تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير الشعراوي
.
لمؤلفه
الشعراوي
.
المتوفي سنة 1419 هـ
سورة الأعراف
مكية :
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾( من الآية ١٦٥ سورة الأنعام )، ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام " رحيم "، ونجدها مبنية على الوصل ؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد ﴿ غفور رحيم ﴾وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة ؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميما، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، وتصبح القراءة :
﴿ غفور رحيم ﴾ ﴿ بسم الله ﴾.
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضا. وكان من الممكن أن يجعلها سكونا، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنه سبحانه أراد القرآن موصولا، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنّة، وهذا بغير غُنّة.
مكية :
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾( من الآية ١٦٥ سورة الأنعام )، ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام " رحيم "، ونجدها مبنية على الوصل ؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد ﴿ غفور رحيم ﴾وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة ؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميما، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، وتصبح القراءة :
﴿ غفور رحيم ﴾ ﴿ بسم الله ﴾.
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضا. وكان من الممكن أن يجعلها سكونا، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنه سبحانه أراد القرآن موصولا، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنّة، وهذا بغير غُنّة.
ﰡ
ﭑ
ﰀ
ويقول الحق :
بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ المص ( ١ ) ﴾ وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها : " ألف " ثم نسكت لنقرأ " لام " ثم نسكت لنقرأ " ميم " ثم نسكت لنقرأ " صاد ". وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة ؛ لأن هذه الحروف مقطعة، مثل " ألم، حم، طه، يس، ص، ق، وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف، وميم حرف )، ١والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئا قال : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخد بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضا من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق :﴿ ألم ( ١ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف :﴿ المص ( ١ ) ﴾( سورة الأعراف ) :
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضا أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قرئت أسماء، ما معنى مسميات ؟ وما معنى أسماء ؟. أنت حين تقول : كتب، لا تقول : " كاف " " تاء " " باء "، بل تنطق مسمى الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو " كَ ". إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإنسان، وله اسم، والأمّي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول " كتب " أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال : ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء ؟ لا بد أنه قد علّمَها وتلقاها، والحق هو القائل :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه١٨ ﴾ [ سورة القيامة ].
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب ؛ فأنت تجد " ألم " في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ [ سورة الفيل ].
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشرح ؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تُقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولا حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ " ﴿ المص ﴾ في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفا، ونجد نصفها أربعة عشر حرفا في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل :﴿ ق والقرآن المجيد ١ ﴾ [ سورة ق ]، وكذلك قوله الحق :﴿ ص والقرآن ذي الذكر١ ﴾ [ سورة ص ]،
وكذلك قوله الحق :﴿ ن والقلم وما يسطرون١ ﴾ [ سورة القلم ]، ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق :﴿ حم١ ﴾ [ سورة الأحقاف ]، ومرة تأتي ثلاث حروف مقطعة مثل :﴿ ألم ١ ﴾ [ سورة البقرة ]، ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ المص١ ﴾ [ سورة الأعراف ]، ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ كهيعص ١ ﴾ [ سورة مريم ].
وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفا وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعل، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخرا عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف ينطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم ؟ ! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديا العرب ؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحدى إلى من كان بارعا في هذه الصنعة. وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال ؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآنا لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام وهي اللغة واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله ؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئا، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها كما قلت إلا المتعلم، وقد علّمه الذي علّم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفا يقول إن ﴿ ألمص ﴾ جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أول كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءا للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطا وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الآخرة، وجاءت " الصاد " لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع منها، أنردها عليه ؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له : أذلك هو كل علم الله فيها ؟. لا، لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن قرأناها على قدر مراد الله فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله، لأن أفهامنا قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع " كلمة سر " لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من يعرف " كلمة السر " يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها.
﴿ المص ( ١ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : ونجد هذه الحروف المقطعة حديثا عن الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ المص ( ١ ) ﴾ وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها : " ألف " ثم نسكت لنقرأ " لام " ثم نسكت لنقرأ " ميم " ثم نسكت لنقرأ " صاد ". وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة ؛ لأن هذه الحروف مقطعة، مثل " ألم، حم، طه، يس، ص، ق، وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف، وميم حرف )، ١والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئا قال : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخد بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضا من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق :﴿ ألم ( ١ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف :﴿ المص ( ١ ) ﴾( سورة الأعراف ) :
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضا أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قرئت أسماء، ما معنى مسميات ؟ وما معنى أسماء ؟. أنت حين تقول : كتب، لا تقول : " كاف " " تاء " " باء "، بل تنطق مسمى الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو " كَ ". إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإنسان، وله اسم، والأمّي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول " كتب " أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال : ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء ؟ لا بد أنه قد علّمَها وتلقاها، والحق هو القائل :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه١٨ ﴾ [ سورة القيامة ].
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب ؛ فأنت تجد " ألم " في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ [ سورة الفيل ].
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشرح ؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تُقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولا حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ " ﴿ المص ﴾ في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفا، ونجد نصفها أربعة عشر حرفا في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل :﴿ ق والقرآن المجيد ١ ﴾ [ سورة ق ]، وكذلك قوله الحق :﴿ ص والقرآن ذي الذكر١ ﴾ [ سورة ص ]،
وكذلك قوله الحق :﴿ ن والقلم وما يسطرون١ ﴾ [ سورة القلم ]، ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق :﴿ حم١ ﴾ [ سورة الأحقاف ]، ومرة تأتي ثلاث حروف مقطعة مثل :﴿ ألم ١ ﴾ [ سورة البقرة ]، ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ المص١ ﴾ [ سورة الأعراف ]، ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ كهيعص ١ ﴾ [ سورة مريم ].
وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفا وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعل، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخرا عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف ينطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم ؟ ! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديا العرب ؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحدى إلى من كان بارعا في هذه الصنعة. وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال ؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآنا لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام وهي اللغة واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله ؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئا، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها كما قلت إلا المتعلم، وقد علّمه الذي علّم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفا يقول إن ﴿ ألمص ﴾ جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أول كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءا للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطا وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الآخرة، وجاءت " الصاد " لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع منها، أنردها عليه ؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له : أذلك هو كل علم الله فيها ؟. لا، لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن قرأناها على قدر مراد الله فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله، لأن أفهامنا قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع " كلمة سر " لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من يعرف " كلمة السر " يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها.
﴿ المص ( ١ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : ونجد هذه الحروف المقطعة حديثا عن الكتاب.
١ رواه الترمذي، والدرامي..
فيقول سبحانه :
﴿ كتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ :
وساعة تسمع " أنزل " فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء : وهل يوجد في صدر رسول الله حرج ؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه ﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول : يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال : لقد جاء الحق بقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، لأن الحق يعلم أن محمدا قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن ؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون. وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافا أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكذاب ؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾ قد جاء لأمر من اثنين : إما أن يكون الأمر للحرج إلا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآنا ليصبح منهج خلقه وصراطا مستقيما لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء ؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماما.
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإنذار لا يكون إلا لمخالف ؛ لأن الإنذار يكون إخبارا بشرٍ ينتظر من تخاطبه. وهو أيضا تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة :﴿ هدى للمتقين ﴾.
وهنا نلاحظ أن الرسالات تقتضي مرْسِلا أعلى وهو الله، ومُرْسَلا وهو الرسول، ومُرْسلا إليه وهم الأمة، والمرسل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول :﴿ كتاب أنزل ﴾ من الله وهو المرسِل، و " إليك " لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
﴿ كتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ :
وساعة تسمع " أنزل " فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء : وهل يوجد في صدر رسول الله حرج ؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه ﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول : يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال : لقد جاء الحق بقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، لأن الحق يعلم أن محمدا قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن ؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون. وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافا أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكذاب ؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾ قد جاء لأمر من اثنين : إما أن يكون الأمر للحرج إلا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآنا ليصبح منهج خلقه وصراطا مستقيما لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء ؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماما.
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإنذار لا يكون إلا لمخالف ؛ لأن الإنذار يكون إخبارا بشرٍ ينتظر من تخاطبه. وهو أيضا تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة :﴿ هدى للمتقين ﴾.
وهنا نلاحظ أن الرسالات تقتضي مرْسِلا أعلى وهو الله، ومُرْسَلا وهو الرسول، ومُرْسلا إليه وهم الأمة، والمرسل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول :﴿ كتاب أنزل ﴾ من الله وهو المرسِل، و " إليك " لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ٣ ﴾ :
ومادام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم :﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾
( من الآية ٣ سورة الأعراف ) :
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾( من الآية ٣ سورة الأعراف ).
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول : " وذكرى ". أو " وذكِّر " إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيمانا جديدا، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا.. ١٧٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ فنحن نلفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه إلى الأبناء ؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم الحياة التي تلقوها ؛ لأن آدم وحواء أول ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي.. ١٢٣ ﴾ [ سورة طه ] : وهكذا نعلم أن هناك " هدى " قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا " الهدى " منقولا في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الإتباع.
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ.. ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾.
ومادام قد أوضح : اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فهذا يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيدا له.
﴿ .. وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في إتباع منهج الله تتجلى في انك لا تخضع لمساو لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحبا في الكون وكرامته محفوظة، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمنا بأن رب الأسباب سيقدم العون، ويقدم الحق له العون فعلا فيسجد لله شاكرا، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولا ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول : لماذا فعلت هكذا ؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت ؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر ؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي ؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصيا فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير امة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باق إلى أن تقوم الساعة. ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. ( ١١٠ ) ﴾ [ سورة آل عمران ].
وهذه خاصية لن تنتهي أبدا، فإن رأيت منكرا فلابد من خلية خير تنكره وتقول : لا، وإذا كانت الحق قد جعل محمدا خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع ولا تنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبدا المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ٣ ﴾ :
ومادام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم :﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾
( من الآية ٣ سورة الأعراف ) :
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾( من الآية ٣ سورة الأعراف ).
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول : " وذكرى ". أو " وذكِّر " إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيمانا جديدا، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا.. ١٧٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ فنحن نلفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه إلى الأبناء ؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم الحياة التي تلقوها ؛ لأن آدم وحواء أول ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي.. ١٢٣ ﴾ [ سورة طه ] : وهكذا نعلم أن هناك " هدى " قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا " الهدى " منقولا في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الإتباع.
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ.. ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾.
ومادام قد أوضح : اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فهذا يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيدا له.
﴿ .. وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في إتباع منهج الله تتجلى في انك لا تخضع لمساو لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحبا في الكون وكرامته محفوظة، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمنا بأن رب الأسباب سيقدم العون، ويقدم الحق له العون فعلا فيسجد لله شاكرا، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولا ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول : لماذا فعلت هكذا ؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت ؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر ؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي ؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصيا فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير امة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باق إلى أن تقوم الساعة. ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. ( ١١٠ ) ﴾ [ سورة آل عمران ].
وهذه خاصية لن تنتهي أبدا، فإن رأيت منكرا فلابد من خلية خير تنكره وتقول : لا، وإذا كانت الحق قد جعل محمدا خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع ولا تنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبدا المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ :
وساعة تسمع " كم " فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلا فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعدادا خاصا لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها ؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين : أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال على ذلك قوله الحق في سورة يوسف :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ٨٢ ﴾ [ سورة يوسف ]. وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق : اسأل أهل القرية ؛ لأن المسؤول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع الملكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها :﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ﴾.
وأيهما يأتي أولا : الإهلاك أم يأتي البأس أولا فيهلك ؟. الذي يأتي أولا هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالا، وإنما أمرها مسبق أزلا، وكأن الحق يقول هنا : وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلا، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات ؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلا أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى ؛ ليأتي السلوك موافقا ما أخبر به الله. ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والبأس هو القوة التي لا ترد ولا تقهر، و " بياتا " أي بالليل، ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة ؟. ونجد في خبر عمن أهْلِكوا مثل قوم لوط أنه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. ﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ١٧٧ ﴾( سورة الصافات ) : أي يأتيهم الدمار في وقت هن نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. ﴿ فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾( من الآية ٤ سورة الأعراف ) :
وإذا قال سبحانه :﴿ بياتا أو هم قائلون ﴾ فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلا، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهرت للاسترخاء والراحة.
﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ :
وساعة تسمع " كم " فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلا فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعدادا خاصا لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها ؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين : أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال على ذلك قوله الحق في سورة يوسف :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ٨٢ ﴾ [ سورة يوسف ]. وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق : اسأل أهل القرية ؛ لأن المسؤول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع الملكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها :﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ﴾.
وأيهما يأتي أولا : الإهلاك أم يأتي البأس أولا فيهلك ؟. الذي يأتي أولا هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالا، وإنما أمرها مسبق أزلا، وكأن الحق يقول هنا : وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلا، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات ؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلا أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى ؛ ليأتي السلوك موافقا ما أخبر به الله. ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والبأس هو القوة التي لا ترد ولا تقهر، و " بياتا " أي بالليل، ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة ؟. ونجد في خبر عمن أهْلِكوا مثل قوم لوط أنه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. ﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ١٧٧ ﴾( سورة الصافات ) : أي يأتيهم الدمار في وقت هن نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. ﴿ فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾( من الآية ٤ سورة الأعراف ) :
وإذا قال سبحانه :﴿ بياتا أو هم قائلون ﴾ فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلا، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهرت للاسترخاء والراحة.
ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم ؟ يقول الحق سبحانه :﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ٥ ﴾.
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله ﴿ دعواهم ﴾ نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول : فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت، أنأن دعواه، وإما ألا يقيم. والدعوى تطلق أيضا على الدعاء :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾( من الآية ١٠ سورة يونس ). وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ٥ ﴾( سورة الأعراف ).
ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾( سورة الملك ).
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله ﴿ دعواهم ﴾ نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول : فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت، أنأن دعواه، وإما ألا يقيم. والدعوى تطلق أيضا على الدعاء :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾( من الآية ١٠ سورة يونس ). وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ٥ ﴾( سورة الأعراف ).
ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾( سورة الملك ).
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ ﴾.
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ( ١٠١ ) ﴾( سورة المؤمنون )، ويقول سبحانه أيضا :﴿ ولا يسأل حميم حميما ١٠ ﴾( سورة المعارج )، ويقول جل وعلا :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾( من الآية ٧٨ سورة القصص )، ويقول سبحانه وتعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ٣٩ ﴾( سورة الرحمن )، ثم يقول هنا :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ }( سورة الأعراف ).
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن والعياذ بالله متناقضات. ونقول لكل منهم : أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا : أيكون القرآن معجزا وهو متعارض ؟ ! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين، فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين : إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسؤول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾ : وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة ؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة ولكن كلام المقر هو إقرار واعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإنكار. فإما أن يقر الإنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه ؛ لأن الإرادة انفكت عنها، ولم يعد للإنسان قهر عليها، مصداقا لقوله الحق :﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾( من الآية ٢١ سورة فصلت )، والحق هنا يقول :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ وهو سؤال للإقرار. قال الله عنه :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾( من الآية ١٠٩ سورة المائدة ).
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلكم تقريعا للمرسَل إليهم.
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ( ١٠١ ) ﴾( سورة المؤمنون )، ويقول سبحانه أيضا :﴿ ولا يسأل حميم حميما ١٠ ﴾( سورة المعارج )، ويقول جل وعلا :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾( من الآية ٧٨ سورة القصص )، ويقول سبحانه وتعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ٣٩ ﴾( سورة الرحمن )، ثم يقول هنا :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ }( سورة الأعراف ).
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن والعياذ بالله متناقضات. ونقول لكل منهم : أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا : أيكون القرآن معجزا وهو متعارض ؟ ! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين، فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين : إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسؤول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾ : وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة ؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة ولكن كلام المقر هو إقرار واعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإنكار. فإما أن يقر الإنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه ؛ لأن الإرادة انفكت عنها، ولم يعد للإنسان قهر عليها، مصداقا لقوله الحق :﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾( من الآية ٢١ سورة فصلت )، والحق هنا يقول :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ وهو سؤال للإقرار. قال الله عنه :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾( من الآية ١٠٩ سورة المائدة ).
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلكم تقريعا للمرسَل إليهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ٧ ﴾.
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب ؛ لأنه سبحانه لم يغب يوما عن أي من خلقه ؛ لذلك قال :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ أي أنه مع الجميع، مادام ليس بغائب عن حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك ؟ أقول : خذ ذلك في إطار قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله ؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان غائبا في حدث أو مكان.
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب ؛ لأنه سبحانه لم يغب يوما عن أي من خلقه ؛ لذلك قال :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ أي أنه مع الجميع، مادام ليس بغائب عن حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك ؟ أقول : خذ ذلك في إطار قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله ؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان غائبا في حدث أو مكان.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ ﴾ :
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم ؛ فالله لا يظلم أحدا، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة.. ٤٧ ﴾ [ سورة الأنبياء ] : هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، ولنذكر أنه قال من قبل :﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ١٦٠ ﴾( سورة الأنعام ).
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقول سبحانه :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ٧ ﴾
( سورة الرحمن ).
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثا غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللا في الآلة التي توزن بها، وإما خللا في الوزن، وإما أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإنسان، وساعة يقول سبحانه :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضا ؛ لأنه سبحانه أعطى أسبابا للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلا، وإن ظلما على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ) : فالأمر حينئذ يكون لله وحده، فإن كان الملك في الدنيا قد استخلف فيه الحق عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. وسبحانه هو القائل :
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( ٦ ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( ٧ ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( ٨ ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ٩ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( ١٠ ) نَارٌ حَامِيَةٌ ( ١١ ) ﴾. ( سورة القارعة ).
إذن فالميزان يثقل الحسنات، ويخف بالسيئات. ونلحظ أن القسمة العقلية لإيجاد ميزان ووازن وموزون تقتضي ثلاثة أشياء : أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا.
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ ﴾ :
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم ؛ فالله لا يظلم أحدا، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة.. ٤٧ ﴾ [ سورة الأنبياء ] : هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، ولنذكر أنه قال من قبل :﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ١٦٠ ﴾( سورة الأنعام ).
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقول سبحانه :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ٧ ﴾
( سورة الرحمن ).
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثا غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللا في الآلة التي توزن بها، وإما خللا في الوزن، وإما أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإنسان، وساعة يقول سبحانه :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضا ؛ لأنه سبحانه أعطى أسبابا للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلا، وإن ظلما على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ) : فالأمر حينئذ يكون لله وحده، فإن كان الملك في الدنيا قد استخلف فيه الحق عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. وسبحانه هو القائل :
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( ٦ ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( ٧ ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( ٨ ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ٩ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( ١٠ ) نَارٌ حَامِيَةٌ ( ١١ ) ﴾. ( سورة القارعة ).
إذن فالميزان يثقل الحسنات، ويخف بالسيئات. ونلحظ أن القسمة العقلية لإيجاد ميزان ووازن وموزون تقتضي ثلاثة أشياء : أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا.
ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالى :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ٩ ﴾.
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضا جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ : وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكانا يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يمينا، وحينا يأتي شعر الفرس يسارا، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكانا يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة، وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون ؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة الأعراف ).
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان : إن هناك ميزانا بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال : إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان : ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. الخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعا. أو هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإمام عليا عندما سألوه : أيحاسب الله خلقه جميعا في وقت واحد ؟ فقال : وأي عجب في هذا ؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد ؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ٩ ﴾
( من الآية ٩ سورة الأعراف ) : نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام : خسر الجلد والسقط. لماذا ؟ تأتي الإجابة من الحق :﴿ بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾.
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضا جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ : وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكانا يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يمينا، وحينا يأتي شعر الفرس يسارا، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكانا يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة، وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون ؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة الأعراف ).
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان : إن هناك ميزانا بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال : إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان : ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. الخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعا. أو هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإمام عليا عندما سألوه : أيحاسب الله خلقه جميعا في وقت واحد ؟ فقال : وأي عجب في هذا ؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد ؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ٩ ﴾
( من الآية ٩ سورة الأعراف ) : نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام : خسر الجلد والسقط. لماذا ؟ تأتي الإجابة من الحق :﴿ بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾.
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ١٠ ﴾.
المُمَكّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة ؛ فيقال : مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحرارتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نمكِّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبدا. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها ؛ فأنت ممَكّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له.
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ١٠ ﴾( سورة الأعراف ) : و " معايش " جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشا لأن عندهم دقة بالغة ؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.
وقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكرا عاما على مجموع النعم، أو يشكره شكرا خاصا عند كل نعمة، ولكن عند جزيئات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم }، ويقول بعد الأكل : " الحمد لله " ؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة : " بسم الله " وعندما يمضغها ويبلعها يقول " الحمد لله " لأنها تقف في حلقه، وأيضا حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات : أول دفعة نقول : " بسم الله ". وننتهي منها فنقول : " الحمد لله " وكذالك الدفعة الثانية والثالثة. ومن يفعل ذلك فلا يتأتّى منه معصية، ما دامت آثار شربة الماء هذه في جسمه ؛ لأنها كلها " بسم الله ". فتحرسه من الخطيئة ؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله ؛ لأنكم لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ ومن الحمق ألا نشكر.
المُمَكّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة ؛ فيقال : مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحرارتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نمكِّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبدا. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها ؛ فأنت ممَكّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له.
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ١٠ ﴾( سورة الأعراف ) : و " معايش " جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشا لأن عندهم دقة بالغة ؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.
وقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكرا عاما على مجموع النعم، أو يشكره شكرا خاصا عند كل نعمة، ولكن عند جزيئات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم }، ويقول بعد الأكل : " الحمد لله " ؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة : " بسم الله " وعندما يمضغها ويبلعها يقول " الحمد لله " لأنها تقف في حلقه، وأيضا حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات : أول دفعة نقول : " بسم الله ". وننتهي منها فنقول : " الحمد لله " وكذالك الدفعة الثانية والثالثة. ومن يفعل ذلك فلا يتأتّى منه معصية، ما دامت آثار شربة الماء هذه في جسمه ؛ لأنها كلها " بسم الله ". فتحرسه من الخطيئة ؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله ؛ لأنكم لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ ومن الحمق ألا نشكر.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ١١ ﴾.
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة : خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا ؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله ؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾. إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول :﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( ١٤ ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( ١٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٦ ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( ١٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٨ ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( ١٩ ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( ٢٠ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢١ ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( ٢٢ ) ﴾ [ سورة الرحمن ].
﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( ٢٤ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢٥ ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( ٢٦ ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( ٢٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ]. وكل نعمة يقول بعدها :﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء ؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله :
﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ( ٣٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ] : وجاء الحق بذكر كل ذلك ؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في در التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا ؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له : إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شرا يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات ؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان، لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجئ الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال واردا عن كيفية الخلق، والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت تستقرئ أجناسا في الكون، وكل جنس له مهمة. ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت ؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك. أما أنت أيها الإنسان فما عملك في هذا الكون ؟ ؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يعرِّف الإنسان مهمته ؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضا أن يستقبل الإنسان خبرا من الخالق.
إنه سبحانه يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه ؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله ؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد ؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول أن يأتي بأخبار الكون وهو الأميّ الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه إذن أنه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته ؟. ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ ﴾( سورة يونس ) : وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ بما يوحى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق :﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( سورة يونس ).
وهنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم : هل علمتم عني خلال عمري أني قلت شعرا أو حكمة أو جئتكم بمثل ؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ١١ ﴾( سورة الأعراف ).
وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود يجب عليه أن يترك كل تخمين وظن ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن نأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا ! فكيفية الخلق كانت أمرا غيبيا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسماوات والأرض وما بينهما أم للإنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشرى في هذا المجال بأنهم ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها ؛ قال :﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : فكأن الذي يقول : كيف خلقت السماوات والأرض وكيف خلق الإنسان هو مضل ؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن هذا القائل عضدا لله ولا سندا ولا شريكا له.
