( مكية، وآياتها ست ومائتان )
ﰡ
﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾لا يكن في صدرك ضيق بسبب إبلاغ الكتاب وتأدية ما أرسلت به إلى قوم لم يؤمنوا بكتاب، ولم يعتقدوا صدق رسالة، فتلقوك بالتكذيب والإعراض والأذى والتعنت، فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، ولا تبال بما يلقونك به، وهو كقوله تعالى :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير ﴾. والحرج : شدة الضيق( آية ١٢٥ الأنعام ص ٢٤١ )﴿ لتنذر به ﴾متعلق ب﴿ أنزل ﴾.
﴿ وكم من قرية أهلكناها ﴾وكثير من أهل القرى الذين أعرضوا عن الحق، وأصروا على الكفر، قصدنا إهلاكهم بسبب ذلك، فجاءهم عذابنا مرة وهم نائمون ليلا كقوم لوط، ومرة وهم قائلون نهارا كقوم شعيب، وهو إنذار لمشركي مكة. والبينات : قصد العدو ليلا. يقال : بيت القوم العدو بياتا، إذا أوقعوا به ليلا، وهو حال بمعنى بائتين. والقيلولة : نومة الظهيرة، أو الاستراحة نصف النهار ولو بلا نوم. يقال : قال قيلا وقيلولة، فهو قائل. والجملة حال بمعنى أو قائلين. وإنزال العذاب في هذين الوقتين وهما وقت الغفلة والدعة –أقسى وأفظع.
﴿ فلنسألن الذين ﴾أي فلنسألن يوم القيامة الأمم المرسل إليهم المكذبين لرسلهم عما أجابوا به رسلهم. والسؤال للتوبيخ، ولنسألن الرسل عن إبلاغ رسالتهم، لتقريع الأمم إذا أنكروا التبليغ.
﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾أي والوزن الحق- أي العدل الذي لا ظلم فيه لصحائف الأعمال-كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، وإنما توزن الصحائف يومئذ بميزان، لإظهار العدل الإلهي على رؤوس الأشهاد. وقيل : المراد بالوزن الحق العدل التام في القضاء بين العباد. ﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾بأن رجحت حسناته على سيئاته، جمع موزون.
﴿ ومن خفت موازينه ﴾بأن رجحت سيئاته على حسناته.
﴿ ولقد مكناكم ﴾تذكير بفنون من النعم توجب الإيمان. ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها. أو ما تتوصلون به إلى ذلك من المكاسب والتجارات. جمع معيشة، وهي في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة، إذا صار ذا حياة، ثم استعمل فيما يعاش به أو يتوصل به إلى العيش.
﴿ ولقد خلقناكم ثم صورنا كم... ﴾تذكير بنعمة أخرى، تستوجب شكرهم لسريانها إليهم.
أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير بأحسن تقويم سرى إليكم. أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم، بأن خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. و﴿ ثم ﴾على المعنيين للترتيب الزماني، وكذا في قوله ﴿ ثم قلنا ﴾.
﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾أي ما ألزمك واضطرك إلى ألا تسجد، فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار. أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد، فالمنع مجاز عن الحمل. والاستفهام للتوبيخ والتقريع، ولإظهار معاندته وكفره، وافتخاره بأصله، وحسده لآدم عليه السلام.
﴿ فاهبط منها ﴾أي من الجنة التي هي دار المتقين. أو من روضة كانت على نشز من الأرض خلق فيها آدم عليه السلام. ﴿ فاخرج إنك من الصاغرين ﴾أي من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك.
﴿ انظرني إلى يوم يبعثون ﴾أخرني ولا تمتني إلى يوم البعث، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة. وقد طلب بذلك النجاة من الموت، إذ لا موت بعد البعث، من الإنظار. تقول : أنظرته بحقي، أنظره إنظارا، أي أمهلته.
﴿ قال إنك من المنظرين ﴾من المؤخرين، أي إلى يوم الوقت المعلوم، كما في آية ٣٨ من سورة الحجر وآية ٨١ من سورة ص. وهو على المشهور : وقت النفخة الأولى فيموت كما يموت غيره. وقيل : المراد به الوقت المعلوم في علم الله أنه يموت فيه.
﴿ فبما أغويتني.. ﴾ أي فأقسم بإغوائك إياي. أو بسبب ذلك لأترصدنهم على طريق الحق وسبيل النجاة، كما يترصد قطاع الطريق السابلة فأصدنهم عنها. والإغواء : خلق الغي بمعنى الضلال. وأصل الغي الفساد، ومنه غوي الفصيل –كرضى ورمى-غوى، إذا بشم من اللبن ففسدت معدته، أو منع الرضاع فهزل وكاد يهلك، ثم يستعمل في الضلال. يقال : غوى يغوي غيا وغواية فهو غاو وغوي، إذا ضل. وأغواه غيره غواه : أضله.
﴿ اخرج منها مذءوما ﴾أي خرج من الجنة أم من تلك الروضة معيبا مهانا. يقال : ذأمه يذأمه ذأما، إذا عابه وحقره، فهو مذموم﴿ مدحورا ﴾ مطرودا مبعدا. يقال : دحره دحرا ودحورا، طرده وأبعده.
﴿ فوسوس لهما... ﴾ألقى إليهما الوسوسة. يقال : وسوس له وإليه. وهي في الأصل : الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي : وسواس. وأريد بها الحديث الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ليقارف الذنب. ﴿ ليبدي لهما.. ﴾ لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. و﴿ و وري ﴾ من المواراة وهي
الستر. والسوأة : فرج الرجل والمرأة، من السوء. وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها. وقيل : الكلام كناية. عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه﴿ إلا أن تكونا ملكين ﴾أي كراهة أن تكونا. أو لئلا تكونا ملكين.
﴿ فدلاهما بغرور ﴾فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية بما غرهما به من القسم، من التدلية، وهي إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، ومنه دلى الدلو في البئر. والغرور : إظهار النصح مع إبطان الغش. وأصله من غررت فلانا، أي أصبت غرته وغفلته، ونلت منه ما أريد.
﴿ و طفقا يخصفان.. ﴾ شرعا وأخذا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عورتهما لسترها، من الخصف، وهو خرز طاقات النمل ونحوه بإلصاق بعضها ببعض. وفعله من باب ضرب.
ولعل المعنى والله أعلم : أنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأكل منها ظهر لهما أنهما قد زلا، وخلعا ثوب الطاعة وبدت منهما سوءة المعصية، فاستحوذ عليهما الخوف والحياء من ربهما، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخفاء حتى لا يرى، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما يجتنان بها ويستتران، وما لهما إذ ذاك حيلة سوى ذلك. فلما سمعا النداء الرباني بتقريعهما ولومهما الهما أن يتوبا إلى الله ويستغفرا من ذنبهما، بكلمات من فيض الرحمة الإلهية، فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم، وقال لهما فقط أو لهما ولذريتهما، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من الجنة إلى الأرض، لينفذ ما أراده الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى، ومنازعة عدوهم لهم فيها، والله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا. والله أعلم بأسرار كتابه
﴿ أنزلنا عليكم لباسا ﴾أي وهبنا لكم بما هيأناه من الأسباب لباسين، لباس مداراة لعوراتكم وأجسامكم، ولباس زينة وتجمل. فقوله :﴿ وريشا ﴾أي لباسا ريشا، أي ذا ريش وزينة، أخذا من رش الطائر وهو زينته. وقيل :﴿ ريشا ﴾أي ما لا، من قولهم : تريش الرجل إذا تمول.
والمراد أعطيناكم اللباس للمواراة، والمال لتحصيل ما تحتاجون إليه. وهو امتنان منه تعالى على عباده بهذه النعم.
﴿ إنه يراكم هو قبيله ﴾تعليل للتحذير من متابعته بقوله :﴿ لا يفتننكم الشيطان ﴾ببيان أنه بمنزلة العدو المداجي يكيد لكم في خفية واستتار. وإن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله. ﴿ وقبيله ﴾جنوده من الجن، أو نسله. ﴿ من حيث لا ترونهم ﴾أي بصورهم الخلقية. أما إذا تمثلوا بصور أخرى فإنا نراهم كما وقع كثيرا.
﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾أي وإذا فعل المشركون فعلة متناهية في القبح، كالشرك، والطواف عراة بالبيت المعظم، واتخاذ البحائر والسوائب وغير ذلك من الكبائر فنهوا عنه- احتجوا بتقليد آبائهم، وأن الله تعالى أمرهم بها، فرد الله عليهم بأنه﴿ لا يأمر بالفحشاء ﴾وإنما يأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال، ويأمر بالعدل في الأمور كلها، وبان تخلصوا له عبادتكم، والطاعة في عامة أموركم.
وقوله :﴿ عند كل مسجد ﴾أي في وقت كل سجود، أو في مكان كل سجود. والمراد بالسجود : الصلاة. والمقصود بذلك إخلاص العبادة لله تعالى.
