ﰡ
والحمد يشترك معه في المعنى العام : ثناء وشكر ومدح، إلا أن هذه الألفاظ وإن تقاربت في المعنى العام فلكل منها معناه الخاص، وكل هذه الألفاظ فيها ثناء، إلا أن الشكر يكون من منعم عليه بنعمة خاصة به، كأن يسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك، فتشكره عليه.
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك، فرقعة الحمد أوسع من رقعة الشكر، أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك.
فقول الحق :( الحمد لله )بالألف واللام الدالة على الحصر، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله، الحمد المستوعب لكل شيء، حتى إن حمدك لأي إنسان قدم لك جميلاً فهو إذا سلسلته حمد لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك، فالجميل جاء من حركته، وحركته موهوبة له من خالقه، والنعمة التي أمدك بها موهبة من خالقه تعالى، وهكذا إذا سلسلت الحمد لأي إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعم الأول سبحانه وتعالى.
وكلمة ( الحمد لله )هذه هي الصيغة التي علمنا الله أن نحمده بها، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يحدد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخلق في الحمد حسب قدراتهم وتمكنهم من الأداء وحسب قدرتهم على استيعاب النعم، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح في العيي والأمي. فتحمل الله عنا جميعاً هذه الصيغة، وجعلها متساوية للجميع، الكل يقول ( الحمد لله )البليغ يقولها، والعيي يقولها، والأمي يقولها.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحمد الله ويثني عليه : " سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
فإن أردنا أن نحصي الثناء عليك فلن نستطيع ؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت، ولا يحصيه غيرك، ولا نملك إلا أن نقول ما علمتنا من حمدك : الحمد لله.
إذن : فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد، فنقول : الحمد لله على ما علمنا من الحمد لله، والحمد الأول أيضاً نعمة، وبذلك نقول : الحمد لله على ما علمنا من الحمد لله بالحمد لله.
وهكذا، لو تتبعت الحمد لوجدته سلسلة لا تنتهي، حمد على حمد على حمد على حمد، فيظل الله محموداً دائماً، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية.
والحمد لله استهل بها الحق سبحانه خمس سور من القرآن :
:﴿ الحمد لله رب العالمين " ٢ " ﴾( سورة الفاتحة ).
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " ١ " ﴾( سورة الأنعام ).
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.. " ١ " ﴾( سورة الكهف ).
﴿ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة.. " ١ " ﴾( سورة سبأ ).
﴿ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحةٍ.. " ١ " ﴾( سورة فاطر ).
ولكن، لكل حمد في كل سورة حيثية خاصة، فالحمد في الأولى لأن الله رب العالمين، ورب يعني الخالق والمتولي للتربية، خلق من عدم، وأمد من عدم، وتولى تربية عباده، فهو رب لكل العالمين ؛ لذلك يجب أن نحمد الله على أنه هو الرب الذي خلق العالمين، وأمدهم بفضله.
وفي الثانية : نحمده سبحانه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وهذه آيات من آيات الله ونعم من نعمه، فالسماوات والأرض فيها قيام البشر كله بما يمد حياتهم بالقوت، ويستبقي نوعهم بالتكاثر.
والظلمات والنور من نعم الله، وهما متكاملان لا متضادان، فلظلمة مهمة، كما أن للنور مهمة، الظلمة للسكون والراحة، والنور للسعي والحركة، ولا يمكن لساع أن يسعى ويجد في عمل، إلا إذا ارتاح وسكن وجدد نشاطه، فتقابل الظلمة والنور للتكامل، فالحياة لا تستقيم في ظلام دائم، كما أنها لا تستقيم في نور دائم.
وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه ب( الحمد لله ) والتي نحن بصددها أراد الحق سبحانه أن يوضح أنه لم يرب الخلق تربية مادية فقط، بل هناك تربية أعلى من المادة تربية روحية قيمية، فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخلق الإنسان، فهو لم يخلق لمادته فحسب، ولكن لرسالة أسمى، خلق ليعرف القيم والرب والدين، وأن يعمل لحياة أخرى غير هذه الحياة المادية، فقال تعالى :
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.. " ١ " ﴾( سورة الكهف ).
فحيثية الحمد هنا إنزال الكتاب الذي يجمع كل القيم. وقلنا : إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل أن يخلق الخلق وضع له النماذج التي تصلح حركة الحياة، كما قال تعالى :﴿ الرحمن " ١ " علم القرآن " ٢ " خلق الإنسان " ٣ " علمه البيان " ٤ " ﴾( سورة الرحمن ) : فتعليم القرآن جاء قبل خلق الإنسان، إذن : وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظم لحياتهم قبل أن يخلقهم، لعلمه سبحانه بطبيعة خلقه، وبما يصلحهم، كالمخترع للآلة الذي يعلم مهمتها ويحدد قانون صيانتها، فالكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المهمة الأساسية، فيجب أن توطن عليها نفسك، وتعلم أنه المنظم لحياتك، وبه قانون صيانتك.
وقوله :﴿ على عبده.. " ١ " ﴾( سورة الكهف ).
كما قلنا : في سورة الإسراء : إن العبودية كانت حيثية الرفعة في الإسراء والمعراج، فقال سبحانه :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده.. " ١ " ﴾( سورة الإسراء ) : فالعبودية رفعته إلى حضرته تعالى ؛ لأنه كان عبداً بحق، وهذا يعني إنزال الكتاب عليه، فكان عبداً بحق قبل أن يسري به، وحمل منهج الله أولاً فالتفت لربه لفتة أراد أن يلفت بها سواه، فأخلص هو أولاً في العبودية، وتحمل ما تحمل، فكان من جزائه أن يرتفع إلى مقام الحضرة فعرج به، وهناك أعطاه الله الصلاة لينزل بها إلى الخلق ليرفع بها صوته إلى المقام الذي سعى إليه بالمعراج.
إذن : فالنبي تناول ليناول، وتناول لأنه أخلص العبودية، فصعد إلى حضرة ربه، وأخذ فريضة الصلاة وبلغها لقومه، وكأنه يقول لهم : من أراد أن يلتقي بالله، فليدخل في الصلاة. و :﴿ الكتاب.. " ١ " ﴾
( سورة الكهف ) : هو القرآن الكريم، لكن سورة الكهف ترتيبها الثامنة عشرة بين سور المصحف من المائة والأربعة عشرة سورة، أي : أن القرآن لم يكتمل بعد، فلماذا قال تعالى ( الكتاب )وهو لم يكتمل بعد ؟
نقول : الكتاب يطلق ويراد به بعضه، كما في قوله تعالى :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " ١٨ " ﴾( سورة القيامة ) : فالآية الواحدة تسمى قرآناً، والسورة تسمى قرآناً، والكل نسميه قرآناً.
أو : يكون المراد أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ، ثم نزله بعد ذلك منجماً حسب الوقائع، فالمراد هنا الإنزال لا التنزيل. وقوله تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجا " ١ " ﴾ ( سورة الكهف ) : أي : جعله مستقيماً، لا عوج فيه، كما قال في آية أخرى :﴿ قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة الزمر ).
والاعوجاج، أن يأخذ الشيء امتداداً منحنياً ملتوياً، أما الاستقامة فهي الامتداد في نفس الاتجاه، لا يميل يميناً أو شمالاً، ومعلوم أن الخط المستقيم يمثل أقرب مسافة بين نقطتين، ولا تستقيم حياة الناس في الدنيا إلا إذا ساروا جميعاً على منهج مستقيم يعصمهم من التصادم في حركة الحياة.
فالحق سبحانه وتعالى خلق الخلق متكاملين، فكل منهم لديه موهبة يحتاجها الآخرين، فهذا طبيب، وهذا مهندس، وهذا نجار، وهذا خياط، ولا يستطيع أحد أن يقوم بذاته أو يستغني عن مواهب غيره، فلابد أن يتواجه الناس في الحياة، وأن يتكاملوا.
هذا التواجه إن لم ينظم وتوضع له قوانين مرور دقيقة لتصادمت حركات الناس، كما يحدث على الطريق الملتوي كثير المنحنيات، فالقادم من هنا لا يرى القادم من هناك، فيحدث التصادم. إذن : لابد من استقامة الطريق ليرى كل منا الآخر، فلا يصطدم به. والمنهج الإلهي هو الطريق المستقيم الذي يضمن الحركة في الحياة.
وقد ذكر الاعوجاج أيضاً في قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا " ١٠٥ " فيذرها قاعا صفصفا " ١٠٦ " لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً " ١٠٧ " ﴾( سورة طه ).
﴿ لا ترى فيها عوجا.. " ١٠٧ " ﴾( سورة طه ) : أي : أرضاً مستوية خالية من أي شيء.
﴿ ولا أمتاً " ١٠٧ " ﴾( سورة طه ) : أي : مستقيمة. أي : مستوية ولا يوجد بها مرتفعات ومنخفضات تعوق الرؤية أيضاً وتسبب التصادم، وهذا ما يسميه رجال المرور ( العقبة ).
( سورة الكهف ) : أن الاستقامة والعود قد لا يدرك بالعين المجردة وتحتاج إلى ميزان دقيق يكشف لك مدى العود أو الاستقامة، وهذه الظاهرة تراها في الطرق المستوية المرصوفة، والتي تراها للوهلة الأولى مستقيمة تماماً ومستوية، فإذا ما نزل المطر فضح هذا الاستواء وأظهر ما فيه من عيوب ؛ لذلك أكد الاستقامة بقوله :﴿ قيماً " ٢ " ﴾( سورة الكهف ).
ومن معاني القيم : المهيمن على ما دونه، كما تقول : فلان قيم على فلان أي : مهيمن عليه وقائم على أمره. فالقرآن إذن لاعوج فيه، وهو أيضاً مهيمن على الكتب السابقة وله الوصاية عليها كما قال تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.. " ٤٨ " ﴾
( سورة المائدة ).
ومنه قوله تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين القيم " ٤٣ " ﴾( سورة الروم ) : أي : المهيمن على الأديان السابقة. ثم يقول تعالى :﴿ لينذر بأساً شديداً من لدنه " ٢ " ﴾( سورة الكهف ) : وهذه هي العلة في الإنزال.
والإنذار : التخويف بشر قادم، والمنذر هنا هم الكفار ؛ لأنه لا ينذر بالعذاب الشديد إلا الكفار، لكن سياق الآية لم يذكرها ليترك مجالاً للملكة العربية وللذهن أن يعمل، وأن يستقبل القرآن بفكر متفتح وعقل يستنبط، وليس بالضرورة أن يعطينا القرآن كل شيء هكذا على طرف الثمام أي قريباً سهل التناول.
ثم ضخم العذاب بأنه شديد، ليس ذلك وفقط بل ( من لدنا )، والعذاب يتناسب مع المعذب وقوته، فإن كان العذاب من الله فلا طاقة لأحد به، ولا مهرب لأحد منه.
ثم يقول تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين " ٢ " ﴾( سورة الكهف ) : والبشارة تكون بالخير المنتظر في المستقبل، وتلاحظ أنه في البشارة ذكر المبشر ( المؤمنين )ولم يسكت عنهم كما سكت عن الكفار في الإنذار، فهذا من رحمة الله بنا حتى في الأسلوب، والبشارة هنا بالأجر الحسن ؛ لأنه أجر من الكريم المتفضل سبحانه.
أما أجر الله لعباده في الآخرة فهو أجر عظيم دائم، فإن ظلمك الناس في تقدير أجرك في الدنيا، فالله تعالى عادل لا يظلم يعطيك بسخاء ؛ لأنه المنصف المتفضل، وإن انقطع الأجر في الدنيا فإنه دائم في الآخرة ؛ لأنك مهما أخذت من نعيم الدنيا فهو نعيم زائل، إما أن تتركه، وإما أن يتركك.
وقد أوضح القرآن فظاعة هذه المعصية في قوله :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " ٨٨ " لقد جئتم شيئا إدا " ٨٩ " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا " ٩٠ " أن دعوا للرحمن ولدا " ٩١ " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً " ٩٢ " ﴾( سورة مريم ) : إنها قمة المعاصي أن نخوض في ذات الله تعالى بمقولة تتفطر لها السماء، وتنشق لها الأرض، وتنهد لهولها الجبال.
وعدم العلم ينشأ من أمرين : إما أن الشيء موجود وأنت لا تعلم به ؛ لأنه مستور عنك، وإما لأن الشيء لا وجود له أصلاً، وأنت لا تعلم أنه غير موجود ؛ لأن غير الموجود لا يمكن أن يتعلق به علم. وقوله تعالى :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. " ٥ " ﴾( سورة الكهف ).
( كبرت )أي : عظمت وتناهت في الإثم ؛ لأنهم تناولوا مسألة فظيعة، كبرت أن تخرج هذه الكلمة من أفواههم.
( كلمة )الكلمة قول مفرد ليس له نسبة كأن تقول : محمد أو ذهب أو في، فالاسم والفعل والحرب كل منها كلمة مستقلة، والكلمة تطلق ويراد بها الكلام، فالآية عبرت عن قولهم :﴿ اتخذ الله ولداً " ٤ " ﴾
( سورة الكهف ) : بأنها كلمة، كما تقول : ألقى فلان كلمة. والواقع أنه ألقى خطبة. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون " ٩٩ " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها.. " ١٠٠{ " ( سورة المؤمنون ) : فسمى قولهم هذا ( كلمة ). ومنها قوله تعالى :{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.. " ٦٤ " ﴾( سورة آل عمران ).
فسمى كل هذا الكلام كلمة. وقوله تعالى :﴿ تخرج من أفواههم.. " ٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أن هذه الكلمة كبرت لأنها خرجت منهم وقالوها فعلاً، ولو أنهم كتموها في نفوسهم ولم يجهروا بها واستعظموا أن تخرج منهم لكانوا في عداد المؤمنين، <بدليل أن وفد اليمن حينما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله تدور بأنفسنا أفكار عن الله، نتعاظم أن نقولها أي : لا نقدر على النطق بها فقال صلى الله عليه وسلم : " ذاك صريح الإيمان " >.
إذن : المعيب عليهم أنهم أخرجوا هذه المسألة من أفواههم، وهذا منتهى القبح، فالأفكار والخواطر مهما بلغت من السوء وكتمها صاحبها لا يترتب عليها شيء، وكأنها لم تكن. ثم يقول تعالى :
﴿ إن يقولون إلا كذباً.. " ٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ما يقولون إلا كذباً، والكذب ألا يطابق الكلام واقع الأمر، فالعاقل قبل أن يتكلم يدير الكلام على ذهنه ويعرضه على تفكيره، فتأتي النسبة في ذهنه وينطقها لسانه، وهذه النسبة قبل أن يفكر فيها وينطق بها لها واقع.
فمثلاً حين تقول : محمد مجتهد. قبل أن تنطق بها جال في خاطرك اجتهاد محمد، وهذه تسمى نسبة ذهنية، فإن قلت : محمد مجتهد فعلاً، فإن النسبة الذهنية الكلامية أصبحت نسبة واقعية، والخبر بها خبر صادق. فإن كانت النسبة الكلامية لا واقع لها كأن لا يوجد شخص اسمه محمد أو وجد ولكنه غير مجتهد، فالخبر هنا كاذب. وهذا هو الأسلوب الخبري الذي يحتمل الصدق أو الكذب.
وهناك الأسلوب الخبري الذي لا يحتمل الصدق، ولا يحتمل الكذب ؛ لأن النسبة الواقعية فيه متأخرة عن النسبة الكلامية كما لو قلت : ذاكر دروسك. فواقع هذه العبارة سيحدث في المستقبل ؛ لذلك لا يوصف الإنشاء بالصدق أو بالكذب.
والتدقيق العلمي يقول : الصدق الحقيقي أن تطابق النسبة الكلامية الواقع والاعتقاد، فإن اعتقدت شيئاً ولم يحدث، فالنسبة كاذبة وأنت غير كاذب ؛ لأن هناك فرق بين الخبر والمخبر. وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " ١ " ﴾( سورة المنافقون ).
فقولهم : إنك لرسول الله نسبة صادقة ؛ لأنها تطابق الواقع، إنما هل وافقت معتقدهم ؟ لم توافق معتقدهم ؛ لذلك شهد الله أنهم كاذبون ؛ لأن كلامهم لم يوافق واقعهم الاعتقادي. أو : لأن التكذيب لم يرد به قولهم : إنك لرسول الله وإنما يراد به قولهم : نشهد، فالتكذيب للشهادة لأن الشهادة أن يواطئ القلب اللسان، وهم شهدوا بألسنتهم، ولم تؤمن به قلوبهم.
وهنا لما قالوا ( اتخذ الله ولداً )، فهذه نسبة كلامية ليس لها واقع، فهي نسبة كاذبة، فقال تعالى :
﴿ إن يقولون إلا كذباً " ٥ " ﴾( سورة الكهف ).
والأسف : الحزن العميق، ومنه قول يعقوب عليه السلام :﴿ يا أسفي على يوسف.. " ٨٤ " ﴾( سورة يوسف ).
وقوله تعالى عن موسى لما رجع إلى قومه غاضباً من عبادتهم العجل :﴿ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً.. " ٨٦ " ﴾( سورة طه ).
وقد حدد الله تعالى مهمة الرسول وهي البلاغ، وجعله بشيراً ونذيراً، ولم يكلفه من أمر الدعوة ما لا يطيق، ففي الآية مظهر من مظاهر رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها.. " ٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : كل ما على الأرض هو زينة، والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام الأعين فيغريها، ثم يندثر ويتلاشى، وقد أوضح لنا القرآن هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح.. " ٤٥ " ﴾( سورة الكهف ).
فإياك أن يأخذك هذا الزخرف ؛ لأنه زهر سرعان ما يذبل ويصير حطاماً. وقوله :﴿ لنبلوهم.. " ٧ " ﴾
( سورة الكهف ) : البلاء يعني : الاختبار والامتحان. وليس المصيبة كما يظن البعض ؛ لأن المصيبة تكون على من يخفق في الاختبار، والابتلاء لهم من الله مع علمه تعالى بأمرهم وما سيحدث منهم مسبقاً، ولكن لنعرف معرفة الواقع وشهادة الواقع.
وما أشبه هذه المسألة بالتلميذ الذي يتنبأ له أستاذه بالفشل لما يراه من مقدمات يعرفها عن عقليته وعن اجتهاده والتفاته يحكم من خلالها، فإذا ما دخل التلميذ الاختبار فشل فيه وأخفق، لكن هل يعني هذا أن نلغي الاختبارات في مدارسنا اعتماداً على خبرة المعلم بتلاميذه ؟ لابد من الاختبار ليقوم شاهداً واقعياً على من يخفق. إذن معنى :﴿ لنبلوهم.. " ٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بلاء شهادة منهم على أنفسهم.
( سورة السجدة ).
ومادام الأمر كذلك والدنيا زخرف سرعان ما يزول، فالأجل قريب، فدعهم لي أختبرهم، وأجازيهم بأعمالهم.
وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد، يقولون : لقد أطل زمان نبي نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم ؛ لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول اللهن فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا : إن أردتم معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو صادق، اسألوه : ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة ؟ وما قصة الرجل الطواف الذي طاف الأرض شرقاً وغرباً ؟ وما الروح ؟
وفعلاً ذهب الرجلان إلى رسول الله، وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " وجاء غد وبعد غد ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة، فشق ذلك على رسول الله وكبر في نفسه أن يعطي وعداً ولا ينجزه.
وقالوا : إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يقل : إن شاء الله ؛ ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " ٢٣ " إلا أن يشاء الله.. " ٢٤ " ﴾( سورة الكهف ) : وهذه الآية في حد ذاتها دليل على صدق رسول الله، وعلى أدبه، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجاً لغيره، وحتى لا يستنكف أحد إذا استدرك عليه شيء، فهاهو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويعدل له.
فكأن قوله تعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " ٢٣ " إلا أن يشاء الله.. " ٢٤ " ﴾( سورة الكهف ) : تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربى من توجيه المربي، مادام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإن كان من الخلق، فما بالك إن كان الاستدراك من الخالق سبحانه، والتعديل والتربية من ناحيته ؟
وإليك مثال لأدب الاستدراك ومشروعية استئناف الحكم، لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى :﴿ وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " ٧ ' ﴾( سورة الأنبياء )
فكان حكم داود عليه السلام في هذه المسألة أن يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلت زرعه، فلما بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلاً : بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود إلى ما كان عليه، ثم تعود الغنم إلى صاحبها، والزرع إلى صاحبه.
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ ففهمناها سليمان.. " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
ولم يتهم داود بالخطأ، بل قال :﴿ وكلاً آتينا حكماً وعلماً.. " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
ونلحظ هنا أن الاستدراك لم يأت من الأب للابن، فيكون أمراً طبيعياً، بل جاء من الابن للأب ليؤكد على أنه لا غضاضة أن يستدرك الصغير على الكبير، أو الابن على الأب، فالهدف هو الوصول إلى الحق والصواب، وبني الله سليمان في هذه المسألة لم يغض الطرف عن هذا القصور في حكومة أبيه، بل جهر بالحق ونطق به ؛ لأن الحق أعز من أي صلة حتى لو كانت صلة الأبوة.
ومن هذه القضية نعلم استدراك الخلق على الخلق أمر طبيعي ومقبول لا يستنكف منه أحد، ومن هنا جاءت فكرة الاستئناف في المحاكم، فلعل القاضي في محكمة الاستئناف يستدرك على زميله في المحكمة الابتدائية، أو يقف على شيء لم يقف عليه، أو يرى جانباً من القضية لم يره.
ولنا هنا وقفة مع أمانته صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله، وأنه لم يكتم من الوحي شيئاً حتى ما جاء في عتابه والاستدراك عليه، فكأنه أمين حتى على نفسه، فالرسول هو الذي بلغنا :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " ٢٣ " ﴾( سورة الكهف ).
وهو الذي بلغنا :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك.. " ١ " ﴾( سورة التحريم ).
وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدر :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم.. " ٤٣ " ﴾( سورة التوبة ).
وغيرها كثير من آيات القرآن ؛ لذلك مدحه ربه تعالى بقوله :﴿ وما هو إلى الغيب بضنينٍ " ٢٤ " ﴾
( سورة التكوير ).
حتى في مجال التهديد والوعيد لم يكتم رسول الله من الوحي حرفاً واحداً، انظر إلى قوله تعالى :
﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل " ٤٤ " لأخذنا منه باليمين " ٤٥ " ثم لقطعنا منه الوتين " ٤٦ " ﴾( سورة الحاقة ) : إنها الأمانة المطلقة والصدق الذي لا يخفي شيئاً.
ألم يكن جديراً بالقوم أن يفقهوا هذه الناحية من رسول الله، ويتفكروا في صدقه صلى الله عليه وسلم حين يخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها، وكان من المنتظر أن يخفيها عنهم ؟ أليس في ذلك دليلاً قاطعاً على صدقه فيما يقول ؟
والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن نقول : إن شاء الله إذا أقدمنا على عمل في المستقبل إنما يكرم عبده ويحميه حتى لا يوصف بالكذب إذا لم يحقق ما وعد به، وليس في قولنا : إن شاء الله حجر على أحد، أو تقييد لطموحات البشر كما يدعي البعض أن قول إن شاء الله يلغي التخطيط للمستقبل.
