ﰡ
واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ ﴾[الأنعام: ١٦٥] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما به تكون التكاليف وهو الكتاب الإِلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٥].
وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة أوائل السور في أول البقرة وذكر ما حَدَسه الناس فيها، ولم يقم دليل واضح على شىء من تفسيرهم يتعيّن به ما قالوا. وزادوا هنا لأجل الصاد أقوالاً لا يقوم الدليل على صحة شىء منها ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه، أي من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا أعتقد صحة رسالة، وتكليف الناس أحكامها، وهذه أمور صعبة ومعانيها تشق عليه. وأسند النهي إلى الحرج، ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أن الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك، فانته أنت عنه بعدم التعرض له ولأن فيه تنزيهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينهاه، فيأتي التركيب فلا تحرج منه لأن ما أنزله تعالى إليه يناسبان يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإِنزاله عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه. فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهى الحرج. كتاب: خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الكتاب، وأنزل جملة في موضع الصفة للكتاب. والظاهر أن الضمير في منه عائد على الكتاب وذهب الفراء وتبعه الحوفي والزمخشري وابن عطية أنّ تنزل ومتعلق بقوله: انزل إليك. وقوله: أنزل ماضي الزمان. ولتنذر مستقبل الزمان فلذلك احتيج في جعله مفعولاً من أجله للام الجر لمّا اختلف زمانهما. والجملة من قوله: فلا يكن اعتراض بين أنزل وبين لتنذر.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ مصدر وهو مجرور عطفاً على المصدر المنسبك من أنْ. والفعل المنصوب بإِضمارها أي انْ في قوله: لتنذر، أي لإِنذارك ولذكرى ومعنى ذكرى هنا المراد به ولتذكير المؤمنين كقوله تعالى:﴿ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾[المدثر: ٣١]، وحذف مفعول تنذر أي لتنذر الكافرين ويدل على حذفه نظيره في قوله: وذكرى للمؤمنين.﴿ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى:﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾[النجم: ٣-٤].
والضمير في ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ عائد على ربكم.﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ من دون الله كالأصنام والرهبان والكهان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك. وانتصب: ﴿ قَلِيلاً ﴾ على أنه نعت لمصدر محذوف. وما: زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً.﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ كم هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم، وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر. وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإِضمار فعل يفسره أهلنكاها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله: أو هم قائلون فمنهم من قدره وكم من أهل قرية، ومنهم من قدره أهلكنا أهلها. وينبغي أن يقدر عند قوله: فجاءها بأسنا أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بقوله: بياتاً، بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك، فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله: فجاءها، والضمير في أهلكناها المرفوع ضمير المتكلم المعظم وفيه التفات إذ فيه خروج من ضمير الغائب المفرد إلى ضمير المتكلم.﴿ قَآئِلُونَ ﴾ يعني من نوع القيلولة نوَّع مجيء البأس إلى نوعين الاستراحة وهو بياتاً أي ليلاً إذ هو وقت سكون وراحة، وإلى زمان القيلوة وهو وقت الراحة أيضاً وأوَّ هنا للتفصيل. قال الزمخشري: فإن قلت: لا يقال: جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: ﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ قلت: قدر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزجاج. وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حَرْفَيْ عطف لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل. فقولك: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدة. وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث. " انتهى ". فأما بعض النحويين الذي أبهمه الزمخشري فهو الفراء. وأما قول الزجاج في التمثيلين لم يحتج فيهما إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز دخولها في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حد سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول لا لإقناعه. وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حَرْفَيْ عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لَحُظ فيها معْنى واو العطف، تقول: جاءني زيد والشمس طالعة. فجاء زيد ليس بحال فتعطف عليه جملة حال وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجن. وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناة على أن الجملة الاسمية إذ كان فيها ضمير ذي الحال فإِن حذف الواو منها شاذ. وتبع في ذلك الفراء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بَيْرين ومها فلسطين. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة.﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾ قال ابن عباس: دعواهم تضرعهم إلا إقرارهم بالشرك. " انتهى ". ودعواهم إسم كان. و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لدعواهم وخبر كان.﴿ أَن قَالُوۤاْ ﴾ أي إلا قولهم وإنا وما بعدها معمول للقول.﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعما بلغه إليهم الرسل كقوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾[القصص: ٦٥]، وتسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾[المائدة: ١٠٩] وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة.﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم ﴾ أي نسرد عليهم أعمالهم قصةً قصةً.﴿ بِعِلْمٍ ﴾ منا لذلك واطلاع عليه.﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ عن شىء منه وهذا من أعظم التوبيخ حيث يقرون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقص الله عليهم أعمالهم.
قالوا وجاءت على أحد محاملها وهي أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأن تلك مدنية وهذه مكية فوفى المعنى هناك باللفظ.﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي فعل الوسوسة لأجلهما، وأما قوله: فوسوس إليه، فمعناه ألقي الوسوسة إليه.﴿ لِيُبْدِيَ ﴾ اللام: لام كي، وهي علة للوسوسة.﴿ مَا وُورِيَ ﴾ أي ما سُتر. وقرأ عبد الله بن مسعود أُوري بإِبدال الواو همزة، وهو بدل جائز. وقرىء: ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى. وقرأ مجاهد والحسن من سؤتهما بالإِفراد وتسهيل الهمزة وبإِبدالها واواً وإدغام الواو فيها. و ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ استثناء مفرغ من المفعول من أجله، أي ما نهاكما ربكما لشىء إلا أن تكونا ملكين أو من الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ ﴾ لم يكتف إبليس بالوسوسة وهي الإِلقاء خفية سراً ولا بالقول، حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في العقل. وأما هنا فمعنى وقاسمهما أي أقسم لهما لأن اليمين لم يشاركا فيها، وهي كقول الشاعر: وقاسمهما بالله جهراً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورهاوفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو: باعدت الشىء وأبعدته. ولكما: متعلق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ ألْ موصولة وتسومح في الظرف المجرور ما لا يتسامح في غيرهما.﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النصح لهما وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإِقسامه أنه ناصح لهما، جُعل من يغتر بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة كالذي يُدَلّى من علو إلى سفل بحبل ضعيف فيتقطع به فيهلك.﴿ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ أي وجدا طعمها آكلين منها. قال تعالى:﴿ فَأَكَلاَ مِنْهَا ﴾[طه: ١٢١] وتطايرت عنهما ملابس الجنة وظهرت لهما عوراتهما. وتقدم أنهما كانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.﴿ وَطَفِقَا ﴾ طفق من أفعال المقاربة بفتح الفاء وكسرها. وبالباء مكان الفاء مكسورة. و ﴿ يَخْصِفَانِ ﴾ خبر طفق، ومعنى يخصفان أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانها. والأولى أن يعود الضمير في ﴿ عَلَيْهِمَا ﴾ على عورتيْهما. كأنه قيل: يخصفان على سوآتهما.﴿ مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ﴾ وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان. وعلى هنا ظرف مجازي بمعنى فوق لا حرف جر. ونظير هذا التركيب قوله تعالى:﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾[الأحزاب: ٣٧].