﴿ كما بدأكم تعودون ﴾تعليل للأمرين السابقين في قوله :﴿ و أقيموا ﴾وقوله :﴿ وادعوه ﴾أي أنه تعالى يعيدكم أحياء يوم القيامة للحساب والجزاء كما بدأكم، لا يعجزه عن ذلك شيء، فإن القادر على البدء قادر على الإعادة. وقيل : هو كلام مستأنف لتقرير قدرته على البعث، والرد على منكريه
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم ﴾كان بعض جهلة العرب يطوفون بالبيت عراة، ويحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم، فأنزل الله الآية. أي البسوا ثيابكم مداراة لعوراتكم عند كل عبادة من طواف وصلاة، وكلوا واشربوا ما أحل الله لكم، ولا تسرفوا بتحريم الحلال.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :﴿ من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾وهي ما أحله لهم، وما لا يحرمه الله فلا محرم له. ويقول لهم : إن النعم التي قد أفاضها الله على المؤمنين وأجراها عليهم، وهي غير خالصة لهم في الدنيا لمشاركة غيرهم لهم فيها، هي خالصة لهم يوم القيامة لحرمان الكفار من المتاع في الآخرة.
ويقول لهم :﴿ إنما حرم ربي الفواحش ﴾وهي كبائر المعاصي والآثام التي ترتكبون كثيرا منها﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾جهرها وسرها﴿ والإثم ﴾وحرم الإثم كله لما فيه من المفاسد﴿ والبغي ﴾و حرم البغي والظلم لما فيه من الضرر بالعباد. وعطف ﴿ الإثم ﴾على ما قبله من عطف العام على الخاص. وعطف ﴿ البغي ﴾على ﴿ الإثم ﴾من عطف الخاص على العام. وكذا ما بعده لمزيد الاعتناء به﴿ و أن تشركوا بالله ﴾وحرم عليكم أن تسووا به في العبادة إلها آخر لم ينزل به الله حجة وبرهانا﴿ وأن تقولوا.. ﴾ و حرم عليكم الافتراء على الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام، وغير ذلك مما تتقولونه على الله.
﴿ ولكل أمة أجل.. ﴾ أي مدة عمر وبقاء محدودة في علمه تعالى لا تتغير ولا تتبدل، كآجال آحاد الناس. فإذا جاء آخر عمرها فنيت لا محالة، لا يتأخر فناؤها عنه لحظة من الزمن ولا يتقدم عليه لحظة. والكلام كناية عن ذلك. وفيه وعيد لكفار مكة الذين كانوا يستعجلون العذاب الموعود استهزاء.
﴿ أولئك ينالهم نصيبهم ﴾أي ينالهم في الدنيا نصيبهم مما كتب لهم، من الأعمال والأرزاق والأعمار، مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون منه إلى انقضاء آجالهم، تفضلا منه تعالى، رجاء أن يصلحوا ويتوبوا. فإذا فرغ أجلهم جاءتهم رسل الموت يتوفونهم قائلين لهم توبيخا وتقريعا :﴿ أينما كنتم تدعون من دون الله ﴾أي تعبدونهم من دونه ليمنعونكم من عذابه.
﴿ قال ادخلوا في أمم ﴾أي يقول تعالى لهم يوم القيامة : ادخلوا النار في زمرة أمم مكذبة قد مضت من قبلكم، فقد حقت عليكم جميعا كلمة العذاب. ﴿ حتى إذا اداركوا فيها ﴾تلاحقوا في النار فأدرك بعضهم بعضا واجتمعوا فيها﴿ قالت أخراهم ﴾دخولا في النار. أو هم الأتباع﴿ لأولادهم ﴾السابقة، دخولا وهم المتبوعون﴿ ربنا هؤلاء أضلونا ﴾بدعوتهم إيانا إلى الضلال، أو بسنهم لنا ما سنوا من طرائق فاقتدنا بهم ﴿ فآتهم عذابا ضعفا ﴾ مضاعفا. والضعف : المثل مرة واحدة. وقيل : ضعف الشيء مثله إلى ما زاد عليه بلا نهاية، وليس مقصورا على المثلين. ﴿ من النار ﴾أي من عذابها. ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾أي في الدنيا بالاقتداء، بل كفرتم باختياركم، فلا دخل لنا في كفركم.
﴿ لا تفتح لهم أبواب السماء ﴾ أي لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم لفرط خبثها وفسادها.
﴿ و لا يدخلون الجنة.. ﴾ أي ولا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجسم فيما هو مثل في ضيق المسلك، وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه. والمراد : أنهم لا يدخلونها أبدا، لأن الشيء إذا علق بما يستحيل حصوله دل ذلك على استحالته، نحو : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، أو يبيض القار، أي لا أفعله أبدا. والولوج : الدخول بشدة : والسم : ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، والفتح أشهر، وجمعه سمام وسموم. وكل ثقب في البدن فهو سم. والخياط والمخيط- كإزار ومئزر-، ما يخاط به. والمراد هنا الإبره.
﴿ لهم من جهنم مهاد ﴾ أي لهم فراش من تحتهم فيها. وأصل المهاد : المتمهد الذي يقعد
ويضطجع عليه كالفراش ﴿ ومن فوقهم غواش ﴾ أغطية. جمع غاشية، وهي ما غشاهم فغطاهم كاللحاف ونحوه. المراد : أن النار تحيط بهم من تحتهم ومن فوقهم، كما في قوله تعالى :﴿ لهم من فوقهم ظل من النار ومن تحتهم ضلل ﴾.
﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ أي طاقتها وما تقدر عليه بسهولة، دون ما تضيق به ذرعا. وأصل الوسع : الجدة والطاقة. والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، ليبان أن الصالحات التي كانت سببا لدخولهم الجنة هي في وسعهم وطاقتهم.
﴿ من غل ﴾حقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا بمقتضى الطبيعة البشرية، والتدافع في المجتمع. والمراد أنه تعالى ينشئهم نشأة أخرى لا تحمل فيها صدورهم غلا، كما كانت في الدنيا.
﴿ أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾أي بسبب ما عملتم في الدنيا من الأعمال الصالحة. ولما كانت الأعمال الصالحة لا تنال إلا بتوفيق الله ورحمته، ولا يترتب عليها دخول الجنة إلا بقبول الله لها كان دخول الجنة في الحقيقة برحمته وتوفيقه وقبوله تعالى، لا بذات العمل، وفي الحديث :( لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله ).
{ فأذن مؤذن ) فأعلم معلم، أي مناد بين الفريقين، من التأذين وهو النداء والتصويت للإعلام. ومنه الأذان للصلاة.
﴿ و يبغونها عوجا ﴾ يطلبون السبيل معوجة. أي مائلة عن الحق( آية ٩٩آل عمران ص ١١٨ ).
﴿ و بينهما حجاب ﴾ وبين أهل الجنة وأهل النار حاجز عظيم، وهو السور المذكور في قوله تعالى :﴿ فضرب بنيهم بسور ). { وعلى الأعراف رجال ﴾أي وعلى أعراف الحجاب-أي أعاليه-رجال.
جمع عرف، وهو كل مرتفع من الأرض، لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض عنه. ومنه عرف الفرس. وعرف الديك، لارتفاعه على ما سواه من الجسد. وهؤلاء الرجال : أقوام من المؤمنين استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فحبسوا هناك حتى يقضي الله فيهم بما يشاء. فبينما هم كذلك إذ قال الله لهم : أنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم، فيكونون آخر أهل الجنة دخولا ممن لم يدخل النار.
﴿ يعرفون كلا ﴾ يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار﴿ بسيماهم ﴾ بعلاماتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجوه، ونضرة النعيم لأهل الجنة. وسواد الوجوه، وزرقة العيون لأهل النار.
و السيما : العلامة﴿ ونادوا أصحاب الجنة ﴾أي حين عرفوهم ﴿ لم يدخلوها.. ﴾ أي نادوهم وهو لم يدخلوا الجنة حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له.
﴿ تلقاء أصحاب النار ﴾ حيالهم ووجاهم. ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة.
﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم.. ﴾ يقول الله تعالى أو بعض الملائكة لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ؟ مشيرا إلى ضعفاء المؤمنين قد قيل لهم :﴿ ادخلوا الجنة ﴾ أو مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم يقول لهم : ادخلوا الجنة.
﴿ أفيضوا علينا ﴾ صبوا علينا شيئا﴿ من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ من سائر الأشربة، ليخفف عنا ما نحن فيه من شدة العطش والعذاب. أو أفيضوا علينا من الماء، وأطعمونا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة.
﴿ اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ﴾ فلم يرفعوا به رأسا ولم يعبثوا به. ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ خدعهم عاجل ما هم فيه من الدعة وخفض العيش والرفاهية، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى اجتالتهم المنايا﴿ و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ يقال : غره يغره غرا وغرورا وغرة، فهو مغرور وغرير، خدعه وأطعمه بالباطل. ﴿ فاليوم ننساهم ﴾فيوم القيامة نتركهم في العذاب جياعا عطاشا، لتركهم العمل والاستعداد للقاء يوهم هذا، ولجحودهم آيات الله وتكذيبها. فالكاف في قوله﴿ كما ﴾ للتعليل و﴿ ما ﴾ في قوله﴿ وما كانوا ﴾ معطوفة على﴿ ما ﴾في ﴿ كما نسوا ﴾.
