تفسير سورة آل عمران

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادين.
ووجه اتصالها بما قبلها أمور :
﴿ ١ ﴾ إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به- فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذي يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.
﴿ ٢ ﴾ إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
﴿ ٣ ﴾ إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.
﴿ ٤ ﴾ إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
﴿ ٥ ﴾ إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم { ١ ﴾ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴿ ٢ ﴾ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل ﴿ ٣ ﴾ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ﴿ ٤ ﴾ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴿ ٥ ﴾ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴿ ٦ ﴾ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴿ ٧ ﴾ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب﴿ ٨ ﴾ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ﴿ ٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
﴿ الم ﴾ تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأي الذي عليه المعول أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هي حروف للتنبيه كألا، ويا، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعي العناية بفهمه، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال ﴿ ألف. لام. ميم ﴾ كما يقال ﴿ واحد. اثنان ثلاثة ﴾ وتمد اللام والميم، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر، وفتحها وطرح الهمزة من ﴿ الله ﴾ للتخفيف.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾
تفسير المفردات :
الإله : هو المعبود، والحي : ذو الحياة وهي صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة، والقيوم : القائم على كل شيء بكلاءته وحفظه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.
﴿ نزل عليك الكتاب بالحق ﴾
تفسير المفردات :
نزل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم، وعبر عن الوحي مرة بالتنزيل، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحي أعلى من الموحَى إليه، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شك فيه، ما بين يديه هي الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، والتوراة : كلمة عبرية معناها الشريعة، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهي : سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق، وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهي كتب مختصرة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعاليمه، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل ﴿ الحواريين ﴾ ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه.
﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين، فإنه أثبت الوحي وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم، وهذا تصديق جملي لأصل الوحي إليهم، لا تصديق تفصيلي لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمي إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها صحته فقط.
﴿ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ﴾ أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك، ففي سفر التثنية [ فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها- أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا : خذوا كتاب التوراة هذا وضعوها بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهدا عليكم، لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم- إلى أن قال لهم : وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها ].
وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد.
[ فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده ].
إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة، والقرآن يثبت ذلك، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده، وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة، وأسفارها كلها كتبت بعد السبي يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية [ والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ؛ ولا نعلم ماذا كان أمرها، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرب بختنصر الهيكل، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، ولكن من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها ؟ وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها ؟ فإن قالوا إنه بالإلهام ؛ فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.
وأنزل الله الإنجيل على عيسى، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك، فإن التوراة كتبت زمن نزولها، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت، لكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.
وخلاصة ذلك- إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه وأتباعه حين يبعث، فقد اشتملتا على البشارة والحث على طاعته- ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.
﴿ وأنزل الفرقان ﴾
تفسير المفردات :
والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ والانتقام من النقمة وهي السطوة والتسلط، يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وجاء في آية أخرى ﴿ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ﴾ والميزان هو العدل.
فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.
وقصارى ذلك- إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزل من عند الله وما قام به العدل فهو محكم منزل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطي للعقل والعدل- الفرقان والميزان- كما أنه سبحانه هو المنزل للكتاب، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ﴾ أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك – لهم عذاب شديد بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم – وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.
﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾ أي إن الله بعزته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.
﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه، ولا حال الكافر، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه – إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.
﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾
تفسير المفردات :
والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام واحدها رحم وهي مستودع الجنين من المرأة.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل " ليس في الإمكان أبدع مما كان ".
﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾
تفسير المفردات :
المحكم من أحكم الشيء بمعنى وثقه وأتقنه، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة، بعيد من الاحتمال والاشتباه، ومتشابه وهو ضربان :
﴿ ١ ﴾ ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.
﴿ ٢ ﴾ ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.
وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله :﴿ كتاب أحكمت آياته ﴾ وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته، ووصفه بالمتشابه في قوله :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ﴾ بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ وقوله :﴿ وأوتوا به متشابها ﴾ أي ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ﴾ أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله- أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ﴾.
﴿ وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾ للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان :
﴿ ١ ﴾ رأي بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة، وجعل قوله : والراسخون في العلم كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، واستدلوا على ذلك بأمور منها :
أ-أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.
ب-أن قوله ﴿ يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾ ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.
وهذا رأي كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بن كعب وعائشة.
﴿ ٢ ﴾ ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ ﴿ العلم ﴾ ويجعل قوله :﴿ يقولون آمنا ﴾ كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون- وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة، وكان ابن عباس يقول : أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله.
وردوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما يتفق مع فهم المحكم، وبأن قولهم ﴿ آمنا به كل من عند ربنا ﴾ لا ينافي العلم، فإنهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجيب، فإن الجاهل في اضطراب دائم، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.
ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة- ضروري لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن، ولا يعلم تأويله ذلك : أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحسن والعقل، ولا يستشرفون بأنظارهم على معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل من عالم الغيب، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، إنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾.
أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله ﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾ فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلي حمله على ظاهره، ومثل هذا هو الذي يأتي فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله ؛ فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم- هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كل حكمه كما تقدم، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه.
وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه، ولا يجوز لهم التهجم عليه.
وقد يخطر على البال سؤال وهو : لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الراسخون في العلم ؟ ولم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل ؟
أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها :
﴿ ١ ﴾ إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به، إذ لو كان ما جاء في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد، لما كان في الإيمان به شيء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.
﴿ ٢ ﴾ إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت إذ السهل الجلي لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات، والدين أعز شيء على الإنسان، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شيء، ومن ثم قال والراسخون في العلم، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، إذ بحثه يستلزم النظر في الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.
﴿ ٣ ﴾ إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيقتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند فهم المحكم، ليكون لكل نصيبه على قدر استعداده، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن تم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾.
﴿ وما يذكر إلا أولو الألباب ﴾ أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هي الأصول، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردوا المتشابه إليها، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغي للعقلاء أن يعتبروه.
ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾.
تفسير المفردات :
الزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، والراسخون في العلم : هم المتفقهون في الدين، ومن لدنك : أي من عندك، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، فيخافون أن يقعوا في الخطأ، والخطأ قرين الخطر.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعوا بهذا الدعاء فقال :( ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ).
﴿ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ﴾
تفسير المفردات :
جمع الناس حشرهم للحساب والجزاء، لا ريب فيه : أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحق.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله ﴿ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيا قيوما : أي قامت به السماوات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شيء ليرد على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعا الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة
الإيضاح :
أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به، لأنك أخبرت به وقولك الحق، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وأنت لا تخلف وعدك.
وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقى منه.
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار { ١٠ ﴾ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴿ ١١ ﴾ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴿ ١٢ ﴾ قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار﴿ ١٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
تغني : أي تنفع، وقود ﴿ بفتح الواو ﴾ أي حطب ونحوه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به- شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغني عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.
وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابي ولا يظلم وهو شديد العقاب
الإيضاح
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ﴾ أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بني إسرائيل أم من كفار العرب- لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهام أمورهم ويعولون عليهم في الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، فرد الله عليهم بقوله :﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا ﴾ وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.
ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا أو أكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴾.
تفسير المفردات :
الدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جد فيه وتعب، ثم غلب في العادة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به- شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغني عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.
وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابي ولا يظلم وهو شديد العقاب
الإيضاح :
أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ودأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.
ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾.
تفسير المفردات :
المهاد : الفراش، يقال مهّد الرجل المهاد إذا بسطه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به- شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغني عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.
وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابي ولا يظلم وهو شديد العقاب
الإيضاح :
المراد بالكافرين هنا اليهود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى، وفي التوراة نعته وهموا بإتباعه، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكوا، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا له : لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس فنزلت.
أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي، وتساقون في الآخرة إلى جهنم سوقا، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.
وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بني قريظة الخائنين، وأجلوا بني النضير المنافقين، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.
ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا ﴾.
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا ﴾
تفسير المفردات :
الآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به- شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغني عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.
وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابي ولا يظلم وهو شديد العقاب
الإيضاح :
فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين } أي قل لأولئك اليهود الذي غرتهم أموالهم واغتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجري في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدعون.
انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.
وفي هذا عبرة أيما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها، لا لمثل من نعتهم الله بقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾.
ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى، وقوله ﴿ تقاتل في سبيل الله ﴾ ترشد إلى السر في هذا الفوز، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة، وما أمكنها من تدبير واستعداد، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده، يرشد إلى هذا قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشد العزائم والنهوض بالهمم، وبالطاعة لرسوله، وكان هو القائد في تلك الواقعة- واقعة بدر- وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.
وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة. فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله، فنصرهم وفاء بوعده ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾.
وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات، ولما خالفوا ما أمروا به في غزوة أحد نزل بهم ما نزل، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.
وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي ابن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، والآخر لمرصد بن أبي مرثد، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا، رأسهم عقبة بن ربيعة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدا.
ومعنى قوله ﴿ يرونهم مثليهم رأي العين ﴾ أن المشركين رأوا المسلمين مثل عدد المشركين أي قريبا من ألفين –وكانوا نحو ثلاثمائة – أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر ﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ﴾.
ومعنى قوله ﴿ رأي العين ﴾ أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء. كسائر المرئيات والمشاهدات.
﴿ والله يؤيد بنصره من شاء ﴾ أي والله يقوي بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.
﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب { ١٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
الشهوات : واحدة شهوة وهي رغبة النفس في الحصول، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه، والأنعام واحدها نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة، والمسومة : هي التي ترعى في الأودية والقيعان، والحرث : الزرع والنبات.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغي أن تجعل هي غاية الحياة، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها، والوسيلة لكسب السعادة فيها.
الإيضاح
﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ معنى تزيين حب الشهوات للناس، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شينا لا زينا، وضارا لا نافعا، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن يرجع عنه يوما ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.
المعنى- إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾. وقال :﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾.
وقد يسند التزين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى :﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ﴾.
ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :
﴿ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾.
﴿ فأولها ﴾ النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى ﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدهم وجدهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهن له الأثر العظيم في شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.
وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهن قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة، وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.
﴿ وثانيها ﴾ البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ وفي الحديث ( الولد مجبنة مبخلة ).
والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع، وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.
وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :
﴿ ١ ﴾ أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.
﴿ ٢ ﴾ أمل الولد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.
﴿ ٣ ﴾ أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.
﴿ ٤ ﴾ الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.
و﴿ ثالثها ﴾ القناطير المقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم، وقيل هي المنضدة في وضعها.
وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها، وتستغرق في تدبير الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.
ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين، انظر إلى قوله تعالى :﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ﴾.
وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته لا عد لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد فيفتن في الوصول إليه الفنون المختلفة، والطرق التي تعن له، ولا يبالي أمن حلال كسب أم من حرام ؟
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله
على من تاب ). ***
*** ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزري بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال، ومن ثم قالوا : المال ميّال.
﴿ ورابعها ﴾ الخيل المسومة التي ترعى في الأودية، يقال سام الدابة : رعاها وأسامها : أخرجها إلى المرعى، كما قال تعالى :﴿ ومنه شجر فيه تسيمون ﴾.
وقال ابن جرير : المسومة : المعلمة من السومة وهي العلامة. قال النابغة :
بسمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن
وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة، والمعلمة المطهمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء- من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون، حتى لقد يتغالى بعضهم في ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.
﴿ وخامسها ﴾ الأنعام وهي مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتن الله بها على عباده بقوله :﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ﴾.
﴿ وسادسها ﴾ الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتم منها لكنه أخر عنها، لأنه لما عم الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل، وقلما يكون الانتفاع به صادا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.
وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء، فلا يستغني عنهما حي من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.
﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ﴾ المتاع ما يتمتع به، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زين لهم حبها في عاجل دنياهم، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.
فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾.
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد { ١٥ ﴾ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴿ ١٦ ﴾ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ﴿ ١٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات، والتقوى : هي الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان ﴿ بضم الراء وكسرها ﴾ الرضا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا- أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.
الإيضاح
﴿ قل أؤنبكم بخير من ذلكم ﴾ أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره، وجيء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.
وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هي من أجل النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى يعطي امرأته حق غيرها، أو يمهل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.
ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر ويفي بالوعد ؟ هو فلان فقال :
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ﴾ أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.
أحدهما جسماني وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.
وثانيهما روحاني عقلي وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.
وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.
فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جربها في الدنيا، ففي مثلها يرغب. ومنهم من ارتقى إدراكه، وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه ويجعل الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.
وجاء في معنى الآية قوله تعالى :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ﴾ وقوله :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار { زرع ﴾ نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾ أي إنه تعالى هو البصير بعباده، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم، العليم بسرهم ونجواهم، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعد متقيا، وإنما التقي من يعلم منه ربه التقوى.
ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا- أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.
الإيضاح :
أي إن الذين اتقوا معاصي الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول، ثم تقفوا التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ وقولك ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾.
فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرحيم.
وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.
والخلاصة –إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به- هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.
ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :{ الصابرين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهي :
﴿ ١ ﴾ الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع.
وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.
﴿ ٢ ﴾الصدق وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى :﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ﴾.
﴿ ٣ ﴾ القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لب العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.
﴿ ٤ ﴾ الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.
﴿ ٥ ﴾ الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل.
والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح، والعمل وفق حدود الدين، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه، أو غر في معاملته لربه، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
تفسير المفردات :
الصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشق عليها احتماله، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله، وصادق في عمله، وصادق في حبه، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلين وقت السحر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا- أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح :

أي إن الذين اتقوا معاصي الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول، ثم تقفوا التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ وقولك ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾.
فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرحيم.
وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.
والخلاصة –إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به- هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.
ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :{ الصابرين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهي :
﴿ ١ ﴾ الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع.
وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.
﴿ ٢ ﴾الصدق وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى :﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ﴾.
﴿ ٣ ﴾ القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لب العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.
﴿ ٤ ﴾ الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.
﴿ ٥ ﴾ الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل.
والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح، والعمل وفق حدود الدين، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه، أو غر في معاملته لربه، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم { ١٨ ﴾ إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴿ ١٩ ﴾ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين، أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ﴿ ٢٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
يقال شهد الشيء وشاهده إذا حضره كما قال :" ما شهدنا مهلك أهله " وقال ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان، وأولوا العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء- ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.
الإيضاح
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾ أي بين سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضروري وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات، وأولوا العلم أخبروا بذلك وبينوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.
وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به، والعدل في العبادات والآداب والأعمال، فعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ وقوله ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾.
كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.
فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.
ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالإطلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يبلغه أحد على ما قام به من سنن القسط، ولا يخرج من الخليقة شيء عن حكمته البالغة.
ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعول في كل دين فقال :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾
تفسير المفردات :
الدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء، والطاعة والخضوع، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله- وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع، وملة باعتبار أنها أملت وكتبت- والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة، وتسمية الدين الحق إسلاما ما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية، يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء- ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.
الإيضاح :
أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك، مخلصا في أعماله مع الإيمان من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾.
ذلك أن الله شرع الدين لأمرين :
﴿ ١ ﴾ تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.
﴿ ٢ ﴾ إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.
وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به.
وخطب علي كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.
*** ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين – والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء، ولولا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.
والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم بعض. فأريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشو الشرك، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة ٣٢٥م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها، ولما انتشرت تعاليمه فيها بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر سنة ٦٢٨م، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.
والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا، ولكن وا آسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئن منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته، ويمدنا بروح من عنده، فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والإتفاق، حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان.
﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾ أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه، ويترك الإذعان لها- فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب.
والمراد بآيات الله هنا هي آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.
﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾
تفسير المفردات :
حاجوك : جادلوك، وأسلمت : أي أخلصت، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة، البلاغ : أي التبليغ للناس.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء- ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.
الإيضاح :
أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم- وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له- بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات، وجئتهم بالحق- فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربي مخلصا له، معرضا عما سواه، أنا ومن اتبعني من المؤمنين.
والخلاصة – إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.
﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ ﴾ أي وقل لليهود والنصارى ومشركي العرب- وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة- أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه، أم تصرون على كفركم وعدم ترككم للعناد ؟
ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه، ثم يقول له : أفهمتها ؟
وفي ذلك تعيير لهم بالبلادة وجمود القريحة وتوبيخ لهم على العناد وقلة الإنصاف ﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا ﴾ أي فإن أسلموا هذا الإسلام الذي هو روح الدين، فقد فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوي الضلال، فإن إسلامهم على هذا الوجه يستتبع إتباعك فيما جئت به، لأن من هذه حاله فهو مستنير القلب متجه إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى لاح له وظهر.
﴿ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾ أي وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتم عنه فلن يضيرك ذلك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد أديته على أتم وجه وكمله.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾ فهو أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ.
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشرهم بعذاب أليم { ٢١ ﴾ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴿ ٢٢ ﴾ }.
تفسير المفردات
المراد بالذين يكفرون هم اليهود خاصة، وقوله بغير حق أي بغير شبهة لديهم، وحبط العمل بطل، والبشارة والبشرى الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، واستعمالها في الشر جاء على طريق التهكم والسخرية.
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآيات السالفة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركي العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ.
انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعير الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لاحقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة.
وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما هم بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين.
الإيضاح
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ﴾ أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم.
وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجؤوا إليه، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما، لا مع الأشخاص والأصناف.
أخرج ابن جريج عن أبي عبيدة بن الجراح قال :" قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف، ثم قرأ الآية، ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إٍسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا من آخر النهار من ذلك اليوم ".
﴿ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾ أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شيء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.
ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلي مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة.
انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد حببت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقاربه، إذ لم يستجب لهم فيها من الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة.
وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث ( أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ) وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ فالحكمة يدعى بها العقلاء، وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هي أحسن لمن هم في المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى موعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.
والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبني دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق.
فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.
﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن أحق بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز ؟ كما قال تعالى :( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك – يحبسوك- أو يقتلوك ).
﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآيات السالفة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركي العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ.
انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعير الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لاحقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة.
وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما هم بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين.
الإيضاح :
أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس، إذ هم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله، وذلك هو حبوطها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ثواب لها، بل قد أعد لهم العذاب الأليم، والخلود في الجحيم.
﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ ينصرونهم من بأس الله وعذابه، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصروا الحق، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم- جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين.
وقد جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف :
﴿ ١ ﴾ اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم.
﴿ ٢ ﴾ زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة ؛ ففي الدنيا بإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾.
﴿ ٣ ﴾ دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون { ٢٣ ﴾ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴿ ٢٤ ﴾ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴿ ٢٥ ﴾ }.
تفسير المفردات
ألم تر : استفهام لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم، والذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، والنصيب : الحظ، والكتاب : التوراة، ليحكم بينهم : أي ليفصل بين اليهود والداعي لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والتولي : الإعراض بالبدن، والإعراض يكون بالقلب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم- انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصي ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدارس- مدرسة اليهود لدراسة التوراة- على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد، على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :-فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية.
الإيضاح
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾ أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود- كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم ؟ ( وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها ).
وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم ماضو العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم، فقد زنى بعض أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولوا وأعرضوا عن قبول حكمه، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.
وقوله نصيبا من الكتاب هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به.
فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية، وإنما كانت لغته المصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة، ومن ترجمها ؟
﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾ أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع، وقد كان من دواعي الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه، إذ هو أصل دينهم، وعليه بنيت عقيدتهم.
وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم في عامة أحوالهم.
وإنما جيء بكلمة ﴿ فريق ﴾ للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال :﴿ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾.
تفسير المفردات :
والافتراء : الكذب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم- انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصي ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدارس- مدرسة اليهود لدراسة التوراة- على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد، على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :-فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.
وخلاصة ذلك – إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوا اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين واعتقدوا أن هذا كاف في نحلتهم.
ومن استخف بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحق – تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة. وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.
والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.
أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
والمراد بالأيام المعدودات هي أربعون يوما وهي مدة عبادتهم للعجل، وقال الأستاذ الإمام : إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء.
﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾ أي وقد أطمعهم وخدعهم ما كانوا يفترون على الله من نحو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم : إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم ﴿ مدة قصيرة ﴾.
والخلاصة- إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأي ولا بالفكر، بل بالوحي من الله، والعهد منه كما قال في سورة البقرة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ ؟.
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾
تفسير المفردات :
اليوم : هو يوم الحساب والجزاء، ما كسبت : أي ما عملت من خير أو شر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم- انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصي ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدارس- مدرسة اليهود لدراسة التوراة- على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد، على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :-فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا ريب فيه ؟
وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون، واستعظام لما أعد لهم، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمع بما لا يكون.
﴿ ووفيت كل نفس ما كسبت ﴾ أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاص، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة.
﴿ وهم لا يظلمون ﴾ فهناك العدل الكامل، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شيء، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها، واستغرق وجدانها، كانت خالدة في النار، لأن عملها لم يدع للإيمان أثرا صالحا يعدها لدار الكرامة، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح، أو استوى الأمران، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره.
﴿ قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير { ٢٦ ﴾ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب ﴿ ٢٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الملك : السلطة والتصرف في الأمر.
بيدك الخير : أي بقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك.
المعنى الجملي
كان الكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب : فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم من الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصرة وإعلاء دينه، وكأنه يقول :" إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء ".
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الإيضاح
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾ أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.
﴿ وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ للعزة آثار وللذل مثلها، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق.
والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى :﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾.
والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم، وما ذاك إلا لفشو الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، والسعي في إزالة طغيانه، وتحكمه في الرقاب والبلاد.
﴿ بيدك الخير ﴾ أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك ولا يملكه أحد سواك، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله :
﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾ لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز، وأن يذكره بأن الخير كله بيده، فلا يعجزه أن يعطي نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾.
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾
تفسير المفردات :
الولوج : الدخول، والإيلاج : الإدخال ويراد به زيادة زمان النهار في الليل والعكس بالعكس بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان.
المعنى الجملي
كان الكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب : فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم من الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصرة وإعلاء دينه، وكأنه يقول :" إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء ".
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الإيضاح :
أي إنك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار فيطول هذا من حيث يقصر ذاك.
والخلاصة- إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الملوين " الليل والنهار " ما يكون سببا في نقص الآخر.
فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتي النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعها ممن تشاء كبني إسرائيل، فما مثل تصرفك في شؤون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار.
﴿ وتخرج الحي من الميت ﴾ كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر " والحياة والموت معنويان " والنخلة من النواة والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة " والحياة والموت حسيان ".
﴿ وتخرج الميت من الحي ﴾ كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر.
وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل.
قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث : قيل في تفسير ذلك : كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ؛ ولكن النطفة هي حيوانات حية، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حي من حي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم، فإذا قيل : إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حي من ميت فهذا صحيح، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم، لأنها تشير إلى أن خلق شيء عادي يحصل يوميا بدليل ورودها بعد ﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ بالتعاقب وهذا شيء اعتيادي، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا.
والتفسير الحقيقي هو ﴿ إخراج الحي من الميت ﴾ كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميت، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا : إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى لحمها، وهذه أهم علامة على أنها حية، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.
وأما إخراج الميت من الحي، فهو الإفرازات مثل اللبن " وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات " فإن اللبن سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والله أعلم بمراده. اه.
وقد استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا.
وهذه العبارة- يخرج الحي من الميت- إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام.
وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام وبها الإبداع والإحكام.
﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾ أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك ؛ فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شيء عليك.
وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه :
﴿ ١ ﴾ بمعنى التعب كما في هذه الآية.
﴿ ٢ ﴾ بمعنى العدد كما في قوله ﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾.
﴿ ٣ ﴾ بمعنى المطالبة كما في قوله ﴿ فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾.
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير { ٢٨ ﴾ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ﴿ ٢٩ ﴾ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴿ ٣٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
الأولياء واحدهم ولي وهو النصير،
تقاة : أي اتقاء وخوفا،
ويحذركم : أي يخوفكم.
المعنى الجملي
بعد أن نبه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجئ إلى غير جنابه.
وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون ﴿ يلازمون ﴾ نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.
الإيضاح
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشؤون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.
وخلاصة هذا – نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.
فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.
﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ﴾ أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شيء، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾.
﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أي إن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية " أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ".
وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.
فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه مليء بالإيمان وفيه نزلت الآية ﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ﴾.
وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة : أتشهد أني رسول الله ؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إني أصم ﴿ ثلاثا ﴾ فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائما، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى ﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ وقال :﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه.
ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع ؛ فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم ( ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة ) وعن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ) ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة :( إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه ). رواه البخاري.
وروى قوله صلى الله عليه وسلم :( إنا لنكشر ﴿ نبتسم ﴾ في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم ) ﴿ تبغضهم ﴾.
﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر ﴿ نفسه ﴾ الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شيء عنه.
وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته.
﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيجزى كلا بما عمل.
﴿ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾
المعنى الجملي
بعد أن نبه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجئ إلى غير جنابه.
وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون ﴿ يلازمون ﴾ نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادونهم أو تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السماوات والأرض، لأنه الخالق لها كما قال :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه، إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾
تفسير المفردات :
الأمد : المدة لها حد محدود،
محضرا : أي حاضرا لديها.
المعنى الجملي
بعد أن نبه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجئ إلى غير جنابه.
وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون ﴿ يلازمون ﴾ نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها، فيكون ذلك غبطة وسرورا لها، وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته.
ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها.
﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء ﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾.
﴿ والله رءوف بالعباد ﴾ قال الحسن البصري : ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. اه.
ومن رأفته أيضا جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم { ٣١ ﴾ قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين -٣٢ }.
تفسير المفردات
المحبة : ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، فيدعوها ذلك إلى التقرب إليه،
يغفر لكم : أي يتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد بالوعيد الشديد- ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه.
روى أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا " نحن أبناء الله وأحباؤه " فأمر الله نبيه أن يقول لهم : إني رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعوني وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض عنكم.
الإيضاح
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ أي قل لهم : إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده، فاتبعوني بامتثال ما نزل به الوحي منه إلي، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة، والاعتقادات الباطلة، ويبوئكم في جوار قدسه، إذ في هذا الإتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله.
وهذا حجة على من يدعي محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه، فهو كما قال الوراق :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ
﴿ والله غفور رحيم ﴾ لمن تحبب إليه بطاعته، وتقرب إليه بإتباع نبيه، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها.
وروى أنه لما نزل قوله ﴿ قل إن كنتم تحبون الله... ﴾ قال عبد الله بن أبي : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾.
تفسير المفردات :
فإن تولوا : أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد بالوعيد الشديد- ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه.
روى أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا " نحن أبناء الله وأحباؤه " فأمر الله نبيه أن يقول لهم : إني رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعوني وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض عنكم.
الإيضاح :
أي قل لهم : أطيعوا الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله بإتباع سنته والاهتداء بهديه.
وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته لأنه رسوله، لا كما يقول النصارى في عيسى.
﴿ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ﴾ أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه- فإن الله لا يحب الكافرين، الذي تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه.
﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين { ٣٣ ﴾ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ﴿ ٣٤ ﴾ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴿ ٣٥ ﴾ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴿ ٣٦ ﴾ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴿ ٣٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الاصطفاء : أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء،
والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار، وللواحد والكثير.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
الإيضاح
﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾ أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة والرسالة فيهم.
فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ﴾ وكان من ذريته النبيون والمرسلون.
وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية.
فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
﴿ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
الإيضاح :
أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم.
وآل عمران وهم موسى وهارون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.
وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم، على نحو قوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾.
وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا، ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾.
﴿ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾
تفسير المفردات :
النذر : ما يوجبه الإنسان على نفسه،
والمحرر : المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر،
والتقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
الإيضاح :
أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهي حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها، العليم بصحة نيتها وإخلاصها، وهذا يستدعي تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.
وقد جاء ذكر عمران في هذه الآية مرتين، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.
﴿ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ﴾
تفسير المفردات :
أعيذها بك : أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به، يقال عاذ بفلان إذا استجار به،
والرجيم : أي المرجوم المطرود من الخير،
ومريم بالعبرية خادم الرب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
الإيضاح :
أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها، فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة، والأنثى لا تصلح لذلك.
﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور.
وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها، ودفع ما يتوهم من قولها الدال على انحطاطها عن مرتبة الذكور.
﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هي خير مما كانت ترجوه من الذكران.
﴿ وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾ أي وإني غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، وإني أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها ) والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله تعالى عصمها ببركة هذه الاستعاذة، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ولو بالوسوسة.
﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾
تفسير المفردات :
وتقبل الشيء وقبله : أي رضيه لنفسه،
وأنبتها : أي رباها بما يصلح أحوالها،
وكفلها زكريا : أي وجعل زكريا كافلا لها، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام،
والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم العبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد،
أنى لك هذا : أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجذب،
بغير حساب : أي بغير عد ولا إحصاء لكثرته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
الإيضاح :
أي فتقبل مريم من أمها ورضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.
﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾ أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربي النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي.
وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمى جسدها فكانت خير لذاتها جسما وقوة، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأي.
﴿ وكفلها زكريا ﴾ أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشؤونها.
﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.
وروى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.
﴿ قال يا مريم أنى لك هذا ؟ ﴾ أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.
﴿ قالت هو من عند الله ﴾ الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.
وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر.
وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني، واصطفى إبراهيم وآله على البشر، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفي محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك ؛ فالله يصطفي من خلقه من يشاء، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء { ٣٨ ﴾ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴿ ٣٩ ﴾ قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ؟ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴿ ٤٠ ﴾ قال رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴿ ٤١ ﴾ }.
تفسير المفردات
الذرية : الولد، وتقع على الواحد والكثير،
والطيب : ما تستطاب أفعاله وأخلاقه،
سميع الدعاء : أي مجيبه كما يقال : سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع.
الإيضاح
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ﴾ أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده ؛ فرؤية الأولاد النجباء مما تشوق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.
﴿ فنادته الملائكة ﴾
تفسير المفردات :
كلمة الله : عيسى عليه السلام،
والسيد الرئيس يسود قومه،
والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافي الفضل والكمال،
من الصالحين : أي من أصلابهم، والصلاح صفة تجمع الخير كله،
أنى يكون لي ؟ أي كيف يحصل لي.
الإيضاح :
أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد، وركب السفن، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة، ويقال ممن سمعت هذا الخبر ؟ فتقول من الناس، وأنت إنما سمعته من واحد.
ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.
﴿ وهو قائم يصلي في المحراب ﴾ أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصل في سورة مريم.
﴿ أن الله يبشرك بيحيى ﴾ أي نادته بهذه البشرى، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم ﴿ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ﴾ وهو معرب يوحنا، ففي إنجيل متى : إنه يدعى يوحنا المعمداني، لأنه كان " يعمد " الناس في زمانه.
والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء :
وسميته يحيى ليحيا فلم يكن لأمر قضاه الله في الناس من بد
فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.
﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾ أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله ﴿ كن فيكون ﴾ لا بالسنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها، وسيكون نبيا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوة، ناشئا من أصلاب قوم صالحين، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.
روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت.
ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال ﴿ قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾
تفسير المفردات :
بلغني الكبر : أي أدركني كبر السن وأثر في،
عاقر : أي عقيم لا تلد.
الإيضاح :
قال الأستاذ الإمام : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها، والرازق لما عندها، هو من يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.
ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه واستجابة دعائه- سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله :
﴿ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ أي قال تعالى بتبليغ ملائكته : كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء ؛ ففوض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.
﴿ قال رب اجعل لي آية ﴾
تفسير المفردات :
آية : أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر،
ألا تكلم الناس : أي لا تستطيع الكلام،
والرمز : الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمي الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيد الكلام ويدل على ما دل عليه،
والعشي : الوقت من الزوال إلى الغروب،
والإبكار : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
الإيضاح :
أي قال : رب اجعل لي علامة تدلني على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.
﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.
﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾ أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء.
﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين { ٤٢ ﴾ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴿ ٤٣ ﴾ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴿ ٤٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال،
والتطهير يعم التطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات،
والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هي مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود.
المعنى الجملي
هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعني زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.
الإيضاح
﴿ وإذ قالت الملائكة ﴾ المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم :﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ﴾ وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.
﴿ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾ أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية واختصك بولادة نبي دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم ( سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون ) أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال :( كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة ).
وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال :﴿ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾
تفسير المفردات :
القنوت : الطاعة مع الخضوع،
والسجود : التذلل،
والركوع : الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة ؛
والوحي جاء في القرآن لمعان :
*** ﴿ ١ ﴾ لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى :﴿ نوحي إليهم ﴾.
*** ﴿ ٢ ﴾ وللإلهام كما قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى ﴾.
*** ﴿ ٣ ﴾ ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى :﴿ بأن ربك أوحى لها ﴾.
*** ﴿ ٤ ﴾ وللإشارة كما قال تعالى :﴿ فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ﴾.
*** فالوحي تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما،
والأقلام القداح المبرية وتسمى السهام،
والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها،
ويختصمون : أي يتنازعون في كفالتها.
المعنى الجملي
هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعني زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.
الإيضاح :
أي أطيعي ربك وتذللي له وصلي مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾
المعنى الجملي
هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعني زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.
الإيضاح :
أي هذا الذي قصصنا عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علمها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ﴾ أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.
﴿ وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواص وأهل الفضل والدين، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب ديني إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.
وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكرو نبوته، لأنه نشأ بين قوم أميين، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحي أو المشاهدة، والوحي ينكرونه، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.
ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ وقوله بعد قصة موسى وشعيب ﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾.
والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم : إنه مأخوذ منها وفيها خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها، وهذا من المكابرة التي لا تغني حجة لرد خصم على خصم، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها، حتى إن أعظمها وأشهرها وهي الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها، ولا الزمن الذي كتبت فيه، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين { ٤٥ ﴾ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴿ ٤٦ ﴾ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴿ ٤٧ ﴾ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴿ ٤٨ ﴾ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴿ ٤٩ ﴾ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطعيون ﴿ ٥٠ ﴾ إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم ﴿ ٥١ ﴾ }.
تفسير المفردات
المسيح : لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا،
وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية،
والوجيه : ذو الجاه والكرامة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾ أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.
والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾.
وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شيء قد خلق بكلمة التكوين، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين- أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.
وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالذهن المقدس، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح، وعن الملك بالمسيح.
والمعروف لديهم أن أنبيائهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فحين ظهر عيسى وسمي بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد.
وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها، إذ ليس له أب.
﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ﴾ فوجاهته في الدنيا لما له من المكانة في القلوب والاحترام في النفوس، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعد لها منزلة أخرى، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شيء مما في أيديهم من متاع الحياة، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.
ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة علية ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه.
﴿ ومن المقربين ﴾ عند الله يوم القيامة، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب وللزلفى عنده.
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ﴾
تفسير المفردات :
المهد : مفر الصبي حين رضاعه،
والكهل : من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا، قال ابن عباس : كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.
والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا، وعاش ثلاثين سنة، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.
والخلاصة- إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن أرسله الله وينزل عليه وحيه، وأمره ونهيه.
﴿ ومن الصالحين ﴾ أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.
﴿ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
أي قالت : كيف يكون لي ولد وليس لي زوج، وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك ؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.
﴿ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ﴾ أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب- يخلق الله ما يشاء.
ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل، وفي الثانية بيخلق، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال خلق الله السماوات والأرض، ولا يقال فعل الله السماوات والأرض.
وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة- أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة، فالتعبير عنه بالخلق أليق.
﴿ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء.
وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع، يفعل ما يطلب منه على الفور.
وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه.
والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب، وقوفا عند العادة، وذهولا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلي ينبئ بالاستحالة، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادا من قبل، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة.
والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدي العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا.
وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن- ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾
تفسير المفردات :
الكتاب : الكتابة والخط،
والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسر التشريع،
والتوراة : كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه،
والإنجيل : هو الكتاب الذي أوحى إليه به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
أي ويعلمه الكتابة والخط، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقهه في التوراة، ويعلمه أسرار أحكامها، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.
﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾
تفسير المفردات :
الخلق : التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع،
والهيئة : الصورة،
والأكمه : الذي يولد أعمى،
والأبرص : هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
أي ويرسله رسولا إلى بني إسرائيل، روي أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.
﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾ أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائل ﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾ ثم فسرها بقوله :
﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ أي إني أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا حيا كسائر الطيور بأمره تعالى، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له.
والخلاصة- إن من علامات نبوتي إن كنتم فيها تمترون، أني أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيا يحلق في جو السماء كما تفعل بقية الطيور.
وقد روي أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب : كان يطير مادام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.
وقد جرت سنة الله أن تجري الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.
﴿ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ﴾ وإنما خصا بالذكر، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.
وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه ؛ فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره، وأعطى محمدا معجزة القرآن، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.
وقد روي عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة ؛ فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما.
قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية :[ إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير، لأنه لا لزوم لذلك مادام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا ].
والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شيء يعرفه، فإن لم يمكنه بقي متحيرا، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.
وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لا داعي للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هي ﴿ كن فيكون ﴾.
ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.
وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شيء مهم، مع أن كل هذه المقومات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.
وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه الخ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة ﴿ غير عضوية ﴾ ولهذا يشتبه فيها الناظر.
وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة، لأننا نراها على أيدي أشخاص كثيرين، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا الخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجيا ؛ فالإنسان أولا يشك ويقول : ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادي، ولكن الله يقول بعد ذلك : وأحيي الموتى لكي لا يدع مجالا للشك مطلقا.
إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه خلق من نطفة الأم فقط، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتي الأب والأم، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين ؛ فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عندما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.
وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين، لأن نظام الكائنات يجري على سنة واحدة لا تختلف أبدا إلا حيث يريد الله، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بيننا... ثم قال :
المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.
وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع لله ولا فرق بينهما.
ولا تحصل المعجزات إلا على أيدي الأنبياء، وذلك لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.
ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي نفسه لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى... وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى، وأغلبها ينتهي إلى شيء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته، ومن أمكنه استعاضة شيء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.
وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية، وبواسطة أطباء العيون، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد الخ. وكذلك صنع أرجل جديدة، فالجراح يصنع رجلا صناعية، بواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشي عليها، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.
وصفوة القول- إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا، وصنع واحدة كصنع الكل، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط، ولكنها كلها من نوع واحد، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.
وقد يقول البعض : إن العلوم تتقدم، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعد معجزة- وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي للمعجزات لم يفهم، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية ؛ فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة- كما يسميها الطبيعيون- لا حد لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر- هو من الاستعانة بهذه القواعد ؛ فالذي يتكلم في أوربا ويسمعه آخر في مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسخروها لأغراضهم، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوله نهرا يجري، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية، تعكس المعجزات فإنها من طراز آخر، وهي مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.
ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطي الإنسان بشيء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية.
أما المعجزة فهي أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة، وهي خرق للسنة الطبيعية التي تقضي باحتراق الجسم متى وضع في النار.
وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار، والفرق بين الاثنين ظاهر، والفرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع.
والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.
ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية ؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى ﴿ بالطبيعة ﴾ وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفي للآن شيء مدهش، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا مادامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين ؟
وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود.
ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية في ثقب فيها، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول، ولكنه إذا رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها وإذا رأى يوم
﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
أي وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة لا ناسخها لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله :﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بني إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم، فأحلها عيسى كما قال تعالى :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.
﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدق وصحة رسالتي بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.
وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو :﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه.
ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال :﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
الإيضاح :
وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، ونظيره ما جاء في الحديث ( قل آمنت بالله ثم استقم ).
﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوي الذي أجمع عليه الرسل قاطبة، وهو الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة.
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون { ٥٢ ﴾ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ﴿ ٥٣ ﴾ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴿ ٥٤ ﴾ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴿ ٥٥ ﴾ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴿ ٥٦ ﴾ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، والله لا يحب الظالمين ﴿ ٥٧ ﴾ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴿ ٥٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
في الأساس : أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر، وما أحسسنا منه خيرا، وهل تحس من فلان بخير، وفي الكشاف أحسن : علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس،
والأنصار : واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف،
والحواريون : واحدهم حواري، وحواري الرجل صفيه وناصره،
ومسلمون : أي منقادون لما تريده منا.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾ أي فلما شعر من قومه بني إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقي من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى : ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد ؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.
وفي هذا عبرة وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضي إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان.
وحين رأى منهم ذلك :
﴿ قال من أنصاري إلى الله ؟ ﴾ أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف ﴿ كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله ؟ ﴾ أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتي، وينخلعون عما كانوا فيه، وينصرفون إلى تأييد رسوله !
﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ أي قال خاصة أصحابه وناصروه : نحن أنصار دين الله، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذين بتعاليمك، والمنصرفون عن التقاليد السالفة.
وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفي فيه العمل بالدين والدعوة إليه.
﴿ آمنا بالله ﴾ هذا جار مجرى السبب في نصره، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه، ومحاربة أعدائه.
﴿ واشهد بأنا مسلمون ﴾ أي مخلصون منقادون لأوامره.
وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلف الأنبياء في بعض صوره وأشكاله، وأحكامه وأعماله.
وإنما طلبوا شهادته، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت ﴾
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
هذا تضرع إلى الله، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم.
و﴿ اتبعنا الرسول ﴾ أي وامتثلنا ما أتى به منك.
وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرف لها في العمل، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء، فإذا حاول العمل به لم يحسنه، ويتبين له أنه كان مخطئا في دعوى العلم به.
﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.
﴿ ومكروا ومكر الله ﴾
تفسير المفردات :
المكر تدبير خفي يفضي بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ﴾.
والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله، فكانت حاجة المربي أو القوام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
أي ومكروا أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود، بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه، ورفع عليه السلام إلى السماء، وألقي شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.
﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.
﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾
تفسير المفردات :
التوفي : أخذ الشيء وافيا تاما ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ وتطهيره من الذين كفروا : براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إليّ.
وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم.
وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان :
﴿ ١ ﴾ أن فيها تقديما وتأخيرا، والأصل : إني رافعك إلي ومتوفيك، أي إني رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك- وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.
﴿ ٢ ﴾ أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير والإنسان إنسان لأن روحه هي هي.
والمعنى- إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال في إدريس عليه السلام ﴿ ورفعناه مكانا عليا ﴾.
وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها.
ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة، ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام، ويفقهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.
فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.
وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها من غير تقيد بالرسوم والظواهر.
وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك.
﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ أي ومنجوك مما كانوا يريدون بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.
﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ﴾ أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، وصدقوك في قولك ﴿ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدك فوق الذين مكروا به من اليهود وكذبوك، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهديك.
وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم.
وفي هذا إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.
﴿ إلى يوم القيامة ﴾ أي إن هذا السمو في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم مادامت السماوات والأرض، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ أي ثم مصيركم إلي يوم البعث، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.
وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.
ثم بين جزاء المحق والمبطل وكيفيته فقال :﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك في الدنيا.
﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ﴾
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
أي وأما الذين صدقوك وأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحق، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي- فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص.
ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال :
﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له، فهو يجازيه بما يستحق.
وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله.
﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴾
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.
وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصد والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى
الإيضاح :
أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى، وما قص من أمر الحواريين واليهود من بني إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل.
وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة، وأسرار الاجتماع البشري.
وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران، ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق.
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون { ٥٩ ﴾ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ﴿ ٦٠ ﴾ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴿ ٦١ ﴾ إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله، وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴿ ٦٢ ﴾ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ﴿ ٦٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
المثل : الحال الغريبة والشأن البديع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه
﴿ كلمة الله وروح الله ﴾ أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليرد به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.
فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها.
وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضي تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الإيضاح
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال :
﴿ خلقه من تراب ﴾ أي قدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.
وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم- مما لا ينبغي أن يكون ولا يسلمه العقل.
﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾ أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله :﴿ ثم أنشأناه خلقا آخر ﴾.
ثم أكد صدق هذا القصص فقال :﴿ الحق من ربك ﴾.
تفسير المفردات :
الامتراء : الشك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه
﴿ كلمة الله وروح الله ﴾ أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليرد به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.
فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها.
وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضي تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الإيضاح : أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النجار.
﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي فلا تشكن في أمرها بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وتوجيه هذا النهي للنبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين :
﴿ ١ ﴾ أنه إذا سمع صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.
﴿ ٢ ﴾ أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره ؟
وخلاصة ذلك- دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.
﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ﴾
تفسير المفردات :
البهلة ﴿ بالضم والفتح ﴾ اللعنة والدعاء، يقال ماله بهله الله : أي لعنه، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته : أي يدعوه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه
﴿ كلمة الله وروح الله ﴾ أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليرد به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.
فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها.
وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضي تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجلية أمره ما قصصت.
﴿ فقال تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ أي فقل لهم : أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.
وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم- إيذان بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا. أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقبنا من بعدنا أبدا فقالا له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال : هذا أمين هذه الأمة.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس :" أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله ﴿ قل تعالوا ﴾ الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة، فصالحوه على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم ".
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال : إن أنا دعوت فأمنوا أنتم.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يعلن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.
وفي الآية عبرة لمن اذكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية ؛ وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور إلا في بعض المسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.
وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهن بأمور الدين، وعدم مشاركتهن للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشؤون الاجتماعية، ولا هم لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتذوق في المطاعم والمشارب والملابس ؛ كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والعساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالآتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل.
وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشؤون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن يصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.
وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي لا ندري ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخض عنه من نفع للإسلام والمسلمين.
﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾
تفسير المفردات :
القصص : تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى :﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ : أي تتبعي أثره ثم استعمل في الكلام والحديث، لأن القاص يتبع المعاني ليوردها، والعزيز : أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد،
والحكيم : ذو الحكة التي لا يساميه فيها أحد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه
﴿ كلمة الله وروح الله ﴾ أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليرد به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.
فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها.
وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضي تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الإيضاح :
أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.
﴿ وما من إله إلا الله ﴾ الذي خلق كل شيء وليس كمثله شيء.
وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.
﴿ وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندا له في ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساوي في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.
﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ﴾
م
الإيضاح :
أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال المفسدين في الدين ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم وسيء أعمالهم.
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون { ٦٤ ﴾ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ؟ ﴿ ٦٥ ﴾ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴿ ٦٦ ﴾ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴿ ٦٧ ﴾ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ﴿ ٦٨ ﴾ }.
تفسير المفردات :
أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى، تعالوا : أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه،
وسواء : أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض،
والإله : هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية،
والرب : هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل،
مسلمون : أي منقادون لله مخلصون له.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.
دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.
الإيضاح
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ أي قل : يا أهل الكتاب هلموا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.
ثم بين هذه الكلمة فقال :
﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾ أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله- ألا نعبد إلا الله- ووحدانية الربوبية في قوله – ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله-
وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وجاء به موسى، فقد ورد في التوراة قول الله له ﴿ إن الرب إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن ﴾ وكذلك جاء عيسى بمثل هذا، ففي إنجيل يوحنا ﴿ وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ﴾ وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾.
وخلاصة المعنى- أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له " وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلم بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شيء فيه ﴿ ابن الله ﴾ أولناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليها الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.
وقد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهي مسألة كان لها أثر خطير في المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهي فرقة ﴿ البروتستانت ﴾ وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.
روى عدي بن حاتم قال :( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال : أما كانوا يحللون لكم ويحرمون، فتأخذون بأقوالهم ؟ قال نعم، فقال عليه السلام : هو ذاك ).
﴿ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحل إلا ما أحله الله، ولا نحرم إلا ما حرمه الله.
وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤاخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير، وإلا كان ذلك إشراكا في الربوبية، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله ﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ وقوله ﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾.
أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوض الله أمرها إلى أولي الحل والعقد وهم رجال الشورى، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به، وعلى الرعية أن يقبلوه.
وهذه الآية هي الأساس والأصل الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.
أخرج ابن اسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله ﴿ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ﴾ الآية ).
﴿ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ﴾
تفسير المفردات :
تحاجون : أي تجادلون.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.
دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.
الإيضاح :
أي أيها اليهود والنصارى : لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدعي كل منكم أنه على دينه ؟
" وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجله وتدعي أنها على دينه ".
وهو لم يكن على شيء من تقاليدكم، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا أشار بقوله :
﴿ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ؟ ﴾ أي وما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال، وقد قالوا : إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له ؟.
وخلاصة ذلك- أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه ؟
وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.
﴿ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.
دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.
الإيضاح :
من أمر عيسى عليه السلام، وقد قامت عليكم الحجة، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته، ومنكم من فرّط وقال إنه دعي كذاب، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.
﴿ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟ ﴾ من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؟
﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ آي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتهم، أو أدركتم علمه بالسماع.
ثم صرح بما فهم من قبل تلويحا فقال :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ﴾.
تفسير المفردات :
الحنيف : الماثل عن العقائد الزائفة،
والمسلم : هو الموحد المخلص المطيع له.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.
دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.
الإيضاح :
أي إن اليهود والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم- كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى، إذ هو مطيع لله، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها، خاشع له بقلب متذلل، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.
﴿ وما كان من المشركين ﴾ الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.
وصفوة القول- إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه- لم يكن على ملة أحد منهم، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية، مسلما لله، مخلصا له.
ثم أكد ما سلف بقوله :﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾.
﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.
دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.
الإيضاح :
معه : أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته- هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.
وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان، ومن وفاته ذلك فقد فاته الدين كله.
ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال :
﴿ والله ولي المؤمنين ﴾ بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم، ويجازيهم بالحسنى وزيادة.
﴿ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون { ٦٩ ﴾ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ ﴿ ٧٠ ﴾ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ ﴿ ٧١ ﴾ وقال طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ﴿ ٧٢ ﴾ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل إن الهدى هدى الله، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴿ ٧٣ ﴾ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴿ ٧٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
ود الشيء : أحبه،
طائفة : أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء،
والآيات هنا ما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح
﴿ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ﴾ أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.
﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية، ويغضون أبصارهم عما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات الدالة على نبوته، فهم يعبثون بعقولهم، ويفسدون فطرتهم باختيارهم.
﴿ وما يشعرون ﴾ أي وما يفطنون إلى سوء حالهم، وأنهم ألغوا عقولهم، فلم تفكر في الحجج التي آتاها الله لنبيه، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدي صاحبه إلى الصراط المستقيم.
وفي نفي الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح :
أي لأي سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به ؟.
﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ﴾
تفسير المفردات :
تلبسون : أي تخلطون.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح :
أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده، والبشارة بنبي من بني إسماعيل يعلم الناس الكتابة والحكمة بالباطل الذي لفقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى ﴿ يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾.
﴿ وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ﴾ أي وتكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.
﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ﴾.
تفسير المفردات :
وجه النهار : أي أوله تقول : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار،
آمن له : صدقه وسلم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف ﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح :
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم- يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل- إلى قوله واسع عليم.
ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا : لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول، بل هم قد فعلوا ذلك.
أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : صلت يهود مع محمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.
وليس بالغريب منهم أن يلجؤوا إلى مثل هذه الحيلة، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام : هل يرجع عنه من دخل في دينه ؟ فقال أبو سفيان ﴿ لا ﴾.
وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها، ويكون ذلك وازعا لهم.
وفي هذا إنباء الغيب فيكون معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ﴾
تفسير المفردات :
الفضل : الزيادة، والمراد به هنا النبوة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح :
هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم، بل لقد تغالوا وحقروا جميع الطوائف، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن، وما يصدر من سواهم قبيح.
وخلاصة المعنى- ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا، وهم الذين أسلموا منهم، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.
﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدي من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضل له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له.
﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ﴾ هذا من كلام اليهود، وجملة ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ اعتراضية بينه وبين ما سبقه.
والمعنى- لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.
وتلخيص المراد- لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.
وهذا مبني على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.
وصفوة القول- ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، بل أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.
﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾ أي قل لهم : إن الرسالة فضل من الله ومنة، والله واسع العطاء، وهو العليم بالمستحق، فيعطيه من هو له أهل.
وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطي النبوة من يشاء.
﴿ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.
ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.
أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حيث دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.
الإيضاح :
أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بني إسرائيل، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه، لا بعمل قدمه ولا لنسب شرفه، فالله لا يحابي أحدا لا فردا ولا شعبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون { ٧٥ ﴾ بلى من أوفى بعهده واتقى، فإن الله يحب المتقين ﴿ ٧٦ ﴾ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ﴿ ٧٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
تأمنه، من أمنته بمعنى ائتمنته، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا،
والمراد بالقنطار العدد الكثير،
وبالدينار العدد القليل،
والأميون : هم العرب،
والسبيل : المؤاخذة والذنب،
وبلى كلمة تقع جوابا عن نفي سابق لتثبته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاص بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.
أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحل أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.
الإيضاح
﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤيده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ﴾ أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بني إسرائيل.
والخلاصة- إن أهل الكتاب طائفتان :
﴿ ١ ﴾ طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه.
﴿ ٢ ﴾ طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة.
ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشي دينارا فجحده.
ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال :
﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.
وخلاصة هذا- إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه، ولو شك أن هذا من الصلف والغرور والغلو في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.
روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
فرد الله عليهم بقوله :
﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين، ولا أكل أموال بالباطل، وهم يعلمون ذلك حق العلم، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجؤوا إلى التقليد وعدوا كلام أحبارهم دينا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدعون.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال :" لما نزلت ﴿ ومن أهل الكتاب- إلى قوله ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ".
﴿ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ﴾
تفسير المفردات :
والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من طريفين يقال عاهد فلانا عهدا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاص بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.
أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحل أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.
الإيضاح :
أي بل عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء، بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وختمت الشريعة.
في هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهدة، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره.
والعهد ضربان :
﴿ ١ ﴾ عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.
﴿ ٢ ﴾ عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.
واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذا لو وفوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه.
وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر- محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.
وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته، أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.
وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهي الدعامة الأساسية في كل دين قويم.
﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ﴾
تفسير المفردات :
يشترون : أي يستبدلون،
والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون،
والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة،
والثمن القليل : هو العوض الذي يأخذونه أو الرشا، وجعل قليلا لأن كل ما يفوت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل،
ولا خلاق لهم : أي لا نصيب لهم،
ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم،
ولا ينظر إليهم : أي يسخط عليهم ويستهين بهم،
ولايزكيهم : أي لا يثني عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاص بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.
أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحل أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.
الإيضاح :
أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم : لنؤمنن به ولننصرنه- ثمنا قليلا هو العوض أو الرشا- أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثني عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.
قال القفال : هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل اه.
وصفوة القول- إن الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.
ولم يتوعد الله مرتكبي الكبائر من الزناة وشاربي الخمر، ولاعبي الميسر وعاقي الوالدين بما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.
فالوفاء بها آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.
والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ).
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ).
فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الأيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها، وأخذوا على ذلك الرشا.
وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال :" كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألك بنية ؟ قلت لا، فقال لليهودي احلف، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله ﴿ إن الذين يشترون بعهد الله ﴾ الآية ".
قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك والعمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.
﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون { ٧٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
لي اللسان بالكتاب : فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له للناس، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي، لكنهم لولوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.
المعنى الجملي
بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة، ومن لف لفهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.
روي عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذي قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الإيذاء له والإغراء به، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.
الإيضاح
﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب ﴾ أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما، يفتلون ألسنتهم بقراءتها فيميلونها عن المنزل إلى المحرف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم.
وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة ﴿ السلام ﴾ فيخفون اللام، ويقولون ﴿ السام عليكم ﴾ غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.
وجاء في سورة النساء قوله تعالى :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ﴾.
فهؤلاء وضعوا " غير مسمع " مكان " لا أسمعت مكروها " التي تقال عادة عند الدعاء " وراعنا " مكان " انظرنا " التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.
وإنما قالوا ﴿ غير مسمع ﴾ لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا ﴿ راعنا ﴾ لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها.
ثم أكد ما سبق بقوله :
﴿ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾ أي إنهم كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.
وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة، ويجلي اعتقادهم ذلك قولهم ﴿ أمة محمد بخير ﴾.
فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.
﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون، وهذا تسجيل عليهم أن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.
﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون { ٧٩ ﴾ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ ﴿ ٨٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
البشر : الإنسان ذكرا كان أو أثنى، واحدا كان أو جمعا،
والحكم : الحكمة وهي فقه الكتاب ومعرفة أسراره، وذلك يستلزم العمل به،
والعباد : واحدهم عبد بمعنى عابد،
والعبيد : جمع لعبد بمعنى مملوك، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله،
والربانيين واحدهم رباني وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته، روي أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ وقال رجل نصراني من أهل نجران : أو ذاك تريد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فأنزل الله الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : بلغني " أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك ؟ قال لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله ﴿ ما كان لبشر ﴾ الآيتين "
الإيضاح
﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ﴾ أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمي الناس الكتاب.
ومعنى قوله من دون الله : أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى :﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني ﴾.
ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله.
ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله، لأن هذه الواسطة تنافي الإخلاص له وحده، وحين ينتفي الإخلاص تنتفي العبادة، ومن ثم قال تعالى :﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم ﴾ الآية.
فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا، ويقول صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، وفي رواية : فأنا منه بريء، هو للذي عمله ) رواه مسلم وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم :( إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) رواه أحمد.
﴿ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾ أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتي الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربانيا مرضيا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.
﴿ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ﴾
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ وقال رجل نصراني من أهل نجران : أو ذاك تريد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فأنزل الله الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : بلغني " أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك ؟ قال لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله ﴿ ما كان لبشر ﴾ الآيتين "
الإيضاح :
أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ومثال ذلك أن تقول : ما كان لمحمد أن أكرمه، ثم يهينني ويستخف بي، وقد نقل عن مشركي العرب عبادة الملائكة ﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره، ومن ثم قال :
﴿ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ ﴾ أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له، إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله، فإن الله لا يؤتي وحيه إلا نفوسا طاهرة، وأرواحا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.
وأثر عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك، وجاهل متنسك، لأن العالم ينفر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغب الناس في الجهل بتنسكه..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع ).
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين { ٨١ ﴾ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴿ ٨٢ ﴾ أفغير دين الله يبغون ؟ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ﴿ ٨٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الميثاق : العهد المؤكد الموثق، وهو أن يلتزم المعاهد " بكسر الهاء " للمعاهد " بفتحها " أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة،
أقررتم من قرر الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه،
وأخذتم : أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى :﴿ إن أوتيتم هذا فخذوه ﴾
والإصر : العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.
المعنى الجملي
سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب لعذرهم، وإظهار لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب.
وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفند تلك الترهات والأباطيل التي يدعونها، وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.
الإيضاح
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبي آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأولى، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.
فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدقه في الأصول التي هي واحدة في كل دين، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين، فمثل هذا قد يأتي في الشريعة الواحدة، ففي كفارة اليمين أو غيرها يكفر شخص بالصيام، وآخر بإطعام الطعام، وما سبب هذا إلا حال الشخصين، فكل منهما أدى ما سهل عليه.
ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.
وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالي واستعدادهم، وفي حال البلاد في اليسر والرخاء، فيقتضي ذلك اختلاف تفصيل الالتزامات، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى، والقوانين صارمة في واحدة، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.
وهكذا حال النبيين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.
أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب السابقة وممن جاء بها من الرسل، وليس المعنى أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.
وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء، ولم يكن منهم إلا الصد والإعراض والكيد والجحود.
وصفوة القول- إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى- أنه إذا جاء نبي بعده، وصدق بما معه يؤمن به وينصره.
وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضي التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.
﴿ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ ﴾ أي قال الله تعالى للنبيين : أأقررتم بالإيمان والنصر له، وقبلتم العهد على ذلك ؟
﴿ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ أي قالوا قررنا بذلك، قال الله تعالى : ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم، لا يعزب عن علمي شيء.
وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.
﴿ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾
المعنى الجملي
سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب لعذرهم، وإظهار لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب.
وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفند تلك الترهات والأباطيل التي يدعونها، وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.
الإيضاح :
أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، خارجون عن ميثاق الله ناقضون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء.
وبعد أن بين أن دين الله واحد، وأن رسله متفقون فيه- ذكر حال منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾.
المعنى الجملي
سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب لعذرهم، وإظهار لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب.
وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفند تلك الترهات والأباطيل التي يدعونها، وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.
الإيضاح :
أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة في السر والعلن، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السماوات والأرض، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره ؟
وصفوة القول- إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.
﴿ وإليه ترجعون ﴾ أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.
وفي هذا وعيد وتهديد لهم.
﴿ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون { ٨٤ ﴾ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴿ ٨٥ ﴾ }.
تفسير المفردات
الأسباط : الأحفاد واحدهم سبط وهم أبناء يعقوب الإثنا عشر وذراريهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم،
مسلمون : أي مستسلمون منقادون بالطاعة له فيما به أمر وعنه نهى،
والخسران : ذهاب رأس المال، ويراد به هنا تضييع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من الانقياد لله وطاعته.
والإيمان : لغة التصديق إما بالقلب كأن يقول إنسان شيئا فتعتقد صدقه، وإما باللسان كأن تقول له صدقت.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه- ذكر هنا أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك.
وخلاصة ذلك- إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه.
الإيضاح
﴿ قل آمنا بالله ﴾ أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه في الأكوان.
﴿ وما أنزل علينا ﴾ وهو القرآن المنزل عليه صلوات الله عليه أولا، وعلى أمته بتبليغه إليهم.
﴿ وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ أي وصدقنا بأن الله أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾.
﴿ وما أوتي موسى وعيسى ﴾ من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات.
وخص هذين النبيين بالذكر، لأن الكلام مع اليهود والنصارى.
﴿ والنبيون من ربهم ﴾ أي وما أوتي النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم.
وقدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا، مع كونه أنزل قبله- لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه.
فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع، وهو الإيمان بالله وإسلام القلب له مع العمل الصالح، والإيمان باليوم الآخر.
﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشؤون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.
﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغي بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا، وتطهيرها من أدران الذنوب والخطايا.
وقد افتتحت الآية بالإيمان، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبي، فقال تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾
تفسير المفردات :
والإسلام : الانقياد والخضوع، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا، فأطلق الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة،
وأطلق الإسلام على توحيد الله والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله.
والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار، ومن ثم عدا شيئا واحدا في هذه الآيات، وبهما يكون الفوز بالنجاة في الآخرة.
وأما ما جاء في قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لهم بعد، بدليل أنهم امتنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام وترك القتال، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين.
كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق، فمن اتبعه كان مرضيا عند الله، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه- ذكر هنا أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك.
وخلاصة ذلك- إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه.
الإيضاح :
لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد لله تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدي شيئا، بل تزيد النفوس فسادا، والقلوب ظلاما، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس في الدنيا، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم، والعذاب الأليم.
﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله والانقياد له كما جاء في الحديث ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وخسر نفسه إذا لم يزكها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى :﴿ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾.
﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن رسول الله حق، وجاءهم البينات، والله لا يهدي القوم الظالمين { ٨٦ ﴾ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴿ ٨٧ ﴾ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴿ ٨٨ ﴾ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴿ ٨٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
الظلم : هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق. /م*
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، ولا يقبل من أحد غيره، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم.
أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن : أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وأقروا وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم.
وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت الآية فيهم، وأكثر الروايات على هذا
الإيضاح
﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ؟ ﴾ أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة ؟
وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا عازمين على إتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.
وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي إن الله لا يهدي أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكبوا عن الطريق القويم، وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.
﴿ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾
تفسير المفردات :
واللعن : الطرد والإبعاد على سبيل السخط.
هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور :

﴿ ١ ﴾ إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به- فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذي يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.
﴿ ٢ ﴾ إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
﴿ ٣ ﴾ إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.
﴿ ٤ ﴾ إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
﴿ ٥ ﴾ إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
الإيضاح :
أي هؤلاء يستحقون سخط الله وغضبه، وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى :﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم بعضا ويلعن بعضكم بعضا ﴾.
﴿ خالدين فيها ﴾
تفسير المفردات :
والإنظار : الإمهال والتأخير.
هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور :

﴿ ١ ﴾ إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به- فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذي يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.
﴿ ٢ ﴾ إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
﴿ ٣ ﴾ إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.
﴿ ٤ ﴾ إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
﴿ ٥ ﴾ إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
الإيضاح :
أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد.
﴿ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾ أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾
هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور :

﴿ ١ ﴾ إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به- فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذي يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.
﴿ ٢ ﴾ إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
﴿ ٣ ﴾ إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.
﴿ ٤ ﴾ إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
﴿ ٥ ﴾ إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
الإيضاح :
أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وتابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذي الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.
وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتد بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم، وتقويم المعوج من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته.
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون { ٩٠ ﴾ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴿ ٩١ ﴾ }.
المعنى الجملي

الكافرون أصناف ثلاثة :

﴿ ١ ﴾ الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
*** ﴿ ٢ ﴾ الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾.
﴿ ٣ ﴾ الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.
الإيضاح
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ﴾ المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن سبيل الله وبالحرب والكفاح، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان، والإيمان كذلك.
هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير.
وظاهر الآيات يخالف ما صرح به القرآن في غير موضع، كقوله في الآية السابقة ﴿ إلا الذين تابوا ﴾ وقوله :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾.
ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى- ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كأنها لم تكن، ويكون المعنى في هذه الآية وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لم تقبل توبتهم، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيه الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادا للأثر الأول.
وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى :﴿ قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها ﴾.
وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس.
ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى.
وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.
وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾.
﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ أي إن هؤلاء المتقلبين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم الهداية، ولا تقبل منهم توبة.
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ﴾
المعنى الجملي

الكافرون أصناف ثلاثة :

