ﰡ
إن قلتَ : ما فائدة ذكر " قيما " بعد قوله ﴿ ولم يجعل له عوجا ﴾ لأن نفي العِوج يستلزم الإقامة ؟ !
قلتُ : فائدته التأكيد في وصف كتاب الله العظيم، أو معنى " قيما " أنه قائم على الكتب السماوية كلّها، مصدّقا لها، ناسخا لبعض شرائعها.
ونُصب " قيما " بمقدَّر تقديره : لكن جعله قيّما.
أي لنعلمه علم ظهور ومشاهدة ( ١ ).
وفائدتها توكيد اتّصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتّصالها أمر ثابت مستقرّ.
أي من البشر، وإلا فالله يبدّلها، قال تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]. وقال :﴿ وإذا بدّلنا آية مكان آية ﴾ الآية [ النحل : ١٠١ ].
إن قلتَ : في هذا إباحة الكفر ؟ !
قلتُ : لا، لأن هذا إنما ذُكر تهديدا لهم، بناء على أن الضمير في " شاء " ل " من " وعليه الجمهور.
أو المعنى : فمن شاء الله إيمانه آمن، ومن شاء كفره كفر، بناء على أن الضمير فيه " لله " كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
إن قلتَ : لبسُها في الدنيا حرام على الرجال، فكيف وعد الله بها المؤمنين في الجنة.
قلتُ : عادة ملوك الفرس والروم، لبس الأساور والتيجان، دون من عداهم، فلذلك وعد الله المؤمنين بها، لأنهم ملوك الآخرة ( ١ ).
أفردها بعد تثنيتها ليدلّ على الحصر، أي لا جنة له غيرها، ونصيب له في جنة غيره، ولم يقصد جنّة معيّنة من الجنّتين، بل جنس ما كان له في الدنيا.
إن قلتَ : كيف قال الكافر ذلك وهو ينكر البعث ؟
قلتُ : معناه : ولئن رُددت إلى ربي على زعمك، ليعطينّي هناك خيرا منها، ونظيره قوله تعالى في فصّلت :﴿ ولئن رُّجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] وعبّر هنا ب " رُدِدْتُ " وثَمّ ب " رُجِعْتُ " توسعة في التعبير عن الشيء بمتساويين.
فائدة ذكر " أنا " في مثل ذلك، حصر الخبر في المبتدأ، كما في قوله تعالى :﴿ إني أنا ربّك ﴾ [ طه : ١٢ ] وقوله ﴿ إني أنا الله ﴾ [ القصص : ٣٠ ].
" خيرٌ " ( ١ ) هنا ليست على بابها، إذ غير الله لا يُثيب، ولا تُحمد طاعته في العاقبة، ليكون الله خيرا منه ثوابا وعقبا، أو ذلك على سبيل الفرض والتقدير.
أتى به ماضيا، مع أن ما قبله مضارعين وهما :﴿ ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] ليدلّ على أنّ حشرهم، كان قبل السّير والبروز، ليُعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قال : وحشرناهم قبل ذلك.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الصغائر تُكفّر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم ﴾ ؟ ! [ النساء : ٣١ ].
قلتُ : الآية الأولى في حقّ الكافرين، بدليل قوله ﴿ فترى المجرمين ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] والثانية في حقّ المؤمنين، لأن اجتناب الكبائر لا يتحقّق مع الكفر.
أو يقال : الأولى في حقّ المؤمنين أيضا، لكن يجوز أن يُكتب الصغائر، ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم يكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو عليه.
إن قلتَ : هذا يدلّ على أن " إبليس " من الجنّ، وهو مناف لقوله تعالى في البقرة :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا فسجدوا إلا إبليس ﴾ فإنه يدلّ على أنه من الملائكة ؟
قلتُ : في ذلك قولان :
أحدهما : أنه من الجنّ لظاهر هذه الآية، ولأن له ذرية كفرة، بل أكفر الكفرة، بخلاف الملائكة لا ذرية لهم، ولا يعصون الله ما أمرهم، لأنهم عقول مجردة، لا شهوة لهم، ولا معصية إلا عن شهوة، فالاستثناء في تلك الآية منقطع.
وثانيهما : وهو المختار ( ١ ) أنه من الملائكة، قبل أن يعصي الله تعالى، فلمّا عصاه مسخه شيطانا، ورُوي ذلك عن ابن عباس، كما روي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجنّ، ف " كان " بمعنى صار.
أو المعنى كان في سابق علمه تعالى، أو من الجنّ الذين هم من الملائكة، فالاستثناء متّصل، ولا منافاة بين الآيتين.
قوله تعالى :﴿ أفتتّخذونه وذريّته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ... ﴾ الآية [ الكهف : ٥٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الشيطان وذريته، ليسوا أولياء بل أعداء، لأن الأولياء هم الأصدقاء ؟ !
قلتُ : المراد بالولاية هنا، اتّباع الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها.
أ- لأن الملائكة لا يعصون أمر الله، وإبليس قد عصى أمر ربه.
ب- ولأن الملائكة خُلقت من نور، وإبليس يقول «خلقتني من نار» وهو طبيعة الجن لا الملائكة.
ج- الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، وليس لهم ذرية، وإبليس له ذرية وبينهم تزاوج وتناكح كالبشر.
د- النص الصريح ﴿كان من الجن ففسق عن أمر ربه﴾ يدل على أنه من الجن، وقد قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وهذا هو اختيار المحققين من العلماء..