نقول : خطط كما تريد، ودبر من أمرك ما شئت، واصنع من المقدمات ما تراه مناسباً لإنجاح سعيك، لكن ما عليك إن قرنت هذا كله بمشيئة الله، وهي في حد ذاتها عون لك على ما تريد، فإن أخفقت فقد جعلت لنفسك حماية في مشيئة الله، فأنت غير كاذب، والحق تبارك وتعالى لم يشأ بعد أن تنجز ما تسعى إليه.
والحقيقة أن الحدث في المستقبل لا يملكه أحد، ولا يضمنه أحد إلا الله تبارك وتعالى ؛ لذلك عليك أن تعلق الفعل على مشيئة الله، فإن قلت مثلاً : سأقابل فلاناً غداً لأكلمه في كذا، فهل تملك أنت من عناصر هذا الحدث شيئاً ؟
أضمنت أن تعيش إلى غد ؟ أضمنت حياة فلان هذا إلى الغد ؟ أضمنت أن موضوع المقابلة باق لا يتغير فيه شيء، ولا يطرأ عليه طارئ ؟ إذن : فكيف تقطع بالقول أنك ستفعل غداً كذا ؟ قل : إن شاء الله، واخرج من دائرة الحرج هذه.
نعود إلى الآية التي نحن بصددها فالحق سبحانه يقول :﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " ٩ " ﴾( سورة الكهف ) :( أم )حرف من حروف العطف، ويفيد الإضراب عما قبله وتوجيه الاهتمام إلى ما بعده، كما في قوله تعالى :﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور.. " ١٦ " ﴾( سورة الرعد ) : فالمراد : إن سألك كفار مكة عن مسألة أصحاب الكهف على أنها معضلة يريدون إحراجك بها، فدعك من كلامهم، ودعك من سوء نيتهم، ولا تحسب أن أهل الكهف هي العجيبة الوحيدة لدينا، فالعجائب عندنا كثيرة، وهذه واحدة منها.
و( الكهف ) : الفجوة في الجبل و( الرقيم )الشيء المرقوم أي : المكتوب عليه كحجر أو نحوه، ولعله حجر كان على باب الكهف رقم عليه أسماء هؤلاء الفتية، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ كتاب مرقوم " ٩ " ﴾
( سورة المطففين ) : أي : مكتوب. وقوله :﴿ كانوا من آياتنا عجباً " ٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ليست هذه هي العجيبة الوحيدة، فكل آياتنا عجيبة تستحق التأمل. ثم تأخذ الآيات في تفصيل هذه العجيبة.
لذلك لجأوا إلى الكهف مخلفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون، وفروا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أي مقوم من مقومات الحياة ؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقومات، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم ؛ لذلك ضرعوا إليه قائلين :﴿ ربنا آتنا من لدنك رحمة.. " ١٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : رحمة من عندك، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مقومات الحياة، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله :﴿ وهيئ لنا من أمرنا رشداً.. " ١٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : يسر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق.
إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرعوا واتجهوا إلى ربهم، فهو وحده القادر على أن يوسع عليهم هذا الضيق، كما قال تعالى :﴿ فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا.. " ٤٣ " ﴾( سورة الأنعام ).
لذلك، فالشاعر عندما تكلم عن المعترضين على القدر قال :
أيا هازئاً من صنوف القدر**** بنفسك تعنف لا بالقدر
ويا ضارباً صخرة بالعصا ضر****بت العصا أم ضربت الحجر ؟
فمعنى :{ ضربنا على آذانهم.. " ١١{ " ( سورة الكهف ) : أي : غطيناها بغطاء محكم يحجبهم عن العالم الخارجي، والضرب على آذانهم هو الرحمة التي دعوا الله بها وطلبوها ؛ لأن الإنسان الذي يحمل الفأس مثلاً ويعمل بها إن تعب وأجهده العمل يقف بعض الوقت ليستريح، فإن تعب من الوقوف قعد، فإن تعب من القعود استلقى واضطجع، فإن لم يسترح فلا يبقى إلا أن ينام، ففي النوم تهدأ الأعصاب، ويستريح الإنسان، حتى مع الآلام في أعنف الأمراض إذا نام المريض لا يشعر بشيء من الألم ؛ لذلك اختار لهم ربهم هذا الوضع ليريحهم به طوال فترة مكثهم في الكهف.
فالحق سبحانه إذن هو الضارب، والمضروب هو الآذان، والضرب على الآذان هنا للرحمة لا للعذاب ؛ لأن الله تعالى أراد لهم أقصى درجات الراحة والنوم الهادئ الذي لا يعكر صفوه شيء، والنوم هو الراحة التامة التي تطغى على الآلام العضوية في الذات الإنسانية.
وقد أختار الحق سبحانه الضرب على آذانهم ؛ لأن حاسة السمع هي أول الحواس عملاً في الإنسان، وهي أول آلة إدراك تؤدي مهمتها في الطفل، كما قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " ٧٨ " ﴾( سورة النحل ).
هذه الحواس هي منافذ العلم والإدراك للإنسان، فلو وضعت أصبعك أمام عين الطفل المولود تراه لا يرمش ؛ لأنه لا يرى إذا بعد ثلاثة إلى عشرة أيام، أما لو صرخت في أذنه فإنه ينتبه فحاسة السمع تؤدي مهمتها منذ ولادته. وكذلك فالأذن تمتاز أيضاً بأنها الإدراك الوحيد الذي لا يتعطل ولا يتوقف أثناء النوم لأن بها يتم الاستدعاء من النوم.
وهؤلاء الفتية دخلوا وأووا إلى الكهف، وهو فجوة في جبل في صحراء وهي عرضة للعواصف والرياح وأصوات الحيوانات وأشياء كثيرة يمكن أن تزعج النائم، فلو تركهم الخالق سبحانه في نومهم هذا على طبيعتهم لأزعجتهم هذه الأصوات وأقلقت راحتهم ؛ لذلك عطل حاسة السمع عندهم، وبذلك استطاعوا أن يناموا كل هذه المدة.
ثم يقول تعالى :﴿ في الكهف سنين عدداً " ١١ " ﴾( سورة الكهف ) : ومعنى عدداً أي : سنين كثيرة ؛ لأن القليل لا يعد لأنه معروف، فإن ذكر العد فاعلم أنه للشيء الكثير، كما تقول : فلان عنده مليون عداً ونقداً.
( نحن )أي : الحق سبحانه وتعالى، فهو الذي يقص ما حدث بالحق، فلو أن القاص غير الله لتوقع منه الخطأ أو النسيان، أو ترك شيء من الأحداث لهوىً في نفسه، إنما إن جاءك القصص من الله فهو الحق، كما قال في آية أخرى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص.. " ٣ " ﴾( سورة يوسف ).
إذن : هناك قصص ليس بالحسن، وهو القصص غير الدقيق.
فالقصص القرآني يضمن لك منتهى الدقة في عرض الأحداث، ويصور لك كل اللقطات، وكلمة قصة أو قصص تدل على دقة التتبع ؛ لأنها من قص الأثر أي : تتبعه وكان لهذه المهمة رجال معروفون بقصاص الأثر، وهم الذين يتتبعون الواقع.
و( نبأهم )النبأ : هو الخبر العظيم. ثم يقول تبارك وتعالى :﴿ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدىً.. " ١٣ " ﴾( سورة الكهف ) : هذا هو تفصيل القصة بعد أن لخصها القرآن في المذكرة والبرقية السابقة، وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله : لقد ذكر ناس هذه القصة من قبل، لكنها قصت بغير حق، وغير فيها، لكن قصنا لها هو القصص الحق الذي لا كذب فيه.
فحقيقة هؤلاء أنهم فتية آمنوا بالله، وهذه قضيتهم التي ضحوا من أجلها، فلما آمنوا بالله تولاهم ونور بصائرهم وربط على قلوبهم، وزادهم إيماناً، كما قال في آية أخرى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ) : وما أشبه هذه المسألة بالمعلم الذي يلمح أمارات النجابة والذكاء على أحد تلاميذه، ويراه مجيباً حريصاً على العلم فيوليه اهتمامه ويمنحه المزيد من المعلومات.
ونلاحظ هنا أن هؤلاء المؤمنين الذين ضحوا بكل شيء وفروا بدينهم مازالوا في مرحلة الشباب، وهو مظنة الانشغال بالدنيا والحرص على متعها، أما هؤلاء فقد انشغلوا بدينهم منذ صغرهم ليكونوا قدوة ومثلاً للشباب المؤمن في كل زمان ومكان، فالفتاء في أهل الكهف : فتاء إيمان و فتاء عقيدة.
﴿ كادت لتبدي به لولا.. " ١٠ " ﴾( سورة القصص ) : أي : تكشف عن الخطة التي أمرها الله بها لنجاة موسى عليه السلام، وهكذا اطمأن قلب أم موسى، وأصبح فؤادها فارغاً أي : من الانفعالات الضارة، ومعلوم أن القلب هو محل الانفعالات، بدليل ما يحدث فيه من اضطراب وزيادة ضربات وتدفق للدم عند الغضب مثلاً.
ولا يسمى القلب فؤاداً إلا إذا توقد بالمشاعر وتحرك بها، وربط الله على قلب أم موسى أحدث لها ضبطاً للشعور يحكم تصرفاتها فتأتي سليمة متمشية مع الخطة المرادة.
ومن هنا نأمر الغاضب الذي تغلي الدماء في عروقه بالهدوء وضبط النفس ؛ لأن الهدوء سيعينه على الحق، ويلجم جماح غضبه الذي لا تحمد عقباه، ألا ترى التوجيه النبوي في حال الغضب ؟ إنه ينصح بتغيير الوضع الذي أنت عليه ؛ لأن هذه العملية تحدث لديك نزوعية، تصرف عنك الغضب.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وأفئدتهم هواء " ٤٣ " ﴾( سورة إبراهيم ) : أي : فارغة خالية ليس فيها شيء ؛ لأن الشيء إذا فرغته من محتواه امتلأ بالهواء. وهنا يقول الحق سبحانه في أهل الكهف :﴿ وربطنا على قلوبهم.. " ١٤ " ﴾( سورة الكهف ).
لتظل بداخلها العقيدة والإيمان بالله لا تتزعزع ولا تخرجها الأحداث والشدائد، وهذا من زيادة الهدى الذي أخبرت به الآية السابقة. وقوله تعالى :﴿ إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض.. " ١٤ " ﴾
( سورة الكهف ) : قاموا : القيام هنا دليل على مواجهتهم للباطل ووقوفهم في وجهه، وأن الباطل أفزعهم فهبوا للتصدي له بقولهم :﴿ رب السماوات والأرض.. " ١٤ " ﴾( سورة الكهف ).
ولابد أنهم سمعوا كلاماً يناقض قولهم، وتعرضوا في دعوتهم للحرب والاضطهاد، فالآية تعطي صورة لفريقين : فريق الكفر الذي ينكر وجود الله أو يشرك به، وفريق الإيمان الذي يعلنها مدوية :﴿ ربنا رب السماوات والأرض.. " ١٤ " ﴾( سورة الكهف ).
وإن كان فريق الكفر يدعو إلى عبادة آلهة من دون الله فإن فريق الإيمان يقول :﴿ لن ندعو من دون إلهاً " ١٤ " ﴾( سورة الكهف ) : فإن ادعينا إلهاً من دون الله :﴿ لقد قلنا إذاً شططاً " ١٤ " ﴾( سورة الكهف ).
أي : فقد تجاوزنا الحد، وبعدنا عن الصواب.
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً " ١٥ " ﴾( سورة الكهف ) : فأفظع الظلم وأقبحه أن نفتري على الله الكذب، كما قال تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم " ١٣ " ﴾( سورة الكهف ).
ويلفتنا هنا إلى فرار هؤلاء الفتية ليس إلى بلد آخر فيه متسع للحياة، بل إلى كهف ضيق في جبل في صحراء، وليس به مقوم من مقومات الحياة ؛ لذلك ينبهنا الحق سبحانه : إياك أن تقول : إن الكهف ضيق، وكيف يعيشون فيه ؟ لأنهم مهاجرون إلى الله لاجئون إليه متوكلون عليه.
لذلك قال بعدها :﴿ ينشر لكم.. " ١٦ " ﴾( سورة الكهف ) : فالضيق يقابله البسط والسعة، لقد قالوا هذه الكلمة وهم واثقون في رحمة الله معتقدون أن الذي هاجروا إليه لن يسلمهم ولن يخذلهم، وسوف يوسع عليهم برحمته هذا الضيق، وقد وسعه الله عليهم فعلاً حين أنامهم، ألا ترى النائم يربع في الدنيا هنا وهناك ولا تحده حدود ؟
ومن هذه السعة ما حدث في قصة نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تبعه فرعون بجنود حتى قال أتباعه :﴿ إنا لمدركون " ١٦ " ﴾( سورة الشعراء ) : فقد ضاق عليهم الخناق حيث البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، ولا مهرب لهم فيما يرون من واقع الأمر. فماذا قال موسى لقومه في هذا الموقف ؟ قال بملء فيه قولة الواثق من نصر الله :﴿ ينشر لكم.. " ٦٢ " ﴾( سورة الشعراء ).
فجاءه التأييد من ربه في التو واللحظة، وفرج عنه وعن أصحابه ما يلاقون من ضيق المخرج، فأوحى الله إليه :﴿ اضرب بعصاك البحر.. " ٦٣ " ﴾( سورة الشعراء ).
كذلك هنا :﴿ ينشر لكم ربكم من رحمته.. " ١٦ " ﴾( سورة الكهف ).
ثم يقول تعالى :﴿ ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً " ١٦ " ﴾( سورة الكهف ) : والمراد بالمرفق جمع مرافق، وهي مقومات الحياة التي لا يستغني عنها الإنسان، فلما أنامهم الله أغناهم عن مرافق الحياة، لأنهم إن ظلوا في حال اليقظة فلابد أن يحتاجوا إلى هذه المرافق.
ولكن الخالق سبحانه وتعالى خرق لهم نظام الشمس حتى لا يزعجهم ضوؤها فجعلها ( تزاور )أي : تميل عند طلوعها عن الكهف، ومنه الزور : أي الميل عن الحق، وازور عن الشيء أي : مال عنه، فكانت الشمس إذا طلعت تميل عن الكهف جهة اليمين.
﴿ وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال.. " ١٧ " ﴾( سورة الكهف ). والقرض كما هو معلوم أن تعطي غيرك شيئاً يحتاج إليه، فكأن الشمس تقرضهم وتسلفهم، كونها لا تدخل عليهم عند غروبها، وهذا أمر ليس من حقهم، فكأنها تقرضهم إياه. ولاشك أن هذه العملية مظهر من مظاهر قدرة الله التي تصنع الشيء وضده.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الفعل للشمس في تزاور وتقرضهم، وكأنها تفعل ذلك من نفسها بعد أن ضبط الله تعالى حركتها على هذه الأفعال كما تضبط الآلة اليوم. وقوله :﴿ وهم في فجوةٍ منه.. " ١٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : في الكهف.
﴿ ذلك من آيات الله.. " ١٧ " ﴾( سورة الكهف ).
ومادامت هذه الأفعال للشمس آية من آيات الله، ومعجزة من معجزاته تعالى، فإياك أن تعترض : كيف تميل الشمس ؟ وكيف تغير اتجاهها ؟ لأن الخالق سبحانه خلق الخلق، وأعطى لكل مخلوق قانونه الذي يسير به، ومع ذلك لم يترك لكل مخلوق أن يفعل بقانونه ما يريد، بل له سبحانه وتعالى قيومية على القانون، تبطله إن شاء، وتحركه إن شاء.
ثم يقول تعالى :﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " ١٧ " ﴾( سورة الكهف )
فقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، فهناك دائماً من يقول : إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت ؟
وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة، ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة، ونقول لكل مجادل : لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت ؟ ولماذا لم تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت ؟ إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر، ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم.
والهداية نوعان : هداية دلالة، وهي للجميع، للمؤمن والكافر ؛ لأن الحق سبحانه لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يقبل على الإيمان به، فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة، فيأخذ بيده ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له أمره.
فمن شاء الحق سبحانه هدايته أعطاه الهداية، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بين أن من شاء هدايته يهتدي، وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي، وكذلك الظالم والفاسق، لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع الحق سبحانه عنهم هداية المعونة.
ومعلوم أن الإنسان إذا قدر له أن ينام فترة طويلة على سرير المرض يصاب بمرض آخر يسمونه قرحة الفراش، نتيجة لنومه المستمر على جانب واحد عافانا الله وإياكم وقد جعل لهم هذا التقليب ذات اليمين وذات الشمال على هيئة الإيقاظ. وقوله :﴿ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.. " ١٨ " ﴾( سورة الكهف ) : ويبدو أنهم كانوا من الرعاة، فتبعهم كلبهم وجلس ماداً ذراعيه بفناء الكهف أو على بابه :﴿ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " ١٨ " ﴾( سورة الكهف ).
فقد ألقى الله مهابتهم والخوف منهم في نفوس الناس، فإذا ما اطلع عليهم إنسان خاف وولى هارباً يملؤه الرعب ؛ لأن هيئتهم توحي بذلك، حيث يتقلبون يميناً وشمالاً، ومع ذلك لا يصحو منهم أحد، ولا يقوم منهم أحد طوال هذه المدة.
فرد الفريق الآخر بما تقضيه طبيعة الإنسان في النوم العادي فقال :﴿ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ.. " ١٩ " ﴾( سورة الكهف ) : فالإنسان لا يستطيع تقدير مدة نومه بالضبط، لكن المعتاد في النوم أن يكون كذلك يوماً أو بعض يوم.
وقد أخذ العلماء من هذا القول أنهم حين تساءلوا هذا السؤال لم يجدوا في ذواتهم شيئاً يدل على مرور زمن طويل، حيث وجدوا أنفسهم على الحال التي ناموا عليها، فلم يتغير مثلاً حالهم من الشباب إلى الشيخوخة، ولم يتغير شعرهم مثلاً إلى البياض ؛ لذلك قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم، ولو وجدوا أنفسهم شيباً لقدروا الزمن المناسب لهذا الشيب.
وهذه وقفة المشدوه حين يسأل عن زمن لا يدري مدته، إنه طويل عند الله إنما قصير عنده، وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس.. " ٢٥٩ " ﴾( سورة البقرة ) :
لقد حكم على مدة لبثه بيوم أو بعض يوم ؛ لأنه وجد نفسه على الحال التي عهدها لم يتغير منه شيء، فكيف يتأتى الصدق من الحق سبحانه في قوله ( مائة عام )والصدق في قول العزيز بيوم أو بعض يوم ؟
لاشك أننا أمام آية من آيات الخالق سبحانه، ومعجزة من معجزاته لا يقدر عليها إلا المالك للزمان والمكان، القابض للزمان ليوم أو بعض يوم، الباسط له إلى مائة عام.
لذلك أظهر الخالق سبحانه في هذه المعجزة الدليل على صدق القولين : ففي طعام العزيز الذي ظل على حاله طازجاً لم يتغير دليل على يوم أو بعض يوم، وفي حماره الذي رآه عظاماً بالية دليل على المائة عام، فسبحان الذي يجمع الشيء وضده في آن واحد.
ثم يقول تعالى حكاية عنهم :﴿ قالوا ربكم أعلم بما لبثتم.. " ١٩ " ﴾( سورة الكهف ) : وهو قول الجماعة الذين أرادوا إنهاء الخلاف في هذه المسألة، فقالوا لإخوانهم : دعونا من هذه القضية التي لا تفيد، واتركوا أمرها لله تعالى. ودائماً يأمرنا الحق سبحانه بأن ننقل الجدل من شيء لا ننتهي فيه إلى شيء، ونحوله للأمر المثمر النافع ؛ لذلك قالوا :﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " ١٩ " ﴾( سورة الكهف ).
والورق يعني العملة من الفضة، فأرادوا أن يرسلوا أحدهم بما معهم من النقود ليشتري لهم من المدينة طعاماً ؛ لأنهم بمجرد أن استيقظوا انتهت حالتهم الاستثنائية، وعادوا إلى طبيعتهم ؛ لذلك طلبوا الطعام، لكن نلحظ هنا أن الجوع لم يحملهم على طلب مطلق الطعام، بل تراهم حريصين على تزكية طعامهم واختيار أطيبه وأطهره، وأبعده عن الحرام.
وكذلك لم يفتهم أن يكونوا على حذر من قومهم، فمن سيذهب منهم إلى هذه المهمة عليه أن يدخل المدينة خلسة، وأن يتلطف في الأمر حتى لا يشعر به أحد من القوم، ذلك لأنهم استيقظوا على الحالة التي ناموا عليها، ومازالوا على حذر من قومهم يظنون أنهم يتتبعونهم ويبحثون عنهم، ويسعون للقضاء عليهم.
( سورة الكهف ) : يقيم من أهل الكهف دليلاً على قيام الساعة والبعث بعد الموت، فهاأنتم مازلتم على قيد الحياة وفي سعة الدنيا، ومع ذلك أنامكم الله هذه النومة الطويلة ثم بعثكم وقد عثر عليهم، ومازالت فيهم حياة. ثم يقول تعالى :﴿ إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم.. " ٢١ " ﴾( سورة الكهف ) : حدث هذا التنازع من الجماعة الذين عثروا عليهم، ويبدو أنهم كانوا على مسحة من الدين، فأرادوا أن يحافظوا على هذه الآية الإلهية، ويصح أنهم بمجرد أن عثروا عليهم قضى أجلهم فماتوا.
وهذه مسألة يجب أن يؤرخ لها، وأن تخلد ؛ لذلك جعلوها مثلاً شروداً للعالم كله لتعرف قصة هؤلاء الفتية الذين ضحوا في سبيل عقيدتهم وفروا بدينهم من سعة الحياة إلى ضيق الكهف ؛ ليكونوا مثلاً لكل أهل العقيدة، ودليلاً على أن الله تعالى ينصر أهله ويدافع عنهم ويخلد ذكراهم إلى قيام الساعة.
لذلك قال بعضهم لبعض :﴿ ابنوا عليهم بنيانا.. " ٢١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : مطلق البنيان، فعارضهم آخرون بأن البناء يجب أن يكون مسجداً :﴿ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً " ٢١ " ﴾
( سورة الكهف ) : ليكون موضعاً للسجود لله وللعبادة ليتناسب مع هذه الآية العظيمة الخالدة.
ثم تحدث الحق سبحانه عن الاختلاف التي نشأت عن فضول الناس لمعرفة عدد أهل الكهف، وما يتعلق بهم من تفصيلات هي في حقيقتها علم لا ينفع وجهل لا يضر.