﴿ ١ ﴾ الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
*** ﴿ ٢ ﴾ الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾.
﴿ ٣ ﴾ الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.
الإيضاح :
ملء الشيء ﴿ بالكسر ﴾ مقدار ما يملؤه، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال- فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته، فمن لم تزك نفسه في الدنيا وتسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك- فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جل، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرحيم.
﴿ ولو افتدى به ﴾ أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب، كما يعطي الناس الرشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحل بهم من العذاب.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ﴾ ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون بمال يبذل، ولا بجاه ينفع، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها، فمن زكاها الإيمان مع العمل الصالح فقد أفلح، ومن دساها بالكفر وسيء الأعمال فقد خاب وخسر.
وصفوة القول- إنه لا طريق للافتداء على أي حال لو أريد.
ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم، والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم.
﴿ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾ يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم.
﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم { ٩٢ ﴾ }.
تفسير المفردات
نال الشيء نيلا : إذا أصابه ووجده، يقال نال العلم : إذا وصل إليه واتصف به،
والبر : ما يكون به الإنسان بارا، وما تحبون هو نفائس الأموال وكرائمها، لأن شأنها عند النفوس عظيم، فكثيرا ما يخاطر الإنسان بنفسه، ويستسهل بذل روحه للدفاع عن ماله.
المعنى الجملي
بعد أن حاج الله تعالى أهل الكتاب فيما ادعوه من الإيمان، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم، وأن النار لن تمسسهم إلا أياما معدودات ؛ خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية، ولكنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب.
فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون ؟
الإيضاح
﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ أي لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم.
وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ﴿ موضع ﴾ وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قال أبو طلحة يا رسول الله : إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه السلام : بخ، بخ " كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء " ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي رواية لمسلم : فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبي بن كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة، فكأن زيدا وجد في نفسه " حزن " فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال : أما إن الله قد قبلها.
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين ليثبت قلوبهما ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدي الغرباء، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمال الصدقة باتقاء كرائم الأموال، والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية ﴿ لن تنالوا البر ﴾ الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب إلي من مرجانة " جارية رومية " فقلت هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافها " مولى له كان يحبه كأحد أولاده ".
فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها، لولا أن كان مما عود نفسه عليه ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه.
وعلى الجملة فآثار السلف في الإيثار وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة.
فقد روي أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض، فبحث عنها في المدينة فلم توجد، وبعد مدة وجدت، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم، فشويت وجيء بها على رغيف، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام، لفها برغيفها وادفعها إليه، فأبى الغلام فرده وأمره أن يدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرحمن، فقد أعطيته درهما وأخذتها، فقال : لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه إلا غفر الله له ).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة، فقال : إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال : إن فلانا كان أحوج مني إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.
وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدي بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.
﴿ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾ أي أي شيء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم، فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، ورب فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبر، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره.
وفي هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة، كي لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.
جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوات الله على أنبيائه المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في رجب المعظم من سنة إحدى وستين وثلاثمائة هجرية.
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٩٣فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٩٤ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٩٥ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ٩٦ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ ( آل عمران : ٩٣_٩٧ )
تفسير المفردات : الطعام : كل ما يطعم ويتناول للغذاء كما قال :﴿ أحل لكم صيد البحر و طعامه متعا لكم و للسيارة ﴾ ( المائدة : ٩٦ ) وقالت عائشة رضي الله عنها :" ما لنا طعام إلا الأسودان : التمر و الماء ) وكثر استعماله في الخبز كما قالوا : أكل الطعام مأدوما، وفي البر، ومنه حديث أبي سعيد :" كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاع من الشعير ". و الحل : من حل الشيء ضد حرم، و إسرائيل : لقب نبي الله يعقوب، ومعناه الأمير المجاهد مع الله ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته كما تدل على دلك الأسفار المنسوبة إلى موسى،
المعنى الجملي : كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب و دحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع و تقاليد لا نص عليها في كتابهم.
أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل و ألبانها مع أن ذلك حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، و لإبراهيم قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكان آخر وخالفت ما تقدمك من الأنبياء، فرد الله بحانه شبهتهم، بأن أول بيت بني للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
الإيضاح : أجاب الله سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله :
﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة ﴾ أي إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل، و لإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم و تأديبا كما يدل على ذلك قوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ ( النساء : ١٦٠ ) الآية.
و المراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها.
وخلاصة هذا الجواب : أن الأصل في الأطعمة الحل، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم و مخلفات وقعت منهم، وكنت سبا فيما نالهم من التحريم لها، و النبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.
ومعنى فوله :﴿ من قبل أن تنزل التوراة ﴾ أنه قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات أما بعد نزولها، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.
﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها أن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم، لا تخافوا أن تكذبكم نصوصها، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر. وقد جاء في سفر التثنية : قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة ( إنكم شعب غليظ الرقبة يقاوم الرب ) وقد روي أنهم لم يجرؤا على الإتيان بها، وفلجت حجة القرآن.
وفي هذا أكبر دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من الله.
المعنى الجملي : كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب و دحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع و تقاليد لا نص عليها في كتابهم.
أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل و ألبانها مع أن ذلك حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، و لإبراهيم قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكان آخر وخالفت ما تقدمك من الأنبياء، فرد الله بحانه شبهتهم، بأن أول بيت بني للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
و الفرية : الكذب، و الافتراء : اختلاق الكذب، و الحنيف : المائل عن الباطل إلى الحق
﴿ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ﴾ أي فمن اخترع الكذب على الله و زعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزل التوراة _ بعد أ ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب و الخطايا، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئا قبل نزولها _ فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرار على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المعنى الجملي : كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب و دحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع و تقاليد لا نص عليها في كتابهم.
أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل و ألبانها مع أن ذلك حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، و لإبراهيم قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكان آخر وخالفت ما تقدمك من الأنبياء، فرد الله بحانه شبهتهم، بأن أول بيت بني للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
( قل صدق الله ) فيما أنبأني به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذا قامت عليكم الحجة وثبت أني مبلغ عنه، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحي أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تتحدثون عن أنبيائكم.
﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم هو من ملة إبراهيم، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحم الإبل وألبانها، وملته حنفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط.
﴿ وما كان من المشركين ﴾ الذين يعون مع الله إلها آخر، أو يعبدون سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادّعائهم أنن عزيرا بن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.
وخلاصة هذا : إن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام و كلياتها فأحل ما أحله من أكل لحوم الإبل و ألبانها، ودعا إلى التوحيد و البراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه إلا على هذا الدين.
المعنى الجملي : كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب و دحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع و تقاليد لا نص عليها في كتابهم.
أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل و ألبانها مع أن ذلك حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، و لإبراهيم قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكان آخر وخالفت ما تقدمك من الأنبياء، فرد الله بحانه شبهتهم، بأن أول بيت بني للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
و بكة : من أسماء مكة ( أبدلت ميمها باء ) وهدا كثير الاستعمال في الكلام، قالوا : هذا دائم ودائب،
ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال :
﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ﴾ أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو ببيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه سليمان عليه السلام سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى وبذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادة إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما.
والخلاصة : إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم، ويتبع هذا أولية الشرف و التعظيم.
ثم بين فضائله فقال :
( ٢، ١ ) ﴿ مباركا وهدى للعالمين ﴾ تطلق البركة على معنيين : أحدهما : النمو و الزيادة، وثانيهما : البقاء و الدوام كما يقال تبارك الله.
و البركة والهداية من فضائله الحسية و المعنوية.
أما الأولى فهي أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض و ثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع كما قال تعالى :﴿ يجبى لأيه تمرات كل شيء ﴾ ( القصص : ٥٧ ) فترى الأقوات و الثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر و الشام.
وأما الثانية فلأن القلوب تهوى إليه، فتأتي الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج و العمرة، ويولون وجوههم شطره في صلاتهم وربما لا تمضي ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات.
وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات الله عليه ﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فأجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾ ( إبراهيم : ٣٧ )
المعنى الجملي : كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب و دحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع و تقاليد لا نص عليها في كتابهم.
أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل و ألبانها مع أن ذلك حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، و لإبراهيم قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكان آخر وخالفت ما تقدمك من الأنبياء، فرد الله بحانه شبهتهم، بأن أول بيت بني للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
و الآيات : الدلائل و العلامات، و الحج ( بكسر الحاء فتحها وبمها قرئ ) القصد.
( ٣ ) ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) أي فيه دلائل واضحات أحدها مقام إبراهيم- موضع قيامه للصلاة والعبادة- و قد عرف ذلك العرب و غيرهم بالنقل المتواتر.
وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم وجعلت النبوة والملك فيهم فأي دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة ؟
( ومن دخله كان آمنا ) أي أومن من دخله، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء وامن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته مادام فيه، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد و الضغائن، واختلاف المنازل و الأهواء، وقد أقر الإسلام هذا، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام ﴿ رب اجعل هذا البلد أمنا ﴾ ( البقرة : ١٢٦ ).
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه الله : من وجب قتله في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم و لا يسقي ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه.
و فتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك و تخصيصه للعبادة فقد حلت للبني صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث.
على أن حل مكة وما يتبعها من أر باضها للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحل البيت ساعة ولا ما دونها بل كان مناديه ينادي : من دخل المسجد الحرام فهو أمن ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقد أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق : اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم " كذب سعد، هذا يوم يعظم الله في الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة ".
و ما فعله الحجاج من رمي البيت بالمنجنيق، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، و يقع به في الظلم و الإلحاد، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حل ما فعلوا.
﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيما تعظيم، ومازال الناس من عهد إبراهيم إلى محمد صلوات الله عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان و الأصنام، فهي آية متواترة على نسبة هذا لبيت إلى إبراهيم.
واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى :﴿ فهل إلى الخروج من سبيل ﴾ ( غافر : ١١ ) وقال :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ ( التوبة : ٩١ )وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت و القرب منه وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك.
و قد اختلف في تفسيرها فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد و الرحلة مع أمن الطريق. وقال بعض : إنها صحة البدن و القدرة على المشي، وقال آخرون هي صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشتري منه الزاد و الرحلة، وقضاء جميع الديون و الودائع و دفع النفقة التي تكفي لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.
و خلاصة ذلك : إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهي تختف باختلاف الأشخاص و الأزمان.
﴿ و من كفر فإن الله غني من العالمين ﴾ المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك، وعدم الإذعان لما فرضه الله من حجة و التوجه إليه بالعبادة.
وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، وعبر عنه بذلك تغليظا و تشديدا
على تاركه فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " وروي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له :" أيها الناس، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا " وأثر عن عمر أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ( سعة ) ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون : إنه واجب على التراخي.
وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال : ولله على الناس فأفاد أن ذلك ما كان لجر نفع ولا ضر بل كان للعزة الإلهية ولكبرياء الربوبية، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك، ببيان أن فاعل ذلك مستهل للنعمة برضا الله عنه وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما.
وحسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى العالمين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمته وفضله، من أنه لا يسفك فيه دم ولا يعضد شجرة، ولا يختلي خلاه ( لا قطع نباته ) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا. وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر الأسود فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره.
وكتب الأحاديث والسيرة مليئة بيان فضله، و مشيدة بذكره.
﴿ قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعلمون٩٨ قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من أمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعلمون ﴾ ( آل عمران : ٩٨-٩٩ ).
تفسير المفردات : آيات الله : هي الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والشهيد : العالم بالشيء المطلع عليه،
المعنى الجملي : بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء في التوراة و الإنجيل من البشارة بمقدمة ثم ذكر شبهات القوم وكر عليها بالحجة و نقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد - أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.
أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مر شاش بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين _ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأوس و الخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعهم و ألفتهم و صلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذين كان منهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة ( الأوس والخزرج ) بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من فرار فأمر فتى شابا من اليهود _وكان معه _ فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكرهم يوم بعاث، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل ( و كان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس و الخزرج، و كان الظفر للأوس على الخزرج ) فقيل فتكلم القوم عند ذلك، تنازوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب ( أوس بن قيضي أحد بني حارث بن الحارث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمه من الخزرج ) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم و الله رددنا جدعة
( شابة فتية يعلنون الحرب ) و غضب الفريقان و قالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة ( هي الحرة و هي أرض مستوية بظاهر المدينة ) فخرجوا إليها و تجاوب الناس فانضمت الأوس بعضها إلى بعض و الخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به و قطع به عنكم أمر الجاهلية و أستنقذكم به من الكفر و ألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع.
وأنزل الله فيه ﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ ( آل عمران : ٧٠ ) إلى آخر الآيتين السابقتين، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما ﴿ يأيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب - إلى قوله- لعلكم تهتدون ﴾ ( آل عمران : ١٠٠-١٠٣ )
الإيضاح :﴿ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعلمون ﴾ أي لأي سبب تكفرون بتلك الآيات و الله مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها ؟وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترئوا على الكفر بآياته.
و لا يخفى ما في هذا من التوبيخ و الإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم.
المعنى الجملي : بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء في التوراة و الإنجيل من البشارة بمقدمة ثم ذكر شبهات القوم وكر عليها بالحجة و نقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد - أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.
أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مر شاش بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين _ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأوس و الخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعهم و ألفتهم و صلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذين كان منهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة ( الأوس والخزرج ) بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من فرار فأمر فتى شابا من اليهود _وكان معه _ فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكرهم يوم بعاث، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل ( و كان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس و الخزرج، و كان الظفر للأوس على الخزرج ) فقيل فتكلم القوم عند ذلك، تنازوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب ( أوس بن قيضي أحد بني حارث بن الحارث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمه من الخزرج ) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم و الله رددنا جدعة
( شابة فتية يعلنون الحرب ) و غضب الفريقان و قالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة ( هي الحرة و هي أرض مستوية بظاهر المدينة ) فخرجوا إليها و تجاوب الناس فانضمت الأوس بعضها إلى بعض و الخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به و قطع به عنكم أمر الجاهلية و أستنقذكم به من الكفر و ألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع.
وأنزل الله فيه ﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ ( آل عمران : ٧٠ ) إلى آخر الآيتين السابقتين، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما ﴿ يأيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب - إلى قوله- لعلكم تهتدون ﴾ ( آل عمران : ١٠٠-١٠٣ )
وتصدون من صددته أصده صدا : أي صرفته، والسبيل : الطريق يذكر و يؤنث وتبغونها من بغاه يبغيه : أي طلبه و العوج ( بكسر العين ) الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين و القول ( وبفتحها ) في المحسوسات كالحائط و القناة و الشجرة و المراد به هنا الزيغ و التحريف.
﴿ قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ﴾ أي لأي سبب تصرفون من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، و يرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، و الأعمال الصالحة، و تكذبون بذلك كفرا و عنادا، و كبرا وحسدا وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبي صلى الله عليه وسلم، تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا، وزيغا عن الاستقامة على الهدي و المحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل و الضلال و الإضلال.
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ من هذا الصد وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد، كما يقول الرجل لعبده قد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه : لا يخفى علي ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك.
وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر و الكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله و الله شهيد ؛ لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.
وكرر الخطاب بيا أهل الكتاب، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه، هذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وأدل على النصح لهم، و الإشفاق عليهم.
و الآية الأولى لكفهم عن الضلال، و الثانية لكفهم عن الإضلال.
﴿ يا أيها الذين امنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين١٠٠ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم١٠١ يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ١٠٢ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾ ( آل عمران : ١٠٠-١٠٣ )
المعنى الجملي : بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم– خاطب المؤمنين محذرا لهم من إغوائهم وإضلالهم : مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم ؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة والرهبة مقدمة عن الرغبة وقد أشار إلى الأولى بقوله :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ وإلى الثانية بقوله :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكاتب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ أي أنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة، ولنتم لهم في القول، واستجبتم لما يدعونكم إليه- ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ ( البقرة : ١٠٩ ) والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين ؛ أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء، وهيجان الفتنة المؤدي إلى سفك الدماء، و أما في الدين فلا حاجة إلى بيانه.
المعنى الجملي : بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم– خاطب المؤمنين محذرا لهم من إغوائهم وإضلالهم : مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم ؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة والرهبة مقدمة عن الرغبة وقد أشار إلى الأولى بقوله :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ وإلى الثانية بقوله :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾.
شرح المفردات : اعتصم بالشيء : تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك كما قال تعالى حكاية عن زليخا :﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾ ( يوسف : ٣٢
﴿ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ﴾ أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريا، وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويبن لكم ما أنزل إليكم ولكم في سنته خير أسوة تغذي إيمانكم وتنير قلوبكم، فلا ينبغي لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكشف عنها ويزيل ما علق بقلوبكم منها.
﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ﴾ أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله فقد حصل له الهدى إلى صراط المستقيم لا محالة كما تقول إذا جئت وفلانا فقد أفلحت، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك ولا تروج لديه الشبهات.
قال قتادة : ذكر في الآية أمرين يمنعان من الوقوع في الكفر : أحدهما تلاوة كتاب الله، و ثانيهما كون الرسول فيهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
المعنى الجملي : بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم– خاطب المؤمنين محذرا لهم من إغوائهم وإضلالهم : مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم ؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة والرهبة مقدمة عن الرغبة وقد أشار إلى الأولى بقوله :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ وإلى الثانية بقوله :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾.
والثقاة : التقوى كالتؤدة من أتاد، والحق : من حق الشيء ؛ بمعنى وجب وثبت، و الأصل اتقاء حقا،
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ أي يجب عليكم تقواه حقا، بأن تقوموا بالواجبات وتجتنبوا المنهيات.
و نحو الآية قوله :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ ( التغابن : ١٦ ) أي بالغوا في تقواه جهد المستطاع.
وعن ابن مسعود أنه قال : تقوى الله أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
وعن ابن عباس أنه قال : هي أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، و يقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكونن على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
و الخلاصة : استمروا على الإسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت.
وقد جاء هذا في مقابلة قوله :﴿ يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم– خاطب المؤمنين محذرا لهم من إغوائهم وإضلالهم : مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم ؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة والرهبة مقدمة عن الرغبة وقد أشار إلى الأولى بقوله :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ وإلى الثانية بقوله :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾.
وحبل الله : كتابه من اعتصم به كان مستمسكا بأقوى سبب متحرزا من السقوط في قعر جهنم، وشفا الحفرة : طرفها، وبه يضرب المثل في القرب من الهلاك فيقال أشفى على الهلاك أي وصل إلى شفاه.
﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم، وفيه أمركم بالألفة و الاجتماع على طاعته وطاعة رسوله، والانتهاء إلى أمره.
وقد جعل الدين في سلطانه على النفوس وتصرفه فيها بحسب نواميسه و أصوله وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه- كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط في الهاوية كأن الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه فيأخذون بحبل موثق يجمعون به قوتهم فينجون من السقوط.
وفي الحديث :" القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط المستقيم ".
وجاء في معنى الآية قوله تعالى ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام : ١٥٣ ) فحبل الله في هذه الآية هو صراطه المستقيم كما أن أنواع التفرق هي السبل التي نهى عنها فيها.
ومن السبل المفرقة في الدين إحداث الشيع و المذاهب كما قال :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾( الأنعام : ١٥٩ ) ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير( ليس منا من دعا إلى عصبية ).
وقد سار على هذا النهج أهل أوروبا في العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية فحاول أهلها أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية، والمصريون إلى الجنسية المصرية، والعراقيون إلى الجنسية العراقية، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن وليس الأمر كما يظنون فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه لا في تفرقهم ووقوع الشحناء و البغضاء بينهم فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم وجعلكم إخوانا حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو في خصاصة وحاجة إليه و أطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس و الخزرج مائة وعشرون سنة وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.
﴿ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾ أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم في النار فليس بين الشرك و الهلاك في النار إلا الموت و الموت أقرب غائب ينتظر فأنقذكم الإسلام منها.
وفي هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليكم فقد أخرجكم بالإسلام من الشرك و مخازيه و ألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار فسعدوا بالحسنيين.
فانظر إلى آيات الله ودلائل قدرته كيف حول قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن و العداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون- إلى جماعات متصافية القلوب مليئة بالحب و الإخلاص، وجهتهم جميعا واحدة هي حكم الله ورفعة دينه ونشره بين البشر.
﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾ أي كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به وما نهاكم عنه وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية وما صرتم إليه في الإسلام ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه كذلك يبين سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله ليعدكم للاهتداء الدائم حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق و العدوان.
والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان :
ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف في الرأي والفهم وهو مما فطر عليه البشر وإلى ذلك الإشارة بقوله :﴿ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ﴾ ( هود : ١١٨-١١٩ ) إذ إن العقول و الأفهام ليست متساوية فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها في الشيء الواحد كما يختلف حبهم له وميلهم إليه وهذا ضرب لا ضرر فيه.
ضرب جدت الشرائع في هدمه ومحوه وهو تحكيم الرأي و الهوى في أمور الدين وشؤون الحياة.
وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم- قد اختلف الأئمة المجتهدون في فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما كان في ذلك من حرج فمالك نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب، فقال : إن عمل أهلها أصل من أصول الدين لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله و إرادة الخير و الطاعة لأمره ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم ولم تقلدهم في سيرتهم وحكموا الرأي والهوى في الدين وتفرقوا شيعا كل فريف يتعصب لرأي فيما وقع من أوجه الخلاف ويعادي المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة وأن الشافعي ومالكا أخطآ في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذا فكيف يمضي نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها.
وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها ؛ و ذلت بعد عزتها، وضعفت بعد قوتها.
وقد حدث مثل هذا في الفرق الإسلامية في علم الكلام فإن أبدى أحدهم رأيا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه وتفنيد مذهبه وتضليله ويقابله الآخر بمثل صنيعه ولو حاول كل منهما محادثة الآخر و الاطلاع على أدلته ووزنها بميزان الإنصاف و الحق لما حدث مثل هذا الخلاف، بل اقتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.
والمسلم مادام محتفظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه.
فإذا تحكم الرأي والهوى ولعن بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث.
وكذلك الحال في الاختلاف في المعاملة في المسائل السياسية والدينية، لا ينبغي أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين، بل عليهم أن يرجعوا في النزاع إلى حكم الله وآراء أولي العلم منهم، وبذلك نتقي غائلة الخلاف، ونكون في وفاق ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠٤ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٠٥ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ١٠٦ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٠٧ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ١٠٨ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ ( آل عمران : ١٠٣-١٠٩ ).
تفسير المفردات : الأمة : الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والخير : ما فيه صلاح الناس في الدين و الدنيا، والمعروف ما استحسنه الشرع والعقل، والمنكر ضد
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
الإيضاح :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ﴾ أي ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و المخاطب بهذا هم المؤمنون كافة المؤمنون فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.
و قد كان المسلمون في الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، فقد خطب عمر على المنبر وكان مما قال : إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموه فقام أحد رعاة الإبل وقال : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا.
وكان الخاصة من الصحابة متكاتفين في أداء الواجب، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام و حفظه و مقاومة كل من يمس شيئا من عقائده و آدابه و أحكامه و مصالح أهله وكان سائر المسلمين تبعا لهم.
و يجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط ليؤدي وظيفته خير الأداء و يكون مثلا صالحا يحتذى به في علمه و عمله
أن يكون عالما بالقرآن و السنة و سيرة النبي صلى الله عليه و سلم و الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
أن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم و استعدادهم و طباعهم و أخلاقهم أي معرفة أحوالهم الاجتماعية
أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه و معرفة حقيقة حالهم.
معرفة الملل و النحل ومذاهب الأمم و بذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت الى الحق الذي عليه غيره و إن دعاه إليه
و على الجملة لا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام وحكمة التشريع و فقهه و هم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ( التوبة ١٢٢ ).
و هؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان و مكان على مقدار علمهم في المساجد و المعابد و المنتديات العامة و في المحافل عند سنوح الفرصة
فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير و ندر فيها وقوع الشر و ائتلفت قلوب أهاليها و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر و سعدوا في دنياهم و آخرتهم
و أمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها و اتفاق أهوائها إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها و عزة أبنائها و سيادتها العالم كله
و لن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته و كملوا أنفسهم بالمعارف و العلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغي السعادة و الرقي و تخلقوا بفاضل الأخلاق و حميد الصفات حتى يكونوا مثلا عليا تحتذي و يشار إليهم بالبنان و إن اودع في ديننا من هذا ما خلفه لنا السلف الصالح من الكنوز و الثروة العلمية فيه غنية لمن يريد الخير و الفلاح و قد روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن خير الناس فقال ﴿ آمرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر و أتقاهم لله و أوصلهم للرحم ﴾
و عنه أنه قال و الذي في نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم
و عن علي كرم الله وجهه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و من غضب لله غضب الله له.
و بعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بينما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية الآمرة الناهية من وحدة المقصد و اتحاد الغرض لأن الذين سبقوه من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم و تفرق أهوائهم لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه و إرضاء هواه
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
أما المتفقون في القصد فاختلافهم في الرأي لا يضيرهم بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعي لابد منه لتمحيصه و تبين وجوه الصواب فيه و من ثم قال تعالى :
﴿ و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ﴾ أي و لا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا في الدين و كانوا شيعا تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر و تنصر مذهبها و تدعو إليه و تخطئ ما سواه و لذا تعادوا و اقتتلوا
و لو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تعتصم بحبل الله و تتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا و لاختلفوا فيه و لما تعددت مذاهبهم في أصوله و فروعه و ما قاتل بعضهم بعضا فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم و بعدئذ ذكر عاقبة المختلفين و عظيم نكالهم فقال :
﴿ و أولئك لهم عذاب عظيم ﴾ وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا و خسران الآخرة أما في الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا فيشقى بعضهم ببعض و يبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء و تذيقهم الخزي و النكال أما في الآخرة فعذاب الله أشد و أبقى.
و هذا الوعيد في الآية يقابل الوعد في الآية قبلها و هو قوله﴿ و أولئك هم المفلحون ﴾ فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا و الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
ابيضاض الوجوه : عبارة عن المسرة، واسودادها عبارة عن المساءة، وعلى هذا جاء قوله :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾( النحل : ٥٨ )
ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال :
﴿ يوم تبيض وجوه و تسود و جوه ﴾ أي فاذكروا يوم تبيض وجوه و تسرّ لما تعلم من حسن العاقبة و تسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة، و ما يحل بها من النكال والوبال.
و نحو الآية قوله :﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ﴾( عبس : ٤٠-٤١ ) ) و قوله ﴿ وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾ ( يونس : ٢٧ ) و قوله ﴿ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ﴾ ( القيامة : ٢٢-٢٣ ) و في الحديث " إن أمتي يحشرون غرا محجلين من آثار الوضوء "
و استعمال البياض في السرور و السواد في الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد و لا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم :
فتعجبوا لسواد وجه الكاذب
و الخلاصة أن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم في هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات و الأحاديث كما يكون لهم مثل ذلك في الدنيا إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون و لا يتعاونون و لا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة و عز الأمة فتسود وجوههم بالذل و الكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم و عواقب تفرقهم و اختلافهم بقهر الغاصب لهم و انتزاعه السلطة من أيديهم و التاريخ و المشاهدة شاهدا صدق على هذا
أما المتفقون الذين اعتصموا و اتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة و عزها و أصبح كل واحد منهم عونا للآخر و ناصرا له فأولئك تبيض وجوههم و تتلألأ بهجة و سرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم و اعتصامهم بوجود السلطان و العزة و الشرف و ارتفاع المكانة بين الأمم.
ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال﴿ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي فأما الذين تفرقوا و اختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فلابد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين و أما في الآخرة فيوبخهم الله تعالى بمثل هذا السؤال
و قد جرى عرف القرآن أن يعد المتفرقين في الدين من الكفار و المشركين كما جاء في قوله :﴿ و لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( الروم : ٣١-٣٢ ) و قوله ﴿ إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾( الأنعام : ١٥٩ ).
و كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر لأن الإيمان اعتقاد و قول و عمل و هو ذو شعب كثير من أجلها تحري العدل و اجتناب الظلم فمن استرسل في الظلم كان كافرا كما قال تعالى ﴿ و الكافرون هم الظالمون ﴾( البقرة : ٢٥٤ ).
وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق و الاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ﴾ أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة وعدم التفرقة فيكونون في الدنيا خالدين في النعمة ما داموا على تلك الحال وخلودهم في الرحمة في الآخرة أظهر.
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
بالحق : أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا مجال فيه للشبهات، والظلم لغة وعرفا : وضع الشيء في غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أومكانه.
﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ﴾ أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه، فلا عذر لمن ذهب في الدين مذاهب شتى واتبع سنن السابقين وجعل القرآن عضين.
فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز و النجاح ونترك ما عنه نهى وأوعد عليه بالعذاب الأليم، حتى نكون أمة متفقة المقاصد متحدة في الدين فنجمع بين سعادتي الدنيا و الآخرة.
﴿ وما الله يريد ظلما للعالمين ﴾ أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم ويتم فيه نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء و كانوا هم الظالمين لأنفسهم بتفرقهم واختلافهم إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله في شقاء ولا يحل عذاب بأمة إلا بجنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال :﴿ وكذلك أخد ربك إذا أخد القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾( هود : ١٠٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس و الأرجاس بالعمل بتقوى الله و المحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات والاعتصام بحبله المتين بأتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة وحثهم على إتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام والمحافظة على ما فيها من الشرائع و النواميس وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
و الحفاظ لوحدة الأمة ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفي الظلم عنه تعالى فقال :
﴿ ولله ما في االسماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ﴾ أي إنه تعالى مالك العباد و المتصرف في شؤونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال :﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ ( الأحزاب : ٦٢ ) وليس من أسباب ملكه شيء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولأن الظلم ينافي الحكمة و الكمال في النظام و التشريع.
ومن حمل عبيده أو دوابه مالا تطيق أنه ظلمها، ومن نقص أمرءا فقد ظلمه وقال تعالى :﴿ كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ ( الكهف : ٣٣ ).
وعلى الجملة : فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافي مصلحة العباد و هدايتهم لسعادة الدنيا و الآخرة و بعبارة أخرى هو ما يخالف النظام و الإحكام.
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ١١٠لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ ( آل عمران : ١١٠-١١٢ )
تفسير المفردات : كنتم : أي وجدتم وخلفتم، أخرجت : أي أظهرت حتى تميزت وعرفت،
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله وذكرهم بنعمته عليهم بتالف قلوبهم بأخوة الإسلام وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد و العصيان و توعدهم على ذلك بالعذاب الأليم و استطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسود و بذكر شيء من أحوال الآخرة
أردف ذلك ذكر فضل المتآخين في دينه المعتصمين بحبله ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد و الطاعة، إذ كونهم خير الأمم ما يقوي داغيتهم في ألا يفوتوا على أنفسهم هذه المزية و إنما يكون ذلك بالمحافظة على إتباع الأوامر وترك النواهي.
الإيضاح :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ﴾ أي أنتم خير أمة في الوجود الآن لأنكم تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره في نفوسكم فيزعكم عن الشر و يصرفكم إلى الخير و غيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر و الفساد، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يؤمنون إيمانا صحيحا.
وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولا وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل فهم الدين كانوا أعداء فألف بين قلوبهم و اعتصموا بحبل الله جميعا و كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ولا يخاف ضعفيهم قويهم ولا يهاب صغيرهم كبيرهم وملك الإيمان قلوبهم و مشاعرهم فكانوا مسخرين لأغراضه في جميع أحوالهم.
وهذا الإيمان هو الذي قال الله في أهله ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ ( الحجرات : ١٥ ) وقال فيهم أيضا :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ( الأنفال : ٢ ).
وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وما تركتهما إلا باستبداد الملوك و الأمراء من بني أمية ومن حذا حذوهم.
وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر : من قال لي اتق الله ضربت عنقه.
وما زال الشر يزداد و الأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل ما لها من مزية في دينها ودنياها بعد الإيمان وهي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
ومما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو سبب الفضيلة ؛ كما تقول : محمد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويعنى بشؤونهم.
وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم، فهي لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة، فالأمر بالمعروف كان فيها على أكد وجوهه، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة، وقد يحصل بالقلب واللسان ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس في خطر الهلاك.
وأعظم المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، ومن ثم كان فرض الجهاد في الدين يحمل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم الشرور، لهذا كان عبادة من العبادات، بل كان أجلها وأعظمها، وهو في ديننا أقوى منه في سائر الأديان.
لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله في تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و لا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب أنكر المنكرات.
والخلاصة : إن هذه الخيرية لاتثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له تضير في الكتب السابقة.
وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات لأنهما سياج الإيمان و حفاظه، فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ﴾ أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولي على النفوس، ويملك أزمة القلوب، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة كما تؤمنون _ لكان ذلك خيرا لهم يدعونه من إيمان لا يزع النفوس عن الشرور، ولا يبعدها عن الرذائل، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان لصحيح الذي يحبه الله و رسوله، و لا كان أثرا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر.
وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين و كتاب، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة، وأنهم هم الذين فسقوا و خرجوا عن حقيقة الدين، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم و التقاليد الظاهرة _لا عن جميعها، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوي من هذا الإيمان، ومن ثم قال :
﴿ منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون ﴾ أي منهم المؤمنون المخلصون في عقائدهم و أعمالهم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون في الكفر.
وما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرطون المائلون إلى الفسوق والعصيان. ويكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ( الحديد : ١٦ )
ولم يحكم الدين على الأمة حكما عاما بالفسق و الضلال بل تارة يعبر بالكثير و أخرى بالأكثر كقوله في بني إسرائيل :﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ ( النساء : ٤٦ ) ) وقوله في النصارى و اليهود :﴿ منهم أمة مقتصدة و كثير منهم ساء ما يعملون ﴾( المائدة : ٦٦ ).
و على الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها و أخلاقها وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله في كتاب آخر.
فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها أهل الكتاب و عرضنا على علمائهم و فلاسفتهم و مؤرخيهم لقالوا : إنها الحق الصراح.
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله وذكرهم بنعمته عليهم بتالف قلوبهم بأخوة الإسلام وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد و العصيان و توعدهم على ذلك بالعذاب الأليم و استطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسود و بذكر شيء من أحوال الآخرة
أردف ذلك ذكر فضل المتآخين في دينه المعتصمين بحبله ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد و الطاعة، إذ كونهم خير الأمم ما يقوي داغيتهم في ألا يفوتوا على أنفسهم هذه المزية و إنما يكون ذلك بالمحافظة على إتباع الأوامر وترك النواهي.
و الأذى : الضر اليسير، يولوكم الأدبار : أي ينهزموا
﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ أي أن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح والطعن في الدين و إلقاء الشبهات و تحريف النصوص و الخوض في النبي صلى الله عليه و سلم.
﴿ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ﴾ أي و إن يقابلوكم في ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء و المنهزم من شأنه أن يحول ظهره إلى جهة مقاتلة و يستديره في هربه منه فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه.
﴿ ثم لا ينصرون ﴾ أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم و دمتم خيريتكم تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله.
وفى الآيات ثلاث بشارات من إخبار الغيب تحققت كلها و قد صدق الله وعده.
ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ ( محمد : ٧ ) وكما قال في وصف المؤمنين الجاهدين :﴿ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ﴾ ( التوبة : ١١٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله وذكرهم بنعمته عليهم بتالف قلوبهم بأخوة الإسلام وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد و العصيان و توعدهم على ذلك بالعذاب الأليم و استطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسود و بذكر شيء من أحوال الآخرة
أردف ذلك ذكر فضل المتآخين في دينه المعتصمين بحبله ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد و الطاعة، إذ كونهم خير الأمم ما يقوي داغيتهم في ألا يفوتوا على أنفسهم هذه المزية و إنما يكون ذلك بالمحافظة على إتباع الأوامر وترك النواهي.
و الذلة : هي الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة و ضربها عليهم هو التصاق بهم و ظهور إثرها فيهم، كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها و تقفوا و جدوا و الحبل : العهد و باؤوا : أي لبثوا و حلوا قيه من المباءة و هو المكان و منه تبوأ فلان منزل وكذا وبوأته إياه و الاعتداء : تجاوز الحد.
﴿ ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ﴾ أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها فحالهم معهم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا في حكمها من المساواة في الحقوق و القضاء و تحريم الإيذاء وعهد من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجهم إليكم و احتياجكم إليهم في بعض الأمور وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يحسن معاملتهم و يقترض منهم و كذلك الخلفاء الراشدون
و الخلاصة : إن هؤلاء لا عزة لهم في أنفسهم لان السلطان و الملك قد فقدا منهم وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين : العهد الأول الذي قرره الله و العهد الذي تواطأ عليه الناس.
﴿ وباؤوا بغضب من الله ﴾ أي وصاروا مستحقين غضب الله مستوجبين سخطه و أحاطت بهم المسكينة و الصغار فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين.
و هذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض.
وقد ارتفع الذل عنهم في بلاد الإسلام بحبل من الله وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة و احترام دمائهم و أعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم و الذود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين و بحبل من الناس كما تقدم بيانه.
وأما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك و سلطان يوما ما، فالقرآن ينفيه عنهم لأنه لم يستثن من ذلك شيئا كما استثنى في الذلة، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح ( ميسا ) فيهم ومعناه ذو الملك و الشريعة و النصارى يقولون : إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام و المراد بالملك الروحاني.
و الخلاصة : إنهم متفرقون في أقطار الأرض على قتلهم منصرفون عن فنون الحرب و أعمالها بعيدون عن الزراعة و متعلقاتها لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله و أكثرها نماء وأقلها تعبا و عناء وهو الربا.
وقد ذكر الله سبب ذلك و علته فقال :
﴿ ذاك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ﴾ أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة و المسكنة عليهم و استحقاقهم للغضب الإلهي بسبب كفرهم وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم.
وفي النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا ذلك تشنيع عليهم وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطأ ثم أشار إلى سبب هذا الكفر و العدوان الشنيع فقال :
﴿ ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون ﴾ أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي واعتداؤهم على حدود الله و الاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع في الكبائر.
فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل بل كان من أسلافهم لكنهم لما كانوا راضين به مصوبين له نسب إليهم إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف و الأبناء عن الآباء.
و الأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون آخر.
﴿ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٤ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾( آل عمران : ١١٣-١١٥ )
تفسير المفردات : يقال فلان و فلان سواء : أي متساويان ويستعمل للواحد و المثنى و الجمع فيقال هما سواء وهم سواء، و قائمة : أي مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام : أي استقام و التلاوة : القراءة و أصلها الأتباع فكأنها اتباع اللفظ اللفظ وآيات الله : هي القرآن و الآناء : الساعات واحدها أنى كعصا أو أني كظبي أو انو كجرو ويسجدون : أي يصلون و المسارعة في الخير : فرط الرغبة فيه فلن يكفروه : أي يمنعوا ثوابه.
المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات و قبيح الأعمال و ذكر جزاء الذي أستحقوه بسوء عملهم و أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال و جميل الصفات.
الإيضاح :﴿ ليسوا سواء ﴾ أي ليس أهل الكتاب متساوين في تلك الصفات القبيحة بل منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون و هذه الجملة كالتأكيد لتلك.
و بعد وأن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم وصف المؤمنين و مدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة و مفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها :
( ١ ) ﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ أي منهم جماعة مستقيمة على الحق ومتبعة للعدل لا تظلم أحدا ولا تخالف أمر الدين وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين و تستغني به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر :
دعاني إليها القلب إني لأمرها مطيع فما أدري أرشد طلابها
يريد أم غي.
وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه.
و المراد بهذه جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام و ثعلبه بن سعيد و أسيد بن عبيد و إضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس قال في تفسير الآية : الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
وروي عم قتادة أنه كان يقول في الآية : ليس كل القوم هلك، وقد كان الله فيهم بقية.
و هذه الآية حجة على أن الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء وأن من أخده مذعنا وعمل به مخلصا و أمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من الصالحين.
كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب وتقديرا للعدل الإلهي و قطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان و الإخلاص إذ لولا هذا النص لكان لهم أن يقولوا : لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.
واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافي ضياع بعض كتبهم و تحريف بعضهم لنا في أيديهم منها ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث و يعمل بما علم ويستمسك به مخلصا فيه- يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.
( ٣. ٢ ) ﴿ يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون ﴾ أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع و الخشوع.
المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات و قبيح الأعمال و ذكر جزاء الذي أستحقوه بسوء عملهم و أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال و جميل الصفات.
( ٥. ٤ ) ﴿ يؤمنون بالله و اليوم الآخر ﴾ أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله ومن ثمرات ذلك الخشية و الخضوع و الاستعداد لذلك اليوم لا إيمانا لا حظ لصاحبه منه إلا الغرور و الدعوى كما هو الحال سائر اليهود إذ يؤمنون بالله و اليوم الآخر لكنه إيمان هو و العدم سواء لأنهم يقولون غزير ابن الله و يكفرون ببغض الرسل و يصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.
ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته و الخير للعمل به و كان أفضل الأعمال الصلاة و أفضل الأذكار ذكر الله و أفضل العلوم معرفة المبدأ و المعاد- و صفهم الله بقوله :﴿ يتلون آيات الله ﴾ للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال و بقوله :﴿ يؤمنون بالله ﴾ للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم.
( ٦ ) ﴿ ويأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ﴾ أي أنهم بعد أن كملوا أنفسكم علما وعملا كما تقدم يسعون في تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف أو بمنعهم عما لا ينبغي بالنهي عن المنكر.
وفي هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله.
( ٧ ) ﴿ ويسارعون في الخيرات ﴾ أي و يعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها و حسن عاقبتها و إنما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض كما وصف الله المنافقين بقوله :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ ﴾ ( النساء : ١٤٢ )
وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية و الخلقية و في ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.
وعبر بالسرعة و لم يعبر بالعجلة لأن الأولى التقدم فيما ينبغي تقديمه وهي محمودة و ضدها الإبطاء و الثانية تقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه ومن تم قال عليه السلام :" العجلة من الشيطان و التأني من الرحمن " و ضدها الأناة و هي محمودة.
( ٨ ) ﴿ وأولئك من الصالحين ﴾ أي و هؤلاء الدين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم و حسنت أعمالهم فرضيهم ربهم و في هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين أبائهم و ذهبوا إلى غيره.
و الوصف بالصلاح هو غاية المدح و نهاية الشرف و الفضل فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس و ذي الكفل فقال :﴿ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ( الأنبياء : ٨٦ ).
وقال حكاية عن سليمان :﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ ( النمل : ١٩ ).
ولأنه ضد الفساد وهو ما لا ينبغي في العقائد و الأفعال فهو حصول ما ينبغي في كل منهما وذلك منتهى الكمال و رفعة القدر و علو الشأن.
المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات و قبيح الأعمال و ذكر جزاء الذي أستحقوه بسوء عملهم و أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال و جميل الصفات.
﴿ وما يفعلون من خير فلن يكفروه ﴾ أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود.
ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا في قوله :﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾( الإسراء : ١٩ ) وسمى نفسه شاكرا في قوله :﴿ فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ ( البقرة : ١٥٨ ) حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر.
و هذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم : أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان و إشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى و الدرجات العليا.
وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.
﴿ و الله عليم بالمتقين ﴾ فهو يجزي العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم وما تنطوي عليه سرائرهم.
فمن كان إيمانه صحيحا واتقى الله فاز بالسعادة.
وهذا كالدليل على ما قبله لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان وإما للجهل وذلك ممتنع في حقه لأنه عليم بكل شيء وإما للعجز أو البخل أو الحاجة وكل ذلك محال عليه لأنه خالق جميع الكائنات و هو القادر على كل شيء.
ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١٦ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( آل عمران : ١١٦-١١٧ ).
تفسير المفردات : لن تغنى : أي لن تجزئ وتنفع
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين وما يحيق بهم من العقاب وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب جامعا بين الزجر و الترغيب و الوعد و الوعيد ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة و المفاخر التي عددها لهم- أتبع ذلك بوعيد الكفار و تيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذا الحياة الدنيا في لذاتهم وجاههم و تأييد كلمتهم لا يفيدهم شيء كزرع أصابته ريح فيها صر فأهلكته فلم يستفد أصحابه منه شيئا.
الإيضاح :﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب و مشركي مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ويقولون لو كان محمد على الحق ما تركه ربه في هذا الفقر الشديد ويتفاخرون بكثرة الأموال و الأولاد كما حكى الله عنهم :﴿ نَحْنُ أَكْثَر أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾( سبأُ : ٣٥ ) لن تنفعهم هذه الأموال و الأولاد يوم القيامة واقتصر على ذكرهما لأنهما أعظم النعم ومن كان يرتع في بحبوحة هذه النعم فقلما يوجه نظره إلى طلب الحق أو يصغي إلى الداعي إليه ومن ثم تراه يتخبط في ظلام دامس حتى يتردى في الهاوية ويقع في المهالك ولا ينفعه مال ولا ولد :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَت ﴾ ( الحج : ٢ ) يوم يوضع الميزان ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير.
و نحو الآية قوله :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾( البقرة : ٤٧ ) وقوله :﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾( العمران : ٩١ ). وقوله :﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾( سبأ : ٣٧ ).
﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها لأن ظلمة أرواحهم وفساد عقائدهم و سوء أعمالهم اقتضت خلودهم في تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس و الحجارة قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله ولم يصغ إلا لداعي الهوى و الشهوات.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين وما يحيق بهم من العقاب وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب جامعا بين الزجر و الترغيب و الوعد و الوعيد ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة و المفاخر التي عددها لهم- أتبع ذلك بوعيد الكفار و تيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذا الحياة الدنيا في لذاتهم وجاههم و تأييد كلمتهم لا يفيدهم شيء كزرع أصابته ريح فيها صر فأهلكته فلم يستفد أصحابه منه شيئا.
ومثل الشيء : مثله وشبهه و الصر( بالكسر ) و الصرة : البرد الشديد.
وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغني عنهم شيئا ذكر أن ما ينفقونه من المال في سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به وضرب لذلك مثلا فقال :
﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ﴾أي إن ما ينفقونه في اللذات ونشر الصيت واكتساب الشهرة وتأييد الكلمة فيصدهم عن سبيل الله ويفسد عقولهم و أخلاقهم التي هي عماد المنافع كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته
و خلاصة ذلك : أن حالهم فيما ينفقون و إن كان في الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك.
فهو إذا أنفقوا أموالهم في بناء الحصون و القلاع لصد العدو و إقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق و في الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوي الحاجات و رجوا من ذلك الثواب الجزيل ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة و نحو الآية قوله :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾( الفرقان : ٢٣ ). وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ ( النور : ٣٩ ).
وجماع هذا كله قوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( المائدة : ٢٧ ).
ومما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم في الآخرة وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم في الدنيا.
ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر و تحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم فأظهر الله الإسلام و قواه فلم يبقى للكفار من ذلك الإنفاق إلى الخيبة و الحسرة.
وقد جعل الله هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة في الدنيا ولا في الآخرة.
أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات و الأحزان.
والخلاصة : إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن و ربط الأسباب بمسبباتها في عالم الحس أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط بين الناس لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر و التجربة ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي.
ونحن نسمي ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له و ما يلابس السبب من النفع لبعض و الضر لآخرين حكمة له و كل ذلك مقصود للفاعل الحكيم.
﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾ أي وما ظلمهم الله بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال في السبل التي تؤدي إلى الخيبة و الخسران على النهج الذي سنه الله في أعمال الإنسان.
و الآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة أو ينفقه اليهود في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومته لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ولم يضروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بل كان ذلك سبب سيادته عليهم و تمكنه منهم.
و قيل : إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون في بعض طر ق البر رياء وسمعة أو تقيّة.
وقيل : إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم في طرق البر رغبة في الخير لأن شروط الثواب على تلك الأعمال و الإيمان وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر في الدلائل بعدما ظهرت، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ١١٨ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ١١٩ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ ( آل عمران : ١١٨-١٢٠ ).
تفسير المفردات : بطانة الرجل : خاصته الدين يستنبطون أمره، مأخوذة من بطانة الثوب للثوب للوجه الذي يلي البدن ويسمى الوجه الظاهر ظهارة وهي تستعمل للواحد و الجمع مذكرا و مؤنثا ومن دونكم : أي من غيركم، و يألونكم : من ألا في الأمر يألو : أذا قصر فيه ويقال : لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا أي لا أمنعك نصحا ولا أنقصك جهدا و الخبال : النقصان ومنه رجل مخبول و مخبل و مختبل : إذا كان ناقص العقل و الفساد ومنه قوله تعالى :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾( التوبة : ٤٧ ) أي فسادا ضررا وودت كذا : أي أحببته و العنت : المشقة و البغضاء : شدة البغض كالضراء شدة الضر و الكتاب هنا : المراد به جنس الكتاب كما يقال كثر الدرهم في أيدي الناس
المعنى الجملي كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب و المشركين و إلزامهم بالحجة و بيانا لأحوال المؤمنين و تذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة يوم تبيض وجوه و تسود وجوه.
و الكلام في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار و الاطلاع على شؤون المسلمين مما يقضي المصلحة بكتمانه و عدم معرفة الأعداء له.
و مما دعا إلى هذا النهي أنه كانت بين المؤمنين و غيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب و المصاهرة و الرضاعة و العهد و المحالفة- إلى أن من طبيعة المؤمن أن يبني أمره على اليسر و الأمانة و الصدق و لا يبحث عن عيوب غيره
و لكن لما كان المناصبين من أهل الكتاب و المشركين إطفاء نور الدعوة و إبطال ما جاء به الإسلام و المسلمين لم يكن لهم غرض هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء.
كلمة الدين – اختلف المقصدان وافترق الغرضان فلم يكن من الحزم أن يفضي الإنسان بسره إلى عدوه ويطلعه على خطط التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها وأقربها للوصول إلى الغرض ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم لما في ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال و الفساد.
أخرج ابن إسحاق و غيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار و الحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود و المنافقين أولياء وخواص لكم دون المؤمنين إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت في هذه الآية :
﴿ لا يألونكم خبالا ﴾ : أي لا يقصرون في مضرتكم و إفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
يتمنون ضركم في دينكم و دنياكم أشد الضرر.
يبدون البغضاء بأفواههم ويظهرون تكذيب نبيكم و كتابكم و ينسبونكم إلى الحمق و الجهل ومن اعتقد حمق غيره و جهله لا يحبه.
ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.
فهذه الأوصاف شروط في النهي عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين فإذا اعتراها تغير و تبدل كما وقع من اليهود فبعد أن كانوا في صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا –انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في فتوح الأندلس و كما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم في فتح مصر-فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء و بطانة للمسلمين فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم و جرى الخلفاء من بعده على ذلك إلى أن نقل الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية.
وعلى هذه السنة جرى العباسيون و غيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود و النصارى حتى العصر الحاضر فأن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى.
ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب و يقولون إن الإسلام لا تساهل فيه.
وهذا النهي المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا و أولياء في قوله :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾( الممتحنة : ٨-٩ )
﴿ قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ﴾ أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ومن يصح أن يتخذ بطانة و من لا يصح أن يتخذ لخيانته و سوء عاقبة مباطنته أن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء و الأولياء و تعملون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها.
المعنى الجملي كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب و المشركين و إلزامهم بالحجة و بيانا لأحوال المؤمنين و تذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة يوم تبيض وجوه و تسود وجوه.
و الكلام في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار و الاطلاع على شؤون المسلمين مما يقضي المصلحة بكتمانه و عدم معرفة الأعداء له.
و مما دعا إلى هذا النهي أنه كانت بين المؤمنين و غيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب و المصاهرة و الرضاعة و العهد و المحالفة- إلى أن من طبيعة المؤمن أن يبني أمره على اليسر و الأمانة و الصدق و لا يبحث عن عيوب غيره
و لكن لما كان المناصبين من أهل الكتاب و المشركين إطفاء نور الدعوة و إبطال ما جاء به الإسلام و المسلمين لم يكن لهم غرض هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء.
كلمة الدين – اختلف المقصدان وافترق الغرضان فلم يكن من الحزم أن يفضي الإنسان بسره إلى عدوه ويطلعه على خطط التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها وأقربها للوصول إلى الغرض ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم لما في ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال و الفساد.
أخرج ابن إسحاق و غيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار و الحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.
و عض الأنامل : يراد به شدة الغيظ أحيانا كما يراد به الندم أحيانا أخرى و ذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب و الدواعي التي تدعو إلى الأفعال أو الصوارف التي تدفعها عنه
ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة و فيه تنبيه لهم على خطئهم في ذلك و قد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعي الكف عن مخالطتهم :
﴿ هانتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ﴾ أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشذع الناس عداوة لكم و لا يقصرون في إفساد أمركم و تمني عنتكم و يظهرون لكم العداوة و الغش و يتربصون بكم ريب المنون فكيف بكم توادونهم و تواصلونهم ؟
و حب المؤمنين لهم – و هم على تلك الشاكلة- من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة و تساهل ولا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه في ذلك.
( ٢ ) ﴿ و تؤمنون بالكتاب كله ﴾ أي أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب سواء منها ما نزل عليكم و ما نزل عليهم فليس في نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية و لا للنبيين الذين جاؤوا بها حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب أما هم فيجحدون بعض الكتب و ينكرون بعض النبيين.
وخلاصة هذا : أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم و كتابكم فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم ؟ فأنتم أحرى ببغضهم و مع هذا تحبونهم و لا يحبونكم.
قال ابن جرير : في الآية إبانة من الله عز و جل عن حال الفريقين أعني المؤمنين و الكافرين و رحمة أهل الإيمان و رأفتهم بأهل الخلاف لهم و قساوة قلوب أولئك و غلظتهم على أهل الإيمان اه.
و قال قتادة : فوا لله المؤمن ليحب المنافق و يأوي إليه و يرحمه و لو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه ( أفناه وأهلكه ) اه.
و في هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.
و نحو الآية قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ ( النساء : ١٠٤ )
( ٣ )﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ أي و إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم فقالوا : آمنا و صدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم و إذا هم صاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة و الغيظ منهم حتى ليبلغ الأمر إلى عض الأنامل كما يفعل أحدنا إدا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه.
و إنما فعلوا ذلك أما رأوا من ائتلاف المؤمنين و اجتماع كلمتهم و صلاح ذات بينهم و نصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم فاضطروا إلى مداراتهم.
﴿ قل موتوا بغيظكم ﴾ هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا كقولهم دم بعز و بت قرير عين و نحو ذلك و المراد بذلك ازدياد قوة الإسلام و عزّ أهله.
و في هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون فيعلموا أن ما حل من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع و التفرق بعد الاعتصام.
﴿ أن الله عليم بذات الصدور ﴾ فيعلم ما تنطوي عليه صدوركم من البغضاء و الحقد و الحسد و لا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم و ما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد و نصب الحيل للمؤمنين و ما تنطوي عليه صدور المؤمنين من حب الخير و النصح لكم و يجازي كلا على ما قدم من خير أو شر واعتقد من إيمان أو كفر.
المعنى الجملي كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب و المشركين و إلزامهم بالحجة و بيانا لأحوال المؤمنين و تذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة يوم تبيض وجوه و تسود وجوه.
و الكلام في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار و الاطلاع على شؤون المسلمين مما يقضي المصلحة بكتمانه و عدم معرفة الأعداء له.
و مما دعا إلى هذا النهي أنه كانت بين المؤمنين و غيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب و المصاهرة و الرضاعة و العهد و المحالفة- إلى أن من طبيعة المؤمن أن يبني أمره على اليسر و الأمانة و الصدق و لا يبحث عن عيوب غيره
و لكن لما كان المناصبين من أهل الكتاب و المشركين إطفاء نور الدعوة و إبطال ما جاء به الإسلام و المسلمين لم يكن لهم غرض هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء.
كلمة الدين – اختلف المقصدان وافترق الغرضان فلم يكن من الحزم أن يفضي الإنسان بسره إلى عدوه ويطلعه على خطط التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها وأقربها للوصول إلى الغرض ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم لما في ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال و الفساد.
أخرج ابن إسحاق و غيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار و الحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.
و المس : أصله ما كان باليد كاللمس ثم سمى كل ما يصل إلى الشيء مسا فقالوا مسه التعب و النصب قال تعالى :﴿ و ما مسنا من لغوب ﴾( ق : ٣٨ ) و قال :﴿ إذا مسكم الضر في البحر ﴾ ( الإسراء : ٦٨ ) و الحسنة : المنفعة حسية كانت أو معنوية كصحة البدن و الفوز بالغنيمة و أعظمها انتشار الإسلام وحصول الألف بين المسلمين و السيئة الفقر و الهزيمة و حصول التفرقة بين الأقارب من ساء يسوء بمعنى قبح فهو سيئ و الأنثى سيئة قال تعالى :﴿ ساء ما يعلمون ﴾( المائدة : ٦٦ ) و الكيد : الاحتيال و الإيقاع غيرك في مكروه و المحيط بالشيء : هو الذي يحيط به من كل جوانبه يراد به في حق الله العلم بدقائقه و تفاصيل و أجزائه فلا يعزب عنه شئ منه قال تعالى :﴿ و الله من ورائهم محيط ﴾ ( البروج : ٢٠ ) و قال :﴿ والله محيط بالكفار ﴾( البقرة : ١٩ )
﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها ﴾ أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم و دخول الناس في دين الله أفواجا أحزنهم ذلك و عز عليهم.
و إن نالتكم مساءة كالإخفاق في حرب أو إصابة عدو لكم أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك.
قال قتادة في بيان ذلك : فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة و جماعة و ظهور على عدوهم غاظهم ذلك و ساءهم وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة و اختلافا أو أصيب طرف من أطرف المسلمين سرهم ذلك و أعجبوا به وابتهجوا و هم كلما خرج منهم و فيمن بقي إلى يوم القيامة اه.
﴿ و أن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ﴾ أي و إن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر و تتقوا كل ما نهيتم عنه و حظر عليكم- و من ذلك اتخاذ الكافرين بطانة- فلا يضركم كيدهم لأنهم قد و فيتم لله بعهد العبودية فهو يفي لكم بحق الربوبية و يحفزكم من الآفات و المخالفات كما قال سبحانه :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ ( الطلاق : ٢-٣ )
قال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد في اكتساب الفضائل.
و قد جرت السنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتاله و لا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده و عشيره و معامله و قريبه مما يشق عليه فإن من لذات النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تسكن إليه و تأنس به.
و لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم و عشرائهم و حلفائهم لما بدا منهم من البغضاء و الحسد- حسن أن يذكرهم بالصبر على التكليف الشاق عليهم و اتقاء ما يجب اتقاؤه من عواقب كيدهم.
و في الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء فإن الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين واتقاء شرهم و لم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة و الخير و دفع السيئة بالحسنة كما قال :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾( فصلت : ٣٤ )
فإن تعذر تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها- جاز دفع السيئة بمثلها من بغي كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم مع بني النضير فإنه حالفهم ووادهم فنكثوا العهد و خانوا و أعانوا عليه عدوه من قريش و سائر العرب و حاولوا قتله فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم و إجلاؤهم من ديارهم.
﴿ إن الله بما يعملون محيط ﴾ أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين و محيط بأسباب ما يصدر من كل منهما و مقدماته و نتائجه و غاياته فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر ولا يكمن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعلمه ذلك المحيط بعمله و عمل من يناهضه و يناصبه العداوة فهداية الله للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى إغراضهم و مآربهم.
و هذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر و التمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
و خلاصة المعنى : إن الله قد دلكم ما ينجيكم من كيد أعدائكم فعليكم أن تمتثلوا و تعلموا أنه محيط بأعمالكم و هو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم فثقوا به و توكلوا عليه.
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٢١ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ١٢٢ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢٣ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ١٢٤ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ١٢٥ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ١٢٦ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ١٢٧ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ١٢٨ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( آل عمران : ١٢١-١٢٩ )
تفسير المفردات : غدا : خرج غدوة- و الغدوة و الغداة : مابين طلوع الفجر و طلوع الشمس- و تبوئ أي تهيئ و تسوي و المقاعد واحدها مقعد : مكان القعود والمراد المواطن و المواقف
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
الإيضاح :﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة و هي سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة ؛ تهيئ أمكنة للقتال منها مواضع للرماة و مواضع للفرسان و مواضع لسائر المؤمنين.
﴿ و الله سميع عليم ﴾ أي و الله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك و عدوهم كقول من قال : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة و قول من قال : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنية كل قائل من أخلص منهم في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله وإن كان صوابا كعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين.
قال ابن جرير : ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة :﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾( آل عمران : ١٢٠ ) بتذكيرهم بما كان يوم أحد وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر ( وذنب الجماعة أو الأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما ) و بما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم و ذلتهم.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
والهم : حديث النفس و توجهها إلى الشيء و الطائفتان الجماعتان : و هما بنو سلمة و بنو حارثة من الأنصار أن تفشلا : أي تضعفا و تجبنا وليهما : أي ناصرهما و التوكل : من وكل فلان أمره إلى فلان إذا اعتمد عليه في كفايته و لم يتوله بنفسه
﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ أي و الله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس و كانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن تضعفا و تجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبي و من معه عن رسول الله.
وهذا الهم لم يكن عزيمة ممضاة و لكنها كانت حديث نفس و قلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع فإن ساعدها صاحبها ذم و إن ردها إلى الثبات و الصبر فلا بأس بما فعل و مما يدل على أن ذلك الهم لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى :
﴿ والله وليها ﴾ أي متولي أمورها لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما و ثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع النافقين و كانوا نحو ثلث العسكر ؛ بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين ؛ فوثقا به و توكلا عليه.
﴿ و على الله فيتوكل المؤمنون ﴾ أي إن المؤمنين ينبغي أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم و قوتهم و لا بأنصارهم و أعوانهم بعد أخد الهبة و العدة تحقيقا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب و المسبب و الموجد للصلة بينهما.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
و الأذلة : واحدهم ذليل و هو من لا منعة له و لا قوة وقد كانوا قليلي العدة من السلاح و الدواب و الزاد
فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدد و العدد و السلاح وفي سائر عتاد جيش و لذا قال :
﴿ ولقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة ﴾أي إنكم إن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا و ينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم و أنتم يومئذ في قلة من العدد وفي غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم و عظيم منعتهم فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم في ذلك اليوم.
ولا ضير في الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة و الظالمين و لم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلين من الكفار و إنما كانت قوتهم أول تكونها.
﴿ فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾ أي فاتقوا الله ربكم بطاعته و اجتناب محارمه لتعدوا أنفسكم لشكره على ما من به عليكم من النصر على أعدائكم و إظهار دينكم ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم إذ من لم يروض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى و إتباع الشهوات فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم و المنافع.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
و الكفاية : سد الحاجة و فوقها الغنى والإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال بلى كلمة للجواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي و تفيد إثبات ما بعده
﴿ إذ تقول للمؤمنين ﴾ أي ولقد نصركم الله ببدر في ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم : ألن يكفيكم الخ.
أخرج ابن أبي شبيه وابن المنذر و غيرهما من الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله ﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم ﴾ –إلى قوله –﴿ من الملائكة مسومين ﴾ فبلغته هزيمة المشركين فلم يمد أصحابه ولم يمدوا بالخمسة الآلاف.
﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ قال الفخر الرازي في التفسير الكبير : أجمع أهل التفسير و السير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر و فيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون و لا يضربون.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
و الفور : الحال التي لا بطء فيها و لا تراخي فمعنى من فورهم أي من ساعتهم بلا إبطاء و مسومين ( بكسر الواو ) من قولهم سوم على القوم : أي أغار عليهم ففتك بهم و قيل من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء و علامته : أي معلمين أنفسهم أو خيلهم
﴿ بلى إن تصبروا و تتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ﴾ أي بلى يكفيكم ذلك ثم و عدهم بالزيادة بشرط الصبر و التقوى حثا لهم عليهما و تقوية لقلوبهم.
أي إن تصبروا على لقاء العدو و مناهضتهم و تتقوا معصية الله و مخالفة نبيه صلى الله علية وسلم و يجئكم المشركون من ساعتهم هذه – يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ليعجل نصركم و يسهل فتحكم.
قال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه و سلم أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف بخمسة آلاف أن صبروا لأعدائهم واتقوا ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة آلاف ولا على أنهم لم يمدوا بهم وقد يجوز أن يكون الله أمدهم إلى نحو الذي ذكره من أنكر ذلك ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف و لا بالخمسة الآلاف و غير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخير تقوم الحجة به ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله :
غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾( الأنفال : ٩ ).
أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا و ذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اه.
و الإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبتها وتقوي عزيمتها.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
﴿ و ما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ﴾ قال الزجاج : وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى اه.
يعني وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم ﴿ ألن يكفيكم ﴾ الآية إلا بشرى يفرخ بها روعكم و طمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم و عظيم استعداده.
وفي هذا الإيماء إلى أن في ذكر الإمداد غايتين :
( ١ ) إدخال السرور في القلوب
( ٢ )حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله و نصرته معهم، فلا يجبنوا عن المحاربة.
﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ العزيز هو القوي الذي لا يمتنع عليه شيء و الحكيم هو الذي يدبر الأمور على خير السنن و أقوم الوسائل فيهدي لأسباب النصر الظاهرة و الباطنة من يشاء و يصرفهما عمن يشاء.
و المراد : أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط بل يقبل على مسبب الأسباب إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته ولا المعونة إلا من فضله و كرمه.
فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء و معرفة المواقع كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ سلك إلى احد أقرب الطرق و أخفاها على العدو و عسكر في أحسن موضع وهو الشعب ( الوادي ) و جعل ظهر عسكره إلى الجبل وجعل الرماة من ورائهم إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه و الغلبة عليه.
فلما اختل بعض هذه التدبيرات وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.
و الذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك وإنما أخبر عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة :
( ١ ) الصبر ( ٢ ) التقوى ( ٣ ) إتيان الأعداء من فورهم ولم تتحقق هذه الشروط فلم يحصل الإمداد و لكن القول أفاد البشارة و الطمأنينة.
وحصل الإمداد بالفعل في وقعة بدر كما تقدم ذكره و سيأتي مزيد تفصيل له في سورة الأنفال و ربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال : لم أمد الله المؤمنين يوم بدر بملائكته يثبتون قلوبهم و حرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب
و جوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر في قلة و ذلة من الضعف و الحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله و ما وهبهم من قوة في أبدانهم و نفوسهم وما أمرهم به من التبات و الذكر إذ قال :﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾( الأنفال : ٤٥ ).
ولم يكن في نفوسهم تطلع إلى شيء سوى النصر وإقامة الدين و الدفاع عن حوزته فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بالاتصال بها.
أما في يوم أحد فقد كان بعضهم في أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا و لكن الله ثبتهما و باشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا و هزموا المشركين ثم خرج بعضهم عن التقوى و خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و طمعوا في الغنيمة وتنازعوا في الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد.
و حكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله :﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ ﴾( آل عمران : ١٤١ )
و تربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات و معرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول وأن قتل الرسول أو مونه لا ينبغي أن يثبط الهمم ولا يدعوا إلى الانقلاب على الإعقاب وأن كل ما يصيب العباد من مصائب فهو نتيجة عملهم و عقوبة طبيعية على أفعالهم إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.
روي أحمد و مسلم و غيرهما عن عمر بن الخطاب : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو يوم بدر " اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني اللهم عن تهلك هذه العصابة فلن يعبد في الأرض أبدا " وما زال يستغيث ربه و يدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك و أنزل الله يومئذ ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾( الأنفال : ٩ )
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
و طرفا : أي طائفة منهم و يكبتهم من الكبت : و هو شدة الغيظ أو الوهن الذي يقع في القلب.
﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ﴾أي إن المقصود من نصركم بإمداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم و يخزي طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة فيرجعوا خائبين لا أمل لهم في نصر.
وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط فهو أول ما يوصل إليه من الجيش وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا.
و عبر بالخيبة دون اليأس لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر و انتظاره و الثانية بعده و بدونه وضد الخيبة الظفر و ضد اليأس الرجاء.
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها و ما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال :
﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري و تنتهي فيهم إلى طاعتي ثم أمرهم بعد ذلك و القضاء فيهم بيدي دون غيري أقضي فيهم و أحكم بالذي أشاء من التوبة أو عاجل العذاب بالقتل و النقم آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب في الآخرة.
﴿ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾ أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكتبهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ليس لك من الأمر شيء.
روى أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد :" اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم ".
و روى أحمد و مسلم عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد و شج في و جهه حتى سال الدم على وجهه فقال :" كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل الله ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾. و إن لما حدث في وقعة أحد لحكما دينية و اجتماعية و حربية يمكن أن نحملها لك فيما يلي : كان المؤمنون في وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه و إظهار دينه لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم و ضعفهم ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم و أموالهم ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا بأنهم المنصورون وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات و خوارق العادات من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله في هذا الكون و بني عليها نظم الحياة وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم و دعاه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من إتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري و إطاعة القائد وجودة التعبئة و حسن الحيلة و التدبير في وضع الخطط الحربية إلى نحو أولئك.
و فاتهم أن الدين الإسلامي دين الفطرة لا دين خوارق العادات و سلوك طريق المعجزات.
فلما قصروا في الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم و جرح الرسول وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم و لكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب في وجوده كما قال تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تصببن الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خاصة ﴾( الأنفال : ٢٥ ) وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم و علموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شيء و أنما هو معلم و أسوة حسنة فيما يعلم و الأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه في الخلق.
هذا البيان الإلهي في تلك الموقعة التي رأوا بأعينهم – برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ لو كان زعيما سياسيا و مؤسس لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد لما قال مثل هذا القول في مواطن الدفاع و حب النصر على الأعداء ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد و الحيطة وحسن التدبير و الكياسة الحربية كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ) ولا قوة إلا بالعلم و المال و لا مال إلا إذا انتشر العدل في الأمة و بث بين أفرادها روح التعاون و الشورى في مهام الأمور كما قال :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾( الأنفال : ٤٦ ).
استطراد إليه الحاجة :
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها و يعرف مواقع أخبارها و يستيقن من حكمها و أحكامها.
و لكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و حقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين و تهددوهم فكان لا بد من الاستعداد للدفاع و قد صار النبي صلى الله عليه و سلم داعية للدين و رئسا لحكومة المدينة وقائدا لجيشها.
هذا و قد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ و قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم في تسع منها أشهرها.