وقول الشاعر: هوّن عليك فإِن الأمور بكف الإِله مقاديرها﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ ﴾ لما كان وقت الهناء شرف بالتصريح باسمه في النداء. وقيل: ويا آدم اسكن. وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرح باسمه. والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة، والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلا:﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا ﴾ وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما. والنهي قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا ﴾.
وثم مضاف محذوف تقديره عن قربان تلك وتي اسم الإِشارة، واللام: للبعد، حذفت ياء تي للالتقاء الساكنين. وكما: خطاب للإِثنين.﴿ وَأَقُل لَّكُمَآ ﴾ إشارة إلى قوله: فقلنا يا آدم. ان هذا عدو لك ولزوجك، الآية في سورة طه. و ﴿ لَنَكُونَنَّ ﴾ جواب قسم محذوف قبل أنْ، كقوله تعالى:﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾[المائدة: ٧٣]، ليمسن التقدير والله إن لم تغفر لنا. وأكثر. ما تأتي انْ هذه ولام الموطئة قبلها، كقوله: لئن لم ينته المنافقون، ثم قال: لنغرينك بهم.﴿ قَالَ ٱهْبِطُواْ ﴾ تقدم تفسيرها في البقرة.﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾ هذا كالتفسير لقوله: ولكم في الأرض مستقر ومتاع، أي بالحياة. إلى حين، أي حين الموت.﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب.
والظاهر تعلق الإِسراف بالأكل والشرب كما يوجد للمحترفين في الدنيا من مغالاة التأنق في الأكل بحيث يغرم على الدجاجة الواحدة نحو من عشرين درهماً، وكما يغرم على الرطل من الحلوى نحو من أربعين درهماً، ولقد شاهدنا بعض أكابرهم رسم بأن يعمل له خميرة ورد في مئين من القناني في كل قنينة أربع أواق فقيل له: الورد كما دخل وهو غال، فقال: أليس موجوداً؟ فقيل له: نعم. فقال: كل موجود ليس بغال. وكما بلغنا عن بعض الناس أنه كان يأكل الفستق مقشوراً بالسكر النبات في القطايف، وقد سئل عن حال من يأكل قشور الموز من الجوع والفقر فقال ذلك الآكل: كلنا فقراء. وأما تأنقهم في الأواني الصينية وفعالاتهم في أثمانها فكثير، ويسألون درهماً لفقير فلا يبورن به.﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ﴾ هي ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به الناس من الثياب وغيرها. وأضيفت إلى الله تعالى لأنه هو الذي أباحها. والطيبات: هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقه وهو الحل، ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها. وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطيبات وألبانها. والاستفهام إذا تضمن الإِنكار لا جواب له. ومعنى: ﴿ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ أي أبرزها وأظهرها وفصّل حلالها من حرامها.﴿ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وقرىء: خالصة بالرفع. وقرأ باقي السبعة بالنصب، فأما النصب فعلى الحال والتقدير قل هي مستقرة للذين آمنوا في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهيَ. وفي الحياة متعلق بآمنوا. وأما الرفع فجوزوا فيه أن يكون خبراً لهي. وللذين آمنوا متعلق بخالصة. وفي الحياة الدنيا متعلق بآمنوا. ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن من الدنيا، ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب، وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها، وإلى هذا المعنى يشير ابن جبير. وجوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأول هو للذين آمنوا. وفي الحياة الدنيا متعلق بما يتعلق به للذين وهو الكون المطلق، أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدنيا الكفار وخالصة لهم يوم القيامة. ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة، وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس وجماعة.﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ ﴾ تقدم تفسير الفواحش. و ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ في أواخر الانعام قال ابن عباس: هنا ما ظهر منها ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وما بطن، وهو الزنا، وما عطف عليه بدل من الفواحش وهو بدل تفصيلي لإِنقسام الفواحش إلى ظاهرة وباطنة. ونظيره قول الشاعر: وكنت كذي رجلَيْنِ رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلتوالاثم عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الاثم. والبغي: التعدي وتجاوز الحد مبتدئاً كان أو منتصراً. وقوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق، لأن ما كان بحق لا يسمى بغياً. وتقدم تفسير ﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ في الانعام فأغنى عن إعادته.﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي لكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدنيا، فإِذا مات علم ما كان عليه من حق أو باطل. وقرىء: جاء أجلهم بإِبدال همزة أجلهم ألفاً. وقرىء أيضاً بحذفها. وقرىء: أيضاً بإِقرارها همزة وجواب إذا. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ وقال الحوفي:﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ معطوف على لا يستأخرون. " انتهى ". وهذا لا يمكن لأن إذا شرطية فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل، ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل، وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأن الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك: إذا قمت في المستقبل، لم يتقدم قيامك في الماضي. ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدم قيامه، هذا في الماضي. وهذا شبيه بقول زهير: بدا لي أني لست مورك ما مضى ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائياًومعلوم أن الشىء إذا كان جائياً إليه لا يسبقه. والذي تخرج عليه الآية أن قوله: لا يستقدمون، منقطع من الجوا بعلى سبيل استئناف اخبار، أي وهم لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه. وصار معنى الآية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه.
واللام في لأولادهم: لام السبب، أي لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم.﴿ أَضَلُّونَا ﴾ شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضل وحملونا عليه.﴿ ضِعْفاً ﴾ زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببوا كفرنا.﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ أي لكل من الأخرى، والأولى عذاب مضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أن العذاب مؤبّد فكل ألم يعقبه آخر. وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائل أي لا تعلمون ما لكل فريق من العذاب أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب أو خطاب لأهل الدنيا أي ولكن يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار ذلك، وهذه الجملة رد على أولئك السائلين وعدم إسعاف لما طلبوا.﴿ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ ﴾ أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة. واللام في لأخراهم لام التبليغ نحو: قلت لك أضع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام في لأولاهم فإِنهما كما ذكرنا لام السبب لأن الخطاب هناك مع الله تعالى، وقيل: قوله: فما، جملة محذوفة تقديرها فما أجابكم الله تعالى إلى ما طلبتم من تضعيف العذاب لنا.﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ باتباعكم إيانا من الدنيا، بل كفرتم اختيار إلا ان حملناكم على ذلك إجباراً. وإن قوله: فذوقوا العذاب، من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وإن ذوق العذاب هو بما كسبتم من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا ﴾ أي عن قبولها والتفكر فيها والإِيمان والاستكبار هو نتيجة التكذيب.﴿ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ ﴾ قرىء لا تفتح مخففاً ومثقلاً وبياء الغيبة أبواب السماء قال ابن عباس: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعته تعالى أي لا يصعد لهم عمل صالح فتفتح له أبواب السماء. وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب السماء في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة.﴿ حَتَّىٰ يَلِجَ ﴾ الولوج: التقحم في الشىء.﴿ ٱلْجَمَلُ ﴾ الحيوان المعروف. والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي.﴿ سَمِّ ٱلْخِيَاطِ ﴾ ثقبة وتضم سين سم وتفتح وتكسر وكل ثقب في أنف أو أذن إو غير ذلك فالعرب تسميه سُما. والخياط: المخيط، وهما آلتان كازار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع ويلح هذا نفي مغيّا بمستحيل وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإِنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع فلا يدخلون الجنة أبداً. قال الشاعر: لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعيروقرأ ابن عباس في جماعة وابان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة. وفسر بالقلس الغليظ وهو حبل السفينة تجمع من حبال وتفتل وتصير حبلاً واحداً.﴿ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء نجزي أهل الجرائم.﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾ هذه استعارة لما تحيط بهم من النار من كل جانب، كما قال تعالى:﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾[الزمر: ١٦].