ثم يأتي القول الفصل في هذه المسألة :﴿ قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل.. " ٢٢ " ﴾( سورة الكهف ) : فلم يبين لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي، وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه، ولا نبحث في أمر لا طائل منه، ولا فائدة من ورائه، فالمهم أن يثبت أصل القصة وهو : الفتية الأشداء في دينهم والذين فروا به وضحوا في سبيله حتى لا يفتنهم أهل الكفر والطغيان، وقد لجأوا إلى الكهف ففعل الله بهم ما فعل، وجعلهم آية وعبرة ومثلاً وقدوة.
أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية لا تقدم ولا تؤخر ؛ لذلك قال تعالى بعدها :﴿ فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً.. " ٢٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : لا تجادل في أمرهم.
ثم يأتي فضول الناس ليسألوا عن زمن القصة ومكانها، وعن أشخاصها وعددهم وأسمائهم، حتى كلبهم تكلموا في اسمه. وهذه كلها أمور ثانوية لا تنفع في القصة ولا تضر، ويجب هنا أن نعلم أن القصص القرآني حين يبهم أبطاله يبهمهم لحكمة، فلو تأملت إبهام الأشخاص في قصة أهل الكهف لوجدته عين البيان لأصل القصة ؛ لأن القرآن لو أخبرنا مثلاً عن مكان هؤلاء الفتية لقال البعض : إن هذا الحدث من الفتية خاص بهذا المكان ؛ لأنه كان فيه قدر من حرية الرأي.
ولو حدد زمانهم لقال البعض : لقد حدث ما حدث منهم ؛ لأن زمانهم كان من الممكن أن يتأتى فيه مثل هذا العمل، ولو حدد الأشخاص وعينهم لقالوا : هؤلاء أشخاص لا يتكررون مرة أخرى.
لذلك أبهمهم الله لتتحقق الفائدة المرجوة من القصة، أبهمهم زماناً، أبهمهم مكاناً، وأبهمهم عدداً، وأبهمهم أشخاصاً ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا أشخاص، فحمل راية الحق، والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والأشخاص، وهذا هو عين البيان للقصة، وهذا هو المغزى من هذه القصة.
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى :﴿ قال رجل مؤمن من آل فرعون.. " ٢٨ " ﴾( سورة غافر ) : هكذا ( رجل مؤمن )دون أن يذكر عنه شيئاً، فالمهم أن الرجولة في الإيمان، أياً كان هذا المؤمن في أي زمان، وفي أي مكان، وبأي اسم، وبأي صفة. كذلك في قوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوطٍ.. " ١٠ " ﴾( سورة التحريم ) : ولم يذكر عنهما شيئاً، ولم يشخصهما ؛ لأن التشخيص هنا لا يفيد، فالمهم والمراد من الآية بيان أن الهداية بيد الله وحده، وأن النبي المرسل من الله لم يستطع هداية زوجته وأقرب الناس إليه، وأن للمرأة حرية عقيدة مطلقة. وكذلك في قوله :﴿ وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون.. " ١١ " ﴾( سورة التحريم ) : ولم يذكر لنا من هي، ولم يشخصها ؛ لأن تعينها لا يقدم ولا يؤخر، المهم أن نعلم أن فرعون الذي ادعى الألوهية وبكل جبروته وسلطانه لم يستطع أن يحمل امرأته على الإيمان به.
إذن : العقيدة والإيمان أمر شخصي قلبي، لا يجبر عليه الإنسان، وهاهي امرأة فرعون تؤمن بالله وتقول :﴿ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين " ١١ " ﴾( سورة التحريم ).
أما في قصة مريم، فيقول تعالى :﴿ ومريم أبنت عمران.. " ١٢ " ﴾( سورة التحريم ) : فشخصها باسمها، بل واسم أبيها، لماذا ؟ قالوا : لأن الحدث الذي ستتعرض له حدث فريد وشيء خاص بها لن يتكرر في غيرها ؛ لذلك عينها الله وعرفها، أما الأمر العام الذي يتكرر، فمن الحكمة أن يظل مبهماً غير مرتبط بشخص أو زمان أو مكان، كما في قصة أهل الكهف، فقد أبهمها الحق سبحانه لتكون مثالاً وقدوة لكل مؤمن في كل زمان ومكان.
وقد سبق أن ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال : سأجيبكم غداً ولم يقل : إن شاء الله. فلم يعاجله الله تعالى بالعتاب، بل قضى له حاجته، ثم لفت نظره إلى أمر هذه المخالفة، وهذا من رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
كما خاطبه بقوله :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم.. " ٤٣ " ﴾( سورة التوبة ) : فقدم العفو أولاً وقرره ؛ لأن هذه المسألة منتهية ومعلومة للرسول، ثم عاتبه بعد ذلك. كما لو طلب منك شخص عوناً أو مساعدة، وقد سبق أن أساء إليك، فمن اللباقة ألا تصدمه بأمر الإساءة، وتذكر به أولاً، ثم اقض له حاجته، ثم ذكره بما فعل.
لذلك ؛ فالحق سبحانه لم يقل ثلاثمائة وتسعاً، بل قال :﴿ وازدادوا تسعاً " ٢٥ " ﴾( سورة الكهف ) :
ولما سمع أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا : نعرف ثلاثمائة سنة، ولكن لا نعرف التسعة ؛ ذلك لأن حسابهم لهذه المدة كان حساباً شمسياً.
ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والأرض قسم الزمن تقسيماً فلكياً، فجل الشمس عنواناً لليوم، نعرفه بشروقها وغروبها، ولما كانت الشمس لا تدلنا على بداية الشهر جعل الخالق سبحانه الشهر مرتبطاً بالقمر الذي يظهر هلالاً في أول كل شهر، وقد قال تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض.. " ٣٦ " ﴾( سورة التوبة ).
فلو حسبت الثلاثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلاثمائة سنة وتسعاً، إذن : هي في حسابكم الشمسي ثلاثمائة سنة، وفي حسابنا القمري ثلاثمائة وتسعاً. ونعرف أن السنة الميلادية تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوماً تقريباً في كل عام.
ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في الإسلام بالأهلة، ولك أن تتصور لو ارتبط الحج مثلاً بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد لا يتغير، فإن جاء الحج في الشتاء يظل هكذا في كل عام، وكم في هذا من مشقة على من لا يناسبهم الحج في فصل الشتاء. والأمر كذلك في الصيام.
أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام، فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف، ومرة في الخريف، ومرة في الشتاء، ومرة في الربيع، فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت الذي يناسبه ؛ لذلك قالوا : يا زمن وفيك كل الزمن.
والمتأمل في ارتباط شعائر الإسلام بالدورة الفلكية يجد كثيراً من الآيات والعجائب، فلو تتبعت مثلاً الأذان للصلاة في ظل هذه الدورة لوجدت أن كلمة " الله اكبر " نداء دائم لا ينقطع في ليل أو نهار من ملك الله تعالى، وفي الوقت الذي تنادي فيه " الله اكبر " ينادي آخر " أشهد ألا إله إلا الله " وينادي آخر " أشهد أن محمداً رسول الله " وهكذا دواليك في منظومة لا تتوقف.
وكذلك في الصلاة، ففي الوقت الذي تصلي أنت الظهر، هناك آخرون يصلون العصر، وآخرون يصلون المغرب، وآخرون يصلون العشاء، فلا يخلو كون الله في لحظة من اللحظات من قائم أو راكع أو ساجد. إذن : فلفظ الأذان وأفعال الصلاة شائعة في كل أوقات الزمن، وبكل ألوان العبادة.
وأسلوب تعجب أي : ما أشد بصره، وما أشد سمعه ؛ لأنه البصر والسمع المستوعب لكل شيء بلا قانون. وقوله :﴿ ما لهم من دونه من وليٍ ولا يشرك في حكمه أحداً " ٢٦ " ﴾( سورة الكهف ) :
كأن الحق سبحانه وتعالى يطمئن عباده بأن كلامه حق لا يتغير ولا يتبدل ؛ لأنه سبحانه واحد أحد لا شريك له يمكن أن يغير كلامه.
وإن أبطأت نصرة الله لك فاعلم أن الله يريد أن يمحص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمر بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا من هو مأمون على حمل هذه العقيدة. وقوله :
﴿ لا مبدل لكلماته.. " ٢٧ " ﴾( سورة الكهف ) : لأن كلمات الله لا يستطيع أحد أن يبدلها إلا أن يكون معه سبحانه إله آخر، فمادام هو سبحانه إلهاً واحداً لا شريك له، فاعلم أن قوله الحق الذي لا يبدل ولا يغير :﴿ ولن تجد من دون ملتحداً " ٢٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ملجأ تذهب إليه ؛ لأن حسبك الله وهو نعم الوكيل، كما قال تعالى :﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " ٥١ " ﴾( سورة العنكبوت ).
لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلاء الذين نسميهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة الله أن لا نحتقرهم، ولا نقلل من شأنهم أو نتهمهم ؛ لأن الله تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون، ذلك أن صاحب الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دنياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من الدنيا، وألقاها وراء ظهره، وراح يستند إلى حائط المسجد ممدداً رجلاً، لا تعنيه أمور الدنيا بما فيها.
ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إن أصابه مكروه أو نزلت به نازلة يهرع إلى هذا الشيخ يقبل يديه ويطلب منه الدعاء، وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلاء المجاذيب ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها.
وأيضاً، كثيراً ما ترى أهل الدنيا في خدمة هؤلاء العباد، ففي يوم من الأيام قمنا لصلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، وكان معنا رجل كبير من رجال الاقتصاد، فإذا به يخرج مبلغاً من المال ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات، فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم الصغير، فإذا برجل الاقتصاد الكبير يقول له : لا، لابد من جنيهات من الحجم الكبير ؛ لأن فلاناً المجذوب على باب الحسين لا يأخذ إلا بالجنية الكبير، فقلت في نفسي : سبحان الله مجذوب على باب المسجد وشغل اكبر رجل اقتصاد في مصر، ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد.
ثم يقول تعالى :﴿ ولا تعد عيناك عنهم.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا ؛ لأن مدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن.
﴿ تريد زينة الحياة الدنيا.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنك إن فعلت ذلك وانصرفت عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها.
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصفة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يقوي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دينهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرب إليه.
لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصفة منقطعين للعبادة ؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قلة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أسوة تذكر الناس وتكبح جماح تطلعاتهم إلى الدنيا.
ومن العجيب أن ترى البعض يدعي حال هؤلاء، ويوهم الناس أنه مجذوب، وأنه ولي نصباً واحتيالاً، والشيء لا يدعي إلا إذا كانت من ورائه فائدة، كالذي يدعي الطب أو يدعي العلم لما رأى من ميزات الطبيب والعالم. فلما رأى البعض حال هؤلاء المجاذيب، وكيف أنهم عزفوا عن الدنيا فجاءت إليهم تدق أبوابهم، وسعى إليهم أهلها بخيراتها، فضلاً عما لهم من مكانة ومنزلة في النفس ومحبة في القلوب.
فلماذا إذن لا يدعون هذه الحال ؟ ولماذا لا ينعمون بكل هذه الخيرات دون أدنى مجهود ؟ وما أفسد على هؤلاء العباد حالهم، وما خاض الناس في سيرتهم إلا بسبب هذه الطبقة الدخيلة المدعية التي استمرأت حياة الكسل والهوان.
ثم يقول تعالى :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا من غفل عن ذكر الله، أما من اطمأن قلبه إلى ذكرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصفة، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم، فكيف يأمر بالانصراف عنهم ؟
>وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله : " أوحى الله إلى الدنيا : من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه.. " >
فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يدع. وقوله تعالى :﴿ واتبع هواه.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أن هذا الذي يحرضك على أهل الصفة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله، فمادام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله، إنه مشغول بمطلوب نفسه ؛ >لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " >.
فالمؤمن الحق سليم الإيمان من كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله، لا يحيد عنه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. " ٧١ " ﴾( سورة المؤمنون ).
وقوله تعالى :﴿ وكان أمره فرطاً " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : كان أمره ضياعاً وهباءً، فكأنه أضاع نفسه.
وقوله :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.. " ٢٥ " ﴾( سورة لقمان ).
فمعنى :﴿ من ربكم.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم ورباكم وتعهدكم هو الذي نزل لكم هذا الحق و : ربكم.. " ٢٩ " ؟( سورة الكهف ) : أي : ليس ربي وحدي، بل ربكم ورب الناس جميعاً.
والحق : هو الشيء الثابت، ومادام من الله فلن يغيره أحد ؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مقبلاً، وبعد ذلك يعدل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يخفي عليه شيء ولا يعزب عن عمله شيء، لذلك لا استدراك على حكم من أحكامه من أحد من خلقه.
فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدك بالنعم، وهو الذي يربيك كما يربي الوالد ولده ؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف : افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تقيد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يقيد اختياراته ؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى ؛ لأنها ليس لها مطلوبات.
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره : بماذا أمرك معبودك ؟ وعما نهاك ؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن : فلهم أن يقولوا : نعم هذا الإله، ونعم هذا الدين ؛ لأنه يتركني بحريتي افعل ما أريد.
لذلك ؛ نجد الذين يدعون ألوهية، أو يدعون نبوة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج ؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعب على الناس ؛ لأن فيها حجراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعت سجاح النبوة خفف الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم ؟
وما أشبه مدعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعرض من الدنيا، فيفتون الناس بتحليل ما حرم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإن كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى من يخفف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم، وترى الواحد منهم يكذب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد.
إذن : مادمتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل :( اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي )، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قل لهم : لا جبر في الإيمان :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم.
وقد جاء في الحديث القدسي : " إنكم لن تملكوا نفعي فتنعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ".
" ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر، وذلك أني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقوله له كن فيكون ".
إذن : فائدة الإيمان تعود على المؤمن، كما قال تعالى :﴿ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.. " ٤٦ " ﴾( سورة فصلت ) : لكني أحب لخلقي أن يكونوا دائماً على خير مني، فأنا أعطيهم خير الدنيا، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة.
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ).
وكان خصوم الإسلام حينما يرون الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها، لا من جهتهم بالعدوان على من يؤمن، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه وفداً، قالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، لقد أدخلت على قومك ما لم يدخله أحد قبلك، شتمت آلهتنا وسفهت أحلامنا وسببت ديننا، فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك علينا، وجعلناك رئيسنا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك>. فقال صلى الله عليه وسلم : " والله ما بي ما تقولون، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم، فإن أنتم أطعتم فبها، وإلا فإن الله ناصري عليكم " >.
>وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سراً يتساهل فيه رسول الله، فلما لم يجدوا بغيتهم قالوا : نتوسل إليك بمن تحب، فربما خجل أن يقبل منا ونحن خصومه، فلنرسل إليه من يحبه، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، فلما كلمه عمه قال قولته المشهورة : " والله، يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه.
فلما فشلت هذه المحاولة أيضاً أتوه من ناحية ثالثة، فقالوا : ننتهي إلى أمر هو وسط بيننا وبينك : دعك من هؤلاء الفقراء، واصرف وجهك عنهم، ولا تربط نفسك بهم، ووجه وجهك إلينا، فأنزل الله :
﴿ واصبر نفسك.. " ٢٨ " ﴾( سورة الكهف ).
ثم بين الحق سبحانه وتعالى أن الإسلام أو الدين الذي أنزله الله لا يأخذ أحكامه من القوم الذين أنزل عليهم ؛ لأن رسول الله إنما أرسل ليضع لهم موازين الحق، ويدعو قومه إليها، فكيف يضعون هم هذه الموازين، فيأمرون رسول الله بأن يصرف وجهه عن الفقراء ويتوجه إليهم ؟
لذلك قال :﴿ وقل الحق من ربكم.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنه بعثني بالحق رسولاً إليكم، وما جئت إلا لهدايتكم، فإن كنتم تريدون توجيهي حسب أهوائكم فقد انقلبت المسألة، ودعوتكم لي أن أنصرف عن هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وأتوجه إليكم، فهذا دليل على عدم صدق إيمانكم، وأنكم لستم جادين في اتباعي ؛ لذلك فلا حاجة بي إليكم.
ثم يقول تعالى :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ادخلوا على هذا الأساس : أن كل حق ينزل من الله، لا أن آخذ الحق منكم، ثم أرده إليكم، بل الحق الذي أرسلني الله به إليكم، وعلى هذا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
والأمر في هذه الآية سبق أن أوضحناه فقلنا : إذا وجدنا أمراً بغير مطلوب فلنفهم أن الأمر استعمل في غير موضعه، كما يقول الوالد لولده المهمل : العب كما تريد، فهو لا يقصد أمر ولده باللعب بالطبع، بل يريد تهديده وتأنيبه. وهكذا في :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ).
وإلا لو أخذت الآية على إطلاقها لكان من آمن مطيعاً للأمر : والعاصي أيضاً :﴿ فمن شاء فليؤمن.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : مطيع للأمر :﴿ ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) :
فكلاهما إذن مطيع، فكيف تعذب واحداً دون الآخر ؟
فالأمر هنا ليس على حقيقته، وإنما هو للتسوية والتهديد، أي : سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا، فأنتم أحرار في هذه المسألة ؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم، فالله سبحانه غني عنكم وعن إيمانكم، وكذلك خلق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم، فاستغناء الله عنكم مسحوب على استغناء الرسول، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم.
وقد أراد الحق سبحانه أن يصيح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة ويجهر بها في أذن صناديد الكفر وعتاة الجزيرة العربية الذين لا يخرج أحد عن رأيهم وأمرهم ؛ لأن لهم مكانة وسيادة بين قبائل العرب.
ولحكمة أرادها الحق سبحانه لم يأت نصر الإسلام على يد هؤلاء، ولو جاء النصر على أيديهم لقيل : إنهم ألفوا النصر وألفوا السيادة على العرب، وقد تعصبوا لواحد منهم ليسودوا به الدنيا كلها، فالعصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد، ولكن الإيمان بمحمد خلق العصبية لمحمد.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها.. " ٢٩ " ﴾( سورةالكهف ) : والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تهول الآية وتفخم أمر العذاب ؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوا عن أسبابها، إذن : فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد ؛ لأن خوف العذاب سيمنعهم من الجريمة.
ومعنى ( أعتدنا )أي : أعددنا، فالمسألة منتهية مسبقاً، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومعدة ومجهزة، لا أنها ستعد في المستقبل، وقد أعدت إعداد قادر حكيم، فأعد الله الجنة لتتسع لكل الخلق إن آمنوا، وأعد النار لتتسع لكل الخلق إن كفروا، فإن آمن بعض الخلق وكفر البعض، فالذي آمن وفر مكانه في النار، والذي كفر وفر مكانه في الجنة.
لذلك قال تعالى في هذه المسألة :﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " ٧٢ " ﴾( سورةالزخرف )
إذن : فخلق الله تعالى للجنة وللنار أمر منضبط تماماً، ولن يحدث فيهما أزمة أو زحام أبداً، بل لكل مكانه المخصص. وقوله تعالى :﴿ للظالمين.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ).
والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حق الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم، ثم لأنك الظلم فيما دون ذلك، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قدر ظلمه، إلا أن يكون مشركاً. فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتر عنه، فإن ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يعذب به، ثم يدخله الله الجنة، إن لم يتب، وإن لم يغفر الله له.
وقوله تعالى :﴿ أحاط بهم سرادقها.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : السرادق، كما نقول الآن : أقاموا السرادق أي : الخيمة. و معنى سرادق : أي محيط بهم، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خال من النار ؛ لأن رؤيته لمكان خال من النار قد توحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أن يؤيسهم من الخروج. ثم يقول تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) :
الاستغاثة : صرخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم، كما قال في آية أخرى :﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. " ٢٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : حين تصرخون من العذاب لا أستطيع أن أزيل صراخكم، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي.
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب ( يغاثوا )يتبادر إلى الذهن أنهم يغاثون بشيء من رحمة الله، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يخفف عنهم العذاب.. لا.
﴿ يغاثوا بماء كالمهل.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : فإن طلبوا الغوث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار، فإذا بهم بماء كالمهل.
والمهل هو عكارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدردي، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غلي الماء، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار، ويعذبون من حيث ينتظرون الرحمة.
وقوله تعالى هنا :( يغاثوا )أسلوب تهكمي ؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أن تخ
وليكن في الاعتبار أن المتكلم رب حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجح أن يكون الإيمان أولاً وأن يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أن " درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة ".
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العمل الصالح ؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان، وفائدة الإيمان أن توثق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنت به ؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدة من كتاب الله، منها قوله تعالى :﴿ والعصر " ١ " إن الإنسان لفي خسر " ٢ " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ٣ " ﴾( سورة العصر ).
ذلك لأن المؤمنين إذا ما أثمر فيهم الإيمان العمل الصالح فإنهم سيتعرضون ولابد لكثير من المتاعب والمشاق التي تحتاج إلى التواصي بالصبر والتواصي بالحق، ولنا أسوة في هذه المسألة بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحملوا عبء الدعوة وصبروا على الأذى في سبيل إيمانهم بالله تعالى.
ثم يقول تعالى :﴿ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " ٣٠ " ﴾( سورة الكهف ) : نلاحظ أن ( من )هنا عامة للمؤمن والكافر ؛ لذلك لم يقل سبحانه : إنا لا نضيع أجر من احسن الإيمان ؛ لأن العامل الذي يحسن العمل قد يكون كافراً، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حقه، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا.
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يحرم ثمرة عمله واجتهاده، لكنها تعجل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حظ له في الآخرة. ويقول تبارك وتعالى :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " ٢٣ " ﴾( سورة الفرقان ).
ويقول تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً " ١٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
ويقول تعالى :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " ٣٩ " ﴾( سورة النور ).
فهؤلاء قد استوفوا أجورهم، وأخذوا حظهم في الدنيا ألواناً من النعيم والمدح والثناء، وخلدت ذكراهم، وأقيمت لهم التماثيل والاحتفالات ؛ لذلك يأتي في الآخرة فلا يجد إلا الحسرة والندامة حيث فوجئ بوجود إله لم يكن يؤمن به، والإنسان إنما يطلب أجره ممن عمل من أجله، وهؤلاء ما عملوا لله بل للإنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا، ولم يبق لهم شيء في الآخرة.
الجنات رأينا منها صورة في الدنيا، وتطلق إطلاقاً شرعياً وإطلاقاً لغوياً. أما الشرعي : فهو الذي نعرفه من أنها الدار التي أعدها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة. أما المعنى اللغوي : فهي المكان الذي فيه زرع وثمار وأشجار تواري من سار فيها وتستره ؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الاستتار والاختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات لا ترى والجنة بالضم الدرع يستر الجسم عن المهاجم.. الخ.
وقلنا : إن الحق سبحانه حينما يحدثنا عن شيء غيبي يحدثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ، واللغة التي نتكلم بها، يوجد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدال عليه، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فإن نطق اللفظ نفهم معناه. فإذا كانت الأشياء التي يحدثنا الله عنها غيبا >كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " >
إذن : فمن أين نأتي بالألفاظ الدالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها ؟ لذلك يعبر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا، لكن يعطيها الوصف الذي يميزها عن جنة الدنيا، كما جاء في قوله تعالى :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد ).