وقعة بدر :

كانت قريش ترى أن محمدا و أصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة وهي على طريق التجارة إلى الشام فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة و نالوا أول انتصار لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر-بئر بين مكة و المدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- و كانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين و كارثة كبرى على المشركين وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد على نحو ميل من المدينة إلى الشمال :
و لما خذل المشركون في وقعة بدر ورجع فَلُّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤِلب المشركين على الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش فاجتمعوا للحرب و كانوا نحو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس فاجتمعوا للحرب و كانوا ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دراع و معهم مائتا فرس وقائدهم أبو سفيان بن حرب و معه زوجه هند بنت عتبة وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة و معهن الدفوف يضربن بها و يبكين على قتلى بدر و يحرضن المشركين على حرب المسلمين و ساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاثة من الهجرة و كان رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم المقام في المدينة و قتالهم بها و رأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة و أحد فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلث الناس و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب من أحد و جعل ظهره إلى الجبل و كان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعمائة فيهم مائة دراع و لم يكن معهم من الخيل سوى فرسين و كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم مع مصعب ابن عمير و على ميمنة المشركين خالد بن الوليد و على مسيرتهم عكرمة بن أبي جهل ولواؤهم مع بني عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان و معها النسوة يضربن الدفوف و هي تقول :
ويهــا بني عبــد الــدار ويهــا حمــاة الأدبـــار ضربــا بكــــل بتـــار
وقاتل حمزة قتالا شديدا و لما قتل مصعب ابن عمير أعطى النبي صلى الله عليه و سلم الراية لعلي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بملازمته فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ووقع الصراخ أن محمد قد قتل وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم و كان يوم بلاء على المسلمين وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا و عدة قتلى المشركين اثنين و عشرين رجلا ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و جعل الدم يسيل على و جهه و هو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم و جعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
و دخلت حلقتان من حلق المعفر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشجة و نزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه و سلم فسقطت ثنية من ثنياته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى و امتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنتيه و طمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال :﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ( المائدة : ٦٧ ) و أصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده و هو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و مثلت هند و صواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجدعن الأنوف و صلمن الآذان واتخذن منها قلائد و بقرب هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح و صعد الجبل و صرخ بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر أُعْلُ هبل ( صنم الكعبة ) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" قولوا له : هو بيننا و بينكم " ثم سار المشركون إلى مكة و بحث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عمه حمزة فوجده مقبور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال : لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم ثم أمر أن يسجى عمه ببردته ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحد بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ثم أمر بحمزة فدفن واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صُرِعوا.
وإذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات و ما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام و ما فيها من عظة و
عبرة للمسلمين فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم و أعمالهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و بعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها الآثار و أن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة و جمع حطام الدنيا وهو زائل و عرض مفارق.
المعنى الجملي : بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ثم أعملهم ببغضهم إياهم ثم أمرهم بالصبر و التقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا – ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد و ما كان فيها من كيد النافقين إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ثم خرجوا معهم وانشقوا عنهم في الطريق و رجعوا بثلث الجيش ليوقعوا الفشل بين صفوفهم و يخذلونهم أمام عدوهم و ما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم و لم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم و إلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر و عنه نهى و ذكرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم إذ جعلوا الصبر جنتهم و تقوى الله عدتهم فأصابوا من عدوهم ما أصابوا و كان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة و البعد عن مطامع هذه الحياة.
﴿ ولله ما في السماوات و ما في الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله غفور رحيم ﴾ قال ابن جرير : أي لله جميع ما بين أقطار السموات و الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها دونك و دونهم يحكم فيهم بما شاء و يقضي فيهم بما أحب فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره و نهيه ثم يغفر له من شاء منهم على جرمه فينتقم منه فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو و الصفح وهم الرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه
وفي هذا تأديب من الله لرسوله و إعلام له بأن الدعاء على المشركين و لعنهم مما لم يكن ينبغي منك إذ الأمر كله لله و ليس لأحد من أهل السماوات و الأرض شركة معه و لا رأي و لا تدبير فيهما و إن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا إلا من سخره الله للقيام بشيء من ذلك فيكون خاضعا لذلك التسخير لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون و نظام الاجتماع.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٣٠ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٣٢ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٣٤ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ ( آل عمران : ١٣٠-١٣٦ ).
تفسير المفردات : ضعف الشيء : مثله الذي بثنيه فضعف الواحد لأنه إذا أضيف إليه ثناه و إذا ضاعف الشيء منحت إليه مرة فأكثر و هذه المضاعفة إما في الزيادة فقط التي هي الربا و إما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة واتقوا الله : أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا و أضعافا مضاعفة ﴾ أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدين الذي هو رأس المال وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز و حاجته.
قال ابن جرير : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم و كان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له الذي عليه المال : أخر دينك عني و أزيدك على مالك فيفعلان ذلك فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة فنهاهم الله عز و جل في إسلامهم عنه اه
قال الرازي/ كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل و لم يكن المديون واحد لذلك المال قال الدائن زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلد المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله :﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾( آل عمران : ١٣٠ )اه.
وربا الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا بالربا الفاحش و هو ربح مركب و هذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل و لا شيء منها في العقد الأول وكأن يعطيه المائة بمائة و عشرة أو أكثر أو أقل و كأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح فإذا حل الأجل و لم يقض الدين و هو في قبضتهم اضطروا إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء وهذا هو الربا النسيئة قال ابن عباس : إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه.
و على الحملة فالربا نوعان :
( ١ ) ربا النسيئة و هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية و هو أن يؤخر دينه و يزيده في المال و كلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة و في الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج فهو يبذل الزيادة ليفتدي من أسر المطالبة و لا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال عل المحتاج من غبر نفع يحصل له و يزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل و يوقعه في المشقة و الضرر فمن رحمة الله و حكمته و إحسانه إلى خلقه أن حرم الربا و لعن آكله و مؤ كله و كاتبه و شاهده و آذن من لم يدعه بحربه و حرب رسوله و لم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره و لهذا كان من أكبر الكبائر.
( ٢ ) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة و حفنة من التمر الرديء مع تراضي المبايعين وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.
و مثل هذا لا يدخل في نهي القرآن و لا في وعيده و لكنه ثبت بالسنة فقد روى ابن عمر قوله صلى الله عليه و سلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل و لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء و لا تشفوا بعضه على بعض إني أخشى عليكم الرماء - الربا- ".
و هذه الآية هي أولى الآيات نزولا في تحريم الربا و آيات البقرة نزلت بعد هذه بل هي آخر آيات الأحكام نزولا و قد يقول بعض المسلمين الآن : إنا نعيش في عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام و تستغني عمن يخالفها في أحكامها بل زمام العالم في أيدي أمم مادة تقبض على الثروة و بقية الشعوب عيال عليها فمن جاراها في طرق الكسب –و الربا من أهم أركانها- أمكنة أن يعيش معها وإلا كان مستعبدا لها.
أفلا تقضي ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوروبيين كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها و تنميها و حتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها و هي مادة حياتها ؟
و جوابا عن هذا نقول :
إن المحرمات في الإسلام ضربان :
( ١ ) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر و مثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. و الربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة و هو متفق على تحريمه فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض و لم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه لأن له فيه ضرورة.
( ٢ ) ضرب محرم لغيره و هو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا في ربا النسيئة و هو يباح للضرورة و الحاجة أيضا.
و المسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا و مضطرا إليه أم لا فإن كان محتاجا حل له تناوله و يكون مثله أكل الميتة و شرب الخمر و نحوها و إلا لم يحل ذلك إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين و إن كان في زيادة الرابي فهو في الحقيقة نقصان لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه و يدعون عليه و بذلك يسلب الله الخير من يده إن عاجلا أم آجلا في نفسه و ماله و تتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه و غلظ كبده و قد ورد في الأثر إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة و لا جهاد و لا حج و لا صلاة
ثم أكد النهي فقال
﴿ و اتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا و لا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوي الحاجة و البؤس فتحملوهم من الدين ما لا تحتمله طاقتهم و تستغلوا عوزهم و حاجتهم فتشتطوا في الربا حتى تخربوا بيوتكم و تجعلوهم من ذوي الفاقة المترتبة لعل ذلك يكون سبب فلاحكم في دنياكم فإن الرحمة و حسن المعونة يوجدان المحبة في القلوب و المحبة أساس السعادة في الدنيا و الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
أعدت : أي هيئت
ثم زاد النهي تأكيدا فقال :
﴿ و اتقوا النار التي أعدت للكافرين ﴾ أي ابتعدوا عن متابعة المرابين و تعاطي ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضي بكم إلى دخول النار التي أعهدا اله للكافرين
و في هذا من شديد الزجر ما لا يخفى فإن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنه متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم ومن ثم روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يقول : إن هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين عن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
ثم بالغ في النهي و شدد فيه أيما تشديد فقال :
﴿ و أطيعوا الله و الرسول لعلكم ترحمون ﴾ أي و أطيعوا الله و رسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا و ما أمرا به من الصدقة كي ترحموا في الدنيا بصلاح حال المجتمع و في الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم و قد ورد في الأثر " الراحمون يرحمهم الرحمن " رواه أبو داود و الترمذي.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
و المسارعة إلى المغفرة و الجنة المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة كالإقبال على الصدقات و عمل الخيرات و التوبة عن الآثام كالربا و نحوه و عرضها السماوات و الأرض : يراد به وصفها بالسعة و العرب تقول دعوى عريضة أي واسعة عظيمة
﴿ و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض ﴾ أي بادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم و يدخلكم جنة واسعة المدى أعدها الله لمن اتقاه و امتثل أوامره و ترك نواهيه فاعملوا الخيرات و توبوا عن الآثام كالربا و نحوه و تصدقوا على ذوي البؤس و الفاقة روي أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب هرقل وفيه : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات و الأرض فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار " ( يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم و الليل في ضد ذلك الجانب فكذا الجنة في جهة العلو و النار في جهة السفل ).
و قال أبو مسلم : عن العرض هنا ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السماوات و الأرض و المراد بذلك عظم مقدارها و جلالة خطرها و أنه لا يساويها شيء و إن عظم.
﴿ أعدت للمتقين ﴾أي هيئت لهم و في الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن و أنها خارجة عن هذا العالم وإذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
و السراء : الحال التي تسر، والضراء : الحال التي تضر، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر أي السعة والضيق، يقال كظم القربة وسد رأسها وكظم الباب سده وكظم البعير جرته إذا ازدرها وكف عن الاجترار، ثم قالوا كظم فهو كاظم وكظمه الغيظ والغم أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم قال تعالى :﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾( النحل : ٥٨ ) و أخذ فلان بكظم فلان : إذا أخذ بمجرى نفسه و الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف و العرض فيزعجها ذلك و يحفزها على التشفي و الانتقام والعفو عن الناس : التجاوز عن ذنوبهم و ترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك و الإحسان : هنا الإنعام والتفضل على غيرك على وجه لا مذمة فيه و لا قبح
ثم وصف الله المتقين بجملة من أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال :
( ١ ) ﴿ الذين ينفقون في السراء و الضراء ﴾ أي الذين ينفقون في السعة و الضيق فينفقون في كل حال بحسبها و لا يتركون الإنفاق بوجه.
و أثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب و أثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة و قي الحديث " اتقوا النار و لو بشق تمرة وردوا السائل و لو بظلف محرق "
و قد بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين :
( أ ) أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج و إطعام له ما لا يستحقه و الربا استغلال الغني حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده.
و من ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلا ذم و قبح و مدحت معه الزكاة و الصدقة اقرأ قوله :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾( الروم : ٣٩ ) وقوله :﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾( البقرة : ٢٧٦ )
( ب ) أن الإنفاق في حالي اليسر و العسر أدل على التقوى لأن المال عزيز على النفس فبذله في طرق الخير و المنافع العامة التي ترضي الله يشق عليها وأما في السراء فلما يحدثه السرور و الغنى من البطر و الطغيان و شدة الطمع و بعد الأمل و أما في الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطي و لكنه مع هذه الحال لا يعدم و قتا يجد فيه ما ينفقه في سبيل الله و لو قليلا.
و حب الخير هو الذي يحرك في الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها و يقويها إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة و إصلاح الفطر المعوجة.
و قد أرشدنا هدي الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة في ذاتها مهما ألح عليها الفقر و أن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال و مد الأيدي إلى الناس لطلب الإحسان و إراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء لما في ذلك من الذلة و الصغار و هي مالا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق في قبضة الله و هو الذي يعطي و يمنع و قد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه و قد وردت أحاديث كثيرة في الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال و البعد عن ذل السؤال
إلا أن' بذل القليل من الأفراد و الجماعات إذا اجتمع صار كثيرا و من ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة في الزراعة و الصناعة أو في البناء الملاجئ و المستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها و بذا تقدمت في سائر فنون المدينة و الحضارة.
و لذا حث الله على بذل الخير و لو قليلا بقوله :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾( الطلاق : ٧ ).
و من هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال كما أن الشح به علامة عدم التقوى، و التقوى هي السبيل الموصل إلى الجنة.
فأنظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون بذ ل المعونة للأفراد و الجماعات و يكنزون في صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة هل تغنيهم صلاتهم و صومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم ؟ فما هي إلا حركات و أعمال مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع في نفوسهم إذ الصلاة التي يقبلها الله و الصوم الذي يرضاه الله هو ما ينهي عن الفحشاء و المنكر أي منكر أشد من الضن بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو أفرد.
و لو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى و لكنا من ذوي العزة و المكانة بينها.
و لكنا صرنا إلى ما ترى عسى الله أن يغير نفوس المسلمين و يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم بإتباع أوامر كتابهم و اجتناب نواهيه ففي ذلك السعادة في الدنيا و الآخرة.
( ٢ ) ﴿ و الكاظمين الغيظ ﴾ : أي و الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه و من أجاب داعي الغيظ و توجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال و لا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي و من ثم كان من التقوى كظمه_ و قد أثر عن عائشة رضي الله عنها أن خادما لها غلظها فقالت : لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
و قال عليه الصلاة و السلام " ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر و حسن عزاء و من جرعة غيظ كظمها " و قال " ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب ".
و خلاصة ذلك : هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء و النفاذ و يردونه في أجوافهم و هذا كقوله في الآية الأخرى :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾( الشورى : ٣٧ ).
( ٣ )( و العافين عن الناس }أي و الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك و تلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قل من يصل إليها و هي أرقى من كظم الغيظ إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد و الضغينة.
أخرج الطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من سره أن يشرف له البنيان و ترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه و يعط من حرمه و يصل من قطعة ".
و في الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة و السلام عن الرماة و ترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره و إرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين رآه قد مثل به : لأمثلن بسبعين منهم.
( ٤ ) ﴿ و الله يحب المحسنين ﴾ : أي و الله يحب الذين يتفضلون على عبادة البائسين و يواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له جزيل نعمائه.
أخرج البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه فقالت : إن الله يقول ﴿ و الكاظمين الغيظ ﴾ فقال لها قد كظمت غيظي قالت :﴿ و العافين عن الناس ﴾ قال قد عفا الله عنك قالت :﴿ و الله يحب المحسنين ﴾ قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
و الإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه و هو الذي عناه الله بقوله :﴿ الذين ينفقون في السراء و الضراء ﴾ و يدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين و هداية الضالين و إنفاق المال في وجوه الخير و العبادات قال صلى الله عليه و سلم :" السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار و البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار "
و إما بدفع الضر عنه إما في الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى و هو ما عناه الله بقوله :﴿ و الكاظمين الغيظ ﴾ قال صلى الله عليه و سلم :" من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا و إيمانا " و إما الآخرة بان يعفو عما له عند الناس من التبعات و الحقوق و هذا هو المراد بقوله :﴿ و العافين عن الناس ﴾و من ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك.
وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله :﴿ و الله يحب المحسنين ﴾إذ محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٠:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٣٠ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٣٢ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٣٤ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ ( آل عمران : ١٣٠-١٣٦ ).
تفسير المفردات : ضعف الشيء : مثله الذي بثنيه فضعف الواحد لأنه إذا أضيف إليه ثناه و إذا ضاعف الشيء منحت إليه مرة فأكثر و هذه المضاعفة إما في الزيادة فقط التي هي الربا و إما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة واتقوا الله : أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا و أضعافا مضاعفة ﴾ أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدين الذي هو رأس المال وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز و حاجته.
قال ابن جرير : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم و كان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له الذي عليه المال : أخر دينك عني و أزيدك على مالك فيفعلان ذلك فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة فنهاهم الله عز و جل في إسلامهم عنه اه
قال الرازي/ كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل و لم يكن المديون واحد لذلك المال قال الدائن زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلد المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله :﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾( آل عمران : ١٣٠ )اه.
وربا الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا بالربا الفاحش و هو ربح مركب و هذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل و لا شيء منها في العقد الأول وكأن يعطيه المائة بمائة و عشرة أو أكثر أو أقل و كأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح فإذا حل الأجل و لم يقض الدين و هو في قبضتهم اضطروا إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء وهذا هو الربا النسيئة قال ابن عباس : إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه.