وقص سبحانه علينا قصة خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإنسان. ومن يبحث بحثا استقرائيا ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي ؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتا وحيوانا، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين ؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحل الله لنا اللغز فقال :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صحيح يثبته الإحصاء وييقنه ؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
وأبلغنا سبحانه بقصة آدم، وكيفية خلق حوّاء فها أخذ جزءا من آدم وخلق منه حوّاء ؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها ؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال :﴿ وخلق منها زوجها ﴾. و " منها " في هذه الآية يحتمل أن تكون تبعيضية، مثلها قوله الحق :﴿ رسول من أنفسكم ﴾ : فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال : إنها " محمد "، بل جعل محمدا صلى الله عليه وسلم من الجنس نفسه خلقا وإيجادا، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾( من الآية ٣٠ سورة البقرة )، وهذا هو أول بلاغ، ثم أتبع ذلك :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( ٢٩ ) ﴾( سورة الحجر )، إذن فقبل نفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو " المسوّى منه " ؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين ؛ إنها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم : إنه من تراب، نقول نعم، وإن قال : " من ماء " نقول : نعم، وإن قال " من طين " فهذا قول حق ؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طينا. وإن قال :﴿ من حمأ مسنون ﴾، فهذا جائز ؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالا. إذن فهي مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾. وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال :﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾.
ويقول العلماء : إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الأخر : المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكن لنا هنا ملاحظة، ونقول : إننا لا نسجد إلا لله، وما دام ربنا قد قال : اسجدوا فالسجود هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر لله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله ؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعا من الملائكة لآدم، ب
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة : خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا ؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله ؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾. إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول :﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( ١٤ ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( ١٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٦ ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( ١٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٨ ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( ١٩ ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( ٢٠ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢١ ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( ٢٢ ) ﴾ [ سورة الرحمن ].
﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( ٢٤ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢٥ ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( ٢٦ ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( ٢٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ]. وكل نعمة يقول بعدها :﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء ؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله :
﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ( ٣٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ] : وجاء الحق بذكر كل ذلك ؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في در التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا ؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له : إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شرا يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات ؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان، لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجئ الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال واردا عن كيفية الخلق، والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت تستقرئ أجناسا في الكون، وكل جنس له مهمة. ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت ؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك. أما أنت أيها الإنسان فما عملك في هذا الكون ؟ ؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يعرِّف الإنسان مهمته ؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضا أن يستقبل الإنسان خبرا من الخالق.
إنه سبحانه يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه ؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله ؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد ؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول أن يأتي بأخبار الكون وهو الأميّ الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه إذن أنه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته ؟. ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ ﴾( سورة يونس ) : وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ بما يوحى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق :﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( سورة يونس ).
وهنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم : هل علمتم عني خلال عمري أني قلت شعرا أو حكمة أو جئتكم بمثل ؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ١١ ﴾( سورة الأعراف ).
وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود يجب عليه أن يترك كل تخمين وظن ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن نأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا ! فكيفية الخلق كانت أمرا غيبيا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسماوات والأرض وما بينهما أم للإنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشرى في هذا المجال بأنهم ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها ؛ قال :﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : فكأن الذي يقول : كيف خلقت السماوات والأرض وكيف خلق الإنسان هو مضل ؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن هذا القائل عضدا لله ولا سندا ولا شريكا له.
وقص سبحانه علينا قصة خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإنسان. ومن يبحث بحثا استقرائيا ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي ؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتا وحيوانا، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين ؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحل الله لنا اللغز فقال :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صحيح يثبته الإحصاء وييقنه ؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
وأبلغنا سبحانه بقصة آدم، وكيفية خلق حوّاء فها أخذ جزءا من آدم وخلق منه حوّاء ؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها ؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال :﴿ وخلق منها زوجها ﴾. و " منها " في هذه الآية يحتمل أن تكون تبعيضية، مثلها قوله الحق :﴿ رسول من أنفسكم ﴾ : فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال : إنها " محمد "، بل جعل محمدا صلى الله عليه وسلم من الجنس نفسه خلقا وإيجادا، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾( من الآية ٣٠ سورة البقرة )، وهذا هو أول بلاغ، ثم أتبع ذلك :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( ٢٩ ) ﴾( سورة الحجر )، إذن فقبل نفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو " المسوّى منه " ؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين ؛ إنها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم : إنه من تراب، نقول نعم، وإن قال : " من ماء " نقول : نعم، وإن قال " من طين " فهذا قول حق ؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طينا. وإن قال :﴿ من حمأ مسنون ﴾، فهذا جائز ؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالا. إذن فهي مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾. وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال :﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾.
ويقول العلماء : إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الأخر : المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكن لنا هنا ملاحظة، ونقول : إننا لا نسجد إلا لله، وما دام ربنا قد قال : اسجدوا فالسجود هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر لله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله ؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعا من الملائكة لآدم، ب
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( ١٢ ) ﴾.
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، وهكذا كان الموقف استكبارا واستعلاءً. وقوله الحق :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة ص ) : ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله :﴿ ما منعك ﴾ أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة :﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾. وقال مرة أخرى :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾. وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب " لا " النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود " لا " النافية. وقوله ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كلام سليم واضح ؛ يعني : ما حجزك عن السجود. لكن ﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾ هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء : إن " لا " هنا زائدة، ومن أحْسَن الأدب منهم قال : إن " لا " صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب ؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة " منع " ولأي أمر تأتي، وأنت تقول : " منعت فلانا أن يفعل "، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي " منع " للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع ؛ فممنوع هي في ﴿ منعك أن تسجد ﴾، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾( من الآية ١٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجودا معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو ؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربه :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ١٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلا أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس : أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فمادام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا ؟ لأنه قال :﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماما لأن الأجناس حين تختلف ؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، فلا يمكن أن نزرع في النار.
إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا ما دام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل : إن هذا خير من هذا، إنما قل : عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيرا، ولذلك أقول : لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف : إن هذا العود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية تتأتى في متساوي المهمة، ولكن إبليس قال :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ.. ١٢ ﴾ [ الأعراف ] : قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ١٣ ﴾.
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( ١٢ ) ﴾.
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، وهكذا كان الموقف استكبارا واستعلاءً. وقوله الحق :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة ص ) : ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله :﴿ ما منعك ﴾ أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة :﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾. وقال مرة أخرى :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾. وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب " لا " النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود " لا " النافية. وقوله ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كلام سليم واضح ؛ يعني : ما حجزك عن السجود. لكن ﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾ هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء : إن " لا " هنا زائدة، ومن أحْسَن الأدب منهم قال : إن " لا " صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب ؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة " منع " ولأي أمر تأتي، وأنت تقول : " منعت فلانا أن يفعل "، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي " منع " للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع ؛ فممنوع هي في ﴿ منعك أن تسجد ﴾، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾( من الآية ١٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجودا معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو ؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربه :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ١٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلا أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس : أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فمادام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا ؟ لأنه قال :﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماما لأن الأجناس حين تختلف ؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، فلا يمكن أن نزرع في النار.
إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا ما دام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل : إن هذا خير من هذا، إنما قل : عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيرا، ولذلك أقول : لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف : إن هذا العود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية تتأتى في متساوي المهمة، ولكن إبليس قال :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ.. ١٢ ﴾ [ الأعراف ] : قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ١٣ ﴾.
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية هي في السماء، ونقول : لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطا مكانيا، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام :﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.. ( ٤٨ ) ﴾. [ سورة هود ].
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ : وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلا لأن يكون في محضر الملائكة ؛ فقد كان في محضر الملائكة ؛ لأنه ألزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصى، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلا لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ.. ١٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أي ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دمت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلا لها، فكأن العمل هو الذي أهّله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلا لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقا بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين ؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم )١، وهو ذلك مثل المكروب، لأن هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن : لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التميز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه سبحانه يجعل إنسيا مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجني، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة " عفريت " من الجن. فالحق هو القائل :﴿ قال عفريت من الجن.. ٣٩ ﴾ [ سورة النمل ] : وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضا. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت :﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ.. ( ٣٩ ) ﴾ [ سورة النمل ] :
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب وهو إنسان ؟.
﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ٤٠ ﴾ [ سورة النمل ] : كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئا، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة :﴿ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النمل ) : كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فورا. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر : إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن أجعل الأدنى يتحكم في الأعلى ؛ لأنها إرادة من عَنْصر العناصر. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣ ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة ﴿ فاهبط ﴾ تشير وتدل على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلا لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة ﴿ فاهبط ﴾، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصّغَار هو الذل والهوان ؛ لأنه قابل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازي بالصّغَار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم ؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلا يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليعجل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث ؛ فبارتكابه القتل صار محجوبا عن الميراث.
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ : وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلا لأن يكون في محضر الملائكة ؛ فقد كان في محضر الملائكة ؛ لأنه ألزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصى، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلا لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ.. ١٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أي ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دمت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلا لها، فكأن العمل هو الذي أهّله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلا لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقا بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين ؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم )١، وهو ذلك مثل المكروب، لأن هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن : لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التميز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه سبحانه يجعل إنسيا مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجني، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة " عفريت " من الجن. فالحق هو القائل :﴿ قال عفريت من الجن.. ٣٩ ﴾ [ سورة النمل ] : وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضا. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت :﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ.. ( ٣٩ ) ﴾ [ سورة النمل ] :
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب وهو إنسان ؟.
﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ٤٠ ﴾ [ سورة النمل ] : كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئا، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة :﴿ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النمل ) : كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فورا. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر : إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن أجعل الأدنى يتحكم في الأعلى ؛ لأنها إرادة من عَنْصر العناصر. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣ ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة ﴿ فاهبط ﴾ تشير وتدل على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلا لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة ﴿ فاهبط ﴾، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصّغَار هو الذل والهوان ؛ لأنه قابل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازي بالصّغَار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم ؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلا يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليعجل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث ؛ فبارتكابه القتل صار محجوبا عن الميراث.
١ رواه البخاري في الأدب، ومسلم في السلام، وأبو داود في السنة، وابن ماجة في الصوم، ورواه أحمد ٣/١٥٦، ٢٨٥، ٣٣٧..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٤ ﴾.
ومعنى ﴿ أنظرني ﴾ أمهلني أي لا تلمني بسرعة، ولا تجعل أجلي أجلى قريبا، بدليل قوله سبحانه :﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ١٥ ﴾.
ومعنى ﴿ أنظرني ﴾ أمهلني أي لا تلمني بسرعة، ولا تجعل أجلي أجلى قريبا، بدليل قوله سبحانه :﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ١٥ ﴾.
فالإنظار طلب الإمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم ؛ لأنه جاء له بالصّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصيين أيضا. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيا إلى يوم البعث الذي فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾( من الآية ١٨٥ سورة آل عمران ) : فأوضح الحق : أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك ؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصى من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ٣٨ ﴾ ( سورة الحجر ) : والوقت المعلوم هو النفخة الأولى :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( ٦٨ ) ﴾( سورة الزمر ).
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( ٦٨ ) ﴾( سورة الزمر ).
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾ : والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الغيّ وهو : الإهلاك، يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. فسوف يلقون غيا ٥٩ ﴾ [ سورة مريم. ]
وحين نقرأ ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله. لكن هل يغوي ربنا أو يهدي ؟. إن الله يهدي دلالة وتمكينا، وسبق أن تكلمنا كثيرا عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختارا، ولم يخلقه مرغما ومسخرا كالملائكة، ولأنه قد خلق مختارا فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصى، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهورا. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضا. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان :﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ إنما يريد به الشيطان : أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له : لا، إن ربنا لم يغو ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي ؛ لأن الله لو خلقه مرغما مقهورا ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا ؛ فقد خلقه على هيئة " افعل " و " لا تفعل "، واختار هو ألا يفعل إلا المعصية. ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾( سورة الأعراف ) : والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل ؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائما، وإما أن يكون قاعدا، وإما أن يكون مضجعا نائما. وأريح الحالات أن يكون نائما مضجعا ؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحا بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعدا تقاومه الجاذبية قليلا، وحين يكون واقفا فهو يحمل ثقل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلا على قدميه : " اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعبا فيقال له : " اضجع قليلا لترتاح ".