﴿ هل ينظرون إلا تأويله ﴾أي هل ينتظرون إلا عاقبة هذا الكتاب وما يئول إليه أمره، من تبين صدقه، وظهور صحة ما أخبر به من الوعيد، والبعث والحساب. وتأويل الشيء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشيء. والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين، من حيث أن ما ذكر بأتيهم لا محالة.
﴿ يوم يأتى تأويله يقول.. ﴾ أي يوم القيامة يقول هؤلاء الذين تركوا القرآن وأعرضوا عنه﴿ قد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾.
﴿ خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ أنشأهم غير مثال سابق، وأنشأ ما بينهما كذلك في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا. أو في ستة أيام، وكل يوم مقداره ألف سنة من السنين التي نعدها. قال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على خلق السماوات والأرض-أي وما بينهما- في لمحة ولحظة، فخلقن في ستة أيام، تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور. ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ عرش الله تعالى –كما قال الراغب- : مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له-تعالى عن ذلك-لا محمولا، والله تعالى يقول :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ﴾. وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية. أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة-ومنهم الأئمة الأربعة- إلى أنه صفة لله تعالى بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه وتمثيل، لاستحالة اتصافه تعالى بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه تعالى عما لا يليق به﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ وأنه يجب الإيمان بها كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه تعالى. وقال الإمام الرازي : إن هذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه. وذهب جمهور المتكلمين إلى وجوب صرفه عن ظاهره لاستحالته. وإلى تأويله على التفصيل، وأن المراد منه-كما قال الإمام القفال - أنه استقام ملكه، واطرد أمره، ونفذ حكمه تعالى في مخلوقاته، والله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، تنبيها على عظمته وكمال قدرته، وذلك مشروط بنفى التشبيه، ويشهد بذلك قوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش يدبر الأمر ﴾ . ( راجع المسألة الرابعة من المقدمة ص٨ ) وقد ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن.
﴿ يغشى الليل النهار ﴾ التغشية : التغطية والستر. أي يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره، وهكذا دواليك في كل ليل ونهار، وبتعاقب الأمثال يستمر الاستبدال، فيتغير كل واحد منهما بالآخر، فكما يغطى النهار بالليل يغطى الليل بالنهار، وفي ذلك من منافع الخلق ما فيه وبه تتم الحياة، وهو دليل القدرة والحكمة والتدبير من الإله العلي العظيم. ﴿ يطلبه حثيثا ﴾ يطلب الليل النهار طلبا سريعا حتى يلحقه ويدركه. وهو كناية عن أن أحدهما يأتي عقب الآخر ويخلفه بلا فاصل، فكأنه يطلبه طلبا سريعا لا يفتر عنه حتى يلحقه. والحث على الشيء : الحض عليه. يقال : حث الفرس على العدو يحثه حثا، صاح به أو ووكزه برجل أو ضرب وذهب حثيثا أي مسرعا.
﴿ له الخلق والأمر ﴾ الخلق : إيجاد الأشياء من العدم. والأمر : التدبير والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه. فهو سبحانه الخالق والمدبر للعالم على حسب إرادته وحكمته، لا شريك له في ذلك.
﴿ تبارك الله رب العالمين ﴾كثر خيره وإحسانه، من البركة بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها : النماء والزيادة. أو ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، من البركة بمعنى الثبوت. يقال : برك البعير، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت ودام فقد برك. أو تعالى وتعظم وارتفع. أو تقدس وتنزه عن كل نقص.
﴿ ادعوا ربكم ﴾ سلوا ربكم حوائجكم، فإنه تعالى يسمع الدعاء ويجيب المضطر. وهو القادر على إيصالها إليكم، وغيره عن ذلك عاجز. ﴿ تضرعا ﴾ : تذللا واستكانة، من الضراعة، وهي الذلة والاستكانة. يقال : ضرع ضراعة، خضع وذل. وتضرع : أظهر الضراعة. حال من الضمير في﴿ ادعوا ﴾ أي متضرعين. ﴿ وخفية ﴾ أي سرا في أنفسكم. وقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وفي حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم-أي أرفقوا بها وأقصروا من الصياح-إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ). وهو تعليم للأدب في الدعاء.
﴿ وادعوه خوفا.. ﴾ خائفين من الرد، لقصوركم عن أهلية الإجابة. طامعين في الإجابة تفضلا منه تعالى وكرما. أو خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه. والخوف : انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل. والطمع : توقع أمر محبوب يحصل في المستقبل.
﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾رحمة الله : إفضاله وإنعامه على عباده، أو ثوابه. وتذكير﴿ قريب ﴾باعتبار معناها. أو لكون تأنيثها مجازيا، فيجوز في خبرها التذكير والتأنيث.
﴿ بشرا ﴾بضم فسكون الشين، مخفف﴿ بشرا ﴾بضمتين جمع بشير، كنذر ونذير، أي مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق. ﴿ أقلت سحابا ثقالا ﴾بما فيه من الماء. وحقيقة أقله : وجده قليلا ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله بزعم أن ما يرفعه قليل. و﴿ سحابا ﴾اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء، روعى معناه في قوله :﴿ ثقالا ﴾بما فيه من الماء. وحقيقة أقله : وجده قليلا ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله بزعم أن ما يرفعه قليل. و﴿ سحابا ﴾اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء، روعى معناه في قوله :﴿ ثقالا ﴾، ولفظه في قوله :﴿ سقناه ﴾. و﴿ ثقالا ﴾ جمع ثقيلة، من الثقل –كعنب-ضد الخفة. يقال : ثقل-ككرم-ثقلا وثقالة، فهو ثقيل وهي ثقيلة. ﴿ كذلك نخرج الموتى ﴾أي كما أحيينا الأرض بعد موتها بإحداث القوى النامية فيها، وإنزال الماء عليها، وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض، ونبعثهم أحياء في اليوم الآخر.
﴿ و البلد الطيب يخرج نباته ﴾الأول مثل ضربه الله تعالى للمؤمن، يقول : هو طيب وعمله طيب. والثاني مثل للكافر، يقول : هو خبيث وعمله خبيث، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة. ﴿ لا يخرج إلا نكدا ﴾أي لا يخرج نباته إلا قليلا عديم النفع. وأصل النكد : العسر القليل الذي لا يخرج إلا بعناء ومشقة. يقال : نكد عيشه ينكد، اشتد وعسر. ونكدت البئر : قل ماؤها، ومنه : رجل نكد ونكد وأنكد : شؤم عسر. وهم أنكاد ومناكيد.
﴿ لقد أرسلنا نوحا ﴾شروع في ذكر أنباء بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما وقع لهم مع أممهم المكذبة، تسلية له صلى الله عليه وسلم، وتثبيتا للمؤمنين ووعيدا وإنذارا للمكذبين. ﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾هذه دعوة جميع رسل الله إلى أقوامهم، فتوحيد العبادة شرعتهم كافة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهو الدين القيم والملة الحنفية والإسلام.
﴿ قال الملأ ﴾أشراف القوم وسادتهم ( آية ٢٤٧ البقرة ص ٨١ ). ﴿ في ضلال مبين ﴾في ذهاب عن الحق والصواب بين واضح. يقال : ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة، زل عنه فلم يهتد إليه.
﴿ و أنصح لكم ﴾أتحرى ما فيه صلاحكم وأرشدكم إليه، من النصح وهو تحرى قول أو فعل فيه صلاح للغير، أو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه. وأصله الخلوص، من قولهم : نصحت له الود، أي أخلصته، وأريد منه ماذكر مجازا. ويقال : نصحته ونصحت له، وباللام أفصح.
﴿ في الفلك ﴾أي السفينة، ويذكر ويستعمل واحدا وجمعا. ﴿ قوما عمين ﴾عمى البصائر عن الحق والإيمان، لا تنفع فيهم الموعظة، ولا يفيدهم التذكير. جمع عم صفة مشبهة. يقال : هو عم-كفرح-لأعمى البصيرة. وهو أعمى لأعمى البصر. وقيل هما بمعنى، كخضر وأخضر.
﴿ و إلى عاد أخاهم هودا ﴾و أرسلنا إلى عاد-وهم عاد الأولى-أخاهم هودا، وكانوا بالأحقاف باليمن. والأحقاف : الرمل الذي بين عمان وحضر موت. وكانوا عباد أصنام.
﴿ إنا لنراك في سفاهة ﴾
أي متمكنا في الحماقة وخفة العقل، حيث هجرت دين قومك إلى دين آخر لا يعرف.
﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾نعمه الكثيرة عليكم بشكرها. جمع إلى كحمل وأحمال، أو إلى، كقفل وأقفال. أو إلى، كمعي وأمعاء. أو إلى كقفا وأقفاء.