و على الحملة فالربا نوعان :

( ١ ) ربا النسيئة و هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية و هو أن يؤخر دينه و يزيده في المال و كلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة و في الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج فهو يبذل الزيادة ليفتدي من أسر المطالبة و لا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال عل المحتاج من غبر نفع يحصل له و يزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل و يوقعه في المشقة و الضرر فمن رحمة الله و حكمته و إحسانه إلى خلقه أن حرم الربا و لعن آكله و مؤ كله و كاتبه و شاهده و آذن من لم يدعه بحربه و حرب رسوله و لم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره و لهذا كان من أكبر الكبائر.
( ٢ ) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة و حفنة من التمر الرديء مع تراضي المبايعين وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.
و مثل هذا لا يدخل في نهي القرآن و لا في وعيده و لكنه ثبت بالسنة فقد روى ابن عمر قوله صلى الله عليه و سلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل و لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء و لا تشفوا بعضه على بعض إني أخشى عليكم الرماء - الربا- ".
و هذه الآية هي أولى الآيات نزولا في تحريم الربا و آيات البقرة نزلت بعد هذه بل هي آخر آيات الأحكام نزولا و قد يقول بعض المسلمين الآن : إنا نعيش في عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام و تستغني عمن يخالفها في أحكامها بل زمام العالم في أيدي أمم مادة تقبض على الثروة و بقية الشعوب عيال عليها فمن جاراها في طرق الكسب –و الربا من أهم أركانها- أمكنة أن يعيش معها وإلا كان مستعبدا لها.
أفلا تقضي ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوروبيين كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها و تنميها و حتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها و هي مادة حياتها ؟

و جوابا عن هذا نقول :


إن المحرمات في الإسلام ضربان :

( ١ ) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر و مثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. و الربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة و هو متفق على تحريمه فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض و لم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه لأن له فيه ضرورة.
( ٢ ) ضرب محرم لغيره و هو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا في ربا النسيئة و هو يباح للضرورة و الحاجة أيضا.
و المسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا و مضطرا إليه أم لا فإن كان محتاجا حل له تناوله و يكون مثله أكل الميتة و شرب الخمر و نحوها و إلا لم يحل ذلك إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين و إن كان في زيادة الرابي فهو في الحقيقة نقصان لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه و يدعون عليه و بذلك يسلب الله الخير من يده إن عاجلا أم آجلا في نفسه و ماله و تتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه و غلظ كبده و قد ورد في الأثر إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة و لا جهاد و لا حج و لا صلاة
ثم أكد النهي فقال
﴿ و اتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا و لا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوي الحاجة و البؤس فتحملوهم من الدين ما لا تحتمله طاقتهم و تستغلوا عوزهم و حاجتهم فتشتطوا في الربا حتى تخربوا بيوتكم و تجعلوهم من ذوي الفاقة المترتبة لعل ذلك يكون سبب فلاحكم في دنياكم فإن الرحمة و حسن المعونة يوجدان المحبة في القلوب و المحبة أساس السعادة في الدنيا و الآخرة.


