تفسير سورة سورة النجم من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة النجم مكية
وهي إحدى أو اثنتان وستون آية وثلاث ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ والنجم إذا هوى ﴾ أقسم بالثريا إذا غاب، أو بجنس النجم إذا انقض، ورمى به الشياطين، أو بالقرآن وقد نزل منجما إذا نزل من السماء، أو بالنجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وعن السلف : الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق،
﴿ ما ضل ﴾ : ما عدل عن الطريق المستقيم، ﴿ صاحبكم ﴾ : صلى الله عليه وسلم، ﴿ وما غوى ﴾ : وما اعتقد باطلا كما تزعمون،
﴿ وما ينطق ﴾ : بالقرآن، ﴿ عن الهوى ﴾ أو ما يقول قولا عن هوى وغرض،
﴿ إن هو ﴾ : ليس ما ينطق به، ﴿ إلا وحي ﴾ : من الله تعالى، ﴿ يوحى ﴾ : إليه، وفي الحديث أنه قال- عليه السلام :" لا أقول إلا حقا "،
﴿ علمه شديد القوى ﴾ : جبريل فإنه شديد قواه،
﴿ ذو مرة ﴾ : ذو قوة شديدة، ومنظر حسن أو إحكام في العقل، ﴿ فاستوى ﴾ : جبريل واستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وما رآه غيره من الأنبياء على صورته،
﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ : أفق السماء قد سد الأفق، وهذا قبل الإسراء،
﴿ ثم دنا ﴾ : جبريل إلى محمد، وهبط إلى الأرض بعدما رده الله تعالى إلى صورة آدمي، ﴿ فتدلى ﴾ : تعلق به وليس المراد منه الإسراء، وكأن هذه الرؤية في أوائل البعثة بعد أن جاء إليه في حراء قيل : في " فتدلى " إشارة منه إلى أنه ما تجاوز عن مكانه فإنه استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة،
﴿ فكان ﴾ : جبريل، ﴿ قاب ﴾ : مقدار، ﴿ قوسين ﴾، يعني مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، ﴿ أو أدنى ﴾ : على تقديركم، والغرض نفى ما زاد عليه،
﴿ فأوحى ﴾ : جبريل، ﴿ إلى عبده ﴾ : إلى عبد الله تعالى، ﴿ ما أوحى ﴾ : جبريل فيه تفخيم للموحي به، أو المعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وحاصل المعنى متحد،
﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ أي : فؤاد محمد- صلى الله عليه وسلم- ما رآه ببصره من صورة جبريل، أو ما كذب الفؤاد ما رآه بفؤاده أي : الله تعالى، وفي الحديث " رأيته بفؤادي مرتين ثم قرأ " ما كذب الفؤاد ما رأى "
﴿ أفتمارونه ﴾ : تجادلونه من المراء، ﴿ على ما يرى ﴾ : من صورة جبريل، ولتضمينه معنى الغلبة عدى بعلي،
﴿ ولقد رآه ﴾ : جبريل في صورته، ﴿ نزلة أخرى ﴾ : مرة أخرى، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- وجم غفير من السلف أنه رأى جبريل في صورته مرتين والمرة الأخيرة ليلة الإسراء نصب المفعول فيه،
﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ : هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش إليها ينتهى علم الخلائق لا يعلم أحد ما وراءها،
﴿ عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾، فيه تعظيم لما يغشاها، وفي الحديث " أنه غشاها نور الرب، وألوانا لا يدري ما هي، والملائكة مثل الغربان يعبدون " ما يغشى فاعل يغشى، وإذا ظرف لرآه أو لما زاغ عند من يجوز تقديم ما بعد ما إذا كان ظرفا،
﴿ ما زاغ ﴾ : ما مال، ﴿ البصر ﴾ أي : بصر النبي- صلى الله عليه وسلم- عما رآه ﴿ وما طغى ﴾، وما تجاوزه، وهذا وصف أدبه- صلى الله عليه وسلم
﴿ لقد رأى من آيات ربه ﴾ : بعض عجائبه، ﴿ الكبرى ﴾، صفةالآيات، أو هو المفعول ومن آيات ربه حال مقدم، ثم اعلم أنه قد ورد في الصحيحين أن عائشة- رضي الله عنها- قالت : أنا أول من سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله ﴿ ولقد رآه بالأفق المبين ﴾، " ولقد رآه نزلة أخرى " فقال :" إنما ذاك جبريل لم يره في صورته إلا مرتين "، وفي مسلم عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال : سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك ؟ قال : نورا أنى أراه "، وفي رواية لغير مسلم " رأيت نورا "، وكان سؤال عائشة بعد الإسراء، فلا يمكن أن يقال كأن نفي الرؤية قبل الإسراء، وما قيل إنه- عليه الصلاة والسلام- خاطبها على قدر عقلها فخطأ مردود قال الشيخ عماد الدين ابن كثير : لا يصح في أنه رأى ربه ببصره شيء من الصحابة، وأما ما قال البغوي : ذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، ففيه نظر، والحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال : قال عليه الصلاة والسلام :" رأيت ربي عز وجل " فهو مختصر من حديث المنام كما رواه أحمد أيضا، وقد ثبت عن كثير من السلف نفي رؤية البصر، والله أعلم،
﴿ أفرأيتم اللات ﴾ : صخرة بيضاء عليها بيت بالطائف له سدنة يعظمونه اشتقوا اسمها من لفظ الله يعنون مؤنثه– تعالى الله عن ذلك، ﴿ والعزى ﴾، من العزيز شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف،