﴿ قد وقع عليكم من ربكم رجس ﴾أي نزل ووجب عليكم من قبل ربكم عذاب وسخط. والرجس : العذاب، من الارتجاس وهو الاضطراب، ثم شاع في العذاب لاضطراب من ينزل به. والغضب : السخط، أو اللعن والطرد. وعبر بالماضي لتحقق وقوعه.
﴿ وقطعنا دابر... ﴾استأصلناهم عن آجرهم بالريح العقيم، وهي ريح الدبور( آية ٤٥ الأنعام ص ٢٢٣ ).
﴿ و إلى ثمود أخاهم صالحا ﴾أي أرسلناه إليهم، وهي قبيلة من العرب تسمى عادا الثانية، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، في طريق الذاهب من المدينة إلى تبوك.
﴿ وبوأكم في الأرض ﴾جعل لكم مباءة فيها، أي منازل تسكنونها. يقال : بوأه منزلا أنزله وهيأه له ومكن له فيه. ﴿ و تنحتون الجبال ﴾ تنجرونها ﴿ بيوتا ﴾ تسكنون فيها، من النحت، وهو نجر الشيء الصلب. يقال : نحته ينحته- كيضربه وينصره ويعلمه-يراه... ﴿ و لا تعثوا في الأرض مفسدين{ العثو ﴾ : أشد الفساد( راجع آية ٦٠ البقرة ص ٣٠ ).
﴿ فعقروا الناقة ﴾ نحروها. وأصل العقر : قطع عرقوب البعير، ثم استعمل في النحر، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره. ﴿ وعتوا عن أمر ربهم ﴾استكبروا عن امتثاله، من العتو وهو النبو، أي الارتفاع عن الطاعة والتكبر عن الحق غلوا في الباطل. يقال : عتا يعتو عتوا وعتيا وعتيا، إذا تجاوز الحد في الاستكبار، فهو عات وعتى.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾أهلتهم الزلزلة الشديدة. يقال : رجفت الأرض ترجف رجفا، إذا اضطربت وزلزلت، ومنه الرجفان للأضطراب الشديد. وجاء في آية ٢٧ من سورة هود إهلاكهم بالصيحة من السماء التي زلزلت بها الأرض فكان إهلاكهم بهما. وذكروا في كل موضع واحدة منهما.
﴿ جاثمين ﴾باركين على الركب، أو مقيمين. والمراد أنهم هامدون صرعى لا حراك بهم، من الجثوم، وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإبل. يقال : جثم الطائر يجثم جثما وجثوما، فهو جاثم وجثوم، إذا وقع على صدره، أو لزم مكانه فلم يبرح.
﴿ و لوطا ﴾أي وأرسلناه لوطا، وهو ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وكان قد هاجر مع إبراهيم من أرض بابل إلى الشام، فنزل فلسطين، ونزل لوط الأردن، وبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى، وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة، وهي القرى المؤتفكات، بعث إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن الفاحشة التي اخترعوها ولم تكن معروفة في الناس قبلهم.
﴿ إنهم أناس يتطهرون ﴾أي يتنزهون عن الإتيان في هذا المأتى. يقال : تطهر الرجل أي تنزه عن الإثم. أرادوا به السخرية والاستهزاء بلوط ومن معه.
﴿ من الغابرين ﴾أي الباقين في العذاب. أو الباقين المعمرين، ثم هلكت فيمن هلك من قومها. والغابر : الباقي. يقال : غبر الشيء يغبر غبورا، بقى.
﴿ و أمطرنا عليهم مطرا ﴾أي نوعا عجيبا من المطر. بينه الله تعالى بقوله﴿ و أمطرنا عليهم حجارة من سجيل ﴾.
﴿ وإلى مدين أخاهم ﴾أي وأرسلنا إلى مدين- وهو ابن إبراهيم عليه السلام، سميت به القبيلة –شعيبا عليه السلام. وكانوا أهل كفر وبخس للمكيال والميزان، فدعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الخيانة فيهما. وعن السدى وعكرمة : أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة، وأصحاب الأيسكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة، وأنه لم يبعث نبي مرتين إلا شعيب عليه السلام. واختار ابن كثير : أنهما أمة واحدة، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الضلة أي السحابة، كما قال تعالى :﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾، ﴿ وأخذت الذين ظلموا الصيحة ﴾، ﴿ فأخذهم عذاب يوم الظلة ﴾.
﴿ فأوفوا الكيل والميزان ﴾( آية ١٥٢ سورة الأنعام ص ٢٤٨ )﴿ و لا تبخسوا الناس... ﴾و لا تنقصوهم
حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن في المبايعات، فإن ذلك خيانة. يقال : بخسه حقه يبخسه، إذا نقصه إياه.
﴿ ولا تقعدوا بلك صراط ﴾و لا تعقدوا بكل طريق من الطرق المسلوكة تخوفون من آمن بالقتل. أو تخوفون الناس أن يأتوا شعيبا، وتقولون لهم : إنه كذاب يريد أن يفتنكم عن دينكم. وجملة ﴿ توعدون ﴾وما عطف عليها في محل نصب على الحال من ضمير﴿ تقعدوا ﴾. ﴿ و تبغونها عوجا ﴾تودون سبيل الله معوجة( آية ٩٩ آل عمران ص ١١٨ ).
﴿ أو لو كنا كارهين ﴾أي أنعود إلى ملتكم-بمعنى نصير إليها- ولو كنا كارهين لها ؟ و الاستفهام للإنكار، أي لا نصير إليها في أي حال.
وكلام شعيب في قوله﴿ إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾مبني على التغليب، وإلا فإنه لم يكن في ملتهم من قبل ونجاه الله منها.
﴿ ربنا افتح.. ﴾ اقض واحكم بيننا وبينهم بالحق، من الفتح، وأصله إزالة الأغلاق، واستعمل في الحكم، لما فيه من إزالة الإشكال في الأمر. ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح- في لغة- لفتحه أغلاق الحق. وقيل للحكومة : الفتاحة، بضم الفاء وكسرها.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾الزلزلة الشديدة، وإسناد الإهلاك إليها هنا من الإسناد إلى السبب القريب. وإسناده إلى الصيحة في آية ٩٤ من سورة هود من الإسناد إلى السبب البعيد، إذ هي من أسباب الرجفة. وعلى ما اختاره ابن كثير يكون إهلاكهم بهما وبعذاب يوم الظلة كما سلف. ﴿ جاثمين ﴾( آية ٧٨ من هذه السورة ).
﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾كأن لم يقيموا في ديارهم ناعمي البال رخي العيش. يقال : غني بالمكان يغنى، أقام به وعاش في نعمة ورغد.
﴿ فكيف آسى ﴾أي فكيف أحزن عليكم. يريد : أنكم لستم مستحقين لأن يحزن عليكم. والأسى. الحزن. وحقيقته إتباع الفائت بالغم. يقال : أسيت عليه-كرضيت-أسى، حزنت.
﴿ و ما أرسلنا في قرية ﴾أي وما أرسلنا في قرية من القري المهلكة نبيا فكذبه أهلها، إلا أخذناهم بالبؤس والفقر والضر والمرض، كي يتذللون ويخضعوا ويبتهلوا إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
﴿ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة.. ﴾ ثم لما لم يفعلوا ذلك، واستمروا في كفرهم وعنادهم امتحناهم بضد تلك المحن استدراجا لهم، فأعطيناهم رخاء وخصبا، وغنى وسعة، وصحة وعافية. ﴿ حتى عفوا ﴾ كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. يقال : عفا النبات، وعفا الشحم إذا كثر وتكاثف. وأعفيته : تركته يعفو ويكثر، ومنه :﴿ اعفوا اللحي ﴾. ﴿ وقالوا قد مس آباءنا... ﴾وقالوا –لجهلهم أن ما أصابهم في الحالين ابتلاء من الله وامتحان-إن تلك عادة الدهر، يداول الضراء والسراء بين الناس، من غير أن تكون هناك داعية إليهما، أو تبعة تترتب عليهما، فأخذناهم إثر ذلك بالعقوبة فجأة﴿ و هم لا يشعرون ﴾ليكون ذلك أعظم لحسرتهم.
وفي هذه الآية بيان لسنن الله في الأمم المهلكة بسبب تكذيبها، تحذيرا وتخويفا من سوء العاقبة لمن هم على شاكلتهم في الكفر والتكذيب، ككفار قريش.
﴿ ولو أن أهل القرى ﴾أي ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاء به الرسل، واتقوا ما حرمه الله عليهم ﴿ لفتحنا عليهم بركات... ﴾لآتيناهم بركات من السماء والأرض، كالمطر والنبات والثمار، والأنعام والأرزاق، والأمن والسلامة من الآفات. جمع بركة، وهي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه، ثبوت الماء في البركة.
﴿ أفأمن أهل القرى ﴾أي أبعد ذلك الأخذ- لمن كذب واستكبر وعاند- والعلم به يأمن أهل مكة- وما حولها من القرى-المماثلون لمن سبقهم في التكذيب والعناد، أن ينزل بهم عذابنا ليلا وهم في غفلة وطمأنينة، أو نهارا وهم ساهون لا هون( آية ٤ من هذه السورة ).
﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾أي عذابه ونقمته ليلا أو نهارا، آمن ما يكونون منه. أو إدرار نعمه عليهم استدراجا لهم، حتى يمعنوا في الطغيان، ويزدادوا في العتو، فيهلكهم كما أهلك من قبلهم.
﴿ أو لم يهد.. ﴾ أي أو لم يبين لأهل مكة وما حولها ما جرى لأمم السابقة إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، كما أصبنا من قبلهم. ﴿ يهد ﴾أي يبين، والفاعل ضمير عائد على ما يفهم من سياق الكلام،
أي ما جرى للأمم المهلكة السابقة. و﴿ أن ﴾وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول. ﴿ و نطبع على قلوبهم ﴾أي ونحن نختم على قلوبهم، والجملة مستأنفة لإثبات حصول الطبع على قلوبهم.
﴿ فظلموا بها ﴾أي فجحدوا وكفروا بها ظلما وعلوا، والباء للتعدية. أو فظلموا أنفسهم بتكذيبها. أو ظلموا الناس بسبب صدهم عن الإيمان، والباء للسببية.
﴿ حقيق على أن لا أقول... ﴾أي جدير بألا أقول على الله غير الحق. وهو صفة﴿ رسول ﴾أو خبر بعد خبر، أو خبر متبدأ محذوف، أي أنا حقيق. و﴿ على ﴾بمعنى الباء.
﴿ فإذا هي ثعبان ﴾أي حية عظيمة ضخمة في الجثة، وإن كانت في خفة الحركة وسرعتها كأنها جان، وهي الحية الصغيرة.
﴿ ونزع يده ﴾أي أخرج يده اليمنى من طوق قميصه، لقوله تعالى :﴿ وأدخل يدك في جيبك ﴾. والجيب : طوق القميص. أو أخرجها من تحت إبطه، لقوله تعالى :﴿ واضمم يدك إلى جناحك ﴾.
والنزع : إخراج الشيء عن مكانه. ﴿ فإذا هي بيضاء ﴾بياضا عجيبا خارقا للعادة، إذ كان لها شعاع يغلب ضوء الشمس.
﴿ قالوا أرجه وأخاه ﴾أي قال الملأ لفرعون : أخر أمرهما، ولا تعجل بقضاء وفي شأنهما. وأصله، أرجئه، حذفت الهمزة وسكنت الهاء، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل. والإرجاء : التأخير. يقال : أرجيت هذا الأمر وأرجأته، إذا أخرته، ومنه :﴿ ترجى من تشاء منهم ﴾. ﴿ وأرسل في المدائن حاشرين ﴾وابعث في مدائن الصعيد بمصر رجالا يجمعون إليك السحرة منها، إذ كانت مقرهم، وكان السحر في زمن فرعون غالبا. يقال : حشر الناس-من باب ضرب ونصر-، جمعهم، ومنه : يوم الحشر والمحشر.
﴿ تلقف ما يأفكون ﴾ تبتلع وتلقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به. واللقف : التناول بسرعة. يقال : لقف الشيء يلقفه لقفا ولقفانا، أخذه بسرعة. والأفك : الكذب. يقال : أفك يأفك، وأفك يافك إفكا وأفكا-كضرب وعلم- إذا كذب. وأصله من الأفك- بفتح أوله-وهو صرف الشيء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه. وأطلق على الكذب إفك-بالكسر-لكونه مصروفا عن وجه الحق ثم صار حقيقة فيه.
﴿ وما تنقم منا ﴾أي ما تكره منا وتعيب( آية ٥٩ المائدة ص ١٩٧ )
﴿ ويذرك والهتك ﴾قال جمهور المفسرين : إن فرعون كان قد صنع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، وسمى نفسه الرب الأعلى. وقال الحسن : إنه كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله، وهو رب النوع الإنساني.
﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ﴾شروع في تفصيل مبادئ هلاكهم. والسنين : جمع سنة، أي عام الجدب والقحط. تقول العرب : مستهم السنة، وأسنتوا إذا قحطوا وأجدبوا، وأصابتنا سنية حمراء : أي جدب شديد، ومنه حديث :﴿ اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنى يوسف ﴾.
﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾أي قحط وجدب، وبلاء ومرض﴿ يطيروا بموسى ومن معه ﴾أي يتطيروا ويتشاءموا بهم. والأصل في إطلاق التطير على التشاؤم : أن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح، وهو ما ولاك مياسرة. وتتيمن بالسانح، وهو ما ولاك ميامنة. ومنه سموا الشؤم طيرا وطائرا
و التشاؤم تطيرا. وقد يطلق الطائر على الحظ والنصيب، خيرا كان أو شرا، ولكنه غالب في الشر. ﴿ إنما طائرهم عند الله ﴾إنما سبب شؤمهم أعمالهم السيئة المكتوبة عند الله، فهي التي ساقت إليهم ما يسوؤهم، وليس موسى عليه السلام ومن معه.
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾هو المعروف. وقيل : هو الموت الجارف، وكان بسبب الطاعون أو الجدري. والطوفان في الأصل : اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم، كالماء الكثير، والقتل الذريع، والموت الجارف. و﴿ القمل ﴾ضرب من القراد. أو هو السوس أو القمل المعروفان.
﴿ وقع عليهم الرجز ﴾أي نزل بهم العذاب بهذه الأمور الخسة التي أرسلها الله عليهم.
﴿ ينكثون ﴾ينقضون العهد الذي عاهدوه بقولهم :﴿ لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ﴾.
من النكث، وأصله فك طاقات الصوف والمغزول ليغزل ثانيا، ثم استعير لنقض العهد بعد إبرامه. يقال : نكث العهد والحبل ينكثه وينكثه، نقضه.
﴿ وما كانوا يعرشون ﴾يرفعون من الأبنية والقصور المشيدة. أو يجعلون له العروش من الثمار والأعناب.
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل ﴾شروع في قصتهم، وما أحدثوه بعد أن من الله تعالى عليهم بما من فيما ذكر من قصة فرعون معهم، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود في المدينة من الكيد والمكر والتدبير السئ، والعناد والجحود. ﴿ البحر ﴾ : بحر القلزم، وهو البحر الأحمر.
﴿ إن هؤلاء متبر ما هم فيه ﴾مكسر مهلك ما هم فيه من الدين الباطل وعبادة الأصنام. والتتبير : الإهلاك، أو التكسير والتحطيم. يقال : تبره يتبره وتبره، أهلكه.
﴿ و إذ أنجيناكم ﴾تذكير بنعم الله عليهم، إذ أنقذهم من أسر فرعون وقهره، ومما كانوا فيه من الهوان، وبما صاروا إليه من العزة، وبإغراق عدوهم وهم ينظرون، ومع ذلك قالوا :﴿ اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة ﴾. ﴿ يسومونكم ﴾يذيقونكم أو يكلفونكم أشد العذاب وأسوأه( آية ٤٩ سورة البقرة ص ٢٨ ).
﴿ وواعدنا موسى ﴾وعده الله تعالى أن يكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة يصومها، وهي شهر ذي القعدة، وقد صام أيامه ولياليه، ثم أمره أن يصوم عشرا بعدها، هي عشر ذي الحجة. ﴿ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾وهو كما قال تعالى في سورة البقرة :﴿ و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة ﴾.
﴿ و كلمه ربه ﴾أي أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه، فسمعه من غير واسطة بحرف وصوت، وهو لا يشبه كلام المخلوقين.
﴿ قال رب ارني أنظر إليك ﴾أي ارني ذاتك. والمراد : مكني من رؤيتك. أو تجل لي أنظر إليك وأراك.
﴿ قال لن تراني ﴾أي لن تطيق رؤيتي وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها، وتأييد النفي باعتبارهما. وأما في النشأة الأخرى فقد ثبت في الحديث الصحيح : أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة وفي روضات الجنات، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ﴾. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾. وفي الآية دلالة على إمكان الرؤية في ذاتها، لأنه تعالى علقها على استقرار الجبل وهو ممكن، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه، وإليه ذهب أهل السنة. ﴿ فإن استقر مكانه ﴾و لم يفتته التجلي﴿ فسوف تراني ﴾إذا تجليت لك﴿ فلما تجلى ربه للجبل ﴾ظهر له على الوجه اللائق بجلاله، ﴿ جعله دكا ﴾أي مدقوقا مفتتا. والدك والدق بمعنى، وهو تفتيت الشيء وسحقه. وفعله من باب رد. قال الآلوسي : وهو من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم، وهو أسلم وأحكم. ﴿ وخر موسى صعقا ﴾مغشيا عليه، لعظم ما رأى من النور الذي حصل به التجلى. يقال : صعقتهم السماء تصعقهم تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء. ﴿ تبت إليك ﴾من الإقدام على السؤال بغير إذن.
﴿ وكتبنا له في الألواح ﴾أي في ألواح التوراة من كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح. ﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾أي بحسنها وكلها حسن، أو بما هو أحسن وأكثر ثوابا في كل شيء.