ونحن نعرف النهر، ونعرف الماء، لكن يأتي قوله :( غير آسن )ليميز ماء الدنيا، وكذلك في :﴿ أنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد ) : فالخمر في الدنيا معروفة ؛ لكنها ليست لذة لشاربها، فشاربها يبتلعها بسرعة ؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة ؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميزها بأنها لذة، وخمر الدنيا ليست كذلك ؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة، فبها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، والعين إدراكاتها أقل من إدراكات الأذن ؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك، ثم يقول : " ولا خطر على قلب بشر " فوسع دائرة ما في الجنة، مما لا نستطيع إدراكه. وكذلك في قوله تعالى :﴿ وأنهار من عسلٍ مصفى.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد ).
ونحن نعرف العسل فميزه هنا بأنه مصفى، ومعروف أن العسل قديماً كانوا يأخذونه من الجبال، وكان يعلق به الحصى والرمل ؛ لذلك ميز عسل الجنة بأنه مصفى. وكذلك في قوله سبحانه :﴿ سدرٍ مخضودٍ " ٢٨ " ﴾( سورة الواقعة ) : ونعرف سدر الدنيا، وهو نوع من الشجر له شوك، وليس كذلك سدر الجنة ؛ لأنه سدر مخضود لا شوك فيه، ولا يدمي يديك كسدر الدنيا. وهنا ميز الله الجنة في الآخرة عن جنات الدنيا، فقال :﴿ جنات عدن.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : إقامة دائمة لا تنتهي ولا تزول، وليست كذلك جنات الدنيا، فهب أن واحداً يتمتع في الدنيا بالدور والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنة الدنيا، فهل تدوم له ؟ إن جنات الدنيا مهما عظم نعيمها، إما أن تفوتك، وإما أن تفوتها.
والعدن اسم للجنة، فهناك فرق بين المسكن والمسكن في الجنة، كما ترى حدائق عامة وحدائق خاصة، فالمؤمن في الجنة فه مسكن خاص في جنة عدن.
ويقول تعالى عن أنهار الجنة :﴿ تجري من تحتها الأنهار.. " ١٢ " ﴾( سورة محمد ).
وفي آية أخرى يقول :﴿ تجري تحتها الأنهار.. " ١٠٠ " ﴾( سورة التوبة ) : ليعطينا صورة لجريان الماء، ففي قوله :﴿ تجري تحتها الأنهار " ١٠٠ " ﴾( سورة التوبة ) : يدل على أن الماء يأتيها من بعيد، وقد تخشى أن يمنعه أحد عنك أن يسده دونك ؛ لذلك يقول لك : اطمئن فالماء يجري ( من تحتها )أي : من الجنة نفسها لا يمنعه أحد عنك.
وفي هذه الآية كأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا إشارة لطيفة إلى أننا نستطيع أن نجعل لنا مساكن على صفحة الماء، وأن نستغل المسطحات المائية في إقامة المباني عليها، خذ مثلاً المسطحات المائية للنيل، أو الرياح التوفيقي من القناطر الخيرية حتى دمياط لوجدت مساحات كبيرة واسعة يمكن بإقامة الأعمدة في الماء، واستخدام هندسة البناء أن نقيم المساكن الكافية لسكني أهل هذه البلاد، وتظل الأرض الزراعية كما هي للخضرة وللزرع ولقوت الناس.
ويمكن أن تطبق هذه الطريقة أيضاً في الريف، فيقيم الفلاحون بيوتهم وحظائر مواشيهم بنفس الطريقة على الترع والمصارف المنتشرة في بلادنا، ولا نمس الرقعة الزراعية.
لقد هجمت الحركة العمرانية على الجيزة والدقي والمهندسين، وكانت في يوم من الأيام أراضي تغل كل الزراعات، وتخدم تموين القاهرة. ولما استقدموا الخبراء الأجانب لتوسيع القاهرة توجهوا إلى الصحراء وأنشأوا مصر الجديدة، ولم يعتد أحد منهم على شبر واحد من الأرض الزراعية، بل جعلوا في تخطيطهم رقعة خضراء لكل منزل.
إذن : في الآية لفتة يمكن أن تحل لنا أزمة الإسكان، وتحمي لنا الرقعة الزراعية الضيقة. ثم يقول تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ).
وقد يقول قائل : وما هذه الأساور من الذهب التي يتحلى بها الرجال ؟ هذه من الزخرف والزينة، نراه الآن في طموحات الإنسان في زخرفية الحياة، فنرى الشباب يلبسون ما يسمى ( بالانسيال )وكذلك أساور الذهب في الآخرة زينة وزخرف، وفي آية أخرى، يقول تعالى :﴿ وحلوا أساور من فضة.. " ٢١ " ﴾( سورة الإنسان ).
ومرة أخرى يقول :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " ٣٣ " ﴾( سورة فاطر )
فالأساور إما من ذهب أو فضة أو لؤلؤ ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هذه الحلية في الآخرة أنها تبلغ ما بلغه الوضوء عند المؤمن. ونلحظ في قوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : أن التحلية هنا للزينة، وليست من الضروريات، فجاء الفعل ( يحلون )أي : حلاهم غيرهم ولم يقل يتحلون ؛ لذلك لما تكلم بعدها عن الملبس، وهو من الضروريات قال :﴿ ويلبسون ثياباً خضراً من سندسٍ وإستبرقٍ.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ).
فأتى بالفعل مبنياً للمعلوم ؛ لأن الفعل حدث منهم أنفسهم بالعمل، أما الأولى فكانت بالفضل من الله، وقد قدم الفضل على العمل، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا.. " ٥٨ " ﴾( سورة يونس ) : أي : إياك أن تقول هذا بعملي، بل بفضل الله وبرحمته.
<لذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقر بهذه الحقيقة، فيقول : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " >
ذلك لأنك لو نظرت إلى عملك لوجدته بعد تكليفك الذي كلفت به في سن البلوغ، وقد عشت طوال هذه المدة ترتع في نعم الله ورزقه دون أن يكلفك بشيء ؛ لذلك مهما قدمت لله تعالى من طاعات، فلن تفي بما أنعم به عليك.
وما تفعله من طاعات إنما هو وفاء لحق الله، فإذا أدخلناك الجنة كان فضلاً من الله عليك، لأنك أخذت حقك سابقاً ومقدماً في الدنيا، لكنه قسم هنا فقال :﴿ ويلبسون.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بما عملوا، أما في الزينة والتحلية فقال :( يحلون )كالرجل الذي يجهز ابنته للزواج فيأتي لها بضروريات الحياة، ثم يزيدها على ذلك من الكماليات وزخرف الحياة من نجف أو سجاد أو خلافه.
واللباس من ضروريات الحياة التي امتن الله بها على عباده، كما جاء في قوله تعالى :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليك لباساً يواري سوءاتكم وريشاً.. " ٢٦ " ﴾( سورة الأعراف ) : والريش : هو الكماليات التي يتخذها الناس للفخفخة والمتعة، وهو ما زاد عن الضروريات. والسندس : هو الحرير الرقيق، والإستبرق : الحرير الغليظ السميك.
وقد وقف العلماء عند هذه الكلمة ( الإستبرق )وغيرها من الكلمات غير العربية مثل : القسطاس، وهي كلمات فارسية الأصل، أو كلمة ( آمين )التي نتخذها شعاراً في الصلاة وأصلها يمني أو حبشي. وقالوا : كيف يستخدم القرآن مثل هذه الألفاظ، وهو قرآن عربي ؟
نقول : هل أدخل القرآن هذه الألفاظ في لغة العرب ساعة نزل، أم جاء القرآن وهي سائرة على ألسنة الناس يتكلمون بها ويتفاهمون ؟ لقد عرف العرب هذه الكلمات واستعملوها، وأصبحت ألفاظاً عربية دارت على الألسنة، وجرت مجرى الكلمة العربية.
ومن الكلمات التي دخلت العربية حديثاً استخدمت ككلمة عربية ( بنك )، وربما كانت أخف في الاستعمال من كلمة ( مصرف ) ؛ لذلك أقرها مجمع اللغة العربية وأدخلها العربية.
إذن : فهذا القول يمكن أن يقبل لو أن القرآن جاء بهذه الألفاظ مجيئاً أولياً، وأدخلها في اللغة ولم تكن موجودة، لكن القرآن جاء ليخاطب العرب، وماداموا قد فهموا هذه الألفاظ وتخاطبوا بها، فقد أصبحت جزءاً من لغتهم.
ثم يقول تعالى :﴿ متكئين فيها على الأرائك.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : الاتكاء : أن يجلس الإنسان على الجنب الذي يريحه، والأرائك : هي السرر التي لها حلية مثل الناموسية مثلاً.
﴿ نعم الثواب.. " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : كلام منطقي :﴿ وحسنت مرتفقاً " ٣١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أن هذا هو مقتضى الحال فيها، على خلاف ما أخبر به عن أهل النار :﴿ وساءت مرتفقاً " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ).
لذلك ؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً موجوداً في الحياة، ففي الناس الكافر الغني والمؤمن الفقير، وعليك أن تتأمل موقف كل منهما. قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين.. " ٣٢ " ﴾
( سورة الكهف ).
قلنا : إن الضرب معناه أن تلمس شيئاً بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه، ولابد أن يكون الضارب أقوى من المضروب، إلا فلو ضربت بيدك شيئاً أقوى منك فقد ضربت نفسك، ومن ذلك قول الشاعر :
ويا ضارباً بعصاه الحجر**** ضربت العصا أم ضربت الحجر ؟
وضرب المثل يكون لإثارة الانتباه والإحساس، فيخرجك من حالة إلى أخرى، كذلك المثل : الشيء الغامض الذي لا تفهمه ولا تعيه، فيضرب الحق سبحانه له مثلاً يوضحه وينبهك إليه ؛ لذلك قال :﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين.. " ٣٢ " ﴾( سورة الكهف ) : وسبق أن أوضحنا أن الأمثال كلام من كلام العرب، يريد في معنى من المعاني، ثم يشيع على الألسنة، فيصير مثلاً سائراً، كما نقول : جود حاتم، وتقابل أي جواد فتناديه : يا حاتم، فلما اشتهر حاتم بالجود أطلقت عليه هذه الصفة. وعمرو بن معد أشتهر بالشجاعة والإقدام، وإياس اشتهر بالذكاء، وأحنف بن قيس اشتهر بالحلم. لذلك قال أبو تمام في مدح الخليفة :
إقدام عمروٍ في سماحة حاتم**** في حلم أحنف في ذكاء إياس
فأراد خصوم أبي تمام أن يحقروا قوله، وأن يسقطوه من عين الخليفة، فقالوا له : إن الخليفة فوق من وصفت، وكيف تشبه الخليفة بهؤلاء وفي جيشه ألف كعمرو، وفي خزانه ألف كحاتم فكيف تشبهه بأجلاف العرب ؟ كما قال أحدهم :
وشبهه المداح في الباس والغنى**** بمن لو رآه كان أصغر خادمٍ
في جيشه خمسون ألفاً كعنتر ****وفي خزانه ألف حاتم
فألهمه الله الرد عليهم، وعلى نفس الوزن ونفس القافية، فقال :
لا تنكروا ضربي له من دونه**** مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره**** مثلاً من المشكاة والنبراس
إذن : فالمثل يأتي لينبه الناس، وليوضح القضية غير المفهومة، والحق تبارك وتعالى قال :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. " ٢٦ " ﴾ ( سورة البقرة ) : ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالاً كثيرة لتوضيح قضايا معينة، كما في قوله تعالى :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " ٤١ " ﴾( سورة العنكبوت ).
وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به :﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.. " ٩٢ " ﴾( سورة النحل ).
ومنه قوله تعالى :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " ١٧ " ﴾( سورة البقرة ).
ومنه قوله تعالى مصوراً حال الدنيا، وأنها سريعة الزوال :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا " ٤٥ " ﴾( سورة الكهف ).
فالمثل يوضح لك الخفي بشيء جلي، يعرفه كل من سمعه، من ذلك مثلاً الشاعر الذي أراد أن يصف لنا الأحدب فيصوره تصويراً دقيقاً كأنك تنظر إليه :
قصرت أخادعه وغاص قذاله**** فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة ****وأحس ثانية لها فتجمعا
وهنا يقول الحق سبحانه : اضرب لهم يا محمد مثلاً للكافر إذا استغنى، والفقير إذا رضى بالإيمان. وقوله :﴿ رجلين.. " ٣٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : هل محل المثل :﴿ جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً " ٣٢ " ﴾( سورة الكهف ) : لكن، هل هذا المثل كان موجوداً بالفعل، وكان للرجلين وجود فعلي في التاريخ ؟
نعم، كانوا واقعاً عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا، وكان يهوذا مؤمنا راضياً، وبراكوس كان مستغنياً، وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلاف دينار لكل منهما، أخذ براكوس نصيبه واشترى به أرضاً يزرعها وقصراً يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية، أما يهوذا، فقد رأى أن يتصدق بنصيبه، وأن يشتري به أرضاً في الجنة وقصراً في الجنة وفضل الحور العين والولدان في جنة عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها. وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتر به، كما قال تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى " ٦ " أن رآه استغنى " ٧ " ﴾( سورة العلق ).
وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعم، وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرة جهدك وعملك، ونتيجة سعيك ومهارتك، كما قال قارون :﴿ قال إنما أوتيته على علم عندي.. " ٧٨ " ﴾( سورة القصص ).
فتركه الله لعلمه ومهارته، فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوة :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض.. " ٨١ " ﴾( سورة القصص ) : ولم ينفعه ماله أو علمه. إذن : هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع : كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه، ومؤمن قنوع بما قسم الله له. وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالى :﴿ جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً " ٣٢ " ﴾( سورة الكهف ) : فقد علمنا الله تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سوراً من النخيل ليكون سياجاً يصد الهواء والعواصف، وذكر سبحانه النخيل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت الضروري، كما ذكر من قبل الأساور من ذهب، وهي للزينة قبل الثياب، وهي من الضروريات. وقوله :﴿ جنتين.. " ٣٢ " ﴾( سورة الكهف ) : نراها إلى الآن فيمن يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته ؛ لأن للإنسان مسكناً خاصاً، وله عموميات أحباب، فيجعل لهم مسكناً آخر حتى لا يطلع أحد على حريمه ؛ لذلك يسمونه السلاملك والحرملك. وكذلك في قوله تبارك وتعالى :﴿ لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور " ١٥ " ﴾( سورة سبأ ).
﴿ ولم تظلم منه شيئاً.. " ٣٣ " ﴾( سورة الكهف ) : كلمة ( تظلم )تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقاً، ولا تهدر لك تعباً، فإن أعطيتها جهدك وعملك جادت عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً، وتضع فيها البذرة الواحدة فتغل عليك الآلاف.
إذن : فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حرثٍ وبذر ورعاية وسقيا، وقد تريحك السماء، فتسقى لك. لذلك، لما أراد الحق سبحانه أن يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبةٍ.. " ٢٦١ " ﴾( سورة البقرة ) : فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض ؟ لاشك أن عطاءه سيكون أعظم ؛ لذلك قال بعدها :﴿ والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " ٢٦١ " ﴾( سورة البقرة ).
إذن : فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أن تعطيك على قدر تعبك وكدك فيها، والحق سبحانه أيضاً يقدر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال : " هذه يد يحبها الله ورسوله " >
يحبها الله ورسوله ؛ لأنها تعبت وعملت لا على قدر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملت لها وللآخرين، وإلا لو عمل كل عامل على قدر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل ؟
إذن : فعلى أصحاب القدرة والطاقة أن يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهب أنك لن تتصدق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حد ذاته نوع من التيسير على الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تجزل لك العطاء إن بررت بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإن كنت جاحداً، وكذلك الأرض ألا تراها تخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه ؟ فكيف إذا أنت أكرمتها بالبر ؟ لاشك ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الأرض ليست أمنا على وجه التشبيه، بل هي أمنا على وجه الحقيقة ؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخر محب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر. ثم يقول تعالى :﴿ وفجرنا خلالهما نهراً " ٣٣ " ﴾( سورة الكهف ) : ذلك لأن الماء هو أصل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما.
﴿ وأعز نفراً " ٣٤ " ﴾( سورة الكهف ) : داخلة في قوله :﴿ وكان له ثمر.. " ٣٤ " ﴾( سورة الكهف ) : وهكذا استغنى هذا بالمال والولد.
قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو ؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يرخي لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويفوت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه ؛ لأن النفس لها جانبان : نفس تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة.
فالمسألة إذن جدل بين هذه العناصر ؛ لذلك يقولون : أعدي أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبته، فإن قلت : كيف وأنا ونفسي شيء واحد ؟ لو تأملت لوجدت أنك ساعة تحدث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه ؛ لأن بداخلك شخصيتين : شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإن مالت النفس الشهوانية أو انحرفت قومتها النفس الفطرية وعدلت من سلوكها.
لذلك قلنا : إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عمت المعصية في الناس، ولم يعد هناك من ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولاً يرشدهم ويذكرهم، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه سبحان حملهم رسالة نبيهم، وجعل هدايتهم بأيديهم، وأخرج منهم من يحملون راية الدعوة إلى الله ؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يعم، فإن وجد من بين هذه الأمة العاصون، ففيها أيضاً الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مسألة ضرورية، وأساس يقوم عليه المجتمع الإسلامي. ثم يقول تعالى :﴿ قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً " ٣٥ " ﴾( سورة الكهف ).
فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول ؟ لا، لأنها جنته يدخلها كما يشاء، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره، وما حدث نفسه به حال دخوله، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغنى، والغرور بالنعمة، فقال : ما أظن أن تبيد هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غره واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم، ليس هذا وفقط، بل دعاه غروره إلى أكثر من هذا.
﴿ وما أظن الساعة قائمة.. " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ) : لذلك ما أنكر قيام الساعة هزته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا :﴿ ولئن رددت إلى ربي.. " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : على كل حال إن رددت إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أعد له ما هو افضل من هذا. ونقف لنتأمل قول هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها :﴿ ولئن رددت إلى ربي.. " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ) : حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه، فإن كنت كذوباً فكن ذكوراً، لا تناقض نفسك، فما حدث منك من استعلاء وغرور وشك في قيام الساعة يتنافى وقولك ( ربي )ولا يناسبه.
و( منقلباً )أي : مرجعاً.
التسوية : هي إعداد الشيء إعداد الشيء إعداداً يناسب مهمته في الحياة، وقلنا : إن العود الحديد السوي مستقيم، والخطاف في نهايته أعوج، والاعوجاج في الخطاف هو عين استقامته واستواء مهمته ؛ لأن مهمته أن نخطف به الشيء، ولو كان الخطاف هذا مستقيماً لما أدى مهمته المرادة. والهزة في :﴿ أكفرت.. " ٣٧ " ﴾( سورة الكهف ) : ليست للاستفهام، بل هي استنكار لما يقوله صاحبه، وما بدر منه من كفر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خلقه.
والتراب هو أصل الإنسان، وهو أيضاً مرحلة من مراحل خلقه ؛ لأن الله تعالى ذكر في خلق الإنسان مرة ( من ماء )ومرة ( من تراب )ومرة ( من حمأ مسنون )ومرة ( من صلصال كالفخار ).
لذلك يعترض البعض على هذه الأشياء المختلفة في خلق الإنسان، والحقيقة أنها شيء واحد، له مراحل متعددة انتقالية، فإن أضفت الماء للتراب صار طيناً، فإذا ما خلطت الطين بعضه ببعض صار حمأ مسنوناً، فإذا تركته حتى يجف ويتماسك صار صلصالاً، إذن : فهي مرحليات لشيء واحد.
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول :﴿ ولا أشرك بربي أحداً " ٣٨ " ﴾( سورة الكهف ) : ولم يكتف المؤمن بأن أبان لصاحبه ما هو فيه من الكفر، بل أراد أن يعدي إيمانه إلى الغير، فهذه طبيعة المؤمن أن يكون حريصاً على هداية غيره، لذلك بعد أن أوضح إيمانه بالله تعالى أراد أن يعلم صاحبه كيف يكون مؤمناً، ولا يكمل إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر ؛ لأن المؤمن صحيح سلوكه بالنسبة للآخرين، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يصحح سلوك الكافر بالإيمان.
لذلك من الخير بدل أن تدعو على عدوك أن تدعو له بالهداية ؛ لأن دعاءك عليه سيزيد من شقائك به.
إذن : حينما تنظر إلى كل هذه المسائل تجدها منتهية إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه. خذ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصنعة، من أين أتى الصناع بمادته ؟ لو تتبعت هذا لوجدته قطعة خشب من إحدى الغابات، ولو سألت الغابة : من أين لك هذا الخشب لأجابتك من الله.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه وتعالى الأدب في نعمته علينا، بقوله :﴿ أفرأيتم ما تحرثون " ٦٣ " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " ٦٤ " ﴾( سورة الواقعة ) : هذه الحبة التي بذرتها في حقلك، هل جلست بجوارها تنميها وتشدها من الأرض، فتنمو معك يوماً بعد يوم ؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الأرض وتبذر البذور، حتى عملية الحرث سخر الله لك فيها البهائم لتقوم بهذه العملية، وما كان بوسعك أن تطوعها لهذا العمل لولا أن سخرها الله لك، وذللها لخدمتك، كما قال تعالى :﴿ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " ٧٢ " ﴾( سورة يس ) : ما استطعت أنت تسخيرها.
إذن : لو حللت أي نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله، وموهوب منه سبحانه. وحتى بعد أن ينمو الزرع ويزهر أو يثمر لا تأمن أن تأتيه آفة أو تحل به جائحة فتهلكه ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون " ٦٥ " إنا لمغرمون " ٦٦ " بل نحن محرومون " ٦٧ " ﴾( سورة الواقعة ).
كما يقول تعالى :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين " ١٧ " ولا يستثنون " ١٨ " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون " ١٩ " فأصبحت كالصريم " ٢٠ " ﴾( سورة القلم ).
وكذلك في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم الماء الذي تشربون " ٦٨ " أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون " ٦٩ " ﴾( سورة الواقعة ) : هذا الماء الذي تشربونه عذباً زلالاً، هل تعرفون كيف نزل ؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى الجو ؟ وكيف ينعقد سحاباً تسوقه الريح ؟ هل دريتم بهذه العملية ؟
﴿ لو نشاء جعلناه أجاجاً.. " ٧٠ " ﴾( سورة الواقعة ) : أي : ملحاً شديداً لا تنتفعون به.
فحينما يمتن الله على عبيده بأي نعمة يذكرهم بما ينقضها، فهي ليست من سعيهم، وعليهم أن يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ولا تزول، وإلا فليحافظوا عليها هم إن كانت من صنع أيديهم !
