ﰡ
تتضمن السورة توكيدا بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به من رؤيته المشاهد الربانية والملك الرباني وبصدق صلته بالوحي الرباني. وتزييفا لعقائد العرب بالأصنام والملائكة والشفاعة، وتنويها بالمؤمنين الصالحين. وتنديدا بالكفار المكذبين. وإنذارا بالآخرة والوقوف بين يدي الله، وتقريرا بعدم انتفاع الإنسان إلّا بسعيه. وتذكيرا ببعض الأقوام السابقة، وما كان من تنكيل الله بهم بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى الله. وهي متوازنة الآيات مترابطة الفصول، مما يلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٣٢] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
. (١) النجم: تعددت الأقوال في النجم المقصود، وأوجهها عندنا هو الشهاب المنقض من السماء بقرينة جملة «إذا هوى».
(٣) ضل: انحرف أو ذهل.
(٤) صاحبكم: كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٥) غوى: جهل أو التبس عليه أو ضلّ عن الحق.
(٦) الهوى: الرأي الذي لا يستند فيه صاحبه إلى الحق ويصدر فيه عن غاية خاصة وعاطفة وأنانية.
(٧) وحي يوحى: الوحي من الإيحاء وأصل معنى الكلمة السرعة والإيعاز والإلهام والقذف بالروع. وجاءت في القرآن بهذه المعاني. وجاءت بمعنى النواميس التي أودعها الله في كائناته وخلقه. وجاءت في معرض إرسال الله الملائكة بأوامره إلى أنبيائه أو إلهام الله لأنبيائه ما يريد إلهامهم به أو قذفه في قلوبهم. والجملة هنا بأحد المعنيين الأخيرين.
(٨) علمه: الضمير في هذا الفعل عائد إلى الملك الذي أرسله الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما عليه جمهور المفسرين وهو جبريل.
(٩) ذو مرة: ذو قوة أو ذو حصافة وإحكام في عقله، وهذا هو المقصود على الأرجح، والكلمة وصف لملك الله على ما عليه الجمهور.
(١٠) استوى: اعتلى أو وقف موقف البروز والعلو. والضمير عائد للملك أيضا.
(١١) الأفق الأعلى: كناية عن السماء.
(١٢) ثم دنا فتدلى: قال الطبري في الجملة تقدم وتأخير ومعناها: تدلى ثم دنا أي نزل من العلو ثم اقترب. ولو لم يصح التقديم والتأخير فنفس المعنى موجود.
(١٣) قاب قوسين: جملة تعني شدة القرب وقصر المسافة. فكان بين النبي والملك ما بين قوسي الحاجبين من قرب.
(١٤) فأوحى إلى عبده ما أوحى: عبده هنا كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والضمير في أوحى عائد إلى الملك جبريل على ما عليه الجمهور.
(١٦) تمارونه: تجادلونه.
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال: «سألت زرا عن قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [٩- ١١] فقال: أخبرنا عبد الله أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل له ستمائة جناح» «١». وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه: «قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى النجم [٨- ٩] قالت: ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورته الأصلية فسدّ الأفق» «٢».
وأكثر المفسرين «٣» يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري إلخ.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [١١] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا حيث استنكرت المرء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء كأنما أرادت الآية أن تقول إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحد مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس، لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [٥١] «١» يدركونه ويشعرون به بما
تعليق على مدى متناول آيات: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى والعصمة النبوية
وقد ذهب بعض المفسرين «١» إلى أن آيتي: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى النجم [٣- ٤] تشملان كل ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو عمل ديني ودنيوي وقرآني وغير قرآني، وجعلوهما في عداد الدلائل على العصمة النبوية.
والذي نلحظه من روح الآيات وسياقها أن الآيتين في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك وما ألقاه عليه من آيات القرآن. وفي الاستدلال بها على عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما صدر عنه من قول وعمل دنيوي وغير قرآني واعتباره وحيا ربانيا تجوز كبير يتعارض مع وقائع ونصوص قرآنية كثيرة تدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجتهد في أمر فيصدر عنه فيه قول أو فعل فينزل قرآن معاتبا ومنبها حينا ومذكرا حينا بما هو الأولى مثل حادث استغفاره مع المؤمنين لذوي قرباهم من موتى المشركين الذي أشارت إليه آيات سورة التوبة هذه منبهة:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) «٢» ومثل حادث أسرى بدر الذي أشارت إليه آيات سورة الأنفال هذه: ما كانَ لِنَبِيٍ
(٢) في الآية الثانية ما يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين اجتهدوا فقاسوا بما فعله إبراهيم عليه السلام فبين الله فيها الفرق ووجه الحق في ذلك.
ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره ألّا يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في كثير مما قاله أو فعله أو أمر به أو نهى عنه مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله عز وجل. ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول القرآن قد وقع بإلهام رباني. وأن القرآن نزل بعد وقوعه مؤيدا له فيه، ومن الأمثلة على ذلك سيره إلى مكة لأجل العمرة مع أصحابه بناء على رؤيا رآها وانتهاء ذلك بصلح الحديبية. فقد كان ذلك بإلهام رباني ثم نزلت سورة الفتح مؤيدة له. ومن ذلك أيضا واقعة بدر، فقد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بإلهام رباني مع أصحابه للاستيلاء على قافلة قريش وأدى ذلك إلى الاشتباك مع جيش قريش الذي انتصر فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه انتصارهم العظيم. وقد نزلت بعد ذلك سورة الأنفال مؤيدة له «٢». وإلى هذا فإن جميع ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من سنن قولية وفعلية وأوامر ونواه مات عليها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن على ما جاء في آية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [٧] ومن المحتمل أن يكون بإلهام رباني. وإنما الذي نعنيه التوقف في تشميل مفهوم الآيتين
(٢) وهناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها أيضا.
وهذا لا يمس العصمة النبوية التي يجب الإيمان بها لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمتنع عليه أن يصدر منه أي قول أو فعل أو اجتهاد في مختلف شؤون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف له إلّا بوحي، مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، وإنما على المعنى الذي يرتفع به النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العصمة عن أي إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن فعلا وقولا، وعن كتم أي شيء أوحي به إليه أو تحريفه وتبديله وذلك نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق في الله الذي جعله أهلا للاصطفاء الرباني «١».
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
(١) رآه: ضمير الفاعل عائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وضمير المفعول عائد إلى جبريل عليه السلام على ما عليه جمهور المفسرين.
(٢) سدرة المنتهى: شجرة السدرة التي ينتهي عندها التقدم أو الشوط.
(٣) جنة المأوى: قال بعض المفسرين إنها جنة خاصة على يمين العرش يأوي إليها أرواح الشهداء (انظر الكشاف والطبري) وقد وردت كلمة المأوى مضافة إلى «الجنات» بالجمع وبمعنى المثوى مطلقا للناجين والخاسرين معا. وقال ابن كثير: إن جنة المأوى وجنات المأوى هي التي يكون فيها منازل ومساكن للإقامة بالإضافة إلى الأشجار والمياه.
(٥) طغى: تجاوز الحد والهدف.
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلّى الله عليه وسلّم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت جبريل وله ستمائة جناح» «١». وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم [١٣] «فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلّا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض».
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك إلّا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات حيث ورد في الأولى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [١١] وفي الثانية: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى النجم [١٧].
ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلّى الله عليه وسلّم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين «٢» يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج
(٢) انظر تفسير سورتي النجم والإسراء في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والنيسابوري والقاسمي والقرطبي إلخ.
الجزء ثاني من التفسير الحديث ٦
وقد ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء.
وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين!. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية وهي أن الإسراء والمعراج
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو «٢».
ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير.
وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة حيث أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة
(٢) انظر تفسير سورتي النجم والإسراء في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقرطبي والنيسابوري والنسفي. منهم من أورد جميع الأحاديث والروايات التي أشرنا إليها في هذه النبذة ومنهم من أورد بعضها.
وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول أية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة.
وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم [١٣] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم في المسجد الحرام وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جلّ جلاله». ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها إنه
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه: «لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهنّ نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا» «١». وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال: «قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق» «٢».
وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هذا. فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال فارفضّ عرقا» «٣».
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق بها الحجر وشدّ به البراق» «٤».
وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي خذ أيّهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقيل لي هديت الفطرة أو
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ١٤٠- ١٤١.
(٤) المصدر نفسه.
ورفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول في أصلها أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران فسألت جبريل فقال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات. وفي رواية ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ثم فرضت عليّ خمسون صلاة فأقبلت حتى جئت موسى فقال ما صنعت قلت فرضت عليّ خمسون صلاة قال أنا أعلم بالناس منك عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة وإنّ أمتك لا تطيق فارجع إلى ربك فسله التخفيف فرجعت فسألته فجعلها أربعين ثم مثله ثم ثلاثين ثم مثله فجعل عشرين ثم مثله فجعل عشرا فأتيت موسى فقال مثله فجعلها خمسا فأتيت موسى فقال ما صنعت قلت جعلها خمسا فقال مثله قلت سلّمت بخير فنودي إنّي قد أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرا. وفي رواية مسلم فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال يا محمد إنهنّ خمس صلوات كلّ يوم وليلة لكلّ صلاة عشر فذلك خمسون صلاة» «١».
وحديث رواه مسلم عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلّي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه فالتفتّ إليه فبدأني بالسلام» «٢».
(٢) المصدر نفسه ص ٢٣٤.
قال هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم قالوا مرحبا به وأهلا. ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابغة بتفضيل كلام الله تعالى فقال موسى ربّ لم أظن أن ترفع عليّ أحدا ثم علا به فوق ذلك بما
وفي هذه الأحاديث التي يرويها أصحاب الكتب الخمسة وفي الأحاديث الكثيرة الأخرى التي يرويها أئمة آخرون والتي لم نر ضرورة إلى إيرادها تفاديا من
وسماعه صوتيهما وهما يذكران ما فيهما من ذلك والله يعدهما بملئهما من أهلهما.
ومثل طريقة فرض الصلوات الخمسين والمراجعة المتكررة بين النبي وربه صعودا وهبوطا في صدد تخفيفها بتوصية من موسى ومثل وصف سدرة المنتهى الهائلة بورقها التي كل ورقة تعطي الأمة... ومثل ما رأى في طريقه في طريق الإسراء ثم في طريق المعراج من مختلف المشاهد لمختلف الفئات من البشر كانوا يعذبون بأنواع من العذاب وكان يفسر جبريل له هذه المشاهد حيث كان منهم من يأكل لحوم الناس ومن يلمز ويهمز ومن يأكل مال اليتيم ومن لا يؤدي الزكاة. ومن يأكل الربا، ومن يزني، ومن يخطب في الفتن، ومثل رؤيته جماعة من الحور العين بسبب دعوة منه وما كن عليه من جمال وما كان عليهن من حلى. ومثل رؤيته جميع أرواح ذرية آدم السعداء عن يمينه في السماء الأولى وجميع ذريته التعساء عن شماله وضحكه حينما يلتفت إلى الأولين وبكائه حينما يلتفت إلى الآخرين ومثل عرض أرواح الناس على آدم أبيهم فيأمر بالمؤمنين إلى عليين وبالكفار إلى سجين.
ورؤيته أمته شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمد. وصلاته في البيت المعمور بالأولين وحجب الآخرين عنه والأعداد والأشكال الهائلة للملائكة الذين رآهم عند سدرة المنتهى أو في البيت المعمور.
ومثل رؤيته نهر الكوثر وعليه قباب اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وأواني الذهب وماءه
ومثل رؤيته نهري الفرات والنيل ينبعان من ناحية سدرة المنتهى. ورؤيته في الجنة أنهار اللبن والعسل المصفى والخمر. وهناك تغاير بارز في بعض ما يوصف بالصحيح منها مثل رؤيته موسى قائما يصلي في قبره ورؤيته إياه في السماء السادسة. ومثل رؤيته إبراهيم وعيسى في الأرض ثم في السموات...
وفي حين يذكر حديثا مالك بن صعصعة وشريك اللذان يرويهما البخاري خبر شق بطن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين يدي حادث الإسراء يروى حديث صحيح آخر عن أنس بن مالك أن عملية من هذا النوع أجريت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في زمن رضاعته في بني سعد حيث روى عنه «أنّ رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فشقّ عن قلبه فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال هذا حظّ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه يعني ظئره فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» «١».
