٍ مِثْلُ رَسُولٍ وَرُسُلٍ (وَالْكِتَابِ) : جِنْسٌ.
قَالَ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ) : مُبْتَدَأٌ ; وَجَازَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ ; وَ (ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) : الْخَبَرُ، وَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى كُلٍّ ; لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ نُفُوسٌ وَلَوْ ذُكِرَ عَلَى لَفْظِ كُلٍّ جَازَ،
وَإِضَافَةُ (ذَائِقَةُ) غَيْرُ مَحْضَةٍ ; لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ يُحْكَى بِهَا الْحَالُ وَقُرِئَ شَاذًّا: ذَائِقَةٌ الْمَوْتَ بِالتَّنْوِينِ وَالْإِعْمَالِ، وَيُقْرَأُ شَاذًّا أَيْضًا «ذَائِقُهُ الْمَوْتُ» عَلَى جَعْلِ الْهَاءِ ضَمِيرَ كُلٍّ
عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. (وَإِنَّمَا) :«مَا» هَاهُنَا كَافَّةٌ ; فَلِذَلِكَ نَصَبَ «أُجُورَكُمْ» بِالْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَصْدَرِيَّةً لَرَفَعَ أُجُورَكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتُبْلَوُنَّ) : الْوَاوُ فِيهِ لَيْسَتْ لَامَ الْكَلِمَةِ بَلْ وَاوَ الْجَمْعِ حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَضَمَّةُ الْوَاوِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَلَمْ تُقْلَبِ الْوَاوُ أَلِفًا مَعَ تَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ هَمْزُهَا مَعَ انْضِمَامِهَا، وَلَوْ كَانَتْ لَازِمَةً لَجَازَ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ)، (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) : يُقْرَآنِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ ; لِأَنَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ يُكَنَّى عَنْهُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
وَيُقْرَآنِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، تَقْدِيرُهُ: وَقُلْنَا لَهُمْ لَتُبَيِّنُنَّهُ.
وَلَمَّا كَانَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ، جَاءَ بِاللَّامِ وَالنُّونِ فِي الْفِعْلِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا فِي يَكْتُمُونَ اكْتِفَاءً بِالتَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ تَكْتُمُونَهُ تَوْكِيدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)).
وَ (مِنَ الْعَذَابِ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ مَكَانٌ، وَالْمَكَانُ لَا يَعْمَلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ مَصْدَرًا فَتَتَعَلَّقُ «مِنَ» بِهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ فَائِزِينَ، فَالْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (١٩٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ نَعْتًا «لِأُولِي» أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفًا؛ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا. (قِيَامًا وَقُعُودًا) : حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي «يَذْكُرُونَ». (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) : حَالٌ أَيْضًا، وَحَرْفُ الْجَرِّ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ هُوَ الْحَالُ فِي الْأَصْلِ؛ تَقْدِيرُهُ: وَمُضْطَجِعِينَ عَلَى جُنُوبِهِمْ. (وَيَتَفَكَّرُونَ) : مَعْطُوفٌ عَلَى يَذْكُرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا
أَيْضًا؛ أَيْ: يَذْكُرُونَ اللَّهَ مُتَفَكِّرِينَ. (بَاطِلًا) : مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْبَاطِلُ هُنَا فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ مِثْلُ الْعَاقِبَةِ، وَالْعَافِيَةِ؛ وَالْمَعْنَى مَا خَلَقْتُهُمَا عَبَثًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا تَقْدِيرُهُ: مَا خَلَقْتُ هَذَا خَالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ هَذَا، وَالسَّابِقُ ذِكْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِهَذِهِ
فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: (خَلْقِ السَّمَاوَاتِ)، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ مَصْدَرًا، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَعَادَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا خَلَقْتُ هَذَا الْمَذْكُورَ أَوِ الْمَخْلُوقَ. (فَقِنَا) : دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الْجَزَاءِ؛ فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا نَزَّهْنَاكَ أَوْ وَحَّدْنَاكَ فَقِنَا. (مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتُدْخِلَ.