والغواشي جمع غاشية. قال ابن عباس: هي اللحف.
وقوله:﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾[يوسف: ٢٤].
وإن كان الأكثر في لسان العرب تأخير جواب لولا كقوله تعالى:﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾[النساء: ٨٣] ما زكى. وان هدانا في موضع رفع بالابتداء تقديره لولا هداية الله إيانا.﴿ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ أي لموعود الذي وعدونا في الدنيا قضوا بأن ذلك حق قضاء مشاهدة بالحس وكانوا في الدنيا يقضون بذلك قضاء استدلال.﴿ وَنُودُوۤاْ ﴾ يحتمل أن يكون النداء من الله تعالى وهو أسر لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ونودوا بأنه تلكم الجنة واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت. ويحتمل أن تكون ان مفسرة لوجود شرطيها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة. وكأنه قيل: تلكم الجنة، وتلكم إسم إشارة والذي بعدها خطاب للجماعة، والمعنى أن البعد فيها باعتبار سبق الوعد بها في الدنيا. والجنة صفة لتلكم وأورثتموها خبر عن تلكم والهمزة في أورثتموها بدل من واو بدلاً جائزاً لأن أصل المادة الواو والراء والثاء تقول ورث يرث، ولو قرىء وأوْرثتموها لكان عربياً لأن فاعل من ذوات الواو نحو: وأرى إذا بنيت للمفعول يجوز أن تبدل واوه همزة فتقول: أُوري وأصله وُوْري.﴿ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ عبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن يشرف عليهم أهل الجنة ويخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم. وأتى في إخبار أهل الجنة ما وعدنا بذكر المفعول، وفي قصة أهل النار على ما وعدكم بذكر المفعول وعدلان أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله تعالى مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ما وعدهم باسم الخطاب فيقولوا: ما وعدكم ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد الله تعالى بوقوعه في الآخرة للصنفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسروا على ما فاتهم من نعيمهم، إذ نعيم أهل الجنة مما يحزنهم ويزيد في عذابهم. وأنْ يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله: إن قد وجدنا.﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي أعلم معلم وأبهم تعالى من المؤذن فقيل: هو اسرافيل صاحب الصور وقيل غيره. بينهم ظرف لإِذن معمول له. والضمير في بينهم عائد على الفريقين. وان المخففة من الثقيلة أو مفسرة. و ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ تقدم تفسير مثله. وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن حالهم السابقة والمعنى الذين كانوا يصدون لأنهم وقت الآذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف والمعنى بالظالمين الكفار، بدليل قوله: وهم بالآخرون كافرون، لأن الفاسق ليس كافراً بالآخرة بل مؤمن مصدق بها.﴿ وَيَبْغُونَهَا ﴾ أي يبغون لها. والضمير عائد على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾ أي بين الفريقين لأنهم المحدث عنهم. وهو الظاهر. وقيل: بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعني بقوله تعالى:﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾[الحديد: ١٣].
وقال ابن عباس: ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم، إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السور بعد ما بين الجنة والنار وإن كانت تلك السماء والنار أسفل السافلين.﴿ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ الاعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشماخ: فظلت باعراف تعالى كأنها رماح نحاها وجهة الريح راكزومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما. وقال ابن عباس: الأعراف تل بين الجنة والنار.﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي كلاً من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميزهم الله تعالى بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه في هذه الجملة التجنيس المغاير وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً فالاعراف اسم ويعرفون فعل والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيآتهم وقفوا هنالك ما شاء الله تعالى لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئآتهم دخول النار. وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فيه قيل:" يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".﴿ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ الضمير في نادوا عائد على رجال. وانْ تفسيرية او مخففة من الثقيلة كما تقدم. و ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا ﴾ جملة حالية العامل فيها، نادوا أي نادوا غير داخلي الجنة.﴿ وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ جملة حالية أيضاً أي يطمعون في دخولها وأجاز الزمخشري أن يكون لم يدخلوها وهم يطمعون صفة لرجال وهو بعيد للفصل بين الموصوف والصفة بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض.
﴿ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ وانتصب مسخرات على الحال من المجموع، أي وخلق الشمس. وقرىء بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر. وقرأ ابان بن ثعلب برفع والنجوم مسخرات فقط على الابتداء والخبر ومعنى بأمره بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك.﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ ﴾ لما تقدم ذكر الخلق وأمره فيها قال ذلك، أي له الإِيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده وما يأمره لا أحد يشركه في ذلك ولا في شىء منه.﴿ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي علا وعظم، ولما تقدم أن ربكم صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء العالمين أعم من ربكم لأنه خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعاً لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم وتبارك فعل جامد لا يتصرف، فلا يقال منه مضارع ولا اسم فاعل ولا فعل أمر لا يقال يتبارك ولا متبارك ولا تبارك.﴿ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ الظاهر أن الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء وانتصب تضرعاً وخفية على الحال أي متضرعين ومخفين أو ذوي تضرع واختفاء في دعائكم. وفي الحديث الصحيح:" إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعونه سميعاً قريباً ".﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ وهذا اللفظ عام يدخل فيه أولاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو وان ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك صنعة وعادة فلا يلحقه تضرع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات. وقال العلماء: الاعتداء في الدعاء على وجوه كثيرة منها الجهر الكثير والصياح.﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال لماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان ومعنى بعد إصلاحها أي بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين.﴿ وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ لما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره فقال: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليسا من الأفعال القلبية ثم كرر الأمر بالدعاء خوفاً وطمعاً وهما من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين. فبدأ أولاً بأفعال الجوارح، ثم ثانياً بأفعال القلوب. وانتصب خوفاً وطمعاً على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة فإِذا جاء الموت غلب الرجاء.﴿ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ والرحمة مؤنثة مقياسها أن يخبر عنها اخبار المؤنث فيقال: قريبة. قال الفراء: إذا استعمل في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد تقول هذه قريبة فلان وإذا استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد يجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول: دارك مني قريب، وفلانة منا قريب. ومن هذا قول الشاعر: عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيدفجمع بين الوجهين في هذا البيت " انتهى ". وقال تعالى:﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾[الأحزاب: ٦٣].