ونحن نعرف أن كثيرا من أئمة الحديث والتفسير يقررون صحة خبر وقوع الإسراء والمعراج معا وباليقظة والجسد. غير أننا إزاء صراحة القرآن القطعية في الإسراء دون المعراج، وإزاء الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح وإزاء بعضها الذي يذكر خبر الإسراء إلى بيت المقدس فحسب، وبعضها يذكر خبر الانطلاق إلى السماء رأسا وإزاء ما احتوته الأحاديث من تفاصيل عجيبة نرى أن نقف موقف التحفظ إزاء ما احتوته من تفاصيل في سياق المعراج وبخاصة من القول إنه كان باليقظة والجسد. وكل ما نرجح صحته إزاء كثرة الأحاديث الواردة التي لا يمكن إلّا أن تكون ترديدا لخبر مشهور هو أن المعراج رؤيا منامية أو مشهد روحاني شاء الله عز وجل أن يري رسوله فيه من آياته الكبرى مشاهد مما في عمله في ملكوت السموات والأرض حاضرا ومستقبلا ودنيويا وأخرويا ومما ورد كثير من صوره في
أما حادث الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فالنص القرآني الصريح به قد يجعل الأمر مختلفا عنه بالنسبة لما قلناه عن ماهية المعراج. ونؤجل الكلام عنه إلى مناسبته القرآنية في سورة الإسراء.
ولقد روى البخاري حديثا عن سمرة بن جندب يحتوي خبر رؤيا منامية رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصها على أصحابه جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى منكم الليلة رؤيا فإن رأى أحد قصّها فيكون ما شاء الله.
فسألنا يوما فقال هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكنّي رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلّوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثمّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيضع مثله. فقلت ما هذا قالا انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه. قلت من هذا؟ قالا: انطلق.
فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع تتوقّد تحته نار فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة قلت من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شطّ النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير سورة الإسراء وفي سياق تفسير الآية [٦٩] من سورة ص حديثا رواه الإمام أحمد عن ابن عباس فيه خبر رؤيا منامية رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني النوم. فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال نحري- فعلمت ما في السموات وما في الأرض ثم قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت نعم يختصمون في الكفارات والدرجات. قال وما الكفارات؟ قال قلت المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإبلاغ
ولقد روى الشيخان والنسائي عن ابن عباس حديثا فيه خبر مشهد روحاني شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم في حالة يقظته حيث روى: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه صلاة كسوف فرأوه يمدّ يتناول شيئا فلمّا فرغ قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت فقال إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. وإني رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قطّ أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال بكفرهنّ قالوا أيفكرن بالله؟ قال: يكفرن
(٢) المصدر نفسه ص ٢٧٩- ٢٨٠.
(٣) المصدر نفسه ص ٢٣٩. [.....]
ونريد أن تحسن الظن في ذكاء الذين انتقدوا ترجيحنا في الطبعة الأولى بأن المعراج ومشاهده مشاهد روحانية إن لم تكن رؤيا منامية فلا نود لهم أن يكونوا قد ظنوا أننا في ما رجحناه ننكر قدرة الله على خرق النواميس. فاعترافنا بقدرة الله الشاملة ومعجزاته للنبي صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء وما في ملكوت الله وعلمه من عجائب مذهلة يقصر العقل الإنساني عن إدراكها لا يحتاج إلى تكرار وتوكيد في هذه المناسبة. غير أن ترجيحنا إنما كان بسبب الأحاديث المتضاربة في كون المعراج بالروح أو الجسد واليقظة أو المنام ومكان الانطلاق أولا وما روي في صدد كون آيات النجم التي تتخذ قرينة عليه هي في مشهد جبريل عليه السلام ثانيا، والتماثل العجيب بين كثير من المشاهد التي وردت في أحاديث المعراج والمنامات النبوية التي قصها النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه ثالثا، وكون الرؤيا المنامية أو المشهد الروحاني هما اللذان يتحملان دون اليقظة والجسد معنى انتقاد الزمان والمكان ورؤية المشاهد العجيبة المذهلة الدنيوية والأخروية والسماوية والأرضية والسابقة والحاضرة واللاحقة إلى آخر الحياة في لمحة أو لحظة رابعا. والله تعالى أعلم.