و الفحشاء : الفعلة الشنيعة القبح التي يتعدى أثرها إلى غيرك كالزنى و الغيبة و نحوهما و ظلم النفس : هو الذنب الذي يكون مقصورا على الفاعل كشرب الخمر و نحوه وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر وعده ووعيده و أمره ونهيه و عظمته و جلاله و الإصرار : الشد من الصر و يراد به شرعا الإقامة على القبيح من غير استغفار و رجوع بالتوبة.
( ٥ ) ﴿ و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبكم ﴾ : أي الذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة و نحوها أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر و نحوه- ذكروا عند ذلك و عد الله و وعيده و عظمته و جلاله فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته راجين رحمته علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته و علمه الواسع.
﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ : جملة جاءت معترضة بين ما قبلها و ما بعدها تصويبا لفعل التأبين و تطييبا لقلوبهم و بشارة لهم بسعة الرحمة و قرب المغفرة و إعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله و كرمه وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له و أن العبد إذا التجأ إليه و تنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه و تجاوز عن ذنوبه و إن جلت فإن عفوه أجل و كرمه أعظم كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة و حثا لهم عليها و تحذيرا من اليأس و القنوط.
﴿ و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون ﴾ : أي و لم يقيموا على القبيح من غير استغفار و رجوع بالتوبة و قد قال عليه الصلاة و السلام :" لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " يريد صلى الله عليه و سلم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة و قوله : و هم يعملون أي بقبحه و النهي عنه و الوعيد عليه و الفائدة مع ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر في فعله.
و المؤمن المتقي لا يضر على الذنب و هو يعلم نهي الله عنه ووعيده عليه إذ يعلم أن الذنب فسوق و خروج عن نظام الفطرة السليمة واعتداء على حقوق الشريعة.
فالآية تومئ إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا الذنوب إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر و رب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة و بادر إلى التوبة منها فكانت مذكرة له بضعفه البشرى و دليلا عن أن للغضب سلطانا عليه تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرا عليها مستأنسا بها فتزول من نفسه هيبة الشريعة و يتجرأ بعد ذلك ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين و قد رووا حديث :" ما أصر من استغفر و إن عاد في اليوم سبعين مرة " و قد ضعفه المحدثون إلى أنه ليس المراد من الاستغفار باللسان و أنه كان في التوبة وان تحريك اللسان بكلمة أستغفر الله مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها في قوله :﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ ( آل عمران : ١٧ ) كون اللفظ كفارة للذنب
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود و أمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله و طاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله و رسوله من الفوز و الفلاح في وقعة بدر و بما حدث لهم حين عصوا الله و خالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد و كيف حل بهم البلاء و نزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود و من اقتدى بهم من المشركين و هو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة بل السعادة إنما تكون في تقوى الله و امتثال أوامره و في ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة و تنفير من البخل و الشح و الكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعه و شر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ : أي إن أولئك المتقين الذين و صفوا بما تقدم من الصفات لهم أمن من العقاب و لهم ثواب عظيم عند ربهم في جنات تجري من تحتها الأنهار
﴿ ونعم اجر العاملين ﴾ : أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال في وجهه و منها ما هو إصلاح لنفس العامل فهو اجر للعمل و جزاء عليه يتفاوت الناس في التقوى بحسب ذلك.
و خلاصة ذلك، نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة و الجنات أجرا للعاملين، تلك الأعمال بدنية كانت كإنفاق المال و نفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت في ذلك.
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ١٣٧ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ١٣٨ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ١٣٩ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ١٤٠ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ آل عمران ١٣٧-١٤١
تفسير المفردات خلت : مضت و السنن : واحدها سنة و هي الطريقة المعتبرة و السيرة المتبعة من قولهم سن الماء و على صبه شبهت به السنة لتوالي أجزائها على نهج واحد
وفي هذه الآيات وما بعدها، يذكرهم بسنن الله و خليفته، وإنما من صار على نهجها أدى به ذلك على السعادة، ومن حاد عنها ضل، وكانت عاقبته الشقاء و البوار و أن الحق لابد أن ينظر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة كما وعد الله بذلك على السنة رسوله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾( الصافات ١٧١-١٧٣ ) و قال﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾( الأنبياء ١٠٥. ).
الإيضاح :﴿ قد خلت من فبلكم سنن ﴾ أي أن أمر البشر في اجتماعهم و ما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل و ما بلابس ذلك من الحرب والطغيان و النزال و الملك والسيادة، يجري على طرق قويمة، وقواعد ثابتة واقتضتها الحكمة و المصلحة العامة
و قد جاء ذكر السنن الإلهية في مواضيع من الكتاب الكريم كقوله :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ﴾ ( الأنفال ٣٧ ).
و قوله في سياق دعوة الإسلام ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ﴾ ( الكهف ٥٥ ).
و المراد بذلك أن مشيئة الله في خلقه التسيير على سنن حكيمة، من صار عليها ظفر، ومن كان ملحدا أو وثنيا ومن تنكبها خسر، وإن كان صديقا و نبيا. فلا عجب أن ينهزم المسلمون في وقعة أحد و أن يصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيشجوا رأسه و يكسر سنه و يردوه في حفرة، والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن في الأمم و أجدر الناس بأن يسيروا على هديها، لذلك لم يلبث أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.
و الخلاصة : عن النظر في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، و إن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.
و في الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد، وإرشاد لهم و إلى أنهم بين عاملي خوف ورجاء، فهي على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه و ساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة، فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا و نهيا
وقد جرت سنة الله بأن للمشاهد في تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده، إذ القول قد ينسى و يقل الاعتبار به ومن قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما في أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال :﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ أي : فسيروا في الأرض و تأملوا فيما حل بالأمم قبلكم، ليحصل لكم العلم الصحيح المبني على المشاهدة و الاختبار، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق و الباطل في الأمم السالفة، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل و انتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر و التقوى، و يدخل في ذلك إتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به في قوله :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ).
وجرى ذلك على سنن مستقيمة و أسباب مطردة لا تغيير فيها و لا تبديل.
و السير في الأرض و البحث عن أحوال الماضين و تعرف ما حل بهم- نعم العون على معرفة تل السنن و الاعتبار بهاو قد نستفيد هذه الفائدة بالنظر في كتب التاريخ التي دونها من ساروا في الأرض و رأوا آثار الذين خلوا فتحصل لنا العظة و العبرة ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون في الأرض بأنفسهم و يرون الآثار بأعينهم :
تلك آثارنا تدل علينا فانظر بعدنا إلى الآثار
وفي هذه الآيات وما بعدها، يذكرهم بسنن الله و خليفته، وإنما من صار على نهجها أدى به ذلك على السعادة، ومن حاد عنها ضل، وكانت عاقبته الشقاء و البوار و أن الحق لابد أن ينظر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة كما وعد الله بذلك على السنة رسوله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾( الصافات ١٧١-١٧٣ ) و قال﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾( الأنبياء ١٠٥. ).
بيان أن إيضاح سوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب هدى أي زيادة بصيرة و إرشاد إلى طريق الدين القويم، والموعظة ما يلين القلب و يدعو إلى التمسك بما فيه طاعة.
﴿ هذا بيان للناس و هدى و موعظة للمتقين ﴾ : أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة و هدى و موعظة للمتقين منهم خاصة، فالإرشاد عام للناس و حجة على المؤمن و الكافر التقي منهم و الفاجر.
و ذلك يدحض ما وقع للمشركين و المنافقين من الشبهة بنحو قولهم : لو كان محمد رسولا حقا لما غلب في وقعة أحد، فهذا الهدي و البيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء و الرسل، كما هي حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد يخالفه جنده و يتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، و يخلون بين عدوهم و بين ظهورهم، و العدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضة للانكسار، و إذا كر العدو عليه –قطع خط الرجعة –و لا سيما إذا كان بعد فشل و تنازع، و من ثم كان هذا البيان لجميع الناس كل على قدر استعداده للفهم و قبول الحجة.
و أما كونه هدى و موعظة للمتقين خاصة، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، و يتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع فيستقيمون و يسيرون على النهج السوي، و يتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها. فالمؤمن حقا هو الذي يهتدي بهدي الكتاب، و يسترشد بمواعظه، كما قال :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾( البقرة : ٢ ) فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب و التنازع مع غيرنا إلى نروز أنفسنا، و نعرف كنه استعدادنا لكونه على بصيرة من حقنا، فنسير على سنن الله في طلبه و في حفظه، و أن نعرف كذلك حال خصمنا و نضع الميزان بيننا و بينه، وإلا كنا غير مهتدين و لا متعظين.
وفي هذه الآيات وما بعدها، يذكرهم بسنن الله و خليفته، وإنما من صار على نهجها أدى به ذلك على السعادة، ومن حاد عنها ضل، وكانت عاقبته الشقاء و البوار و أن الحق لابد أن ينظر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة كما وعد الله بذلك على السنة رسوله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾( الصافات ١٧١-١٧٣ ) و قال﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾( الأنبياء ١٠٥. ).
الوهن الضعف في العمل و في العمل و في الرأي و في الأمر، و الحزن الم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب
﴿ ولا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ : أي لا تضعفوا عن القتال و ما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح و الفشل في يوم أحد، و لا تحزنوا على ما من فقد منكم في هذا اليوم، وكيف يلحقكم الوهن و الحزن و أنتم الأعلون، فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته، بل ينصرون من ينصره و يقيمون العدل، فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي و الانتقام أو للطمع فيما في أيدي الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمي إليه من غرض خسيس و لا كذلك همة المؤمن الذي يرمي إلى إقامة صرح العدل في الدنيا و السعادة الباقية في الآخرة – إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، و جعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما على نفوسكم و أعمالكم.
و إنما نهى عن الحزن على ما فات، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من عزيمته، و بالعكس صلته بما يحب من المال أو متاع أو صديق تكسبه قوة و توجد في نفسه سرورا، و المراد من النهي عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل و لو تكلفا، و خلاصة ذلك – الأمر بأخذ الأهبة و إعداد العدة مع العزيمة الصادقة و الحزم و التوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا و يستعيضوا مما خسروا.
و قوله :﴿ وأنتم الأعلون ﴾ تبشير بما يكون لهم في المستقبل من النصر، فإن من اخترق الإيمان الصحيح فؤاده، و تمكن من سويداء قلبه، يكون على يقين من العاقبة بعد مراعاة السنن و الأسباب المطردة للظفر و الفلاح.
وفي هذه الآيات وما بعدها، يذكرهم بسنن الله و خليفته، وإنما من صار على نهجها أدى به ذلك على السعادة، ومن حاد عنها ضل، وكانت عاقبته الشقاء و البوار و أن الحق لابد أن ينظر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة كما وعد الله بذلك على السنة رسوله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾( الصافات ١٧١-١٧٣ ) و قال﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾( الأنبياء ١٠٥. ).
والقرح بالضم : و الفتح عض السلاح ونحوه ما يجرح الجسم، وقيل هو بالفتح وبالضم الألم، والأيام واحدها يوم وهو الزمن المعروف، والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر، نداولها نصرفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كما وقع ذلك في يومي بدر واحد، وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد على آخر، والشهداء واحدهم شهيد : و هو قتيل المعركة، وقيل واحدهم شاهد.
﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ﴾ : أي إن كان السلاح قد عضكم و عمل فيكم يوم أحد، فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم في ذلك اليوم فقد قتل منهم ما قتل منكم فلم يكونوا غالبين.
و الخلاصة : إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد و ليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح، فإن أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم و هم على باطلهم ولم يفتروا في الحرب ولم يهنوا، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة و تمسككم بالحق.
﴿ و تلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ : أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله في المجتمع البشري، فمرة تكون الدولة للمبطل و أخرى للمحق و لكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق.
و إنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح و رعاها حق رعايتها، كالاتفاق و عدم التنازع و الثبات و صحة النظر و قوة العزيمة و أخذ الأهبة و إعداد ما يستطاع من القوة.
فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال و تحكموها أتم الإحكام حتى تطفروا و تفوزوا و لا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم، فإن الدنيا دول.
فيوما لنا و يوما علينا و يوما نساء و يوما نسر
و من أمثال العرب : الحرب سجال روي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال أين أبي كبشة ؟ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم و أبو كبشة زوج حليمة السعدية و هم أبوه من الرضاع –أين ابن أبي قحافة ؟ -أبو بكر-أين ابن الخطاب ؟ قال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا أبو بكر و هأنذا عمر فقال أبو سفيان يوم بيوم و الأيام دول و الحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار فقال أنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن و خسرنا.
﴿ و ليعلم الله الذين آمنوا ﴾ : أي و تلك الأيام يداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل و يستقر النظام و يعلم الناظر في السنن العامة، و الباحث في الحكم الإلهية أنه لا محاباة في هذه المداولة، و ليعلم الله الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعي الذي يدال به قوم على قوم مما يظهر النفوس و يتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
و المراد من قوله :﴿ و ليعلم الله ﴾ أي و ليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل فإذا وقعت حصل تغير في ذلك المعلوم فصار حالا بعد أن كان مستقبلا فهم كقوله :﴿ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾( الأنفال : ٣٧ ) أي ليعلم الناس ذلك و يميزوه.
الخلاصة : إن المراد من مثل هذه العبارة ( ليعلم ) – ليثبت و يتحقق صدق إيمان الذين آمنوا لأنه متى ثبت و تحقق كان الله عالما به على انه حقيقة ثابتة إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة
﴿ و يتخذ منكم شهداء ﴾ : أي و ليكرم ناسا منكم بالشهادة و القتل في سبيل الله ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر و كانوا يتمنون لقاء العدو و أن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه و يلتمسون الشهادة.
و القرآن مليء بتعظيم حال الشهداء قال تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾( آل عمران : ١٦٩ ) و قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء ﴾( النساء : ٦٩ ).
ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها و ما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم و لم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله و نواهيه و الخروج عن سننه في خلقه فقال :
﴿ و الله لا يحب لظالمين ﴾ أي أن الله لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، و في ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم و إنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم الله، و تعريض لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم لأنهم ظلموا أنفسهم و سفهوها بعبادة المخلوقات و ظلموا سواهم بالفساد في الأرض و البغي على الناس و هضم حقوقهم، و من المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة و لا تثبت له دولة بل تكون دولته سريعة الزوال قريبة الانحلال.
وفي هذه الآيات وما بعدها، يذكرهم بسنن الله و خليفته، وإنما من صار على نهجها أدى به ذلك على السعادة، ومن حاد عنها ضل، وكانت عاقبته الشقاء و البوار و أن الحق لابد أن ينظر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة كما وعد الله بذلك على السنة رسوله ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾( الصافات ١٧١-١٧٣ ) و قال﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾( الأنبياء ١٠٥. ).
والتمحيص والتخليص من كل عيب و محص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه و محص الله التأبين من الذنوب طهرهم منها و المحق النقصان و منه المحاق لآخر الشهر و في الأساس : محق الشيء محاه و ذهب به قلة عددهم و عدتهم
﴿ و ليمحص الله الذين آمنوا ﴾ : أي و نداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين، و تطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه و لا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة و الامتحان بالشدائد العظيمة، فهي التي تمحصها و تنفي خبثها و زغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.
فالمعتقد بالدين أنه الحق قد بخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله و نفسه في سبيل الله ليرفع راية ذلك الدين و يدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور. أنظر إلى الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد و طمعوا في الغنيمة، و إلى الذين انهزموا وولوا الأدبار كيف محصهم الله بتلك الشدائد، فعلموا أن السلم ما خلق للهو و اللعب ولا للكسل و التواكل و لا لنيل الظفر و نيل السيادة بخوارق العادات و تبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدا في العمل و أعظمهم تفانيا في أداء الواجب إتباعا للنواميس و السنن التي و ضعها الله في الخليقة.
و قد تجلى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الواقعة ففي غزوة ( حمراء الأسد )أمر النبي صلى الله عليه و سلم ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد، فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنة و عزائم صادقة و هم على ما هم عليه من الجراح المبرحة و القلوب المنكسرة.
﴿ و يمحق الكافرين ﴾ : أي و يجعل اليأس يسطو على قلوبهم وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعة و لا بأس و لا قل و لا كثر من عزة النفس فيكون وجودهم كالعدم لا فائدة فيه و لا أثر له، فالكافرون المبطلون لا يثبت لهم حال مع المؤمنين الصادقين، و إنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق و العدل من ينازعهم و يقاوم باطلهم.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ١٤٢ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ١٤٣ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ١٤٤ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ١٤٥ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ١٤٦ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ١٤٧ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾( آل عمران : ١٤٢-١٤٨ )
تفسير المفردات : الجهاد : احتمال المشقة و مكافحة الشدائد فيشمل :
الحرب للدفاع عن الدين و أهله و إعلاء كلمته.
جهاد النفس الذي سماه السلف ( الجهاد الأكبر ) و من ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته خصوصا في سن الشباب
المجاهد بالمال لأعمال الخير النافعة للأمة و الدين
المجاهدة بمدافعة الباطل و نصرة الحق.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
الإيضاح :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين ﴾ أي هل جريتم على تلك السنن ؟ هل تدبرتم تلك الحكم ؟ أم ظننتم أنكم تدخلون الجنة و أنتم لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام و لم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن و لا سبيل إلى دخولها إلا بعد التحلي بهما.
و إنكم لو قمتم بذلك لعلمه الله تعالى منكم و جازاكم عليه بالنصر و الفوز في هذه الغزوة كما يجازيكم في الآخرة بدخول الجنة.
و قال أبو مسلم الأصفهاني في ( أم حسبتم ) أنه وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت.
و تلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة و لم يقع منكم الجهاد و هو كقوله :﴿ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾( العنكبوت : ١-٢ ).
و عادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا فلما قال ولا تهنوا و لا تحزنوا كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك واقع كما تؤمرون أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة و لا صبر.
و إنما استبعد هذا لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الوقعة و أوجب الصبر على تحمل متاعبه و بين وجوه المصالح فيه في الدين و الدنيا كان من البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة و الجنة مع إهمال هذه الطاعة اه بتصرف.
و جهاد النفس على أداء حقوق الله وحقوق العباد مما يشق عليها احتماله ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل ويسهل عليها أداء تلك الحقوق، و ربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال و خوض غمار الوغى، و أصعب من هذا و أشق دعوة الأمة إلى خير لها في دينها و دنياها، أو بث فكرة صالحة تغير بعض أخلاقها و عاداتها، أو مقاومة بدعة فاشية بين أفرادها، فإنها تجد مقاومة من الخاصة بله العامة فتراهم يرفعون راية العصيان في وجه الداعي و يشاكسونه بكل الوسائل ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلا بعد جيل ووجدوا من أشباه العلماء من يِؤازرهم و يناصرهم في باطلهم.
و كثيرا ما يحدث للداعي التلف و الهلاك أو ثلم العرض أو الإخراج من حظيرة الدين.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
تمنون الموت : أي تتمنون الشهادة في سبيل الله أن تلقوه أي تشاهدوا أهواله و تذوقوا مرارة كأسه رأيتموه أي رأيتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدتهم و أسلحتهم و كرهم و فرهم و مصاولتهم للفرسان و أنتم تنظرون أي تعاينونه و ترونه رؤية لا خفاء فيها كما تقول رأيته و ليس بعيني علة
﴿ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم تنظرون ﴾ هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد.
ذاك أن كثيرا من الصحابة و بعضهم لم يشهد بدرا- كانوا يلحون على الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر و يتمنون أن يلقوا الأعداء و يصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر.
فلما كان يوم أحد ولى منهم من ولى فعاتبهن الله على ذلك.
روي عن الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه و سلم لنفعلن و لنفعلن فابتلوا بذلك فلا و الله ما كلهم صدق فأنزل الله عز وجل :﴿ ولقد كنتم تمنون الموت ﴾الآية
و معنى قوله :﴿ فقد رأيتموه ﴾ أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدتهم و أسلحتهم و كرهم و فرهم مشاهدة لا خفاء فيها و لا شبهة و كان لها الأثر العميق في نفوسكم.
و معنى تمني الموت الشهادة في سبيل الله و القتال لنصرة الحق و لو ذهبت نفوسكم دونه.
و صفوة القول : لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان قد أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه و انتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم و ما بالكم تحزنون و تضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون و تتمنون و من الشيء و سعى إليه لا ينبغي أن يجزنه و يسوءه.
و في الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس و التمني و التشهي و هديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشاق و عدم الثقة منها بما دون الجهاد و الصبر على المكاره في سبيل الحق حتى يأمن الدعوة الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدعي مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه.
و كثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه و يفكر في خدمتهما و يتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه أو بماله حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته و كابد مشقته.
و لكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق و ذلك يستدعي العلم مهما كان شاقا و الجهاد مهما كان عسيرا و الصبر على المكاره و إيثار الحق على الباطل
و قد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد ة الصبر على المكاره و أولئك هم المجاهدون الدين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثبات الجبال الراسيات و هم نحو ثلاثين رجلا لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد و النصح عاما للجميع فيتهم ذو المراتب العالية أنسهم بالتقصير فيزدادوا كمالا على كمالهم و يرعوى المقصرون و ينزعوا عن خداع أنفسهم لهم و هذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس و قد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد و رباهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية و هممهم صادقة فلم يهنوا و لم يضعفوا و لم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
انقلبتم على أعقابكم أي رجعتم كفارا بعد إيمانكم و يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه و انقلب على عقبيه و نكص على عقبيه
﴿ و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا و قتل بعضهم كز كرياء و يحيى و لم يكتب لأحد منهم الخلد.
أفإن مات كما مات موسى و عيسى و غيرهما من النبيين أو قتل كما قتل زكريا و يحيى تنقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه ؟ و الرسول ليس مقصودا لذته بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.
قال أنس بن النضر : في الساعة التي زاغت فيها الأبصار و البصائر و بلغت القلوب فيها الحناجر و حين فشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل و قال بعض ضعفاء المؤمنين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان و قال ناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ( أن كان محمد قد قتل فأن رب محمد لم يقتل و ما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه و موتوا على ما مات عليه ) ثم قال ( اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه )
و أما المؤمنون الصادقون الموقنون فمنهم من ثبت معه و منهم من كان بعيدا عنه فرجع إليه كأبي بكر و علي و طلحة و أبي دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه فكان يقع عليه النبل و هم لا يتحرك.
و الخلاصة : إن قتل محمد صلى الله عليه و سلم لا يوجب ضعفا في دينه لأمرين :
( أ ) إن محمد بشر كسائر الأنبياء و هؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.
( ب ) إن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض و لا يلزم من قتله فساد دينه.
و في الآية هداية و إرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش أو استسلم للأعداء بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء و على هذا تجري الحكومات و الحروب في عصرنا الحاضر.
و من توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمر عدته فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما و جدت الكثير ممن يقوم مقامه و يؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه و حينئذ يتنافس أفرادها و يحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يكمن أن يصل إليه كسب البشر و ينال كل منه بقدر استعداده و سعيه و توفيق الله له.
﴿ و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ﴾ أي و من يرجع عن الجهاد و مكافحته للأعداء فلن يضر الله شيئا بما فعل بل يضر نفسه بتعريضها للسخط و العذاب و حرمانها من الثواب فالله قد وعد بنصر من ينصره و يعز دينه و يجعل كلمته هي العليا و هو محالة منجر وعده.
و لا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء و النافقين على أعقابهم فهو سيثبت المؤمنين و يمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص فيقيموا دينه و ينشروا دعوته و يرفعوا شأنه و تنشر على الخافقين رايته و هو الذي بيده الخلق و الأمر و هو القادر علة كل شيء.
﴿ سيجزى الله الشاكرين ﴾له نعمه عليهم بالإيمان و الهداية إلى أقوام السبل.
و في الآية إرشاد إلى أن المصايب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو الباطل فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصايب و الرزايا و صاحب الباطل بالنعم والعطايا.
و فيها إيماء إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق و الخير على وجود المعلم بحيث نتركهما عند موته بل نسير على منهاجهما حين و جوده و بعد موته.
و الخلاصة : إن الله أوجب علينا أن نستضيء بالنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم و ما يعرض له من حياة أو موت فلا مدخل له في صحة دعوته و لا في إضعاف النور الذي جاء به فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن الله كخضوعكم
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
و المؤجل : ذو الأجل و الأجل المدة المضروبة للشيء كما قال :﴿ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ ( الأنعام : ١٢٨ ) ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل و مدة يؤدي في نهايتها
﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ أي ليس من شأن النفوس و لا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى و مشيئته التي بها يجري نظام الحياة و ترتبط فيها الأسباب بالمسببات وقوله ﴿ كتابا مؤجلا ﴾ أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير و مؤقت بوقت لا يتقدم و لا يتأخر فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب أو يتعرضون لعدو الأمراض أويتصدون لأفاعيل الطبيعة و هم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب و يقتل الجبان المتخلف و يفتك المرض بالشاب القوي و يترك الضعيف الهزيل و تغتال عوامل الأجواء الكهل المستوى و تتجاوز الشيخ الضعيف فللأعمارو للآجل أقدار لا تخطوها و الأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس و إذا كان محيانا و مماتنا بإذن الله فلا محل للخوف و الجبن و لا عذر في الوهن و الضعف و مما ينسب إلى علي قوله :
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه و من المقدور لا ينجو الحذر
و في الآية تحرض على الجهاد و تشجيع على لقاء العدو فإنه إذا كان الأجل محتوما و مؤقتا بميقات و أن أحد لا يموت قبل بلوغ اجله و إن خاض المعارك و اقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف و الحذر- إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله و حفظه لرسوله مع غلبة العدو له و التفافهم عليه و إسلام قومه له نهزة للمختلس فلم يبق سبب من الهلاك إلا قد حصل و لكن لما كان الله حافظا و ناصرا له لم يضره شيء و فيها إشارة إلى أن قومه قد قصروا في الذب عنه.
﴿ و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ أي و من قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها و من قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها
و في معنى الآية الحديث " إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى "...
و فيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بلزومه و كأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك و ما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله و لكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا و المعول عليهما في الآخرة.
فأنتم بين أمرين : إما إرادة الدنيا و إما أرادة الآخرة و لكل منهما سنن تتبع و طرق تسلك و في معنى الآية قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ ( الشورى : ٢٠ ).
و من هدي الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيري الدنيا و الآخرة معا و يقول :﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ ( البقرة : ٢٠١ ) و الله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه بحسب سنن الله و تدبيره لنظم الحياة.
و على الإنسان أن يعلم أن له طورين :
( ١ ) طور عاجل قصير و هو طور الحياة الدنيا.
( ٢ ) طور آجل أبدي و هو طور الحياة الآخرة.
و سعادته في كل من الطورين مرتبطة بإرادته و ما توجهه إليه من العمل فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات و المقاصد : فقوم يحاربون حب في الربح و الكسب أو ضراوة بالفتك و القتل فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض و أهلكوا الحرث و النسل وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل فإذا غلبوا عمروا الأرض و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر فهل يستوي فريقان وهما في المقصد مفترقان ؟ كذلك يطلب الرجل الربح و الكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة للذاته و الحصول على شهواته فيغلوا في الطمع و يمعن في الحيل و لا يبالي أمن من الحرام أكل أم من الحلال ؟ يأكل الريا أضعافا مضاعفة فيجمع القناطير المقنطرة و هو مع ذلك يمنع الماعون و لا يحض على طعام المسكين ولو سئل البذل في المصالح العامة كان أشد الناس بخلا و أقبضهم كفا بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل و حبا للكرامة في قومه و عشيرته فيقتصد في الطلب و يتحرى الربح الحلال و يلتزم الصدق و الأمانة و يبتعد عن الفسوق و الخيانة و هو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه فيواسي البائسين و يساعد المعوزين و تكون له اليد الطولى في الأعمال النافعة لأمته فيشيد لها المدارس و المعابد و الملاجئ و المستشفيات فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية و هل هما في القرب عند الله بمنزلة واحدة أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد و الإرادة و الميل إلى الخير و حب المصلحة العامة.
و قصارى القول : إن أقدار الرجال تتفاوت و تختلف باختلاف إرادتهم فبينما تتسع دائرة و جود الشخص بحسب كبر إرادته و سعة مقصده فتحيط بالكرة الأرضية بل فوق ذلك يما يكون له من الكرامة في العالم العلوي – إذا بآخر تضيق دائرة وجوده إذا أخلد إلى الشهوات و ركن إلى اللذات فيكون حظه عن علمه كحظ الحشرات يأكل و يشرب و يبغي على الضعيف و يخاف من القوي.
و الله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم و لا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.
﴿ و سنجزي الشاكرين ﴾ الذين يعرفون أنعم الله عليهم و يستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقي الكمال فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم و تنفع أمتهم كأنس بن النضر و أمثاله الذين جاهدوا و صبروا مع النبي صلى الله عليه و سلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين.
و بعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل في أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه –ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم و هن و لا ضعف بعد قتل أنبيائهم بل صبروا و احتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
و كأين : كلمة تفيد أن ما دخلت عليه كثير و الربيون : الجماعات الكثرة و احدهم ربي و هو الجماعة و الوهن : ضعف يلحق القلب و الضعف اختلال قوة الجسم و الاستكانة : الخضوع و الاستسلام للخصم ليفعل ما يريد و الصبر : احتمال الشدائد و معاناة المكاره و الإسراف في كل شيء : مجاوزة الحد فيه كما قال :﴿ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾( الأعراف : ٣١ )
و في هذا شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم مع أنهم أجدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال :
﴿ و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين ﴾أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم و اعتقد أنهم هداة و معلمون لا أرباب معبودون فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى و لو كان المقتول نبيهم نفسه لأنهم يقاتلون في سبيل الله لا في سبيل نبيهم علما بأن النبي ما هو إلا مبلغ عن ربه و هاد لأمته ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾( الأنعام : ٤٨ ) و ما ضعفوا عن جهاد عدوهم و لا استكانوا و لا خضعوا له و لا ولوا الأدبار بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حال الحياة إذ هم على يقين من ربهم من أن الجهاد في سبيل الله التي يرضاها من تقرير العدل في الأرض و حماية الحق وما يتبع ذلك و يلزمه.
و الخلاصة : عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين و تصبروا كما صبروا فإن دين الله واحد و سنته في خلقه واحدة و من ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم و تقيدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم و تقولوا مثل قول أولئك الربيين.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
و ثبت أقدمنا : أي حين الجهاد أعدائك بتقوية قلوبنا و إزالة الخواطر الفاسدة من صدورنا.
و بعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال :
﴿ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين ﴾ أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب و نزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألموا به من الذنوب و تجاوزوا فيه حدود الشرائع و أن يثبت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه حتى لا تزحزحهم الفتن و لا يعروهم الفشل و الوهن حين مقابلة الأعداء و أن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات و يعتدون على أهل الحق فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه و ألهمها عبادة.
و في هذا إيماء إلى أن الذنوب و الإسراف في الأمور من عوامل الخذلان و الطاعة و الثبات و الاستقامة من أسباب النصر و الفلاح و من ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم إثر الذنوب و أن يوفقهم إلى دوام الثبات تزل الأقدام و قد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء في حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع و الطاعة الصادر عن زكاء و طهارة إلى الاستجابة.
و في طلبهم النصر من الله من كثرة عددهم التي دل عليها قوله : ربيون كثير } إعلام بأنهم لا يعولون على كثرة العدد بل يطلبون العون و المدد الروحاني من الله بثبات الأقدام و التمسك بأهداب الحق.
كما أن ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع و خور – تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد.
المعنى الجملي : لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة و البلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، و فيه تمحيص لأهل الحق، فإن الشدائد محك الأخلاق، و فيه هدي و إرشاد و تسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز و الظفر في جميع أعمالهم.
و هنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر الجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق و سلوك طريق الإنصاف و العدل بين الناس فسنة الله هنا كسنته هناك.
﴿ فآتاهم الله ثواب الدنيا ﴾ بالنصر على الأعداء و الظفر بالغنيمة و السيادة في الأرض و الكرامة و العزة و حسن الأحدوثة و الذكر الحسن و قد سمي ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة و امتثال أوامر الله.
﴿ و حسن ثواب الآخرة ﴾ بنيل رضوان الله و رحمته و القرب منه في دار الكرامة و قد فسر بقوله تعالى :﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ ( السجدة : ١٧ ). و قوله في الخبر :" فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر " وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر في نفوسهم فارتفت به إلى حظيرة القدس و تخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله و أنه المعتد به عند الله و أنه ثواب لا يشوبه أذى فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى و المنغصات.
و إنما جمع لهم بين الثوابين لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة كما هو شأن المؤمن ﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ ( البقرة : ٢٠١ ).
و هذه الآية و أشباهها حجة على الغالبين في الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشيء من لذات الدنيا و يعدون ذلك منافيا للتقوى و مبعدا عن رضوان الله.
﴿ و الله يحب المحسنين ﴾ لأنهم هم الذين يقيمون سننه في أرضه و يطهرون بأنفسهم و أعمالهم أنهم جديرون بخلافة الله فيها و لا تكون أعمالهم إلا بما يرضي الله فهي من الله و لله.
و قد جاء في الآية الترتيب هكذا – التوفيق على الطاعة ثم الثواب عليها ثم المدح على ذلك إذ سماهم محسنين ليكون في ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى و فضله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ١٤٩ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ١٥٠سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾( آل عمران : ١٤٩-١٥١ ).
تفسير المفردات : المراد بالذين كفروا : أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن و قال آخرون المراد عبد الله بن أبي و أتباعه من المنافقين الذين ألوا الشبهات في قلوب الضعفة من المؤمنين و قالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت هذه الواقعة و إنما هو رجل كسائر الناس يوم له و يوم عليه فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه يردوكم على أعقابكم : أي يرجعكم إلى الكفر بعد الإيمان خاسرين أي لاستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام و الانقياد للأعداء الذي هو أشق شيء على النفوس و لحرمانكم من الثواب و الوقوع في العذاب
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ﴾
أي إن تطبعوا الله جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم فتقبلوا رأيرهم و تنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون – يحملوكم على الردة بعد الإيمان و الكفر بالله و آياته و يرجعوكم عن إيمانكم و دينكم الذي هادكم الله له خاسرين للدنيا و الآخرة أما خسران الأولى فبخضوعكم لسلطانكم و ذلتكم بينهم و حرمانكم من السعادة و الملك و التمكين في الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ ( النور : ٥٥ ).
وأما خسران الثانية فبما يصيبكم من العذاب الأبدي في النار و بئس القرار.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و المولى : الناصر و المعين
﴿ بل الله مولاكم و هو خير الناصرين ﴾ أي لا تفكروا في ولاية أبي سفيان و شيعته و لا عبد الله بن أبي وحزبه و لا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها في قوله :﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾( الأنفال : ٤٠ ) فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين و يخذل الكافرين كما قال :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾( محمد ١٠-١١ )
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و الرعب : شدة الخوف التي تملأ القلب و السلطان : الحجة و البرهان و أصله القوة و سمي البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل و المثوى : المكان الذي يكون مقر الإنسان و مأواه من قولهم ؟ ثوى يثوي ثويا إذا أقام.
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ أي إنه سبحانه سيحكم في أعدائكم الكافرين سننه و يلقي في قلوبهم الرعب بسب إشراكهم بالله أصناما و معبودات لم يقم برهان من عقل و لا نقل على ما زعموا من ألوهيتها و كونها واسطة بين الله و خلقه و إنما قلدوا من ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل و من ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب و إتباع خطوات الوهم فهم يعدون الوسواس أسباب و الهواجس مؤثرات و عللا و يرجون الخير مما لا يرجى منه الخير و يخافون مما لا يخاف منه الضير.
و في الآية إيماء الشرك و سوء أثره في النفوس إذ طبيعته تورث القلوب الرعب باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية و الأسباب العادية فالمشركون الذين جاهدوا الحق و آثروا مقارعة الداعي و من استجاب له بالسيف بغيا و عدوانا – يرتابون فيما هم فيه و يتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين و لا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلئ قلوبهم رعبا و الخلاصة : إن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون أن تكون نفوسهم مضطربة و قلوبهم ممتلئة رعبا و هلعا منكم فلا تخافوهم و لا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم و الالتجاء إليهم.
و بعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا من وقوع الخوف و الهلع في قلوبهم – ذكر أحوالهم في الآخرة فقال :
﴿ و مأواهم النار و بئس مثوى الظالمين ﴾ أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر و الجحود و معاندة الحق و المقاومة أهله و ظلمهم للناس بسوء المعاملة.
و في التعبير بالمثوى المنبئ عن المكث الطويل دليل على الخلود فيها.
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين ١٥٢ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ١٥٣ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وطائفة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ١٥٤ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾( آل عمران : ١٥٢-١٥٥ ).
تفسير المفردات : تحسونهم : أي تستأصلونهم بالقتل من قولهم : جراد محسوس : إذا قتله البرد و سنة حسوس : إذا أتت على كل شيء فكأن القاتل أبطل حسه بالقتل كما بطنه أصاب بطنه و رأسه أصاب رأسه بإذنه : أي بعونه و تأييده فشلتم : أي ضعفتم في الأمر : أي أمر الحرب صرفكم عنهم : أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها ليبتليكم : أي تذهبون في الأرض و تبعدون يقال أصعدنا من مكة إلى المدينة أي ذهبنا
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ﴾ أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير من الله ومعونته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.
﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة وتنازعتم، فقال بعضكم : ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون ؟ وقال آخرون : لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.
وصفوة القول : إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.
وفي قوله :﴿ من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدوا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام و أذاقهم وبال أمرهم.
﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة.
﴿ ومنكم من يريد الآخر ﴾ وهم الذين ثبتوا من الرماة مع القائد عبد الله ابن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون رجلا.
﴿ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾ أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمر وثباتكم على الإيمان.
والخلاصة : إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونة قتل حس واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم بين تمام النصر ليمتحنكم بذلك : أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين.
﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ بذلك التحميص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث في وقعة ( حمراء الأسد )
﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلم بآخر، بل يمحص ما في صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و لا تلوون على أحد : أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب يقال فلان لا يلوي على شيء أي لا يعطف عليه و لا يبالي به في آخراكم : أي في آخركم يقال جئت في آخر الناس و في أخراهم و في أخرياتهم فأثابكم : أي جازاكم الغم : ألم أو ضيق في الصدر يكون في الأمر الذي يسوء الإنسان و لا يدري المخرج منه
﴿ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ﴾ أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين، من شدة الدهشة التي عرتكم، والذعر الذي فجأكم
وبينا أنتم في هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادي، هلم إلى عباد الله، إلي الله، أنا رسول الله من يكر فله الجنة وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوة بالرسول فتقتدون به في الصبر والثبات
﴿ فأثابكم غما بغم ﴾ قال في الأساس : إنه لفي غمة من أمره، إذا لم يهتد للخروج منه، منه قوله تعالى ﴿ لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ [ يونس : ٧١ ] والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم بالهزيمة والقتل، والغم الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب.
والخلاصة : إنه أذاقكم هذا عوض هذا.
وقد يكون المعنى : جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.
﴿ لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ﴾أي لأجل أن تمروا على تجرع الغموم، وتتعودوا احتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم.
﴿ ولا ما أصابكم ﴾ أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضار، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم، والدواعي التي حفزتكم عليها، وقادر على مجازتكم، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشر. وفي هذا ترغيب في الطاعة وزجر عن الإقدام على المعصية.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و الأمنة الأمن هو و هو ضد الخوف يغشي يغطي و يستر يقال غشية النعاس أو النوم أي غطاه كما يلقي الستر على الشئ لبرز أي لخرج سبب من الأسباب إلى مضاجعهم : أي مصارعهم التي قدر قتلهم فيها و ذات الصدور السرائر
﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ﴾ أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم وغلبكم النوم، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف والنوم نعمة كبرى لم يصاب بمثل تلك المصايب، وعناية من الله يخص بها بعض عباده في مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.
وعن أبي طلحة رضي الله عنه غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه وما من أحد إلا يميل تحت حجفته ( ترسه )
وعن الزبير رضي الله عنه، وقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم، والله إني لأسمع معتب ابن قشير والنعاس يغشاني، ما أسمه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.
﴿ يغشى طائفة منكم ﴾قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين على بصيرة في إيمانهم.
﴿ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ﴾يقال همني الشيء أي كان من همى وقصدي أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي و متعه ابن قشير ومن لف لفهم، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين
و خلاصة هذا : إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين :
( ١ ) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم و ذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم و أيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل و التنازع و عصيان الرسول فإن الله سينصرهم بعد فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة و يذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.
( ٢ ) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم إذا الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم لا جرم عظم الخوف لدبهم و حق ما وصفهم الله به من قوله :
﴿ يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ﴾ غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه إذ كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار و هذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله.
﴿ يقولون هل لنا من الأمر من شيء ﴾ أي يقول بعضهم على سبيل الإنكار : هل لنا من النصر و الفتح و الظفر نصيب ؟ يعنون ؟أنه ليس لهم من ذلك شيء لأن الله سبحانه و تعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه و سلم فهم قد فهموا أن النصر و حقية الدين متلازمان فما حدث في ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق و هذا خطأ كبير فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا و لكن العاقبة للمتقين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها.
﴿ قل إن الأمر كله لله ﴾ أي إن كل أمر يجري فهو بحسب سننه تعالى في الخليقة ووفق النظم التي و ضعها و ربط فيها الأسباب بالمسببات.
و من ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك في قوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾( المجادلة : ٢١ ) و قوله :﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ ( الصافات : ١٧٣ ).
﴿ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ﴾أي يضمرون في أنفسهم ما لا يستطيعون إعلانه لك فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم ﴿ هل لنا من الأمر من شيء ﴾ و يبطنون الإنكار و التكذيب.
﴿ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلناها هنا ﴾ أي يقولون لو كان أمر النصر و الظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله و لأوليائه و أنهم الغالبون لما غلبنا و لما قتل من المسلمين ما قتل في هذه المعركة.
و هذا منهم تقرير لرأيهم و استدلال عليه بما وقع لهم و قد غفلوا عن أن الآجال محدودة و الأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه و من ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله :
﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ﴾ أي لو كنتم في بيوتكم و لم تخرجوا للقتال – لخرج من بينكم من انتهت آجالهم و ثبت في علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون و يسقطون في البراز ( الأرض المستوية ) فتكون مصارع و مضاجع لهم.
و الخلاصة : إن الحذر لا يدفع القدر و التدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على حال و إلا انقلب علم الله جهلا فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك في اللوح المحفوظ و كتب مع ذلك أنهم هم الغالبون و أن العاقبة لهم و أن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.
﴿ و ليبتلي الله ما في صدورهم و ليمحص ما في قلوبكم ﴾أي و قد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم و ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص و عدمه فيظهر ما انطوت عليه من ضعف و قوة و يمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان و يطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان.
و قد قيل : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين.
( و الله عليم بذات الصدور } أي عليم بالأسرار و الضمائر لا تخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء.
و في هذا ترغيب و ترهيب و تنبيه إلى أن الله غني عن الابتلاء و الامتحان و إنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر و تحمل المشاق و إظهار حال المنافقين لأن الحقائق قد تخفى على أربابها فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص و لا ابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و الجمعان جمع المؤمنين و جمع المشركين استنزلهم أي أوقعهم في الزلل و الخطيئة ببعض ما كسبوا : أي بسبب بعض الذنوب التي اقترفوها فمنعوا من التأييد الإلهي
﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه و سلم أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل و استجراره لهم بالوسوسة فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأول إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة و لا و وقوع في ضرر و لمن هذا التأول كان سببا في كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة و على هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة و الفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة و هذا التولي هو بعض ما كسبوا.
و في هذا إيماء إلى سنة من سنن الله في أخلاق البشر و أعمالهم و هي أن المصايب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس و ليست ملكة و لا عادة لها بل صدرت هفوة غير متكررة و هي التي عناها سبحانه بقوله :﴿ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ ﴾ ( المائدة : ١٥ )و إليها الإشارة بقوله :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ﴾ ( فاطر : ٤٥ ).
فهذه المصايب و العقوبات سواء أكانت في الدنيا أم في الآخرة – آثار طبيعية للأعمال السيئة.
﴿ ولقد عفا الله عنهم ﴾ أي إن ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا و الآخرة لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية و جعل عقوبتهم في الدنيا تربية و تمحيصا.
وفي هذا دفع لإستلاء اليأس على نفوسهم و تحسين لظنونهم.
﴿ إن الله غفور حليم ﴾ أي إن الله يغفر الذنوب جميعا صغيرها و كبيرها بعد التوبة و الاعتذار حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب.
و قد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين و فد كانوا أكثر المقاتلين فإنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا خمسة من المهاجرين و باقيهم من الأنصار و قد بالع بعض المنهزمين في الفرار حتى إن بعضهم لو يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بعد ثلاثة أيام فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة و بعضهم رجع في ذلك و اجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير١٥٦ ٌ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ١٥٧ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ ( آل عمران : ١٥٦-١٥٨ ).
تفسير المفردات : المراد بالذين كفروا هنا : المنافقون كعبد الله بن أبي و أصحابه ضربوا في الأرض : أي سافروا فيها للتجارة و الكسب لإخوانهم : أي في شأنهم و الأخوة تشمل أخوة النسب و أخوة الدين و المودة و غزى : واحدهم غاز و هو المقاتل في الحرب.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى ولو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا ﴾ أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في الأرض للتجارة و الكسب فماتوا أو كانوا غزاة في وطنهم أو في بلاد أخرى فقتلوا : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا و ما قتلوا.
و عبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين لبيان أن مثل هذا لا ينبغي أن يصدر من المؤمنين بل إنما يصدر من الكافرين إذ إن من مات أو قتل فقد انتهى أمره فقولهم ( لو كان كذا ) عبث لأن ما وقع لا يرتفع و الحسرة عليه لا تفيد و من شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحي العقل و الإدراك.
إلى أن في هذا القول جهلا بالدين و جحدا له فإن الله يقول :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ﴾ ( آل عمران : ١٤٥ ).
و عقيدة القضاء و القدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه فإن القضاء تعلق العلم الإلهي بالشيء و العلم انكشاف لايفيد الإلزام والقدر ووقوع الشيء بحسب العلم و العلم لا يكون مطابقا للواقع و إلا كان جهلا.
و الله تعالى قد جعل للإنسان اختيار في أعماله لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة و الإرادة و العلم فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلم به أو مانع يحول بينه و بين تنفيذ ما عزم عليه.
و إنا لنرى هذا يحدث كل يوم فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم فاختياره في أعماله و قدرته عليها و معرفته الأسباب كل ذلك له حدود لا يتعداها فهو لا يحيط علما بأسباب الموت و لا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه و ما كل ما يتعرض له يقع فالذين يعرضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم و يقتل أقلهم.
ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد و أن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله و تأييده و أنه يوفقه إلى علم ما يجعل من أسباب سعادته يكون مع أخذ بالأسباب أنشط في العمل و أبعد عن اليأس و الكسل.
﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ أي لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا فيمن ماتوا أوقتلوا ما قالوا ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا و تورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم و تضعفون عن القتال كما يضعفون فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدي صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع فلا يتحسر عليه و لا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا و تسليما بكل ما يجري به القضاء.
﴿ و الله يحيي و يميت ﴾ أي والله هو المؤثر وحده في الحياة و الموت بمقتضى سننه في أسبابهما و ليس للإقامة و السفر مدخل فيهما فإن الله قد يحيي المسافر و الغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك و يميت المقيم و القاعد و إن كانا تحت ظلال النعيم.
و قد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته : ما في موضع شبر إلا و فيه ضربة سيف أو طعنة رمح و هاأنذا أموت كما يموت العير ( الحمار ) فلا نامت أعين الجبناء.
﴿ و الله بما تعملون بصير ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما تكنون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثر في أقوالكم و أفعالكم فاجعلوا نفوسكم ظاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.
و في هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
ثم بشر من قتل أو مات في سبيل الله بحسن المآل فقال :
﴿ و لئن قتلتم في سبيل اله أو متم لمغفرة من الله و رحمة خير مما يجمعون ﴾ الموت في سبيل الله هو الموت في عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان في سبيل البر و الخير التي هدى الإنسان إليها و يرضاها منه فالمحارب قد يموت في أثناء الحرب من التعب و الإعياء أو الإتيان من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا في سبيل الله.
أي إن مغفرة الله و رحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال و المتاع في هذه الدار الفانية فإن هذا ظل زائل و ذاك نعيم خالد.
و الخلاصة : إن ما ينتظره المؤمن في سبيل اله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه و الرحمة التي ترفع درجاته – خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات و الشهوات.
فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية و ألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
ثم حثهم على العمل في سبيل الله لأن المآل إليه فقال :
﴿ و لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ﴾ أي إنكم بأي سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره فيجري كلا منكم بما يستحق من الجزار فيجازي المحسن على إحسانه و المسيء على إساءته و لا يرجى من غيره ثواب و لا يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقربكم إليه و يجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانية، و تلك الحياة الأخرى باقية خالدة.
و المراد من الحشر إلى الله في مثل هذا مما جاء في القرآن الكريم، أ الإنسان في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من الله جزاء عمله، لا يشغل عن شيء، فيكون بذلك رجعا عن كل شيء فيه إلى الله، محشورا مع سائر الناس أما الإنسان في الدار فقد يغفل عن الله وينسى هيبته وجلاله، وعظمته وسلطانه، لاشتغال بدفع المكاره عن نفسه و جلب اللذات والرغائب لها.
وإذا كان هذا مصير كل حي مهما كان سبب موته أو قتله فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له و العمل لما به الفوز والسعادة.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ١٦٠ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾( آل عمران : ١٥٩-١٦٠ ).
تفسير المفردات : اللين في المعاملة الرفق و التلطف فيها و الفظ الخشن الشرس الأخلاق الجافي في المعاشرة في القول و الفعل و الغليظ القاسي الذي لا يتأثر قلبه من شيء و انفض القوم : تفرقوا كما قال :﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾ ( الجمعة : ١١ ). و المشاورة : من قولك شرت العسل إذا اجتنينها و استخرجتها من موضعها و المراد بالأمر سياسة الأمة في الحرب و السلم و الخوف إلى نحو ذلك من المصالح الدنيوية و التوكل : إظهار العجز و الاعتماد على غيرك و الاكتفاء به في فعل ما تحتاج إليه
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة و التعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال و شمروا للهزيمة و الحرب قائمة على قدم وساق و مع ذلك لنت لهم و عاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك و خصك بها إذا أمدك بآداب القرآن العالية و حكمه السامية حتى هانت عليك المصايب و علمتك ما لها من المنافع و حسن العواقب.
و قد مدح الله نبيه بحسن الخلق في مواضع من كتابه فقال :﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾( القلم : ٤ ) وقال :﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٢٨ )وقال صلى الله عليه وسلم :" لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه و لا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام و خرقه "
﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ أي و لو كنت خشنا جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك و نفروا منك و لم يسكنوا إليك و لم يتم أمرك من هدايتهم و إرشادهم إلى الصراط السوي.
ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق و لا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم و سكنت نفوسهم لديهم و ذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء و يعفو عن زلاته و يخصه بوجوه البر و المكرمة و الشفقة.
﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها في هذه الوقعة و دم عليها فإنهم و إن اخطؤوا الرأي فيها فإن في تربيتهم عليها دون الانقياد لرأي الرئيس و إن كان صوابا نفعا في مستأنف أمرهم و مستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها.
فالجماعة أبعد عن الخطأ من الفرد في أكثر الحالات و ما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه أشد من الخطر الذي يترتب على رأي الجماعة.
و لما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع و لا سيما إذا كثر المستشارون – أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا فكان يستشير صاحبه بهدوء و سكينة و يصغي إلى كل قول و يرجح رأيا على رأي بما يرى فيه من المصلحة و الفائدة بقدر المستطاع.
و قد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى في حياته فكان يستشير السواد الأعظم و يخصبها أهل الرأي و المكانة في الأمور التي يضر إفشاؤها.
فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب و لم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرين و الأنصار بالموافقة واستشارهم يوم أحد كما علمت و هكذا كان يستشيرهم في كل مهم ما لم ينزل عليه فيه وحي فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه و لم يضع للنبي صلى الله عليه وسلم قواعد الشورى لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية و بحسب الزمان و المكان و لأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا و حاولوا العمل بها في كل زمان ومكان و من ثم قال الصحابة في اختيار أبي يكر خليفة رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا إذ أمره بالأماة في الصلاة حين مرضه أفلا نرضاه لدنيانا ؟.
و لكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة و لا سيما زمن الدولة العباسية إذ كان للأعاجم سلطان كبير في ملكهم ثم جرى على ذلك سائر الملوك المسلمين فيما بعد و جاراهم على ذلك علماء الدين حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة في الإسلام استبدادية وأن الشورى اختيارية و لكن هذا بعيد من الصواب بعد أن صرح القرآن بالشورى و أمر نبيه بها و هو المعصوم عن الهوى.
و للشورى فوائد جمة منها :
( ١ ) إنها تبين مقادير العقول و الأفهام و مقدار الحب و الإخلاص للمصالح العامة.
( ٢ ) إن عقول الناس متفاوتة و أفكارهم مختلفة فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره و إن كان عظيما.
( ٣ ) إن الآراء فيها تقلب على وجوهها ويختار الرأي الصائب بينها.
( ٤ ) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب و من ثم شرعت الاجتماعات في الصلوات و كانت صلاة الجماعة أفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة.
وعن الحسن رضي الله عنه : قد قال علم الله أن ما به إليهم حاجة و لكن أراد أن يستن به من بعده و عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " و عن أبي هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ أي فإذا عقدت القلب على فعل شيء و إمضائه بعد المشاورة و مبادلة الرأي فيه فتوكل على الله و فوض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدة و مراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات كما ورد في الحديث " اعقلها و توكل ".
و لا تتكل على ما أوتيت من حول و قوة و ا على إحكام الرأي و أخذ العدة فذلك كله ليس بكاف في النجاح ما لم يقرن به معونة الله و توفقه لأن الموانع الخارجية و العوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية لا يحيط بها إلا علام الغيوب فلا بد من الاتكال عليه و الاعتماد على حوله و قوته.
و في الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة.
وسر هذا نقض العزائم خور في النفس و ضعف في الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به في قول و لا فعل و لا سيما إذا كان رئيس حكومة أو قائد جيش و من ثم لم يصغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول و هو الخروج إلى أحد حين لبس لأمته و خرج إذ رأى أن هذا شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها.
و بذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينفض عزيمته و يبطل عمله و لو كان يرى أن أهل الشورى أخطؤوا الرأي و التدبير كما حدث في مسألة أحد كما تقدم.
ولا يزال أهل السياسة و الحرب في البلاد ذات الحضارة و المدنية يجرون على هذه القاعدة و يجعلونها دستورا لأعمال أممهم و لا ينقضونها على أي حال حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز : إن السياسة متى قررت شيئا و شرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه و الرجوع عنه وإن كان خطأ.
﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾ عليه الواثقين به فينصرهم و يرشدهم إلى ما هو خبر لهم كما تقتضيه المحبة.
و في الآية إرشاد للمكلفين و ترغيب لهم في التوكل على الله و الرجوع إليه و الإعراض عن كل ما سواه.
قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل على الله أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال و إلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل عليه أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحكمة اه.
فالتوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب و بدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع و فسادا في العقل قال تعالى :﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾ ( الملك : ١٥ ) وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ﴾ ( النساء : ٧١ ) و قال :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ) وقال :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ( البقرة : ١٩٧ ) وقال لنبيه لوط :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ ﴾ ( هود : ٨١ ) وقال لموسى عليه السلام ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا ﴾( الدخان : ٢٣ ) و قال حكاية عن نبيه يعقوب لأبنه يوسف :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ﴾( يوسف : ٥ ) و قال أيضا حاكيا عنه :﴿ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾( يوسف : ٦٧ )ففي هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على الله، ولا تنافي بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما.
روى أحمد و الشيخان ( البخاري ومسلم ) عن أبي عباس مرفوعا ( ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألف بغير حساب، الذين لايسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ) ) وقد قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها إذ لم ينف من الأعمال إلا الاستشفاء بالرقية وهي إنما يطلبها الجاهلون بالأسباب الحقيقية، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطي وإلا الكي بالنار وكانوا يتداوون به في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه لأمته ويعده من الأسباب المؤلمة التي تنافي التوكل وقد روى أحمد " لم يتوكل من استرقى أو اكتوى ".
وروى أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجه " لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا " و هو ظاهر في أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر للطير عملا و هو الذهاب صباحا في طلب الرزق و هي فارغة البطن و الرجوع وهي ممتلئتها.
و أخرج ابن حبان قي صحيحه :" حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم و أراد أن يترك ناقته و قال : أأعقلها و أتوكل أو أطلقها و أتوكل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اعقلها و توكل "
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : قلت لأبي هؤلاء المتوكلون يقولون : نقعد و أرزقنا على الله عز وجل قال : ذا قول رديء خبيث يقول الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ ( الجمعة : ٩ ) و قال أيضا : سألت أبي عن قوم يقولون : نتكل على الله و لا نكتسب قال : ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله و لكن يعودون أنفسهم الكسب هذا قول إنسان أحمق.
وسر هذا أن الإنسان إذا توكل و لم يستعد للأمر و يأخذ له الأهبة بحسب ما سنه الله من الأسباب أسف و ندم و تحسر على ما فات و عد ملوما عقلا وشرعا كما أنه إذا أخذ الأهبة واعتمد عليها و غفل قلبه عن الله كان عرضة للهلع و الجزع إذا خاب سعيه و لم ينل بغيته و ربما وقع في اليأس الذي لا مطمع معه في فلاح ولا نجاح.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ أي إن أراد الله نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته و ثبتم قي مواقفكم و اتكلتم على توفيقه ومعونته فلا غالب لكم من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس و القنوط.
وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول و القوة.
﴿ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ﴾ أي وإن يرد خذلانكم و يمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل و التنازع و عصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد فلا أحد يملك لكم نصرا و لا يدفع عنكم الخذلان.
﴿ و على الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي فليخصه المؤمنون بالتوكل لأنه لا ناصر سواه.
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ١٦١ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ١٦٢ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ١٦٣ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ ( آل عمران : ١٦١-١٦٤ ).
تفسير المفردات : الغل : الأخذ خفية كالسرقة ثم غلب استعماله في السرقة من المغنم قبل القسمة و يسمى الغلول أيضا و توفى كل نفس ما كسبت أي تعطى جزاء ما عملت تاما وافيا
المعنى الجملي : بعد أن حث عز اسمه فيما سلف الجهاد و بين مصير المجاهد في سبيله –أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي و مقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة و قالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له و ألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم عليه الصلاة و السلام " ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ " فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال لهم :" بل ظننتم أنا نغل و لا نقسم "
الإيضاح :﴿ وما كان لنبي أن يغل ﴾ أي ما كان من شأن أي نبي و لا من سيرته أن يغل لأن الله عصم الأنبياء منه فهو لا يليق بمقامهم و لا يقع منهم لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة و خسة.
﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾ أي وكل من يقع منه غلول يأتي بما غل به يوم القيامة حاملا له ليفتضح أمره و يزيد به في عذابه.
أخرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر الغلول و عظمه و عظم أمره ثم قال :
" ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فأقول له لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك " و جعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل فشبهت حال الغال بما يرهقه من أثقال ذنبه و فضيحته به مع من فقد الناصر و المغيث – بحال من يحمل ذلك على عاتقه و يقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله و يتنصل من إغاثته و مازال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية و يعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى :﴿ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾( العنكبوت : ١٢-١٣ ).
و قال أبو مسلم الأصفهاني : إن الإتيان في الآية معناه : أن الله يعلمه أتم العلم و ينكشف له أوضح انكشاف فالمراد أن كل غلول و خيانة خفية يعلمه الله مهما خفي و يظهره يوم القيامة للغال حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشيء يوصله إلى غيره كما جاء في قوله تعالى حكاية عن لقمان :﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾( لقمان : ١٦ ) فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها بل يعلم بها مهما كانت مستترة لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به.
﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ أي ثم بعد أن يأتي الغال بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شيء كما قال تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾( الكهف : ٤٩ ).
و جاء حكم التوفية في الجزاء عاما لكل كاسب وإن كان الكلام في جزاء الغال فحسب – ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شيء و إن كان جرمه حقيرا فالغال مع عظم جرمه أولى بذلك.
المعنى الجملي : بعد أن حث عز اسمه فيما سلف الجهاد و بين مصير المجاهد في سبيله –أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي و مقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة و قالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له و ألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم عليه الصلاة و السلام " ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ " فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال لهم :" بل ظننتم أنا نغل و لا نقسم "
وباء : رجع و السخط ( بفتحتين و بضم فسكون ) : الغضب العظيم و المأوى : المصير
وقد أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين فقال :
﴿ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ﴾ أي أفمن اتقى و سعى في تحصيل رضا الله بفعل الطاعات و ترك الغلول وغيره من الفواحش و المنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه- يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله و عظيم غضبه بفعل ما يدسي نفسه من الخطايا من سرقة و غلول و سلب و قتل و ترك ما يطهرها من فعل الخيرات و عمل الصالحات ؟.
ثم صرح بالفارق بينهما فقال :
﴿ و مأواه جهنم و بئس المصير ﴾ أي و مأواه الذي يأوي إليه و لا مرجع له غيره و هي جهنم و ساءت منقلبا و مرجعا و مآبا.
و نظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ﴾ ( السجدة : ١٨ ) و قوله :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ( ص : ٢٨ )
المعنى الجملي : بعد أن حث عز اسمه فيما سلف الجهاد و بين مصير المجاهد في سبيله –أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي و مقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة و قالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له و ألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم عليه الصلاة و السلام " ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ " فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال لهم :" بل ظننتم أنا نغل و لا نقسم "
هم درجات أي ذوو درجات ومنازل و البصير هو الذي يشاهد و يرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى من : أي أنعم و تفضل من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه
﴿ هم درجات عند الله ﴾أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله و من باء بغضب من الله طبقات مختلفة و منازل عند الله متفاوتة في حكمه و بحسب علمه بشؤونهم وبما يستحقون من الجزاء ﴿ يوم هم بارزون لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ ( غافر : ١٦ ).
و الخلاصة : إن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون في الفضائل و المعرفة في الدنيا و ما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.
و هذا التفاوت على مراتب و درجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته إلى الدرك الأسفل.
و هذه الدرجات أثر طبيعي لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.
﴿ و الله بصير بما تعملون ﴾ فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم في تزكية نفوسهم و فوزها و فلاحها و ارتقائها إلى أرفع الدرجات – أو تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة و الخسران و الهبوط إلى أسفل الدركات كما قال :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾( الشمس : ٩-١٠ ).
و لا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شيء علما لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال في الأنفس و لا ما يختلج القلوب من الخواطر و الهواجس.
و بعد أن نفى الغلول و الخيانة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية.
المعنى الجملي : بعد أن حث عز اسمه فيما سلف الجهاد و بين مصير المجاهد في سبيله –أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي و مقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة و قالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له و ألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم عليه الصلاة و السلام " ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ " فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال لهم :" بل ظننتم أنا نغل و لا نقسم "
و يزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية و العقائد الفاسدة من قبل : أي من بعثة الرسول ضلال مبين : أي ضلال بين لا ريب فيه.
﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ﴾ أي إن هذا الرسول ولد في بلدهم و نشأ بين ظهرانيهم و لم يروا منه طوال حياته إلا الصدق و الأمانة و الدعوة إلى الله الأعراض عن الدنيا فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة و غلول ؟
وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضي عظيم المنة :
إنه من أنفسهم أي إنه عربي من جنسهم و بذا يكونون أسرع الناي إلى فهم دعوته و الاهتداء بهديه و أقرب إلى الثقة به من غيرهم إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق و الأمانة إلى ما لهم بذلك من شرف و جليل خطر كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾( الزخرف : ٤٤ ) وقال :
وكم أب علا بابن ذا شرف كما علت برسول الله عدنان
و قد خطب أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بمحضر من بني هاشم و رؤساء مضر فقال :
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل و ضئضيء ( أصل ) معد و جعلنا حضنة بيته وسوَّاس حرمه و جعل لنا بيتا محجوجا و حرما آمنا و جعلنا الحكام على الناس.
ثم إن هذا ابن أخي محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به و هو و الله بعد هذا له نبأ عظيم و خطر جليل.
و تخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به على أن هذه النعمة الكبرى في آيات أخرى كقوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ( الأنبياء : ١٠٧ ).
إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله و وحدانيته و علمه و يوجه النفوس إلى الاستفادة منها و الاعتبار بها جاء في قوله :( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) ( آل عمران : ١٩٠ ) و قوله :﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾ ( الشمس : ١-٢ ) و قوله :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾( الغاشية : ١٧-٢٠ ).
إنه يزكيهم و يطهرهم من العقائد الزائفة و وساوس الوثنية و أدرانها إذ أن العرب و غيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى في أخلاقهم و عقائدهم و آدابهم فكان محمد صلى الله عليه وسلم يقتلع منهم جذور الوثنية و يدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى و مضار تخشى من بعض المخلوقات فيجب تعظيمها و الالتجاء إليها دفعا لشرها و جلبا لخيرها و تقربا إلى خالقها.
و لا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام و عبد الخرافات يخاف في موضع الأمن ويرجو حيث يجب الحذر و الخوف.
( ٤ ) إنه يعلمهم الكتاب و الحكمة فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة و أخرجهم من الأمية إلى نور العلم و العرفان فقد طلب إليهم كتابة القرآن و اتخذ كتبه للوحي و كتب كتبا دعا بها الملوك و الرؤساء إلى الإسلام في سائر الأصقاع المعروفة فانتشرت الكتابة بينهم و عظمت مدنيتهم و امتدت سلطتهم فملكوا الأمم التي كان لها السلطان و الصولة و النفوذ في تلك الحقبة.
كذلك علَّمهم الحكمة و أرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء و معرفة أسرارها و فقه أحكامها و بيان ما فيها من المصالح و الحكم و هداهم إلى طرق الاستدلال و معرفة الحقائق ببراهينها فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها و التمسك بأهدابها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
و الخلاصة : إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة و تعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها و عللها و بيان منافعها.
﴿ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة في ضلال بين واضح و لا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله و يعبدون الأصنام و يسيرون وراء الأوهام و هم على ذلك أميون لا يقرؤون و لا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال.
و إنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة فكان موقعها أعظم إذ إن بعثة الرسول جاءت بعد جهل و بعد عن الحق فكانت أعم نفعا و أتم وقعا.
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١٦٥ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ١٦٦ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ١٦٧ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾( آل عمران : ١٦٥-١٦٨ ).
تفسير المفردات : المراد بالمصيبة : ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم و قتل سبعين منهم و مثليها أي ضعفها بقتل سبعين من المشركين و أسر سبعين منهم يوم بدر أنى هذا ؟ أي كم أين لنا هذا و هو تعجب مما حل بهم من هذا المصاب من عند أنفسكم أي بشؤم معصيتكم
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ﴾ أي لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة فإن خذلانكم فيها لم يبلغ ظفركم في بدر فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه.
فلماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه و أخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد و تسألون عن سببه.
و فائدة قوله قد أصبتم مثلها – التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.
و قد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا : كيف ننصر الإسلام الذي هو الذين الحق و معنا الرسول و هم ينصرون دين الشرك بالله و مع ذلك ينصرون علينا ؟
و قد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين :
( ١ )قوله :﴿ قد أصبتم مثليها ﴾
( ٢ ) قوله :﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة :
( أ ) إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : المصلحة في البقاء في المدينة فلا نخرج إلى أحد فأبيتم إلا الخروج و كان الرأي ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة و الشوارع و رماهم النساء و الصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.
( ب ) إنكم فشلتم و ضعفتم في الرأي.
( ج ) إنكم تنازعتم و حصلت بينكم مهاترة كلامية.
( د ) إنكم عصيتم الرسول صلى الله عليه وسلم و فارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.
و لا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال و الله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال :﴿ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾( آل عمران : ١٢٥ ).
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ فهو القادر على نصركم لو ثبتم و صبرتم و هو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم و عصيتم و هو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات و لا يشذ عن ذلك مؤمن و لا كافر.
فوجود الرسول بينكم و أنتم قد خالفتم سنن الله في البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الجمعان : جمع المؤمنين وجمع المشركين فبإذن الله أي بإرادته الأزلية و قضائه السابق بارتباط بالمسببات بأسبابها فادرؤوا أي فادفعوا إن كنتم صادقين أي في دفع المكاره بالحذر.
﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ﴾ أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد فهو بإذن الله و إرادته و قضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها فكل عسكر يخطئ الرأي و يعصي قائده و يخلى بين العدو و بين ظهره يصاب بمثل ما أصبتم به أو بما هو أشد و أنكى منه.
و في ذلك تسلية للمؤمنين و عبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله :﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾( آل عمران : ١٣٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
﴿ و ليعلم المؤمنين و ليعلم الذين نافقوا ﴾ أي ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان و ضعفه و استفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها و ليعرفوا سنن الله عندما يظهر فيهم حكمها كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان و تبطنوا الكفر فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما و اتقاء للمكروه و احتياطا في الأمر كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا و كرهوا حصوله.
﴿ وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾ أي إن هؤلاء المنافقين دُعُوا إلى القتال و قيل لهم : إن كان في قلبكم حب الدين و الذود عنه فقاتلوا لأجله و إن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم و أهليكم و أموالكم.
و الخلاصة : قاتلوا ابتغاء مرضاة الله و إقامة دينه أو قاتلوا و دافعوا عن أنفسكم و أهليكم ووطنكم لكنهم راوغوا و قعدوا و تكاسلوا.
﴿ قالوا لو نعلو قتالا لاتبعناكم ﴾ أي قالوا : لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم ما أسلمناكم بل كنا نتبعكم لكنا نرى أن الأمر سينتهي بدون قتال.
روى أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول و أصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين و يوقعوا فيهم الفشل.
و لا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق و أنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس و الاستهزاء إذ ذهاب المشركين و هم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا.
﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ أي هم يوم قالوا هذه المقالة :﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾( آل عمران : ١٦٧ ) أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته بانخذالهم عن نصرة المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الخديعة و الاستهزاء فإن الجهاد في سبيل الله و الدفاع عن الأهل و الوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن و لا ينبغي تركه بحال.
يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾( الحجرات : ١٥ ).
وإنما قال : إنهم أقرب إلى الكفر و لم يقل إنهم كفار –منعا للنبر بالكفر بالعلامات و القرائن دون أن يكون هناك كفر صريح و من ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المؤمنين حتى إنه صلى على رئيسهم عبد الله بن أبي صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد إلى أن فضحهم الله بقوله :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾( التوبة : ٨٤ ).
و الخلاصة : إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر بعملهم عمل الكفر بتركهم الجهاد لكنه لم يصرح به بل أومأ إليه تأديبا لهم عسى أن يتوب على من يتمكن الكفر في قلوبهم و منعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب.
{ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم { أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره قلوبهم فهم يظهرون الإيمان باللسان و يبطنون الكفر فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون و يؤيدوا ما يظهرون.
و في ذكر الأفواه و القلوب تصوير لنفاقهم و توضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم.
و الخلاصة : إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه في قلوبهم كقولهم : لو نعلم قتالا و قولهم : لاتبعناكم و هم كاذبون في الأمرين فإنهم كانوا عالمين به و قد أصروا على الانخذال و عزموا على الارتداد.
ثم أكد كفرهم و نفاقهم و بين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشرّ و الفساد فقال :
﴿ و الله أعلم بما يكتمون ﴾ من الكفر و الكيد للمسلمين و تربص الدوائر بهم فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم و يكشف أستارهم ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا و الآخرة.
و الخلاصة : إنه لا ينفعهم النفاق فالله أعلم بما تكنه سرائرهم و قلوبهم.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و بعد أن ذكر قولا قالوه قبل القتال و بين بطلانه – أردفه قولا و قالوه بعده و بين فساده قال :
﴿ الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ﴾ أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في الواقعة و الحال أنهم قعدوا عن القتال و لو أطاعونا في القعود و لم يخرجوا للقتال كما لم نخرج –لما قتلوا كما أنا لم نقتل.
و في هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا.
أخرج ابن جرير عن السُّدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف رجل و فد و عدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم و لئن أطعتنا لترجعن معنا فنعى الله عليهم ذلك بقوله :﴿ الذين قالوا لإخوانهم ﴾ الآية.
وقد دحض الله تعالى حجتهم و أبان لهم كذبهم و وبخهم على ما قالوا فقال لنبيه :﴿ قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ أي قل لهم : إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت في هذه الواقعة و إذا جاز فيها جاز في غيرها و حينئذ يمكنكم درء الموت و دفعه عن أنفسكم.
و الخلاصة : إنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغني عن القدر و أن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم.
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٦٩فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ١٧٠ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ١٧١ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾( آل عمران : ١٦٩-١٧٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
الإيضاح :﴿ و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ﴾ أي و لا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه فيؤثرون الدنيا على الآخرة- أن من قتلوا في سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة و صاروا عدما.
﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ أي بل هم أحياء في عالم آخر غير هذا العالم هو خير للشهداء لما فيه من الكرامة و الشرف عند الله فليس القتل في سبيله بضائرهم إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبطا للمؤمنين عن الجهاد عند و جوبه كما إذا هاجم المشركون المؤمنين في مثل وقعة أحد أو إذا فتن المسلمون عن دينهم و منعوا من الدعوة إليه و إقامة شعائره كما فعل مشركو العرب من المسلمين زمن البعثة.
كيف و الخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها و إذا هاجمها ظفر بها و نال منها ما يريد.
و هذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها و لا نزيد على ما جاء به الوحي.
و قوله :﴿ يرزقون ﴾ تأكيد لكونهم أحياء و تحقيق لهذه الحياة.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
تفسير المفردات : الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة و الذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا في الدنيا
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ﴾ أي مسرورين بشرف الشهادة، و التمتع بالنعيم العاجل، و الزلفى عند ربهم، والفوز بالحياة الأبدية.
﴿ و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴾ أي و يسرُّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله فيلحقوا بهم من خلفهم، أي إنهم بقوا بعدهم و هم قد تقدموهم.
و قوله :{ من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم و يحذون حذوهم قدما بقدم
و في ذكر حال الشهداء و استبشارهم بمن خلفهم حث للباقين بعدهم على زيادة الطاعة و الجد في الجهاد و الرغبة في نيل منازل الشهداء و إصابة فضلهم كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الدين و فيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمآب.
﴿ أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ﴾ أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء و هي أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها و لا حزن من فوات محبوب من نعيمها.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
﴿ يستبشرون بنعمة من الله و فضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾النعمة هي الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله و الفضل هو التفضل الذي يمن الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه و المراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد.
و عبر عنهم الإيمان للإشارة إلى سموّ مكانته ورفعة منزلته و كونه مناط السعادة.
وفي ذلك تحريض على الجهاد و ترغيب في الشهادة و حث على ازدياد الطاعة و بشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.
و قد جاءت هذه الجملة كالبيان و التفسير لقوله :﴿ لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ﴾ لأن من كان في نعمة الله و فضله لا يحزن أبدا و من كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
استجابوا أي أجابوا و أطاعوا و القرح : الجراح في يوم أحد و الإحسان : أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة و التقوى : أن يخاف الإساءة و التقصير فيه
ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال :
﴿ الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾ أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته و لبوا نداءه و أتوا بالعمل على أكمل وجوهه واتقوا عاقبة تقصيرهم على ما هم عليه من جراح و آلام أصابتهم يوم أحد لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.
و في قوله : منهم إشارة إلى أن من دعوا لبوا و استجابوا له ظاهرة و باطنا و لكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا و خرج الباقون.
روى أن أبا سفيان و أصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الرّوْحاء ( موضع بين مكة و المدينة ) ندموا و هموا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم و يريهم من نفسه و أصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان و قال : لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد ( موضع على ثمانية أميال من المدينة ) و كان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر و ألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية.
و تسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد و هي متصلة بغزوة أحد.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
حسبنا الله أي الله كافينا و الوكيل : الكافي الذي توكل إليه الأمور
﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ﴾ أي و هم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعي و من وافقه و أذاع قوله و هم أربعة : إن أبا سفيان و أعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم و لا تخرجوا للقائهم.
روي عن ابن عباس و مجاهد و عكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى.
ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ذاك بيننا و بينك إن شاء الله " فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل ( مجَنّة ) من ناحية ( مر الظهران ) فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم مع معتمرا فقال له أبوا سفيان : إني واعدت محمدا و أصحابه أن نلتقي بموسم بدر و إن هذا عام جدب و لا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر و نشرب فيه اللبن و قد بدا لي أن أرجع و أكره أن يخرج و لا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم و لك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : ما هذا بالرأي أتوكل في دياركم و قراركم و لم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم و قد جمعوا لكم الجموع عن الموسم فوالله لا يفلت منكم أحد فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" و الذي نفسي بيده لأخرجن و لو وحدي " فخرج و معه سبعون راكبا يقولون ﴿ حسبنا الله و نعم الوكيل ﴾ حتى وافى بدرا الصغرى ( بدر الموعد ) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا لأن سفيان رجع بجيشه إلى مكة و كان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السَّويق و قالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافى المسلمون سوق بدر و كانت معهم نفقات و تجارات فباعوا واشتروا أدَمََا وزبيبا فربحوا و أصابوا بالدرهم درهمين و انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
﴿ فزادهم إيمانا ﴾ أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث في قلوبهم عزم و تصميم على محاربة هؤلاء الكافرين و طاعة للرسول في كل ما يأمر به و ينهى عنه و إن أضناهم ذلك و ثقل عليهم لما بهم من جارحات عظيمة و قد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة وشيء من التداوي لكن وثوقهم نبصر الله و تغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.
و الخلاصة : إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله و عظمته و سلطانه و يقينهم بوعد الله ووعيده و تبع ذلك زيادة في العمل و دأب على إنقاذ ما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم و لولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾( الأحزاب : ٢٢ ).
﴿ و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل ﴾أي قالوا معبرين عن صادق إيمانهم بالله : الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلتنا و كثرتهم أو يلقي في قلوبهم الرعب فيكفينا شر بغيهم و كيدهم و قد كان الأمر كما ظنوا فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان و جيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم فولُّوا مدبرين و كان في ذلك عزة لله و لرسوله و للمؤمنين.
أخرج ابن مروديه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله و نعم الوكيل " و أخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه و لحيته ثم تنفس الصُعَدَاء و قال :" حسبي الله و نعم الوكيل ".
و أخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حسبي الله و نعم الوكيل أمان كل خائف ".
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
فانقلبوا أي فرجعوا و المراد بالنعمة : السلامة و الثبات على الإيمان و طاعة الرسول و الفضل : هو الربح في التجارة
﴿ فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء ﴾ أي فخرجوا للقاء عدوهم و لم يلقوا منه كيدا و لا هما و لم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم و قد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم و أطاعوا رسولهم و ربحوا في تجارتهم و لم يمسسهم قتل و لا أذى.
روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مات في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل.
و أخرج ابن جرير عن السدي قل : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.
﴿ واتبعوا رضوان الله ﴾ أي واتبعوا في كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة و السعادة في الدنيا و الآخرة فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر و عنه نهي.
﴿ و الله ذو فضل عظيم ﴾ إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان و التوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد و الجرأة على العدو و حفظهم من كل ما يسوءهم.
و في هذا إلقاء للحسرة في قلوب المتخلفين منهم و إظهار لخطل رأيهم إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.
المعنى الجملي : بعد أن رغب الله المؤمنين في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل و عظيم الأثر و حسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوى مغبتها في دينهم و دنياهم و الخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم و دينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقين بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
المعنى الجملي : روى ابن جرير عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد و إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار و يعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجل الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النارفقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيدي لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشف عورته فقال : أنشدك الله و الرحم يابن عم فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أصحاب علي له : مامنعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمي ناشدني حين انكشف عورته فاستحييت منه ثم شد الزبير بن العوام و المقداد بن الأسواد على المشركين فهزماهم و حمل النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فهزموا أبا سفيان فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحاب في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم و قتلوا منهم نحو سبعين.