ولماذا اختار الشيطان أن يقول :﴿ لأَقْعُدَنَّ ﴾ ؟ حتى يكون مطمئنا، فقد تعب من الوقفة، أيضا وهو في حالة قعود يكون متنبها متيقظا، والحق يقول :﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. ٥ ﴾ [ سورة التوبة ] : ولم يقل : " قفوا " حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الأضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾. ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة ؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة ؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب. إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم : حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس، فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان ؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة ؛ لأنك لو كنت فاسدا من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. ( ٢٠٠ ) ﴾. ﴿ سورة الأعراف ﴾.
لماذا ؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجرى الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها ؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة ؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي، وكل ذلك لأنه قال :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال ؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ : فمعنى ﴿ فاستعذ ﴾ أي فالتجأ منه إلى الله ؛ لأن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادر على منعه، وحين تقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بفزع والتجاء إليه سبحانه فإنه جل شأنه ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة : مرة واثنتين وثلاثا، فيقول الشيطان لنفسه : إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهر عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول : ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة : يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني أحتال لك ؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جندا من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكا مبتسما قائلا : يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليخبرك، فهلا أتممتها شكرا لله، هيا قم على الصلاة. إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد : وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته ؛ فقال :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر ؛ لأنك إن أردتهم ما استطعت أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار :﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإنسان :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾واستدرك على نفسه أيضا وقال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين٨٣ ﴾( سورة ص ) : لأن الذي يريده الله مهديا لا يستطيع الشيطان أن يغويه ؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيها حجة ولا قوة ؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه ؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول :﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ) : والسلطان قسمان : سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإنسان من هذه الأبواب.
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾ : والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الغيّ وهو : الإهلاك، يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. فسوف يلقون غيا ٥٩ ﴾ [ سورة مريم. ]
وحين نقرأ ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله. لكن هل يغوي ربنا أو يهدي ؟. إن الله يهدي دلالة وتمكينا، وسبق أن تكلمنا كثيرا عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختارا، ولم يخلقه مرغما ومسخرا كالملائكة، ولأنه قد خلق مختارا فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصى، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهورا. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضا. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان :﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ إنما يريد به الشيطان : أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له : لا، إن ربنا لم يغو ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي ؛ لأن الله لو خلقه مرغما مقهورا ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا ؛ فقد خلقه على هيئة " افعل " و " لا تفعل "، واختار هو ألا يفعل إلا المعصية. ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾( سورة الأعراف ) : والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل ؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائما، وإما أن يكون قاعدا، وإما أن يكون مضجعا نائما. وأريح الحالات أن يكون نائما مضجعا ؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحا بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعدا تقاومه الجاذبية قليلا، وحين يكون واقفا فهو يحمل ثقل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلا على قدميه : " اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعبا فيقال له : " اضجع قليلا لترتاح ".
ولماذا اختار الشيطان أن يقول :﴿ لأَقْعُدَنَّ ﴾ ؟ حتى يكون مطمئنا، فقد تعب من الوقفة، أيضا وهو في حالة قعود يكون متنبها متيقظا، والحق يقول :﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. ٥ ﴾ [ سورة التوبة ] : ولم يقل : " قفوا " حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الأضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾. ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة ؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة ؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب. إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم : حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس، فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان ؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة ؛ لأنك لو كنت فاسدا من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. ( ٢٠٠ ) ﴾. ﴿ سورة الأعراف ﴾.
لماذا ؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجرى الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها ؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة ؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي، وكل ذلك لأنه قال :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال ؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ : فمعنى ﴿ فاستعذ ﴾ أي فالتجأ منه إلى الله ؛ لأن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادر على منعه، وحين تقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بفزع والتجاء إليه سبحانه فإنه جل شأنه ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة : مرة واثنتين وثلاثا، فيقول الشيطان لنفسه : إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهر عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول : ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة : يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني أحتال لك ؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جندا من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكا مبتسما قائلا : يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليخبرك، فهلا أتممتها شكرا لله، هيا قم على الصلاة. إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد : وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته ؛ فقال :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر ؛ لأنك إن أردتهم ما استطعت أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار :﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإنسان :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾واستدرك على نفسه أيضا وقال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين٨٣ ﴾( سورة ص ) : لأن الذي يريده الله مهديا لا يستطيع الشيطان أن يغويه ؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيها حجة ولا قوة ؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه ؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول :﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ) : والسلطان قسمان : سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإنسان من هذه الأبواب.
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ ﴾.
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الأمام، ﴿ ومن خلفهم ﴾ أي من الوراء، و ﴿ عن أيمانهم ﴾ أي من جهة اليمين، و﴿ عن شمائلهم ﴾ أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعا هو ﴿ الدار الآخرة ﴾ وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله :﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( ١٦ ) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الصافات ) : ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضا لا يجعل للشيطان منفذا فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولا ؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإعادة بالتأكيد أهون من البداية ؛ لأنه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه سبحانه عندما يبين للناس أن الإعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلا إلى إنكاره، وإلا فالله جل شأنه تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب شاق ويبلغنا سبحانه بتمام إحاطة علمه فيقول :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( ٤ ) ﴾ ( سورة ق ) : أي أن لكل واحد كتابا مكتوبا فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان أيضا يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبا كبيرا، وقد كبرت سنه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقا فأمن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمن حياتهم في جهة ثانية.
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( ٩ ) ﴾ ( سورة النساء ) : ولماذا يأت الشيطان للإنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾. ويقول تعالى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ ﴾( سورة الأعراف ) : ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن ؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ ﴿ عن أيمانهم ﴾ و﴿ عن شمائلهم ﴾ ولم يأت ب " على " لأن " على " فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبدا ؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلا للآية :﴿ .. وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الأمام، ﴿ ومن خلفهم ﴾ أي من الوراء، و ﴿ عن أيمانهم ﴾ أي من جهة اليمين، و﴿ عن شمائلهم ﴾ أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعا هو ﴿ الدار الآخرة ﴾ وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله :﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( ١٦ ) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الصافات ) : ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضا لا يجعل للشيطان منفذا فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولا ؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإعادة بالتأكيد أهون من البداية ؛ لأنه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه سبحانه عندما يبين للناس أن الإعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلا إلى إنكاره، وإلا فالله جل شأنه تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب شاق ويبلغنا سبحانه بتمام إحاطة علمه فيقول :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( ٤ ) ﴾ ( سورة ق ) : أي أن لكل واحد كتابا مكتوبا فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان أيضا يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبا كبيرا، وقد كبرت سنه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقا فأمن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمن حياتهم في جهة ثانية.
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( ٩ ) ﴾ ( سورة النساء ) : ولماذا يأت الشيطان للإنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾. ويقول تعالى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ ﴾( سورة الأعراف ) : ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن ؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ ﴿ عن أيمانهم ﴾ و﴿ عن شمائلهم ﴾ ولم يأت ب " على " لأن " على " فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبدا ؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلا للآية :﴿ .. وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ :
لقد بلغ الغرور بالشيطان إن تخيل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفا، فسبحانه القائل :﴿ .. إن كيد الشيطان كان ضعيفا ٧٦ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق :﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا.. ١٨ ﴾ ( سورة الأعراف ). وقال له الحق من قبل :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( ١٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضا تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحبا للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه :﴿ .. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وفي هذا إخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعا يؤمنون به ؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعا ؛ فإنه جل شأنه قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعا، وإن كفروا جميعا فقد أعدّ النار لهم جميعا ؛ تأكيدا لقوله الحق :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ١١ ) ﴾[ سورة المؤمنون ]، وقوله الحق :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) ﴾ [ سورة الأنبياء ].
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ :
لقد بلغ الغرور بالشيطان إن تخيل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفا، فسبحانه القائل :﴿ .. إن كيد الشيطان كان ضعيفا ٧٦ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق :﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا.. ١٨ ﴾ ( سورة الأعراف ). وقال له الحق من قبل :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( ١٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضا تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحبا للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه :﴿ .. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وفي هذا إخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعا يؤمنون به ؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعا ؛ فإنه جل شأنه قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعا، وإن كفروا جميعا فقد أعدّ النار لهم جميعا ؛ تأكيدا لقوله الحق :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ١١ ) ﴾[ سورة المؤمنون ]، وقوله الحق :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) ﴾ [ سورة الأنبياء ].
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) ﴾.
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد أن تناول مسألة إبليس فيقول :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ : كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين : كيف يدخل إبليس جنة الخلود ؟. وكيف يخرج منها ؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها ؟. وهؤلاء العلماء الذين قالوا : إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة " جنة " ؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة " غلبة الاستعمال "، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفا، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة ؛ لأنها هي التي تعتبر جنة بحق، ولكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولا أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة ؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معان متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول : هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن " الحج " في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول : حججت إليه. فلما جاء الإسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة " الصلاة " إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ : أي أدع لهم، ولما جاء الإسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنى اصطلاحيا أن هذا يكون تركا لمعناه الأصلي ؟. لا ؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة " صلاة " أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة " الجنة " ساعة تطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول : المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإنسان وتجنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضا :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ ( من الآية ٢٦٦ سورة البقرة )، وكذلك يقول سبحانه :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( ٣٢ ) ﴾ ( سورة الكهف )، وقوله الحق :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) ﴾ ( سورة سبأ ).
وأقول : إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يعلمنا من لدنه ويوقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول : لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه : مادام قد جعله الله خليفة في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه ؟ !.
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في " افعل " و " لا تفعل " ؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحا ؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " لا يفسد به المجتمع. إذن ف " افعل " و " لا تفعل " هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله ؟. لا، فما دام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي ؛ فسيزين لك في " افعل " و " لا تفعل " ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال " افعل " إلى مجال " لا تفعل "، وكذلك يحاول أن يزين لك " أن تفعل " ما هو في جال " لا تفعل " فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجا يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداء يسعد الإنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة ؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج ؛ حتى لا يتلقي المنهج تلقيا نظريا، لذلك شاء سبحانه وتعالى ألا يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريبا على المهمة في " افعل " و " لا تفعل ". وحذره من العقبات التي تعترض " افعل " ؛ حتى لا تجيء في منطقة " لا تفعل "، وكذلك من العقبات في منطقة " لا تفعل " حتى لا تجيء في منطقة " افعل "، واختار له مكانا فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبدا في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره : كُلْ من كل شيء فيها، ولا لا تقرب هذه الشجرة.
" كل " هذا هو الأمر، و " لا تقرب " هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنه " إبليس "، لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ).
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله سبحانه وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم بلا فضلات تتعبه، ولا ينتفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة.. الخ ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات ؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإعداد.
إذن فالجنة التي وجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء ؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم كما علمنا مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمرا متمثلا في " فَكُلا "، ونهيا متمثلا في " لا تقربا "، لم يقل لهما : لا تأكلا، بل قال : " لا تقربا " لأن القربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين : الرمز الأول : ل " افعل "، والرمز الثاني : ل " لا تفعل "، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله ؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال :﴿ ولا تقربا ﴾ فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ ( من الآية ( ٣٠ ) سورة الحج ) : ولم يقل : " لا تعبدوا الأوثان "، بل قال :﴿ فَاجْتَنِبُوا ﴾، والشأن في " الخمر " أيضا جاء بالاجتناب. لكنّ بعضا من السطحيين يقولون : لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول له : الاجتناب أقوى من المنع والتحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. ﴿ .. ولا تقْربا هذِهِ الشّجرة فتكُونا مِن الظّالِمِين ( ١٩ )[ سورة الأعراف ] : والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه : أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، { فتكُونا مِن الظّالِمِين ﴾أي تدخلا في إطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحدا، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذابا أليما في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد أن تناول مسألة إبليس فيقول :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ : كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين : كيف يدخل إبليس جنة الخلود ؟. وكيف يخرج منها ؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها ؟. وهؤلاء العلماء الذين قالوا : إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة " جنة " ؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة " غلبة الاستعمال "، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفا، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة ؛ لأنها هي التي تعتبر جنة بحق، ولكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولا أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة ؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معان متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول : هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن " الحج " في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول : حججت إليه. فلما جاء الإسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة " الصلاة " إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ : أي أدع لهم، ولما جاء الإسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنى اصطلاحيا أن هذا يكون تركا لمعناه الأصلي ؟. لا ؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة " صلاة " أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة " الجنة " ساعة تطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول : المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإنسان وتجنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضا :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ ( من الآية ٢٦٦ سورة البقرة )، وكذلك يقول سبحانه :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( ٣٢ ) ﴾ ( سورة الكهف )، وقوله الحق :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) ﴾ ( سورة سبأ ).