وكذلك في مسألة خلق الإنسان يوضح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت، قال تعالى :
﴿ أفرأيتم ما تمنون " ٥٨ " أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " ٥٩ " نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين " ٦٠ " ﴾( سورة الواقعة ) : فإن كنتم أنتم الخالقين، فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت. فذكر سبحانه النعمة في الخلق، وما ينقض النعمة في أصل الخلق. أما في خلق النار، فالأمر مختلف، حيث يقول تعالى :﴿ أفرأيتم النار التي تورون " ٧١ " أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون " ٧٢ " ﴾( سورة الواقعة ) : فذكر سبحانه قدرته في خلق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها، ولم يقل : نحن قادرون على إطفائها، كما ذكر سبحانه خلق الإنسان وقدرته على نقضه بالموت، وخلق الزرع وقدرته على جعله حطاماً، وخلق الماء وقدرته على جعله أجاجاً، إلا في النار، لأنه سبحانه وتعالى يريدها مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس، لذلك ذيل الآية بقوله تعالى :﴿ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين " ٧٣ " ﴾( سورة الواقعة ) : كما نقف في هذه الآيات على ملمح من ملامح الإعجاز ودقة الأداء القرآني ؛ لأن المتكلم رب يتحدث عن كل شيء بما يناسبه، ففي الحديث عن الزرع ولأن للإنسان عملاً فيه مثل الحرث والبذر والسقي وغيره نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع، فيقول :﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما.. " ٦٥ " ﴾( سورة الواقعة ) : حتى لا يراودك الغرور بعملك. أما في الحديث عن الماء وليس للإنسان دخل في تكوينه فلا حاجة إلى تأكيد الفعل كسابقه، فيقول تعالى :﴿ لو نشاء جعلناه أجاجاً.. " ٧٠ " ﴾( سورة الواقعة ) : دون توكيد ؛ لأن الإنسان لا يدعي أن له فضلاً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء. نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر، ويعلمه كيف يستقبل نعمة الله عليه :﴿ ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. " ٣٩ " ﴾( سورة الكهف ) :( لولا )بمعنى : هلا وهي للحث التحضيض، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
<وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قيل عند نعمة : ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت " >
فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألا تلهيك النعمة عن المنعم، كان عليك أن تقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أي : أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي، بل فضل من الله فترد النعمة إلى خالقها ومسديها، ومادمت قد رددت النعمة إلى خالقها فقد استأمنته عليها واستحفظته إياها، وضمنت بذلك بقاءها.
وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه كان عالماً بكنوز القرآن، ورأى النفس البشرية، وما يعتريها من تقلبات تعكر عليه صفو الحياة من خوف أو قلق أو هم أو حزن أو مكر، أو زهرة الدنيا وطموحات الإنسان فيها.
فكان رضي الله عنه يخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علاجات القرآن فكان يقول في الخوف : " عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى :﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل " ١٧٣ " ﴾( سورة آل عمران ).
فإني سمعت الله بعقبها يقول :﴿ فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء " ١٧٤ " ﴾( سورة آل عمران ).
وعجبت لمن اغتم لأن الغم انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء لا يعرف سببه وعجبت لمن اغتم ولم يفزع إلى قول الله تعالى :﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ٨٧ " ﴾( سورة الأنبياء ) : فإني سمعت الله بعقبها يقول :﴿ فاستجبنا له ونجيناه من الغم.. " ٨٨ " ﴾( سورة الأنبياء )،
ليس هذا وفقط، بل :﴿ وكذلك ننجي المؤمنين " ٨٨ " ﴾( سورة الأنبياء ) : وكأنها ( وصفة )عامة لكل مؤمن، وليست خاصة بنبي الله يونس عليه السلام. فقول المؤمن الذي أصابه الغم :﴿ لا إله إلا أنت.. " ٨٧ " ﴾
( سورة الأنبياء ) : أي : لا مفزع لي سواك، ولا ملجأ لي غيرك :﴿ إني كنت من الظالمين " ٨٧ " ﴾( سورة الأنبياء ) : اعترف بالذنب والتقصير، فلعل ما وقعت فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه. وعجبت لمن مكر به، كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى :﴿ وأفوض أمري إلى الله.. " ٤٤ " ﴾( سورة غافر ) : فإني سمعت الله بعقبها يقول :﴿ فوقاه الله سيئات ما مكروا.. " ٤٥ " ﴾( سورة غافر ) : فالله تبارك وتعالى هو الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه، كما قال تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " ٥٤ " ﴾( سورة آل عمران ).
وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها كيف لا يفزع إلى قوله تعالى :﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. " ٣٩ " ﴾( سورة الكهف ).
فإني سمعت الله بعقبها يقول :﴿ فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك.. " ٤٠ " ﴾( سورة الكهف ) : فإن قلتها على نعمتك حفظت ونمت، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها. والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا، رغم ما يتقلب فيه من نعيمها، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن تقول :
﴿ ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. " ٣٩ " ﴾( سورة الكهف ).
ويستطرد المؤمن، فيبين لصاحبه ما عيره به من أنه فقير وهو غني، وما استعلى عليه بماله وولده :﴿ إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً " ٣٩ " ﴾( سورة الكهف ).
فقوله :﴿ فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك.. " ٤٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ينقل مسألة الغنى والفقر ويحولها، فأنت لا قدرة لك على حفظ هذه النعمة، كما أنك لا قدرة لك على جلبها من البداية. إذن : يمكن أن يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك، في حين تظل نعمتك كما هي، لكن إرادة الله تعالى أن يقلب نعمتك ويزيلها :﴿ ويرسل عليها حسبانا من السماء.. " ٤٠ " ﴾( سورة الكهف ) : هذه النعمة التي تعتز بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على خلق الله يمكن أن يرسل الله عليها حسباناً.
والحسبان : الشيء المحسوب المقدر بدقة وبحساب، كما جاء في قوله تعالى :﴿ الشمس والقمربحسبانٍ " ٤٠ " ﴾( سورة الرحمن ) : والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت :﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب " ٥ " ﴾( سورة يونس ) : ونحن لا نعرف من هذه عدد السنين والحساب إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة على نظام دقيق لا يختل، مثل الساعة لا تستطيع أن تعرف بها الوقت وتضبطه إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة، والشيء لا يكون حسباناً لغيره إلا إذا كان هو نفسه منشأ على حسبان.
وحسب حسباناً مثل غفر غفراناً، وقد أرس الله على هذه الجنة التي اغتر بها صاحبها صاعقة محسوبة مقدرة على قدر هذه الجنة لا تتعداها إلى غيرها، حتى لا يقول : إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري.. لا. إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
ثم يقول تعالى :﴿ فتصبح صعيدا زلقا " ٤٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار، المليئة بالنخيل والأعناب بعد أن أصابتها الصاعقة أصبحت صعيداً أي : جدباء يعلوها التراب، ومنه قوله تعالى في التيمم :﴿ فيتمموا صعيداً طيباً " ٤٣ " ﴾( سورة النساء ) : ليس هذا وفقط، بل :﴿ صعيدا زلقا " ٤٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : تراباً مبللاً تنزلق عليه الأقدام، فلا يصلح لشيء، حتى المشي عليه.
( سورة الكهف ) : ولم يقل مثلاً : أحيط بزرعه أو بنخله ؛ لأن الإحاطة قد تكون بالشيء، ثم يثمر بعد ذلك، لكن الإحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته، وهو قريب الجني قريب التناول، وبذلك تكون الفاجعة فيه أشد، والثمر هو الغاية والمحصلة النهائية للزرع. ثم يصور الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأسفه عليها :﴿ فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ٤٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : يضرب كفاً بكف، كما يفعل الإنسان حينما يفاجئه أمر لا يتوقعه، فيقف مبهوتاً لا يدري ما يقول، فيضرب كفاً بكف لا يتكلم إلا بعد أن يفيق من هول هذه المفاجأة ودهشتها. ويقلب كفيه على أي شيء ؟ يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها :﴿ وهي خاوية على عروشها " ٤٢ " ﴾( سورة الكهف ) : خاوية : أي خربة جرداء جدباء، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاوية على عروشها " ٢٥٩ " ﴾( سورة البقرة ) :
ومعلوم أن العروش تكون فوق، فلما نزلت عليها الصاعقة من السماء دكت عروشها، وجعلت عاليها سافلها، فوقع العرش أولاً، ثم تهدمت عليه الجدران. وقوله تعالى :﴿ ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " ٤٢ " ﴾( سورة الكهف ) : بعد أن ألجمته الدهشة عن الكلام، فراح يضرب كفاً بكف، أفاق من دهشته، ونزع هذا النزوع القولي الفوري :﴿ يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " ٤٢ " ﴾( سورة الكهف ) : يتمنى أنه لم يشرك بالله أحداً ؛ لأن الشركاء الذين اتخذهم من دون الله لم ينفعوه.
﴿ وما كان منتصراً " ٤٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ما كان ينبغي له أن ينتصر، ولا يجوز له الانتصار، لماذا ؟
و( هنالك )جاءت في القرآن في الأمر العجيب، ويدعو إلى الأمر الأعجب، من ذلك قصة سيدنا زكريا عليه السلام لما دخل على السيدة مريم، فوجد عندها رزقاً :﴿ قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران ) : وكان زكريا عليه السلام هو المتكفل بها، الذي يحضر لها الطعام والشراب، فلما رأى عندها أنواعاً من الطعام لم يأت بها سألها من أين ؟ فقالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فأطمع هذا القول زكريا في فضل الله، وأراد أن يأخذ بالأسباب، فدعا الله أن يرزقه الولد، وقد كانت امرأته عاقراً فقال تعالى :
﴿ هنالك دعا زكريا ربه " ٣٨ " ﴾( سورة آل عمران ) : و( الولاية )أن يكون لك ولي ينصرك، فالولي هو الذي يليك، ويدافع عنك وقت الشدة، وفي قراءة أخرى :( هناك الولاية )بكسر الواو يعني الملك، كما في قوله :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر ).
وقوله :﴿ هو خير ثواباً " ٤٤ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنه سيجازي على العمل الصالح بثواب، هو خير من الدنيا وما فيها :﴿ وخير عقباً " ٤٤ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد.
هكذا ضرب الله تعالى لنا مثلاً، وأوضح لنا عاقبة الغني الكافر، والفقير المؤمن، وبين لنا أن الإنسان يجب ألا تخدعه النعمة ولا يغره النعيم ؛ لأنه موهوب من الله، فاجعل الواهب المنعم سبحانه دائماً على بالك، كي يحافظ لك على نعمتك وإلا لكنت مثل هذا الجاحد الذي استعلى واغتر بنعمة الله فكانت عاقبته كما رأيت.
وهذا مثل في الأمر الجزئي الذي يتعلق بالمكلف الواحد، ولو نظرت إليه لوجدته يعم الدنيا كلها ؛ فهو مثال مصغر لحال الحياة الدنيا ؛ لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئي إلى المثل العام.
وهذه صورة كما يقولون منتزعة من متعدد. أي : أن وجه الشبه فيها ليس شيئاً واحداً، بل عدة أشياء، فإن كان التشبيه مركباً من أشياء متعددة فهو مثل، وإن كان تشبيه شيء مفرد بشيء مفرد يسمونه مثل، نقول : هذا مثل هذا، لذلك قال تعالى :﴿ فلا تضربوا لله الأمثال " ٧٤ " ﴾( سورة النحل ) : لأن لله تعالى المثل الأعلى.
وهكذا الدنيا تبدو جميلة مزهرة مثمرة حلوة نضرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً ؛ لذلك سماها القرآن دنيا وهو اسم يوحي بالحقارة، وإلا فأي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به ؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عليا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : كما ضربت لهم مثل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها. ومعنى :﴿ فاختلط به نبات الأرض " ٤٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : اختلط بسببه نبات الأرض، وتداخل بعضه في بعض، وتشابكت أغصانه وفروعه، وهذه صورة النبات في الأرض الخصبة، أما إن كانت الأرض مالحة غير خصبة فإنها تخرج النبات مفرداً، عود هنا وعود هناك.
لكن، هل ظل النبات على حال خضرته ونضارته ؟ لا، بل سرعان ما جف وتكسر وصار هشيماً تطيح به الريح وتذروه، هذا مثل للدنيا حين تأخذ زخرفها وتتزين، كما قال تعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً.. " ٢٤ " ﴾( سورة يونس ) :
ثم يقول تعالى :﴿ وكان الله على كل شيء مقتدراً " ٤٥ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضده، كما قال سبحانه :﴿ وإنا على ذهاب به لقادرون " ١٨ " ﴾( سورة المؤمنون ) : فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام، فلا تنفك عنه صفة القدرة أبداً، أحيا وأمات، وأعز وأذل، وقبض وبسط، وضر ونفع.. ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغتر بماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد.
كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال ؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل وينجب، إذن : كل واحد له مال، وليس لكل واحد بنون، والحكم هنا قضية عامة، وهي :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا.. " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ) : كلمة ( زينة )أي : ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف ؛ لأن المؤمن الراضي بما قسم له يعيش حياته سعيداً بدون مال، وبدون أولاد ؛ لأن الإنسان قد يشقى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يرزق هذا المال أو هذا الولد.
وقد باتت مسألة الإنجاب عقدة مشكلة عند كثير من الناس، فترى الرجل كدراً مهموماً ؛ لأنه يريد الولد ليكون له عزوة وعزة، وربما يزرق الولد ويرى الذل على يديه، وكم من المشاكل تثار في البيوت ؛ لأن الزوجة لا تنجب.
ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع، ألم نقرأ قول الله تعالى :﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " ٤٩ " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير " ٥٠ " ﴾( سورة الشورى ) :
إذن : فالعقم في ذاته نعمة وهبة من الله لو قبلها الإنسان من ربه لعوضه الله عن عقمه بأن يجعل كل الأبناء أبناءه، ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أب لهم، فيذوق من خلالهم لذة الأبناء دون أن يتعب في تربية أحد، أو يحمل هم أحد.
وكذلك، الذي يتكدر لأن الله رزقه بالبنات دون البنين، ويكون كالذي قال الله فيه :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم " ٥٨ " ﴾( سورة النحل ) : إنه يريد الولد ليكون عزوة وعزة. ونسى أن عزة المؤمن بالله لا بغيره، ونقول : والله لو استقبلت البنت بالفرح والرضا على أنها هبة من الله لكانت سبباً في أن يأتي لها زوج أبر بك من ولدك، ثم قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعز عندك من ولدك. إذن : المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها، وليسا من الضروريات.
<وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، فقال : " من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه أي : لا يهدد أمنه أحد وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " >
فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان إذن يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى. ثم يقول تعالى :﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ) : لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات.
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أهديت إليه شاة، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف ؛ لأنه لحم رقيق خفيف ؛ لذلك احتفظت لرسول الله بالكتف وتصدقت بالباقي، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال : " ماذا صنعت في الشاة " ؟ قالت : ذهبت كلها إلا كتفها، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال : " بل بقيت كلها إلا كتفه.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : " هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت " > : وهذا معنى :﴿ والباقيات الصالحات خير.. " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ).
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن : إذا لم يكن المال والبنون يمثلان ضرورة من ضروريات الحياة، فما الضروريات في الحياة إذن ؟ الضروريات في الحياة هي كل ما يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة، لا تنتهي أنت من النعيم فتتركه، ولا ينتهي النعيم منك فيتركك، إنه نعيم الجنة.
الضروريات إذن هي الدين ومنهج الله والقيم التي تنظم حركة الحياة على وفق ما أراد الله من خلق الحياة. ومعنى :﴿ والباقيات.. " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ) : مادام قال ( والباقيات )فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكن من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار.
﴿ والباقيات الصالحات خير.. " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ) : خير عند من ؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه، فخيرك غير خير من هو أغنى منك، غير خير الحاكم، فما بالك بخير عند الله ؟
﴿ خير عند ربك ثوابا وخير أملاً " ٤٦ " ﴾( سورة الكهف ) : والأمل : ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكن به حالته، فإن كان عنده خير تطلع إلى أعلى منه، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى، كل هذا يبين لنا أن هذه الدنيا زائلة، وأننا ذاهبون إلى يوم باقٍ ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها.
ومعنى تسيير الجبال : إزالتها عن أماكنها، كما قال في آية أخرى :﴿ وسيرت الجبال فكانت سراباً " ٢٠ " ﴾( سورة النبأ )، وقال في آية أخرى :﴿ وإذا الجبال سيرت " ٣ " ﴾( سورة التكوير )، وقال :﴿ يوم تكون السماء كالمهل " ٨ " وتكون الجبال كالعهن " ٩ " ﴾( سورة المعارج ).
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه للجبال ويزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أولى.
ثم يقول سبحانه :﴿ وترى الأرض بارزة " ٤٧ " ﴾( سورة الكهف ) : الأرض : كل ما أقلك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويظلك فهو سماء، ومعنى :( بارزة )البراز : هو الفضاء، أي : وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض.
كل هذه الأشكال ذهبت لا وجود لها، فكأن الأرض برزت بعد أن كانت مختبئة : بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحت فضاء واسعاً، ليس فيه معلم لشيء.
ومن ذلك ما نسميه نحن المبارزة، فنرى الفتوة يقول للآخر ( اطلع لي بره )أي : في مكان خال حتى لا يجد شيئاً يحتمي به، أو حائطاً مثلاً يستند عليه، وبرز فلان لفلان وبارزه أي : صارعه.
﴿ وحشرناهم " ٤٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : جمعناهم ليوم الحساب ؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لدن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء.
﴿ فلم نغادر منهم أحداً " ٤٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : لم نترك منهم واحداً، الكل معرض على الله، وكلمة ( نغادر )ومادة ( غدر )تؤدي جميعها معنى الترك، فالغدر مثلاً ترك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سمي غديراً ؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يحشر الله الخلق ثم ينادي : يا عبادي أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم، فإنكم مجموعون محاسبون مسئولون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " >
ولك أن تتصور المعاناة والألم الذي يجده من يقف على أطراف أنامل قدميه ؛ لأن ثقل الجسم يوزع على القدمين في حال الوقوف، وعلى المقعدة في حال الجلوس، وعلى الجسم كله في حال النوم، وهكذا يخف ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها، فإن تركز الثقل كله على أطراف أنامل القدمين، فلاشك أنه وضع مؤلم وشاق، يصعب على الناس حتى إنهم ليتمنون الانصراف ولو إلى النار. ثم يقول تعالى :﴿ لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرةٍ " ٤٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : على الحال التي نزلت عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك، وقد فصل هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " ٩٤ " ﴾( سورة الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً " ٤٨ " ﴾( سورة الكهف ) : والخطاب هنا موجه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب ( زعمتم )والزعم مطية الكذب.
وهذا بخلاف من أوتي كتابه بشماله فإنه يقول :﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه " ٢٥ " ولم أدر ما حسابيه " ٢٦ " يا ليتها كانت القاضية " ٢٧ " ما أغنى عني ماليه " ٢٨ " هلك عني سلطانيه " ٢٩ " ﴾( سورة الحاقة ) : إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مخجلة.
﴿ فترى المجرمين مشفقين مما فيه " ٤٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه ليفزع عباده ويحذرهم ويضخم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول :﴿ ويقولون يا ويلتنا " ٤٩ " ﴾( سورة الكهف ) : يا : أداة للنداء، كأنهم يقولون : يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانك فاحضري. ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم عليه السلام لما قتل قابيل هابيل، وكانت أول حادثة قتل، وأول ميت في ذرية آدم ؛ لذلك بعث الله له غرباً يعلمه كيف يدفن أخاه، فقال :﴿ يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي.. " ٣١ " ﴾( سورة المائدة ).
﴿ يا ويلتى " ٣١ " ﴾( سورة المائدة ) : يا هلاكي كأن يتحسر على ما أصبح فيه، وأن الغراب أعقل منه، وأكثر منه خبرة ؛ لكي لا نظلم هذه المخلوقات ونقول : إنها بهائم لا تفهم، والحقيقة : ليتنا مثلهم. قوله تعالى :﴿ ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " ٤٩ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدها وحسبها.
﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا " ٤٩ " ﴾( سورة الكهف ) : فكل ما فعلوه مسجل مسطر في كتبهم.
﴿ ولا يظلم ربك أحداً " ٤٩ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه.
والحق سبحانه وتعالى حينما يحذرنا من إبليس فإنه يربي فينا المناعة التي نقاومه بها، والمناعة أن تأتي بالشيء الذي يضر مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يعود الجسم على مدافعة المرض وتغلب عليه إذا أصابه.
فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس، ويذكرنا ما كان منه لأبينا آدم واستكباره عن السجود له، وأن نذكر دائماً قوله :﴿ أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فانتبهوا مادمنا سنسير الجبال، ونسوي الأرض، ونحصر لكل كتابه، فاحذروا أن تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تفاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وهاأنا أذكركم من الآن في وقت السعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأن تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة :﴿ وإذ قلنا للملائكة.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمركم أن تكونوا في خدمته. لذلك سماهم : المدبرات أمراً، وقال تعالى عنهم :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ) : فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جند هؤلاء الملائكة وهم أشرف المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أولى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعله في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على من دونهم.
وقلنا : إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس : أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحسمته، فقال تعالى :﴿ إلا إبليس كان من الجن.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ).
وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يوضح جنسيته، فليس لأحد أن يقول : إنه من الملائكة. ومادام كان من الجن، وهم جنس مختار في أن يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألا يفعل :﴿ ففسق عن أمر ربه.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر. وقوله تعالى :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ) : فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أولى بهذه الولاية. و :﴿ وذريته.. " ٥٠ " ﴾
( سورة الكهف ) : تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول : ذريته : كل من كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس، كما قال تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.. " ١١٢ " ﴾( سورة الأنعام ).
﴿ بئس للظالمين بدلاً " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أن يسجد لأبيكم ولياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أن تسجد لأبيكم.
﴿ وما كنت متخذ المضلين عضداً " ٥١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخلق وما عاونوني فيه.
والعضد : هو القوة التي تسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عضد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قبضاً وبسطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، وكل هذه الحركات لابد لها من منظم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آيات عظمى تدل على دقة الصنعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يحرك هذه الآلة، أما أنت فتحرك يدك كما شئت دون أن تعرف ماذا يحدث ؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تفكر فيها دون جهد منك أو تدبير ؟
فكل أجزائك مسخرة لإرادتك، فإن أردت القيام مثلاً قمت على الفور ؛ لذلك إياك أن تظن أنك خلق ميكانيكي، بل أنت صنعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يوقف جزءاً منك أمر المخ أن يقطع صلته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دفعه أو إصلاحه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى :﴿ سنشد عضدك بأخيك.. " ٣٥ " ﴾( سورة القصص ) :
أي : نقويك ونعطيك السند والعون.
وهذا ما سماجتهم وتبجحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه، فكان عليهم أن يخجلوا من الله، ويعودوا إلى الحق، ويعترفوا بما كذبوه، لكنهم تمادوا :﴿ فدعوهم.. " ٥٢ " ﴾( سورة الكهف ) : ويجوز أن من الشركاء أناساً دون التكليف، وأناساً فوق التكليف، فمثلاً منهم من قالوا : عيسى. ومنهم من قالوا : العزيز، وهذا باطل، وهل استجابوا لهم ؟
ومنهم من اتخذوا آلهة أخرى، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها، ومنهم من عبد ناساً مثلهم وأطاعوهم، وهؤلاء كانوا موجودين معهم، ويصح أنهم دعوهم ونادوهم : تعالوا، جادلوا عنا، وأخرجونا مما نحن فيه، لقد عبدناكم وكنا طوع أمركم، كما قال تعالى عنهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.. " ٣ " ﴾( سورة الزمر ) : ولكن، أني لهم ما يريدون ؟ فقد تقطعت بينهم الصلات، وانقطعت حجتهم.