﴿ حبطت أعمالهم ﴾بطلت أعمالهم التي عملوها في الدنيا من البر والإحسان والخير، فلا ثواب لهم عليها،
﴿ و اتخذ قوم موسى من بعده ﴾أي من بعد ذهاب موسى إلى جبل المناجاة إلاها معبودا على صورة العجل المعروف، صاغه لهم موسى السامري- وكانت صناعته الصياغة- من الحلي الذي استعاروه من القبط قبيل الغرق، وبقي في أيديهم بعده. وطلب منهم أن يعبدوه، وقال لهم :﴿ هذا إلهكم وإله موسى فنسى ﴾ فعكفوا على عبادته. ﴿ عجلا جسدا ﴾أي جثة لا يعقل ولا يميز، أو جسدا، أي أحمر ظاهر الحمرة لكونه مصنوعا من الذهب. والجسد : الدم اليابس، والزعفران أو نحوه من الصيغ، ومنه ثوب مجسد، مصبوغا بالزعفران أو أحمر. ﴿ له خوار ﴾ أي صوت يشبه صوت البقر، إذ صاغه على صورة العجل، وجعله مجوفا، ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، وجعله في مهب الريح، فإذا هبت الريح سمع لهذه الأنابيب صوت يشبه خوار العجل. وقرئ ﴿ جؤار ﴾أي صوت شديد. وفي هذين الوصفين تقريع لهم، وتبكيت بشدة الجهل، إذ ليس من شأن الإله أن يكون كذلك.
﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ﴾ هو كقوله تعالى :﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ﴾، يقرعهم على فرط جهالتهم وضلالتهم، إذ عبدوا عجلا جسدا له خوار، لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير، ولا يملك لهم نفعا ولا ضرا، وذهلوا عن عبادة الخالق رب العالمين.
﴿ اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾أي اتخذوا هذا العجل إلاها معبودا، مع كونه مصنوعا بأيديهم، فظلموا أنفسهم بهذا الجهل، وأوردوها مورد الهلاك.
﴿ ولما سقط في أيديهم ﴾أي ولما ندموا أشد الندم على عبادة العجل، وتبينوا ضلالهم بها تبينا ظاهرا﴿ قالوا لأن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾و كان ذلك بعد عودة موسى من الميقات. يقال للنادم المتحير : سقط في يده، والأصل سقط فمه في يده، فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول، كما في مر بزيد. وهو من الكناية، لأن من شأن الإنسان إذا اشتد ندمه على شيء أن يعض يده، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فمه وقع فيها. وما كان سقوط الأفواه في الأيدي لازما للندم أطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية. وهذا التركيب لم تعرفه العرب إلا بعد نزول القرآن، ولم يوجد في أشعارهم ومنثورهم، فهو من فرائده البليغة.
﴿ أسفا ﴾شديد الغضب. أو حزينا مما حدث منهم من عبادة العجل. يقال : أسف يأسف أسفا، اشتد غضبه أو حزن فهو أسف وأسيف. ﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾أسبقتم بعبادة العدل ما أمركم به ربكم. وهو انتظاري حافظين لعهدي وما وصيتكم به من التوحيد وإخلاص العبادة لله، حتى آتيكم بكتاب الله فغيرتم وعبدتم العجل. يقال : عجلت الشيء، أي سبقته. ﴿ و ألقى الألواح ﴾و ضعها على الأرض حين رأى ما رأى من قومه، واشتد غضبه حمية للدين، أو غيرة من الشرك برب العالمين، لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه. وعبر عن هذا الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه، حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه.
﴿ و كادوا يقتلوني ﴾ قاربوا قتلى حين نهيتهم عن عبادة العجل، فلم أقصر في منعهم منها.
﴿ فلا تشمت بي الأعداء ﴾لا تسرهم بما تنال مني من مكروه. والشماتة : الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك. يقال : شمت به يشمت شماتا وشماتة، إذا فرح بمصيبة نزلت به. وأشمته الله به.
﴿ أخذ الألواح ﴾أي التي كان ألقاها. وظاهر الآية أن الألواح لم تتكسر، ولم يرفع من التوراة شيء وأنه أخذها بعينها. ﴿ وفي نسختها ﴾أي فيما نسخ فيها وكتب. فنسخة بمعنى منسوخة، كخطبة بمعنى مخطوبة، والنسخ : الكتابة. والاضافة بيانية أو بمعنى في ﴿ لربهم يرهبون ﴾أي يخافون أشد الخوف من ربهم.
﴿ و اختار موسى قومه ﴾أمر الله موسى أن يأتيه في ناس من قومه ممن لم يعبدوا العجل، يعتذرون عمن تركوهم وراءهم من عبدة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى منهم سبعين رجلا وذهب بهم إلى الطور، وسألوا الله أن يكشف عنهم البلاء ويتوب على من عبد العجل، فأخذتهم في ذلك المكان الرجفة، وهي الزلزلة الشديدة التي غشي عليهم بها من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر، ولم يأمروهم بالمعروف، ثم أفاقوا، وكان ذلك لتأديبهم على تقصيرهم. فالسبعون هنا غير السبعين الذين كانوا مع موسى حين التكليم، والميقات غير الميقات، وإلى ذلك ذهب بعض المسفرين، وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم.
﴿ قال رب لو شئت... ﴾قال موسى هذا القول لاستجلاب العفو عن هذه الجريمة التي اقترفها قومه، بعد ما من الله عليهم بالنعم السابغة الوافرة، وأنقذهم من فرعون وقومه.
﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ﴾ أقسم لنا في الدنيا ما يحسن من نعمة وطاعة، وعافية وتوفيق.
﴿ وفي الآخرة ﴾ المثوبة الحسنى، أو المغفرة والرحمة، أو الجنة. ﴿ إنا هدنا إليك ﴾تعليل لطلب الحسنة في الدارين، أي لأننا تبنا إليك من المعاصي التي جئناك للاعتذار منها... يقال : هاد يهود، إذا رجع وتاب. ﴿ قال عذابي أصيب به... ﴾جواب من الله تعالى لنبيه موسى بإجابة سؤله بقبول توبة قومه. وحاصله- كما قال الآلوسي- : إن عذابي الذي تخشى أن يصيب قومك أصيب به من أشاء، فلا يتعين قومك لأن يكونوا غرضا له بعد توبتهم ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾فلا تضيق عن قومك. كيف- وقد تابوا ووفدوا إلي- أردهم خائبين، بل إني سأرحمهم، وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم وذراريهم الذين يأتون من بعدهم، ويتصفون بما يرضيني ويقومون بما آمرهم به، وهم من أدركوا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوه إيمانا به وبما جاء من نعوته في التوراة والإنجيل، فيكونن ممن آمن بالكتابين، وأفلح في الدارين. ووصف أخلافهم بما وصفوا به لاستنهاض همم بني إسرائيل إلى الثبات على التوبة، وما يوجب الفلاح من الطاعة. والقصر المستفاد من الجملة قصر نسبي، أي فسأجعلها خاصة بهؤلاء دون من بقى منهم على دينه ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بعثته.
﴿ النبي الأمي ﴾ الذي لا يكتب ولا يقرأ، نسبة إلى أمة العرب، لأن الغالب عليهم ذلك. أو إلى الأم، كأن الذي لا يكتب ولا يقرأ باق على حالته التي ولد عليها.
وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالأمية إشارة إلى أن كمال علمه مع ذلك إحدى معجزاته، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتفق له مطالعة كتاب، ولا مصاحبة معلم، لأن مكة لم تكن بلدة العلماء، ولا غاب عنها غيبة طويلة يمكن التعلم فيها، ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم، وعلمه ما لم يكن بعلم من سائر العلوم والفنون التي اشتملت عليها أحاديثه، وتعلمها الناس منه، وكانوا بها أئمة العلماء، وقادة المفكرين.
فما من شيء يحتاج إليه الفرد أو الأمة في الحياتين إلا للرسول صلى الله عليه وسلم هدي فيه، وقول سديد وبيان شاف، فأكرم بأمية تضائل عندها علم العلماء في كل العصور. وأعظم بها وهي الهدي والاسوة والنور. وقد ذكره الله في التوراة والإنجيل باسمه ونعوته، صلى الله عليه وسلم.
﴿ ويحل لهم الطيبات ﴾أي ما طاب في حكم الشرع كالشحوم ﴿ ويحرم عليكم الخبائث ﴾ أي ما خبث في حكم الشرع كالربا، فالمدار على حكم الشرع في حل الأشياء وحرمتها، لا على الرأي والفكر
﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال.. ﴾ يخفف عنهم ما ألزموا العمل به من التكاليف الشاقة الشديدة في التوراة، كقطع موضع النجاسة من الثوب، وإحراق الغنائم وتحريم السبت، وتعين القصاص في القتل مطلقا دون شرع الدية ونحو ذلك. والإصر في الأصل : الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك. والأغلال : جمع غل، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، وتسمى الجامعة. والمراد بهما ما ذكر. ﴿ و عزروه ﴾ عظموه ووقروه ﴿ و نصروه ﴾أي على أعدائه في الدين، وإذا أخذ في معنى التعزيز النصرة يكون عطف ﴿ نصروه ﴾ عليه من عطف اللازم على ملزومه.