ونحن إذ نرجح أن المعراج رؤيا منامية أو مشهد روحاني مماثل لما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم في مناماته التي قص فيها على أصحابه ما رآه فيها من مشاهد ونبههم إلى ما فيها من عبر ونذر نقرر أن رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم حق. وأن ما يمكن أن يكون قصه على أصحابه مما شاء الله تعالى أن يجليه له من مشاهد متنوعة في السماء والأرض وأن يبلغه إياه من أوامر ونواه وأن يريه إياه من مصائر الأتقياء، والمنحرفين هو حق ومن جملة ذلك كيفية فرض الخمسين صلاة ثم تخفيفها بالمراجعة إلى خمس. ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه أنه زار على رأس المؤمنين المسجد الحرام فاعتبر ذلك أمرا ربانيا
تعليق على ما ورد في كتب التفسير في سياق بعض هذه الآيات من مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل
ومما يعرض له المفسرون في سياق بعض هذه الآيات والتي قبلها مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل. وقد أوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة ومثبتة ونافية ومؤولة. وفي بعضها تضارب أيضا. منها حديث رواه مسلم عن ابن عباس في معنى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم:
١١- ١٣] أنه قال: «إنّ محمدا رأى ربّه مرتين بفؤاده» وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربّك فقال نور. إني أراه. وفي رواية رأيت نورا» «١». وحديث عن عكرمة جاء فيه: «إنه سمع ابن عباس يقول إن محمدا رأى ربّه فقال له أليس الله يقول لا تدركه الأبصار؟ فقال له: ويحك إذا تجلّى بنوره، وإنه أريه مرتين» «٢». وحديث رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال:
قالوا يا رسول الله هل رأيت ربّك؟ قال: رأيته بفؤادي مرتين «٣». ثم قرأ: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [١١] وقد روى هذا الحديث أيضا ابن جرير بطرقه.
وحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي ذر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه بقلبه ولم يره بعينه». وحديث رواه الإمام أحمد عن مسروق وروى صيغة قريبة له الشيخان
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير ابن كثير لسورة النجم.
الجزء الثاني من التفسر الحديث ٧
قالت: أنا أول من سأل رسول الله قال إنما ذاك جبريل ما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين رأيته مهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض... إلخ» «١». والحديث الذي أوردناه قبل قليل عن الإمام أحمد عن ابن عباس والذي يبدأ بجملة: «أتاني ربّي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني في النوم» ثم الزيادات الواردة في الصيغة التي رواها الطبري عن ابن عباس والتي أوردناها آنفا أيضا. وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود في سياق تفسير وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى النجم [١٣- ١٤] قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاديل من الدر والياقوت».
ويمكن أن يستخلص من هذه الأحاديث أن الضمير في وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مصروف على الأرجح إلى جبريل كما هو الشأن في ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى النجم [٨] وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما رأى جبريل وإنه لم ير ربه بعينه الباصرة في يقظته وأن ذلك ممتنع.
ونصوص كثير من الأحاديث التي أوردناها هنا تقوي رجحان انقطاع الصلة بين آيات سورة النجم التي نحن في صددها وحادث المعراج وتسوغ القول إنه أقحم عليها إقحاما وإن خبره إنما كان في الأحاديث المروية في صدده. كما أنها تدعم ما قلناه في نهاية التعليق السابق في صدد ماهيته، والله أعلم.
(١) اللات والعزى ومناة: أسماء أصنام أو معبودات عربية جاهلية. وقد قال المفسرون إن اللات مؤنث الله. والعزى مؤنث الأعز. ومناة مفعلة من النوء.
وسنزيد ذلك شرحا في سياق التفسير.
(٢) ضيزى: جائرة.
(٣) سلطان: بمعنى برهان وتأييد.
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلّا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب
ولقد أمرت الآية [٢٩] النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متاع الحياة لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها.
والآية التي تلاها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألّا يغتم لموقفهم فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديارهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يا بني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام، لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول: إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية:
١- إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها
٢- إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣- إن هذه العقائد ليست حديثة وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة ومما سوف يأتي كثير منه، حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله ربّ العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦- والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة.
وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدثر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة «اللات» إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه «اللاتو» وأن هيرودت ذكر
فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة «الله» في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة إن المفسرين قالوا إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم «منوتو» على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤنهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
ولقد قلنا إن المفسرين قالوا إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم «عزيزو» في نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم «العزى» كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر.
حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا في آية سورة الزمر هذه: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)، وفي آيات سورة الزخرف هذه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ
«١».
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ (١) وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ (٢) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ (٣) فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا (٤) أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) [٣١- ٣٢].
(١) الإثم: بمعنى الذنب بصورة عامة.
(٢) اللمم: الهفوات الصغيرة أو الإلمام ببعض الذنوب الصغيرة من حين إلى حين أو النية والتحويم حولها دون اقترافها فعلا.
(٣) أجنّة: جمع جنين. وهو الطفل في بطن أمه.
(٤) فلا تزكوا أنفسكم: لا تتبجحوا ولا تدّعوا الطهارة والنقاء والبراءة لأنفسكم.
في الآيات تقرير لشمول علم الله وحكمته وإحاطته بأحوال الناس منذ بدء خلقتهم، ومعرفته محسنهم ومسيئهم، وقدرته على جزاء كل منهم حسب عمله.
وفيها تنويه بأصحاب الأعمال الحسنة الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وتأميلهم بغفران ما يلمون به من هفوات وأخطاء، فإن الله واسع المغفرة.
والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها. فتلك تضمنت التنديد بعقائد العرب الجاهلية واتباعهم الظن والهوى وتبجحهم بأنهم على الحقّ، وهذه تضمنت تعقيبا وتوضيحا وتنبيها.
وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها، ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه.
ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه.
ولقد تعددت الأقوال في تأويل «اللمم» المستثنى في الآية الثانية حيث قيل إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة. والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها. ولقد روى الترمذي في صددها «١» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول:
«إن تغفر اللهم تغفر جمّا | وأي عبد لك لا ألمّا» |
وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (٣١) حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا.
وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حقّ تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده، ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٣٢] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا. وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه» «١». غير أن الكلمة
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وآية سورة المائدة هذه: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [٢] وآية سورة النور هذه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [١١] حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة.
على أن جملة كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر. وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب. وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات. ومما ذكر فيها الشرك بالله. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام، وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق. والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية. وهناك من قال إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين بل وإلى سبعمائة «١».
وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك، فمن ذلك حديث
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور قال فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت» «٢».
وحديث أورده ابن كثير عن عمير بن قتادة قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلاة الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي الزكاة من ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فسأله رجل يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: تسع الشرك بالله وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا».
وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه. وننبه على أن كل ما ورد في
(٢) المصدر نفسه ص ٥٧.
والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد صدرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني، حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي. وهذا من سمات القرآن المكي، أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها، والله تعالى أعلم.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (١) (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ (٢) وازِرَةٌ وِزْرَ (٣) أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤) (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٥) (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٦) (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ (٧) وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ (٨) أَهْوى (٩) (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (١٠) (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ (١١) رَبِّكَ تَتَمارى (١٢) (٥٥) [٣٣- ٥٥].
(١) أكدى: بخل وأمسك ومنع وأظهر الفقر.
(٢) تزر: تحمل.
(٣) وزر: حمل ومعنى الآية أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: ألا يحمل امرؤ ذنب امرئ آخر.
(٥) أقنى: يسر للناس أن يقتنوا الأموال والمقتنيات. أو أغناهم حتى أرضاهم، حسب تعدد الأقوال.
(٦) الشعرى: أحد الكواكب المشهورة عند العرب.
(٧) أظلم: هنا بمعنى أشد جرما وعدوانا وانحرافا.
(٨) المؤتفكة: قوم لوط وقراهم على ما ذكره جمهور المفسرين.
(٩) أهوى: أسقطها وجعل عاليها سافلها كما جاء في آيات أخرى.
(١٠) فغشّاها ما غشّى: فألبسها من العذاب ما ألبسها.
(١١) آلاء: آيات أو نعم.
(١٢) تتمارى: تشك وتكذّب.
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلّا القليل ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا. فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [١٢٤] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها توضيح لجملة وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) منها حديث رواه أبو أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم الذي وفّى أتدرون ما وفّى؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار». وحديث رواه أنس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات». والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها.