قاله هنا بالفاء، الدالة على التعقيب، لأن ما هنا في الأحياء من الكفار، فإنهم ذُكّروا فأعرضوا عقب ما ذكّروا، وقاله في السجدة ( ١ ) ب " ثم " الدالة على التراخي، لأن ما هناك في الأموات من الكفار، فإنهم ذُكّروا مرة بعد أخرى، ثم أعرضوا بالموت فلم يؤمنوا.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن النّاسي " يوشع " وحده ؟
قلتُ : نسبة النسيان إليهما مجاز، أو المراد أحدهما، كنظيره في قوله تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ].
وقيل : نسي " موسى " بفقده الحوت، و " يوشع " أن يُخبره بخبره.
قاله بغير فاء، وقال بعد :﴿ حتى إذا لقيا غلاما فقتله ﴾ [ الكهف : ٧٤ ] بالفاء، لأنه جعل خرقها جزاء الشرط، فلم يحتج للفاء، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط، فعطفه عليه بالفاء، وجزاء الشرط قوله :﴿ قال أقتلت نفسا زكيّة بغير نفس ﴾ [ الكهف : ٧٤ ].
قوله تعالى :﴿ لقد جئت شيئا إِمرا ﴾ [ الكهف : ٧١ ].
قاله بلفظ " الإِمر " لأنه للعجب، والعجب كما يكون في الخير، يكون في الشرّ، وقاله بعد في قتل الغلام بلفظ " نُكْراً " لأنه لا يكون إلا في الشرّ، وقتل النفس أعظم من مجرّد خرق السفينة، فناسب كلّ ما هو فيه، ولذلك قال في خرق السفينة ﴿ ألم أقل إنك ﴾ [ الكهف : ٧٢ ] بحذف " لك " وفي قتل الغلام ﴿ ألم أقل لك إنك ﴾ بذكره، ولأن في ذكره، قصد زيادة المواجهة، بالعتاب على ترك الوصيّة مرة ثانية.
جاء بالأول بالتاء " تَسْتَطِعْ " على الأصل، وفي الثاني " تَسْطِعْ " بحذفها تخفيفا لأنه الفرع، وعكس ذلك في قوله :﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ﴾ [ الكهف : ٩٧ ] لأن مفعول الأول اشتمل على حرف، وفعل وفاعل، ومفعول، فناسبه الحذف تخفيفا، بخلاف مفعول الثاني فإنه اسم واحد، وهو قوله " نقبا " فناسبه البقاء على الأصل.
قال الخضر في خرق السفينة، وقال في قتل الغلام ﴿ فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيرا منه ﴾ [ الكهف : ٨١ ] وفي إقامة جدار اليتيمين ﴿ فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما ﴾ [ الكهف : ٨٢ ].
لأن الأول في الظاهر إفساد محض، فأسنده إلى نفسه.
وفي الثالث إنعام محض، فأسنده إلى ربه تعالى.
وفي الثاني إفساد من حيث القتل، وإنعام من حيث التبديل، فأسنده إلى ربّه ونفسه، كذا قيل في الآخرة.
والأوجه فيه ما قيل : إنه عبّر عن نفسه فيه بلفظ الجمع ( ١ )، تنبيها على أنه من العِظام ( ٢ ) في علوم الحكمة، فلم يُقدم على القتل إلا لحكمة عالية.
٢ - أي العظماء جمع عظيم يقال: عظام وعظماء، فهذه الصيغة (فأردنا) صيغة جمع للتعظيم..
إن قلتَ : الشمس في السماء الرابعة ( ١ )، وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين، أو خمسين، أو وعشرين مرة، فكيف تسعها عين في الأرض تغرب فيها ؟
قلتُ : المراد وجدها في ظنّه، كما يرى راكب البحر، الشمسَ طالعةً وغاربةً فيه، " فذو القرنين " انتهى إلى آخر البنيان في جهة الغرب، فوجد عينا واسعة، فظن، أن الشمس تغرب فيها.
فإن قلتَ : " ذو القرنين " كان نبيا، أو تقيا حكيما، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في ظنّ ما يستحيل وقوعه.
قلتُ : الأنبياء والحكماء لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك، ألا ترى إلى ظنّ موسى فيما أنكره على الخضر، وأيضا فالله قادر على تصغير جُرم الشمس، وتوسيع العين وكرة الأرض ( ٢ )، بحيث تسع عين الماء عين الشمس، فلم لا يجوز ذلك، ولم يُعلم به لقصور عقولنا عن الإحاطة بذلك ! !
٢ - لا حاجة إلى هذه التأويلات البعيدة، فإنما أخبر عن رؤية ذي القرنين للشمس، وهي تغرب في ذلك المكان، حسب رؤيته وبصره، لا حسب الحقيقة، فإن الشمس أوسع وأكبر من أن تسعها الكرة الأرضية، كما يرى الراكب في السيارة أن الأرض كأنها هي التي تسير، وذلك من سرعة المركبة..
أي قدرا لحقارتهم، وليس المراد فلا ننصب لهم ميزانا، لأن الميزان إنما يُنصب ليوزن به الحسنات، وفي مقابلته السيئات، والكافر لا حسنة له، وأما قوله تعالى :﴿ وأما من خفّت موازينه فأمّه هاوية ﴾ [ القارعة : ٨، ٩ ] فهو فيمن غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين، فإنه يدخل النار لكن لا يخلّد فيها.