﴿ فلم يستجيبوا لهم.. " ٥٢ " ﴾( سورة الكهف ) : ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو وادياً سحيقا :
﴿ وجعلنا بينهم موبقاً.. " ٥٢ " ﴾( سورة الكهف ) : والموبق : المكان الذي يحصل فيه الهلاك، وهو واد من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، أو : أن بين الداعي والمدعو مكاناً مهلكاً، فلا الداعي يستطيع أن يلوذ بالمدعو، ولا المدعو يستطيع أن ينتصر للداعي ويسعفه، لأن بينهم منبع هلاك. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " ٣٣ " أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير " ٣٤ " ﴾( سورة الشورى ) : يعني : يهلكهن. ومن العجيب أن تكون هذه أول إطاعة منهم لله تعالى، فلما قال لهم :﴿ نادوا شركائي " ٥٢ " ﴾( سورة الكهف ) : استجابوا لهذا الأمر، في حين أنهم لم يطيعوا الأوامر الأخرى.
والمجرمون : الذين ارتكبوا الجرائم، وعلى رأسها الكفر بالله. إذن : فالرؤية هنا متبادلة : المعذب والمعذب، كلاهما يرى الآخر ويعرفه. وقوله تعالى :﴿ فظنوا أنهم مواقعوها.. " ٥٣ " ﴾( سورة الكهف ).
الظن هنا يراد منه اليقين. أي : أيقنوا أنهم واقعون فيها، كما جاء في قول الحق سبحانه :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم.. " ٤٦ " ﴾( سورة البقرة )أي : يوقنون. ﴿ ولم يجدوا عنها مصرفاً " ٥٣ " ﴾
( سورة الكهف ) : أي : في حين أن بينهما موبقاً، وأيضاً لا يجدون مفراً يفرون منه، أو ملجأ يلجئون إليه، أو مكاناً ينصرفون إليه بعيداً عن النار، فالموبق موجود، والمصرف مفقود.
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائباً عنهم، فيمثله بأمر واضح لهم محس ليتفهموه تفهماً دقيقاً.
ومادام أن الحق سبحانه صرف في هذا القرآن من كل مثل، فلا عذر لمن لم يفهم، فالقرآن قد جاء على وجوه شتى ليعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم ؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فهمه، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بغيته، بل وأكثر من ذلك، فالمتخصص في أي علم من العلوم يجد في كتاب الله أدق التفاصيل ؛ لأن الحق سبحانه بين فيه كل شيء.
ثم يقول تعالى :﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً " ٥٤ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : كثير الخصومة والتنازع في الرأي، والجدل : هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صدق مذهبه وكلامه، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأ، وهذا هو الجدل المعيب القائم على الأهواء. وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البناء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وهذا بعيد كل البعد عن التحيز للهوى أو الأغراض.
ولما تحدث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. " ٤٦ " ﴾( سورة العنكبوت ) : وقال :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ) :
والنبي صلى الله عليه وسلم لما مر على علي وفاطمة رضي الله عنهما ليوقظهما لصلاة الفجر، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى، ويبدو أنها كانا مستغرقين في نوم عميق، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم " ألا تصلون ؟ " فرد الإمام علي قائلاً : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال :﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً " ٥٤ " ﴾
( سورة الكهف ) : لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة، ويحاول أن يدلل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ ولو دققت في رأيه لوجدت له هوى يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه، وترى ذلك واضحاً إذا اخترت أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلاً لأنه أسهلها وأقربها، فإذا به يقترح عليك طريقاً آخر، ويحاول إقناعك به بكل السبل، والحقيقة أن له غرضاً في نفسه وهوى يريد الوصول إليه.
وفي آية أخرى، أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال تعالى :﴿ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا " ٨٩ " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " ٩٢ " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.. " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : فكل هذه التعنتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين الإيمان بالله، والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم، ثم لم يؤمنوا بها يهلكهم ؛ لذلك قال بعدها :﴿ إلا أن يأتيهم سنة الأولين.. " ٥٥ " ﴾( سورة الكهف ) : فهذه هي الآية التي تنتظرهم : أن تأتيهم سنة الله في إهلاك من كذب الرسل.
فقبل الإسلام، كانت السماء هي التي تتدخل لنصرة العقيدة، فكانت تدك عليهم قراهم ومساكنهم، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نشر دعوته، إلا أمة محمد فقد أمنها على أن تحمل السيف لتؤدب الخارجين عن طاعة الله. وقوله تعالى :
﴿ ويستغفروا ربهم.. " ٥٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : على ما فات من المهاترات والتعنتات والاستكبار على قبول الحق ﴿ إلا أن يأتيهم سنة الأولين.. " ٥٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بهلاك المكذبين.
﴿ أو يأتيهم العذاب قبلاً " ٥٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي مقابلاً لهم، وعياناً أمامهم، أو ( قبلاً )جمع قبيل، وهي ألوان متعددة من العذاب، كما قال تعالى :﴿ وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك.. " ٤٧ " ﴾( سورة الطور ) : أي : لهم عذاب غير النار، فألوان العذاب لهم متعددة. ثم يسلي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يأبه لعمل الكفار، ولا يهلك نفسه أسفاً على إعراضهم.
( سورة الكهف )أي : الآيات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل، وكذلك آيات القرآن، وآيات الأحكام اتخذوها سخرية واستهزاءً، ولم يعبأوا بما فيها من نذارة.
إنما لو عرضت المسألة على سبيل الاستفهام فقلت له : ألم أصنع معك كذا ؟ فسوف تجتذب منه الإقرار بذلك، وتقيم عليه الحجة من كلامه هو، وأنت لا تستفهم عن شيء من خصم إلا وأنت واثق أن جوابه لا يكون إلا بما تحب. وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الاستفهام :﴿ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : وترك لنا الجواب لنقول نحن : لا أحد أظلم ممن فعل ذلك، والإقرار سيد الأدلة. وقوله :﴿ فأعرض عنها.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : تركها.
﴿ ونسى ما قدمت يداه.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : نسى السيئات، وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه الآيات فيؤمن بها، فعل الله يتوب عليه بإيمانه، فيبدل سيئاته حسنات. ثم يقول تعالى :﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أكنة : أغطية جمع كن، فجعل الله على قلوبهم أغطية، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، وليس هذا اضطهاداً منه تعالى لعباده، تعالى الله عن ذلك، بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبوا، فلما أحبوا الكفر وانشرحت به صدورهم زادهم منه ؛ لأنه رب يعطي عبده ما يريد. كما قال عنهم في آية أخرى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " ١٠ " ﴾( سورة البقرة ) : وقال تعالى في هذا المعنى } ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.. " ٧ " { سورة البقرة.
ومعنى :﴿ أن يفقهوه.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : يفهموه، يفهموا آيات الله ؛ لأنهم سبق أن ذكروا بها فأعرضوا عنها، فحرمهم الله فقهها وفهمها. وقوله تعالى :﴿ وفي آذانهم وقراً.. " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : صمم فلا يسمعون.
﴿ وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً " ٥٧ " ﴾( سورة الكهف ) : وهذا أمر طبيعي، بعد أن ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم، وسد عليهم منافذ العلم والهداية ؛ لأن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق، فيستقبلها قلبك بالرضا، فتنفعل لها جوارحك بالالتزام، فتسمع بالأذن، وتقبل بالقلب، وتنفعل بالجوارح طاعة والتزاماً بما أمرت به.
ومادام في الأذن وقر وصمم فلن تسمع، وإن سمعت شيئاً أنكره القلب، والجوارح لا تنفعل إلا بما شحن به القلب من عقائد.
نعم، كان لهذه القرى آثار وأطلال تدل عليها ويراها النبي صلى الله عليه وسلم ويراها الناس في رحلاتهم إلى الشام وغيرها مثل : قرى ثمود قوم صالح، وقرى قوم لوط، وقد قال تعالى عنها :
﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين " ١٣٧ " وبالليل أفلا تعقلون " ١٣٨ " ﴾( سورة الصافات ) :
إذن : فتلك إشارة إلى موجود محس دال بما تبقى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب الله، وما حل بها من بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين.
وكلمة ( القرى )جمع قرية، وتطلق على المكان الذي تتوفر فيه مقومات الحياة وضرورياتها، بل بها ما يزيد على الضروريات ومقومات الحياة العادية ؛ لأن القرية لا تطلق إلا على مكان تتسع فيه مقومات الحياة اتساعاً يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قرى. فإن كانت قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها أم، نسميها ( أم القرى ).
﴿ لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين.. " ٦٠ " ﴾( سورة الكهف ) : لكن، ما حكاية موسى مع فتاه ؟ وما مناسبتها للكلام هنا ؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد : أهو محق أم لا ؟ فقال اليهود لوفد مكة : اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي : اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم : " في الغد أجيبكم ".
إذن : إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تحسب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.
ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون ؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه.
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البطء في هذه المسألة دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لترد على مهاترات القوم، وتبين لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء ؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما ؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومن لف لفهم من كفار مكة : أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعاً له طلباً للعلم. جاءت الآيات لتقول لهم : يا من لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه، فكان من الواجب أن تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلام يقال : إنه سأل الله وكان له دلال على ربه :﴿ رب أرني أنظر إليك.. " ١٤٣ " ﴾( سورة الأعراف ) : والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلمه :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى " ١٧ " ﴾( سورة طه ) : فأطال موسى الكلام مع ربه، ومن الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأنس بكلام الله ؟ لذلك قال موسى :﴿ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " ١٨ " ﴾( سورة طه ) : وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله : يا رب، أيوجد في الأرض أعلم مني ؟ فأجابه ربه تبارك وتعالى : نعم في الأرض من هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مجمع البحرين.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام خطب مرة فسئل : من أعلم ؟ فقال : أنا يعني من البشر، فأخبره الله تعالى : لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتر موسى عليه السلام بما أعلمه الله. ثم يقول تعالى :﴿ لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين.. " ٦٠ " ﴾( سورة الكهف ) : لا أبرح : أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني : لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني : لا أترك ما أنا بصدده، فإن كنت قاعداً لا أترك القعود، وإن كنت ماشياً لا أترك المشي، وقد قال موسى عليه السلام هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهاً إليه، فيكون المعنى : لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
وقد وردت مادة ( برح )في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي.. " ٨٠ " ﴾( سورة يوسف ) : قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يأتوا به ويعيدوه إليه.
و " مجمع البحرين " أي : موضع التقائهما، حيث يصيران بحراً واحداً، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شط العرب. وقوله :﴿ أو أمضي حقباً " ٦٠ " ﴾( سورة الكهف ) : الحقب : جمع حقبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى عليه السلام مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحقبة سبعون سنة.
ويكون المعنى : لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سرت مائتين وعشرة سنين ؛ لأن موسى عليه السلام كان مشوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحي الله إليه ؛ لذلك أخبره ربه أن علم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر.
والحوت : نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يطلقون على كل سمك حوتاً، وقد أعدوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل. وقوله تعالى :﴿ فاتخذ سبيله في البحر سرباً " ٦٠ " ﴾( سورة الكهف ) : خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرب نحو البحر، والسرب : مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول : تسرب الماء من القربة مثلاً ؛ ذلك لأن مستوى الماء في القربة أعلى فيتسرب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشوي، وتعود له الحياة، ويتوجه نحو البحر ؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب ؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكر الفتى ما كان من نسيان الحوت.
( سورة الكهف ) : ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى. فكلام الله تبارك وتعالى يدلنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء ؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذهنه بأشياء أخرى تنسيه ما هو منوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بدر منه من نسيان الحوت، ويقول :﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره.. " ٦٣ " ﴾
( سورة الكهف ) : فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكر الحوت. وقوله تعالى :﴿ واتخذ سبيله في البحر عجباً " ٦٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً، في الآية السابقة قال :﴿ سرباً " ٦١ " ﴾( سورة الكهف ) : وهذه حال الحوت، وهنا يقول ( عجباً )لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشوي تدب فيه الحياة حتى يقفز في المكتل، ويتجه صوب الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب ؛ لأنها خرجت من المألوف.
وهذه الصورة لا توجد إلا في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد. ثم يقول تعالى :﴿ فارتدا على آثارهما قصصاً " ٦٤ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : عادا على أثر الأقدام كما يفعل قصاصو الأثر، ومعنى :﴿ قصصاً " ٦٤ " ﴾( سورة الكهف ) :
أي : بدقة إلى أن وصلا إلى المكان الذي تسرب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصالح.
فكان رد الله عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك.. " ٣٢ " ﴾( سورة الزخرف ) : أي : النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل عليه السلام وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك ؛ لذلك قال تعالى :﴿ آتيناه.. " ٦٥ " ﴾( سورة الكهف ) : نحن، وقال :﴿ من عندنا.. " ٦٥ " ﴾
( سورة الكهف ) : فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها :﴿ وعلمناه من لدنا علماً " ٦٥ " ﴾
( سورة الكهف ) : أي : من عندما لا بواسطة الرسل : لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن : علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده ؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف : افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح ( الخضر )كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى عليه السلام على هذه الأعمال ؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى عليه السلام علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن : فعلم موسى غير علم الخضر ؛ لذلك قال له :﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا " ٦٧ " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً " ٦٨ " ﴾( سورة الكهف ) : فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة.
عليك أن تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة، لا أن تجعله في معزل عنها إلى أن يبلغ الرشد، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته، وإن فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه.
إذن : فاختبار اليتيم يتم وهو ما يزال في ولايتك، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه.
﴿ حتى إذا بلغوا النكاح.. " ٦ " ﴾( سورة النساء ) : وهو سن البلوغ، ولم يقل بعدها : فادفعوا إليهم أموالهم ؛ لأن بعد البلوغ شرطاً آخر :﴿ فإن آنستم منهم رشداً.. " ٦ " ﴾( سورة النساء ) : فعلى الوصي أن يراعي هذا الترتيب :
أن تراعي اليتيم وهو تحت ولايتك، وتدفع به في معترك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه، فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فلا تترك له المال يبدده بسوء تصرفه. لذلك يقول تعالى في هذا المعنى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.. " ٦ " ﴾( سورة النساء ) : ولم يقل : أموالهم ؛ لأن السفيه لا مال له حال سفهه، بل هو مالكم لتحسنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من رشده.
إذن : فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى عليه السلام لم يكن راشداً ؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.. " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وقل رب زدني علماً " ١١٤ " ﴾( سورة طه ).
لذلك يقول الشاعر :
كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي
لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً.
والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم : " منهومان لا يشبعان : طالب علم، وطالب مال ".
والشاعر الذي تنبه لنفسه حينما دعته إلى الغرور والكبرياء والزهو بما لديه من علم قليل، إلا أنه كان متيقظاً لخداعها، فقال :
قالت النفس قد علمت كثيراً**** قلت هذا الكثير نزع يسير
ثم جاء بمثل توضيحي :
تملأ الكوز غرفة من محيط ****فيرى أنه المحيط الكبير
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر عليهما السلام أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين : طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير.
لقد تجلى في قول الخضر :﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً " ٦٨ " ﴾( سورة الكهف ) : مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط ؟
﴿ إن شاء الله " ٦٩ " ﴾( سورة الكهف ) : ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه.
﴿ صابراً.. " ٦٨ " ﴾( سورة الكهف ) : وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور.
كأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يعلمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً ؛ لأن الكلام قد يقال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك : أنا رهن أمرك ورقبتي لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً.
ونلحظ هنا أن موسى عليه السلام لم يكتف بالاستفهام :﴿ أخرقتها لتغرق أهلها.. " ٧١ " ﴾( سورة الكهف ) : بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً ؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر ؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.
والنفس الزكية : الطاهرة الصافية التي لم تلوثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية. وكذلك يأتي الرد من الخضر مخالفاً للرد الأول، ففي المرة الأولى قال :﴿ ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً " ٧٢ " ﴾
( سورة الكهف ) : أي : قلت كلاماً عاماً.
<لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمنا الله، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير " > : فهذه هي الثالثة، وليس لموسى عذر بعد ذلك. ومعنى :﴿ وقد بلغت من لدني عذراً " ٧٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : قد فعلت معي كل ما يمكن فعله، وليس لي عذر بعد ذلك.
والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يصور مدى بخل هؤلاء القوم ولؤمهم وسوء طباعهم، فلم يقل مثلاً : فأبوا أن يطعموهما، بل قال :﴿ فأبوا أن يضيفوهما.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : وفرق بين الإطعام والضيافة، أبوا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أبوا أن يضيفوهما، يعني كل ما يمكن أن يقدم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من لؤم هؤلاء الناس. وتلحظ أيضاً تكرار كلمة ( أهل )فلما قال :﴿ أتيا أهل قريةٍ.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : فكان المقام للضمير فيقول : استطعموهم، لكنه قال :﴿ استطعما أهلها.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنهم حين دخلوا القرية : هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول ؟
بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البخل ولؤم الطباع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) :
أي : لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وجدا جداراً يريد أن ينقض، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإن جاءت لغير العاقل فهي بمعنى : قرب. أي : جداراً قارب أن ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدع والشروخ مثلاً.
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضيقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويدققون في المسائل فلا مانع لديهم أن يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياة تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام.
ألم يقل الحق سبحانه :﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض.. " ٢٩ " ﴾( سورة الدخان ) : فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدت مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله :﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض.. " ٢٩ " ﴾( سورة الدخان ) : دليل على أنها تبكي على فقد الصالحين.
وقد سئل الإمام علي رضي الله عنه عن هذه المسألة فقال : " نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء وموضع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مصلاه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله ".
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكون من حوله، فالكون ساجد لله مسبح لله طائع لله يحب الطائعين وينبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم ؛ لذلك العرب تقول :( نبا به المكان )أي : كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مسبح وهو غافل. وعلى هذا الفهم فقوله تعالى :
﴿ يريد أن ينقض.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : قول على حقيقته. إذن : فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة :>وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث " >
وروي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم. وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا : لا ينبغي أن نقول : سبح الحصى في يد رسول الله ؛ لأن الحصى يسبح أيضاً في يد أبي جهل، لكن نقول : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه.
ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك، ولغة للطير، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار، وأنها تفر من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة. إذن : فلهم وسائل إدراك، ولهم لغة يتفاهمون بها، ولهم منطق يعبرون به.
ثم يقول الحق سبحانه عن فعل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض :﴿ فأقامه.. " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أصلحه ورممه.
﴿ قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : هذا قول موسى عليه السلام لما رأى لؤم القوم وخستهم، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يطعمونا، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة ؟
وجاء هذا القول من موسى عليه السلام لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل.
( سورة الكهف ) : وقد سبق أن اشترط موسى عليه السلام على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفراق بينهما، وكأن العبد الصالح لم يأت بشيء من عنده، لقد قال موسى :﴿ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني.. " ٧٦ " ﴾( سورة الكهف ).
قوله :﴿ هذا فراق بيني وبينك.. " ٧٨ " ﴾( سورة الكهف ) : تعد دستوراً من الحق سبحانه وتعالى ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان، فيظل كل منهما له طريقه : المرتاض له طريق، وغير المرتاض له طريقه، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر، بل يلزم أدبه في حدود ما علمه الله. ثم يقول تعالى على لسان الخضر :﴿ سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً " ٧٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات، حتى لا يكون في نفسك مني شيء، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضت عليها لتعلم أن الله لم يخدعك، بل أرسلك إلى من يعلمك شيئاً لم تكن تعلمه.
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تلو الآخر، كما لو عتب عليك صاحبك في أمر ما، وأنت حريص على مودته فتقول له : أمهلني حتى أوضح لك ما حدث، لقد فعلت كذا من أجل كذا، لتريح قلبه وتزيل ما التبس عليه من هذا الأمر.
وقالوا : إن هذا من أدب الصحبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أن نفترق على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وفاق ورضا ؛ لأن الافتراق على الخلاف ينمي الفجوة ويدعو للقطيعة، إذن : فقبل أن نفترق : المسألة كيت وكيت، فتتضح الأمور وتصفو النفوس.
المتكلم هنا هو الخضر عليه السلام فنسب إرادة عيب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عما لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال :﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : لذلك فإنه في نهاية القصة يرجع كل ما فعله إلى الله فيقول :﴿ وما فعلته عن أمري.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ).
ثم يقول تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً.. " ٧٩ " ﴾( سورة الكهف ).
كلمة : كل ترسم سوراً كلياً لا يترك شيئاً، فالمراد يأخذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجة له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مقدرة : أي يأخذ كل سفينة صالحة غصباً من صاحبها.
والغصب : ما أخذ بغير الحق، عنوة وقهراً ومصادرة، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة : وهي أخذ المال من حرزه خفية ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغصب : وهو أخذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف : وهو أخذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلة ما، يخطف الشيء ويفر به دون أن تتمكن من اللحاق به، فالخطف إذن يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس : وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره.
ومادام الأمر هنا غصباً فلابد لمالك الشيء أن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حقه، وقد يتوسل إليه أن يترك له ماله، فالمسألة إذن فيها كلام وأخذ ورد.
إذن : خرق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مقوم، وهذا منهي عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو علم موسى عليه السلام هذه الحكمة لبادر هو إلى خرقها.
ومادام الأمر كذلك، فعلينا أن نحول السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخرقها، أو بخلع لوح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أخذها.
وكلمة ( وراءهم )هنا بمعنى أمامهم ؛ لأن هذا الظالم كان يترصد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حد قوله تعالى :﴿ من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ.. " ١٦ " ﴾( سورة إبراهيم ) : وهل جهنم وراءه أم أمامه ؟ وتستعمل وراء بمعنى : بعد، كما في قوله تعالى :﴿ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ٧١ " ﴾( سورة هود ) : وتأتي وراء بمعنى : غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين :﴿ والذين هم لفروجهم حافظون " ٥ " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " ٦ " فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " ٧ " ﴾( سورة المؤمنون ).
وفي قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم.. " ٢٣ " ﴾( سورة النساء ) : إلى.. ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم.. " ٢٤ " ﴾( سورة النساء ) : وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم.. " ١٨٧ " ﴾( سورة آل عمران ) :
إذن : كلمة ( وراء )جاءت في القرآن على أربعة معانٍ : أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يميز العربية عن غيرها من اللغات، والملكة العربية قادرة على أن تميز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العين مثلاً تأتي بمعنى العين الباصرة. أو : عين الماء، أو : بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد.