تعليق على مبدأ
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وعلى مبدأ:
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وفي الآيات [٤٠- ٤٢] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضرّ وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون «١» في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه: «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنّها لو تكلّمت لتصدّقت أفلها أجر إن تصدّقت عنها قال نعم» «٢». وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء
(٢) التاج ج ١ ص ٣٤٥- ٣٤٦.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٨
وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد بن عبادة نفسه أنه قال: «يا رسول الله إنّ أمّ سعد ماتت فأيّ الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئرا وقال هذه لأمّ سعد» «٢». وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه» «٣». وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنّ أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال فدين الله أحقّ أن يقضى» «٤». وحديث رواه الشيخان جاء فيه: «جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك» «٥». وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كلّ يوم مسكينا» «٦». وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حثّ على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال إن هذا مجمع على وصول
(٢) المصدر نفسه.
(٣) التاج ج ٢ ص ٧١.
(٤) المصدر نفسه ص ٧٢.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «١». وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» «٢».
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علّمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورّثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته تلحقه من بعد موته» «٣». وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» «٤» وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال: «إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله قال إنه من أحيا سنة من سنّتي قد أميتت بعدي فإنّ له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ٦٦- ٦٧.
(٤) المصدر نفسه.
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حضّ السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى النجم [٣٨] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور «٢». وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى. حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر.
وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا
(٢) الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧.
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي لينجيهم من الطوفان ففعل ثم كان الطوفان فأغرق الناس ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥- ٩ من سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق إجمالا مع بعض التغاير وسوف نعلق على ذلك في المناسبات الآتية التي جاءت قصة نوح فيها أكثر بيانا وإسهابا.
والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا يعرفون هذه القصة التي كان يعرفها الكتابيون من أسفارهم ومنهم من كان بينهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول، وفي ذلك دليل على ما قلناه.
وليس في سفر التكوين شيء عن البلاد التي كان فيها نوح وقومه. وقد ذكر فيه أن السفينة استقرت فوق جبل أرارات. وذكر في سورة هود اسم آخر لهذا الجبل وهو الجودي وأرارات أو الجودي أحد جبال شمال العراق. ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول إن مكان نوح وقومه كان بلاد العراق. وسفر التكوين متطابق مع القرآن في أن نوحا هو أقدم أنبياء الله ورسله بعد آدم، والله تعالى أعلم.
والإشارة إلى قوم لوط تأتي هنا لأول مرة أيضا إذا كان تعبير المؤتفكة يعني قوم لوط. وقد تكررت كثيرا في سور أخرى فيها شيء من البيان والإسهاب.
وخلاصة قصة لوط وقومه في القرآن أن الله أرسله إلى قومه فكفروا برسالته وكانوا يرتكبون الفاحشة مع الذكور ولم يرتدوا رغم الإنذار فأرسل الله عليهم حاصبا
والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا كذلك يعرفون هذه القصة من الكتابيين وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول مما فيه دليل على ذلك.
ولقد ذكرت الكتب العربية اسم الشعرى الوارد في الآيات وقالت إنه النجم الوقّاد الذي يتبع الجوزاء وإن هناك شعريين شعرى العبور وشعرى الغميضاء وإن العرب كانت تتعبدهما ويقال لهما أختا سهيل أيضا. وروت بعض الأساطير حولهما «١». والمتبادر من الأسلوب الذي ذكرت به الشعرى في الآيات أن القصد من ذلك تنبيه السامعين إلى أن الله عز وجل هو رب ذلك المعبود الذي يسمونه الشعرى ويعبدونه.
وصحف إبراهيم وموسى ذكرت في سورة الأعلى وقد نبهنا في سياق تفسير هذه السورة إلى القصد من ذلك وعلقنا على الموضوع بما فيه الكفاية. ولقد قال المفسرون في معنى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى النجم [٣٧] الذي قام بما أمره الله به
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ (١) الْآزِفَةُ (٢) (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٣) (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
[٥٦- ٦٢].
(١) أزفت: اقتربت.
(٢) الآزفة: كناية عن يوم القيامة حيث تتضمن معنى القريبة.
(٣) سامدون: متكبرون وشامخون أو معرضون أو غافلون.
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلّى الله عليه وسلّم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلّا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرارا على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لا بد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم.
فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلّا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.