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ «فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ».
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) مُبْتَدَأً، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ الْخَبَرَ، وَعَلَى جَمِيعِ الْأَوْجُهِ الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إِنَّ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (١٩٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنَادِي) : صِفَةٌ لَمُنَادِيًا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُنَادِيًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ مَعَ دَلَالَةِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ مُنَادٍ عَلَيْهِ قِيلَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا هُوَ تَوْكِيدٌ كَمَا تَقُولُ قُمْ قَائِمًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وُصِلَ بِهِ مَا حَسَّنَ التَّكْرِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لِلْإِيمَانِ». وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مَعْرُوفًا بِالنِّدَاءِ يَذْكُرُ مَا لَيْسَ بِنِدَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ يُنَادِي ثَبَتَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا نِدَاءَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
وَمَفْعُولُ يُنَادِي مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: نَادَى النَّاسَ: (أَنْ آمِنُوا) : أَنْ هُنَا بِمَعْنَى أَيْ فَيَكُونُ النِّدَاءُ قَوْلَهُ آمِنُوا،
321
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: عَلَى هَذَا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ بِأَنْ آمِنُوا: (مَعَ الْأَبْرَارِ) : صِفَةٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: أَبْرَارًا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَأَبْرَارًا عَلَى هَذَا حَالٌ، وَالْأَبْرَارُ جَمْعُ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ بَرِرٌ، كَكَتِفٍ وَأَكْتَافٍ. وَيَجُوزُ الْإِمَالَةُ فِي الْأَبْرَارِ تَغْلِيبًا لِكَسْرَةِ الرَّاءِ الثَّانِيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (١٩٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى رُسُلِكَ) : أَيْ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، وَ «عَلَى» مُتَعَلِّقَةٌ بِوَعَدْتَنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآتِنَا وَ (الْمِيعَادَ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْوَعْدِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (١٩٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَامِلٍ مِنْكُمْ) : مِنْكُمْ: صِفَةٌ لِعَامِلٍ. وَ (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) : بَدَلٌ مِنْ «مِنْكُمْ» وَهُوَ بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لَعَيْنٍ وَاحِدَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَكَرٍ أَوِ أُنْثَى صِفَةً أُخْرَى لِعَامِلٍ يُقْصَدُ بِهَا الْإِيضَاحُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَكَرٍ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْكُمْ تَقْدِيرُهُ: اسْتَقَرَّ مِنْكُمْ كَائِنًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَ (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) : مُسْتَأْنَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ صِفَةً. (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) : مُبْتَدَأٌ، وَ (لَأُكَفِّرَنَّ) : وَمَا اتَّصَلَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. (
322
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: عَلَى هَذَا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ بِأَنْ آمِنُوا: (مَعَ الْأَبْرَارِ) : صِفَةٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: أَبْرَارًا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَأَبْرَارًا عَلَى هَذَا حَالٌ، وَالْأَبْرَارُ جَمْعُ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ بَرِرٌ، كَكَتِفٍ وَأَكْتَافٍ. وَيَجُوزُ الْإِمَالَةُ فِي الْأَبْرَارِ تَغْلِيبًا لِكَسْرَةِ الرَّاءِ الثَّانِيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (١٩٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى رُسُلِكَ) : أَيْ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، وَ «عَلَى» مُتَعَلِّقَةٌ بِوَعَدْتَنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآتِنَا وَ (الْمِيعَادَ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْوَعْدِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (١٩٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَامِلٍ مِنْكُمْ) : مِنْكُمْ: صِفَةٌ لِعَامِلٍ. وَ (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) : بَدَلٌ مِنْ «مِنْكُمْ» وَهُوَ بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لَعَيْنٍ وَاحِدَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَكَرٍ أَوِ أُنْثَى صِفَةً أُخْرَى لِعَامِلٍ يُقْصَدُ بِهَا الْإِيضَاحُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَكَرٍ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْكُمْ تَقْدِيرُهُ: اسْتَقَرَّ مِنْكُمْ كَائِنًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَ (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) : مُسْتَأْنَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ صِفَةً. (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) : مُبْتَدَأٌ، وَ (لَأُكَفِّرَنَّ) : وَمَا اتَّصَلَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. (
ثَوَابًا) : مَصْدَرٌ، وَفِعْلُهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ إِثَابَةٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَأُثِيبَنَّكُمْ ثَوَابًا، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ كُوفِيٌّ.