أي : طاهرة، ولاشك أن أخذ الغلام في هذه السن خير له ومصلحة قبل أن تلوثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب.
إذن : فطهارته هي التي دعتنا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه ؟
يقول تعالى :﴿ فكان أبواه مؤمنين.. " ٨٠ " ﴾( سورة الكهف ) : وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.. " ١٤ " ﴾( سورة التغابن ) : والفتنة بالأولاد تأتي من حرص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في احسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد علم الحق سبحانه وتعالى أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يرد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.
وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أسدى إلى كليهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام.
لذلك يعد من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أن يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعت وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أعد له من النعيم، لا ندري أن من أخذ من أولادنا قبل البلوغ لا يحدد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يسمون " دعاميص الجنة ".
ثم يقول تعالى :﴿ فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً " ٨٠ " ﴾( سورة الكهف ) : خشينا : خفنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.
﴿ وأقرب رحماً.. " ٨١ " ﴾( سورة الكهف ) : لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قرة عين لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاء لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أن يتمتعا به في الدنيا الفانية، ويشقيا به في الآخرة الباقية.
إذن : فلاشك أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يعد بمثابة صفعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكر وسوء استقبال، وترد لهم الصاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز.
فعلة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أن يحفظ لحين أن يكبر هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أن يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورده إلى ما كان عليه رد من علمه الله من لدنه، فيقال : إنه بناه بناءً موقوتاً يتناسب وعمر الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سن الرشد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا من أتي علماً خاصاً من الله تعالى.
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سن واحدة توأمين لقوله تعالى :﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : سوياً، ومعنى الأشد : أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله. وتلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال هنا :﴿ يبلغا أشدهما.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : ولم يقل رشدهما، لأن هناك فرقاً بين الرشد والأشد فالرشد : حسن التصرف في الأمور، أما الأشد : فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كنزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا :﴿ أشدهما.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ).
ثم يقول تعالى :﴿ ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : يستخرجاه بما لديهما من القوة والفتوة. والرحمة : صفة تعطي للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فقوله : شفاء : أي : يشفي داءً موجوداً ويبرئه. ورحمة : أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى. وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحفظ حقهما، ثم لم يفت العبد الصالح أن يرجع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول :﴿ وما فعلته عن أمري.. " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : أن ما حدث كان بأمر الله، وما علمتك إياه كان من عند الله، فليس لي ميزة عليك، وهذا درس في أدب التواضع ومعرفة الفضل لأهله. ثم يقول :﴿ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً " ٨٢ " ﴾( سورة الكهف ) : تأويل : أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه. بعد ذلك تنتقل الآيات إلى سؤال آخر من الأسئلة الثلاثة التي سألها كفار مكة لرسول الله بإيعاز من اليهود، وهو السؤال عن الرجل الطواف الذي طاف البلاد :
وقد بحث العلماء في : من هو ذو القرنين ؟ فمنهم من قال : هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو : أبو الكلام آزاد وزير المعارف الهندي إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر، بل هو قورش الصالح، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين، كما أن الإسكندر كان وثنياً، وكان تلميذاً لأرسطو، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته.
وعلى العموم، ليس من صالح القصة حصرها في شخص بعينه ؛ لأن تشخيص حادثة القصة يضعف من تأثيرها، ويصبغها بصبغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى من يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر.
إذن : لو جاء العلم في ذاته سنقول : هذه الحادثة أو هذا العمل خاص بهذا الشخص، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يضرب لنا مثلاً يعم أي شخص، ماذا سيكون مسلكه وتصرفه إن مكن الله له ومنحه الله قوة وسلطة ؟
ولو حدد القرآن هذه الشخصية في الإسكندر أو قورش أو غيرهما لقلنا : إنه حدث فردي لا يتعدى هذا الشخص، وتنصرف النفس عن الأسوة به، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها. ولو كان في تعيينه فائدة لعينه الله لنا.
وسبق أن أوضحنا أن الحق سبحانه عندما ضرب مثلاً للذين كفروا، قال :﴿ امرأة نوحٍ وامرأة لوط.. " ١٠ " ﴾( سورة التحريم ) : ولم يعينهما على التحديد ؛ لأن الهدف من ضرب المثل هنا بيان الرسول المرسل من الله لهداية الناس لم يتمكن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه ؛ لأن الإيمان مسألة شخصية، لا سيطرة فيها لأحد على أحد. وكذلك لما ضرب الله مثلاً للذين آمنوا قال :﴿ امرأة فرعون.. " ١١ " ﴾( سورة التحريم ) : ففرعون الذي أضل الناس وادعى الألوهية زوجته مؤمنة، وكأن الحق سبحانه يلمح للناس جميعاً أن رأيك في الدين وفي العقائد رأي ذاتي، لا يتأثر بأحد أياً كان، لا في الهداية بنبي، ولا في الغواية بأضل الضالين الذي ادعى الألوهية.
وهكذا يحفظ الإسلام للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها.
إذن : الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مشخصة لتكون نموذجاً وأسوة يحتذي بها كل أحد، وإلا لو شخصت لارتبطت بهذا الشخص دون غيره، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها، بل واسم أبيها ؛ ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم، لذلك عينها وشخصها ؛ لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف.
أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص، فهذا يعني أنها صالحة لأن تتكرر في أي زمان أو في أي مكان، كما رأينا في قصة أهل الكهف، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً، وأبهمهم عدداً، ليكونوا أسوة وقدوة للفتيان المؤمنين في أي زمان، وفي أي مكان، وبأي عدد.
وقوله :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين.. " ٨٣ " ﴾( سورة الكهف ) : نلاحظ أن مادة السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن أخذت حيزاً كبيراً فيه، فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة، إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.. " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة )
وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع، كما في :﴿ يسألونك عن الأهلة.. " ١٨٩ " ﴾( سورة البقرة ).
وقوله :﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين.. " ٢١٥ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.. " ٢١٧ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير.. " ٢٢٠ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ ويسألونك عن المحيض.. " ٢٢٢ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ يسألونك ماذا أحل لهم.. " ٤ " ﴾( سورة المائدة ).
﴿ يسألونك عن الساعة.. " ١٨٧ " ﴾( سورة الأعراف ).
﴿ يسألونك عن الأنفال.. " ١ " ﴾( سورة الأنفال ).
﴿ ويسألونك عن الروح.. " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
﴿ ويسألونك عن ذي القرنين.. " ٨٣ " ﴾ ( سورة الكهف ).
﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.. " ١٠٥ " ﴾( سورة طه ).
خمسة عشر سؤالاً بالمضارع، إلا أن الجواب عليها مختلف، وكلها صادرة عن الله الحكيم، فلابد أن يكون اختلاف الجواب في كل سؤال له ملحظ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم، ومنها ما سأله المؤمنون، السؤال من المؤمنين لرسول الله وقد نهاهم أن يسألوه حتى يهدأوا إلحاح منهم في معرفة تصرفاتهم وإن كانت في الجاهلية، إلا أنهم يريدون أن يعرفوا رأي الإسلام فيها، فكأنهم نسوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تشرع كل أمورهم على وفق الإسلام.
وبتأمل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدة يأتي الجواب مباشرة دون ( قل )وهي في قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.. " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة ) : وواحدة وردت مقرونة بالفاء ( فقل )وهي قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.. " ١٠٥ " ﴾( سورة طه ) : وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل ( قل )، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها ؟
قالوا : حين يقول الحق سبحانه في الجواب ( قل )فهذه إجابة على سؤال سأله رسول الله بالفعل، أي : حدث فعلاً منهم، أما الفاء فقد أتت في الجواب على سؤال لم يسأله، ولكنه سيسأله مستقبلاً.
فقوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال.. " ١٠٥ " ﴾( سورة طه ) : سؤال لم يحدث بعد، فالمعنى : إذا سألوك فقل، وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع. فإذا قلت : فما الحكمة في أن يأتي الجواب في قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.. " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة ).
خالياً من : قل أو فقل : مع أن ( إذا )تقتضي الفاء في جوابها ؟
نقول : لأن السؤال هنا عن الله تعالى، ويريد سبحانه وتعالى أن يجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من أحد ؛ لذلك تأتي الإجابة مباشرة دون واسطة :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع.. " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة ).
قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين.. " ٨٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : عن تاريخه وعن خبره والمهمة التي قام بها :﴿ قل سأتلو عليكم منه ذكراً " ٨٣ " ﴾( سورة الكهف ) : وأي شرف بعد هذا الشرف، إن الحق تبارك وتعالى يتولى التأريخ لهذا الرجل، ويؤرخ له في قرآنه الكريم الذي يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة والذي يتحدى به، ليظل ذكره باقياً بقاء القرآن، خالداً بخلوده، يظل أثره فيما عمل أسوة وقدوة لمن يعمل مثله. إن دل على شيء فإنما يدل على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أن يذكر عند الخلق.
فأي ذكر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه ؟
و( منه )أي : بعضاً من ذكره وتاريخه، لا تاريخه كله.
وكلمة ( ذكر )وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة، تلتقي جميعها في الشرف والرفعة، وفي التذكر والاعتبار. وإن كانت إذا أطلقت تنصرف انصرافاً أولياً إلى القرآن، كما في قوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾( سورة الحجر ).
وبعد ذلك تستعمل في أي كتاب أنزله الله تعالى من الكتب السابقة، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٤٣ " ﴾( سورة النحل ) : ويطلق الذكر على ما يتبع هذا من الصيت والشرف والرفعة وتخليد الاسم، كما في قوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم.. " ١٠ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وقوله تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك.. " ٤٤ " ﴾( سورة الزخرف ) : أي : صيت حسن وشرف ورفعة كون القرآن يذكر هذا الاسم ؛ لأن الاسم إذا ذكر في القرآن ذاع صيته ودوي الآفاق.
وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبداً بعد أن خطف من قومه بويع في مكة لخديجة رضي الله عنها، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد، فلما علم أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه، وكلموا رسول الله في شأن زيد فقال : خيروه.
فلما خيروا زيداً قال : ما كنت لأختار على رسول الله أحداً، لذلك أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه زيد بن محمد، فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني، ونزل قوله تعالى :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين.. " ٤٠ " ﴾( سورة الأحزاب ).
وقال :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله.. " ٥ " ﴾( سورة الأحزاب ) : فلا تقولوا : زيد بن محمد. وقولوا : زيد بن حارثة، وهنا حزن زيد لهذا التغيير، ورأى أنه خسر به شرفاً عظيماً بانتسابه لمحمد، ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد، ويجعل اسمه علماً يتردد في قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة، فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب الله في قوله تعالى :﴿ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها.. " ٣٧ " ﴾( سورة الأحزاب ) : فأي شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف ؟ ونلحظ في هذه الآية :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله.. " ٥ " ﴾( سورة الأحزاب ).
﴿ قل سأتلو عليكم منه ذكراً " ٨٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أن الحق سبحانه لم يتهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالجور، فقال :﴿ هو أقسط عند الله.. " ٥ " ﴾( سورة الأحزاب ) : فما فعله الرسول كان أيضاً قسطاً وعدلاً، وما أمر الله به هو الأقسط والأعدل.
إذن : فذكر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير، وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله، ومجازى بأن يخلد ذكره ويبقى صيته بين الناس في الدنيا.
هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد، فلو لاحظت الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغرب مثلاً في الجيزة، فإذا ذهبت إلى الجيزة وجدتها تغرب في مكان آخر وهكذا، إذن : غروبها بمعنى غيابها من مرأى عينك أنت ؛ لأن الشمس لا تغيب أبداً، فهي دائماً شارقة غاربة، بمعنى أنها حين تغرب على قوم تشرق على آخرين ؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب.
وهذه أعطتنا دوام ذكر الله ودورانه على الألسنة في كل الأوقات، فحين نصلي نحن الظهر مثلاً يصلي غيرنا العصر، ويصلي غيرهم الغرب، وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل وقت، فلا ينتهي الظهر لله، ولا ينتهي العصر لله، ولا ينتهي المغرب لله، بل لا ينتهي الإعلام بواحدة منها طوال الوقت، وعلى مر الزمن ؛ لذلك يقول أهل المعرفة : يا زمن وفيك كل الزمن.
ثم يقول تعالى :﴿ وجدها تغرب في عينٍ حمئةٍ.. " ٨٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : في عين فيها ماء. وقلنا : إن الحمأ المسنون هو الطين الذي اسود لكثرة وجوده في الماء. وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم الهند أبو الكلام آزاد، ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى، قال : عند موضع يسمى ( أزمير ).
وقوله :﴿ ووجدها عندها قوماً.. " ٨٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : عند هذه العين.
﴿ قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً " ٨٦ " ﴾( سورة الكهف ).
إذن : فهذا تفويض له من الله، ولا يفوض إلا المأمون على التصرف.
﴿ إما أن تعذب.. " ٨٦ " ﴾( سورة الكهف ) : ولابد أنهم كانوا كفرة أو وثنيين لا يؤمنون بإله، فإما أن تأخذهم بكفرهم، وإما أن تتخذ فيهم حسناً.
لكن ما وجه الحسن الذي يريد الله أن يتخذه ؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم الدعوة، فبين لهم وجه الصواب ودلهم على دين الله، فمن آمن منهم فأحسن إليه، ومن أصر على كفره فعذبه، إذن : عليك أن تأخذهم أولاً بالعظة الحسنة والبيان الواضح، ثم تحكم بعد ذلك على تصرفاتهم.
ثم يقول تعالى :﴿ ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً " ٨٧ " ﴾( سورة الكهف ) : فلن نعذبه على قدر ما فعل، بل نعذبه عقوبة دنيوية فقط ؛ لأن العقوبات الدنيوية شرعت لحفظ توازن المجتمع، وردع من لا يرتدع بالموعظة، وإلا فما فائدة الموعظة في غير المؤمن ؟ لذلك نرى الأمم التي لا تؤمن بإله، ولا بالقيامة والآخرة تشرع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم أوضاعها.
وبعد عذاب الدنيا عقوبتها هنا عذاب أشد في الآخرة :﴿ عذاباً نكراً " ٨٧ " ﴾( سورة الكهف ) : والشيء النكر : هو الذي لا نعرفه، ولا عهد لنا به أو ألفة ؛ لأننا حينما نعذب في الدنيا نعذب بفطرتنا وطاقتنا، أما عذاب الله في الآخرة فهو شيء لا نعرفه، وفوق مداركنا وإمكاناتنا.
﴿ وسنقول له من أمرنا يسراً " ٨٨ " ﴾( سورة الكهف ) : نقول له الكلام الطيب الذي يشجعه ويحفزه، وإن كلفناه كلفناه بالأمر اليسير غير الشاق. وهذه الآية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته، فمجتمع بلا جزاءات تثيب المجد وتعاقب المقصر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيب، فإن أمن الناس العقاب تكاسلوا، وربما ما تعانيه مصر الآن من سوء الإدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق القانون لا نستطيع معاقبتهم فيتسيب الآخرون.
وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها من لا يعمل، ويظفر بها من يتقرب ويتودد ويتملق وينافق، ولهؤلاء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها، أما الذي يجد ويعمل ويخلص فهو منهك القوى مشغول بإجادة عمله وإتقانه، لا وقت لديه لهذه الأساليب الملتوية، فهو يتقرب بعمله وإتقانه، وهذا الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة. ولك أن تتصور مدى الفساد والتسيب الذي تسببه هذه الصورة المقلوبة المعوجة. إذن : فميزان المجتمع وأساس نهضته :﴿ أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكراً " ٨٧ " وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً " ٨٨ " ﴾( سورة الكهف ) : فما أجمل أن نرصد المكافآت التشجيعية والجوائز، ونقيم حفلات التكريم للمتميزين والمثاليين، شريطة أن يقوم ميزان الاختيار على الحق والعدل.
والحسنى : أفعل التفضيل المؤنث لحسن، فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب أولى، ومن هذا قوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.. " ٢٦ " ﴾( سورة يونس ).
ثم يقول تعالى :﴿ وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً " ٩٠ " ﴾( سورة الكهف ) : الستر : هو الحاجز بين شيئين، وهو إما ليقيني الحر أو ليقيني البرد، فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلاً، أو ليس عندهم ما يسترهم من الشمس مثل البيوت يسكنونها، أو الأشجار يستظلون بها.
وهؤلاء قوم نسميهم " ضاحون " أي : ليس لهم ما يأويهم من حر الصيف أو برد الشتاء، وهم أناس متأخرون بدائيون غير متحضرين. ومثل هؤلاء يعطيهم الله تعالى في جلودهم ما يعوضهم عن هذه الأشياء التي يفتقدونها، فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف.
وهذا نلاحظه في البيئات العادية، حيث وجه الإنسان وهو مكشوف للحر وللبرد، ولتقلبات الجو، لذلك جعله الله على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات، على خلاف باقي الجسم المستور بالملابس، فإذا انكشف منه جزء كان شديد الحساسية للحر أو للبرد، وكذلك من الحيوانات ما منحها اله خاصية في جلودها تستطيع أن تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته.
وهؤلاء البدائيون يعيشون هكذا، ويتكيفون مع بيئتهم، وتشغلهم مسألة الملابس هذه، ولا يفكرون فيها، حتى يذهب إليهم المتحضرون ويرون الملابس، وكيف أنها زينة وستر للعورة فيستخدمونها.
ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم، وإن قسنا الأمر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول : ربما حضرهم ووفر لهم أسباب الرقي.
وبعض المفسرين يرون أن ذا القرنين ذهب إلى موضع يومه ثلاثة أشهر، أو نهاره ستة أشهر، فصادف وصوله وجود الشمس فلم ير لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به، ولم ير لها ستراً يسترها عنهم، ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال.
﴿ وجد من دونهما.. " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : تحتهما.
﴿ قوماً لا يكادون يفقهون قولاً " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : لا يعرفون الكلام، ولا يفقهون القول ؛ لأن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم، وهؤلاء لا يقولون كلاماً، ولا يفهمون ما يقال لهم، ومعنى :
﴿ لا يكادون.. " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف ) : لا يقربون من أن يفهموا، فلا ينفي عنهم الفهم، بل مجرد القرب من الفهم، وكأنه لا أمل في أن يفهمهم. لكن، يكف نفى عنهم الكلام.
﴿ قالوا يا ذا القرنين.. " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف ) : فأثبت لهم القول ؟
يبدو أنه خاطبهم بلغة الإشارة، واحتال على أن يجعل من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون، ولاشك أن هذه العملية احتاجت منه جهداً وصبراً حتى يفهمهم ويفهم منهم، وإلا فقد كان في وسعه أن ينصرف عنهم بحجة أنهم لا يتكلمون ولا يتفاهمون. فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير، والذي لا يألو جهداً في نفع القوم وهدايتهم.
والإشارة أصبحت الآن لغة مشهورة ومعروفة، ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.
ونفهم من الآية أن المعونة من الممكن في الأرض المالك للشيء يجب أن تكون حسبة لله، وأن تعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تعينه كل وقت، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلمه أن يعمل بنفسه بدل أن تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً ؛ لذلك يقولون : لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة، لها نفس، ولها عمر.
ولما كان ذو القرنين ممكناً في الأرض، وفي يده الكثير من الخيرات والأموال، فهو ليس في حاجة إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة، فقال :﴿ فأعينوني بقوةٍ.. " ٩٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : قوة وطاقة بشرية قوية مخلصة.
﴿ أجعل بينكم وبينهم ردماً " ٩٥ " ﴾( سورة الكهف ) : ولم يقل : سداً ؛ لأن السد الأصم يعيبه أنه إذا حصلت رجة مثلاً في ناحية منه ترج الناحية الأخرى ؛ لذلك أقام لهم ردماً أي : يبني حائطاً من الأمام وآخر من الخلف، ثم يجعل بينهما ردماً من التراب ليكون السد مرناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلاً، فيكون به التراب مثل " السوست " التي تمتص الصدمات.
والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها، حتى تردم حفرة مثلاً وتسويها بالأرض، ومن ذلك ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه، وهو لا يريد أن يسمع، فيقول له : اردم على هذا الموضوع.
والحق تبارك وتعالى يقول :﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.. " ٧ " ﴾( سورة الطلاق ) : فمادام ربك قد أعطاك القوة فاعمل، ولا تعتمد على الآخرين ؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلاثة : أعينوني بقوة، آتوني زبر الحديد، آتوني أفرغ عليه قطراً.
زبر الحديد : أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زبرة، والقطر : هو النحاس المذاب، لكن، كيف بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس ؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة ؛ لكنه استخدم الحديد، وسد ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خرقه، وليكون أملس ناعماً فلا يتسلقونه، ويعلون عليه. فقوله :﴿ حتى إذا ساوى بين الصدفين.. " ٩٦ " ﴾( سورة الكهف ) :
الصدف : الجانب، ومنه قوله تعالى :﴿ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها.. " ١٥٧ " ﴾( سورة الأنعام ) : أي : مال عنها جانباً. فمعنى : ساوى بين الصدفين. أي : ساوى الحائطين الأمامي والخلفي بالجبلين :﴿ قال انفخوا.. " ٩٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : في الحديد الذي أشعل فيه، حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذاب :﴿ قال آتوني أفرغ عليه قطراً " ٩٦ " ﴾( سورة الكهف ) : وهكذا أنسبك الحديد الملتهب مع النحاس المذاب، فأصبح لدينا حائط صلب عالٍ أملس.
ثم يقول تعالى :﴿ فإذا جاء وعد ربي.. " ٩٨ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : الآخرة.
﴿ جعله دكاء.. " ٩٨ " ﴾( سورة الكهف ) : فإياكم أن تظنوا أن صلابة هذا السد ومتانته باقية خالدة، إنما هذا عمل للدنيا فحسب، فإذا أتى وعد الله بالآخرة والقيامة جعله الله دكاً وسواه بالأرض، ذلك لكي لا يغترون به ولا يتمردون على غيرهم بعد أن كانوا مستذلين مستضعفين ليأجوج ومأجوج. وكأنه يعطيهم رصيداً ومناعة تقيهم الطغيان بعد الاستغناء.
﴿ وكان وعد ربي حقاً " ٩٨ " ﴾( سورة الكهف ) : واقعاً لاشك فيه. والتحقيق الأخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يسمى الآن ( بلخ )والجبلان من جبال القوقاز، وهما موجودان فعلاً، وبينهما فجوة مبني فيها، ويقولون : إن صاحب هذا البناء هو قورش، وهذا المكان الآن بين بحر قزوين والبحر الأسود.
وقوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً " ٩٩ " ﴾( سورة الكهف ) : وهذه هي النفخة الثانية ؛ لأن الأولى نفخة الصعق، كما قال تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " ٦٨ " ﴾( سورة الزمر ) : فالنفخة الأولى نفخة الصعق، والثانية نفخة البعث والقيامة، والصعق قد يكون مميتاً، وقد يكون مغمياً لفترة ثم يفيق صاحبه، فالصعق المميت كما في قوله تعالى :﴿ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين " ٤٣ " فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون " ٤٤ " ﴾( سورة الذاريات ) : أما الصعقة التي تسبب الإغماء فهي مثل التي حدثت لموسى عليه السلام حينما قال :﴿ قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " ١٤٣ " ﴾( سورة الأعراف ) : فالجبل الأشم الراسي الصلب اندك لما تجلى له الله، وخر موسى مصعوقاً مغمى عليه، وإذا كان موسى قد صعق من رؤية المتجلي عليه، فكيف برؤية المتجلي سبحانه ؟
وكأن الحق سبحانه أعطى مثلاً لموسى عليه السلام فقال له : ليست ضنيناً عليك بالرؤية، ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أولاً ليكون لك مثالاً، إذن : لا يمنع القرآن أن يتجلى الله على الخلق، لكن هل نتحمل نحن تجلي الله ؟
فمن رحمة الله بنا ألا يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا. أما في الآخرة، فإن الخالق سبحانه سيعدنا إعداداً آخر، وسيخلقنا خلقة تناسب تجليه سبحانه على المؤمنين في الآخرة ؛ لأنه سبحانه القائل :﴿ وجوه يومئذٍ ناضرة " ٢٢ " إلى ربها ناظرة " ٢٣ " ﴾( سورة القيامة ) : وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كل أمور الآخرة، ففيها مثلاً تقتاتون ولا تتغوطون ؛ لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا.
لذلك جاء السؤال من موسى عليه السلام سؤالاً علمياً دقيقاً :﴿ رب أرني أنظر.. " ١٤٣ " ﴾
( سورة الأعراف ) : أي : أرني كيفية النظر إليك ؛ لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك، إنما إن أريتني أنت أرى. وفي ضوء هذه الحادثة لموسى عليه السلام >نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقة الأولى "
قالوا : لأنه صعق مرة في الدنيا، ولا يجمع الله تعالى على عبده صعقتين.
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أن يدخل الجنة تريه مدى نعمة الله عليه ورحمته به، حيث نجاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنه أخذ بيده حتى مر من هذا المكان سالماً. لذلك يذكرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.. " ١٨٥ " ﴾( سورة آل عمران )، أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولاً، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع ؛ لأنه يعلم أنه داخلها، ولن يفلت منها. وقد وردت هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى :﴿ ألهاكم التكاثر " ١ " حتى زرتم المقابر " ٢ " كلا سوف تعلمون " ٣ " ثم كلا سوف تعلمون " ٤ " كلا لو تعلمون علم اليقين " ٥ " لترون الجحيم " ٦ " ثم لترونها عين اليقين " ٧ " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " ٨ " ﴾( سورة التكاثر ) : والمراد : لو أنكم تأخذون عني العلم اليقيني فيما أخبركم به عن النار وعذابها لكنتم كمن رآها، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها، وهذا ما نسميه علم اليقين، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها. وهذا هو عين اليقين أي : الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرون على الصراط.
وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد، وتكتب له النجاة ؛ لذلك قال تعالى بعدها :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " ٨ " ﴾( سورة التكاثر ).
أما الكافر والعياذ بالله فله مع النار مرحلة ثالثة هي حق اليقين، يوم يدخلها ويباشر حرها، كما قال تعالى :﴿ وأما إن كان من المكذبين الضالين " ٩٢ " فنزل من حميم " ٩٣ " وتصلية جحيم " ٩٤ " إن هذا لهو حق اليقين " ٩٥ " فسبح باسم ربك العظيم " ٩٦ " ﴾( سورة الواقعة ).
إذن : عندنا علم اليقين، وهو الصورة العلمية للنار، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذرنا منها، ونحن في بحبوحة الدنيا وسعتها. وعين اليقين : في الآخرة عندما نمر على الصراط، ونرى النار رؤيا العين. ثم حق اليقين : وهذه للكفار حين يلقون فيها ويباشرونها فعلاً.
وقد ضربنا لذلك مثلاً : لو قلت لك : توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب، وأنها تقع على سبع جزر، ومن صفاتها كذا وكذا فأعطيك عنها صورة علمية صادقة، فإن صدقتني فهذا علم يقين. فإن مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رأى العين فهذا عين اليقين، فإن نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حق اليقين.
إذن : فقوله تعالى :﴿ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً " ١٠٠ " ﴾( سورة الكهف ) : ليس كعرضها على المؤمنين، بل هو عرض يتحقق فيه حق اليقين بدخولها ومباشرتها.
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ٨٣ " ﴾( سورة المائدة ) : إذن : فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سمع لهم، كما نقول نحن في لغتنا العامية :( أنت مطنش عني )، يعني لا تريد أن تسمع، ومن أقوال أهل الفكاهة : قال الرجل لصاحبه : فيك من يكتم السر ؟ قال : نعم، قال : أعطني مائة جنيه، قال : كأني لم أسمع. ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ) : يعني : شوشوا عليه، ولا تعطوا الناس فرصة لسماعه، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيداً أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيراً يملك جوانب نفسه، ولابد أنه سيعرف أنه معجز، وأنه غير قول البشر، وحتماً سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، وأن محمداً رسول الله ؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذراً :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه.. " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ).
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ ويل لكل أفاك أثيم " ٧ " يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم " ٨ " ﴾( سورة الجاثية ).
وقد يتعدى الأمر مجرد السماع إلى منع الكلام كما جاء في قوله تعالى :﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم.. " ٩ " ﴾( سورة إبراهيم ) : فليس الأمر منع الاستماع، بل أيضاً منع الكلام، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتؤثر فيهم، أي منعوهم الكلام كما يقال : اسكت، أو أغلق فمك.
والكلام هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد الله المقربين إليه المحبين له أولياء من دون الله، كما قال تعالى :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.. " ١٧٢ " ﴾( سورة النساء ).
فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي ؟ يقول تعالى :﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة التوبة ).
ومنهم من قال : الملائكة بنات الله، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله وهم لا يستنكفون أن يكونوا عباداً لله، ويرون شرفهم وعزتهم في عبوديتهم له سبحانه، فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني، ويا ليتكم جعلتم ذلك في أعدائي، فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء ؛ لذلك كان جزاءهم أن نعد لهم جهنم :﴿ إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلاً " ١٠٢ " ﴾( سورة الكهف ) : والنزل : ما يعد لإكرام الضيف كالفنادق مثلاً، فهذا من التهكم بهم والسخرية منهم.
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى :﴿ ضل سعيهم.. " ١٠٤ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : بطل وذهب وكأنه لا شيء، مثل السراب كما صورهم الحق سبحانه في قوله :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. " ٣٩ " ﴾( سورة النور ) : وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأجر ؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا ؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيب لهم في جزاء الآخرة. وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ) : ومع ذلك يبقى للكافر حقه، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يظلمه أو يعتدي عليه، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت أن محدثاً حدث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت، أو يموت هو حتى أسمعه منه، فسألت عنه فقيل : إنه ذهب إلى الشام، قال : فاشتريت ناقة ورحلتها، وسرت شهراً إلى أن وصلت إلى الشام، فسألت عنه فقيل : إنه عبد الله بن أنيس، فلما ذهبت قال له خادمه : إن جابر بن عبد الله بالباب، قال جابر : فخرج ابن أنيس وقد وطئ ثيابه من سرعته. قال عبد الله : واعتنقا.
<قال جابر : حدثت أنك حدثت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينادي يوم القيامة : يا ملائكتي، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة " >
فانظر إلى دقة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حق الكافر، فتقتص له قبل أن يدخل النار، حتى ولو كان ظالمه مؤمناً. وفي قوله تعالى :﴿ ضل سعيهم في الحياة الدنيا.. " ١٠٤ " ﴾( سورة الكهف ).
جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عدة استعمالات يحددها السياق الذي وردت فيه. فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل " ١٠٨ " ﴾( سورة البقرة ) : ويطلق الضلال، ويراد به المعصية حتى من المؤمن، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً " ٣٦ " ﴾( سورة الأحزاب ) : ويطلق الضلال، ويراد به أن يغيب في الأرض، كما في قوله تعالى :﴿ أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديدٍ.. " ١٠ " ﴾( سورة السجدة )
يعني : غبنا فيها واختفينا. ويطلق الضلال ويراد به النسيان، كما في قوله تعالى :﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.. " ٢٨٢ " ﴾( سورة البقرة ) : ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد. كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه، فلما كلمه فرعون قال :﴿ فعلتها إذاً وأنا من الضالين " ٢٠ " ﴾( سورة الشعراء ) : أي : قتلته حال غفلة ودون قصد، ومن يعرف أن الوكزة تقتل ؟ والحقيقة أن الرجل جاء مع الوكزة لا بها. ويحدث كثيراً أن واحداً تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفت حادثة السيارة.
ويأتي الضلال بمعنى : ألا تعرف تفصيل الشيء، كما في قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالاً فهدى " ٧ " ﴾
( سورة الضحى ) : أي : لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر.
ومنهم من اعترف ببعث على هواه، فقال :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ).
ومن من قال : إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً، إذن : إما ينكرون البعث، وإما يصورونه بصورة ليست هي الحقيقة. ثم يقول تعالى :﴿ فحبطت أعمالهم.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الكهف )
أي : بطلت وذهب نفعها ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " ١٠٥ " ﴾( سورة الكهف )وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " ١٠٥ " ﴾( سورة الكهف ).
وقالوا : كيف نوفق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان، كما في قوله تعالى :
﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " ٤٧ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وقوله تعالى :﴿ فهو في عيشة راضية " ٧ " وأما من خفت موازينه " ٨ " فأمه هاوية " ٩ " وما أدراك ما هيه " ١٠ " نار حامية " ١١ " ﴾( سورة القارعة ).
ونقول : إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا : المراد بقوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " ١٠٥ " ﴾( سورة الكهف )، جاءت على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزن لهم عندنا أي : لا اعتبار لهم، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول : فلان لا وزن له عندي. أي : لا قيمة له.
وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول :﴿ فلا نقيم لهم.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الكهف )
ولم يقل : عليهم، إذن : الميزان موجود، ولكنه ليس في صالحهم، فالمعنى : لا نقيم لهم ميزاناً لهم، بل نقيم لهم ميزاناً عليهم.
﴿ واتخذا آياتي ورسلي هزواً " ١٠٦ " ﴾( سورة الكهف )فقد استهزءوا بآيات الله، وكلما سمعوا آية قالوا : أساطير الأولين :
﴿ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين " ١٥ " ﴾( سورة القلم ).
وكذلك لم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله :﴿ يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " ٦ " ﴾( سورة الحجر ).
فقولهم :﴿ نزل عليه الذكر.. " ٦ " ﴾( سورة الحجر )أي : القرآن وهم لا يؤمنون به سخرية واستهزاءً. وفي سورة " المنافقون " يقول القرآن عنهم :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.. " ٧ " ﴾( سورة المنافقون ).
فقولهم :﴿ رسول الله.. " ٧ " ﴾( سورة المنافقون )ليس إيماناً به، ولكن إما غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه، وإما سخرية واستهزاءً كما لو كنت في مجلس، ورأيت أحدهم يدعي العلم ويتظاهر به فتقول : اسألوا هذا العالم.
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون " ٥١ " ﴾( سورة القلم ).
سبق أن قلنا : إن الإيمان هو تصحيح الينبوع الوجداني العقدي لتصدر الأفعال مناسبة لإيمانك بمن شرع، ومن هنا كان الإيمان أولاً وشرطاً لقبول العمل، وإلا فهناك من يعمل الخير لا من منطلق إيماني بل لاعتبارات أخرى، والنية شرط لازم في قبول العمل.
لذلك يعاقب الله تعالى من يعمل لغير الله، يعاقبه بأن ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه، بدل أن يعترف له بالجميل. ومن هنا قالوا :( اتق شر من أحسنت إليه ) ؛ وهذا قول صحيح لأنك حين تحسن إلى شخص تدك كبرياءه، وتكون يدك العليا عليه، فإذا ما أخذ حظاً من الحياة وأصبح ذا مكانة بين الناس فإن كان غير سوي النفس فإنه لا يحب من تفضل عليه في يوم من الأيام ودك كبرياءه ؛ لذلك تراه يكره وجوده، ولا يحب أن يراه وربما دبر لك المكائد لتختفي من طريقه، وتخلي له الساحة ؛ لأنك الوحيد الذي يحرجه حضورك.
لذلك، من عمل عملاً لغير الله أسلمه الله لمن عمل له، فليأخذ منه الجزاء، وإذا بالجزاء يأتي على خلاف ما تنتظر، فقد فعلت له ليكرمك فإذا به يهينك، فعلت له ليحترمك فإذا به يحقرك، فعلت له ليواليك فإذا به عدو لك ؛ لذلك يقولون : العمل لله عاجل الجزاء، أما العمل لغير الله فغير مضمون العواقب، فقد يوفي لك وقد لا يوفي.
ثم أردف الحق سبحانه وتعالى الإيمان بالعمل الصالح ؛ لأن العمل الصالح لابد له أن ينطلق من الإيمان ويصدر عنه، فقال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. " ١٠٧ " ﴾( سورة الكهف )
﴿ وعملوا الصالحات.. " ١٠٧ " ﴾( سورة الكهف )يعني : عمل الشيء الصالح، فإن كان الشيء صالحاً بنفسه فليتركه على صلاحه لا يفسده، أو يزيده صلاحاً، كبئر الماء الذي يشرب منه الناس، فإما أن تتركه على حال صلاحه لا تلقي فيه ما يسده أو يفسده فتخرج الصالح عن صلاحه، وإما أن تزيده صلاحاً فتضيف إليه ما يحسن من أدائه ويزيد من كفاءته كأن تبني حوله سوراً يحميه أو غطاءً يحفظه، أو آلة رفع تيسر على الناس استعماله.
والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلاح غيره أكثر من حصيلته من عمله هو ؛ لأنه فرد واحد، ويستفيد بصلاح المجتمع كله، ومن هنا لا ينبغي أن تستثقل أوامر الشارع تكليفاته ؛ لأنه يأخذ منك ليعطيك وليؤمن حياتك وقت الحاجة والعوز، وحينما يتوفر لك هذا التكافل الاجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليسر مطمئنة حال العسر.
وساعة أن يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه، فإنه يطمئنك على أولادك من بعدك، فلا تحزن إن أصابك مكروه ؛ لأنك في مجتمع متعاون، سيكفل أولادك، بل قد يكون اليتيم في ظل الإسلام وتعاليمه أسعد حظاً من حياته في رعاية أبيه ؛ لأنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعاً آباء له، وربما كان أبوه مشغولاً عنه في حياته لا يفيده بشيء، بل ويصد عنه الخير حيث يقول الناس : أبوه موجود وهو يتكفل به.
لذلك يقول احمد شوقي :
ليس اليتيم من انتهى أبواه إن اليتيم هو الذي تلقى له من هم الحياة وخلفاه ذليلا أما تخلت أو أباً، مشغولا. وقوله تعالى :﴿ كانت لهم جنات الفردوس نزلاً " ١٠٧ " ﴾( سورة الكهف ).
الفردوس : هو أعلى الجنة، والنزل : ما يعده الإنسان لإكرام ضيفه من الإقامة ومقومات الحياة وترفها، والإنسان حينما يعد النزل لضيفه يعده على حسب قدراته وإمكانياته وعلمه بالأشياء، فما بالك إن كان المعد للنزل هو الله تبارك وتعالى ؟.
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ لا يبغون عنها حولاً " ١٠٨ " ﴾( سورة الكهف )أي : لا يطلبون تحولهم عنها إلى غيرها، لأنه لا يتصور في النعيم أعلى من ذلك.
ومعلوم أن الإنسان لديه طموحات ترفيهية، فكلما نال خيراً تطلع إلى أعلى منه، وكلما حاز متعة ابتغى أكثر منها، هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر مختلف، وإلا فكيف يطلب نعيماً أعلى من الجنة الذي قال الله عنه :﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً.. " ٢٥ " ﴾( سورة البقرة )أي : كلما رزقهم الله ثمرة أتتهم أخرى فقالوا : لقد رزقنا مثلهم من قبل، وظنوها كسابقتها، لكنها ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف، وإن كانت نفس الثمرة، ذلك لأن قدرة الأسباب محدودة، أما قدرة المسبب فليست محدودة.
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج لك الفاكهة الواحدة على ألف لون وألف طعم ؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى في قدرتها ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وأتوا به متشابهاً.. " ٢٥ " ﴾( سورة البقرة )فالثمر واحد متشابه، أما الطعم فمختلف.
والإنسان منا ليشق طريقه في الحياة يظل يتعلم، ليأخذ شهادة مثلاً أو يتعلم مهنة، ويظل في تعب ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من عمره أملاً في أن يعيش باقي حياته المظنونة مرتاحاً هانئاً، وهب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة، فكم سيكون الباقي منها ؟.
أما الراحة الأبدية في الآخرة فهي زمن لا نهاية له، ونعيم خالد لا ينتهي، ففي أي شيء يطمع الإنسان بعد هذا كله ؟ وإلى أي شيء يطمح ؟.
ونحن نقول مثلاً عن السلعة الجيدة : لا يستطيع المصنع أن يخرج أحسن من هذه، أما صنعة الله فلا تقف عند حد ؛ لأن المصنع يعالج الأشياء، أما الحق تبارك وتعالى فيصنعها بكلمة كن ؛ لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصل إليه العلم في خدمة البشر أن تضغط على زر معين، فيخرج لك ما تريد من طعام أو شراب.
وهذه الأشياء بلا شك معدة ومجهزة مسبقاً، فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل نوع، لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك ؟ إذن : فنعيم الدنيا له حدود ينتهي عندها. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون " ٢٤ " ﴾( سورة يونس )وكأن الحق سبحانه يقول لنا : لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا وبلغتم أقصى ما يمكن من متعها وزينتها، فتعالوا إلى ما أعددته أنا لكم، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله، وتعالوا عيشوا بالله، كنتم في عالم الأسباب فتعالوا إلى المسبب.
وإن كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الآية عن المداد الذي تكتب به كلمات الله، فقد تكلم عن الأقلام التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة، فقال تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله.. " ٢٧ " ﴾( سورة لقمان ).
ونقف هنا عند دقة البيان القرآني، فلو تصورنا ما في الأرض من شجر أقلام، مع ما يتميز به الشجر من تجدد مستمر، وتكرر دائم يجعل من الأشجار ثروة لا حصر لها ولا تنتهي، وتصورنا ماء البحر مداداً يكتب به إلا أن ماء البحر منذ خلقه الله تعالى محدود ثابت لا يزيد ولا ينقص. لذلك لما كان الشجر يتجدد ويتكرر، والبحر ماؤه ثابت لا يزيد. قال سبحانه :﴿ والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ.. " ٢٧ " ﴾( سورة لقمان ). ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر، والمراد سبعة أمثاله، واختار هذا العدد بالذات ؛ لأنه منتهى العدد عند العرب.
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة، ومنها نعلم أن كمية الماء في الأرض ثابتة لا تزيد ؛ لأن ما يتم استهلاكه من الماء يتبخر ويعود من جديد فالإنسان مثلاً لو شرب طيلة عمره مائة طن من الماء، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عملية الإخراج تجدها نفس الكمية التي شربها، وقد تبخرت وأخذت دورتها من جديد ؛ لذلك يقولون : رب شربة ماء شربها من آدم الملايين.
يعني : خذوني أسوة، فأنا لست ملكاً إنما أنا بشر مثلكم، وحملت نفسي على المنهج الذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيء وأنا عنه بنجوى. بل بالعكس كان صلى الله عليه وسلم أقل الناس حظاً من متع الحياة وزينتها.
فكان في المؤمنين به الأغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدون أغلى الثياب في حين كان صلى الله عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أن يوقد في بيته نار لطعام، وكان يرتدي المرقع من الثياب، كما أن أولاده لا يرثونه، كما يرث باقي الناس، ولا تحل لهم الزكاة كغيرهم، فحرموا من حق تمتع به الآخرون.
لذلك كان صلى الله عليه وسلم أدنى الأسوات أي : أقل الموجودين في متع الحياة وزخرفها، وهذا يلفتنا إلى أن الرسالة لم تجر لمحمد نفعاً دنيوياً، ولم تميزه عن غيره في زهرة الدنيا الفانية، إنما ميزته في القيم والفضائل.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول : " يرد علي يعني من الأعلى فأقول : أنا لست مثلكم، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم "
والآية هنا لا تميزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلا في أنه :﴿ يوحى إلي.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف )فما زاد محمد عن البشر إلا أنه يوحى إليه. ثم يقول تعالى :﴿ أنما إلهكم إله واحد.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف )أنما : أداة قصر ﴿ إلهكم إله واحد.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف )أي : لا إله غيره، وهذه قمة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إله غيره، ومن أعظم نعم الله على الإنسان أن يكون له إله واحد، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً ليوضح لنا هذه المسألة فقال تعالى :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلاً.. " ٢٩ " ﴾( سورة الزمر )فلا يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه ؛ لأنهم متشاكسون مختلفون يحار فيما بينهم، إن أرضى هذا سخط ذاك. هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد ؟ إذن : فمما يحمد الله عليه أنه إله واحد.
﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف ).
الناس يعملون الخير لغايات رسمها الله لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها، لكن هذه الآية توضح لنا غاية أسمى من الجنة ونعيمها، هي لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، فقوله تعالى :﴿ يرجو لقاء ربه.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف ).
تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى. فمن أراد لقاء ربه لا مجرد جزائه في الآخرة :
﴿ فليعمل عملاً صالحاً.. " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف )فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله ؛ لأن العمل الصالح دليل على أنك احترمت أمر الآخر بالعمل، ووثقت من حكمته ومن حبه لك فارتاحت نفسك في ظل طاعته، فإذا بك إذا أويت إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلا خيراً تسعد به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجس شراً من أحد، ولا تخاف عاقبة أمر لا تحمد عقباه، فمن الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفقك لها ؟ ثم :﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف ).
وسبق أن قلنا : إن الجنة أحد، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً، ولو كان هذا الشيء هو الجنة، فعليك أن تسمو بغاياتك، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعم بها عليك.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالرجل الذي أعد وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب، ودعا إليها أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إلا وأحداً لم يهتم بالطعام والشراب، وسأل عن صاحب الوليمة ليسلم عليه ويأنس به.
وما أصدق ما قالته رابعة العدوية :
كلهم يعبدون من خوف أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا ليس لي بالجنان والنار حظ نارٍ ويرون النجاة حظاً جزيلاً بقصور ويشربوا سلسبيلا أنا لا ابتغي بحبي بديلا
وهذا يشرح لنا الحديث القدسي : " لو لم أخلق جنة وناراً، أما كنت أهلاً لأن أعبد ؟ ".
فلا ينبغي للعبد أن يكون نفعياً حتى في العبادة، والحق سبحانه وتعالى أهل بذاته أن يعبد، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فاللهم ارزقنا هذه المنزلة، واجعلنا برحمتك من أهلها.