وأقول : إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يعلمنا من لدنه ويوقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول : لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه : مادام قد جعله الله خليفة في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه ؟ !.
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في " افعل " و " لا تفعل " ؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحا ؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " لا يفسد به المجتمع. إذن ف " افعل " و " لا تفعل " هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله ؟. لا، فما دام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي ؛ فسيزين لك في " افعل " و " لا تفعل " ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال " افعل " إلى مجال " لا تفعل "، وكذلك يحاول أن يزين لك " أن تفعل " ما هو في جال " لا تفعل " فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجا يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداء يسعد الإنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة ؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج ؛ حتى لا يتلقي المنهج تلقيا نظريا، لذلك شاء سبحانه وتعالى ألا يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريبا على المهمة في " افعل " و " لا تفعل ". وحذره من العقبات التي تعترض " افعل " ؛ حتى لا تجيء في منطقة " لا تفعل "، وكذلك من العقبات في منطقة " لا تفعل " حتى لا تجيء في منطقة " افعل "، واختار له مكانا فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبدا في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره : كُلْ من كل شيء فيها، ولا لا تقرب هذه الشجرة.
" كل " هذا هو الأمر، و " لا تقرب " هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنه " إبليس "، لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ).
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله سبحانه وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم بلا فضلات تتعبه، ولا ينتفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة.. الخ ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات ؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإعداد.
إذن فالجنة التي وجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء ؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم كما علمنا مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمرا متمثلا في " فَكُلا "، ونهيا متمثلا في " لا تقربا "، لم يقل لهما : لا تأكلا، بل قال : " لا تقربا " لأن القربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين : الرمز الأول : ل " افعل "، والرمز الثاني : ل " لا تفعل "، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله ؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال :﴿ ولا تقربا ﴾ فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ ( من الآية ( ٣٠ ) سورة الحج ) : ولم يقل : " لا تعبدوا الأوثان "، بل قال :﴿ فَاجْتَنِبُوا ﴾، والشأن في " الخمر " أيضا جاء بالاجتناب. لكنّ بعضا من السطحيين يقولون : لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول له : الاجتناب أقوى من المنع والتحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. ﴿ .. ولا تقْربا هذِهِ الشّجرة فتكُونا مِن الظّالِمِين ( ١٩ )[ سورة الأعراف ] : والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه : أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، { فتكُونا مِن الظّالِمِين ﴾أي تدخلا في إطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحدا، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذابا أليما في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ٢٠ ) ﴾ :
كلمة " وسوس " تدل على الهمس والإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شر فيهمس خوفا من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همسا، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و " وسوس " مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغر ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
وقوله الحق :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ﴾ يعطينا حيثيات البراءة لحواء ؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معا. ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما وري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله ؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنها حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سوءاتهما، و " السوءة " هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإنسان المكتمل الإنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول :﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾.
والسوءات أربع : اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جدا. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت ولا أرى مني "، وفي هذا القول قمة الأدب لأنها لم تجئ حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )١، تعجبت السيدة عائشة فقال لها : " الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد ".
﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وبماذا وري ؟. لابد أن هناك لباسا كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل : إن أظافر الإنسان هي بقية اللباس الذي كان موجودا عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال : إن أي إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نفسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة. وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا عمل من عمل الإله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جدا حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها ؛ لأن أي أمر إذا زاد على حده انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت " سوءة " و " عورة "، لأنها تسوء، فلماذا تسوء ؟ ومال الفرق بين فتحتين : فتحة في الفم، وفتحة في العورة ؟
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا كما قلنا في حاجة إلى إخراج فضلات ؛ لأن إعداد الله يعطي كلا منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية ؟.
نعم ؛ لأن كل شيء يخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة :﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق : أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير ملكا، أو خالدا. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفا واهيا وغبيا ؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله ملكا أو خالدا ؟ وفي هذا درس يبين لنا أن من يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال :﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٤ ﴾ ( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : فلماذا لم ينقد نفسه بالكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة ؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذبا.
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ٢٠ ) ﴾ :
كلمة " وسوس " تدل على الهمس والإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شر فيهمس خوفا من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همسا، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و " وسوس " مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغر ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
وقوله الحق :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ﴾ يعطينا حيثيات البراءة لحواء ؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معا. ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما وري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله ؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنها حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سوءاتهما، و " السوءة " هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإنسان المكتمل الإنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول :﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾.
والسوءات أربع : اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جدا. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت ولا أرى مني "، وفي هذا القول قمة الأدب لأنها لم تجئ حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )١، تعجبت السيدة عائشة فقال لها : " الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد ".
﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وبماذا وري ؟. لابد أن هناك لباسا كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل : إن أظافر الإنسان هي بقية اللباس الذي كان موجودا عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال : إن أي إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نفسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة. وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا عمل من عمل الإله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جدا حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها ؛ لأن أي أمر إذا زاد على حده انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت " سوءة " و " عورة "، لأنها تسوء، فلماذا تسوء ؟ ومال الفرق بين فتحتين : فتحة في الفم، وفتحة في العورة ؟
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا كما قلنا في حاجة إلى إخراج فضلات ؛ لأن إعداد الله يعطي كلا منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية ؟.
نعم ؛ لأن كل شيء يخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة :﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق : أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير ملكا، أو خالدا. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفا واهيا وغبيا ؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله ملكا أو خالدا ؟ وفي هذا درس يبين لنا أن من يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال :﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٤ ﴾ ( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : فلماذا لم ينقد نفسه بالكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة ؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذبا.
١ رواه البخاري ومسلم..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) ﴾.
" قاسم " مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمرا، وهي تعني أيضا أن عمرا شارك زيدا، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلا ومفعولا، إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان ؟ ونقول : لا ؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ) : وواعدنا مثلها مثل فاعل، من الذي واعد ؟. إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن " قاسمهما " أي قبلا القسم ودخلا فيه.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : و " قاسم " أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه : أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم : يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقا من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأت على البال أن خلقا يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة رضي الله عنه يقول : " المؤمن بالله يُخدع "، والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حبّا، فقلن لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها !، قولي : " أعوذ بالله منك "، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له : " أعوذ بالله منك ". فقال لها : استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وهاهو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعا وحين عرف العبيد ذلك احترفوا لإقامة الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف خاشعا، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رضي الله عنه يعتقهم، وذهب له من يقول : إن العبيد يخدعونك، فيقول : من خدعنا بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا : إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه : لا تقربا. لكنه لم يفعل.
" قاسم " مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمرا، وهي تعني أيضا أن عمرا شارك زيدا، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلا ومفعولا، إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان ؟ ونقول : لا ؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ) : وواعدنا مثلها مثل فاعل، من الذي واعد ؟. إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن " قاسمهما " أي قبلا القسم ودخلا فيه.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : و " قاسم " أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه : أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم : يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقا من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأت على البال أن خلقا يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة رضي الله عنه يقول : " المؤمن بالله يُخدع "، والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حبّا، فقلن لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها !، قولي : " أعوذ بالله منك "، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له : " أعوذ بالله منك ". فقال لها : استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وهاهو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعا وحين عرف العبيد ذلك احترفوا لإقامة الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف خاشعا، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رضي الله عنه يعتقهم، وذهب له من يقول : إن العبيد يخدعونك، فيقول : من خدعنا بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا : إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه : لا تقربا. لكنه لم يفعل.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) ﴾.
﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما به وخدعهما من القسم و " دلاّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلّى حبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها : أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الصراع بين الحق والباطل في النفس، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ﴾ هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾[ من الآية ٢٢ سورة الأعراف ] : و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئا. وقديما حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء ؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق :﴿ وَطَفِقَا ﴾ يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق :﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيرا ؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتوها عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه )، ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما :﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾، وأوضح : أن هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرد الحق لهذا السبب. إذن إن آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب : نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه ؛ لأن الحكم قد يأتي بالإخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و " مبين " أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها ؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيّن العداوة وشديد الخصومة.
﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما به وخدعهما من القسم و " دلاّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلّى حبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها : أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الصراع بين الحق والباطل في النفس، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ﴾ هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾[ من الآية ٢٢ سورة الأعراف ] : و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئا. وقديما حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء ؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق :﴿ وَطَفِقَا ﴾ يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق :﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيرا ؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتوها عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه )، ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما :﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾، وأوضح : أن هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرد الحق لهذا السبب. إذن إن آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب : نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه ؛ لأن الحكم قد يأتي بالإخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و " مبين " أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها ؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيّن العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء :﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) ﴾.
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر :﴿ فتلقى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ إِنّهُ هُو التّوّابُ الرّحِيمُ ( ٣٧ ) ﴾ [ سورة البقرة ] : فكأن الحق سبحانه وتعالى قدّر غفلة خلقه عن المنهج ؛ فشرع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل : تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك. تشريع التوبة إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضا ؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولا يجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله.
﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب ؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، فماذا قال آدم وحواء ؟ ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. ( من الآية ٢٣ سورة الأعراف ).
ولذلك كان جزاء إبليس وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم : " هذه هي ظروفي "، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول : " ما أفعله حرام، لكن لا أقدر على نفسي " وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلا للمغفرة وأهلا للتوبة.
وهنا نسأل : ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم ؟. ونقول : إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ معا وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها ؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار. وهذا دليل على أنها ملقنة : ولهذا قال ربنا :﴿ فتلقّى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ ﴾. ( من الآية ٣٧ سورة البقرة )، وهما قد قالا :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا " نفسينا "، بل قالا " أنفسنا " أي أن قلبيهما أيضا قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر :﴿ فتلقى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ إِنّهُ هُو التّوّابُ الرّحِيمُ ( ٣٧ ) ﴾ [ سورة البقرة ] : فكأن الحق سبحانه وتعالى قدّر غفلة خلقه عن المنهج ؛ فشرع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل : تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك. تشريع التوبة إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضا ؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولا يجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله.
﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب ؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، فماذا قال آدم وحواء ؟ ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. ( من الآية ٢٣ سورة الأعراف ).
ولذلك كان جزاء إبليس وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم : " هذه هي ظروفي "، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول : " ما أفعله حرام، لكن لا أقدر على نفسي " وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلا للمغفرة وأهلا للتوبة.
وهنا نسأل : ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم ؟. ونقول : إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ معا وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها ؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار. وهذا دليل على أنها ملقنة : ولهذا قال ربنا :﴿ فتلقّى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ ﴾. ( من الآية ٣٧ سورة البقرة )، وهما قد قالا :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا " نفسينا "، بل قالا " أنفسنا " أي أن قلبيهما أيضا قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٢٤ ) ﴾.
ونلتفت لنجد أن هناك أمرا قد سبق لإبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبدا. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزودا بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. والأمر هنا للجماعة ؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال :﴿ قال اهبطا منها جميعا ﴾. ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله :﴿ اهبطوا ﴾ لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة ؛ آدم وحواء، وإبليس.. والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين : اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إن كل حرف عنده بميزان ؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة النساء ).
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكت ابحث في خلفيات النص ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل أنظر إلى ما وراء الألفاظ.
﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٢٤ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة " عدو " تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ : أي أن لكم استقرارا في الأرض ومتاعا إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيرا على الجهاد وهذا متاع.
ونلتفت لنجد أن هناك أمرا قد سبق لإبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبدا. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزودا بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. والأمر هنا للجماعة ؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال :﴿ قال اهبطا منها جميعا ﴾. ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله :﴿ اهبطوا ﴾ لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة ؛ آدم وحواء، وإبليس.. والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين : اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إن كل حرف عنده بميزان ؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة النساء ).