﴿ قل يا أيها الناس ﴾ أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما فيه تبكيت اليهود، وإعلام بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ردا على زعمهم أنه مرسل للعرب خاصة.
﴿ و من قوم موسى... ﴾ وهم أناس كانوا على خير وصلاح في عهد موسى عليه السلام، مخالفين لأولئك السفهاء من قومه. وقيل : هم من آمن من اليهود بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ و قطعناهم اثنتى عشرة أسباطا... ﴾أي صيرناهم اثنتي عشرة أمة لتتميز كل أمة عن الأخرى، ويقال لكل واحدة : سبط. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب. والسبط : ولد الولد أو الولد.
﴿ فانبجست ﴾انفجرت. يقال : بجست الماء أبجسه فانبجس، بمعنى فجرته فانفجر. ﴿ اثنتا عشرة عينا ﴾ لكل سبط عين، وكان ذلك في التيه. ﴿ و ظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى ﴾( آية ٥٧ البقرة ص ٣٩ ){ هذه القرية ) هي بيت المقدس أو أريحاء.
﴿ وقولوا حطة ﴾ أي قولوا مسألتنا حطة، أي أن تحط عنا خطايانا( آية ٥٨ البقرة ص ٣٠ ).
﴿ رجزا من السماء ﴾ عذابا من السماء أهلكهم ( آية ٥٩ البقرة ص ٣٠ ).
﴿ حاضرة البحر ﴾ أي قريبة من بحر القلزم – البحر الأحمر- مشرفة على شاطئه. والأكثرون على أنها آيلة. وقيل مدين، وقيل طبرية. ﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ يعتذرون في يوم السبت حدود الله بصيد الحيتان فيه وقد نهو عنه. يقال : عدا فلان الأمر واعتدى، إذا تجاوزه، ﴿ شرعا ﴾شارعة ظاهرة على وجه الماء من كل ناحية كشوارع الطرق، دانية من الساحل. جمع شارع، من شرع عليه إذا دنا وأشرف. وكل شيء دنا من شيء فهو شارع. ودار شارعة : إذا دنت من الطريق. ﴿ ويوم لا يسبتون ﴾ ويوم لا يعظمونه تعظيم السبت، وذلك سائر الأيام غير يوم السبت. يقال : سبت فلان – كنصر وضرت- إذا عظم السبت. ﴿ لا تأتيهم ﴾ حيتانهم. اختبرهم الله بإظهار الحيتان لهم على ظهر الماء يوم السبت وإخفائها عنهم في غيره.
﴿ و إذ قالت أمة منهم ﴾ افترق أهل القرية ثلاث فرق : فرقة اعتدت بالصيد يوم السبت. وفرقة نهت عنه. وفرقة سكنت فلم تفعل ولم تنه عنه، وقالت للناهية :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ فأجابتها بأنا فعلنا ذلك معذرة إلى الله لوجوب النهي عن المنكر، وجائز أن ينتفعوا بها. فلما تركوا ما وعظوا به أخذهم الله بالعذاب الشديد، ونجى الفرقة الناهية. وأما الثالثة فقيل إنها ناجية، وقيل هالكة، والأول أصح. ﴿ قالوا معذرة ﴾ أي نعظهم لأجل المعذرة إلى الله تعالى، وطلب عفوه ومغفرته، فهو منصوب على المفعول لأجله، والمعذرة : مصدر كالمغفرة. يقال : عذره يعذره عذرا ومعذرة، وهي التنصل من الذنب.
﴿ بعذاب بئيس ﴾ شديد وجيع، من بؤس يبؤس بأسا، إذا اشتد.
﴿ عتوا عما نهوا عنه ﴾ تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وأبوا أن يرجعوا عن المعصية. يقال : عتا يعتو عتوا وعتيا، استكبر وجاوز الحد. ﴿ خاسئين ﴾ صاغرين أذلاء، مبعدين عن كل خير. ( آية ٦٥ البقرة ص ٣٢ ).
﴿ و إذا تأذن ربك ﴾ أي أعلم ربك أسلاف اليهود بأنهم إن غيروا وبدلوا، ولم يؤمنوا بأنبيائهم ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم ما يسوؤهم ويغمهم من أنواع العذاب. و﴿ تأذن ﴾ بمعنى آذن أي أعلم. يقال : آذنه الأمر وبالأمر، أعلمه. وأذن تأذينا : أكثر الإعلام.
﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ فرقناهم في أقطار الأرض فرقا حتى لا تكون لهم شوكة ﴿ منهم الصالحون ﴾ أي المؤمنون ﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ وهم غير المؤمنين.
﴿ و بلوناهم بالحسنات ﴾ عاملناهم معاملة المبتلي المختبر بالنعم والخصب والعافية، وبالجدب والشدائد، ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم، يقال : بلاه يبلوا بلوا، وابتلاه ابتلاء، إذا جربه واختبره.
﴿ فخلف من بعدهم... ﴾ فجاء من بعد هؤلاء الذين فيهم الصالح وغير الصالح خلف لا خير فيهم، وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم. والخلف : القرن مجيء بعد القرن. وهو بسكون اللام شائع فيمن يخلف بالسوء، ويفتحها فيمن يخلف بالخير. ﴿ يأخذون عرض... ﴾يأخذون عوضا عن قول الحق متاع هذه الحياة الدنيا، وهو الرشوة في الأحكام، والرشوة على التحريف. والعرض : متاع الدنيا وحطامها. و﴿ الأدنى ﴾ الأقرب، والمراد به الدنيا، وهي من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة.
﴿ و إن يأتهم عرض... ﴾ أي وإن أتاهم شيء من حطام الدنيا أخذوه، حلالا كان أو حراما، ويتمنون على الله المغفرة. وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه، وذلك لشدة حرصهم على الدنيا وإصرارهم على المعاصي.
﴿ و الذين يمسكون ﴾ أي والذين يتمسكون بالكتاب الأول وهو التوراة فلم يحرفوه ولم يغيروه، فأداهم ذلك إلى الإيمان بالكتاب التالي والعمل به وهو القرآن- فإنا لا نضيع أجرهم. نزلت في مؤمني أهل الكتاب. يقال : مسكت ومسكت بالشيء وتمسكت به، واستمسكت به وأمسكت به بمعنى.
﴿ وإذ نتقنا الجبل.. ﴾ زعزعنا جبل الطور، ورفعنا فوق رؤوسهم كأنه غمامة أو سقيفة، وهو كما قال تعالى :﴿ و رفعنا فوقكم الطور ﴾ من النتق وهو الزعزعة والرفع والجذب بشدة. يقال : نتق الشيء ينتقه وينتقه نتقا، جذبه واقتلعه. والظلة في الأصل : كل ما أظلك من سقف أو غيره.
﴿ و إذ أخذ ربك... ﴾ أي أخرج من ظهر آدم ذريته كهيئة الذر، ثم أخرج من هذا الذر ذريته كذلك، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته كذلك. وهكذا إلى آخر النوع الإنساني. ﴿ و أشهدهم على أنفسهم ﴾ قررهم جميعا بربوبيته لم. والشهادة على النفس إقرار. ﴿ قالوا بلى ﴾ أ ي قالوا أنت ربنا ﴿ شهدنا ﴾أقررنا على أنفسنا بربوبيتك. ﴿ أن تقولوا ﴾أي لئلا تقولوا. أو كراهة أن تقولوا.
والمعنى على ما ذهب إليه جمع من المفسرين : أنه تعالى نصب للناس في كل شيء من مخلوقاته ومنها أنفسهم –دلائل توحيده وربوبيته، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفتها، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، حتى صاروا بمنزلة من إذا دعي إلى الاعتراف بها سارع إليه دون شك أو تردد. فالكلام على سبيل المجاز التمثيلي، لكونهم في مبدأ الفطرة مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى التوحيد، ولا إخراج للذرية، ولا قول ولا إشهاد بالفعل.
وذهب جمع من السلف : إلى أن الله تعالى أخرج من ظهر آدم ذريته كالذر، وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق، وألهمهم ذلك الإقرار، لحديث رواه عمر رضي الله عنه. وقد أفاض العلامة الآلوسي في هذا المقام، فأرجع إليه إن شئت.
﴿ واتل عليهم نبأ... ﴾ أي اذكر لهم قصة رجل من بني إسرائيل أوتي علما ببعض كتب الله، ثم كفر بها ونبذها وراء ظهره﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ لحقه وأدركه فصار قدوة ومتبوعا للشيطان. أو فأتبعه الشيطان خطواته وجعله تابعا لها﴿ فكان من الغاوين ﴾ فصار في زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا
﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ أي لرفعناه إلى منازل الأبرار، بسبب تلك الآيات التي آتيناه إياها والعمل بما فيها ﴿ أخلد إلى الأرض ﴾ ركن إلى الدنيا واطمأن بها. يقال : خلد إلى كذا وأخلد إليه، ركن.