وقال الشاعر: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
ثم قال: وأنصح لكم، أي أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحدهُ. ثم قال: وأعلم من الله ما لا تعلمون، من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره معهم ومنتهاه.
ويجمع كقوله تعالى:﴿ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾[يونس: ٢٢]، ويتعلق في الفلك بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك. ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان. و ﴿ عَمِينَ ﴾ من عمى القلب، أي غير مستبصرين. ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحدوث لجاء على فاعل. وقال معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، وأعمى في البصر. قال زهير الشاعر: ولكنني عن علم ما في غد عمي ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ ﴾ إلى متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى عاد وعاد اسم الحي ولذلك صرفه. وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف. قال الشاعر: لو شهد عاد في زمان عادِ لابتزها مبارك الجلادسميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوض بن أرم بن نوح وهود. وقال شيخنا الأستاذ الحافظ أبو الحسن الأُبَّدي النحوي المعروف: أن هوداً عربي. والذي يظهر من كلام سيبويه لما عدّه مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده. " انتهى ". وهود هو غابر بن شالخ بن أرمخشد بن سام بن نوح ونزل أرض اليمن فهو أب لليمن كلها. و ﴿ أَخَاهُمْ ﴾ مفعول بأرسلنا المحذوفة وأخاهم ليس من عاد بل هو مجاز كما تقول: يا أخا العرب، للواحد منهم. وقيل: هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض بن أرم بن سام بن نوح، فعلى هذا يكون من عاد.﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ تقدم الكلام على هذا.﴿ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى مخافة أن تحل بهم واقعة قوم نوح.﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ أتى بوصف الملأ بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأن قوم هود كان في أشرافهم من كان آمن به منهم مَرثَد بن سعد بن عفير ولم يكن في اشراف قوم نوح مؤمن، فلذلك قالوا: واتبعك الأرذلون.﴿ فِي سَفَاهَةٍ ﴾ أي في خفة حلم وسخافة عقل وسفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشىء. واتبعوا ذلك بقولهم:﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب من أن لم يتقوا الله تعالى.﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾ تقدمت كيفية هذا النفي في قوله:﴿ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ ﴾[الأعراف: ٦١]، وهناك جاء: وأنصح لكم، وهنا جاء: وأنا لكم ناصح أمين، لما كان أخرجوا بهم جملة إسمية جاء قوله كذلك، فقالوا هم: وإنا لنظنك من الكاذبين. قال هود: وأنا لكم ناصح أمين. وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي تحمّله الإِنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين.﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ ﴾ إذ ظرف لما مضى وناصبه محذوف تقديره واذكروا انعامه عليكم وقت جعلكم خلفاء فإِنعامه مفعول اذكروا. قال الزمخشري: إذ مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم. وهذا ليس بجيد لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف فلا تكون مبتدأة ولا فاعلة ولا مفعولة. ومعنى خلفاء: أي ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها.﴿ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ هذا يدل على قرب زمانهم من زمن نوح.﴿ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً ﴾ ظاهر بعض التواريخ أن البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال. ويحتمل أن يكون المعنى وزادكم بسطة أي اقتداراً في المخلوقين وتسليطاً عليهم واستيلاءً.﴿ فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ ﴾ الآلاء: النعم واحدها إلى نحو: معي وأمعاء. ذكرهم أولاً نعماً مخصوصة من جعلهم خلفاء وزيادة البسطة وذكرهم ثانياً نعمه مطلقاً وناط بذكر نعمه رجاء فلاحهم.﴿ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ ﴾ الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله تعالى بالعبادة مع اعترافهم بالله تعالى حباً لما نشأوا عليه وتألفاً لما وجدوا آباءهم عليه.﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر. وقولهم ذلك يدل على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً.﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ قال ابن عباس: الرجس السخط أي حل بكم وتحتم عليكم.﴿ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ ﴾ هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول تستحق العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك. ومعنى سميتموها. أي أحدثتموها قريباً أنتم وأباؤكم، وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكر ذلك مرثد بن سعد في شعره فقال: عصمت عاد رسولهم فأضحوا عطاشا ما تبلهم السماءلهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباءفبصّرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلى العماءوإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء﴿ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ ﴾ وهذا غاية في التهديد والوعيد أي فانتظروا عاقبة أمركم في عبادة غير الله تعالى وفي تكذيب رسوله عليه السلام وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وأنه كائن لا محالة.﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ يعني من آمن معه برحمة سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلوا منهم. فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومه من العذاب.﴿ وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ كناية عن استئصالهم بالهلاك وبالعذاب. وتقدم الكلام في دابر في قوله:﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾[الأنعام: ٤٥].
وفي قوله: الذين كذبوا، تنبيه على علة قطع دابرهم. وفي قوله: بآياتنا، دليل على أنه كانت لهود عليه السلام معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعينيها.﴿ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ جملة مؤكدة لقوله: كذبوا بآياتنا، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة.