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكت ابحث في خلفيات النص ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل أنظر إلى ما وراء الألفاظ.
﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٢٤ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة " عدو " تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ : أي أن لكم استقرارا في الأرض ومتاعا إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيرا على الجهاد وهذا متاع.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( ٢٥ ) ﴾.
كأنه قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقاتنا بالأرض التي قال فيها :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : فقد ربطنا بالأرض. إيجادا من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكتفه وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإنسان في حالته الطبية، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أما أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديا لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أو ما يُنْسى هو اسمه ؛ فيقولون : " أين الجثة "، ولا يقولون : " أين فلان ". وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
كأنه قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقاتنا بالأرض التي قال فيها :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : فقد ربطنا بالأرض. إيجادا من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكتفه وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإنسان في حالته الطبية، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أما أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديا لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أو ما يُنْسى هو اسمه ؛ فيقولون : " أين الجثة "، ولا يقولون : " أين فلان ". وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) ﴾.
وكلمة ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ ﴾ لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم ؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج.. ٦ ﴾ [ سورة الزمر ]، نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضا لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضا :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. ٢٥ ﴾ [ سورة الجديد ] : نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضا ؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ.. ٢٦ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فإذا كنا قد أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضا أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سوءاتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند مواراة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضا.
لذلك قال الحق :﴿ .. قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والريش كساء الطير، وقديما كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا : فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضا، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.. ( ٨ ) ﴾ [ سورة النحل ] : والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمال. وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ).
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ وريشا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾( من الآية ٢٦ سورة الأعراف ) : نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله ؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب ؛ إنه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس لباس التقوى خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة ؛ فالإنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.
وكلمة ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ ﴾ لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم ؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج.. ٦ ﴾ [ سورة الزمر ]، نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضا لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضا :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. ٢٥ ﴾ [ سورة الجديد ] : نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضا ؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ.. ٢٦ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فإذا كنا قد أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضا أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سوءاتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند مواراة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضا.
لذلك قال الحق :﴿ .. قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والريش كساء الطير، وقديما كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا : فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضا، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.. ( ٨ ) ﴾ [ سورة النحل ] : والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمال. وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ).
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ وريشا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾( من الآية ٢٦ سورة الأعراف ) : نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله ؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب ؛ إنه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس لباس التقوى خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة ؛ فالإنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٧ ) ﴾.
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتطلق أحيانا على الأثر السيئ حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإنسان في كل فتنة ؟ لا ؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإنسان، وإما أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيرا وإن رسب تعطه شرا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة ؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض ؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداء ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة ؛ لينزل على الأرض مباشرا مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له : أن كُلْ من كُلّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و ﴿ كُلْ ﴾ أمْرٌ، و﴿ لا تقرب ﴾ نهي. وكل تكليف شرعي هو بين " لا تفعل " وبين " افعل ".
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء الشجرة وأكلا منها ؛ خالفا أمر الله في ﴿ ولا تقربا ﴾، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سوءاتهما، فلما بدت لهما سوءاتهما علم كل منهما أنم مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله : أن اهبط إلى الأرض مزودا بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله :﴿ ولا تقربا ﴾، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيا ؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه ) : إن هذه طبيعة البشر أن يعصى ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضا إلى قوله الحق :﴿ ثم اجتباه ربه ﴾، إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية ؛ لأن عصيانه كان أمرا طبيعيا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيا ورسولا، ومادام قد صار نبيا ورسولا فالعصمة تأتي له :﴿ ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى١٢٢ ﴾ ( سورة طه ).
إذن لا يصح لنا أن نقول : كيف يعصي آدم وهو نبي ؟ ! نقول : تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب ؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين : بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون : إن آدم كان مخلوقا للجنة، نقول لهم : لا. افهموا عن الله، لأنه يقول :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريبا على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، وإلا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد تقبل منه توبته، ومادام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وان نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وهذا نهي لبني آدم وليس نهياللشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهي الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان ؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتنكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض، لماذا لم يقل الله : لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال :﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ ؟. ونقول : هذا هو السمو والافتتان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من الجنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز ؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله. فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب.
﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والفتنة كما علمنا هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهن فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خاصا نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به، كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختبارا للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا جاء ليفتنك فإياك أن تفتن ؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن ألحقت الضرر بأبيك وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله منى الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه :﴿ وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك.. ١١ ﴾ [ سورة الجن ].
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحدا، واقرأ قول الحق سبحانه :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ سورة الكهف ]. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " قبيله " هو جنده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قسَمَه :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيا لأمر الله معصية أدّته وأوصلته إلى الكفر ؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. ( من الآية ٢٧ سورة الأعراف ) : وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإنس معهم لما قال :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ ( من الآية ١١٢سورة الأنعام ) : وكلمة " زخرف القول " تعني الاستمالة التي تجعل الإنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركا هبة إيمان في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإسلام. ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ﴾.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاث من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون على أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم ؛ فقال قوم :﴿ لأنهم جنوده وذريته ﴾ ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق :﴿ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ فلابد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية ؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه ؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقين من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئي وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " ١، وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّتة، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال : " لأن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذَعَتّه فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون " ٢، وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشا يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتطلق أحيانا على الأثر السيئ حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإنسان في كل فتنة ؟ لا ؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإنسان، وإما أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيرا وإن رسب تعطه شرا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة ؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض ؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداء ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة ؛ لينزل على الأرض مباشرا مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له : أن كُلْ من كُلّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و ﴿ كُلْ ﴾ أمْرٌ، و﴿ لا تقرب ﴾ نهي. وكل تكليف شرعي هو بين " لا تفعل " وبين " افعل ".
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء الشجرة وأكلا منها ؛ خالفا أمر الله في ﴿ ولا تقربا ﴾، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سوءاتهما، فلما بدت لهما سوءاتهما علم كل منهما أنم مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله : أن اهبط إلى الأرض مزودا بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله :﴿ ولا تقربا ﴾، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيا ؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه ) : إن هذه طبيعة البشر أن يعصى ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضا إلى قوله الحق :﴿ ثم اجتباه ربه ﴾، إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية ؛ لأن عصيانه كان أمرا طبيعيا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيا ورسولا، ومادام قد صار نبيا ورسولا فالعصمة تأتي له :﴿ ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى١٢٢ ﴾ ( سورة طه ).
إذن لا يصح لنا أن نقول : كيف يعصي آدم وهو نبي ؟ ! نقول : تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب ؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين : بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون : إن آدم كان مخلوقا للجنة، نقول لهم : لا. افهموا عن الله، لأنه يقول :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريبا على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، وإلا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد تقبل منه توبته، ومادام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وان نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وهذا نهي لبني آدم وليس نهياللشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهي الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان ؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتنكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض، لماذا لم يقل الله : لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال :﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ ؟. ونقول : هذا هو السمو والافتتان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من الجنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز ؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله. فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب.
﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والفتنة كما علمنا هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهن فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خاصا نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به، كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختبارا للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا جاء ليفتنك فإياك أن تفتن ؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن ألحقت الضرر بأبيك وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله منى الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه :﴿ وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك.. ١١ ﴾ [ سورة الجن ].
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحدا، واقرأ قول الحق سبحانه :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ سورة الكهف ]. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " قبيله " هو جنده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قسَمَه :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيا لأمر الله معصية أدّته وأوصلته إلى الكفر ؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. ( من الآية ٢٧ سورة الأعراف ) : وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإنس معهم لما قال :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ ( من الآية ١١٢سورة الأنعام ) : وكلمة " زخرف القول " تعني الاستمالة التي تجعل الإنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركا هبة إيمان في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإسلام. ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ﴾.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاث من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون على أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم ؛ فقال قوم :﴿ لأنهم جنوده وذريته ﴾ ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق :﴿ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ فلابد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية ؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه ؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقين من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئي وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " ١، وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّتة، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال : " لأن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذَعَتّه فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون " ٢، وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشا يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته
١ رواه مسلم في الإيمان.
٢ رواه مسلم في المساجد، والبخاري في الصلاة، وأحمد، ومعنى: "فذعتّه": أي خنقته..
٢ رواه مسلم في المساجد، والبخاري في الصلاة، وأحمد، ومعنى: "فذعتّه": أي خنقته..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٨ ) ﴾.
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزيد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثارا.. فإما أن يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيدا، ويعيش طريدا في المجتمع لا يجد مسؤولا عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتدادا أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور أن إنسانا يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى كبيرة للغاية. والذين قالوا : إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) ﴾ [ سورة الإسراء ] :
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان.
فما هي الفاحشة المقصودة هنا ؟. إنها الفواحش التي تقدمت في قوله :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة المائدة ]، وكذلك ما جاء في قوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ.. ( ١٣٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، وكذلك في قوله الحق سبحانه :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.. ( ١٣٦ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهارا، والنساء يطفن ليلا، لماذا ؟ لأنهم ادّعَوا الورع. وقالوا : نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها.
وقولهم : " وجدنا عليها آباءنا " تقليد، والتقليد لا يعطي حكما تكليفيا، وإن أعطى علما تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين الشيوعية والرأسمالية مثلا مقلدين ؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة ؛ لأنهم كما يقولون الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جدا ؛ فالذي يتكلم إله.
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال :﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : وهذا رد على قولهم : والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم :﴿ وجدنا عليها آباءنا ﴾ ؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد ؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه ؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم ؟. أهو أمر مباشر.. بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة ؟ ألم تنتهوا إلى قول الحق سبحانه :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ﴾( من الآية ٥١ سورة الشورى ).
أم يبلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول ؟. وهكذا يكون قولكم مردودا من جهتين : الجهة الأولى : إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل ؛ لأنكم لستم أهلا للخطاب المباشر، والجهة الثانية : أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾( من الآية ٢٨ سورة الأعراف )، ولا جواب على السؤال إلا بأمرين : إما أن يقولوا : " لا " فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا : " نعم " ؛ فإذا قالوا : نعم نقول على الله ما لا نعلم ؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط، لذلك يقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزيد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثارا.. فإما أن يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيدا، ويعيش طريدا في المجتمع لا يجد مسؤولا عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتدادا أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور أن إنسانا يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى كبيرة للغاية. والذين قالوا : إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) ﴾ [ سورة الإسراء ] :
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان.
فما هي الفاحشة المقصودة هنا ؟. إنها الفواحش التي تقدمت في قوله :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة المائدة ]، وكذلك ما جاء في قوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ.. ( ١٣٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، وكذلك في قوله الحق سبحانه :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.. ( ١٣٦ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهارا، والنساء يطفن ليلا، لماذا ؟ لأنهم ادّعَوا الورع. وقالوا : نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها.
وقولهم : " وجدنا عليها آباءنا " تقليد، والتقليد لا يعطي حكما تكليفيا، وإن أعطى علما تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين الشيوعية والرأسمالية مثلا مقلدين ؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة ؛ لأنهم كما يقولون الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جدا ؛ فالذي يتكلم إله.
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال :﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : وهذا رد على قولهم : والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم :﴿ وجدنا عليها آباءنا ﴾ ؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد ؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه ؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم ؟. أهو أمر مباشر.. بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة ؟ ألم تنتهوا إلى قول الحق سبحانه :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ﴾( من الآية ٥١ سورة الشورى ).
أم يبلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول ؟. وهكذا يكون قولكم مردودا من جهتين : الجهة الأولى : إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل ؛ لأنكم لستم أهلا للخطاب المباشر، والجهة الثانية : أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾( من الآية ٢٨ سورة الأعراف )، ولا جواب على السؤال إلا بأمرين : إما أن يقولوا : " لا " فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا : " نعم " ؛ فإذا قالوا : نعم نقول على الله ما لا نعلم ؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط، لذلك يقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
والقسط هو العدل من قسط قِسطا، وأما قاسط فهي اسم فاعل من قسط قسْطا وقَسُوطا أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون، وكلمة العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل، فذلك أمر مكروه ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾. وهذه جملة خبرية.
﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على " قل "، فكأن المقصود هو أن يقول : " قل أمر ربّي بالقسط، وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد "، والوجه هو السمة المعينة للشخص ؛ لأن الإنسان إن أخفي وجهه لمن تعرفه إلا إن كان له لباس مميز لا يرتديه إلا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود ؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه : إنه ساجد :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، ولكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال :﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف انه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيوانا، ونباتا، وجمادا قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه أنه ساجد.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإقامة أن تضع الشيء فيما هيئ له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعوجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود ؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل ذلك فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضا. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم أو تقوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعا لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والمسجد مكان السجود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون }١.
إذن فكل موضع في الأرض مسجد ؛ فإن دخلت معبدا لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن ﴿ أقيموا وجوهكم ﴾ في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجدا هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجها لجميع بيوت الله.
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد. أو ﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندبا أو حتما ؟. والأكثرية منهم قالوا ندبا، والأقلية قالوا حتما. ونقول : الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم٢.
ونقول : هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل ؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وادعوه مخلصين له الدين ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والدعاء : طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصا له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب ؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإتقان والإخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحدا لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إني ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " ٣،
إذن فالإخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائما عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، ومادمت مضطرا سيجيب ربنا دعوتك ؛ لأنك استنفذت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإنسان قد يملك طعام يومه ويقول : ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول : أريد بيتا أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير إصرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والله سبحانه يخاطب الإنسان، ويحننه، مذكرا إياه ب " افعل كذا "
و " افعل كذا " و " افعل كذا ". وسبحانه قادر على أن يخلقه مرغما على أن يفعل، لكنه جل وعلا شاء أن يجعل الإنسان سيدا وجعله مختارا، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه سبحانه صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته، فأنت أيها العبد تكون قادرا على أن تعصى الله ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله، فإذا غُر الإنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته : لاحظ أنك لن تنفلت مني : أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب، ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ) : كأن المُلك قبل ذلك أي في الدنيا كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكم في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها ؛ لأن مرجعكم إلى الله.
﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على " قل "، فكأن المقصود هو أن يقول : " قل أمر ربّي بالقسط، وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد "، والوجه هو السمة المعينة للشخص ؛ لأن الإنسان إن أخفي وجهه لمن تعرفه إلا إن كان له لباس مميز لا يرتديه إلا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود ؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه : إنه ساجد :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، ولكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال :﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف انه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيوانا، ونباتا، وجمادا قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه أنه ساجد.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإقامة أن تضع الشيء فيما هيئ له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعوجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود ؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل ذلك فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضا. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم أو تقوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعا لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والمسجد مكان السجود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون }١.
إذن فكل موضع في الأرض مسجد ؛ فإن دخلت معبدا لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن ﴿ أقيموا وجوهكم ﴾ في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجدا هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجها لجميع بيوت الله.
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد. أو ﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندبا أو حتما ؟. والأكثرية منهم قالوا ندبا، والأقلية قالوا حتما. ونقول : الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم٢.
ونقول : هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل ؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وادعوه مخلصين له الدين ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والدعاء : طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصا له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب ؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإتقان والإخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحدا لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إني ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " ٣،
إذن فالإخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائما عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، ومادمت مضطرا سيجيب ربنا دعوتك ؛ لأنك استنفذت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإنسان قد يملك طعام يومه ويقول : ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول : أريد بيتا أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير إصرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والله سبحانه يخاطب الإنسان، ويحننه، مذكرا إياه ب " افعل كذا "
و " افعل كذا " و " افعل كذا ". وسبحانه قادر على أن يخلقه مرغما على أن يفعل، لكنه جل وعلا شاء أن يجعل الإنسان سيدا وجعله مختارا، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه سبحانه صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته، فأنت أيها العبد تكون قادرا على أن تعصى الله ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله، فإذا غُر الإنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته : لاحظ أنك لن تنفلت مني : أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب، ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ) : كأن المُلك قبل ذلك أي في الدنيا كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكم في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها ؛ لأن مرجعكم إلى الله.
١ رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة..
٢ متفق عليه.
٣ رواه مسلم في الذكر والدعاء باب استحباب الاستغفار، وأبو داود في الصلاة، والنسائي في عمل اليوم، والإمام أحمد ٤/٢١١. ومعنى (لََيُغان): ما يتغشى القلب، وقيل الفترات والغفلات عن الذكر، أو همه بسبب أمته فيستغفر لها، وقال المناوي: هو غين أنوار لاغين أغيار ولا حجاب و لا غفلة.
............................................................................
راجع أصله وخرج أحاديث الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..
٢ متفق عليه.
٣ رواه مسلم في الذكر والدعاء باب استحباب الاستغفار، وأبو داود في الصلاة، والنسائي في عمل اليوم، والإمام أحمد ٤/٢١١. ومعنى (لََيُغان): ما يتغشى القلب، وقيل الفترات والغفلات عن الذكر، أو همه بسبب أمته فيستغفر لها، وقال المناوي: هو غين أنوار لاغين أغيار ولا حجاب و لا غفلة.
............................................................................
راجع أصله وخرج أحاديث الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٣٠ ) ﴾.
اذكروا أننا قلنا من قبل : إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ : فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكنت دلالة المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق ﴿ فريقا هدى ﴾ أي هداية المعونة ؛ لأن الفريق أقبل على الله بإيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله ؟ لا. إنه يتركه في غيّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا.
﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٣٠ ) ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أما من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر ؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا : حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول : إنه الهداية، فهذا أمره عسير ؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاص إلى مرتبة كافر والعياذ بالله.
﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاص كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول : إنه حلال، ونقول : قل هو حرام ولك لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال ! ! فهذا هو الخطر ؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدّر أن عبيده يخطؤون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه ؟.
اذكروا أننا قلنا من قبل : إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ : فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكنت دلالة المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق ﴿ فريقا هدى ﴾ أي هداية المعونة ؛ لأن الفريق أقبل على الله بإيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله ؟ لا. إنه يتركه في غيّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا.
﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٣٠ ) ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أما من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر ؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا : حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول : إنه الهداية، فهذا أمره عسير ؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاص إلى مرتبة كافر والعياذ بالله.
﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاص كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول : إنه حلال، ونقول : قل هو حرام ولك لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال ! ! فهذا هو الخطر ؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدّر أن عبيده يخطؤون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه ؟.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ٣١ ) ﴾.
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ ( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها ؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في " الحدادة " له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعا في لقاء الله، أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد ؟ لا، فليجعل للمسجد لباسا لا يضايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذى أحد بالوجود بجانبك ؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء.
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أحل لك إلى ما حرم الله ؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم ؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لو يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هو المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر :" لو أنفقت مثل أحد ذهبا في حِلٍّ ما اعتبرت مسرفا، ولو أنفقت درهما واحدا في محرم لاعتبرت مسرفا "، ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول الله : يا رسول الله، إنني أردت أن أختصي ؛ أي يقطع خصيتيه ؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية، فقال صلى الله عليه وسلم : يا عثمان خصاء أمتي الصوم. لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لن يستطع الزواج :( يا معشر الشباب من استطاعة منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء وجبّوا مذاكيرهم )٢. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى الله عليه وسلم لربه وأثنى عليه وقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )٣.
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ ( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها ؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في " الحدادة " له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعا في لقاء الله، أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد ؟ لا، فليجعل للمسجد لباسا لا يضايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذى أحد بالوجود بجانبك ؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء.
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أحل لك إلى ما حرم الله ؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم ؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لو يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هو المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر :" لو أنفقت مثل أحد ذهبا في حِلٍّ ما اعتبرت مسرفا، ولو أنفقت درهما واحدا في محرم لاعتبرت مسرفا "، ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول الله : يا رسول الله، إنني أردت أن أختصي ؛ أي يقطع خصيتيه ؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية، فقال صلى الله عليه وسلم : يا عثمان خصاء أمتي الصوم. لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لن يستطع الزواج :( يا معشر الشباب من استطاعة منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء وجبّوا مذاكيرهم )٢. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى الله عليه وسلم لربه وأثنى عليه وقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )٣.
١ رواه البخاري ومسلم.
٢ تح الباري..
٣ واه مسلم.
٢ تح الباري..
٣ واه مسلم.
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٣٢ ) ﴾.
ومادام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة للإناث، وما يصلح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف )، ثم يتابع سبحانه :
﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : فكأننا أمام حالتين اثنتين : حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة ؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خاصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإنسان في الدنيا ؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإنسان فيها أشياء قد يكرهها ؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإيمان منك ؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته.
﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى : أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضا من شوائب الأغيار ولكنها في الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : معنى ﴿ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ ﴾ أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللا، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهما لا لبس فيه.
ومادام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة للإناث، وما يصلح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف )، ثم يتابع سبحانه :
﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : فكأننا أمام حالتين اثنتين : حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة ؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خاصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإنسان في الدنيا ؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإنسان فيها أشياء قد يكرهها ؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإيمان منك ؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته.
﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى : أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضا من شوائب الأغيار ولكنها في الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : معنى ﴿ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ ﴾ أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللا، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهما لا لبس فيه.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾.
والحق سبحانه قد بدأ الآية ب " إنما " التي هي للحصر : أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراما، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة :﴿ قل من حرم زينة الله ﴾ هو على صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سببا لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبين ما حرم فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية ؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة طهر الأنساب أي الإنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع ؛ لأن الإنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعني به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعا سليما، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكًا طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو بالبيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا.
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع ؛ لأن المجتمع سيكون بين مربّ يقوم على شأن صغير مربَّى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش والفحش كما قلنا ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا ؛ لأن أثره لا يتوقف عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما يتعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعا مهملا لا راعي له.
والإثم : أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد ؟ لقد انتهى العلماء على أن الإثم هو الخمر والميسر ؛ لأن الله قال بالنص :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإنسان وهو العقل وأن الخمر تغييب العقل، والإنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحا ولا تتعدى على الإنسان. فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة. والذين يأتون ويشربون ويقولون : نريد أن ننسى همومنا نقول لهم : ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه ؛ لأنه إن نسى كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدرا ؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحميك الله من عيون الناس فيحسدونك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك ؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملاقاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر ؛ لأن العقل يدير حركة الحياة.
البغي نعرف أنه مجاوزة الحد ظلما أو أكبر، أو بخلا. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل ؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش ؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغي أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدوانا وظلما، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسرا بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسرا وقهرا بحق، فإن كنت على سبيل المثال تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرقت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقدها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفينة منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغى بحق أو أنه سمي بغيا ؛ لأنه جاء على صورة استلاب الحق من صاحبه ظلما، ويسمى هذا في علم البلاغة مشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضا قول الله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ٤٠ ﴾ [ سورة الشورى ] : فهل جزاء السيئة يكون سيئة ؟ لا، وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه ؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا مثلا وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ( ١٢٦ ) ﴾[ سورة النحل ].
ومن بغي بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه.
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له :﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾. ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكا له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه شريك له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ؛ لأن من خصائص الإيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ).
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضا، يقول الحق :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾( من الآية ٩٠ سورة النحل ) : لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضا بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في " المنكر "، والمنكر ليس محرما بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم ؛ وأيضا فصاحب الطبع غير السليم يحكي أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا يقول : أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر، وعلى سبيل المثال نجد رجلا يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنسانا آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنه يرى في ذلك أبشع المنكرات ؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون.. وإياك أن تقول : إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه سبحانه كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعا أن ينظروا إلى محارمك ؛ وفي هذا صيانة لك.
والحق سبحانه قد بدأ الآية ب " إنما " التي هي للحصر : أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراما، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة :﴿ قل من حرم زينة الله ﴾ هو على صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سببا لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبين ما حرم فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية ؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة طهر الأنساب أي الإنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع ؛ لأن الإنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعني به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعا سليما، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكًا طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو بالبيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا.