﴿ ومناة الثالثة الأخرى ﴾، كانت بين مكة والمدينة يهلون منها للحج أفرد هذه الثلاثة بالذكر وإن كان في جزيرة العرب طواغيت كثيرة عليها بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، لأنها أشهر من غيرها، وأعظم عندهم، والأخرى ذم وهي المتأخرة في الرتبة، و " أفرأيتم " عطف على أفتمارونه، وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار يعني : أبعد هذا البيان تستمرون على المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاد الله أخس أولاد أي الإناث
وقوله :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ﴾، دال على ثاني مفعول أفرأيتم، ومعناه أتختارون لأنفسكم الذكور من الأولاد، وتجعلون لله، وتختارون له البنات فإنهم يقولون : الملائكة وهذه الأصنام بنات الله- تعالى عن ذلك،
﴿ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ : جائرة، ومن قرأ بالهمزة، فهو من ضأزه إذا ظلمه،
﴿ إن هي ﴾ : ما الأصنام، ﴿ إلا أسماء ﴾ : ليس لها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الألوهية لها، ﴿ سميتموها أنتم وآباؤكم ﴾ : بهواكم، ﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ : برهان تتعلقون به، ﴿ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ : أنفسهم، ﴿ ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ : الرسول والقرآن فتركوه،
﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾، الهمزة للإنكار أي : بل ليس له كل ما يتمناه كما يتمنون شفاعة الآلهة،
﴿ فلله الآخرة والأولى ﴾ : يعطي ما يشاء لمن يشاء.
﴿ وكم من ملك في السماوات ﴾ أي : كثيرا منهم مع علو رتبتهم، ﴿ لا تغني شفاعتهم شيئا ﴾ : من الإغناء، ﴿ إلا من بعد أن يأذن الله ﴾ : في الشفاعة، ﴿ لمن يشاء ﴾ : من الناس، أو من الملائكة، ﴿ ويرضى ﴾ : فكيف ترجون شفاعة الأنداد الجماد عند الله،
﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ﴾ : قائلين هم بنات الله،
﴿ وما لهم به ﴾ : ما يقولون، ﴿ من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق ﴾ : من العلم، ﴿ شيئا ﴾ : فإن العقائد والمعارف اليقينية، لا يدرك بالظن أصلا،
﴿ فأعرض عمن تولى ﴾ : أعرض، ﴿ عن ذكرنا ﴾ : فلم يتدبر، ولم يتأمل، ﴿ ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ : ولا تجادله ولا تدعه إلى الهدى،
﴿ ذلك ﴾ : أمر الدنيا، ﴿ مبلغهم من العلم ﴾ : لا يتجاوزونه، وفي الدعاء المأثور " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " ﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ﴾ : فلا يجيب، ﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ : فيجيب تعليل للأمر بالإعراض،
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ : خلقا، ﴿ ليجزي ﴾، علة لقوله :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : خلق العالم لهذا أو علة لقوله :﴿ وهو أعلم بمن ضل ﴾ الخ، فإن نتيجة العلم بهما جزاءهما، وقوله :﴿ ولله ما في السماوات ﴾ الخ معترضة بيان لكمال قدرته، ﴿ الذين أساءوا بما عملوا ﴾ أي : بعقابه، أو بسببه، ﴿ ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ : بالمثوبة الحسنى، أو بسبب الأعمال الحسنى،
﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾، هي ما عليه وعيد شديد، ﴿ والفواحش ﴾ : من الكبائر خصوصا، ﴿ إلا ﴾ عليه وعيد شديد، ﴿ والفواحش ﴾ : من الكبائر خصوصا، ﴿ إلا اللمم ﴾أي : الصغائر، فالاستثناء منقطع أو إلا بمعنى غير صفة وحرف التعريف في الموصوف للجنس، فهو في حكم النكرة، وقد ورد أنه قال- عليه الصلاة والسلام :" إن تغفر اللهم اغفر جما فأي عبد لك ما ألما " أو اللمم من الكبائر، و المعنى يجتنبون من الكبائر كلها مطلقا إلا القليل منها بمعنى أنه يلم بها مرة أو مرتين، فيتوب عن قريب فلا يجعلها عادة، وهو قول كثير من السلف، ﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ : فلا تيأسوا بكثرة المعاصي، ﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ﴾ : في ابتداء خلق أبيكم من تراب، ﴿ وإذ أنتم أجنة ﴾، جمع جنين، ﴿ في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم ﴾ : لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة، ولا تعجبوا بطاعاتكم، وفي صحيح مسلم عن ابن عطاء قال : سميت ابنتي برة، فقالت زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذا الاسم، فقال :" لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " ﴿ هو أعلم بمن اتقى ﴾ : فربما تنسبون أحدا إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، وكذلك ورد في الحديث الصحيح إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل : أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكى على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك ".
﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ : أعرض عن الحق،
﴿ وأعطى قليلا وأكدى ﴾ : أنفق قليلا وبخل بالباقي،
﴿ أعنده علم الغيب ﴾ : بأن إنفاقه ينفذ ما في يده، ﴿ فهو يرى ﴾ : عيانا ويعلم ذلك،
﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ﴾ : أقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام، والكمال قال تعالى :﴿ وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾[ البقرة : ١٢٤ ] وتقديم صحف موسى لأنها أشهر،
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي : لا تؤاخذ نفس آثمة بمأثم نفس أخرى، ولا يحمله عنها أحد وإن مخففة من المثقلة بدل ما في صحف، أو تقديره أعني أن لا تزر،
﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ : لا يثاب أحد بفعل غيره أيضا، ومن هذه استنبط الإمام الشافعي أن ثواب القراءة لا تصل إلى الموتى، وأما من سن سنة حسنة، أو سيئة فله أجرها وأجر من عمل بها ووزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلأنه سببها ودل عليها، وفي الصحيح " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا "، أو معناه لا يملك شيئا غير ذلك، وإن كان قد يحصل له بفضل الله، وبدعاء الغير، وصدقته له نفع لكن هو لا يملك ذلك،
﴿ وأن سعيه سوف يرى ﴾ : في ميزانه
﴿ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾ أي : يجزى الإنسان سعيه الجزاء الأوفر، فليس له أن يبخل، وينقص العمل، والضمير المرفوع للإنسان والمنصوب للسعي، ونصب الجزاء بأنه مفعول مطلق، أو بنزع الخافض أي : بالجزاء الأوفى كما يكون صفة للمجزي يكون صفة للحدث أي : المصدر لملابسته له قيل نزلت في وليد بن المغيرة آمن فعيره المشركون، فقال : أخشى عذاب الله، فضمن أحد من المشركين أن يحتمل عنه العذاب إن أعطاه كذا مالا فارتد وأعطى بعض ما شرط، وبخل بالباقي، ومعنى أعنده علم الغيب، فهو يرى أنه يعلم تمكين الله تعالى إياه عن أن يحمل عنه العذاب وباقي الآية ظاهر الملائمة حينئذ،
﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ : المرجع،
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات ﴾ : في الدنيا أو الآباء، ﴿ وأحيا ﴾ : في الآخرة أو الأبناء في الدنيا أيضا،
﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذ تمنى ﴾ : تدفق في الرحم،
﴿ وأن عليه ﴾ : وفاء بوعده، ﴿ النشأة الأخرى ﴾ : الإحياء بعد الموت،
﴿ وأنه هو أغنى ﴾ : بإعطاء المال، ﴿ وأقنى ﴾ : أعطى القنية هي أصول مال اتخذه لنفسه لا للبيع أي : ملكهم المال، وجعله عندهم مقيما لا يحتاجون إلى بيعه، وقيل : أفقر، وكان من أخذ مالا لا للبيع فهو فقير لا يبيع ولا يشتري،
﴿ وأنه هو رب الشعرى ﴾ : كوكب وقاد خلف الجوزاء تعبد في الجاهلية،
﴿ وأنه أهلك عاد الأولى ﴾ : قوم هود وعاد الأخرى إرم،
﴿ وثمود ﴾ : عطف على عادا، ﴿ فما أبقى ﴾ : أي : الفريقين،
﴿ وقوم نوح من قبل ﴾ : من قبل عاد وثمود، ﴿ إنهم كانوا هم أظلم ﴾ : من الفريقين، ﴿ وأطغى ﴾
﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ أي : إنه أسقط إلى الأرض القرى المقلبة، وهي قرى قوم لوط،
﴿ فغشاها ما غشى ﴾ : من العذاب كأنه لا يمكن أن يوصف،
﴿ فبأي آلاء ربك ﴾ : أيها الإنسان، ﴿ تتمارى ﴾ : تتشكك،
﴿ هذا ﴾ : الرسول، ﴿ نذير من النذر الأولى ﴾ : من جنس الأنبياء المتقدمين، أو القرآن إنذار من جنس إنذارات المتقدمة،
﴿ أزفت الآزفة ﴾ : قربت الموصوفة بالقرب، وهي القيامة،
﴿ وليس لها من دون الله كاشفة ﴾ : أي : نفس كاشفة أهوالها إذا غشيت الخلائق أو مبينة متى تقوم لا يجيلها لوقتها إلا هو،
﴿ أفمن هذا الحديث ﴾ : القرآن، ﴿ تعجبون ﴾ : إنكارا،
﴿ وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ﴾ : لا هون أو مستكبرون أو مغنون لتشغلوا الناس عنه،
﴿ فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ أي : ما عبدوه دون الآلهة.
والحمد لله على التوحيد.