فتعدى اتخذ لمفعول واحد.﴿ وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً ﴾ النحت النجر والنشر في الشىء الصلب كالحجر والخشب وغير ذلك. وقال الشاعر: أما النهار ففي قيد وسلسلة والليل في بطن منحوت من الساجوانتصب بيوتاً على أنه حال مقدرة لأنها وقت النحت لم تكن بيوتاً بل صارت بيوتاً بعد ذلك كقولك: خط لي هذا قباء. قال ابن عباس: القصور لمصائفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم.﴿ وَلاَ تَعْثَوْا فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة في قصة استسقاء موسى لقومه.﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ قرأ ابن عامر وقال الملأ بواو العطف. والجمهور قال بغير واو. والذين استكبروا وصف للملأ. أما للتخصيص لأن من اشرافهم من آمن وهو جندع بن عمرو. واستكبروا: طلبوا الهيبة لأنفسهم وهو الكبر، فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو يكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا بكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب.﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ ﴾ أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم اتباع الرسل. و ﴿ لِمَنْ آمَنَ ﴾ بدل من الذين استضعفوا. والضمير في: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كل ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين، وإن عاد على قومه كان بدل كل من كل أعيد معه حرف الجر وهو اللام، وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين، وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً. ومن آمن مفسر للمستضعفين من قومه، واللام في للذين للتبليغ، والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وفي قولهم: من ربه، اختصاص بصالح. ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ وجواب المستضعفين وعدولهم عن قولهم: هو مرسل إلى قولهم: انا بما أرسل به مؤمنون، في غاية الحسن إذ أمْر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج إلى أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإِرساله فأخبروا أنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلا التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى. ومؤمنون خبر انا. وبما أرسل متعلق به. وبه متعلق بأرسل.﴿ فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ ﴾ نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً من واحد لما كان عقرها عن تمالؤ واتفاق وقصة عاد وثمود مشهورة عند العرب. قال الأفوه الأودي: فينا معاشركم بينوا لقومهم وإن بني قومهم ما أفسدوا عادواأضحوا كقيل بن عثر في عشيرته إذا أُهلكت بالذي سدى لها عادواأو بعده كقدار حين بايعه على الغواية أقوام فقد بادواوقيل: ابن عثر هو رئيس عاد وقوم هود.﴿ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ أي استكبروا عن امتثال أمره. يقال: عتا يعتو عتواً.﴿ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم فاستعجلوه ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الاخبار بذلك الوعيد وبغيره، ولذلك علّقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ روي أن السقب هو ولد الناقة لما عقروها، رغا ثلاثاً فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. فقالوا هازئين به: متى ذلك، وما آية ذلك؟ فقال: تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمرتها ويوم سيار مسودتها ثم يصبحكم العذاب يوم أول وهو يوم الأحد.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ أي أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا. وقد ذكره علقمة السقب في شعره فقال: رغا فوقهم سَقْبُ السماء فداحض بشكته لم يستلب وسليبوإنما نسبه للسماء لأنه آية من آيات الله تعالى.﴿ جَاثِمِينَ ﴾ الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض الساقين كما يرقد الأرنب والطير.﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ الآية ظاهر العطف بالفاء يدل على أن هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهد ما جرى عليهم، فيكون الخطاب على سبيل التفجع عليهم والتحسر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزداد إيماناً وانتفاءً عن معصية الله تعالى واقتفاء لما جاء به نبيه عليه السلام عنه تعالى. وبكون معنى قوله: ولكن لا تحبون الناصحين، ولكن كنتم لا تحبون الناصحين، فيكون حكاية حال ماضية. وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر.﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾ الآية هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تادح بن ناحور. وانتصب لوطاً بإِضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله. وإذ معمولة لأرسلنا. وجوز الزمخشري وابن عطية نصبه بِوَاذكر مضمرة. زاد الزمخشري أن إذ بدل من لوط أي واذكر وقت إذ قال لقومه وتقدم الكلام على كون إذْ مفعولاً بها صريحاً لأذكر وان ذلك تصرف فيها.﴿ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ ﴾ الاستفهام هنا على جهة الإِنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هنا الفعل القبيح والفاحشة هنا إتيان ذكر ان الآدميين في الإِدبار، ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام. أو تكون ألْ فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش. ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإِنه قال فيه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة، فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش. وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون فعله، ولا ذكره في أشعارهم، والجملة المنفية تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وانهم مبتكروها. والمبالغة في من أحد حيث زيدت من لتأكيد نفي الجنس وفي الإِتيان بعموم العالمين جميعاً. قال عمرو بن دينار: ما رُؤيَ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. و ﴿ مَا سَبَقَكُمْ ﴾ جملة حالية من الفاعل أو من الفاحشة لأن في سبقكم بها ضميرهم وضميرها. وقال الزمخشري: هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله: أتأتون الفاحشة، ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها، أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. وقال الزمخشري: والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" سبقك بها عكاشة "" انتهى ". ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأن الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة. وبيان ذلك أنك إذا قلت: صككت الحجر بالحجر، فمعناه أصككت الحجر الحجر، أي جعلت الحجر يصك الحجر. وكذلك: دفعت زيداً بعمرو وعن خالد، معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد، أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد. فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يتأتى هذا المعنى هنا إذ لا يصح أن تقدر أسبقت زيداً الكرة، أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلف، وهو أن تجعل ضربك الكرة أول جعل ضربه وقد سبقها أي تقدمها في الزمان فلم يجتمعا.
والمطر هنا هي الحجارة وقد ذكرت في غير آية.﴿ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ هذا خطاب للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم، وفيه اتعاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة مسلكهم. والمجرمين عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم. ومن نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى:﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ ﴾[الفرقان: ٣٨]، وقد تبين لكم من مساكنهم وكيف خبر كان وعاقبة اسم كان، والجملة في موضع نصب لأن أنظر معلقة عنها.﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ قال الفراء: مدين، اسم بلد وقطر. والجمهور على أن مدين اسم أعجمي، فإِن كان عربياً احتمل أن يكون فيْعلاً من مَدَن بالمكان أقام به وهو بناء نادر أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ وكان قياسه مدان. وشعيب اسم عربي هو تصغير شِعْب أو شعب واختلف في نسب شعيب اختلافاً كثيراً ذكر ذلك في البحر المحيط. وشعيب قيل: هو ابن بنت لوط، وقيل: زوج بنته.﴿ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ هذا دليل على أنه قد جاء بالمعجزة إذ كل نبي لا بد له من معجزة تدل على صدقه ولكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي.﴿ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ أمرهم أولاً بشىء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان، ثم نهاهم عن شىء عام وهو قوله:﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ والكيل مصدر كني به عن الآلة التي يكال بها.﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة قريباً.﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ الإِشارة بذلكم إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإِفساد، وخير أفعل التفضيل، أو خير من الخيور.﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ﴾ ظاهرة العموم قال الزمخشري: ولا تقعدوا بكل صراط ولا تقتدوا بالشيطان. في قوله: لأقعدن لهم صراط المستقيم فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله:﴿ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ فإن قلت: صراط الحق واحد وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق به عن سبيله. فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحد يشرع في شىء منها أوعدوه وصدوه عنها. انتهى جمل القعود والصراط على المجاز وقد تقدم أن الظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون انه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تظهر الدلالة على أن الصراط سبيل الحق من قوله: وتصدون عن سبيل الله، كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله، فيكون بكل صراط حقيقة في الطرق وسبيل الله مجاز عن دين الله. والباء في بكل صراط ظرفية نحو: زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة.﴿ تُوعِدُونَ ﴾ جملة حالية أي من جاء للإِيمان بشعيب.﴿ وَتَصُدُّونَ ﴾ معطوف على توعدون. قال الزمخشري: فإِن قلت: إلى م يرجع الضمير في من آمن به؟ قلت: إلى كل صراط تقديره وتوعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدون عنه. هذا تعسف في الإِعراب لا يليق أن يحمل عليه القرآن لما في التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك، وعود الضمير على ابعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإِمكان. السائغ الحسن الراجح. وجعل من آمن منصوباً بتوعدون فيصير من أعمال الأول وهو قليل. وقد قال النحاة: انه لم يرد في القران لقلته. ولو كان من أعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب وتصدونه أو تصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة: وعلى قول بعض النحاة: يحذف في قليل من الكلام. ويدل على أن من آمن منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي: قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن فنصبه بتوعدون بعيد هذا مع التكلفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة. قال ابن عطية: يجوز أن يعود على شعيب في قوله من رأى القعود على الطرف تفرد عن شعيب. " انتهى ". وهذا بعيد لأن القائل ولا تقعدوا هو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفاتاً، لو قلت: يا هند أنا أقول لا تهيني من أكرمه، تريد أكرمني لم يصح، وتبغونها الضمير عائد على سبيل الله والسبيل تذكر وتؤنث وهي جملة حالية أي باغيها والتقدير تبغون لها عوجاً.﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ﴾ روي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا.﴿ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ هذا تهّديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن حل به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبيْ عهد بما أصاب المؤتفكة وإعراب هذه الجملة كإِعراب الجمل الواقعة أثر قصة قوم لوط، قال الزمخشري: إذ مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم فكثركم الله ووفى عددكم. " انتهى ". وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه واذكروا لاستقبال واذكروا وكون إذ ظرفاً لما مضى والقلة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى، أو إلى قصر الأعمار وطولها، أقوال ثلاثة أظهرها الأول. وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. " انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى حذق صفعة وهي أذلة، ولا إلى تحميل قوله: فكثركم معنى بالعدد. ألا ترى أن القلة لا تستلزم الذلة ولا الكثرة تستلزم العزة. قال الشاعر: تعيّرنا انا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليلوما ضرنا أنا قليل وجارُنا عزيز وجار الأكثرين ذليلوقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة كثر عددهم وارزاقهم وطول أعمارهم وأعزهم بعد أن كانوا على مقابلاتها.﴿ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ ﴾ هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المجاورة إذ أبرز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإِيمان: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ ﴾، وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلوا قومه من القسمين. والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من افراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان، ونهاهم عنه من البخس والإِفساد والقعود المذكور. ومتعلق لم يؤمنوا محذوف دل عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به. والخطاب بقوله: منكم، لقومه وينبغي أن يكون قوله: فاصبروا، خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن. و ﴿ بَيْنَنَا ﴾ أي بين الجميع فيكون ذلك وعد للمؤمنين بالنصر الذي هو نتيجة الصبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا، ووعيداً للكفار بالعقوبة والخسار.
وفي كأَنْ ضمير الشأن محذوف تقديره قبل الحذف كأنه والجملة بعدها في موضع الخبر منفياً بلم وهو الكثير وقد جاء النفي بلما في قول حماد الكلبي: وكان لما يكون قط لمْ. والنفي بلما قليل.﴿ كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ هم فصلاً بين الإِسم والخبر ويجوز أن يكون بدلاً من الاسم في كانوا، ولما كان قولهم إنكم إذاً لخاسرون قوبلوا بقوله: هم الخاسرون، وأفاد الفصل الاختصاص.﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ تقدم تفسير نظيره في قصة صالح.﴿ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ ﴾ أي فيكف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبه على العلة الموجبة لعدم الحزن عليهم وهي الكفر إذ هي أعظم ما يعادى به المؤمن.
وفي الإِخبار بالقرى معنى التعظيم لها ولمهلكها، كما قيل في قوله: ذلك الكتاب. وفي قوله عليه السلام: أولئك الملأ من قريش. ولما كان الخبر مقيداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة. ومعنى من أنباء من للتبعيض فدل على أن لها أنباءً آخر لم نقصها عليه وإنما قص عليه ما فيه عظة وازدجار واذكار بما جرى على من خالف الرسل ليتعظ بذلك السامع من هذه الأمة.﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ﴾ والذي يظهر أن الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا هو عائد على أهل القرى، وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإِيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به من قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإِتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ في تسليط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة. والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوز أن تكون مصدرية.﴿ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ﴾ أي لأكثر الناس أو أهل القرى والأمم الماضية. ومن في من عهد تدل على استغراق الجنس.﴿ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة. ووجد بمعنى علم. ومفعول وجدنا الأولى لأكثرهم، ومفعول الثانية لفاسقين، واللام للفرق بين أنْ المخففة من الثقيلة، وأن النافية. وتقدم الكلام على ذلك في قوله:﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾[البقرة: ١٤٣].
ودعوى بعض الكوفيين أنّ إنْ في نحو هذا التركيب هي النافية، واللام بمعنى إلاّ. وقال الزمخشري: وإنّ الشأن والحديث وجدنا. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكأنّ الزمخشري يزعم أنّ إنْ إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاء لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء. وقد تقدم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.
ومهما كلمة بسيطة ليست مركبة من مَهْ اسم الفعل وما ولا أنّ أصلها ما ما فأبدلت ألفها هاء فقيل: مهما، وقد جاء في الشرط مهما، قال الشاعر: أماوي مهما يستمع في صديقه أقاويل هذا الناس ماوى يندم﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ ﴾ الآية قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانة، عند البصريين وعند الكوفيين مصدر. قال ابن عباس: الطوفان الماء المفرق. وقال جماعة: هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل: أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماءً حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة من الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ودام عليهم سبعة أيام.﴿ وَٱلْجَرَادَ ﴾ جمع جرادة وهي اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث وابتلوا بالجراد بعد ابتلائهم بالطوفان سبعة أيام فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شىء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شىء فكشف عنهم بعد سبعة أيام وسلط الله تعالى عليهم القمل. قال ابن عباس: القمل هو الدَّبا، وهو صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة ولا يطير روي أن موسى عليه السلام مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين جلد القبطي وقميصه فيمصه ويمتلىء الطعام قملاً، وأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ثم بعد ذلك أرسل الله تعالى عليهم الدم حتى صار ماؤهم دماً، حتى أن الإِسرائيلي ليضع الماء في فيء القبطي فيصير في فيه دماً، وعطش فرعون حتى أشرف على الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة فإِذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً. ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها وحكمة التفضيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عهدوا أم ينكثون. وانتصب آيات مفصلات على الحال والذي دلت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها. وأما كيفية الإِرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئآت فمرجعه إلى النقل عن الاخيار الاسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شىء ومع إرسال حسن الآيات استكبروا عن الإِيمان وعن قبول أمر الله تعالى.﴿ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ إخبار منه تعالى بإجترامهم على الله تعالى وعلى عباده.﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ ﴾ الظاهر أن الرجز هو ما كان أرسل عليهم من الآيات التي تقدمت قبل. ومعنى وقع عليهم، أي نزل عليهم وثبت وفي قولهم.﴿ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ وفي إضافة الرب إلى موسى عليه السلام عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادع لنا ربنا. ومعنى: ﴿ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ بما اختصك به ونبّأك أو بما وصاك به أن تدعوا به فيجيبك كما أجابك في الآيات، والظاهر تعلق بما عهد بادع لنا ربك، ومتعلق الدعاء محذوف تقديره ادع لنا ربك بما عهد عندك في كشف هذا الرجز. و ﴿ لَئِن كَشَفْتَ ﴾ جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا، أي قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت. وفي قولهم: ﴿ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ دلالة على أنه طلب منهم الإِيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدموا الإِيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية، وفي إسناد الكشف إلى موسى عليه السلام حيرة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك.﴿ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ ﴾ في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى عليه السلام وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله تعالى أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي. و ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ ﴾ متعلق بكشفنا ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه. والغاية بقوله: إلى أجل، ينافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تحقق الغاية. و ﴿ هُم بَالِغُوهُ ﴾ جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد، وإذا للمفاجأة تدل على أنه لم يكن بعد بلوغ الأجل وبين النكث زمان يتخللهما بل بنفس ما بلغوا الأجل نكثوا ما أقسموا عليه من الإِيمان والإِرسال.﴿ فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ أي أحللنا بهم النقمة وهي ضد النعمة فإِن كان الانتقام هو الإِغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم. والباء في بأنهم سببية. والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام. والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات، أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.