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع ؛ لأن المجتمع سيكون بين مربّ يقوم على شأن صغير مربَّى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش والفحش كما قلنا ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا ؛ لأن أثره لا يتوقف عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما يتعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعا مهملا لا راعي له.
والإثم : أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد ؟ لقد انتهى العلماء على أن الإثم هو الخمر والميسر ؛ لأن الله قال بالنص :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإنسان وهو العقل وأن الخمر تغييب العقل، والإنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحا ولا تتعدى على الإنسان. فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة. والذين يأتون ويشربون ويقولون : نريد أن ننسى همومنا نقول لهم : ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه ؛ لأنه إن نسى كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدرا ؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحميك الله من عيون الناس فيحسدونك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك ؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملاقاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر ؛ لأن العقل يدير حركة الحياة.
البغي نعرف أنه مجاوزة الحد ظلما أو أكبر، أو بخلا. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل ؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش ؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغي أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدوانا وظلما، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسرا بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسرا وقهرا بحق، فإن كنت على سبيل المثال تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرقت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقدها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفينة منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغى بحق أو أنه سمي بغيا ؛ لأنه جاء على صورة استلاب الحق من صاحبه ظلما، ويسمى هذا في علم البلاغة مشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضا قول الله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ٤٠ ﴾ [ سورة الشورى ] : فهل جزاء السيئة يكون سيئة ؟ لا، وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه ؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا مثلا وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ( ١٢٦ ) ﴾[ سورة النحل ].
ومن بغي بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه.
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له :﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾. ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكا له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه شريك له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ؛ لأن من خصائص الإيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ).
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضا، يقول الحق :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾( من الآية ٩٠ سورة النحل ) : لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضا بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في " المنكر "، والمنكر ليس محرما بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم ؛ وأيضا فصاحب الطبع غير السليم يحكي أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا يقول : أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر، وعلى سبيل المثال نجد رجلا يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنسانا آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنه يرى في ذلك أبشع المنكرات ؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون.. وإياك أن تقول : إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه سبحانه كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعا أن ينظروا إلى محارمك ؛ وفي هذا صيانة لك.
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة، وحرم الفواحش والمنكر والبغي والإثم يقول سبحانه :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) ﴾.
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي ؛ فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فسادا أو طغيانا إياك أن تيأس ؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلا، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : والأجل لكل أمة معروف عند الله ؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإيمان بالله ؛ ففروا إلى بيته حجاجا وإلى مساجده عمّارا وإلى قراءة قرآنه ذكرا. وننظر إلى هذه الأمور ونقول : إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالما لما فروا إلى الله بحثا عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناسا، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإنسان المعضوض إلى الله عائذا به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم : والله لو عرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثوابا لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلا، فإن كنت ظالما وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف ؛ لأن هذا هو الأجل. الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره ؛ لأن التوقيت في يد الكون، وهم أيضا لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة " ساعة "، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من ساعة الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلات لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي ؛ فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فسادا أو طغيانا إياك أن تيأس ؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلا، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : والأجل لكل أمة معروف عند الله ؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإيمان بالله ؛ ففروا إلى بيته حجاجا وإلى مساجده عمّارا وإلى قراءة قرآنه ذكرا. وننظر إلى هذه الأمور ونقول : إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالما لما فروا إلى الله بحثا عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناسا، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإنسان المعضوض إلى الله عائذا به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم : والله لو عرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثوابا لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلا، فإن كنت ظالما وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف ؛ لأن هذا هو الأجل. الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره ؛ لأن التوقيت في يد الكون، وهم أيضا لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة " ساعة "، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من ساعة الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلات لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٣٥ ) ﴾.
هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإثم والشرك، ووضع لهم نظاما يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلا. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ٣٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرف المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه ؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليما.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرض على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكم من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبينا آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول : أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم، وهذه فائدة قوله الحق :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ [ سورة التوبة ] : فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له ؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك : عندما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة رضوان الله عليها بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل ؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم ". وكل هذه المقدمات تدل على أنك يا رسول الله في حفظ الله ورعايته ؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تنبّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن من يترك الكذب على الناس يكذب على الله ؟ ! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله : أنا رسول، قال له : صدقت. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة ﴿ رسول من أنفسكم ﴾ أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا : هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير : وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَك مفطور على الخير ؟.
لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ( ٩٤ ) ﴾ ( سورة الإسراء ) : إنه الغباء وقصر النظر والغضب ؛ لأن الله بعث محمدا وهو من البشر، فهل كانوا يريدون ملَكَا ؟ ولو كان ملكا فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر ؟. ولذلك يرد الحق الرد المنطقي :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ( ٩٥ ) ﴾ : وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه ؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكلفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ]. وانظر قوله :﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، لقد جاء بكلمة " يقصّون " لأن القصص مأخوذة من مادة " القاف " و " الصاد المضعّفة " ؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الأثر "، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثّر في الأثر.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ] : و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق، ﴿ اتقوا النار ﴾، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل :﴿ اتقوا الله ﴾ أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله ؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضا بترك النواهي. والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل ؛ لأنهم إنما جاءوا لإنقاذ البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه، وهو الرسول ؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : و " أصلح " تدل على أن هناك شيئا غير صالح فجعله صالحا، أو حافظ على صلاح الصالح ورقّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك يبقى الصالح على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سورا، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت. وبذلك نزيد الصالح صلاحا، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإصلاح بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحا، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق :﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الحديد ) : وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ أي هؤلاء اللذين أصلحوا واتقوا ؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٦ ) ﴾.
هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإثم والشرك، ووضع لهم نظاما يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلا. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ٣٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرف المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه ؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليما.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرض على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكم من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبينا آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول : أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم، وهذه فائدة قوله الحق :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ [ سورة التوبة ] : فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له ؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك : عندما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة رضوان الله عليها بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل ؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم ". وكل هذه المقدمات تدل على أنك يا رسول الله في حفظ الله ورعايته ؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تنبّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن من يترك الكذب على الناس يكذب على الله ؟ ! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله : أنا رسول، قال له : صدقت. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة ﴿ رسول من أنفسكم ﴾ أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا : هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير : وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَك مفطور على الخير ؟.
لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ( ٩٤ ) ﴾ ( سورة الإسراء ) : إنه الغباء وقصر النظر والغضب ؛ لأن الله بعث محمدا وهو من البشر، فهل كانوا يريدون ملَكَا ؟ ولو كان ملكا فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر ؟. ولذلك يرد الحق الرد المنطقي :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ( ٩٥ ) ﴾ : وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه ؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكلفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ]. وانظر قوله :﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، لقد جاء بكلمة " يقصّون " لأن القصص مأخوذة من مادة " القاف " و " الصاد المضعّفة " ؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الأثر "، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثّر في الأثر.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ] : و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق، ﴿ اتقوا النار ﴾، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل :﴿ اتقوا الله ﴾ أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله ؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضا بترك النواهي. والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل ؛ لأنهم إنما جاءوا لإنقاذ البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه، وهو الرسول ؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : و " أصلح " تدل على أن هناك شيئا غير صالح فجعله صالحا، أو حافظ على صلاح الصالح ورقّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك يبقى الصالح على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سورا، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت. وبذلك نزيد الصالح صلاحا، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإصلاح بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحا، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق :﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الحديد ) : وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ أي هؤلاء اللذين أصلحوا واتقوا ؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٦ ) ﴾.
ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين ؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم الإيمان بقول الحق :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( ٢٠ ) ﴾( سورة الشورى ) : وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر ؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة ؟. عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا، خليفة في الأرض، ومادمنا جميعا أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة ؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله ؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة ؛ لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإنسان في الدنيا قليل، وزمن الآخرة لا نهاية له. وعمر الإنسان في الدنيا مظنون غير متقين، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله.
﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة الأعراف ) : وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإنسان منا صاحبه ؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل :﴿ هل من مزيد ﴾ ؟.
﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة الأعراف ) : وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإنسان منا صاحبه ؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل :﴿ هل من مزيد ﴾ ؟.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾.
و ﴿ فمن أظلم ﴾ تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ؛ لأنه أولا ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون ؛ لأنه قد افترى على الله كذبا ﴿ أو كذب بآياته ﴾. أي قوّل الله ما لم يقله، أو كذّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساو للآخر. والآية كما نعلم هي الأمر العجيب، والآيات أطلقت في القرآن على معان متعددة ؛ فالحق يقول :﴿ كتاب فصلت آياته ﴾( من الآية ٣ سورة فصلت ).
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييدا لرسله. ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء ) : فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧ سورة فصلت ) : فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل القرآن ؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك : هذا شيء عجيب ؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلما، وما جربوا عليه أنه قال شعرا، أو نثرا أوله رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلخص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في إدارة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة ؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات ؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه ؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق ؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون : إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات القرآن يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل : كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت ؟ وحينما قالوا :﴿ إنما يعلمه بشر.. ١٠٣ ﴾ [ سورة النحل ].
قال الحق :﴿ .. لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة النحل ].
وقالوا :﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) ﴾ [ سورة الفرقان ].
فيعلم الحق رسله أن يقول :﴿ .. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ [ سورة يونس ] : وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاما فهل عرف عنه أن يقول أو يتكلم بشيء من هذا ؟.
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات ؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما هي في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي ؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قدّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم ؛ لذلك يقول الحق :﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.. ٣٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : وساعة تسمع ﴿ يتوفونهم ﴾ تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو " التوفي "، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول سبحانه :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾، والأساليب الثلاثة ملتقية ؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و " التوفي " على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو توفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفى أجلهم الثاني ؛ لأن كل إنسان له أجلان : أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب.
وهذا لا يمنع أن يقال : إن قيامة كل إنسان تأتي بموته ؛ لأن القيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار. وحين تسألهم الملائكة :﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾( من الآية ١٠ سورة السجدة ) : وهم إذن يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله ؛ ففي دار التكليف كان الإنسان حرا أن يفعل أو لا يفعل، لكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء ؛ لذلك يقول الحق :﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) ﴾.
و ﴿ فمن أظلم ﴾ تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ؛ لأنه أولا ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون ؛ لأنه قد افترى على الله كذبا ﴿ أو كذب بآياته ﴾. أي قوّل الله ما لم يقله، أو كذّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساو للآخر. والآية كما نعلم هي الأمر العجيب، والآيات أطلقت في القرآن على معان متعددة ؛ فالحق يقول :﴿ كتاب فصلت آياته ﴾( من الآية ٣ سورة فصلت ).
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييدا لرسله. ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء ) : فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧ سورة فصلت ) : فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل القرآن ؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك : هذا شيء عجيب ؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلما، وما جربوا عليه أنه قال شعرا، أو نثرا أوله رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلخص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في إدارة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة ؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات ؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه ؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق ؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون : إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات القرآن يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل : كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت ؟ وحينما قالوا :﴿ إنما يعلمه بشر.. ١٠٣ ﴾ [ سورة النحل ].
قال الحق :﴿ .. لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة النحل ].
وقالوا :﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) ﴾ [ سورة الفرقان ].
فيعلم الحق رسله أن يقول :﴿ .. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ [ سورة يونس ] : وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاما فهل عرف عنه أن يقول أو يتكلم بشيء من هذا ؟.
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات ؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما هي في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي ؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قدّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم ؛ لذلك يقول الحق :﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.. ٣٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : وساعة تسمع ﴿ يتوفونهم ﴾ تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو " التوفي "، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول سبحانه :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾، والأساليب الثلاثة ملتقية ؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و " التوفي " على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو توفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفى أجلهم الثاني ؛ لأن كل إنسان له أجلان : أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب.
وهذا لا يمنع أن يقال : إن قيامة كل إنسان تأتي بموته ؛ لأن القيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار. وحين تسألهم الملائكة :﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾( من الآية ١٠ سورة السجدة ) : وهم إذن يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله ؛ ففي دار التكليف كان الإنسان حرا أن يفعل أو لا يفعل، لكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء ؛ لذلك يقول الحق :﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) ﴾.