و نستخلص من هذه الرواية أمرين :

( ١ ) أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم و أنه قال له لا نزا ل غالبين ما ثبتم مكانكم.
( ٢ ) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم أما الذين بلغ الإيمان قرارة أنفسهم فقد ثبتوا.
وروى الو احدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصبوا بما أصيبوا يوم أحد _ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ فأنزل الله ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ الآية.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا –حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآية المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم و معادهم و كان من جملة ذلك أن عفا عنهم –زاد في الفضل و الإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه و سلم على عفوه عنهم و تركه التغليظ عليهم وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه و كان من جراء ذلك ما كان من الفشل و ظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه و سلم مع من أصيب فصبر و تجلد ولان في معاملة أصحابه و خاطبهم بالرفق و لم يعاتبهم اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الوقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين و عصيانهم و تقصيرهم حتى ذكر الظنون و الهواجس النفسية لكن مع العتب المقترن بذكر العفو و الوعد بالنصر و إعلاء الكلمة.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول و الخيانة ثم برأه منه و بين ما بعث لأجله – عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة و بعدها ة بين خطأهم و ضلالهم في أقوالهم و أفعالهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه و أنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد و القتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله و قدره كما يحدث الموت فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل و من لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ريهم قد خصهم الله بالقرب منه و الكرامة لديه و أعطاهم أفضل أنواع الرزق و أوصلهم إلى مراتب الفرح و السرور.
أخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا فقال الله تعالى :-أنا أبلغهم عنكم – فأنزل الله هؤلاء الآيات "
و الشيطان هنا : شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم و هو نعيم بن مسعود و يخوف أولياءه أي يخوفكم أنصاره من المشركين.
﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء ﴾ أي ليس ذلك الذي قال لكم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياء و أنصاره المشتركين و يوهمكم أنهم عدد كثير و أولوا قوة و بأس شديد و أن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم و تجبنوا عن مدافعتهم.
﴿ فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين ﴾ أي فلا تخافوا أولئك الأولياء و لا تحفلوا بقولهم ﴿ فاخشوهم ﴾ فتخافوهم بل خافوني في مخالفة أمري لأنكم أوليائي و أنا وليكم و ناصركم إن كنتم راسخي الإيمان قائمين بحقوقه فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره و الأمن من شر الشيطان و أوليائه.
و خلاصة ذلك : إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله لذي بيده كل شيء و هو يجير و لا يجار عليه و تذكروا وعده بنصركم و إظهار دينكم على الدين كله و أن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق و اذكروا قوله :﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( البقرة : ٢٤٩ ) ثم خذوا أهبتكم و توكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم.
و في هذه الآية من العبرة :
( ١ ) إن صادق الإيمان لا يكون جبانا فالشجاعة وصف للمؤمن لا يبلغ غيره فيها مداه إذ إن العلة الحقيقية للجبن هي الخوف من الموت و الحرص على الحياة و قلب المؤمن لا يتسع لهما.
و لا يزال العالم إلى اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما مُنِي به المسلمون من ضعف في إيمانهم و جهل بكثير من شؤون دينهم.
( ٢ ) إن في استطاعة الإنسان إن يقاوم أسباب الخوف و يعوِّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين و التربية و تعود الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب.
( ٣ ) إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها في نفسه و تتجسم صورتها في خياله بل يغالبها بصرفها عن ذهنه و شغله بما يضاده ويذهب بآثارها أو يتبدلها بآثار مناقضة لها و هذا يدخل في اختيار الإنسان و هو الذي نيط به التكليف.
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٧٧ وَ لَا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أنََّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمََا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ١٧٨ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( آل عمران : ١٧٦-١٧٩ ).
تفسير المفردات : يسارعون في الكفر : أي يسارعون في نصرته و الاهتمام بشؤونه و الإيجاف في مقاومة المؤمنين حظا في الآخرة أي نصيبا من الثواب فيها
المعنى الجملي : لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان و أصاب النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين شيء كثير من الأذى – أظهر بعض المنافقين كفرهم و صاروا يخوفون المؤمنين و يؤيسونهم من النصر و الظفر بعدوهم و يقولون لهم : إن محمدا طالب مِلك فتارة يكون الأمر له و تارة عليه و لو كان رسولا من عند الله ما غُلِب إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك و يسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية له كما سلاه عما يُحْزِن من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن أو في شخصه عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴾( يونس : ٦٥ ) وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ( الكهف : ٦ ).
الإيضاح :﴿ و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ أي و لا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين و طائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين و اهتمامهم بشأنهم و الإيجاف في مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل و من التثبيط للعزائم و النيل من نبيهم و دعوته و تأليب المشركين عليهم إلى نحو ذلك مما يدور في خَلَد العدو لإيذاء عدوه. ص٨٠
و نحو الآية قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ﴾ ( المائدة : ٤١ ).
و توجبه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له و إيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه.
ثم علل هذا النهي و أكمل التسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدا بقوله :
﴿ إنهم لن يضروا الله شيئا ﴾ أي إنهم لن يضروا أولياء الله و هم النبي و صحبه شيئا من الضر فعاقبة هذه المسارعة في الكفر وبال عليهم لا عليك و لا على المؤمنين فإنهم لا يحاربونك فيضروك و إنما هم يحاربون الله تعالى و لا شك أنهم أعجز من أن يفعلوا ذلك فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم و في جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم و مزيد مبالغة في تسليته صلى الله عليه و سلم.
ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال :
﴿ يريد الله ألا يجعل حظا في الآخرة ﴾ أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك في الكفر و قد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله و إرادته.
﴿ و لهم عذاب عظيم ﴾ أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يُقْدر قدره.
المعنى الجملي : لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان و أصاب النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين شيء كثير من الأذى – أظهر بعض المنافقين كفرهم و صاروا يخوفون المؤمنين و يؤيسونهم من النصر و الظفر بعدوهم و يقولون لهم : إن محمدا طالب مِلك فتارة يكون الأمر له و تارة عليه و لو كان رسولا من عند الله ما غُلِب إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك و يسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية له كما سلاه عما يُحْزِن من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن أو في شخصه عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴾( يونس : ٦٥ ) وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ( الكهف : ٦ ).
اشتروا الكفر : أي أخذوا الكفر بدلا من الإيمان كما يفعل المشتري من إعطاء شيء و أخذ غيره بدلا منه
و بعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر و الدفاع دونه و مقاومة المؤمنين لأجله و أرشد إلى أنه لا يؤبه بهم و لا يهتم بشأنهم فهم إنما يحاربون الله و الله غالب على أمره – أشار هنا إلى أن هذا الحكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان و استبداله به فقال :
﴿ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا و لهم عذاب أليم ﴾ أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا و إعراضا عما تركوا فلن يضروا الله شيئا و إنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقْدَر قدره.
و في هذا الإيماء إلى شيئين :
( ١ ) تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى الله عليه و سلم.
( ٢ ) بيان سُخْف عقولهم و خَطَل آرائهم إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك و هذا دليل على شدة اضطرابهم و عدم ثباتهم و مثل هؤلاء لا يخشى منهم شيء مما يحتاج إلى أصالة الرأي و قوة التدبير.
المعنى الجملي : لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان و أصاب النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين شيء كثير من الأذى – أظهر بعض المنافقين كفرهم و صاروا يخوفون المؤمنين و يؤيسونهم من النصر و الظفر بعدوهم و يقولون لهم : إن محمدا طالب مِلك فتارة يكون الأمر له و تارة عليه و لو كان رسولا من عند الله ما غُلِب إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك و يسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية له كما سلاه عما يُحْزِن من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن أو في شخصه عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴾( يونس : ٦٥ ) وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ( الكهف : ٦ ).
والإملاء : الإمهال و التخلية بين العامل و عمله ليبلغ أقصى مداه من قولهم : أملي لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء و منه الملأ للأرض الواسعة و الملوان : الليل و النهار ليزدادوا إثما : أي لتكون عاقبتهم زيادة الإثم
ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبا في الحياة ليس من الخير لهم فقال :
﴿ و لا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين ﴾ أي لا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم و إطالة أعمارهم خير لأنفسهم فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به في أنفسهم بتزكيتها و تطهيرها من شوائب الأدران و سيئ الأخلاق و ينتفع به الناس في تهذيبهم و تحسين معايشهم و لكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم و سوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم بالتمادي في مكابرة الحق و تأييد سلطان الشر في الخلق.
فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزي في الدنيا و العقاب الدائم في الآخرة و قتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة.
فترغيب أولئك المثبطين عن الجهاد في مثل هذه الحياة و تزيينها لهم مما لا ينبغي أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نُصْب عين العاقل.
و الخلاصة : إن هذا الإمهال و التأخير ليس عناية من الله بهم و إنما هو قد جرى على سنته في الخلق بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هم ثمرة عمله و من مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء علة لغروره و سببا لاسترساله في فجوره و نتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.
و في الآية من العبرة :
( ١ ) إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره و يتمكن من العمل بحسب استعداده.
( ٢ ) إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته و تزداد خيراته فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه و بين ربه و يحاسب نفسه على مقتضاه فإذا فَقِهه و عمل به خرج من الظلمات إلى النور و كان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين.
المعنى الجملي : لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان و أصاب النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين شيء كثير من الأذى – أظهر بعض المنافقين كفرهم و صاروا يخوفون المؤمنين و يؤيسونهم من النصر و الظفر بعدوهم و يقولون لهم : إن محمدا طالب مِلك فتارة يكون الأمر له و تارة عليه و لو كان رسولا من عند الله ما غُلِب إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك و يسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية له كما سلاه عما يُحْزِن من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن أو في شخصه عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴾( يونس : ٦٥ ) وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ( الكهف : ٦ ).
يميز الخبيث من قولهم مزت الشيء بعضه من بعض أي أفرزته وأزلته ومنه الحديث :" من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة " على ما أنتم عليه أي من اختلاط المؤمن بالمنافق و أشباهه و الخبيث و الطيب أي المنافق بالمؤمن و يجتبي : أي يصطفي و يختار.
ثم بين أن الشدائد هي مِحَك صدق الإيمان فقال :
﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ أي ما كان من سنن الله في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها حين غزوة أحد حتى يميز المؤمن من المنافق و يُظْهِر حال كل منهما لأن الشدائد هي التي تميز قوي الإيمان من ضعيفه و تزيل الالتباس بين الصادقين و المنافقين.
أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة و الصدقة القليلة و غيرهما فيقبلها المنافق كما يقبلها صادق الإيمان لما فيها من حسن الأحدوثة و التمتع بمزايا الإسلام.
وفي الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها :
اتقاء المنافق إذا عُلِم نفاقه فقد يفْضِي صادق الإيمان ببعض أسرار الملّة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن به حين يراه يؤدي الواجبات الظاهرة و يشارك الصادقين في سائر الأعمال فإذا هو أفشاها عُرِف حاله و حذِره المسلمون الصادقون.
أن تروز الجماعة حالها إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها و كذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تُرَبِّهِم الشدائد.
إنها تدفع الغرور عن النفس إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما في نفسه من ضعف في الاعتقاد و الأخلاق حتى تمحصه الشدائد و تبين له حقيقة أمره.
و قد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم و حقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة و فلانا من أهل النار فأجاب الله عن هذا فقال :
﴿ و ما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته فإنه تعالى خلقه يحصل رغائبه و يدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدي إليه الفطرة و ترشد إليه النبوة.
و من ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس و يميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد و التضحية بالنفس و بذل المال في سبيل الحق و الخير كما ابْتُلِيَ المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلهم و ابتلي الرماة منهم بالمخالفة و إخلاء ظهور قومهم لعدوهم و ابتلوا بظهور العدو عليهم جزاء ما فعلوا من المخالفة : فظهر نفاق المنافقين و زُلْزِل ضعاف المؤمنين زلزالا شديدا و ثبت كملة المؤمنين و صاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح و الأعاصير.
﴿ و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء ﴾ أي و لكن الله يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر و نفاق و على ما ظهر منهم من أقوال و أفعال كما حكي عنهم بعضه فيما سلف و يفضحهم به على رؤوس الأشهاد و يخلصكم من كيدهم و خداعهم.
و نحو الآية قوله :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾( الجن : ٢٦-٢٧ ).
و في التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم و لا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.
و بعد أن رد على ما طعن به المنافقون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وقوع الكوارث التي حصلت في أحد و بين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب أمرهم بالإيمان به فقال :
﴿ فآمنوا بالله و رسله ﴾ أي فآمنوا بالله و رسله الذين ذكرهم الله في كتابه و قص علينا قصصهم.
و عمم الأمر بالإيمان بهم لأنه صلى الله عليه و سلم مصدق لما بين يديه من الرسل و هم شهداء على صحة نبوته.
﴿ و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم ﴾ أي و إن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب مع تقوى الله بترك ما نهى عنه و فعل ما أمر به فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.
و قل أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر و الرأفة بالفقراء و البائسين و إشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بهما.
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١٨٠ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ١٨١ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ١٨٢ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٨٣ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾( آل عمران : ١٨٠-١٨٤ ).
تفسير المفردات : ما أتاهم : أي ما أعطاهم من المال و العلم و الجاه سيطوقون ما بخلوا به : أي سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة و قد جاء في أمثالهم : تقلدها طوق الحمامة إذا جاء بما يسب به و يذم ميراث السماوات و الأرض : أي ما يتوارثه أهلهما من مال و غيره
المعنى الجملي : كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة مند ربهم في جنات النعيم.
و هنا شرع يحث على بذل المال في الجهاد – و المال شقيق الروح – فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل و أرشد إلى أن المال ظل زائل وأن مدى الحياة قصير و أن الوارثين و الموروثين سيموتون و يبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله و أبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
الإيضاح :﴿ و لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ﴾ أي و لا يظنن أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله و نعمه هو خيرا لهم لأنهم مطالبون بشكران النعم و البخل بها كفران لا ينبغي أن يصدر من عاقل.
و المراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة و في الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد و يهدد استقلالها و يصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.
ففي كل هذه الأحوال يجب بذل المال لأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس.
و ليس الذم و الوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه إذ إن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها و لأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناي بذل كل ما يكسبون و يبقون عُراة جائعين و من ثم قال في حق المؤمنين المهتدين ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾( البقرة : ٣ ).
و جاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا في بذل المال بدون تحديد و لا تعيين و وكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه و ما تحدثه في النفس من أريحية بذل الواجب و الزيادة عليه إذا هو تذكر أن في ماله حق للسائل و المحروم.
﴿ بل هو شر لهم ﴾ أي هو شر عظيم لهم و قد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له لما في بقاء المال في يده من الانتفاع به في التمتع باللذات و قضاء الحاجات و دفع الغوائل و الآفات.
﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا في أعناقهم و يلزمهم ذنبه و عقابه و لا يجدون إلى دفعه سبيلا كما يقال : طوقني الأمر أي ألزمني إياه.
و خلاصة هذا : إن العقاب على البخل لازم لا بد منه.
و قال مجاهد : إن المعنى سيكلفون أن يأتوا ما بخلوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك و يكون ذلك توبيخا لهم على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا و نظير هذا قوله تعالى :﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ ( القلم : ٤٢ ).
و يرى بعضهم أن التطويق حقيقي و أنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوي في أعناقهم فقد روى البخاري و النسائي عن أبى هريرة قال :" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّل له شجاع ( ثعبان ) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بِلِهْزَمَتَيْهِ ( شدقيه ) يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية ".
﴿ و لله ميراث السماوات و الأرض ﴾ أي و لله وحده لا لأحد سواه ما في السماوات و الأرض ما يتوارث من مال و غيره فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد و لا يسلم التصرف فيه لأحد إلى أن يفنى الوارثون و المورثون يبقى مالك الملك و هو الله رب العالمين.
فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه و لا ينفقونه في سبيله و ابتغاء مرضاته.
و في الآية إيماء إلى أن كل ما يُعْطَاه الإنسان من مال و جاه و قوة و علم فإنه عرض زائل و صاحبه فان غير باق فلا ينبغي أن يستبقي الفاني ما هو مثله في الفناء بل عليه أن يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها و بذا يكون خليفة لله في أرضه محسنا للتصرف فيما اسْتُخْلف.
﴿ و الله بما تعملون خبير ﴾ أي و الله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم و لا تنطوي عليه جوانحكم فيجازي كل عامل بما عمل بحسب تأثير علمه في تزكية نفسه أو تدسيتها و نيته في فعله كما جاء في الحديث :" إنما الأعمال بالنيات و إنما لمل امرئ ما نوى ".
المعنى الجملي : كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة مند ربهم في جنات النعيم.
و هنا شرع يحث على بذل المال في الجهاد – و المال شقيق الروح – فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل و أرشد إلى أن المال ظل زائل وأن مدى الحياة قصير و أن الوارثين و الموروثين سيموتون و يبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله و أبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
سنكتب ما قالوا : أي سنعاقب عليه و لا نهمله و نقول ذوقوا عذاب الحريق أصل الذوق وجود الطعم في الفم ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات و الحريق المحرق المؤلم و عذاب الحريق : أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم
﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء ﴾ أي سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة و لم يَخْفَ عليه و سيجزيهم عليه أشد الجزاء.
وهذا أسلوب يتضمن التهديد و الوعيد كما يتضمن البشارة و الوعد بحسن الجزاء في نحو –سمع الله لمن حمده –و يتضمن مزيد العناية و إرادة الإغاثة و إزالة الشكوى في نحو ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ﴾ ( المجادلة : ١ ) إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبة لهم في أقوالهم و يلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى :﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ ( البقرة : ٢٤٥ ) فقالوا يا محمد : أفقير ربك يسأل عباده القرض نحن أغنياء ؟ فأنزل الله ﴿ لقد سمع الله ﴾ الآية.
﴿ سنكتب ما قالوا ﴾ أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه إذ يلزم من كتابة الذنب و حفظه العقوبة عليه و هذا استعمال شائع في اللغة.
﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ أي قتل سلفهم لهم و إنما نسبه إليهم للإشارة إلى أنهم راضوان بما فعلوه.
وهذا يدل على أن الأمم متكافلة في الأمور العامة و يجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر و تغييره أو النهي عنه لئلا يفشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها و عادة مستحكمة فيها فتستحق العقوبة في الدنيا بالضيق و الفقر و العقوبة في الآخرة بتدنيس نفوسها و أن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم و يطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه و يستهجن ما تستهجنه –عد شريكا له في إثمه و مستحقا لمثل عقوبته.
﴿ و نقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي سننتقم منهم و نقول لهم هذه المقالة.
ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا و قتلوا من الأنبياء من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين و أتباع الأنبياء ألوانا من العذاب و أحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء و الكرب فجوزوا بهذا العذاب الشديد و قيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق كما أدقتم أولياء الله في الدنيا ما يكرهون.
و الخلاصة : ذوقوا ما أنتم فيه فلستم بمتخلصين منه و هذا قول يلقى للتشفي الدال على كمال الغيظ و الغضب.
المعنى الجملي : كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة مند ربهم في جنات النعيم.
و هنا شرع يحث على بذل المال في الجهاد – و المال شقيق الروح – فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل و أرشد إلى أن المال ظل زائل وأن مدى الحياة قصير و أن الوارثين و الموروثين سيموتون و يبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله و أبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
﴿ ذلك بما قدمت أيديكم ﴾ أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته بسبب أعمالكم في الدنيا كقتل الأنبياء و وصف الله بالفقر و جميع ما كان منكم من ضروب الكفر و الفسوق و العصيان.
و أضاف العمل إلى الأيدي من قِبَل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد و ليفيد أن ما عُذِّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة لا أنهم أمروا به و لم يباشروه.
﴿ و أن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم و بكونه تعالى عادلا في حكمه و فعله لا يجور و لا يظلم فلا يعاقب غير المستحق للعقاب و لا يجعل المجرمين كالمتقين و الكافرين كالمؤمنين كما قال :﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ ( الجاثية : ٢١ ) و قال :﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ ( القلم : ٣٥-٣٦ ) و قال :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾( ص : ٢٨ ).
و الخلاصة : إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن و المسيء و وضع للشيء في غير موضعه و هو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.
المعنى الجملي : كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة مند ربهم في جنات النعيم.
و هنا شرع يحث على بذل المال في الجهاد – و المال شقيق الروح – فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل و أرشد إلى أن المال ظل زائل وأن مدى الحياة قصير و أن الوارثين و الموروثين سيموتون و يبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله و أبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
عهد إلينا : أي أمرنا في الثوراة و أوصانا القربان : ما يتقرب به إلى الله من حيوان و نقد و غيرهما و المراد من النار التي تنزل من السماء
﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف و مالك بن الصيف و فنحاص بن عازوراء في جماعة آخرين أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله و أنه تعالى أوحى إليك كتابا و قد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار و يكون للنار دوي خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت الآية.
وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة فإذا تُقْبَلْ منه نزلت نار من السماء فأكلت ما نصدق به.
لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم و أباطليهم و أكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو و سائر المعجزات سواء و ما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لن يأت بما قالوه و لو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله :
﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات و بالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ أي قل موبخا لهم و مكذبا : قد جاءكم رسل كثيرون من قبلي كزكريا و يحيى و غيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم و بما كنتم تقترحون و تطلبون و أتوا بالقربان الذي تأكله النار فما لكم لم تؤمنوا بهم بل اجترأتم على قتلهم ؟ و هذا دليل على أنكم قوم غلاط الأكباد ( و بذلك وصفوا في التوراة ) قساة القلوب لا تفقهون الحق و لا تذعنون له و أنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا بل تعنتا و عنادا.
وقد نسب هذا الفعل إلى من كان في عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم لأنهم راضون عما فعلوه معتقدون أنهم على حق في ذلك و الأمة في أخلاقها العامة و عاداتها كالشخص الواحد و قد كان هدا معروفا عند العرب و غيرهم فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته و يؤاخذونها بها.
و الخلاصة : إن أسلافكم كانوا متعنتين و ما أنتم إلا كأسلافكم فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان إذ لا فائدة منه.
المعنى الجملي : كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة مند ربهم في جنات النعيم.
و هنا شرع يحث على بذل المال في الجهاد – و المال شقيق الروح – فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل و أرشد إلى أن المال ظل زائل وأن مدى الحياة قصير و أن الوارثين و الموروثين سيموتون و يبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله و أبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
و البينات : هي المعجزات الواضحة و الزبر واحدها زبور : و هو الكتاب و المنير : الواضح.
﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات و الزبر والكتاب المنير ﴾ أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة و المعجزات الواضحة و الكتاب الهادي إلى سواء السبيل مع استنارة الحجة و الدليل – فلا تأس عليهم و لا تحزن لعنادهم و كفرهم و لا تعجب من فساد طَوِيَّتهم و عظيم تعنّتهم فتلك سنة الله في خليقته فقد كُذِّب رسل من قبلك جاؤوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات و هَزُّوا القلوب بالزواجر و العظات و أناروا بالكتاب سبيل النجاة فلم يُغْنِ ذلك عنهم شيئا فصبروا على ما نالهم من أذى و ما نالهم من سخرية و استهزاء.
و في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق و يُقْبِل عليه بصدر رحب و نفس مطمئنة و منهم من يقاوم الحق و الداعي إليه و يسفه أحلام معتنقيه.
فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك و لا أن يفنّدوا حجتك فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق و تحري سبل الخير.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ ١٨٥ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ ( آل عمران : ١٨٥-١٨٦ ).
تفسير المفردات : توفون أجوركم : أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة زحزح عن النار : نُحِّي عنها فاز سعد و نجا و المتاع : ما يُتَمتع و ينتفع به مما يباع و يشترى و الغرور : إصابة الغِرَّة و الغفلة ممن تخدعه و تغشَّه لتبلونَّ : أي لتختبرُن أي لتعاملُنَّ معاملة لمختَبَرين لتظهر حالكم على حقيقتها في أموالكم : أي بالبذل في سبيل الله و بالجوائح و الآفات وفي أنفسكم : أي بالقتل و الأسر في سبيل الله و بالأمراض وفقد الأقارب
المعنى الجملي : بعد أن سلَّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرََا من الرسل قبلك قد كُذِّبوا كما كُذِّبت و لاقَوْا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت بل أشد مما لاقيت فقد قتلوا كثيرا منهم كيحيى و زكرياء عليهما السلام- زاده هنا تسلية و تعزية أخرى فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو مُنتهِِِِِ إلى غاية و كل آت قريب فلا تضجر و لا تخزن على ما ترى منهم و أنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء كما تجازى و حسبك ما تصيب من حسن الجزاء و حسبهم ما أصيبوا به و ما يصابون به من الجزاء في الدنيا و سيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.
الإيضاح :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن و تحس به و في هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن لأن الذي يذوق هو الموجود و الميت لا يذوق فالذوق شعور لا يحسّ به إلا الحي.
﴿ و إنما توفون أجوركم يوم القيامة ﴾ أي و إنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة و في ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خير أو شرّ قد تصل إليهم في الدنيا جزاء أعمالهم و يؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ".
{ فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز { أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الأسمى و الغاية التي لا مطلب بعدها و قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من أحب أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتدركه منيَّته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر و ليُؤْتِ إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه ".
و الخلاصة : إن هناك جنة و نارََا و إن من الناس من يلقى في هذه و منهم من يلقى في تلك و إن هول النار عظيم و عبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مُشْرِفَاَ على السقوط فيها لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها و لا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح فالزحزحة عنها فوز عظيم و أولئك المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم و جاهدوا في الله حق جهاده و لم يبق في نفوسهم شائبة اشراك غير الله معه في عمل من أعمالهم.
﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾أي و ما حياتنا القربى التي نحن فيها و نتمتع بلذاتها الحسية من مأكل و مشرب أو المعنوية كالجاه و المنْصب و السيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها و تشغله كل حين بجلب لذاتها و دعف آلامها فهو يتعب لما لا يستحق التعب و يشقى لتوهم السعادة.
و الخلاصة : إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان و يشغله عن تكميل نفسه بالمعارف و الأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة.
فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه و إنفاق الوقت فيما لا يفيد إذ ليس للذاتها غاية تنتهي إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى.
فما قضى أحد منها لبانته و لا انتهى أرب منها إلا إلى أرب
و عليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله أو عمل صالح ينتفع به و ينفع عباده مع إصلاح السريرة و خلوص النية وقد قال بعض الصوفية :" عليك بنفسك أن لم تشغلها شغلتك ".
المعنى الجملي : بعد أن سلَّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرََا من الرسل قبلك قد كُذِّبوا كما كُذِّبت و لاقَوْا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت بل أشد مما لاقيت فقد قتلوا كثيرا منهم كيحيى و زكرياء عليهما السلام- زاده هنا تسلية و تعزية أخرى فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو مُنتهِِِِِ إلى غاية و كل آت قريب فلا تضجر و لا تخزن على ما ترى منهم و أنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء كما تجازى و حسبك ما تصيب من حسن الجزاء و حسبهم ما أصيبوا به و ما يصابون به من الجزاء في الدنيا و سيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.
الذين أوتوا الكتاب : هم اليهود و النصارى و الذين أشركوا هم كفار العرب أذى كثيرا كالطعن في الدين و الافتراء على الله ورسوله و الصبر : تلقي المكروه بالاحتمال و كظم النفس عليه مع دفعه بروية و مقاومة ما يحدث من الجزع و التقوى : الابتعاد عن المعاصي من عزم الأمور : أي من صواب التدبير و ما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه و يأخذ نفسه به من قولك : عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه.
﴿ لتبلون في أموالكم و أنفسكم ﴾ بعد أن سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما سبق آنفا زاد في تسليته بهذه الآية و أبان له أنه كما لقي هو و من معه من الكفار أذى أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء في النفس أو في المال و المقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر و ترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم.
و الابتلاء في الأموال يكون بالبذل في جميع وجوه البر التي ترفع شأن الأمة الإسلامية و تدفع عنها أعداءها و ترد عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض و الأوبئة
والابتلاء في الأنفس يكون ببذلها في الجهاد في سبيل الله و بموت من تحب من الأهل و الأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق و فائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب و فائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية و نهيئ أنفسنا لمقاومتها فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر و يحيط به الغم حتى ليقتله في بعض الأحايين لكنه إذا استعد لها اضطلع بها و قوي على حملها.
و كذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها فإنها تحدث له دهشة و تهيجا في الأعصاب و ربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلي أو موت فجائي و الحوادث المشاهدة في هذا الباب كثيرة.
﴿ و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ هذا سبيل آخر من الابتلاء في الأنفس و خصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود و النصارى و المشركين و من ذلك حديث الإفك ( قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ) و تألب اليهود عليهم و نقض عهودهم و محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم و اتفاق اليهود مع أحزاب المشركين و زحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين فقد حاصروهم و أوقعوا بهم شديد البلاء و ضيقوا عليهم وفي ذلك يقول الله تعالى :﴿ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ ( الأحزاب : ١٠-١١ ).
﴿ و إن تصبروا و تتفقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾أي و إن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء في أموالكم و أنفسكم و على ما تسمعون من أهل الكتاب و المشركين من الأذى و تتقوا ما يجب اتقاؤه فإن ذلك الصبر و التقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية و الشرف.
روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم و يحرض عليه كفار قريش في شعره و كان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة و أهلها أخلاط من المسلمين و المشركين و اليهود فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون و اليهود يؤذونه و يؤذون أصحابه أشذ الأذى فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك و فيهم أنزل الله تعالى :﴿ و لتسمعن من الدين أوتوا الكتاب ﴾ الآية.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ١٨٧ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٨٨ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ( آل عمران : ١٨٧-١٨٩ ).
تفسير المفردات : الميثاق : العهد المؤكد و الذين أوتوا الكتاب : هم اليهود و النصارى لتبيننه للناس أي لتطهرن جميع ما فيه من الأحكام و الأخبار التي جملتها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و لا تكتمونه : أي لا تؤولونه و لا تلقون الشبه الفاسدة و التأويلات المزيفة فنبذوه وراء ظهورهم : أي طرحوه و لم يعتدوا به و يقال للأمر المعتنى به جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، واشتروا به تمنا قليلا : أي شيئا من حطام الدنيا
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن اليهود شبها و مطاعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و أجاب عنها بما علمت فيما سلف أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم و غريب أمرهم و أنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته و لا أن يوجهوا شبها لدينه ذاك أن اليهود و النصارى أمروا بشرح ما في التوراة و الإنجيل و بيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم و صدق رسالته فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن و الشبه و كانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده و الذود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به و توكيد دعوته فالعقل قاض بأن يظاهروه و دينهم حاكم بأن يؤيدوه و من العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل و النقل وراءهم ظهريا و هل مثل هؤلائ يجدي معهم الحجاج و الجدل أو تقنعهم قوة الدليل و الحجة
الإيضاح :﴿ و إذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه ﴾ أي و اذكروا حين أخذ الله العهد و الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصارى بلسان أنبيائهم ليبين كتابهم للناس غير كاتمين له بأن يوضحوا معانيه كما هي و لا يؤولوه و لا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها و يذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع اضطراب و لا لبس في فهمه.
فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه و لا يكون هذا بيانا و لا كشفا لأغراضه و مقاصده و إما ألا يبينوه بتاتا و يكون هذا كتمانا له.
و هذه الآية و إن كانت لليهود و النصارى فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا فإنهم مع حفظهم لكتابهم و تلاوتهم إياه في كل مكان في الشوارع و الأسواق و مجتمعات الأفراح و الأحزان –تركوا تبيينه للناس ففقدوا هدايته و عميت عليهم عظاته و زواجره و حكمه و أسراره و اعترفوا بأنهم انحرفوا عنه و صار القابض على دينه كالقابض على الجمر.
و تبيين الكتاب على ضربين :
( ١ ) تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.
( ٢ ) تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم و إرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم.
وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه و كفى بهذه الآية حجة عليهم و هي آكد من قوله :﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ( آل عمران : ١٠٤ )
﴿ فنبذوه وراء ظهورهم ﴾أي لم يبالوا به و لم يهتموا بشأنه و قد كان من الواجب عليهم لأن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه و لا يفكر في أمره فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا – ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار و منهم الذين يحرفونه عن مواضعه و منهم الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها و قراءات يقرؤونها.
و إن هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم و نهجوا نهجهم حذو القُذَّة بالقذة فما بالهم عن التذكرة معرضين و كتاب الله بين أيديهم و شاهد عليهم و هو يتلى بين ظهرانيهم.
﴿ اشتروا به ثمنا قليلا ﴾ أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا في هذا البيع و الشراء وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية و شهواتها الفاسدة و كانوا يؤولون الكتاب و يحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم و مالهم.
﴿ فبئس ما يشترون ﴾ أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها و هديها بإرشاده و تهذيب أخلاقها بآدابه و جمع كلمتها حول تعاليمه و بذا تحول بينها و بين المستبدين فيها و تصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة أمر أهلها بينها شورى.
و قد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا و عن أبي هريرة أنه قال : لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم و تلا هذه الآية و عن الحسن أنه قال : لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن اليهود شبها و مطاعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و أجاب عنها بما علمت فيما سلف أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم و غريب أمرهم و أنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته و لا أن يوجهوا شبها لدينه ذاك أن اليهود و النصارى أمروا بشرح ما في التوراة و الإنجيل و بيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم و صدق رسالته فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن و الشبه و كانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده و الذود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به و توكيد دعوته فالعقل قاض بأن يظاهروه و دينهم حاكم بأن يؤيدوه و من العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل و النقل وراءهم ظهريا و هل مثل هؤلائ يجدي معهم الحجاج و الجدل أو تقنعهم قوة الدليل و الحجة
الفانية بما أوتوا : أي بما فعلوا أن يحمدوا : أي يحمدهم الناس بمفازة من العذاب : أي بمنجاة منه من قولهم : فاز فلان إذا نجا.
﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا و يحبون أن يحمدوا بما لن يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ﴾ كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب و أنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا في ذلك و تركوا العمل به و اشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.
وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم ليحذر المؤمنين منها و هو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل و التحريف للكتاب و يرون لأنفسهم شرفا فيه و فضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم و كانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب و مفسروه و هم لم يفعلوا شيئا من ذلك و إنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام و أهواء العامة.
و من عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله و أنصار دينه و علماء كتابه و أنهم أبعد الناس عن عذابه و أقربهم من رضوانه فبين الله كذب هذا الحسبان و نهى عنه و سجل عليهم العذاب.
و الخلاصة : لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك و يحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه و ناجون من العذاب الدنيوي و هو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها و ساءت أعمالها و ألفت الفساد و الظلم و هو ضربان :
( ١ ) عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري بخذلان أهل الباطل و الإفساد و ذهاب استقلالهم و نصرة أهل الحق عليهم تمكينهم من رقابهم و ديارهم و أموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد و العدل مكان الظلم ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ ( هود : ١٠٢ ).
( ٢ ) عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال و الخسف و الطوفان و غير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم و كذبوهم و آذوهم عند اشتداد عتوهم و إيذائهم لرسلهم.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق و أخبروه بخلافه و أرواه أنهم قد صدقوا و استحمدوا إليه و فرحوا بما فعلوا فأطله الله رسوله على ذلك و سلاه بما أنزل من وعيدهم.
﴿ و لهم عذاب أليم ﴾ أي عذاب عظيم في الآخرة كفاء فساد أخلاقهم و سوء طويتهم و حبهم للحمد الكاذب و قوله بما أوتوا أي بما فعلوا.
قال صاحب الكشاف : أتى و جاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾ ( مريم : ٦١ )و قال :{ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا :( مريم : ٢٧ ) و قوله فلا تحسبنهم تأكيد لقوله : لا تحسبن الذين و قد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه و بين معموله قال الزجاج : العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك و كلمك بكذا و كذا فلا تظننه صادقا فيفيد لا ظنن توكيدا و توضحا و الفاء زائدة كما في قوله :
فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
المعنى الجملي : بعد أن حكي سبحانه عن اليهود شبها و مطاعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و أجاب عنها بما علمت فيما سلف أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم و غريب أمرهم و أنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته و لا أن يوجهوا شبها لدينه ذاك أن اليهود و النصارى أمروا بشرح ما في التوراة و الإنجيل و بيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم و صدق رسالته فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن و الشبه و كانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده و الذود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به و توكيد دعوته فالعقل قاض بأن يظاهروه و دينهم حاكم بأن يؤيدوه و من العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل و النقل وراءهم ظهريا و هل مثل هؤلائ يجدي معهم الحجاج و الجدل أو تقنعهم قوة الدليل و الحجة
﴿ و لله ملك السماوات و الأرض و الله على كل شيء قدير ﴾ أي لا تحزنوا أيها المؤمنون و لا تضعفوا و بينوا الحق و لا تكتموا منه شيئا و لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا و لا تفرحوا بما عملتم فإن الله يكفيكم ما أهمكم و يغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن لله ملك السماوات و الأرض يعطي من يشاء و هو على كل شيء قدير و لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم و ألسنتهم من أهل الكتاب و المشركين.
وفي هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه و فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم و للمؤمنين ووعد له بالنصر و فيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم و أعمالهم إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه و آثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ١٩٠ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ١٩١ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ١٩٢ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ١٩٣ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ١٩٤ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ ( آل عمران : ١٩٠-١٩٥ ).
تفسير المفردات : الخلق : التقدير و الترتيب الدال على النظام و الإيقان و السماوات : ما علاك مما تراه فوقك و الأرض : ما تعيش عليه اختلاف الليل و النهار : تعاقبهما و مجيء كل منهما خلف الآخر. لآيات : لأدلة على وجود الله و قدرته الألباب و احدها لب و هو العقل
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
الإيضاح :﴿ إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب ﴾ أي إن في نظام السماوات و الأرض و بديع تقديرهما و عجيب صنعهما و في اختلاف الليل و النهار و تعاقبهما بنظام دقيق طوال العام نرى آثاره في أجسامنا و عقولنا بتأثير حرارة الشمس و برد الليل و في الحيوان و النبات و غير ذلك-لآيات و دلائل على وحدانية الله و كمال علمه و قدرته.
عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" هل لك يا عائشة أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي " فقلت يا رسول الله إني لأحب قربك و أحب هواك ( ما تهوى و تريد ) قد أذنت لك فقام إلى قربة ماء في البيت فتوضأ و لم يكثر في صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن و جعل يبكي حتى بلغت الدموع حِقْوَيْهِ ثم جلس فحمد الله و أثنى عليه و جعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يِؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له : يا رسول الله أتبكي و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فقال " يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال : و ما لي لا أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة :﴿ إن في خلق السماوات و الأرض ﴾الخ ثم قال " ويل لمن قرأها و لم يتفكر فيها " وروي :" ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأملها ".
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
قياما و قعودا واحدهما قائم و قاعد باطلا أي عبثا لا فائدة منه سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك قنا عذاب النار : أي اجعل العمل الصالح وقاية لنا من عذاب النار
﴿ و الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم ﴾ أي أولوا الألباب هم الذين ينظرون و يستفيدون و يهتدون و يستحضرون عظمة الله و يتذاكرون حكمته و فضله و جليل نعمه في جميع أحوالهم من قيام و قعود و اضطجاع.
و الخلاصة : إنهم هم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره و استغراق سرائرهم بمراقبته.
و ذكر الله وحده لا يكفي في الاهتداء بل لا بد معه من التفكير في بديع صنعه و أسرار خليقته و من ثم قال :
﴿ و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ﴾ أي و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض و ما فيهما من الأسرار و المنافع الدالة على العلم الكامل والحكمة البالغة و القدرة التامة.
و الخلاصة : إن الفوز و النجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله و التفكر في مخلوقاته من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم و القدرة و يتبع ذلك صدق الرسل و أن الكتب التي أنزلت عليهم مفصلة لأحكام التشريع حاوية لكامل لآداب و جميل الأخلاق و لما يلزم نظم المجتمع في هذه الحياة و للحساب و الجزاء على الأعمال بدخول الجنة و النار.
و إنما ذكر التفكر في خلق الله لورود النهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته و صفاته فقد أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه و هم يتفكرون فقال :" تفكروا في الخلق و لا تفكروا في الخالق " و عم ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله تعالى "
﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ﴾ أي يقول الذاكرون المتفكرون : ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية و الأرضية باطلا و لا أبدعته عبثا سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل و العبث بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة و مصالح عظيمة.
و الإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا فإن لحقه الفناء و تفرقت منه الأجزاء و بعد مفارقة الأرواح للأبدان فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى كما بدأته في النشأة الأولى فريق أطاعك و اهتدى و فريق حقت عليه الضلالة فالأول يدخل الجنة بصالح أعماله و الآخر يكب في النار بما اجترح من السيئات و ما عمل من الموبقات جزاء وفاقا.
و الخلاصة : إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى الله بمثل هذا الثناء و الدعاء و الابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة و واسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه و في هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه و كرمه في بدائع خلقه.
﴿ فقنا عذاب النار ﴾ أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار.
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
و يقال أخزاه : أي أذله و أهانه الذنب : هو التقصير في المعاملة بين العبد و ربه
﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ أي إنهم بعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول دلالة على عظم هذا العقاب و شدته و هو الخزي و الفضيحة ليكون موقع السؤال أعظم لأن من طلب من ربه شيئا و شرح عظم المطلوب و قوته كانت الداعية إلى الدعاء أكمل و الإخلاص في الطلب أشد.
﴿ و ما للظالمين من أنصار ﴾ الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم و قد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوزه و ظلمه و للتشنيع عليه بهذا العمل القبيح.
أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار و الحكم فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه و أن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه.
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
و السيئة : هي التقصير في حقوق العباد و معاملة الناس بعضهم بعضا و توفنا أي أمتنا و الأبرار و احدهم بار : و هو المحسن في العمل
﴿ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ المنادى هو الرسول و ذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء أي إنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق معرفته بالذكر و الفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم و استجابتهم دعوته سراعا بدون تلبث بهذا القول لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة و بصيرة في عالم الغيب و الحياة الآخرة.
و في تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم و عدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة و الابتهال إلى من عودهم الإحسان و الإفضال.
﴿ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عن سيئاتنا و توفنا مع الأبرار ﴾ الغفران : الستر و التغطية يقال : رجل مكفر بالسلاح أي مغطى به قال : لبيد :" في ليلة كفر النجوم ظلامها ".
أي إنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء : غفران الذنوب المتقدمة وتكفير السيئات المستقبلة و أن تكون وفاتهم من الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطى ألفا قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ﴾ ( النساء : ٦٩ ).
و في هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله " و من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ".
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
على رسلك : أي على تصديق رسلك و الميعاد : الوعد استجاب : أي أجاب لا أضيع عمل عامل : أي لا أترك ثوابه بعضكم من بعض : أي مختلطون متعاونون في سبيلي : أي بسبب طاعتي و عبادتي و ديني.
﴿ ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾ أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا و النعيم في الآخرة جزاء على تصديق رسلك و إتباعهم.
و خلاصة ذلك : إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار و في هذا استشعار بتقصيرهم و عدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق الله و مزيد عنايته.
﴿ و لا تخزنا يوم القيامة ﴾ أي و لا تفضحنا و لا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها.
﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان و صالح العمل فقد وعدت بسيادة الدنيا في قولك :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ﴾ ( النور : ٥٥ ) و قلت :﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ﴾ ( محمد : ٧ ) ووعدت بسعادة الآخرة فقلت :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ( التوبة : ٧٢ ).
المعنى الجملي : قال الرازي : اعلم المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب و الأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الكلام و الجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد و الألوهية و الكبرياء و الجلال فذكر هذه الآية.
وروى الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات الخ فليتفكروا فيها.
﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ﴾ أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم لصدقهم في إيمانهم و ذكرهم و تفكيرهم و تنزيههم لربهم و تصديقهم للرسل و شعورهم بالضعف و التقصير في الشكر و احتياجهم إلى المغفرة.
و إنا لنستخلص من هذه الآية أمورا :
( ١ ) إن الاستجابة يصح أن يكون بغير ما طلب فقد سألوه غفران الذنوب و تكفير السيئات و الوفاة مع الأبرار فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله و في ذلك تنبيه إلى أن العبرة في النجاة من العذاب و الفوز بحسن الثواب إنما تكون بإحسان العلم و الإخلاص فيه.
( ٢ ) إن الذكر و الأنثى متساويان عند الله في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لا يغتر الرجل بقوته و رياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها.
( ٣ ) إن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله : بعضكم من بعض فالرجل مولود من المرأة و المرأة مولودة من الرجل فلا فرق بينهما في البشرية و لا تفاصل إلا بالأعمال.
( ٤ ) إنها رفعت قدر النساء المسلمات في أنفسهن و عند الرجال المسلمين.
( ٥ ) إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة و اعترف لها بالكرامة و أنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل و بعضها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة و مساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا و لا تزال شرائعهم الدينية و المدنية تميز الرجل من المرأة نعم إن المسلمين قصروا في تعليم النساء و تربيتهن لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه.
( ٦ ) إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم و العقل و ما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال وجعل حظ الرجل في الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقه امرأته فلا دخل لشيء منه في التفاضل عند الله بثواب و عقاب.
﴿ فالذين هاجروا و أخرجوا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم و لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ بعد أن ربط الله الجزاء بالعمل بين أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات و دخول الجنات هو الهجرة من الوطن في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم و الإخراج من الديار بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج و الإيذاء في سبيل الله و القتال و القتل و بذل المهجة لله عز وجل كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم و يدخلهم جنات من تحتها الأنهار.
و لهذه الآية نظائر في الكتاب الكريم كقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ( الأنفال : ٢ ) وقوله :﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ٣٣ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ ( المعارج : ١٩-٢٢ ) وقوله ﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ ( العصر : ١-٣ ).
و قد ذكر الله صفات المؤمنين هكذا لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا و نختبرها فإن رأيناها تحتمل الأذى في سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها و إلا فلنروضها حتى تصل إلى هذه المنزلة و السر في هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره و يؤيده و يقاوم الباطل و أعوانه حتى تكون كلمة الله هي العليا و كلمة الباطل هي السفلى فيجب على الأنصار الحق ألا يفشلوا و لا ينهزموا بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن و الأرزاء فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين.
﴿ ثوابا من عند الله ﴾ الثواب و المثوبة الجزاء و قد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل فللأعمال تأثير في نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة في الآخرة أو تدسيتها فتكون معذبة فيها.
و قد وعد الله تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة :
( ١ ) محو السيئات و غفران الذنوب و دل على ذلك بقوله :﴿ لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ و ذلك طلبوه بقولهم :﴿ فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عنا سيئاتنا ﴾.
( ٢ ) إعطاء الثواب العظيم وهو قوله :﴿ و لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ و هذا ما طلبوه بقولهم :﴿ وآتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾
( ٣ ) أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم و الإجلال و هو قوله :﴿ من عند الله ﴾ و هذا ما طلبوه بقولهم ﴿ ولا تخزنا يوم القيامة ﴾ و المعنى لأكفرن عنهم سيئاتهم و لأدخلنهم الجنات و لأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيرُه.
﴿ و الله عنده حسن الثواب ﴾ أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره و هذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب لأنه تعالى قادر على كل شيء غني عن كل أحد فهو لا محالة في غاية الجود و الكرم و الإحسان.
﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ١٩٦ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ١٩٧ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ١٩٨ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ١٩٩يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ( آل عمران : ١٩٦-٢٠٠ )
تفسير المفردات : تقول : غرني ظاهرة أي قبلته على غفلة عن امتحانه و يقال في الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه : رددته على غرِّه تقلب الذين كفروا : تصرفهم قي التجارب و المكاسب
المعنى الجملي : بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم و كانوا في الدنيا في غاية الفقر و الشدة و الكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم و يصبرهم على تلك الشدة فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء من حظوظ الدنيا و ذكر أنها متاع قليل زائل فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه و بين النعيم الخالد المقيم.
الإيضاح :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ﴾ أي لا يغرنك يا محمد و المراد أمته فكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء و يراد أتباعه وهذا معنى ما روي عن قتادة أنه قال : و الله ما غروا نبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله.
و خلاصة المعنى : لا يغرنكم أمنكم على أنفسهم و تصرفهم في البلاد كيف شاؤوا و أنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب فعلى المؤمن إن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم لحقيقي الباقي.
المعنى الجملي : بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم و كانوا في الدنيا في غاية الفقر و الشدة و الكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم و يصبرهم على تلك الشدة فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء من حظوظ الدنيا و ذكر أنها متاع قليل زائل فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه و بين النعيم الخالد المقيم.
متاع قليل : أي ذلك الكسب و الربح متاع قليل و إنما وصفه بالقلة لأنه قصير الأمد مأواهم : مصيرهم جهنم هي الدار التي يجازي فيها الكافرون في الآخرة و المهاد : المكان الموطأ كالفراش
﴿ متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد ﴾ أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا بما جنته أنفسهم و كسبته أيديهم.
نزلت الآية في مشركي مكة إذا كانوا يضربون في الأرض يتَّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد و الإيقاع بهم أينما ثَقِفوهم وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها.
وقد روي من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال : إن أعداء الله فيما نرى من الخير و قد هلكنا من الجوع و الجهد فنزلت الآية.
المعنى الجملي : بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم و كانوا في الدنيا في غاية الفقر و الشدة و الكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم و يصبرهم على تلك الشدة فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء من حظوظ الدنيا و ذكر أنها متاع قليل زائل فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه و بين النعيم الخالد المقيم.
و النزل : ما يهيأ للضيف النازل و الأبرار : واحدهم بار و هو المتصف بالبر
و بعد أن بين حال الكافرين و مآل أمرهم و ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم في القسمة غير مغبونين فقال :
﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله ﴾ أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا.
و نحو الآية قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ ( الكهف : ١٠٧ ) وفي الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه و يخصهم بكرمه و جوده و هذه الجنات نعيم جسماني لهم و هناك نعيم روحاني أعطاه الله بمحض الفضل و الإحسان و إليه الإشارة بقوله :
﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾ أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير و أفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.
المعنى الجملي : بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم و كانوا في الدنيا في غاية الفقر و الشدة و الكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم و يصبرهم على تلك الشدة فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء من حظوظ الدنيا و ذكر أنها متاع قليل زائل فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه و بين النعيم الخالد المقيم.
خاشعين : أي خاضعين
﴿ و إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله و ما أنزل إليكم و ما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ بعد أن بين حال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب و حال الكافرين و ما هيأ لهم من العقاب و ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية و الشرف :
الأولى : الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك و لا يفارقه الإذعان الباعث على العمل لا كمن قال الله فيهم :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ ( يوسف : ١٠٦ )
الثانية : الإيمان بما أنزل إلى المسلمين و هو ما أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
الثالثة : الإيمان بما أنزل إليهم و هو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم و المراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير في ذلك ضياع بعضه و نسيان بعضه الآخر.
الرابعة : الخشوع و هو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب و منه تفيض على الجوارح و المشاعر فيخشع البصر بالانكسار و يخشع الصوت بالخفوت و التهدج.
الخامسة : عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله.
روى النسائي من حديث أنس قال : لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلوا عليه " قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي فأنزل الله هذه الآية :
﴿ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات و جليل الأعمال لهم ثواب أعمالهم و أجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه و هداهم إلى الحق في وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم و انطوت عليه جوانحهم و هو مكتوب في صحائف أعمالهم فما أحرانا إن نشبهها بالصور المتحركة ( الأفلام ) التي تعرض فيها الحوادث و الوقائع في عصرنا الحاضر.
المعنى الجملي : بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم و كانوا في الدنيا في غاية الفقر و الشدة و الكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم و يصبرهم على تلك الشدة فبين لهم حقارة ما أوتي هؤلاء من حظوظ الدنيا و ذكر أنها متاع قليل زائل فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه و بين النعيم الخالد المقيم.
اصبروا : أي احبسوا نفوسكم عن الجزع بما ينالها و صابروا : أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله و رابطوا : أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم حابسين لها مترصدين للغزو و التقوى : أن تقي نفسك من غضب الله و سخطه و الفلاح : هو الفوز و الظفر بالبغية المقصود من العمل.
وقد ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء و أحق بالنصر في الدنيا و حسن المثوبة في الآخرة فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾أي اصبروا على شدائد الدنيا و آلامها من مرض و فقر و خوف و صابروا : أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم و يدخل في ذلك احتمال الأذى من الأهل و الجيران و ترك الانتقام ممن يسيء إليكم كما قال :﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ( الأعراف : ١٩٩ )و إيثار غيركم على أنفسكم كما قال :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾( الحشر : ٩ ) و العفو عمن ظلمكم كما قال :﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾( البقرة : ٢٣٧ )و دفع شبه المبطلين و حل شكوكهم و الإجابة عن شبههم و قوله ورابطوا : أي اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ) و يدخل في هذا كل ما ولده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل و دبابات و مدافع رشاشة و بنادق و أساطيل بحرية و نحو ذلك مما صار ضروريا من آلات الحروب الحديثة و صار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدججا به و يلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب و الخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية و الرياضية فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر لأن الاستعداد لا يتم إلا به و لقد أكثر الله في كتابه ذكر التقوى و يراد بها الوقاية من سخط الله و غضبه و لا يكون إلا بعد معرفته ما يرضيه و ما يسخطه و لا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله و عرف سنة نبيه و سيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية و من فعل كل ما تقدم فصبر و صابر ورابط لحماية الحق و أهله و نشر دعوته و اتقى ربه في سائر شؤونه فقد أفلح و فاز بالسعادة عند ربه.
و هذا الفوز و الفلاح بالبغية قد يكون في شؤون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون :﴿ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾ ( طه : ٦٤ )و قد يكون في شؤون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف :﴿ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ ( الكهف : ٢٠ ).
وقد يكون فيهما معا و أكثر ما جاء في القرآن من هذا كالذي نحن فيه فإن مصابرة الأعداء و المرابطة و التقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء في الدنيا كما أنها من أسباب السعادة في الآخرة بعد توافر حسن النية و قصد إقامة الحق و العدل.
وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه حتى نصل إلى سعادة الدارين بفضله و إحسانه و منه و كرمه و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه.
Icon