تفسير سورة المسد

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة المسد من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية، وآياتها خمس.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطى من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» «١».
سورة المسد
مكية، وآياتها ٥ [نزلت بعد الفاتحة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (١١١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)
التباب: الهلاك. ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أى: هالكة من الهرم والتعجيز. والمعنى:
هلكت يداه، لأنه فيما يروى: أخذ حجرا ليرمى به رسول الله ﷺ وَتَبَّ وهلك كله. أو جعلت يداه هالكتين. والمراد: هلاك جملته، كقوله تعالى بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ومعنى وَتَبَّ: وكان ذلك وحصل، كقوله:
جزانى جزاه الله شرّ جزائه جزاء الكلاب العاويات وقد فعل «٢»
(١). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
(٢). كأن قد فعل به خيرا فجزاء شرا، فدعا عليه بقوله: جزاه الله شر جزائه. جزاء الكلاب: بدل من «شر جزائه» وضمير «جزائه» لله. أو للرجل المدعو عليه. وجزاء الكلاب العاويات: رجمها. ويروى «العاديات» بالدال، بدل الواو. وقد فعل: أى فعل الله ذلك الجزاء في الواقع، حيث أوقعه. وفيه من أنواع البديع:
الرجوع، وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة، لأن مقتضى الدعاء أن المدعو به لم يحصل، فنقضه بقوله «وقد فصل». ويروى بدل الشطر الأول: جزى ربه عنى عدى بن حاتم. وضمير «ربه» لحاتم، وإن تأخر لفظا ورتبة للضرورة، وأجازه الأخفش وابن جنى وابن مالك في السعة، لأن المفعول به كان متقدما لشدة اقتضاء الفعل إياه. وقيل عائد الجزاء المعلوم من جزى. ويروى بدل الشطر الأول أيضا: جزى الله عبسا عبس آل بغيض. وهي قبيلة معروفة، ولعل شاعر متعدد، وما حكاه بعض شراح شواهد الجامى من أن عدى بن حاتم رجل روى بنى قصرا النعمان بن امرئ القيس بظهر الكوفة، فأعجبه فسأله: هل بنيت مثله فقال: لا، وبنيته على حجر لو سقط سقط القصر، فألقاه من أعلاه فخر ميتا: فهو خطأ. والصواب أن هذه الحكاية إنما وقعت لسنمار المذكور في قوله:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار
لأن عدى بن حاتم صحابى من لب العرب، وضمير «بنوه» : لأبى الغيلان بالكسر. وسنمار بكسرتين فتشديد.
و «عن» متعلقة بجزى، أى: جزاء ناشئا عن كبر، وفيه معنى التهكم. ويجوز أنها بمعنى البدل، والأوجه أنها بمعنى بعد. وقيل: إنها بمعنى في، وليس بشيء، وعبر بالمضارع بدل الماضي استحضارا لما مضى، لأنه عجيب.
813
ويدل عليه قراءة ابن مسعود: وقد تب، وروى أنه لما نزل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ رقى الصفا وقال. يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقىّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدي الساعة، فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا «١» ؟ فنزلت. فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهرا بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفا بأحدهما، ولذلك تجرى الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ، يدا أبو لهب «٢»، كما قيل، على بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان، لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله- بالجرّ، والآخر عبد الله- بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله- بجرّة الدال، لا يعرف إلا هكذا. والثاني: أنه كان اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى كنيته. والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته، فكان جديرا بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله ﷺ أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به، وبافتخاره بذلك. وقرئ أبى لهب، بالسكون. وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم ما أَغْنى استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفى وَما كَسَبَ مرفوع. وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعنى: رأس المال والأرباح. أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها، وكان ذا سابياء «٣». أو ماله الذي ورثه
(١). متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما. [.....]
(٢). قال محمود: «ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب» قال أحمد: وفي هذا دليل لأن الرفع أسبق وجوه الاعراب وأولها. ألا تراهم إنما حافظوا على صيغته التي بها اشتهر الاسم، وكانت أول أحواله.
(٣). قوله «وكان ذا سابياء» ذكر في القاموس من هاتبها: المال الكثير والنتاج، والإبل النتاج والغنم التي كثر نسلها. «التالد» القديم. والطارق المستحدث (ع)
814
من أبيه والذي كسبه بنفسه. أو ماله التالد والطارف. وعن ابن عباس: ما كسب ولده.
وحكى أن بنى أبى لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب، فقال: أخرجوا عنى الكسب الخبيث: ومنه قوله عليه السلام «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعنى كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ وروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخى حقا فأنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدى سَيَصْلى قرئ بفتح الياء وبضمها: مخففا ومشددا، والسين للوعيد، أى: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته وَامْرَأَتُهُ هي أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك «١» والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة: ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أى: يوقد بينهم النائرة ويورّث الشر. قال:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحىّ بالحطب الرّطب «٢»
جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر، ورفعت عطفا على الضمير في سَيَصْلى أى: سيصلى هو وامرأته. وفِي جِيدِها في موضع الحال. أو على الابتداء، وفي جيدها:
الخبر. وقرئ: حمالة الحطب، بالنصب على الشتم، وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله ﷺ بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: حمالة للحطب. وحمالة للحطب: بالتنوين، والرفع والنصب. وقرئ: ومريته بالتصغير. المسد: الذي فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. قال:
(١). قوله «من الشوك والحسك» في الصحاح «الحسك» : حسك السعدان. وفيه «السعدان» : نبت شوك، ولهذا النيت شوك يقال: حسك السعدان. (ع)
(٢). أنشده يعقوب. والبياض: مجاز عن الخلوص من أسباب الذم. وتصطد من الصيد، أى: الوجدان والإدراك، وزنه يفتعل: فلبت تاء الافتعال طاء على القياس. ورواه بعضهم يضدد. وبعضهم: يضطد، بالضاد المعجمة فيهما، على أنه من الضد، ولينظر وجه الثاني، لأن الدال فيه حقها التشديد، فلعله خففها للضرورة. واللامة:
اللوم وسببه: شبهها بالمطية التي اعتاد صاحبها ركوبها على طريق المكنية، فأثبت لها الظهر تخييلا لذلك. وروى، بالخطر، بدل الحطب: وهو الخشب، والحطب الذي يحظر به، والمراد النميمة: استعير لها ذلك بجامع ثوران المكروه من كل، لأن الحطب الرطب إذا أوقدت فيه النار كثر دخانه. وروى: لم يضدد، ولم يمش بالياء على أنها صفة لمذكر.
815
ومسد أمرّ من أيانق «١»
ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون: تخسيسا لحالها، وتحقيرا لها، وتصويرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن، لتمتعض «٢» من ذلك ويمتعض بعلها، وهما في بيت العز والشرف. وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبى لهب بحمالة الحطب، فقال:
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي... أم ما تعيّر من حمّالة الحطب
غرّاء شادخة في المجد غرّتها... كانت سليلة شيخ ناقب الحسب «٣»
(١).
إن سرك الارواء غير سائق... فاعجل بغرب مثل غرب طارق
ومسد أمر من أيانق... ليس بأنياب ولا حقائق
ولا ضعاف مخهن زاهق
لعمارة بن طارق. يقول: إن سرك الاستسقاء حال كونك غير سائق للإبل التي يسقى عليها، فأسرع إلى ماء بئر بدلو عظيمة مثل دلو طارق أبى. وبحبل أمر: بالبناء للمجهول، أى: فتل فتلا شديدا. من أيافق، أى: من أوبارها، أو من جلودها. والأيانق: جمع أينق. والأينق: جمع نوق والنوق: جمع ناقة، ليس ذلك الحبل أنيابا، أى، نوقا مسنة، ولا حقائق: أى فتيات، ولا ضعافا: أى ليس من هذه الأنواع التي تساق بمشقة ففي هذا التنويع تتغير عنها. ويروى: لسن، أى: النوق التي يفتل منها. والأشبه: أن حق الرواية مع أيانق، أى: أعجل بحبل مفتول من الليف الأبيض. ونوق شداد: لا تحتاج إلى السوق. ومخهن زاهق: قال الفراء: هو مرفوع، والشعر مكفا. يقول: بل مخهن مكتنز سمين على الابتداء، وهذا مما يؤيد رواية: لسن بالنوق. وقال غيره: الزاهق هنا الذاهب، وهو مجرور بالعطف، أى: ولا ضعاف مخهن. وزاهق بالجر ردا على ضعاف، فكأنه رفع مخهن بضعاف.
(٢). قوله «من المواهن لتمتعض» جمع ماهن وهي الخادم. والامتعاض: الغضب. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). هو تعبير الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب. وحمالة الحطب: زوجة أبى لهب، فهي جدته. والغراء البيضاء. والشادخة: المتسعة، وذلك مجاز عن الظهور وارتفاع المقدار. والسليلة من سل من غيره، والمراد بالشيخ: أبوها حرب، لأنها أم جميل أخت أبى سفيان بن حرب، كانت عوراء، وماتت مخنوقة بحبلها الذي كانت تحمل فيه الحطب. وقيل: حمل الحطب مجاز عن إثارة الفتنة، لأنها كانت نمامة. وإلى شتمي: متعلق بمحذوف أو بأردت على طريق التضمين، أى: أى شيء أردته مائلا أنت إلى شتمي، أو منضما هو إلى شتمي. أو ما الذي أردته من شتمي أو مع شتمي؟ هل أردت أنك شريف لا عيب فيك. ويحوز أن إلى بمعنى من كما قال النحاة، واشتشهدوا عليه بقوله:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها... السقي فلا يروى إلى ابن أحمرا
ويمكن أنها للمصاحبة، كما قالوه أيضا في قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ وتعير: أصله تتعير، فحذف منه إحدى التائين. أما تتعير من جدتك التمامة لا ينبغي عدم ذلك. وروى: ثاقب الحسب. والمعنى: أن حسبه أصيل، فكأنه داخل في أجداد السابقين «أو سائر بين الناس، وذمها الآن مع رفعة شأنها فيما كان: أشد في الامتهان.
816
Icon