فلو سأل موسى محالاً فكان في الجواب زجر ما وتبين وللزمخشري كلام كثير في الرؤية ذكرنا ذلك في البحر، ولكن أنظر إلى الجبل الآية تعليق الرؤية على تقرير الاستقرار مؤذن بعدمها إذ لم يستقر، ونبه بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر وهذا تسكين لقلب موسى عليه السلام وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع والتجلي الظهور والدك مصدر دككت الشىء فتته وسحقته مصدر في معنى المفعول والدك والدق بمعنى واحد. وقال ابن عزيز: دكاً مستوياً مع الأرض. والخرور السقوط أفاق ثاب إليه حسّه وعقله.﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾ ترتب على التجلي أمران: أحدهما، تفتت الجبل وتفرق أجزائه، والثاني، خرور موسى عليه السلام مغشياً عليه. والتجلي بمعنى الظهور الجسماني مستحيل على الله تعالى.﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ نزه الله تعالى عن سمات النقص والحدوث.
قال الزمخشري: كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. " انتهى ". وقرأ الحسن سأوْريكم بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجهت همزة القراءة بوجهين: أحدهما، ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطها فنشأ عنها الواو. وقال ويحسّن احتمال الواو، وقال: ويحسّن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه. " انتهى ". فيكون كقوله: أدنو فانظور، أي فانظر، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر. والثاني، ما ذكره الزمخشري قال: وقرأ الحسن سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أوْرني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريته الزَنْد كان المعنى بيّنه لي وأنِرْهُ لأستبينه. " انتهى ". وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقيق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورْتَكم. قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى:﴿ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾[الأعراف: ١٣٧].
﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ﴾ لما ذكر سأوريكم دار الفاسقين ذكر ما يفعل بهم من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم. ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقوا به اسم الفسق.﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ صرفهم هذا الوصف الذميم وهو التكبر عن الإِيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا حتم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا.﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ ﴾ الآية أراهم الله تعالى السبيلين فرأوهما فآثروا الغي على الرشد، كقوله تعالى:﴿ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾[فصلت: ١٧].
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ أي ذلك الصرف عن الآيات هو بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها، والمعنى أنهم استمر تكذيبهم وصار لهم ذلك دَيْدَنا حتى صارت تلك الآيات لا تَخطُر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها. والظاهر أن الصرف سببه التكذيب والغفلة من جميعهم، ويحتمل أن الصرف سببه التكذيب. ويكون قوله: ﴿ وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ إستئناف أخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبرها فأورثتهم الغفلة التكذيب بها. والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا. وجوزوا أن يكون منصوباً فقدره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدره الزمخشري صرفهم الله تعالى ذلك الصرف بعينه.
وغضبان صيغة مبالغة، والغضب غليان في القلب بسبب حصول ما يؤلم. و ﴿ أَسِفاً ﴾ حزيناً. والفعل من أسف يأسف.﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي ﴾ تقدم الكلام على بئسما في أوائل البقرة. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِيۤ ﴾ أي من بعد انفصالي عنكم للمناجاة ذمهم على عبادة غير الله تعالى. و ﴿ أَعَجِلْتُمْ ﴾ استفهام إنكار. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تام، وأعجله عنه غيره، والمعنى أعجلتم أمر ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حافظين لعهده وما وصاكم به. و ﴿ أَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ ﴾ أي ألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله تعالى. والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جارَّه إليه. والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإِصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يكفهم عن ذلك.﴿ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ ﴾ ناداه نداء استعطاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم كما قال: يا ابن أمي ويا شُقيّق نفسي أنت خلفتني لدهر شديدوقرىء: بكسر الميم اجتزاء بالكسرة عن الياء إذ أصله يا ابن أمي. وقرىء: يا ابن أمّ بفتح الميم اجتزاء بالفتحة عن الألف إذ أصله يا ابن أمّا والألف منقلبة عن ياء المتكلم كما قال: يا ابنة عما لا تلوحي واهجعي يريد ابنة عمي. ومعنى: ﴿ ٱسْتَضْعَفُونِي ﴾ وجدوني ضعيفاً ولما أبدى له ما كان منهم من الاستشعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله، فقال:﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ ﴾ أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك. قال الشاعر: والموت دون شماتة الأعداء ﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي ﴾ لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله. قالوا: واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح، واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل.
﴿ وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ أي من الكفر والمعاصي وغيره.﴿ ثُمَّ تَابُواْ ﴾ أي رجعوا إلى الله.﴿ مِن بَعْدِهَا ﴾ أي من بعد عمل السيئات.﴿ وَآمَنُوۤاْ ﴾ داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه. والذين مبتدأ، وخبره أن ربك، والعائد على المبتدأ محذوف تقديره لغفور لهم رحيم بهم.﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ ﴾ الآية سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكونه جعل الغضب كأنه إنسان يناجي موسى عليه السلام ويهيجه لما فعل قومه من اتخاذهم العجل، ولذلك ألقى الألواح ثم انه سكت عنه وهذا من بديع الاستعارة جعل سكون الغضب سكوتاً. وقرأ معاوية بن قرة: ولما سكن، بالنون عوض التاء.﴿ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ ﴾ هو جواب لما وكان إلقاؤها غضباً على قومه فلما سكت الغضب أخذها.﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾ أي فيما نقل وحول منها. واللام في لربهم مقوية لوصول الفعل الذي هو يرهبون إلى المفعول المتقدم، كقوله تعالى:﴿ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ﴾[يوسف: ٤٣].