﴿ إن تحمل عليه يلهث... ﴾أي إن شددت عليه وأجهدته لهث وإن تركته على حاله لهث، فهو دائم اللهث في الحالين، لأن اللهث طبيعة فيه، فكذلك حال الحريص على الدنيا، إن وعظته فهو لحرصه لا يقبل الوعظ، وإن تركت وعظه فهو حريص، لأن الحرص طبيعة فيه، كما أن اللهث طبيعة في الكلب. واللهث : إدلاع اللسان بالنفس الشديد. يقال : لهث الكلب – كسمع ومنع- بلهث لهثا ولهاثا، إذا أخرج لسانه في التنفس.
﴿ ذرأنا... ﴾خلقنا. يقال : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذرءا، خلقهم. أخبر الله أنه خلق كثيرا من الثقلين لجهنم، وهم الكفار المعرضون عن الآيات وتدبرها، الذين علم منهم أزلا اختيارهم الكفر، فشاءه منهم وخلقه فيهم، وجعل مصيرهم النار لذلك. واللام في ﴿ لجهنم ﴾ للعاقبة والصيرورة.
﴿ يلحدون في أسمائه ﴾ يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل. يقال : ألحد إلحادا، إذا مال عن القصد والاستقامة. وألحد في دين الله : حاد عنه. ومن إلحادهم في أسمائه تسمية أصنامهم بأسماء مشتقة منها، كاللات : من الله، والعزى : من العزيز، ومناة : من المنان. وتسميته تعالى بما يوهم معنى فاسدا، كقولهم له : يا أبيض الوجه.
﴿ وبه يعدلون ﴾ وبالحق يقضون وينصفون الناس. والمراد بهذه الأمة : أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم :( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك ) رواه الشيخان. وقيل : هم من آمن أهل الكتاب.
﴿ سنستدرجهم ﴾سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، بإدرار النعم وتواترها عليهم مع أنهما كهم في الضلال، حتى يفاجئهم الهلاك وهم غافلون. وقد قيل : إذ رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج. وأصل الاستدراج : الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد رجة. وهو استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد أخرى، من سفل إلى علو، أو بالعكس.
﴿ وأملي لهم ﴾ أمهلهم ملاوة من الدهر وهي المدة الطويلة، من الإملاء، وهو الإمهال وإطالة المدة.
﴿ ما بصاحبهم من جنة ﴾ من خبل وجنون، من الجن، وهو الستر عن الحاسة( آية ٧٦ الأنعام ص ٢٢٩ ). والخبل يجن العقل ويستره، و﴿ ما ﴾ نافية، والمقصود تنزيه للنبي صلى الله عليه وسلم عما نسبوه إليه. وقيل : استفهامية إنكارية، أي أي شيء بصاحبهم من الجنون.
﴿ ملكوت ﴾هو الملك العظيم. زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة، كما في جبروت. ﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ أي فبأي كلام بعد القرآن العظيم يصدقون.
﴿ يعمهون ﴾ يترددون متحيرين ( آية ١٥ البقرة ص ١٨ ).
﴿ أيان مرساها ﴾ أي متى إثباتها واستقرارها، والمراد متى قيامها. أيان : ظرف زمان متضمن معنى
الاستفهام بمعنى متى، في محل رفع خبر مقدم، و﴿ مرساها ﴾ مبتدأ مؤخر. وهو مصدر ميمي، من أرساه إذا أثبته وأقره. ﴿ ثقلت في السماوات والأرض ﴾ شقت أو عظمت على أهلهما، لخوفهم من شدائدها وأهوالها، من الثقل ضد الخفة. و﴿ في ﴾ بمعنى على. ﴿ بغتة ﴾ فجأة، على حين غفلة منكم.
﴿ كأنك حفي عنها ﴾أي كأنك عالم بها، من حفي عن الشيء، إذا بحث عن تعرف حاله، ومن بحث عن شيء وسأل عنه استحكم علمه به، فأريد به لازم معناه مجازا أو كناية. وعدى﴿ حفي ﴾ بعن اعتبارا لأصل معناه، وهو السؤال والبحث.
﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ نزلت الآية في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، بوسوسة إبليس لحواء- وكان يسمى بين الملائكة الحرث- حين علم موت أولادهما، وحرصهما على حياتهم، فزين لها أنها إذا سمت ابنها بهذا الاسم عاش، ففعلت وأقرها آدم على هذه التسمية، وهو ليس شركا في العبادة وإنما هو شرك في التسمية، وهو خلا ف اللائق بهما، وذا عوتبا عليه.
والتعبير الجمع في قوله﴿ شركاء ﴾ لأن من استساغ الشركة في التسمية في واحد استساغها في الأكثر.
وقيل : المراد بالنفس الواحدة آدم، وبالزوج حواء، وقد دعوا ربهما حين أثقلها الحمل : لئن آتيتنا ولدا صالحا لنكونن من الشاكرين،
فلما أتاهما صالحا جعل أولادهما من بعدهما الله شركاء فيما آتى أولادهما من الأولاد وعلى المعنيين قد تم الكلام بقوله :﴿ فيما آتاهما ﴾ثم ابتدأ بالخبر عن الكفار بقوله :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾. وقوله :﴿ تغشاها ﴾أي تدثرها لقضاء شهوته، وهو كناية عن ذلك بديعة. ﴿ أثقلت ﴾صارت ذات ثقل بكبر الحمل، فالهمزة للصيرورة. ﴿ لئن آتاتينا صالحا ﴾ رزقنا نسلا سويا صالحا لعمارة الأرض﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ لنعمائك.
﴿ إن الذين تدعون ﴾أي إن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتعتقدون فيها النفع والضر إنما هي عباد مملوكة لله تعالى، مسخرة مذللة لقدرته- أمثالكم فيكف تعبدونها ؟ وأطلق عليها ﴿ عباد ﴾مع أنها جماد وفق اعتقادهم فيها، تبكيتا لهم توبيخا.
﴿ فلا تنظرون ﴾فلا تمهلوني ساعة بعد تدبير كيدكم مستعيذين بشركائكم، فإني لا أبالي بكم، من النظر بمعنى التأخير والإمهال.
﴿ خذ العفو... ﴾أي أقبل ما عفا وتيسر من أخلاق الناس، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ويرهقهم حتى لا ينفروا. ﴿ وأمر بالعرف ﴾أي بالمعروف المستحسن من الأفعال، وهو كل ما عرف حسنه في الشرع، فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير﴿ و اعرض عن الجاهلين ﴾ وهذه الآية أجمع آية في القرآن لمكارم الأخلاق
﴿ وإما ينزغنك من الشيطان ﴾و إن تعرض لك من الشيطان وسوسة فاستجر بالله وألجأ إليه في دفعها عنك، من النزغ بمعنى النخس والغرز، وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا ونحوها في الجلد، وإطلاقه على الوسوسة مجاز
﴿ مسهم طائف من الشيطان ﴾ لمة منه ووسوسة، بما فيه صد عما يجب حقا لله تعالى أو للعباد، مريدا بذلك اقتناصهم وإفسادهم يقال : طاف بالشيء، إذا دار حوله
﴿ وإخوانهم يمدونهم ﴾ وإخوان الشياطين من المشركين تزيدهم الشياطين في الضلال بالوسوسة والإغراء بالمعاصي، من المد وهو الزيادة، يقال : مده يمده زاده و﴿ الغي ﴾ الضلال، مصدر غوى يغوي غيا وغواية. ﴿ ثم لا يقصرون ﴾ ثم لا يكفون عن ذلك الإغواء حتى يردوهم بالكلية، من أقصر عن الشيء، إذا كف عنه ونزع مع القدرة عليه. أو ثم لا يكف هؤلاء الناس عن الغي بل يتمادون فيه.
﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾ قالوا تهكما : هلا جمعتها عن عند نفسك. يقال : جبيت الماء في الحوض، جمعته، ومنه قيل للحوض : جابية لجمعه الماء. أو هلا اخترعته عن نفسك. يقال : اجتبيت الكلام واختلقته وانتحلته واخترعته، إذا افتعلته من قبل نفسك.
﴿ و اذكر ربك في نفسك ﴾ أي استحضر عظمته جل جلاله في قلبك﴿ تضرعا ﴾متضرعا متذللا له﴿ و خيفة ﴾ خائفا منه تعالى متذللا له. ﴿ و دون الجهر من القول ﴾ عطف على( في ) في نفسك أي اذكر ربك ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر. والمراد بالجهر : رفع الصوت بإفراط، وبما دونه ما هو أقل منه، وهو الوسط بين الجهر والمخافتة. ﴿ بالغدو ﴾ وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. ﴿ و الآصال ﴾ جمع أصيل، وهو من العصر إلى الغروب. والمراد : دوام الذكر واتصاله بقدر الإمكان. أي اذكر الله في كل وقت، وراقبه في كل حال.
﴿ ويسبحونه ﴾ ينزهونه عن كل مالا يليق بجلاله على أبلغ وجه وأكمله. ﴿ يسجدون ﴾ يخضعون له تعالى ويعبدونه. والله أعلم.