وَالثَّوَابُ بِمَعْنَى الْإِثَابَةِ، وَقَدْ يَقَعُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُثَابِ بِهِ، كَقَوْلِكَ هَذَا الدِّرْهَمُ ثَوَابُكَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْجَنَّاتِ؛ أَيْ: مُثَابًا بِهَا، أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي لَأُدْخِلَنَّهُمْ؛ أَيْ: مُثَابِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أُدْخِلَنَّهُمْ أُعْطِينَّهُمْ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا بَدَلًا مِنْ جَنَّاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا؛ أَيْ: يُعْطِيهِمْ ثَوَابًا.
قَالَ تَعَالَى: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (١٩٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) : أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ، فَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) (١٩٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَخْفِيفِ النُّونِ. وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِهَا وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ. (خَالِدِينَ فِيهَا) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُمْ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَارْتِفَاعُ «جَنَّاتٌ» بِالِابْتِدَاءِ وَبِالْجَارِّ. (نُزُلًا) : مَصْدَرٌ، وَانْتِصَابُهُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى لَهُمْ جَنَّاتٌ؛ أَيْ: نُزُلُهُمْ وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ حَالٌ أَوْ تَمْيِيزٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ نَازِلٍ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
أَوْ يَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ فِي التَّذْكِرَةِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَالِدِينَ. وَيَجُوزُ إِذَا جَعَلْتَهُ مَصْدَرًا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي فِيهَا؛ أَيْ: مَنْزُولَةً. (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) : إِنْ جَعَلْتَ نُزُلًا مَصْدَرًا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صِفَةً لَهُ وَإِنْ جَعَلْتَهُ جَمْعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: نُزُلًا إِيَّاهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ أَيْ بِفَضْلِهِ. (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) : مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ خَيْرٌ وَ «لِلْأَبْرَارِ» نَعْتٌ لِـ (خَيْرٌ). وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ (لِلْأَبْرَارِ)، وَالنِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ؛ أَيْ: وَالَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مُسْتَقِرٌّ لِلْأَبْرَارِ، وَخَيْرٌ عَلَى هَذَا خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلْأَبْرَارِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ، وَ (خَيْرٌ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَهَذَا بِعِيدٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِحَالٍ لِغَيْرِهِ، وَالْفَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِ الْحَالِ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الِاخْتِيَارِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (١٩٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمَنْ يُؤْمِنُ) :«مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبِ اسْمِ إِنَّ وَمَنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ.
324
وَ (خَاشِعِينَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْمِنُ، وَجَاءَ جَمْعًا عَلَى مَعْنَى «مَنْ». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ الْعَامِلُ أُنْزِلَ. وَ (لِلَّهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِخَاشِعِينَ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: «لَا يَشْتَرُونَ» وَهُوَ فِي نِيَّةِ التَّأْخِيرِ؛ أَيْ: لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا لِأَجْلِ اللَّهِ. (أُولَئِكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «لَهُمْ أَجْرُهُمْ» فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ خَبَرُ أَجْرٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ؛ وَ «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ظَرْفٌ لِلْأَجْرِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَهُمْ أَنْ يُؤْجَرُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُمْ وَهُوَ ضَمِيرُ الْأَجْرِ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ مُرْتَفِعًا بِالظَّرْفِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ بِفِعْلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ظَرْفًا لِلْأَجْرِ، وَحَالًا مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُمْ مُبْتَدَأً، وَعِنْدَ رَبِّهِمْ خَبَرَهُ، وَيَكُونَ لَهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الظَّرْفِ.
325
Icon