﴿ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾ اختار افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر ثم بحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فتقول اخترت زيداً من الرجال، واخترت زيداً الرجال. قال الشاعر: اخترتك الناس إذ رئت خلائقهم واعتل من كان يرجى عند السول﴿ لِّمِيقَاتِنَا ﴾ قال وهب بن منبه: قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ان طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخدمنا من يذهب معك يسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار سبعين من خيارهم ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة. وفي الكلام حذف تقديره فرجف بهم الجبل وصعقوا.﴿ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ﴾ مفعول شئت تقديره لو شئت أهلاكنا وجوابه أهلكتهم ولم يأت الجواب باللام.﴿ وَإِيَّايَ ﴾ ضمير المتكلم معطوف على الضمير المنصوب في أهلكتهم.﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ ﴾ الآية، الظاهر أنه استفهام استعلام أيقع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك، ألا ترى قوله تعالى:﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾[الأنفال: ٢٥].
وقوله عليه السلام:" وقد قيل أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث "وكما ورد أن قوماً يخسف بهم وفيهم الصّالحون فقيل يبعثون على نياتهم أو كلا ما هذا معناه بما فعل السفهاء منا، وهم عبّاد العجل.﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ إن نافية بمعنى ما وهي ضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي ان الفتنة إلا فتنتك أي راجعة إليك إذ أنت موجد الخير والشر وأنت موقع ضلال من فتنة وهداية من شئت وهذا هو الاعتقاد الصحيح.﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ﴾ ومفعول تشاء محذوف تقديره من تشاء إضلاله ومن تشأ هدايته.﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا ﴾ أي القائم بأمرنا.﴿ فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ ﴾ سأل الغفران والرحمة له ولهم لما كان قد اندرج قومه في قوله: أنت ولينا، وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم. وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله: وأنت خير الغافرين، ولما كان هو وأخوه عليهما السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد المغفرة بل قال: وأنت أرحم الراحمين، فنبّه على أنه تعالى أرحم الراحمين. ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف: ١٥٦]، وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد. والبارىء تعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشىء من ذلك.
ويمكن أن يقال ناسب تقديم الأمر بدخول الباب سجداً مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دال على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشىء وهو الدخول ولأن قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع، ولأن دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسكنى. وأما سنزيد هنا فقال الزمخشري: موعد بشيئين بالغفران والزيادة، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفراء. فقيل له: سنزيد المحسنين. وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون من واد واحد. وقرأ الحسن حطة بالنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب يقولوا على حذف التقدير، وقولوا قولاً حطة أي ذا حطة. فحذف واو صار حطة وصفاً للمصدر المحذوف، كما تقول: قلت حسناً قلت حقاً أي قولاً حسناً وقولاً حقاً.
﴿ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ في موضع الحال من الجبل والظلة هنا معناها الغمامة.﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين.﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة.﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ الآية، قال الزمخشري: هذا من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال: ألست بربكم، وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى. " انتهى ". ومفعول أخذ ذرياتهم ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى وذرياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أن من ظهورهم بدل من قوله: من بني آدم، والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال:﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾[النساء: ١٥٤].
وتقدير الكلام في وإذ أخذ ربك، من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللإِرتباط به والوقوف عنده شىء ثقيل يحمل على الظهر. الست دخلت همزة الاستفهام على النفي فصار معناها التقرير وهذا النوع من التقرير يجاب بما يجاب به النفي الصريح، فإِذا قلت: ألست من بنى فلان؟ أجيب ببلى. ومعناه أنت من بني فلان؟ فكذلك أجيب ببلى، ومعناه أنت ربنا.﴿ شَهِدْنَآ ﴾ الظاهر أن الضمير لله تعالى.﴿ عَنْ هَـٰذَا ﴾ الإِشارة إلى الميثاق والإِقرار بالربوبية.﴿ أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ﴾ وقرىء: أو تقولوا بالتاء والياء، المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله تعالى وعبادته لكانت لهم حجتان أحديهما كنا غافلين والأخرى كنا تبعاً لأسلافنا فكيف تعذب لذلك والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج.﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴾ هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا.﴿ وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي مثل هذا التفصيل الذي فصلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة.﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته.﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا ﴾ قال الجمهور: هو بلعام وهو رجل كنعاني أوتي بعض كتب الله تعالى والإِنسلاخ من الآيات مبالغة في البتري والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه. وقرأ الجمهور: ﴿ فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ من اتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك فاتبعه شهاب ثاقب أي عدا ورآه.
فنزلت جواباً لهم. ولما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالإِنصات وهو السكوت مع الإِصغاء إليه، لأن ما اشتمل على هذه الأوصاف فمن البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحضل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلالة ويرحم بها. والظاهر استدعاء الاستماع والإِنصات إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء.﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ الآية لما أمرهم تعالى بالاستماع والإِنصات إذا شرع في قراءته ارتقى من أمره تعالى إلى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح ولا تصويت كما تناجي الملوك وتستجلب منهم الرغائب، وكما قال عليه السلام للصحابة وقد جهروا بالدعاء:" إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً اربعوا على أنفسكم ".﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ ﴾ أي مالك أمرك والناظر في مصلحتك. وفي نفسك متعلق باذكر وتضرعاً وخيفة مفعولان من أجله أي لتضرع وخيفة أو مصدران منصوبان على الحال أي متضرعاً وخائفاً.﴿ وَدُونَ ٱلْجَهْرِ ﴾ معطوف على قوله: في نفسك، أي ذكراً في نفسك وذكراً دون الجهر.﴿ بِٱلْغُدُوِّ ﴾ إن كان جمعاً لغداة فهو مقابل بالجمع وهو بالآصال، وإن كان مصدراً لغداء فيكون على حذف تقديره بأوقات الغدو. والظاهر اقتصار الأمر بالذكر على هذين الوقتين. وقيل: المراد بهما الأوقات، واقتصر عليهما لأنهما ظرفان للأوقات.﴿ وَٱلآصَالِ ﴾ هي العشايا جمع أصل وهي العشية ولما أمره تعالى بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استدم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له والمراد أمته.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾ هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العندية الزلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواظبة عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم باخبار ثلاثة: الأول نفي الاستكبار عن عبادته وذلك هو أصل إظهار العبودية، ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأن المستكبر يرى لنفسه شقوفاً ومزيّة فيمنعه ذلك من الطاعة. الثاني إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدسة. والثالث السجود له تعالى ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن السوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى. وفي الحديث:" أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ".