ﰡ
(مكية حروفها أحد وثمانون كلمها ثلاث وعشرون آياتها خمس)
[سورة المسد (١١١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)
القراآت:
أبي لهب بسكون الهاء: ابن كثير سيصلى بضم الياء: البرجمي حَمَّالَةَ بالنصب: عاصم جِيدِها ممالة: نصير.
الوقوف:
وَتَبَّ هـ كَسَبَ هـ لَهَبٍ ج هـ لاحتمال كون وَامْرَأَتُهُ مبتدأ خبره حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أو فِي جِيدِها إلى آخره واحتمال كونه عطفا على ضمير سَيَصْلى والأوجه الوصل وَامْرَأَتُهُ هـ لمن قرأ حَمَّالَةَ بالنصب على الذم، ويجوز الوقف لمن قرأ بالرفع أيضا على تقدير هي حمالة الحطب. ومن قرأ حَمَّالَةَ بالنصب فله أن يصل ذاتَ لَهَبٍ بما بعده ويقف على مَسَدٍ مَسَدٍ هـ.
التفسير:
لما أخبر عن فتح الولي وهو النبي ﷺ نبه على مآل حال العدو في الدارين.
قال ابن عباس: كان رسول الله ﷺ يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] فصعد الصفا ونادى: يا آل غالب فخرجت إليه من المسجد. فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ فقال يا آل- كلاب ثم قال بعده: يا آل قصي فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فما عندك، ثم قال: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين وأنتم الأقربون، إني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد لكم بها عند ربكم. فقال أبو لهب عليه اللعنة: تبا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة.
وقيل: إن رسول الله ﷺ جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل الشاة فقال: كلوا فأكلوا فشبعوا ولم ينتقص من الطعام إلا قليل. ثم قالوا فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام. فقال أبو لهب ما
التباب الهلاك كقوله وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر:
٣٧] وقيل: الخسران المفضي إلى الهلاك. وقيل: الخيبة. وقال ابن عباس: لأنه كان يدفع قائلا إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول ﷺ بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه. قالوا: ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول: انصرف راشدا فإنه مجنون.
ويروى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله ﷺ فى السوق يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد آدمي عقبيه وقال: لا تطيعوه إنه كذاب. فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد وعمه أبو لهب.
وقال أهل المعاني: أراد باليدين الجملة كقوله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: ١٠] لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد، فاليمين كالسلاح واليسار كالجنة، بالأولى يجر المنفعة وبالأخرى يدفع المضرة.
وروي أنه ﷺ لما دعاه نهارا فأبى ذهب إلى داره ليلا مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا. فجلس النبي ﷺ أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت. فقال: لا أو من بك أو يؤمن هذا الجدي. فقال النبي ﷺ للجدي. من أنا؟
فقال: أنت رسول الله ﷺ وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب وأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر. فقال الجدي: بل تبت يداك فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق الناطق بالصدق.
وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه منها: أن الكنية قد تصير اسما بالغلبة فلا تدل على التعظيم، وإيهام الكذب منتف لأنهم يريدون بها التفاؤل فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب. ومنها أن اسمه كان عبد العزي فكان الاحتراز عن ذكره أولى. ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال «أبو الخير» لمن يلازمه. وكما
قال النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه «يا أبا تراب» لتراب لصق بظهره.
وقيل: سمي بذلك لتلهب وجنتيه فسماه الله تعالى بذلك تهكما ورمزا إلى مآل حاله وفي قوله سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ قال أهل الخطابة: إنما لم يقل في أوّل هذه السورة «قل تبت» كما قال قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: ١] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية
فقال: لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان. قال أبو الليث: اللهب واللهب لغتان كالنهر والنهر ولكن الفتح أوجه، ولهذا قرأ به أكثر القراء. وأجمعوا في قوله ذاتَ لَهَبٍ على الفتح رعاية للفاصلة.
وفي دفع التكرار عن قوله وَتَبَّ وجوه منها: أن الأول دعاء والثاني إخبار ويؤيده قراءة ابن مسعود و «قد تب»، ومنها أن الأول إخبار عن هلاك عمله لأن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه باليد، والثاني إخبار عن هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول إهلاك ما له فقد يقال للمال ذات اليد، والآخر هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول نفسه والثاني ولده عتبة على ما
روي أن عتبه ابن أبي لهب خرج إلى الشام مع ناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة: بلغوا عني محمدا أني كفرت بالنجم إذا هوى.
وروي أنه قال ذلك في وجه رسول الله ﷺ وتفل في وجهه وكان مبالغا في عداوته فقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز دائما فسار ليلة من الليالي إلى قريب من الصبح فقال له أصحابه: هلكت الركاب. فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب فأناح الإبل حوله كالسرادق فسلط الله الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه.
فقوله تَبَّتْ قبل هذه الواقعة على عادة إخبار الله تعالى في جعل المستقبل كالماضي المحقق. والفرق بين المال والكسب من وجوه أحدها: أن المال عني به رأس المال والمكسوب هو الربح. وثانيها أراد الماشية والذي كسبه من نسلها وكان صاحب النعم والنتاج. وثالثها أريد ماله الموروث والذي كسبه بنفسه. وعن ابن عباس: المكسوب الولد
لقوله ﷺ «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» «١»
روي أنه لما مات تركه أبناؤه ليلتين أو ثلاثا حتى أنتن في بيته لعلة كانت به خافوا عدواها.
وقال الضحاك وقتادة:
ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة الرسول وسائر أعماله التي ظن أنه منها
يروى عن أسماء أنه لما نزلت السورة جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله ﷺ جالس ومعه أبو بكر وهي تقول: مذمما قلينا. ودينه أبينا. وحكمه عصينا فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك. فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لا تراني وقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: ٤٥] فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ما هجاك.
قالت العلماء: لعل أبا بكر عني بذلك أن الله تعالى قد هجاها ولم يهجها الرسول، أو اعتقد أن
قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل. يقال: مسد الحبل مسدا إذا أجاد فتله. ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق. والمسد بالتحريك ما مسد أي فتل من أي شيء كان كالليف والخوص وجلود الإبل والحديد. وقد عرفت معنى قوله فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ على رأي بعض أهل التفسير. وقال الآخرون: المعنى أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها في المعنى عند النميمة، أو في الظاهر حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار.